الكتاب: تفسير السمعاني
المؤلف: السمعاني
الجزء: ٣
الوفاة: ٤٨٩
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: ياسر بن إبراهيم و غنيم بن عباس بن غنيم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨ - ١٩٩٧م
المطبعة: السعودية - دار الوطن - الرياض
الناشر: دار الوطن - الرياض
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة يوسف
وهي مكية باتفاق القراء، وفي الأخبار: أن الله تعالى أنزل ما أنزل من القرآن فقرأه المسلمون مدة، ثم قالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا؛ فأنزل الله تعالى هذه السورة، وفيها: * (نحن نقص عليك أحسن القصص) ثم قالوا بعد ذلك: لو حدثتنا يا رسول الله، فأنزل * (الله نزل أحسن الحديث)، ثم قالوا: (لو ذكرتنا) يا رسول الله، فأنزل الله تعالى: * (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) كل ذلك يحيلهم على القرآن.
وعن خالد بن معدان أنه قال: سورة يوسف وسورة مريم يتفكه (بهما) أهل الجنة في الجنة.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ' إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم دعيت إلى ما دعى إليه لأجبت ' - وعنى حين دعاه الملك من السجن. والخبر صحيح.
5

* (الر تلك آيات الكتاب المبين (1) إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2) نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) * *
قوله تعالى: * (الر) معناه: أنا الله أرى؛ وقد بينا من قبل سوى هذا من المعنى في معنى [الحروف] المقطعة، فلا نعيد.
وقوله: * (تلك آيات الكتاب المبين) يعني: هذه الآيات التي أنزلتها عليك هي تلك الآيات التي وعدت إنزالها في التوراة والإنجيل. وقوله: * (المبين) معناه: البين حلاله وحرامه. وقيل: البين رشده وغيه.
قوله تعالى: * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) أكثر المفسرين على أن المراد منه: إنا أنزلنا القرآن عربيا. وفي مسانيد ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي أنه قال: ' أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة بالعربية '. وقوله * (لعلكم تعقلون) أي: تفهمون.
قوله تعالى: * (نحن نقص عليك أحسن القصص) قال أهل التفسير: معناه: نحن نبين لك أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان؛ والقاص: هو الذي يأتي بالخبر على وجهه. وقيل: إن المراد من الآية قصة يوسف خاصة؛ سماها أحسن القصص لزيادة التشريف. (وقيل): أعجب القصص. وقيل: أحكم القصص. والأول هو القول المشهور. وحكي عن ابن عطاء أنه قال: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استروح إليها
6

(* (3) إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (4) قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن) * *
وقوله: * (بما أوحينا إليك هذا القرآن) معناه: بوحينا إليك هذا القرآن. وقوله: * (وإن كنت من قبله لمن الغافلين) أي: لمن الساهين عن هذه القصة وغيرها.
قوله تعالى: * (إذ قال يوسف لأبيه) معناه: اذكر إذ قال يوسف لأبيه: * (يا أبت) قرىء بقراءتين: ' يا أبت ' و ' يا أبت ' بالكسر والفتح؛ أما بالكسر فالأصل: ' يا أبتي ' ثم حذف الياء واجتزىء بالكسرة. وأما بالفتح: فالأصل: ' يا أبتا ' ثم أسقط الألف واكتفى بالنصب. قال الأعشى:
(فيا أبتا لا تزل عندنا
* فإنا نخاف بأن نخترم)
وقوله: * (إني رأيت أحد عشر كوكبا) في القصة: أن يوسف كان له اثنتا عشرة سنة حين رأى هذه الرؤيا. وقد قيل غير ذلك، والله أعلم. وروى (أنه رأى هذه) الرؤيا ليلة الجمعة ليلة القدر. وقوله * (أحد عشر كوكبا) يعني: أحد عشر نجما من نجوم السماء، وكان المراد منها إخوته، وكانوا أحد عشر رجلا، يستضاء بهم كما يستضاء بالكواكب. وقوله * (والشمس والقمر) تأويل الشمس: أبوه، وتأويل القمر: أمه. هكذا قال قتادة وغيره. وقال بعضهم: كانت أمه في الموتى، وهذه خالته راحيل. وقال ابن جريج: القمر: أبوه، والشمس: أمه؛ لأن الشمس مؤنثة والقمر مذكر. وقوله: * (رأيتهم لي ساجدين) قال بعضهم: عندي ساجدين لله. والأصح: أنهم سجدوا له تحية وكرامة. فإن قال قائل: (قد قال): * (ساجدين) ولم يقل ' ساجدات ' وحق العربية في النجوم أن يقال: ' ساجدات '.
الجواب: أن الله تعالى لما أخبر عنهم بفعل من يعقل وهو السجود ألحقهم بمن يعقل في إعراب الكلام فقال: ساجدين، ولم يقل: ' ساجدات ' بهذا.
7

* (الشيطان للإنسان عدو مبين (5) وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم (6) لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين (7) إذ قالوا) * *
وقوله تعالى: * (قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك) قال أهل التفسير: إن رؤيا الأنبياء وحي، فعلم يعقوب أن الإخوة لو سمعوا (بهذه) الرؤيا عرفوا أنها حق فيحسدونه (فأمره بالكتمان) لهذا المعنى. وقوله: * (فيكيدوا لك كيدا) معناه: فيحتالوا لك حيلة. * (إن الشيطان للإنسان عدو مبين) ومعناه: إن الشيطان يزين لهم ذلك ويحملهم عليه لعداوته. للعداوة القديمة.
قوله تعالى * (وكذلك يجتبيك ربك) معناه: وكما رفع منزلتك وأراك هذه الرؤيا فكذلك يجتبيك أي: يصطفيك ربك. * (ويعلمك من تأويل الأحاديث) تأويل [ما تؤول إليه عاقبة أمره]. وأكثر المفسرين على أن المراد من هذا علم التعبير وما تؤول إليه الرؤيا، قالوا: وكان يوسف أعلم الناس بالرؤيا وأعبرهم لها. وقوله: * (ويتم نعمته عليك) يعني: يجعلك نبيا، وذلك تمام النعمة على الأنبياء * (وعلى آل يعقوب) وعلى أولاد يعقوب؛ فإن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء. وقوله: * (كما أتمها
على أبوك من قبل إبراهيم وإسحاق) يعني: كما جعلهما نبيين من قبل كذلك يجعلك نبيا.
وقوله: * (إن ربك عليم حكيم) ظاهر المعنى.
وقد قيل: إن المراد من تمام النعمة على إبراهيم: هو إنجاؤه من النار، والمراد من تمام النعمة على إسحاق: هو إنجاؤه من الذبح. وهذا قول مشهور. وذكر الحسن البصري أنه كان بين هذه الرؤيا وبين هذا القول وبين تحقيقها، ثمانون سنة. وذكر عبد الله بن شداد أنه كان بينهما أربعون سنة. وهذا أشهر القولين.
8

* (ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين (8) اقتلوا) * *
قوله تعالى: * (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) وفي بعض المصاحف: ' عبرة للسائلين '، والآيات: جمع الآية؛ والآية: هي الدلالة على أمر عظيم. وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: أن اليهود سألوا رسول الله عن قصة يوسف - عليه [الصلاة] السلام - وفي بعض الروايات (أنهم سألوه) عن سبب انتقال ولد يعقوب من كنعنان إلى مصر، فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما في التوراة؛ فهذا معنى قوله: * (آيات للسائلين) أي: دلالة على نبوة الرسول.
والقول الثاني: أن (نعنى) قوله: * (آيات للسائلين) يعني: أنها غبر للمعتبرين فإنها تشتمل على ذكر حسد إخوة يوسف له وما آل إليه أمرهم في الحسد، وتشتمل على ذكر رؤياه وما حقق الله منها، وتشتمل على ما صبر يوسف عن قضاء الشهوة، وعلى العبودية في السجن، وما آل إليه أمره من الملك، وتشتمل أيضا على ذكر حزن يعقوب وما آل إليه أمره من الوصول إلى المراد، وذهاب الحزن عنه، وغير هذا مما يذكر في السورة؛ فهذه عبر للمعتبرين.
قوله: * (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا) الآية، كان يوسف وأخوه بنيامين من أم واحدة، وكان يعقوب شديد الحب ليوسف، وكان إخوة يوسف يرون منه من الميل إليه ما لا [يرونه] لأنفسهم، فقالوا هذه المقالة. وقوله: * (ونحن عصبة) قال الفراء: العصبة هي: العشرة فما زادت. (قال القتيبي) ومن العشرة إلى الأربعين. وقال غيرهما: ' ونحن عصبة ' أي: جماعة يتعصب بعضنا لبعض. وقوله: * (إن أبانا لفي ضلال مبين) معناه: إن أبانا لفي خطأ ظاهر. فإن قال قائل: كيف وصفوا رسولا من رسل الله مثل يعقوب بالضلالة؟
الجواب عنه: ليس (المعنى) من الضلال هاهنا هو الضلال في الدين، ولو
9

* (يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9)) * * أرادوه صاروا كفارا؛ وإنما المراد من الضلال هاهنا: هو الخطأ (في تدبير) أمر الدنيا، وعنوا بذلك: أنا أولى بالمحبة في تدبير أمر الدنيا؛ لأنا أنفع له وأكبر من يوسف، ونصلح له أمر معايشه، ونرعى له مواشيه؛ فهو مخطىء من هذا الوجه.
قوله تعالى: * (اقتلوا يوسف) القتل: تخريب البنية على وجه لا يصح معها وجود الحياة.
وقوله: * (أو اطرحوه أرضا) أي: اطرحوه في أرض تأكله السباع، وقيل: اطرحوه إلى أرض يبعد عن أبيه ويبعد أبوه عنه. وقوله: * (يخل لكم وجه أبيكم) يعني: يخلص لكم وجه أبيكم. وقوله: * (وتكونوا من بعده قوما صالحين) يعني: توبوا بعد أن فعلتم هذا، ودوموا على الصلاح يعف الله عنكم.
واستدل أهل السنة بهذه الآية على أن توبة القاتل عمدا مقبولة؛ فإن الله تعالى ذكر عزم القتل [منهم] وذكر التوبة ولم ينكر عليهم التوبة بعد القتل؛ دل أنها مقبولة.
قال ابن إسحاق - يعني: محمد بن إسحاق -: وقد اشتمل فعلهم على جرائم، منها: قطيعة الرحم، وعقوق (الوالد)، وقلة الرأفة بالصغير الطريح الذي لا ذنب له، والغدر بالأمانة، وترك العهد بالحفظ، والكذب الذي عزموا عليه مع أبيهم يعقوب عليه الصلاة والسلام، ثم عفا الله عنهم مع هذا كله؛ لئلا ييأس أحد من رحمته. وقال بعض أهل العلم: إنهم عزموا على قتله؛ ولكن الله تعالى حبسهم عن قتله رأفة ورحمة بهم، ولو مضوا على قتله لهلكوا أجمعين.
قوله تعالى: * (قال قائل منهم) الأكثرون على أن هذا كان يهوذا، وكان أكبرهم
10

* (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم) * *
في العقل لا أكبرهم في السن. هذا قول ابن عباس، قال: وكان ابن خالة يوسف.
وقال قتادة: هو روبيل.
وقال سفيان بن عيينة: هو شمعون. وأصح الأقوال هو الأول.
وقوله: * (لا تقتلوا يوسف) أشار عليهم أن لا ترتكبوا هذه الكبيرة العظيمة. وقوله * (وألقوه في غيابة الجب) يعني: أسفل الجب، والغيابة: كل موضع ستر عنك الشيء (وغيبه). قال الشاعر:
(بني إذا ما غيبتني غيابتي
* فسيروا بسيري في العشيرة والأهل)
وعنى بالغيابة: القبر؛ لأنه يغيب الميت ويستره. والجب: هو البئر التي لم تطو لأنه قطع قطعا ولم تطو بعد، والجب: هو القطع.
قوله: * (يلتقطه بعض السيارة) أي: يجده بعض السيارة، والالتقاط: هو أخذ الشيء من حيث لا يحتسبه، والسيارة: هم المسافرون. قوله: * (إن كنتم فاعلين) يعني: إن عزمتم على فعلكم.
واختلف أهل العلم أنهم كانوا بالغين أو لم يكونوا بالغين حين عزموا على هذا وفعلوا؟
فالأكثرون أنهم كانوا رجالا بالغين، إلا أنهم لم يكونوا أنبياء بعد، والدليل عليه: أنهم قالوا: وتكونوا من بعده قوما صالحين؛ وهذا إنما يستقيم بعد البلوغ ويدل (عليه) أنهم قالوا: يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، والصغير لا ذنب له، دل أنهم كانوا رجالا.
ومنهم من قال: كانوا صغارا. وهذا القول غير مرضي. واستدل من قال بهذا القول
11

* (فاعلين (10) قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون (11) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (12) قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف) * * بأنهم قالوا: ' أرسله معنا غدا نرتع ونلعب '، واللعب فعل الصغار لا فعل الكبار.
وأجابوا عن هذا: أنهم لم يذكروا لعبا حراما، وإنما عنوا لعبا مباحا.
وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه سئل عن قوله: * (نلعب) فقيل له: كيف قالوا: ' نلعب ' وقد كانوا أنبياء؟ فقال: هذا قبل أن نبأهم الله تعالى.
قوله تعالى * (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف) بدءوا أولا (بالإنكار) عليه في ترك إرساله معهم وحفظه مع نفسه من بينهم، كأنهم قالوا له: إنك لا ترسله معنا أتخافنا عليه؟!
قوله: * (وإنا له لناصحون) النصح هاهنا: هو القيام بمصلحه، وقيل: إنه البر والعطف، ومعناه: إنا عاطفون عليه، بارون به، قائمون بمصلحته.
قوله تعالى: * (أرسله معنا غدا نرتع ونلعب وإنا له لحافظون) قوله: * (نرتع) الرتع: هو الاتساع في الملاذ في طلب وجوهها يمينا وشمالا. وقيل معنى الآية: نأكل ونشرب وننشط ونلهو. وقرئ: ' يرتع ويلعب ' بالياء، وهو في معنى الأول، إلا أنه ينصرف إلى يوسف خاصة، وقرئ: ' يرتعي ' وهو يفتعل من الرعي، ومعناه: إنه يرعى الماشية كما نرعى. وقوله: * (وإنا له لحافظون).
قوله تعالى: * (قال إني ليحزنني أن تذهبوا به) معناه: إني ليغمني أن تذهبوا به؛ والحزن هاهنا: ألم القلب بفراق المحبوب. وقوله: * (وأخاف أن يأكله الذئب) في القصة: أن يعقوب صلوات الله عليه كان رأى في المنام كأن ذئبا شد على يوسف - وكان يخاف من ذلك - فقال ما قال بذلك الخوف. وقد قال بعضهم: إنه أراد بالذئب إياهم. وليس هذا بشيء؛ لأنه لو خافهم عليه لم يدفعه إليهم، وما كان يجوز له ذلك، ولأنه معنى متكلف مستكره، فلا يجوز أن يصار إليه. وقوله: * (وأنتم عنه غافلون)
12

* (أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13) قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون (14) فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوا في غيابت الجب وأوحينا إليه) * * أي: ساهون.
قوله تعالى: * (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة) أي: جماعة يتقوى بعضنا ببعض. وقوله: * (إنا ذا لخاسرون) يعني: إنا إذا لعاجزون.
قوله تعالى: * (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب) الإجماع: هو العزم على الشيء، والواو هاهنا مقحمة، والمعنى: فلما ذهبوا به أجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب. قال الشاعر:
(أجمعوا أمرهم بليل فلما
* أصبحوا أصبحوا علي لصوصا)
وقوله * ([وأجمعوا] أن يجعلوه في غيابة الجب) معناه: بأن يلقوه في غيابة الجب. وذكر وهب بن منبه، وغيره أنهم لما أخذوا يوسف أخذوه بغاية الإكرام وجعلوا يحملونه إلى أن أصحروا به، فلما أصحروا به ألقوه وجعلوا يضربونه وهو يستغيث حتى كادوا يقتلونه، ثم إن يهوذا منعهم منه. وذكروا أنه كان من أبناء [اثنتي عشرة] سنة. هذا هو المعروف.
وفي بعض الروايات: أنه كان ابن ست سنين. وفي بعض الروايات: أنه كان ابن سبع عشرة سنة. وهذا معروف أيضا.
ثم أنهم أجمعوا (على أن) يطرحوه في البئر، فجاءوا إلى بئر على غير الطريق واسع الأسفل، ضيق الرأس، فطرحوه فيها، فروي أنه كان يتعلق بجوانب البئر، فشدوا
13

* (لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون (15) وجاءوا أباهم عشاء يبكون (16) قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا) * * يديه ثم ألقوه. وفي بعض الروايات: (أنهم) جعلوه في دلو وأرسلوه في البئر، فلما بلغ الماء فإذا صخرة فقام عليها. وروي أنهم قالوا له: اقعد في ذلك الطاق من البئر، فإذا جاء من يستقي فتعلق بالدلو حتى تخرج.
قال محمد بن مسلم الطائفي: لما صار يوسف في البئر دعا الله تعالى فقال: يا شاهدا غير غائب، ويا غالبا غير مغلوب، ويا قريبا غير بعيد، اجعل لي مما أنا فيه فرجا ومخرجا.
ثم اختلفت الرواية أنه كم بات في البئر؟ فالأكثرون: أنه بات فيها ثلاث ليالي والقول الآخر: أنه بات فيها ليلة.
وقوله تعالى: * (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا) [قول] أكثر أهل التفسير على أن هذا الوحي إلى يوسف، وبعث الله جبريل يؤنسه ويبشره بالخروج ويخبره: أنه ينبئهم بما فعلوا ويجازيهم عليه وهم لا يعرفون أنه يوسف، وسيأتي بعد هذه القصة. وقيل: * (وهم لا يشعرون) أنه أوحى إليه.
وفي الآية قول آخر: وهو أن الوحي هاهنا هو الإلهام؛ وهو مثل قوله تعالى: * (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) وأما إتيان جبريل كان بعد هذا.
قوله تعالى: * (وجاءوا أباهم عشاء يبكون) قال أهل المعاني: جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب؛ فروي أن يعقوب سمع صياحهم وعويلهم فخرج وقال: ما لكم؟ هل أصاب الذئب من غنمكم شيئا؟ قالوا: لا؛ وإنما الذئب أكل يوسف. وقرأ الحسن: ' غشاء يبكون '، ومعناه: قد غشيت أبصارهم من البكاء.
وقوله: * (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق) أي: ننتضل وننظر لمن السبق. وقيل:
14

* (صادقين (17) وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر) * * نستبق على أقدامنا. وقد ثبت أن النبي سابق عائشة رضي الله عنها مرتين، فسبقته عائشة في المرة الأولى، وسبقها النبي في المرة الثانية، فقال لها: ' هذه بتلك '.
وقوله: * (وتركنا يوسف عند متاعنا) يعني: عند ثيابنا وأقمشتنا * (فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا) يعني: بمصدق لنا * (ولو كنا صادقين) يعني: وإن كنا صادقين.
فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقولوا لنبي الله: أنت لا تصدق الصادق؟!
الجواب معناه: أنا لو كنا صادقين عندك كنت تتهمنا في هذا الأمر بشدة حبك له وميلك إليه، فكيف وقد خفتنا في الابتداء واتهمتنا في حقه؟!
وفيه معنى آخر: وهو أن معنى قوله * (وما أنت بمؤمن لنا): أنك لا تصدقنا لأنه لا دليل لنا على صدقنا، وإن كنا صادقين عند الله.
قوله تعالى: * (وجاءوا على قميصه بدم كذب) هذا دليل على أنهم نزعوا قميصه عنه حين ألقوه في البئر، فروى أنه قال لهم: دعوا لي قميصي أتستر به، فقالوا له: ادع الشمس والقمر والكواكب تسترك - يعنون: ما رأى من الرؤيا.
وقوله: * (بدم كذب) وقيل: بدم يعني: بدم ذي كذب. وقيل: مكذوب فيه. وعن الحسن البصري أنه قرأ: ' بدم كدب ' بالدال غير المعجمة وهو الدم المتغير.
وفي القصة: أنهم لطخوا القميص بالدم ولم يشقوه، فقال يعقوب صلوات الله عليه: كيف أكله الذئب ولم يشق قميصه؟! ما عهدت الذئب حليما. حكى عن الحسن البصري.
15

* (جميل والله المستعان على ما تصفون (18) وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون (19) وشروه بثمن) * *
وروي أن بعضهم قالوا: قتله اللصوص، فاختلفوا على يعقوب فاتهمهم به و * (قال بل سولت لكم أنفسكم) يعني: كذبتم، بل زينت لكم أنفسكم * (أمرا) والتسويل: التزيين، وقوله: * (فصبر جميل) معناه: فأمري صبر جميل. وقيل: فصبر جميل أختاره. والصبر الجميل: هو الذي لا شكوى فيه ولا جزع. وقوله: * (والله المستعان على ما تصفون) معناه: والله المستعان على الصبر على ما تكذبون.
وفي القصة: أنهم ذهبوا وجاءوا بذئب وقالوا: هذا الذي أكل ولدك، فقال له يعقوب: يا ذئب! أكلت ولدي وثمرة فؤادي؟ فأنطقه الله تعالى وقال: بالله ما رأيت وجه ابنك قط، فقال: فكيف وقعت بأرض كنعان؟ فقال: جئت لصلة قرابة. أورده النقاش في تفسيره، والله أعلم.
واختلفوا في موضع البئر الذي أدلي فيها يوسف؛ قال قتادة: هي بئر بيت المقدس. وقيل: إنها بئر بأرض الأردن، وقال مقاتل: بئر معروفة، كانت بين منزل يعقوب وبينها ثلاثة فراسخ، والله أعلم.
قوله تعالى: * (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه) السيارة: هم القوم المسافرون، سموا سيارة لأنهم يسيرون في الأرض. وقوله: * (فأرسلوا واردهم) والوارد: هو الذي يقدم القوم ليستقي الماء من البئر. قال الأصمعي: تقول العرب: أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر، ودليتها إذا نزعتها من البئر. وقوله * (قال (يا بشراي) هذا غلام) فيه قولان: أحدهما - وهو أظهر القولين -: أن معنى قوله: * (يا بشراي) أي: أبشروا، هذا غلام. ذكره الفراء والزجاج.
والقول الثاني: أنه نادى صاحبه - وكان اسمه بشرى - فقال: يا بشراي، هذا غلام أي: يا فلان، هذا غلام. ذكره الأعمش والسدي.
16

وفي القصة: أن البئر كانت على غير الطريق، ولكن القوم ضلوا الطريق حتى وقعوا عليها، فلما جاء الوارد وأرسل الدلو لطلب الماء، تعلق به يوسف، نزعوا على ظن أنه الماء. وروى ابن مجاهد، عن أبيه أن جدران البئر كانت تبكي على يوسف حتى أخرج منها. وفي القصة أيضا أن صاحب السيارة كان مالك بن دعر، رجل من خزاعة. وقوله: * (وأسروه بضاعة) معناه: أن الوارد ومن كان معه أسروه بضاعة عن أهل الرفقة، مخافة أن يطلبوا المشاركة فيه.
وقوله: * (بضاعة) معناه: أنهم قالوا: نقول للقوم: إن أهل الماء استبضعونا هذا الغلام. والبضاعة: هي القطعة من المال، والبضع: هو القطع. ومنه قوله في فاطمة رضي الله عنها: ' إنها بضعة مني ' أي: قطعة مني. وهذا خبر ثابت.
وقوله: * (والله عليم بما يعملون) ظاهر.
قوله تعالى: * (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) أكثر أهل التفسير على أن الذين باعوه إخوته، وهو قول ابن عباس وعامة المتقدمين. وقوله ' شروه ' هو بمعنى: باعوه.
قال الشاعر:
(وشريت بردا ليتني
* من بعد برد كنت هامة)
وفي القصة: أن القوم لما استخرجوا يوسف من البئر جاء إخوته وقالوا: هذا غلام أبق منا وهددوا يوسف حتى لم يعرف (حاله) وأقر ما قالوه ثم إنهم باعوه منهم.
والقول الثاني في الآية: أن الذين باعوا يوسف هم الذين استخرجوه من البئر. والصحيح هو الأول.
وقوله: * (بثمن بخس) البخس في اللغة: هو النقص، ومعنى البخس هاهنا: هو الحرام؛ سمي الحرام بخسا لأنه مبخوس البركة. هذا قول الشعبي وغيره. وقال بعضهم: * (بثمن بخس) أي: ذي ظلم. وعن ابن مسعود، وابن عباس أنهما قالا:
17

* (بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (20) وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) * * بثمن بخس: زيوف. وقيل: بثمن بخس أي: قليلا.
اختلفوا، كم كان الثمن؟ قال مجاهد: كان [اثنين وعشرين] درهما، والإخوة أحد عشر رجلا، فاقتسموا وأخذ كل واحد درهمين سوى يهوذا فإنه لم يأخذ شيئا. وعن ابن عباس قال: باعوه بعشرين درهما. وقيل: [باعوه] بأربعين.
قوله * (دراهم معدودة) يعني: أنهم عدوها عدا ولم يزنوها وزنا لقلتها. وقال: إنهم كانوا لا يزنون ما دون الأوقية وهو أربعون درهما.
وقوله: * (وكانوا فيه من الزاهدين) يعني: (أنهم) لم يكن لهم رغبة في يوسف؛ لأنهم لم يعرفوا كرامته على الله. وقيل: إنهم كانوا في الثمن من الزاهدين على معنى أنه لم يكن قصدهم الثمن؛ إنما قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه.
وقوله تعالى: * (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) في القصص: أن مالك بن دعر قدم به مصر وعرضه على البيع فاشتراه قطيفير صاحب أمر الملك وخازنه، وقيل: قنطور، وكان يسمى العزيز ولم يك أحد بمصر يسمى باسمه كرامة وتشريفا، فروى أنه اشتراه بعشرين دينارا ونعلين وحلة. وذكر وهب بن منبه أنه لما عرض على البيع تزايد الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه: وزنه ذهبا ووزنه فضة ووزنه مسكا ووزنه حريرا، وكان وزنه أربعمائة رطل ومائتا (من) '. قال وهب: وكان ابن ثلاث عشرة سنة في ذلك الوقت. وقد بينا أن على قول بعضهم: كان ابن سبع عشرة سنة. قال كعب وغيره: كان من أحسن الناس وجها، كان على صورة آدم حين خلقه
18

* (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من) * * الله تعالى قبل أن يواقع المعصية. وفي بعض الآثار: ' أن يوسف أعطي شطر الحسن '. وهو غريب، وقيل: إنه انتزع إلى جدته سارة، وكانت سارة أعطيت سدس الحسن.
وقوله: * (لامرأته) قيل: كان اسمها: راغيل. وقيل: كان اسمها: زليخة.
وقوله: * (أكرمي مثواه) معناه: أكرميه في المطعم والملبس والمقام. والمثوى في اللغة: موضع الإقامة، ويقال: ثوى بالمكان إذا أقام.
وقوله * (عسى أن ينفعنا) يعني: نبيع بالربح إن أردنا البيع، أو ينفعنا بالخدمة إن لم نبعه. وقوله * (أو نتخذه ولدا) يعني: أو نعتقه ونتبناه. وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برواية أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عنه أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف حين قال لامرأته: ' أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا ' وابنة شعيب في موسى - عليه السلام - حيث قالت: ' يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ' [وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما] حيث استخلفه.
وقوله: * (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) معناه: كما خلصناه من الهلاك ونجيناه من ظلمة البئر كذلك مكناه في الأرض؛ والأرض هاهنا: أرض مصر، وقوله: (* (مكناه)) أي (بالتهليل) وبسط اليد ورفع المنزلة إلى أن بلغ ما بلغ.
وقوله: * (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) قد بينا من قبل. وقوله: * (والله غالب على أمره) فيه قولان؛ أحدهما: أن الله غالب على أمره لا يمنعه منه مانع، ولا يرده عما يريد راد.
19

* (تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (21) ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (22) وراودته التي هو في بيتها عن) * *
والقول الثاني: والله غالب على أمر يوسف بالتدبير والحياطة حتى يبلغه منتهى علمه فيه. وقوله: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ظاهر.
قوله تعالى: * (ولما بلغ أشده) الأكثرون على أن الأشد: ثلاث وثلاثون سنة وإليها تنتهي، يعني: قوة الشباب. وقيل: ثلاثون سنة. وقيل: من تمام [ثماني عشرة] سنة إلى أربعين. وسئل مالك عن الأشد، فقال: هو الحلم.
وقوله * (آتيناه حكما وعلما) أي: فقها وعقلا. وقيل: الحكم: النبوة، والعلم: هو الفقه في الدين. والفرق بين الحكيم والعالم: أن العالم هو الذي يعلم الأشياء، والحكيم: هو الذي يعلم بما يوجبه العلم. وقيل: هو الذي يمنع نفسه عما يجهله ويسفهه، ومنه حكمة الدابة؛ لأنها تمنع الدابة عن الفساد. قال الشاعر:
(أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم
* إني أخاف عليكم أن أغضبا)
يعني: امنعوا سفهاءكم.
وقوله: * (وكذلك نجزي المحسنين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه) معنى المراودة: طلب الفعل، والمراد هاهنا: هو الدعاء إلى الفاحشة. وقوله: * (وغلقت الأبواب) يعني: أطبقت الأبواب واستوثقت منها، ويقال: إنها غلقت سبعة أبواب. وقوله: * (وقالت هيت لك) معناه: هلم، وعلى هذا أكثر المفسرين. وقيل: معناه: تعال أنا لك. وقريء: ' هيت لك ' أي: تهيأت لك. وأنكر الكسائي هذه القراءة. قال الشاعر في قوله هيت:
(أبلغ أمير المؤمنين
* أخا العراق إذا أتينا)
(أن العراق وأهله
* عنق إليك فهيت هيتا)
20

* (نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون (23) ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) * *
وقوله: * (قال معاذ الله) معناه: قال: أعوذ بالله أي: أعتصم به إنه ربي.
[و] الأكثرون أنه أراد به العزيز؛ ومعناه: إنه سيدي. وقوله: * (إنه ربي أحسن مثواي) أي: أكرم مثواي. وقوله: * (إنه لا يفلح الظالمون) أنه لا يسعد الزناة ولا العصاة.
قوله تعالى: * (ولقد همت به وهم بها) [الآية]، الهم: هو المقاربة من الفعل من غير دخول فيه. وقوله: * (ولقد همت به) همها: هو عزمها على المعصية والزنا، وأما هم يوسف: فاعلم أنه قد ثبت عن عبد الله بن عباس أنه سئل عن قوله * (وهم بها) قال: جلس منها مجلس الخاتن وحل هميانه. رواه ابن أبي مليكة، وعطاء وغيرهما. وعن مجاهد أنه قال: حل سراويله وجعل يعالج ثيابه. وهذا قول أكثر المتقدمين؛ منهم: سعيد بن جبير، والحسن البصري، والضحاك وغيرهم.
[و] قال أبو عبيد القاسم بن سلام: وقد أنكر قوم هذا القول؛ والقول ما قاله متقدمو هذه الأمة وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء من غير علم. وكذلك قال ابن الأنباري، وزعم بعض المتأخرين أن الهم (كان منها): هو العزيمة على المعصية، وأما الهم منه: كان خاطر القلب وشدة المحبة بالشهوة.
وفي القصة: أن المرأة قالت له: ما أحسن عينيك، فقال: هي أول ما تسيل من وجهي في قبري، فقالت: ما أحسن شعرك، فقال: هو أول ما ينشر في قبري، فقالت إن فراش الحرير مبسوط فقم فاقض حاجتي، فقال: إذا يذهب نصيبي من الجنة، فقالت: إن الجنينة عطشة فقم فاسقها، فقال: إن المفتاح بيد غيري، قال: فجاء
21

الشيطان ودخل بينهما وأخذ يحنكه وحنكها حتى همت به وهم بها، ثم إن الله تعالى تدارك عبده ونبيه بالبرهان الذي ذكره. وقال قطرب: معنى قوله: * (وهم بها) أي: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه.
وأنكر سائر النحاة عليه هذا القول، وقالوا إن العرب لا تؤخر لولا عن الفعل، وإنما كلام العرب هو التقديم فحسب، فإنهم يقولون: لولا كذا لفعلت كذا، ولا يقولون، فعلت كذا لولا كذا. وقال بعضهم: ' وهم بها ' أي: بضربها ودفعها عن نفسه، وهو تأويل بعيد. وقال بعض أهل التفسير: يحتمل أن ذلك القدر الذي فعله يوسف من الهم كان في تلك الشريعة من الصغائر يجوز على الأنبياء. قال الحسن البصري: إن الله تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء في القرآن ليعيرهم بها؛ ولكن ذكرها ليبين موقع النعمة عليهم بالعفو، ولئلا ييأس أحد من رحمته وقيل: إنه ابتلاهم بالذنوب ليتفرد بالطهارة والعزة، ويلقاه جميع الخلق يوم القيامة على انكسار المعصية. وقوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) أكثر أهل التفسير: أنه رأى يعقوب صلوات الله عليه [صكه] في صدره وهو يقول له: أتعمل عمل السفهاء وأنت في ديوان الأنبياء؟!
وروى ليث، عن ابن عباس أنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته فرأى كفا بلا معصم ولا عضد مكتوب عليها:: * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين) ففزع وهرب، ثم إنه عاد، فظهر ذلك الكف مكتوبا عليها: * (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) ففزع وهرب، ثم إنه عاد فرأى ذلك الكف أيضا مكتوبا عليها: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) ففزع وهرب، ثم إنه عاد؛ فقال الله لجبريل: أدرك عبدي قبل أن يواقع الخطيئة، فجاء ومسحه بجناحه حتى خرجت شهوته من أنامله.
22

* (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24) واستبقا الباب) * *
وقال جعفر بن محمد الصادق: معنى البرهان: أنه كان في البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب، فقال لها يوسف: لم فعلت هذا؟ فقالت: استحييت منه أن يراني وأنا أواقع المعصية، فقال يوسف: أنا أحق أن أستحي من ربي، وهرب.
وقال محمد بن كعب القرظي: البرهان: هو أن الله تعالى أخطر بقلب يوسف حرمة الزنا، وشدة العقوبة عليه، فهرب وترك. وأورد النقاش أنه لما قرب منها رأى شعرة بيضاء في أنفها فعافها وتركها. وهذا قول بعيد؛ والأصح من هذه الأقوال: الأول.
وقد روي أن يعقوب صلوات الله عليه لما تمثل له صك في صدره وقال: يا يوسف أنت قبل أن تزني كالطير في جو السماء [ولا تطاق]، فإذا زنيت فأنت كالطير يسقط ويموت، وأنت قبل أن تزني كالثور لا يطاق، فإذا زنيت صرت كالثور يهلك فيدخل النمل في (أصول) قرنه.
وقوله: * (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) السوء: هو الثناء القبيح، والفحشاء: هو مواقعة الزنا. فإن قيل: هذا دليل على أنه لم يهم بالزنا ولم يقصده، قلنا: لا، هذا بعد الهم. فإن قيل: أليس قد قال في أثناء السورة: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)؟ قلنا: قد ثبت عن النبي: ' أن يوسف لما قال هذا، قال له جبريل: ولا حين هممت؟ فقال: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء '.
قوله: * (إنه من عبادنا المخلصين) قرئ: ' المخلصين ' و ' المخلصين ' ومعنى المخلص: هو الذي يخلص الطاعة لله، ومعنى المخلص: هو الذي أخلصه الله
واختاره.
23

* (وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم (25) قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن) * *
قوله تعالى: * ([واستبقا] الباب) روي أن يوسف بادر الباب ليفتح ويخرج، والمرأة بادرت الباب لتمسك الباب فلا يخرج يوسف، فسبق يوسف وأدركته المرأة وأخذت بثوبه وشقته من دبر؛ وهذا معنى قوله: * (وقدت قميصه من دبر) أي: شقت. وقوله: * (وألفيا سيدها لدا الباب) يعني: وجدا زوج المرأة عند الباب فبادرت المرأة * (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا) ثم خافت عليه أن يقتل فقالت: * (إلا أن يسجن أو عذاب أليم) ضرب بالسياط، فلما سمع يوسف مقالتها * (قال هي راودتني عن نفسي) يعني: هي طلبت مني الفاحشة. وقوله: * (وشهد شاهد من أهلها) فيه قولان: أحدهما: أن الشاهد كان صبيا في المهد قال هذا القول، وهذا قول أبي هريرة وسعيد بن جبير والضحاك، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس. قال أبو هريرة: ' تكلم ثلاثة من الصبيان في المهد: عيسى ابن مريم صلوات الله عليه (وصاحب) جريج وشاهد يوسف ' والقول الثاني أن الشاهد كان رجلا حكيما من قرابات المرأة وكان قائما مع زوجها فسمع الجلبة من وراء الباب ورأى شق القميص فقال القول وهو قوله تعالى: * (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين...) الآية.
وقوله: * (فلما رأى قميصه قد من دبر) عرف أن الذنب لها * (قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) وفي القصة: أنه كان قليل الحمية والغيرة، ثم قال ليوسف: * (يوسف أعرض عن هذا) يعني: لا تذكر هذا حتى يشيع، ثم قال للمرأة: * (واستغفري لذنبك) توبي إلى الله تعالى * (إنك كنت من الخاطئين) ظاهر المعنى.
24

* (كيدكن عظيم (28) يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29) وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا) * *
قوله تعالى: * (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه) المدينة هاهنا: مدينة مصر، وقيل: إنها مدينة عين شمس.
وأما النسوة قالوا: هن خمس نسوة: امرأة حاجب الملك، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب الطعام، وامرأة صاحب الشراب، وامرأة صاحب السجن. وقال بعضهم: هن نسوة من أشراف نسوة مصر.
وقوله: * (امرأة العزيز) قيل العزيز: هو الممتنع بقدرته عن أن يضام في أمره. وقوله: * (تراود فتاها عن نفسه) فتاها هاهنا بمعنى: عبدها، والمعنى: أنها تطلب من عبدها [أن] يرتكب الفاحشة. وقوله * (قد شغفها حبا) روي عن ابن عباس - رضي الله عنها - أنه قال: ' شغفها حبا ' أي: غلبها. وروي عنه أيضا أنه قال: ' شغفها حبا ' أي: دخل الحب في شغاف قلبها، وشغاف القلب: داخل القلب. وقيل: شغاف القلب: جلدة القلب؛ كأن الحب خرق الجلدة وأصاب القلب وغلب عليه. وقيل: شغاف القلب: [سويداء] القلب. وقيل: حبة القلب. قال الشاعر:
(ولا [وجد] إلا دون وجد وجدته
* أصاب شغاف القلب فالقلب مشغف)
قرئ في الشاذ: (شعفها) حبا ' ومعناه: ذهب الحب بها كل مذهب، ومنه: شعف الجبال أي: رءوسها.
وقوله: * (إنا لنراها في ضلال مبين) أي: في خطأ ظاهر. ويقال: في ضلال مبين يعني: أنها تركت ما يكون عليه أمثالها من الستر والعفاف.
25

* (لنراها في ضلال مبين (30) فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن) * *
قوله: * (فلما سمعت بمكرهن) أي: بتدبيرهن. وقد روي أنها أفشت إليهن سرها واستكتمتهن فأفشين ذلك؛ فلهذا سماه مكرا. وقوله: * (وأرسلت إليهن) أي: دعتهن. وقوله: * (وأعتدت لهن متكئا) قال ابن عباس ومجاهد: المتكأ يتكئون على الوسائد. وقد روي عن النبي أنه قال: ' أما أنا فلا آكل متكئا ' وهذا مما اختاره الله تعالى له من التواضع، وأما الجبارون والعظماء فقد اعتادوا الأكل متكئين. وقيل: ' وأعتدت لهن متكئا ' أي: طعاما وشرابا واتكاء.
وقرئ في الشاذ: ' وأعتدت لهن متكا ' والمتك: هو الأترج. ذكره ابن عباس ومجاهد. وقيل: إنه البزماورد. أورده الضحاك. وقيل: هو كل ما يحز بالسكين. وفي القصة: أنها دعت أربعين امرأة من أشراف [نساء] مصر وزينت بيتا بألوان الفواكه والوسائد وفرشت البسط. وقوله: * (وآتت كل واحدة منهن سكينا) أي: وأعطت كل واحدة منهن سكينا؛ وقد كانوا يأكلون اللحم جزا بالسكين؛ والسنة هو النهش.
وقوله: * (وقالت اخرج عليهن) أمرت يوسف بأن يخرج عليهن فخرج وقد أخذن السكاكين ليقطعن المأكول. وقوله: * (فلما رأينه أكبرنه) فيه قولان: أحدهما: أعظمنه. والآخر: حضن. قال الشاعر:
(نأتي النساء لدى أطهارهن ولا
* نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا)
يعني: إذا حضن. والأولى هو الأول. وأنكر أبو عبيدة أن يكون ' أكبرن ' بمعنى:
26

* (وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31) قالت فذلكن الذي لمتنني فيه) * * حضن.
وقوله * (وقطعن أيديهن) الأكثرون على أن هذا خدش وجرح بلا إبانة. وقال بعضهم: إنهن قطعن أيديهن على (تحقيق) قطع اليد جملة. والأول أصح. يقال: قطع فلان يده إذا خدشها وجرحها.
وفي القصة: أنهن بهتن وذهبت عقولهن [و] قطعن أيديهن ولم يعلمن بذلك حتى سالت الدماء منهن وقوله: * (وقلن حاش الله) وقرئ: ' حاشا لله ' ومعناه: [معاذ] الله أن يكون * (ما هذا بشرا) ومعناه: بشرا مثل سائر البشر. وقرئ: ' ما هذا مشتريا ' أي: بعبد مشترى. وقوله: * (إن هذا إلا ملك كريم) يعني: ملك كريم على ربه. وقد روى أنس، عن النبي أنه قال: ' أعطي يوسف شطر الحسن '. وعن ابن إسحاق - صاحب المعاني - قال: ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن.
وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي في قصة المعراج ' أنه رأى يوسف في السماء الثالثة، قال: فرأيت وجهه كالقمر ليلة البدر '. وروي أنه كان إذا مشى في سكك مصر رئي لوجهه ضوء على الجدران. وروي أنه لما ملك، وكان إذا دخلت عليه امرأة غطى وجهه لئلا تفتتن به.
قوله تعالى: * (قالت فذلكن الذي لمتنني فيه) الملامة هو الوصف بالقبيح على وجه التحقير، ومعنى قولها ' فذلكن الذي لمتنني فيه ' أن هذا هو الذي لمتنني فيه،
27

* (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (32) قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب) * * ثم صرحت بما فعلت (وقالت): * (ولقد راودته عن نفسه) وإنما صرحت بذلك لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهن بعد ذلك وقد أصابهن ما أصابهن من رؤيته. وقوله تعالى: * (فاستعصم) أي: امتنع. وقوله: * (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن) يعني: ليعاقبن بالحبس. وقوله: * (وليكونا من الصاغرين) أي: (ليكونن) من المستحقرين والمستذلين. وعن وهب بن منبه: أن أولئك النسوة عشقنه وماتت جماعة منهن من عشقه.
قوله تعالى: * (قال رب السجن أحب إلي) وقرئ في الشاذ: ' رب السجن ' وهو الحبس، والسجن موضع الحبس * (مما يدعونني إليه) يقال: لو لم يقل هذا لم يبتل بالسجن. وفي بعض الأخبار: ' البلاء موكل بالمنطق '، والأولى بالمرء أن يسأل الله العافية.
وقوله: * (مما يدعونني إليه) فيه قولان: أحدهما: أن الدعاء كان منها خاصة؛ لكنه أضاف إلى جميع النسوة خروجا من التصريح إلى التعريض.
والقول الثاني: أنهن جميعا دعينه إلى أنفسهن.
وقوله: * (وإلا تصرف عني كيدهن) معناه: وإلا تصرف عنى شرهن * (أصب إليهن) أي: أمل إليهن. قال الشاعر:
(حتى متى تصبو ورأسك أشمط
* أظننت أن الموت باسمك يغلط)
وقوله: * (وأكن من الجاهلين) هذا دليل على أن المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكب عن جهالة، وقيل معناه: وأكن من المذمومين كما يذم الإنسان بفعل ما يقدم عليه جاهلا.
28

* (إليهن وأكن من الجاهلين (33) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم (34) ثم بدا لهن من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين (35) ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق) * *
قوله تعالى: * (فاستجاب له ربه) أي: أجاب له ربه. وقوله: * (فصرف عنه كيدهن) أي: شرهن * (إنه هو السميع العليم) ظاهر المعنى.
قوله: * (ثم بدا لهم) أي: ظهر لهم. وقوله: * (من بعد ما رأوا الآيات) هاهنا شق القميص، وكلام الطفل، وجز النساء أيديهن بالسكاكين، وذهاب عقولهن بما رأين من جماله. وقوله: * (ليسجننه حتى حين) أي: ليحبسنه إلى مدة. قال عطاء: إلى حين: إلى أن تنقطع مقالة الناس.
قوله تعالى: * (ودخل معه السجن فتيان) في القصة: أن المرأة قالت لزوجها: قد فضحني هذا الغلام العبراني (في الناس)، فإما أن تأذن [لي] أخرج وأعتذر من الناس، وإما أن تحبسه، فحبسه، ولما حبس حبس الملك بعد ذلك رجلين من خاصته؛ أحدهما: صاحب طعامه، والآخر: صاحب شرابه، ويقال: كان يسمى أحدهما: سرهم، والآخر: شرهم. وكان سبب حبسهما: أن الملك اتهم صاحب الطعام [أنه]: قصد سمه، وظن أيضا أن صاحب الشراب مالأه على ذلك؛ وكان الملك هو الوليد بن مروان العمليقي، وقيل غير هذا الاسم.
وقوله: * (قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا) وروي أن يوسف - عليه السلام - لما دخل السجن جعل يدعو إلى الله وينشر علمه، فرأى هذين الرجلين وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكرا أنهما صاحبا الملك، وأن الملك حبسهما، وقد رأيا رؤيا وقد غمهما ذلك، فقال لهما: قصا علي ما رأيتما، فقصا عليه رؤياهما؛ وهذا معنى قوله: * (قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا). وفي القصة: أنه قال: رأيت حبلة عليها ثلاثة عناقيد فجنيتهن وعصرتهن خمرا وسقيت منه الملك.
29

* (رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين (36) قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة) * *
وقوله: * (أعصر خمرا) العصر: هو الاعتماد باليد على ما فيه مائية ليحلب عنه الماء. وقوله * (خمرا): قيل: عنبا، قيل: هذا بلغة عمان، قال المعتمر: لقيت أعرابيا معه سلة فيها [عنب] فقلت: ما معك؟ قال: الخمر. وقال الشاعر:
(ينازعني به ندمان صدق
* شواء) الطير والعنب الحقينا)
وأراد بالعنب: الخمر. ويقال: معنى قوله: * (أعصر خمرا) أي: عنب خمر. ويقال: معنى قوله: * (أعصر خمرا) أي: عنبا؛ سماه خمرا باسم ما يؤول إليه؛ تقول العرب: فلان يعصر الدبس ويطبخ الآجر يعني: يعصر العنب للدبس، ويطبخ اللبن للآجر، قال الشاعر:
(الحمد لله الجليل المنان
* صار الثريد في رؤوس العيدان)
وقوله: * (وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه) روي أن الآخر قال: إني أراني كأني أحمل ثلاث سلال من الخبز على رأسي وسباع الطير ينهش منه.
وقوله: * (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) قال: كان يوسف عليه السلام إذا مرض في السجن مريض عاده وقام عليه، وإذا افتقر إنسان جمع له شيئا، وإذا رأى مظلوما نصره، وإذا رأى حزينا سلاه، وكان مع هذا يقوم الليل كله بالصلاة.
والقول الثاني: * (إنا نراك من المحسنين) يعني: من المحسنين لعبارة الرؤيا، والإحسان بمعنى العلم؛ يقال: فلان يحسن كذا، أي: يعلمه.
قوله تعالى: * (قال لا يأتيكما طعام) الآية، بدأ يوسف - صلوات الله عليه - قبل تعبير الرؤيا بإظهار المعجزة والدعاء إلى توحيد الله؛ فقوله: * (لا يأتيكما طعام ترزقانه
30

* (قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون (37) واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى) * * إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تدعوان بطعام من منازلكما إلا نبأتكما بقدره ولونه وطعمه والوقت الذي يصل إليكما فيه قبل أن يصل إليكما؛ وهذه المعجزة مثل معجزة عيسى - عليه السلام - وقوله: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم).
والقول الثاني: أنه كان من رسم الملك إذا أراد أن يقتل إنسانا يبعث إليه بطعام معروف عندهم، وإذا أراد أن يكرم إنسانا بعث إليه بطعام معروف عندهم؛ فهذا معنى قوله: * (لا يأتيكما طعام ترزقانه).
والقول الثالث: لا يأتيكما طعام ترزقانه في المنام إلا نبأتكما بتأويله في اليقظة، فقالوا: من أين لك ذلك، أتتكهن أم تتنجم؟ فقال: لا؛ ولكن مما علمني ربي. فهذا معنى قوله * (ذلكما مما علمني ربي). وقوله: * (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون) ظاهر.
ثم قال: * (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) أظهر أنه نبي وأنه من ولد الأنبياء. وقوله: * (ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) معناه: أن الله قد عصمنا من الإشراك به. وقوله: * (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس) يعني به: ما أقام من الدليل وبين من الهدى. وقوله: * (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) ظاهر المعنى.
ثم زاد في الدلالة على التوحيد فقال: * (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون) وسماهما: صاحبي السجن؛ لأنهما كانا في السجن، وقوله * (أأرباب متفرقون) أي: أملاك متباينون هذا [من] ذهب، وهذا من فضة، وهذا من نحاس، وهذا من خشب، وقيل: هذا أعلى، وهذا أوسط، وهذا أدنى، وقوله: * (خير أم الله الواحد القهار) الواحد الغالب على كل شيء، والمراد، نفي الخيرية منهم أصلا، وقد ذكرنا
31

* (الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (38) يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (39) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (40) يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر) * * من قبل ثم زاد وقال: * (ما تعبدون من دونه) أي: من دون الله * (إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) يعني: هذه الأصنام أسماء مجردة خالية عن المعنى. وقوله: * (ما أنزل الله بها من سلطان) أي: حجة * (إن الحكم إلا لله) ما الحكم إلا الله * (أمر ألا تعبدوا إلا إياه) ظاهر المعنى. قوله: * (ذلك الدين القيم) أي: الطريق المستقيم * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ظاهر المعنى.
وفي القصة: أن صاحب السجن لما سمع منه ما سمع، ورأى منه ما رأى أحبه حبا شديدا وجعله على أهل السجن، وكذلك أهل السجن أحبوه حتى كان الرجل يخلى من السجن فيعود إليه، فروي أن صاحب السجن قال له: أنا أحبك فقال: أنشدك الله أن تحبني - يعني: أن لا تحبني - فإن من أحبني يوقعني في البلاء، أحبتني عمتي فوقعت في بلاء، وأحبني والدي فألقيت في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست. وروي أن صاحبي الملك قالا له هذه المقالة فأجابهما بهذا.
قوله: * (يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا) روي أنه قال لصاحب الشراب: أما تأويل رؤياك: فإنك تدعى بعد ثلاثة أيام وترد إلى منزلتك من الملك.
وقوله: * (وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه) قال: وأما أنت يا صاحب الطعام فتدعى بعد ثلاثة أيام وتصلب وتأكل الطير من رأسك؛ فروي أنهما جميعا قالا: كذبنا ما رأينا شيئا، فقال: * (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) يعني: فرغ من الأمر وما قلت كائن؛ رأيتما أو لم ترياه. وقال أبو مجلز: الذي قال له: أنا لم أر شيئا هو صاحب الطعام خاصة. وقد روي أنهما قد رأيا ما قالا حقيقة. قوله: * (قضي الأمر) تتميم الكلام.
32

* (فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان (41) وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين) * * قوله تعالى: * (وقال للذي ظن أنه ناج منهما) معناه: أنه (أيقن) أنه ناج منهما * (اذكرني عند ربك) أي: عند سيدك، فروي أنه قال له: قل للملك:
إن في السجن رجلا مظلوما قد طال حبسه. وقوله: * (فأنساه الشيطان ذكر ربه) الأكثرون: معناه: فأنسى يوسف الشيطان ذكر ربه حتى استغاث بمخلوق مثله، وهذا قول ابن عباس وغيره.
والقول الثاني: أن الشيطان أنسى الرجل الذي خلي من السجن ذكر يوسف لسيده.
وقوله: * (فلبث في السجن بضع سنين) الأكثرون: على أن بضع سنين هاهنا: سبع سنين وقد كان لبث من قبل خمس سنين؛ فمكث فيه [اثنتي عشرة] سنة. وقال الأخفش: البضع: من الواحد إلى العشرة، وقيل: من ثلاث إلى التسع؛ فروي: أن الله تعالى بعث جبريل إليه، فقال له: قل يا يوسف من حببك إلى أبيك؟ فقال: أنت يا رب، فقال: من خلصك من الجب؟ قال: أنت يا رب، قال: من صرف عنك السوء والفحشاء؟ قال: أنت يا رب، قال: فما استحييت مني أن استعنت بمخلوق؟! وعزتي لأطيلن مكثك في السجن. وروي أنه قال: يا رب بحق آبائي اغفر لي ذنبي، فجاء جبريل وقال له: وأي حق لآبائك علي؟! أما جدك إبراهيم: فقد جعلت النار عليه بردا وسلاما، وأما إسماعيل: ففديته بكبش عظيم، وأما أبوك يعقوب: (فأعطيته) اثني عشر ابنا وأخذت منهم واحدا، فما زال يبكي حتى ابيضت عيناه وجعل يشكوني، فقال يوسف: إلهي بمنك القديم وفضلك العظيم وأياديك الكثيرة اغفر لي ذنبي، فغفر له. وروي عن الحسن البصري أنه قال: دخل جبريل على
33

(* (42) وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رءياي إن كنتم للرؤيا تعبرون (43) قالوا) * * يوسف عليهما السلام في السجن، فقال له: يوسف، يا أخ المنذرين ما تعمل بين المذنبين؟ فقال [له] جبريل: يا طيب ابن الطيبين يقول لك ربك: أما (استحييت) مني أن استعنت بمخلوق مثلك؟! وعزتي لأطيلن حبسك، فقال له يوسف عليه السلام: أهو راض عني؟ فقال: نعم. فقال: إذا لا أبالي. وروي أنه قال لجبريل: ما بلغ حزن أبي يعقوب؟ فقال: حزن سبعين ثكلى، فقال: وكيف أجره؟ فقال: أجر مائة شهيد.
قوله تعالى: * (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان [يأكلهن سبع عجاف]) الملك هاهنا: ملك مصر، والملك هو القادر الواسع المقدور فيما يرجع إلى السياسة والتدبير. وقوله: * (إني أرى) معناه: إني أرى في المنام. وقوله: * (بقرات): البقر: حيوان معروف يصلح للكراب، ومنه (المثل): الكراب على البقر؛ لأنه أقوم به.
وقوله: * (سمان) معلوم المعنى.
وروي أن الملك رأى سبع بقرات سمان خرجن من البحر كأسمن ما يكون من البقر، ثم خرج عقيبه سبع بقرات عجاف في غاية الهزال والعجف، ثم إن العجاف ابتلعت السمان وأكلتها حتى لم يتبين على العجاف منها شيء، ثم رأى [* (وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات) أي:] سبع سنبلات يابسة التوت على الخضر حتى غلبت عليها فلم يبق من خضرتها شيء. وقوله: * (يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون) الرؤيا (هو) ما يتخيله الإنسان في المنام، وقد بينا أن النبي قال في الرؤيا الصادقة: ' تلك عاجل بشرى المؤمن ' وروي عن النبي أنه قال:
34

* (أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين (44) وقال الذي نجا منهما وادكر) * * ' إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ' وله معنيان: أحدهما: أن تقارب الزمان هو استواء الليل والنهار؛ والطباع عند استواء الليل والنهار أصح؛ فالرؤيا أصدق. والمعنى الثاني: أن تقارب الزمان هو تقارب الساعة. وقد روي في بدء وحي النبي: ' أنه كان إذا رأى الرؤيا جاءت مثل فلق الصبح '.
وقوله: * (إن كنتم للرؤيا تعبرون) يقال: عبرت الرؤيا: إذا فسرتها، والتعبير هو التفسير هاهنا.
قوله تعالى * (قالوا أضغاث أحلام) الضغث: كل ما قبض عليه من الأخلاط من الحشيش وغيره. ومعنى الآية: روي عن قتادة أنه قال: أضغاث أحلام أي: أخلاط أحلام. وعن مجاهد قال: أهاويل أحلام، وقيل: أباطيل أحلام. وقوله: * (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) (ومعناه): وما نحن بتأويل الأحلام (التي) وصفتها هذه بعالمين.
قوله: * (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة) أي: مدة، [و] في القصة: أن الملك جمع السحرة والكهنة والمعبرين وقص عليهم رؤياه، فلما عجزوا عن تعبيرها اهتم هما شديدا، فتذكر الغلام الساقي حال يوسف عليه السلام، وقد كان فجىء بقوله، فجثى بين يدي الملك وقال: إن في السجن رجلا محبوسا وهو يعبر الرؤيا، وذكر قصته؛ فهذا معنى قوله: * (وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمة) والأمة هاهنا بمعنى الحين؛ وقد بينا أنه حبس سبع سنين بعد ما عبر رؤيا صاحب الملك. وعن وهب
35

* (بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون (45) يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون (46) قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا) * * بن منبه قال: مكث يوسف في السجن سبع سنين، ومكث أيوب في البلاء سبع سنين. وقرئ في الشاذ: ' وادكر بعد أمة ' بالهاء؛ ومعناه: بعد نسيان. وقوله: * (أنا أنبئكم بتأويله) معناه: أنا آتيكم بتأويله * (فأرسلون) يعني: أرسلني أيها الملك إليه.
وقوله: * (يوسف أيها الصديق) في الآية اختصار، ومعناه: أن الملك أرسله إلى يوسف، وهو قال: يوسف أيها الصديق، والصديق: (الكثير للصدق). وقوله: * (أفتنا) معناه: أجبنا * (في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات) هذا ذكر تقصيص الرجل رؤيا الملك على يوسف.
وقوله: * (لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون) فيه قولان: أحدهما: لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون تأويل الرؤيا. والثاني [معناه]: لعلي أرجع إلى الناس
لعلهم يعلمون منزلتك ودرجتك في العلم.
قوله تعالى: * (قال تزرعون سبع سنين دأبا) هذا خبر بمعنى الأمر؛ ومعناه: ازرعوا سبع سنين، يعني: على عادتكم؛ والدأب: العادة. وقوله * (فما حصدتم) الحصاد معلوم. وقوله: * (فذروه في سنبله) أمرهم أن يتركوا الحنطة في السنابل ليكون أبقى على الزمان. وقوله: * (إلا قليلا مما تأكلون) يعني: مما تدرسون وتأكلون؛ فكأنه أمرهم أن يحفظوا الأكثر ويأكلوا بقدر الحاجة.
وقوله: * (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن) سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على الناس. وقوله: * (يأكلن ما قدمتم لهن) معناه: (يفنين) ويهلكن
36

* (مما تأكلون (47) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون (48) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون (49) وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي) * * ما قدمتم لهن، وهذا على طريق التوسع والمجاز؛ فإن السنين لا تأكل شيئا، وإن القوم في السنين يأكلون. وقوله: * (إلا قليلا مما تحصنون) يعني: تحرزون؛ ومعناه: تحرزون للبذر.
وقوله: * (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس) الغياث هاهنا: هو الخصب والسعة. وقوله * (وفيه يعصرون) قرىء بقراءتين: ' يعصرون ' و ' تعصرون ' ومعناه: يعصرون الزيت من الزيتون، ومن العنب العصير، ومن السمسم الدهن. هذا قول ابن عباس ومجاهد.
وقيل: يعصرون: ينجون. قال الشاعر:
(وصاديا يستغيث غير مغاث
* ولقد كان عصرة المنجود)
ولقد كان عصرة المنجود يعني: المنجاة. وقيل: يعصرون: ينزل عليهم المطر من السحاب، قال الله تعالى * (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا).
قوله تعالى * (وقال الملك ائتوني به) في الآية اختصار أيضا فإن الرجل رجع إلى الملك وقص عليه تأويل الرؤيا ثم قال الملك: ائتوني به. وقوله: (* (فلما جاءه الرسول قال) * ارجع إلى ربك) إلى سيدك * (فاسأله ما بال النسوة اللاتي) أي: ما حال النسوة اللاتي * (قطعن أيديهن) على ما بينا من قبل، ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبا واحتراما. وقوله: * (إن ربي بكيدهن عليم) أي: بحيلهن ومكرهن عليم.
واعلم أنه قد صح عن النبي أنه قال: ' لو لبثت في السجن مثل ما لبث يوسف ثم جاءني الداعي لأجبت ' وفي بعض الروايات أن النبي قال: ' رحم الله أخي يوسف؛ لقد كان ذا حلم وأناة، ولو كنت مكانه ثم دعيت لبادرت '.
37

* (قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم (50) قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51) ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي) * * فإن قيل: أيش قصد يوسف عليه السلام من رد الرسول وذكر النسوة، وقد مضى على ذلك الزمان الطويل؟
الجواب: المراد أنه أن لا ينظر إليه الملك بعين التهمة ويصير إليه وقد زال الشكوك عن أمره فقال ما قال هذا.
قوله (تعالى) * (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف) روي أن الملك بعث إلى النسوة وفيهن امرأة العزيز فدعا بهن وقال لهن هذه المقالة، وقوله: * (ما خطبكن) أي: ما (حالكن)؟ وقيل: ما أمركن؟ وقوله: * (إذ راودتن يوسف عن نفسه) خاطبهن بهذه المقالة، والمراد: امرأة العزيز خاصة، وقيل: إن امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أمرنه بالطاعة لها؛ فلهذا قال: إذ راودتن يوسف عن نفسه. وقوله: * (قلن حاش لله) معاذ الله * (ما علمنا عليه من سوء) يعني: ما علمنا عليه من تهمة ولا خيانة. وقوله: * (قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه) وفي القصة: أن النسوة لما أخبرن ببراءة يوسف عما قرن به أقبلن على امرأة العزيز يقرونها. وروي أنها خافت أن يقبلن عليها ويشهدن عليها فأقرت وقالت: الآن حصحص الحق. معناه: تبين الحق. وقيل: معناه: الآن ظهر الأمر بعد الانكتام. قال الشاعر:
(ألا مبلغ عني خداشا بأنه
* كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم)
* (أنا راودته عن نفسه) ظاهر المعنى.
قوله: * (وإنه لمن الصادقين) قوله تعالى: * (ذلك ليعلم) اختلفوا على أن هذا قول من؟ الأكثرون أنه قول يوسف؛ ومعناه: ذلك ليعلم العزيز * (أني لم أخنه بالغيب
38

* (كيد الخائنين (52) وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم (53) وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم) * * وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) ومعناه: إنه لا يوضح ولا يرشد كيد الخائنين. فإن قال قائل: كيف دخل قول يوسف في وسط هذا الكلام، وإنما المذكور كلام جرى بين الملك والنسوة؟!
قلنا: اعتراض كلام آخر بين كلام. جائز على لغة العرب؛ قال الله تعالى في قصة سليمان حكاية عن بلقيس: * (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) كلام الله تعالى اعتراض في الوسط ومنهم من قال: وفي [الآية] تقدير من التقديم والتأخير، معناه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال
النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم؛ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، ثم يرتب على هذا في المعنى قوله: * (ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه).
قوله تعالى: * (وما أبرىء نفسي) الآية. روي: ' أن جبريل عليه السلام قال ليوسف حين قال: ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب. [فقال له]: ولا حين هممت '. وروي أنه قال: حين حللت التكة. فقال يوسف: (وما أبرىء نفسي) * (إن النفس لأمارة بالسوء) يعني: إن النفس كثيرة الأمر بالسوء: السوء هاهنا هو المعصية. وقوله: * (إلا ما رحم ربي) قيل: إلا من رحم ربي، وفيه معنيان؛ أحدهما: أنه أشار إلى حالة العصمة عند رؤية البرهان. والقول الثاني: إلا من رحم ربي: هم الملائكة؛ فإن الله تعالى لم يركب فيهم الشهوة وخلقهم على العصمة من الهم وغيره.
39

* (لدينا مكين أمين (54) قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (55) وكذلك)
وقوله: * (إن ربي غفور رحيم) ظاهر.
قوله تعالى: * (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي) معناه: أجعله خاصا لنفسي لا يشركني فيه أحد * (فلما كلمه) في الآية اختصار أيضا فروي أنه ذهب الرسول ودعاه فقام واغتسل ولبس ثيابا (نضافا) وجاء إلى الملك. وقوله: * (فلما كلمه) في القصة أن الملك طلب منه أن يعيد تعبير الرؤيا ليسمع منه شفاها، فقص عليه، فهذا معنى قوله: * (فلما كلمه) وقيل: إن الملك كان يعلم سبعين لغة من لغات الناس فكلم يوسف بتلك اللغات فأجابه يوسف بها كلها وزاد (لسان) العبرية والعربية ولم يكن الملك يعلم ذلك، فقال: * (إنك اليوم لدينا مكين أمين) والمكانة: هي الجاه والحشمة والدرجة الرفيعة، وقوله: * (أمين) أي: صادق.
قوله تعالى: * (قال اجعلني على خزائن الأرض) اختلفوا أن يوسف عليه السلام لم طلب هذا؟ قال (بعضهم): إنما طلب ذلك لأنه عرف أن ذلك؛ وصله إلى وصول أهله إليه من أبيه وإخوته وغيرهم، ومنهم من قال: إنما طلب ذلك لأنه عرف أنه أقوم الناس بالقيام بمصالح الناس في السنين الشداد، فطلب لهذا المعنى.
وقوله: * (اجعلني على خزائن الأرض) الأرض هاهنا: أرض مصر، والخزائن: هي خزائن الطعام والأموال. وقال ربيع بن أنس: ' اجعلني على خزائن الأرض ' أي: على خراج مصر ودخلها.
* (إني حفيظ عليم) أي: حفيظ للخزائن، عليم بوجوه مصالحها. وفي بعض التفاسير: ' إني حفيظ عليم ' أي: كاتب حاسب. فإن قيل: هل يجوز أن يتولى المسلم من يد كافر عملا؟
قلنا قد قالوا: إنه إذا علم أن الكافر يخليه والعمل بالحق يجوز أن يتولى. وقد
40

* (مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر) * * روي أن ملك مصر لم يكن طاغيا ظالما، وإنما كان رجلا عفيفا في دينه، وإنما الطاغي الظالم كان فرعون موسى. وفي القصة: أن الملك مكث سنة لا يوليه ثم ولاه. وفي بعض الغرائب من الأخبار برواية أنس عن النبي: ' أن يوسف لو لم يطلب يوليه في الحال، ولكنه لما طلب أخر الملك سنة '. فإن قال قائل: أيجوز للإنسان أن يزكي نفسه وقد قال يوسف عليه السلام: ' إني حفيظ عليم '؟
قلنا: يجوز إذا كان في ذلك مصلحة عامة. وقيل: إنه يجوز (إذا عرف أنه) لا يلحقه بذلك آفة وأمن العجب على نفسه. وعن بعض الأئمة: لا يضر المدح من عرف نفسه. وقد قال عليه السلام: ' أنا سيد ولد آدم ولا فخر ' والخبر بطوله.
قوله تعالى: * (وكذلك مكنا) روي أن الملك ولاه ما طلب بعد سنة وتوجه بتاج مرصع بجواهر وأجلسه على سرير الذهب واعتزل الأمر كله، وفوض إليه، ودانت له الملوك وسمي بالعزيز. وفي القصة أيضا أن امرأة العزيز مات زوجها فزوجها الملك من يوسف - عليه السلام - وولدت له ولدين. وفي بعض الروايات: أنها وقفت على طريق يوسف عليه السلام ونادت: سبحان من جعل الملوك عبيدا بمعصيتهم، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم.
قوله تعالى: * ([مكنا]) ومعناه: ملكنا وبسطنا * (ليوسف في الأرض) يعني: أرض مصر * (يتبوأ منها حيث يشاء) أي: ينزل منها حيث يشاء * (نصيب
41

* (المحسنين (56) ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون (57) وجاء إخوة يوسف) * * برحمتنا) معناه: (نصيب بنعمتنا) * (من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) ظاهر المعنى.
قوله: * (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا) معناه: ثواب الآخرة خير للذين آمنوا. وقوله: * (وكانوا يتقون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه) قال أصحاب الأخبار: لما نصب الملك يوسف - عليه السلام - للقيام بالأمر، وتدبير مال مصر دبر في جمع الطعام أحسن التدبير بنى الحصون والبيوت الكبيرة، وجمع فيها طعاما للسنين المجدبة، وأنفق منها بالمعروف حتى مضت السنون المخصبة ودخلت سنون القحط، فروي أنه كان دبر في [طعام] الملك وحاشيته مرة واحدة وهو نصف النهار، فكلما دخلت سنة القحط كان أول من أخذ الجوع هو الملك فنادى بنصف الليل: يا يوسف، الجوع، الجوع. وفي بعض الأخبار أنه كان يقدر لكل اثنين طعام اثنين وكان يقدم جميعه بين يدي الواحد فلا يأكل إلا نصفه، فلما دخلت سنة القحط (قدم طعام اثنين بين يدي واحد فقدم فأكل جميعه وطلب زيادة فعرف يوسف عليه السلام أنه دخلت سنة القحط)، والله أعلم. قالوا: ودخلت السنة الأولى بهول وشدة لم يعهد الناس مثله، وكان كلما جاءت سنة أخرى كانت أهول وأشد، فلما كانت السنة الثانية وصل القحط إلى كنعان - وهو منزل يعقوب وأولاده - فاحتاجوا إلى الطعام حاجة شديدة فدعا بنيه وقال لهم: بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا واذهبوا إليه لتشتروا منه الطعام، قال: فأرسلهم وهم عشرة نفر وحبس [ابنه بنيامين] عنده فقدموا مصر، فهذا معنى قوله: * (وجاء إخوة يوسف). وقوله: * (فعرفهم)
42

* (فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون (58) ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين (59) فإن لم) * *
قال ابن عباس ومجاهد: عرفهم بأول ما نظر إليهم، وقال الحسن: لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه. ومعنى الآية: فعرفهم بالتعريف؛ والمعرفة: تبين الشيء بما لو شوهد لميز بينه وبين غيره. وقوله: * (وهم له منكرون) يعني: أنهم لم يعرفوه؛ والإنكار إبطال المعرفة بالقول، فإن قال قائل، كيف عرفهم ولم [يعرفوه] وهم إخوة؟!
والجواب من وجوه: قال عطاء بن أبي رباح: كان عليه تاج الملك وكان قاعدا على سرير الملك فلم يعرفوه. وذكر الكلبي أنه كان على زي ملوك مصر والأعاجم.
والقول الثاني: أنه كلمهم من وراء ستر فلم يعرفوه لهذا وعرفهم؛ لأنه أبصرهم ولم يعرفوه؛ لأنهم لم يبصروه، وهذا أضعف الأقوال.
والقول الثالث: أنهم كانوا تركوه صغيرا، وكان بين أن باعوه وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة فلم يعرفوه لهذا. وهذا قول حسن. وأما هو فكان تركهم رجالا.
والقول الرابع: أن يوسف كان يتوقع قدومهم عليه فلما [جاءوا] عرفهم، وأما الإخوة ما ظنوا أنه يصل إلى ما وصل إليه [فأنكروه] لهذا.
قوله * (ولما جهزهم بجهازهم) الآية، الجهاز: هو فاخر المتاع الذي ينقل من بلد إلى بلد؛ ومعنى التجهيز هاهنا: هو أنه باع منهم الطعام وسلمه إليهم وسهل لهم الرجوع إلى بلدهم.
وقوله: * (قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم) في القصة: أنهم لما دخلوا عليه خلا بهم في البيت وقال: إني استربت بحالكم فأخبروني من أنتم؟ فقالوا: نحن بنو رجل صديق، فقال: ومن هو؟ قالوا: يعقوب، فاستخبرهم عن حاله، فذكروا أنه كان له اثنا
43

* (تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون (60) قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون (61) وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا * * عشر ابنا وأنه هلك واحد منهم في البرية (وحبس) واحدا وهو أخوه لأمه ليستأنس به، فقال: أنا مستريب بكم، فإن كنتم صادقين فاحملوا ذلك الأخ معكم لتزول الريبة عن حالكم. وقيل: إنه قال لهم لما قصت القصة عليه، قصتي مثل قصتكم أيها القوم وقد فقدت أخا لي من أمي وأنا شديد الحزن عليه وقد نغص فراقه علي ملكي فأحب أن تحملوه إلي لأشكو إليه حزني ويشكو إلي حزنه، فبهذا الطريق قال: ائتوني بأخ لكم من أبيكم.
وفي بعض (التفاسير): أنهم ذكروا إيثار يعقوب بنيامين) و (أخاه) في المحبة فأحب أن يرى بنيامين لينظر هل هو موضع الإيثار؟
وقوله: * (ألا ترون أني أوفي الكيل) يعني: أتم الكيل ولا أبخسه. وقوله: * (وأنا خير المنزلين) قال مجاهد: أنا خير المضيفين، وكان قد أحسن ضيافتهم.
قوله تعالى: * (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي) قال الحسن: إن لم تأتوني به فلا طعام لكم عندي إن جئتم. وقوله: * (ولا تقربون) أي: لا تقربوا بلادي ولا داري.
قوله تعالى: * (قالوا سنراود عنه أباه) معناه: سنطلب إلى أبيه أن يرسله معنا. وقوله: * (وإنا لفاعلون) أي: مجتهدون.
قوله: * (وقال لفتيته) قرىء بقراءتين: ' لفتيانه ' و ' لفتيته ' والفتى: هو الشباب الكامل في القوة، والفتية والفتيان هاهنا: الغلمان. وقوله: * (اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) يقال: إن بضاعتهم كانت دارهم حملوها لشراء الطعام. وعن بعضهم: أن بضاعتهم كانت ثمانية جرب من سويق المقل. والأصح هو الأول. وقوله: * (في رحالهم) الرحل هاهنا: وعاء المتاع. وقيل: في جواليقهم. وقوله: * (لعلهم يعرفونها
44

* (انقلوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون (62) فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون (63) قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين (64)) * * إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون) فيه قولان: أحدهما: لعلهم يعرفون كرامتهم علينا، وإحساننا إليهم فيحملهم ذلك على الرجوع.
والقول الثاني: لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم - يعني: البضاعة - فيرجعون لرد البضاعة نفيا للغلط. واختلف القول في أنه لم رد بضاعتهم عليهم؟
فأحد الأقوال: ما بينا، وهو أن يكون ذلك حثا لهم على الرجوع. والثاني: أنه عرف أن الدراهم كانت قليلة عندهم فرد الدراهم عليهم ليكون عونا لهم على شراء الطعام. والثالث: أنه استحيا أن يعطي أباه وإخوته بالثمن مع شدة حاجتهم وسعة الأمر عليه.
قوله تعالى: * (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل) إن لم نحمل أخانا معنا. والثاني: أنه كان أعطى باسم كل واحد منهم وقرا، ولم يعط باسم بنيامين شيئا، وقال: احملوه لأعطي باسمه؛ فهذا معنى قوله: * (منع منا الكيل) أي: منع منا الكيل لبنيامين؛ والمعنى بالكيل هو الطعام؛ لأنه يكال. وقوله: * (فأرسل معنا أخانا نكتل) أي: نكيل الطعام، وقيل: نكتل له. وقوله: * (وإنا له لحافظون) ظاهر.
قوله تعالى: * (قال هل ءآمنكم عليه) الآية، معنى هذا: كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم. وقوله: * (فالله خير حافظا) قرىء: ' حفظا ' و ' حافظا ' ومعناه: حفظ الله خير من حفظكم، وحافظ الله خير من حافظكم.
قوله: * (وهو أرحم الراحمين) ظاهر.
قوله تعالى: * (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم) يعني: ما حملوا من الدراهم * (قالوا يا أبانا ما نبغي) فيه قولان: أحدهما: أي شيء نطلب؟ على طريق الاستفهام؛ قاله قتادة. وحقيقته: أنهم ذكروا ليعقوب عليه السلام إحسان الملك
45

* (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير (65) قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط) * * إليهم وإكرامه إياهم، [وحثوه] بذلك على إرسال بنيامين، فلما فتحوا المتاع ووجدوا البضاعة قالوا:
أي شيء نطلب بالكلام، هذا هو العيان في الإحسان والإكرام.
والقول الثاني: أن ' ما ' هاهنا للنفي؛ ومعناه: لا نطلب منك مالا لنشري به الطعام * (هذه بضاعتنا ردت إلينا) هذا المال قد رد إلينا فنحمله ونشتري به الطعام. والقول الأول أصح.
وقوله: * (ونمير أهلنا) يقال: مار أهله إذا حمل لهم الطعام من بلد إلى بلد؛ والميرة: هو الطعام المحمول. وقوله: * (ونحفظ أخانا) يعني: مما تخاف عليه. وقوله: * (ونزداد كيل بعير) قال مجاهد: البعير هاهنا: هو الحمار، قال: هو لغة، وكانوا أصحاب حمر ولم يكن لهم إبل. والأصح أنه البعير المعروف. وقوله: * (ونزداد) إنما قالوا هذا لأنه كان يعطى حمل بعير باسم كل رجل ولا يزيد؛ فهذا معنى قوله: * (ونزداد كيل بعير). قوله: * (ذلك كيل يسير) فيه معنيان: أحدهما: ذلك كيل قليل؛ يعني: ما حملناه قليل لا يكفينا وأهلنا، فأرسل معنا أخانا [نكتل] ليكثر ما نحمله من الطعام. والمعنى الثاني: ذلك كيل يسير أي: هين على من يكتاله.
قوله تعالى: * (قال لن أرسله معكم) في القصة: أن الإخوة جهدوا أشد الجهد وضاق الأمر على يعقوب وقومه في الطعام فلم يجد بدا من إرسال [بنيامين] معهم فقال: * (لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله) الموثق: هو العهد المؤكد بالقسم، وقيل: المؤكد بإشهاد الله على نفسه. وقوله: * (لتأتنني به إلا أن يحاط بكم) فيه قولان، أحدهما: إلا أن تهلكوا جميعا. والآخر: إلا أن يأتيكم أمر من السماء ليس لكم به قوة.
46

* (بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل (66) وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من) * *
وقوله: * (فلما آتوه موثقهم) يعني: أعطوه * (قال الله) تعالى * (على ما نقول وكيل) قال يعقوب: الله على ما نقول وكيل؛ والوكيل هو القائم بالتدبير، وقيل: وكيل أي: شاهد [وقيل: شهيد، أي: شاهد] وقيل: حفيظ.
قوله تعالى: * (وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد) أكثر المفسرين [على] أنه خاف العين: لأنه كانوا أعطوا جمالا وقوة وامتداد قامة، هذا قول ابن عباس وغيره من المفسرين؛ والعين حق. وقد روي عن النبي أنه كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: (أعيذكما بكلمات الله [التامة] من كل شيطان [و] هامة، ومن كل عين لامة ' (3).
وفي الباب أخبار كثيرة، وفي بعض الآثار. ' العين حق، تدخل الجمل القدر والرجل القبر '.
وفي الآية قول آخر: وهو أنه خاف عليهم ملك مصر إذا رأى قوتهم واجتماعهم أن يحبسهم أو يقتلهم. وحكي عن إبراهيم النخعي أنه قال: كان يرجو يعقوب أن يروا يوسف ويجدوه فقال: * (وادخلوا من أبواب متفرقة) لعلكم (تجدون) يوسف [أو] تلقونه. والصحيح هو الأول.
وقوله: * (وما أغنى عنكم من الله من شيء) معناه: إن كان الله قضى فيكم [قضاء] فيصيبكم [قضاؤه] مجتمعين كنتم أو متفرقين؛ ومعنى ' أغنى '
47

* (شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون (67) ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (68) ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما) * * أي: أدفع. وفي الخبر: الحذر لا يرد القدر. وقوله: * (إن الحكم إلا لله) هذا تفويض يعقوب عليه السلام أموره إلى الله؛ والحكم: هو الفصل بين الخصوم بموجب العلم من البشر، ومن الله صنع بموجب الحكمة * (عليه توكلت) يعني: به وثقت وعليه اعتمدت.
* (وعليه فليتوكل المتوكلون) معناه: وبه يثق الواثقون.
قوله تعالى: * (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم) يعني: من الأبواب المتفرقة قيل: إن المدينة مدينة الفرما، و (كانت) لها أربعة أبواب، كانت مدينة العريش. وقوله * (ما كان يغني عنهم من الله من شيء) معناه: ما كان يدفع عنهم من الله من شيء، وهذا الحق تحقيق لما ذكره يعقوب من قوله: * (وما أغنى عنكم من الله من شيء). وقوله: * (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) يعني: إلا مرادا ليعقوب عليه السلام ذكره وجرى الأمر على ذلك. وقوله: * (وإنه لذو علم لما علمناه) قال أهل التفسير: معناه: وأنه كان يعمل ما يعمل عن علم، لا عن جهل. ومنهم من قال: وإنه لذو علم بسبب تعليمنا إياه * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) لأنهم لم يسلكوا طريق العلم.
قوله: * (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه) آوى إليه: ضم إليه، ومعناه: أنزله مع نفسه. وفي القصة: أنه أنزل كل أخوين من أم بيتا، فبقي بنيامين وحده فقال: انزل معي، وكان كل أخوين من أم على حدة. وقوله: * (قال إني أنا أخوك)
48

* (كانوا يعملون (69) فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون (70) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون) * * فيه قولان: أحدهما: أنه أسر إليه أنه أخوه. والآخر: أنه قال: أنا لك مكان أخيك الهالك. ذكره وهب وغيره. وقوله: * (فلا تبتئس بما كانوا يعملون) معناه: فلا تحزن بما عملوا مع أخيك، فإني لك بدل أخيك، فروي أنه قال له بنيامين: ومن يجد أخا مثلك أيها الملك؛ ولكنك لست من يعقوب؛ فحينئذ ذكر أنه أخوه حقيقة.
قوله تعالى: * (فلما جهزهم بجهازهم) قد ذكرنا. وقوله: * (وجعل السقاية) السقاية: هي الإناء الذي يشرب به. واختلفوا أنها من أيش كانت؟ قال ابن عباس: كانت من زبرجد. وقال مجاهد: كانت من فضة مرصعة بالجوهر، وقيل: كان من ذهب. وعن بعضهم: أنه كان (إناء) مستطيلا شبه المكوك وله رأسان وفي وسطه مقبض، فكان يكال من أحد الرأسين ويشرب من (الرأس) الآخر، وكان لا يكال إلا به لعزة الطعام، وكان يسمع لها صوت: قد كيل في كذا.
وقوله: * (في رحل أخيه) أي: في وعاء أخيه بين طعامه. وقوله: * (ثم أذن مؤذن) روي أنه تركهم حتى ذهبوا منزلا، وقيل: حتى أصحروا وخرجوا من العمارة، ثم بعث من خلفهم من استوقفهم وقال: * (أيتها العير إنكم لسارقون) والعير: هم أصحاب الحمير. وقيل: قد يذكر ويراد به الإبل. فإن قال قائل: كيف استجاز يوسف أن ينسبهم إلى السرقة ولم يسرقوا؟
الجواب عنه من وجوه: أحدها معناه: إنكم لسارقو يوسف من أبيه، وعملتم كما يعمل السراق. والثاني: أن الرجل قال من غير أمر يوسف، فإنه حين فقد الصاع ظن أنهم سرقوا. والثالث: أن هذه هفوة من يوسف عليه السلام. وقد قالوا: إنه عير ثلاث عيرات: الأولى: حين هم بامرأة العزيز إلى أن رأى البرهان، والثاني حين قال للساقي: اذكرني عند ربك، والثالث: هذا؛ وهو أنه نسب إخوته إلى السرقة.
والقول الأول أجود الأقاويل، ويقال: إنه كان واضع مع بنيامين، وقال ما قال بالمواضعة، والله أعلم.
49

(* (71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (72) قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين (73) قالوا فما) * *
قوله: * (قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون) روي أنهم وقفوا وقالوا للقوم: ماذا تطلبون؟
قوله: * (قالوا نفقد صواع الملك) قرأ يحيى بن يعمر: ' صوغ الملك ' بالغين المعجمة [و] الصوغ من الذهب أو الفضة، والصواع يذكر ويؤنث، [و] الصواع: هو السقاية التي ذكرها في الآية الأولى. وقيل: إنه كان يكون بين يدي الملك، فإذا احتيج إليه أخذ.
وقوله: * (ولمن جاء به حمل بعير) يعني: ولمن رده حمل بعير من الطعام.
وقوله: * (وأنا به زعيم) أي: كفيل، والزعيم والكفيل والضمين بمعنى واحد، ويسمى الرئيس زعيما؛ لأنه كفل أمور القوم زعيم يقوم بمصالحهم ويتكلم عنهم. فإن قيل: أتجوز الكفالة بالمجهول عندكم وهذه كفالة بالمجهول؟ قلنا: لا تجوز، ويحتمل أن حمل البعير كان معلوما قدره عندهم. والثاني: أن هذه جعالة ولم تكن كفالة، وعندنا تجوز مثل هذه الجعالة.
قوله تعالى: * (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض) يعني: والله ما جئنا لنفسد في الأرض أي: لنسرق في ملك مصر * (وما كنا سارقين) في بلادنا فنسرق في بلادكم. فإن قال قائل: كيف قالوا: لقد علمتم وكان (من جوابهم) أن يقولوا: نحن لا نعلم؟ (قلنا): إنما قالوا ذلك؛ لأنهم كانوا جماعة لهم قوة وشدة ولم يكونوا يظلمون أحدا من الطريق ولا يتركون دوابهم تدخل في حرث أحد، وروي أنهم دخلوا مصر حين دخلوا وقد جعلوا الأكمة على رؤوس دوابهم لئلا تفسد شيئا.
وجواب آخر: أنهم إنما قالوا هذا لأنهم ردوا البضاعة المحمولة في رحالهم قالوا: فلو
50

* (جزاؤه إن كنتم كاذبين (74) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين (75) فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من) * * كنا سارقين ما رددنا البضاعة؛ لأن من يطلب شيئا ليسرقه لا يخلي شيئا وقع في يده.
فإن قيل: كيف جاز في العربية أن يقول القائل: (تالله، ولا يجوز أن يقول: تالرحمن وتالرحيم)؟ قلنا: لأن التاء بدل الباء؛ فإن الأصل في القسم حرف الباء ثم أبدلت الواو بالتاء فلما كانت بدل البدل ضعفت عن التصرف واقتصرت على الاسم الذي هو الأصل في القسم عادة ولسانا وهو ' الله '.
قوله تعالى: * (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين) معناه: فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين بقولكم إنا لم نسرق؟
قوله: * (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) استعباد السارق من وجد في رحله (فهذا) الجزاء جزاؤه؛ فيكون الثاني تأكيدا للأول. وفي الأول حذف على عادة كلام العرب، والقول الثاني: قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فالسارق جزاؤه؛ فهو كناية عن السارق، ومعنى جعله جزاء: أنه يسترق ويستعبد. واعلم أنه كان من سنة يعقوب: أن من سرق شيئا استرق سنة، وكان حكم ملك مصر أن يضرب ويغرم ضعفي قيمته، [فمراد] يوسف أن يحبس أخاه عنده فرد الحكم في السرقة إليهم فذكروا من حكم السرقة بما عرفوه في شريعة يعقوب عليه السلام، فأخذ يوسف عليه السلام بذلك وحصل مراده من حبس أخيه.
وقوله: * (كذلك نجزي الظالمين) يعني: أن إخوة يوسف قالوا: كذلك نجزي السراق عندنا.
قوله تعالى: * (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه) روي أن المؤذن فتش عن أوعيتهم، وروي أنه رد جماعتهم إلى يوسف - عليه السلام -
51

* (وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76) قالوا إن يسرق) * * فأمر بتفتيش أوعيتهم بين يديه. وفي القصة: أن ذلك الرجل كان كلما فتش وعاء ولم يجد الصاع استغفر الله وأظهر التوبة فلما بقي رحل بنيامين قال: ما أظن أن هذا أخذ شيئا قالوا: والله لا نتركك حتى تفتش وعاءه فتطيب أنفسنا ونفسك، ففتش وعاءه واستخرج الصاع فبقوا منكسرين مستحيين ونكسوا رؤوسهم خجلا وقالوا لبنيامين: ما هذا يا ابن راحيل؟! فقال: والله ما سرقت، فقالوا: كيف وقد وجد الصاع في رحلك؟! فقال: وضع الصاع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم. قال: وأخذوا بنيامين رقيقا عبدا. وفي القصة: أن ذلك الرجل أخذ برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق. وقوله: * (كذلك كدنا ليوسف) معناه: دبرنا ليوسف، وقيل: صنعنا ليوسف. وقال ابن الأنباري: أردنا ليوسف؛ وأنشد قول الشاعر
(كادت وكدت وذاك خير إرادة
* لو عاد من لهو الصبابة ما مضى)
فإن قيل: ما معنى قوله: * (كذلك) وأيش هذه الكاف، والكاف للتشبيه؟ الجواب عنه: أن هذا منصرف إلى قول يعقوب في أول السورة: * (فيكيدوا لك كيدا)
وكان كيدهم: أنهم أخذوه من أبيه بحيلة وألقوه في الجب فقال الله تعالى: كما كادوا في أمر يوسف: * (كدنا ليوسف) في أمرهم؛ والكيد من الخلق هو: الحيلة، ومن الله: التدبير بالحق. وقوله: * (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) معناه: ما كان يوسف ليجازي أخاه في حكم الملك، وقيل: في عادة الملك. قال الشاعر:
(أقول وقد درأت لها وضيني
* أهذا دينه أبدا وديني)
و ' ما ' هاهنا للنفي. وقوله: * (إلا أن يشاء الله) معناه: إلا بمشيئة الله يعني: فعل ما فعل بمشيئة الله تعالى. وقوله: * (نرفع درجات من نشاء) قال هذا في هذا الموضع؛ لأنه رفع درجة يوسف على درجتهم في العلم والملك والعقل وغيره. وقيل:
52

* (فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون (77) قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا) * * نرفع درجات من نشاء بالتوفيق والعصمة. وقوله: * (وفوق كل ذي علم عليم) قال ابن عباس: وفوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله. وقرأ ابن مسعود: وفوق كل عالم عليم '.
قوله تعالى: * (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) أرادوا بأخيه من قبل: يوسف - عليه السلام - واختلف القول في أنه أيش سرق؟
قال سعيد بن جبير وقتادة: كان عند جده إلى أمه صورة تعبد فأخذها سرا وألقاها لئلا تعبد. والقول الثاني: أنه كان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرا فيعطيه المساكين.
والقول الثالث: أنه كان عند عمته تربيه، فأراد يعقوب أن ينتزعه منها فشدت عمته تحت ثيابه منطقة، وادعت أنه سرقها لتحبسه عند نفسها ويترك عندها؛ فإنها كرهت أن يؤخذ منها وكانت أحبته حبا شديدا، ذكره ابن إسحاق.
وقوله: * (فأسرها يوسف في نفسه) فإن قال قائل: إلى أين يرجع قوله: * (فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم)؟ قلنا: ليس لهذا مذكور سابق، ومعناه: أسر الكلمة في نفسه، وتلك الكلمة أنه قال: * (أنتم شر مكانا)، ولم يصرح بهذا القول. وقوله: * (شر مكانا) يعني: شر صنيعا. وحقيقة معناه: أنه لم يكن من يوسف سرقة صحيحة، وقد كانت منكم سرقة صحيحة؛ وهو سرقتكم يوسف من أبيه.
وقوله: * (والله أعلم بما تصفون) يعني: والله أعلم أن أخاه قد سرق أو لم يسرق
قوله تعالى: * (قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا) في القصة: أنهم غضبوا غضبا شديدا لهذه الحالة، وكان يهوذا إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وإذا صاح [فكل] امرأة حامل سمعت صياحه ألقت ولدها، وكان مع هذا إذا مسه أحد من
53

* (فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين (78) قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون (79) فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال) * * ولد يعقوب [سكن] غضبه، وقيل: إن هذا كان صفة شمعون من أولاد يعقوب؛ فروي أنه قال لإخوته: كم يكون من عدد الأسواق بمصر؟ فقالوا: عشرة أسواق، فقال: اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفكم الملك، أو قال: اكفوني أنتم الملك وأنا أكفكم الأسواق، قال: فدخلوا على يوسف فقال له يهوذا: أتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة تلقي كل حامل ولدها في هذه البلدة، وكان عند يوسف ابن له صغير قائم عنده فقال: اذهب وخذ بيد ذلك الرجل وائتني به، فذهب وأخذ بيده فسكن غضبه، فقال لإخوته: والله إن هاهنا بذرا من بذر يعقوب، فقال له الابن الصغير: ومن يعقوب وأنا لا أدري يعقوب ولا ولده؟. وروي أنه غضب ثانيا فقام إليه يوسف وركضه برجله وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض وقال: معشر العبرانيين تظنون أن لا أحد أشد منكم، ذكر هذا كله السدي وغيره، فلما صار أمرهم إلى هذا خضعوا وذلوا وقالوا: * (يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا).
والعز: منع الضيم أو الضير بسعة السلطان والقدرة، والعزيز: هو المنيع بما حصل له من واسع المقدور.
قوله: * (إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه) معناه: خذ أحدنا بدله، ونصب شيخا على نعت قوله: * (أبا).
وقوله: * (إنا نراك من المحسنين) يعني: إنا نراك من المحسنين إلينا، وإحسانه إليهم بتوفية الكيل، وحسن الضيافة، ورد البضاعة، وغيره.
قوله تعالى: * (قال معاذ الله) أعتصم بالله * (أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون) معلوم المعنى، ومعناه: أن نأخذ البرىء بدل الجاني، فإن أخذنا فإنا ظالمون.
قوله تعالى: * (فلما استيأسوا منه) في القصة: أنه لما استخرج الصاع وعاد الإخوة إليه دعا بالصاع ونقره بقضيب في يده فطن الصاع.
54

* (كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير) * *
فقال: يا قوم إن هذا الصاع ليخبرني بخبر، قالوا: وما يخبرك أيها الملك؟ فقال: إنه يخبرني أنكم كنتم (اثنى) عشر إخوة وأنكم أخذتم أخا لكم من أبيكم وألقيتموه في الجب وبعتموه من بعد، قال: فجعل ينظر بعضهم إلى بعض فقام بنيامين وسجد له، وقال: صدق صاعك (أيها الملك)، سله: أحي أخي أو لا؟، فنقر الصاع ثانيا وطن فقال: إنه يقول: هو حي، وستراه. فقال: سله من سرق الصاع؟ فقال: هو غضبان - يعني الصاع - ويقول كيف تسألني وقد رأيت في يد من كنت؟! أورده النقاش وأبو الحسن بن فارس وغيرهما، والله أعلم.
ومعنى قوله: * (فلما استيأسوا منه) أي: تيأسوا منه، وقال أبو عبيدة: استيأسوا استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم، وأنشد:
(أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني
* ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم)
يعني: ألم تعلموا. وقوله * (خلصوا نجيا) يعني: انفردوا يتناجون، ويتشاورون في أمر أخيهم، ومعنى * (خلصوا): أنه لم يكن معهم غيرهم. تقول العرب: قوم نجى. قال الشاعر:
(حتى إذا ما القوم كانوا أنجية
* واختلطت أحوالهم كالأرشية)
وقوله: * (قال كبيرهم) قال ابن عباس: هو يهوذا ولم يكن أكبرهم في السن، ولكن كان في العقل أكبرهم، وقال مجاهد: هو شمعون وكانت له الرئاسة على إخوته، وقال قتادة: هو الروبيل وكان أكبرهم في السن.
وقوله: * (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله) قد بينا معنى الموثق. وقوله: * (ومن قبل ما فرطتم في يوسف) يعني: قصرتم وتركتم عهد أبيكم.
55

* (الحاكمين (80) ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين (81) واسأل القربة التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون (82) قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر) * * وقوله: * (فلن أبرح الأرض) يعني: لن أبرح أرض مصر * (حتى يأذن لي أبي) يعني: يدعوني أبي * (أو يحكم الله لي) أي: يرد أخي إلي، وقيل: يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم وأسترد أخي * (وهو خير الحاكمين) يعني: وهو خير الفاصلين.
قوله تعالى: * (ارجعوا إلى أبيكم) الآية: امضوا إلى أبيكم * (فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق) وحكي عن ابن عباس أنه قرأ: ' أنه إن ابنك سرق ' وفيه معنيان: أحدهما: اتهم بالسرقة. والآخر: علم منه السرقة. وقوله: * (وما شهدنا إلا بما علمنا) يعني: إلا بما رأينا فإنا رأينا إخراج الصاع من متاعه. وقوله: * (وما كنا للغيب حافظين) فيه قولان: أحدهما: ما كنا لليله ونهاره وذهابه ومجيئه حافظين، وإنما كنا نعلم من حاله ما دام عندنا، والقول الثاني يعني: أنا لو علمنا أنه سيسرق ما حملناه مع أنفسنا فنحن لم نعلم هذا الغيب.
قوله تعالى: * (واسأل القرية التي كنا فيها) يعني: أهل القرية التي كنا فيها. * (والعير التي أقبلنا فيها) يعني: وأهل العير التي أقبلنا فيها، أي: كنا فيها.
وقوله: * (وإنا لصادقون) ظاهر. فإن قال قائل: كيف استجاز يوسف - عليه السلام - أن يعمل كل هذا بأبيه ولم يخبره بمكانه ولم يرسل إليه أحدا، ثم حبس أخاه عنده وقد عرف شدة وجده عليه، وهذا أعظم من كل عقوق، وفيه قطع الرحم وقلة الشفقة؟ الجواب عنه: قد أكثر الناس في هذا، والصحيح أنه عمل ما عمل بأمر الله تعالى، وأمره الله تعالى بذلك ليزيد في بلاء يعقوب ويضاعف له الأجر، ويرفع درجته [فيلحقه] في الدرجة بآبائه الماضين. وقيل: إنه لم يظهر نفسه للإخوة؛ لأنه لم يأمن عليهم أن يدبروا، في ذلك تدبيرا ويكتموا عن أبيهم، والصحيح هو الأول.
قوله تعالى: * (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا) في الآية اختصار؛ لأنهم رجعوا
56

* (جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العلم الحكيم (83) وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (84)) * * وذكروا لأبيهم بما علمهم كبيرهم، ثم إن يعقوب قال ما قال، ومعنى التسويل هاهنا: أن زينت لكم أنفسكم حمل أخيكم إلى مصر لتطلبوا نفعا عاجلا.
قوله تعالى: * (فصبر جميل) أي: فصبري صبر جميل. والصبر: حبس النفس عما تنازع إليه النفس وقد بينا معنى الجميل. وقوله: * (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) يعني: يوسف وأخاه بنيامين ويهوذا. وفي القصة: أن ملك الموت - عليه السلام - زار يعقوب فقال له: أيها الملك الطيب ريحه، الحسن صورته هل قبضت روح ولدي في الأرواح؟ فقال: لا. فسكن يعقوب على ذلك، وعلم أنه حي وطمع في رؤيته. وقوله: * (إنه هو العليم الحكيم) معناه: العليم بمكانهم، الحكيم في تدبيرهم.
قوله تعالى: * (وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف) الآية. روي أن بنيامين لما حبسه يوسف اشتد الأمر على يعقوب غاية الشدة وبلغ الحزن [به نهايته]، ولم يملك بعد ذلك الصبر، فجزع، فهذا معنى قوله: * (وتولى عنهم) أي: أعرض عنهم * (وقال يا أسفى) وروى أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي: ' أن بعض إخوان يعقوب زاره فقال له: يا يعقوب، ما الذي أعمى عينيك وقوس ظهرك؟ فقال: أعمى عيني كثرة البكاء على يوسف، وقوس ظهري شدة الحزن على بنيامين، فبعث الله تعالى إليه جبريل - عليه السلام - وقال: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟! فبعد ذلك دخل بيته ورد بابه، و * (قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) ' ومعنى
57

* (قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين (85) قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون (86) يا بني) * * قوله: * (يا أسفى) يا حزن على يوسف، والأسف: شدة الحزن. وقوله: * (وابيضت عيناه من الحزن) يعني: غلب البياض على الحدقة وذهبت الرؤية. ونسبه إلى الحزن؛ لأنه كان يبكي لشدة الحزن وعمي لشدة البكاء. وقوله: * (فهو كظيم) أي: ممسك على حزنه لا يبثه ولا يذكره للناس. فهذا بعد أن نهاه الله عن ذلك على ما بينا.
قوله تعالى: * (قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف) يعني: لا تزال تذكر يوسف، و ' لا ' محذوفة، وقوله: * (حتى تكون حرضا) قال ثعلب - أحمد بن يحيى - الحرض: كل شيء لا ينتفع به، قال مجاهد: الحرض ما دون الموت، وقال الفراء: الحرض هو الذي فسد جسمه وعقله، وقال أبو عبيدة: الحرض هو الذي أذابه الحزن. وقيل: هو المدنف البال، والأقوال متقاربة.
وعن أنس بن مالك أنه قرأ: ' حتى تكون حرضا ' والحرض: الأشنان، ومعناه: حتى تصير كعود [الأشنان]، وقوله: * (أو تكون من الهالكين) أي: من الميتين.
قوله تعالى: * (قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) قد بينا الخبر [الوارد] في هذا برواية أنس. والبث: الهم، * (وحزني إلى الله)، وروى أنه قال: يا رب، أما ترحمني، قد أخذت مني كذا وكذا - وجعل يعدد - رد إلي ريحانتي (فأشمها شمة ثم افعل) بي ما أردت ولا أبالي، فأوحى الله - تعالى - إليه: أن اسكن وفرغ روعك فسأردهما إليك. وفي الآثار المسندة عن الحسن البصري أنه قال: بكى يعقوب ثمانين سنة وما جف له دمع، ولم يكن على وجه الأرض أحد أكرم على الله منه. قوله: * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) يعني: أعلم من حياة يوسف ما لا تعلمون، وقيل: أعلم من تحقيق رؤيا يوسف ما لا تعلمون، فإن قال قائل:
58

كيف بكى يعقوب كل هذا البكاء وحزن هذا الحزن، وهل أصيب إلا بفقد ولد واحد، أفما كان عليه أن يسلم الأمر إلى الله تعالى ويصبر؟ الجواب عنه: أنه امتحن في هذا بما لم يمتحن به غيره، ولم يسأل عن يوسف مع طول الزمان، وكان [ابتلاؤه] فيه أنه لم يعلم حياته فيرجو رؤيته، ولم يعلم موته فيسأل عنه، وكان يوسف من بين سائر الإخوة خص بالجمال الكامل (والعقل) وحسن الخلق وسائر ما يميل القلب إليه. وروي عن الحسن البصري أنه مات أخوه فبكى عليه بكاء شديدا فسئل عن ذلك؟ فقال: سبحان من لم يجعل الحزن عارا على أهله، وقرأ قوله تعالى: * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله). وروى حبيب بن أبي ثابت قال: لما كبر يعقوب وطال عليه الحزن سقط حاجباه على عينيه من الكبر فكان يرفعهما بخرقة، فدخل عليه بعض جيرانه وقال: ما الذي بلغ بك ما بلغ ولم تبلغ سن أبيك بعد؟ قال: طول الزمان وكثرة [الأحزان]، فبعث الله إليه جبريل - عليه السلام - وقال: يا يعقوب، شكوتني إلى خلقي؟! فقال: خطيئة فاغفرها لي يا رب. فغفرها الله له، وكان بعد ذلك إذا سئل عن حاله قال: ' إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ' وعن وهب بن منبه: أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب - عليه السلام - فقال: أتدري لم عاقبتك وفرقت بينك وبين ولدك؟ قال: يا رب لا، فقال: لأنك ذبحت شاة وشويتها وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه؛ وقد روى أنس، عن النبي قريبا من هذا أورده الحاكم أبو عبد الله. وفي خبر أنس: ' أن الله تعالى قال ليعقوب: اتخذ طعاما وادع إليه المساكين، ففعل وكان بعد ذلك إذا تغد أمر من ينادي: من أراد الغداء فليأت يعقوب، وإذا أفطر أمر من ينادي: من أراد أن يفطر فليأت يعقوب، فكان يتغدى معه القوم الكثير، ويتعشى معه القوم الكثير من المساكين '.
وفي القصة: أن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمها وهي تخور. وعن عبد الله بن يزيد وابن أبي فروة: أن يعقوب - عليه السلام - كتب كتابا إلى
59

* (اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون (87) فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا) * * يوسف حين حبس بنيامين: بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر أما بعد: فإنا أهل بيت (وكل) بنا البلاء، أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلهما الله عليه بردا وسلاما؛ وأما أبي إسحاق فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على حلقه ففداه الله بكبش، وأما أنا فابتليت بفراق أحب أولادي إلي وكنت أتسلى بأخيه من أمه وقد حبسته وزعمت أنه سرق، والله ما أنا بسارق ولم ألد سارقا فإن رددته إلي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك. فلما بلغ (إليه الكتاب) بكى بكاء شديدا وأظهر نفسه على ما يرد.
قوله تعالى: * (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف) التحسس: طلب الشيء بالحاسة، ومعناه: اطلبوا وابحثوا عن خبر يوسف وأخيه.
وقوله: * (ولا تيأسوا من روح الله) في الشاذ قرىء: ' من روح الله ' (وعن أبي بن كعب أنه قرأ: ' من رحمة الله ' والروح مأخوذ من الريح، وهو في الحقيقة ما يستراح به. وقيل: من روح الله) أي: من فرج الله، قاله أبو عمرو بن العلاء، وقيل: من رحمة الله، وقيل: من فضل الله.
وقوله: * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: (* (فلما دخلوا عليه) قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر) يعني: الجوع والحاجة. وقوله: * (وجئنا ببضاعة مزجاة) قال ابن عباس: كانت دراهمهم زيوفا في هذه الكرة، ولم تك تنفق في الطعام فهذا معنى المزجاة، وعن مجاهد وقتادة: مزجاة: قليلة يسيرة، وقال مقاتل: كانت بضاعتهم حبة الخضراء، وعن الكلبي قال: كانت بضاعتهم الحبال وخلق الغرائر، وقيل: كانت سويق المقل.
60

* (وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين (88) قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون (89) قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه) * *
وقال (كعب: كانت عشرة دنانير. وقيل: كان متاع الأعراب من الصوف والأقط وغيره. وقوله: * (فأوف لنا الكيل) معناه: أتم كما كنت تتم كل مرة. وقوله: * (وتصدق علينا) أي: بما بين النافق والكاسد. وقيل: تصدق علينا بالتجوز. قال الشاعر:
(تصدق علينا يا ابن عفان واحتسب
* وأمر علينا الأشعري لياليا)
يعنون: أبا موسى الأشعري، وقيل: وتصدق علينا بإطلاق أخينا، وعن مجاهد قال: يكره أن يقول الرجل: اللهم تصدق علي؛ لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب. فإن قال قائل: كيف قالوا: وتصدق علينا، والصدقة لا تحل للأنبياء؟ الجواب: أن سفيان ابن عيينة قال: قد كانت حلالا لهم، ولأنا بينا أن المراد منه التجوز والمحاباة، وهذا جائز بالاتفاق. وقوله: * (إن الله يجزي المتصدقين) لم يقولوا: يجزيك؛ لأنهم لم يثقوا بإيمانه، فقالوا: إن الله يجزي المتصدقين على الإطلاق لهذا.
قوله تعالى: * (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) روي أنهم [لما] قالوا هذا وسمعه يوسف أدركته الرقة، فقال لهم هذا القول: هل [علمتم] ما فعلتم أي: ما صنعتم بيوسف وأخيه، والذي فعلوا بأخيه هو التفريق بينهما ولم يذكر ما فعلوا بيعقوب دفعا لحشمته وتعظيما له. وقوله: * (إذ أنتم جاهلون) معناه: إذ أنتم آثمون عاصون، وعن ابن عباس قال: إذ أنتم صبيان، وعن الحسن قال: إذ أنتم شبان ومعكم جهل الشبان، وفي القصة: أنه لما قال هذا القول تبسم فرأوا ثناياه منظوما كاللؤلؤ فعرفوه وقالوا: * (أئنك لأنت يوسف) وقال بعضهم: قالوا هذا على التوهم ولم يكونوا تيقنوا بعد حتى قال لهم: أنا يوسف. وقوله: * (أنا يوسف وهذا أخي)
61

* (من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (90) قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين (91) قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92) اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم) * *
حكى الضحاك أن في قراءة ابن مسعود: ' وهذا أخي بيني وبينه قربى '. وقوله: * (قد من الله علينا) أي: أنعم الله علينا * (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) معناه: من يتق عن المعاصي ويصبر على الطاعات والمصائب. وعن إبراهيم النخعي قال: من يتق الزنا ويصبر على العزوبة.
قوله تعالى: * (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا) يعني: فضلك الله علينا * (وإن كنا لخاطئين) وما كنا إلا خاطئين، وقيل: وقد كنا خاطئين، والفرق بين خطأ وأخطأ أن خطأ: خطأ إذا تعمد، وأخطأ: خطأ إذا كان غير متعمد.
قوله تعالى: * (قال لا تثريب عليكم اليوم) التثريب هو التعيير ذكره ثعلب وغيره، وقيل: لا تثريب عليكم اليوم أي: لا عقوبة عليكم اليوم بعد اعترافكم بالذنب، قال الشاعر:
(فعفوت عنكم عفو غير مثرب
* وتركتكم لعقاب يوم سرمد)
وقوله: * (اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (اذهبوا بقميصي هذا) روي أن الله تعالى لما جعل النار على إبراهيم بردا وسلاما أنزل عليه قميصا من حرير الجنة فأعطاه إبراهيم إسحاق، وأعطاه إسحاق يعقوب فجعله يعقوب في (قصبة) وشد رأسها وعلقها في عنق يوسف - عليه السلام - وكان يكون في عنقه، فلما كان هذا الوقت بعث الله جبريل - عليه السلام - أن افتح القصبة: وابعث إليه بالقميص فإنه لا يمسه مبتلى إلا عوفي، ولا سقيم إلا صح وبرأ، فبعث بذلك القميص إلى يعقوب، فهذا معنى قوله تعالى: * (اذهبوا بقميصي هذا) وفي القصة أن يهوذا قال: أنا أذهب بالقميص إليه فإني
62

* (أجمعين (93) ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون) * * ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إليه، فأعطاه وخرج حافيا [حاسرا] يعدو ومعه سبعة أرغفة فلم يستوفها حتى بلغ كنعان، وقيل: إنه بعث على يد غيره، [وقال]: * (فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) قال الفراء: يرجع بصيرا، وقال غيره: يعد بصيرا؛ قال الحسن: لم يعلم أنه يعود بصيرا إلا بعد أن أعلمه الله ذلك.
وقوله: * (وأتوني بأهلكم أجمعين) أي: جيئوني بأهلكم أجمعين.
قوله تعالى: * (ولما فصلت العير) يعني: انفصلت من مصر وخرجت. قوله: * (قال أبوهم إني لأجد) في القصة: أن ريح الصبا استأذنت من ربها أن تأتي بريح يوسف إلى يعقوب - عليهما السلام - فهي التي جاءت بريح يوسف، والصبا: ريح تأتي من قبل المشرق إذا هبت على الأبدان لينتها ونعمتها وطيبتها، وهيجت الأشواق إلى الأحباب والحنين إلى الأوطان، قال الشاعر:
(أيا جبلي نعمان بالله خليا
* سبيل الصبا يخلص إلى نسيمها)
(فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت
* على قلب محزون تجلت همومها)
وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور ' وروي أن القميص لما نشر هاجت منه ريح الجنة [فشمها] يعقوب - عليه السلام - فعلم أنها جاءت من قبل قميص يوسف؛ لأنه لم يكن في الأرض شيء من الجنة سواه.
وقوله: * (لولا أن تفندون) معناه: لولا أن تضعفوا رأي، وقيل: لولا أن تسفهوني، وقيل: لولا أن تنسبوني إلى الخوف والجهل.
قال الشاعر:
63

* (قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم (95) فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون (96) قالوا يا أبانا استغفر) * *
(يا صاحبي دعا الملامة واقصرا
* طال الهوى وأطلتما التفنيدا)
قوله تعالى: * (قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم) هذا قول بني بنيه، فإن بنيه كانوا بمصر، ومعناه: تالله إنك لفي خطئك القديم، والخطأ: هو الذهاب عن طريق الصواب؛ فإنه كان عندهم أن يوسف قد مات، وكانوا يرون يعقوب قد لهج بذكره فإنه كان يخرج من بيته فيلقاه الرجل ومعه شيء يحمله فيقول: ضعه واسمع مني حديثي، وكان يلقاه الخادم والجارية فيقول معه مثل هذا القول؛ وكانوا يظنون به خرفا وخطأ عظيما، فهذا معني قولهم: إنك لفي ضلالك القديم، وقيل: إنك لفي [شقائك] القديم، والشقاء هاهنا بمعنى التعب، وقيل: في غفلتك القديمة، وقيل: في محبتك القديمة؛ قال الحسن البصري: فكان هذا عقوقا (عظيما) منهم.
قوله تعالى: * (فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه) ومعناه: ألقى القميص على وجهه. وقوله: * (فارتد بصيرا) أي: عاد بصيرا ورجع بصيرا، فروي أنه عادت قوته في الحال، وذهبت [الغشاوة] وزال البياض الذي كان بعينه، وفتح عينيه كأحسن ما يكون، و * (قال) لبنيه وبني بنيه: * (ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون) وهذا دليل على أنه قد كان قال لهم: إن يوسف حي، وإني أرجو رؤيته. (وقيل): * (إني أعلم من الله ما لا تعلمون) يعني: من تحقيق رؤيا يوسف ما لا تعلمون، وفي بعض الأخبار أنه قال للبشير: ليس عندي شيء أعطيك ولكن هون الله عليك سكرات الموت. وروي أنه لما جاءه خبر يوسف قال للبشير: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمت النعمة.
قوله تعالى: * (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) هذا دليل على أنهم عملوا ما عملوا وكانوا بالغين.
64

* (لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين (97) قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم (98) فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) * *
قوله تعالى: * (قال سوف أستغفر لكم ربي) روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وجماعة من التابعين أنهم قالوا: أخر الدعاء إلى السحر وهو الوقت الذي يقول الله تعالى: هل من داع (فيستجاب) له؟ هل من سائل فيعطى سؤله '؟ (الخبر) ' هل من مستغفر فيغفر له؟ ' والقول الثاني: أنه أخر إلى ليلة الجمعة حكى هذا عن ابن عباس، وقد روي في بعض الأخبار مرفوعا إلى النبي. وعن عطاء بن ميسرة الخراساني قال: الحاجة إلى الشباب أسرع إجابة من الحاجة إلى الشيوخ، فإن يوسف - عليه السلام - قال: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم ولم يؤخر، وحين طلبوا من يعقوب سوف وأخر. وفي القصة: أن يعقوب كان يصلي من الليل ويقوم يوسف خلفه ويقوم بنوه خلف يوسف ويستغفرون لهم هكذا عشرين سنة إلى أن نزل الوحي بمغفرتهم، وقوله: * (إنه هو الغفور الرحيم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى * (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه) روي أن يوسف بعث بمائتي راحلة وجهاز كثير ليأتوا بيعقوب وقومه، قال مسروق: كانوا ثلاثة وتسعين من بين رجل وامرأة، وروي: اثنان وسبعين وهو الأشهر. قال أهل الأخبار: ولما خرج موسى ببني إسرائيل من مصر كان قد (بلغ) عددهم ستمائة ألف مقاتل وسبعين ألفا، والذرية ألف ألف وسبعمائة ألف وكذا في القصة أنهم جاءوا فلما قربوا من مصر
65

* (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رءياي من قبل) * * خرج يوسف ليلقاهم مع الجند، وروي أنه حمل الملك الأكبر مع نفسه، فلما وصلوا إلى يعقوب قالوا ليعقوب: هذا ابنك قد جاء، قال: فأراد يوسف أن يبدأه بالسلام، فقال جبريل: لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام، فقال (يعقوب:) السلام عليك يا مذهب الأحزان، وقد روي أنهما نزلا وتعانقا، وفي بعض القصص أنهما مشيا فتقدمه يوسف بخطوة فجاء جبريل وقال له: أتتقدم على أبيك لا أخرج من ذريتك نبيا أبدا، وفي بعض القصص: أن يوسف كان في أربعة آلاف من الجند، وقد قيل غيره. وقوله: * (آوى إليه أبويه) أي: ضم إليه أبويه، والأكثرون أن أبويه أي: أباه وخالته، وقال الحسن البصري: هو أبوه وأمه وقد كانت حية، وفي بعض التفاسير: أن الله تعالى بعث أمه وأحياها حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر، والله أعلم.
وقوله: * (وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) اختلفوا في [معنى] المشيئة هاهنا، قال بعضهم: ادخلوا آمنين من الجواز * (إن شاء الله)، وقد كانوا لا يدخلون قبل ذلك لمصر إلا بجواز، وقيل: في الآية تقديم وتأخير ومعناه: سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله وقال: ادخلوا مصر آمنين.
قوله تعالى: * (ورفع أبويه على العرش) الرفع: هو النقل إلى العلو، وضده الوضع، والعرش: سرير الملك، وقد روي عن النبي أنه قال: ' اهتز العرش لموت سعد بن معاذ ' قيل: أراد به سريره (الذي حمل عليه وليس بشيء؛ لأن الكلام خرج على وصف التكريم، ولا كرامة في اهتزاز سريره الذي حمل عليه)، وفي بعض الروايات: ' اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ' فالعرش في هذا الخبر هو العرش المعروف واهتزازه استبشاره لإقبال روح سعد بن معاذ. ويجوز أن يكون المراد
66

* (قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد) * * بذكر العرش أهل العرش من الملائكة، والله أعلم.
وقوله: * (وخروا له سجدا) معناه: وقعوا له ساجدين، واختلفوا في هذه السجدة فالأكثرون أنهم سجدوا له، [و] كانت السجدة سجدة المحبة لا سجدة العبادة، وهو مثل سجود الملائكة لآدم - عليه السلام - قال أهل العلم: وكان ذلك جائز في الأمم السالفة، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك في هذه الشريعة وأبدل بالسلام، وقال بعضهم: أنهم سجدوا لله لا ليوسف، وإنما خروا له سجدا؛ لأنه كان قدامهم فحصل سجودهم إليه كما يسجد إلى المحراب والجدار، والصحيح هو الأول، هكذا قاله أهل العلم، والدليل عليه أنه كان في رؤياه: * (إني رأت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)، فالشمس والقمر أبواه، وأحد عشر كوكبا هم إخوته.
فإن قال قائل: كيف جاز السجود لغير الله؟ وإذا جاز السجود لغير الله فلم لا تجوز العبادة لغير الله؟ والجواب: أن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تجوز إلا لله؛ وأما السجود: نوع تذلل وخضوع بوضع الخد على الأرض وهو دون العبادة، فلم يمتنع جوازه للبشر كالانحناء.
وقال بعضهم: * (وخروا له سجدا) السجود هاهنا هو الانحناء وعبر عنه بالسجود، وأما حقيقة السجود فلم تكن. وأولى الأقاويل هو الأول والله أعلم.
قوله: * (وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل) [تفسير] رؤياي من قبل * (قد جعلها ربي حقا) أي: صدقا * (وقد أحسن بي) أي: أنعم علي * (إذ أخرجني من السجن) فإن قال قائل: كيف لم يقل: إذ أخرجني من الجب، وكانت المحنة عليه والبلية في الجب أكثر منها في السجن؟ الجواب عنه: أنه أعرض عن ذكر
67

* (أن نزغ الشيطان يبني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم (100) رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين (101) ذلك من أنباء الغيب) * * الجب تكرما لأن لا يخجل الإخوة عنه، وكان قد قال: * (لا تثريب عليكم اليوم) وفي إعادته تثريب وملامة، ولأن النعمة عليه في الإخراج من السجن كانت أكثر؛ لأنه أخرج من الجب وجعل عبدا، وأخرج من السجن وجعل ملكا. قوله: * (وجاء بكم من البدو) البدو: بسيط من الأرض يسكنه أهل الماشية بماشيتهم، وقد كان يعقوب وأولاده أهل مواشي وعمد، والعمد: الخيام، فلهذا قال: وجاء بكم من البدو. وقوله: * (من بعد أن نزغ الشيطان) معناه: من بعد أن أفسد الشيطان * (بيني وبين إخوتي) بالحسد. وقوله: * (إن ربي لطيف لما يشاء) اللطيف هو: الرفيق، ويقال معنى الآية: إن ربي لطيف (بمن) يشاء. وحقيقة اللطيف هو الذي يوصل الإحسان إلى غيره برفق. وقوله: * (إنه هو العليم الحكيم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (رب قد آتيتني من الملك) الملك هو: اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير، وأدخل كلمة ' من ' وهي للتبعيض؛ لأنه كان من يد ملك مصر، وقيل: ' من ' للتجنيس هاهنا، قال محمد بن علي الباقر: ملك يوسف اثنتين وسبعين سنة. وقال غيره: ثمانين سنة. وقوله: * (وعلمتني من تأويل الأحاديث) يعني: علم الرؤيا. وقوله * (فاطر السماوات والأرض) معناه: يا فاطر السماوات والأرض. وقوله: * (أنت ولي في الدنيا والآخرة) يعني: أنت تلي أمري في الدنيا والآخرة. وقوله: * (توفني مسلما) معناه: ثبتني على الإسلام عند الوفاة.
قال قتادة: ولم يسأل نبي من الأنبياء الموت سوى يوسف عليه السلام، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل: اللهم
68

أحيني ما دامت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ' وفي القصة: أن يوسف لما جمع له شمله وأوصل الله إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربه فقال هذا القول. وقد قال الحسن البصري: عاش بعد هذا سنين كثيرة. وقال غيره: لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي. وأما خبر وفاة يعقوب - صلوات الله عليه - فقد قال أصحاب الأخبار: إن يعقوب عاش عند يوسف أربعا وعشرين سنة بأغبط حال وأهنأ عيش ثم أدركته الوفاة فدعا بنيه وقال: يا بني، * (ما تعبدون من بعدي) الآية، وقد ذكرنا في سورة البقرة، وأوصى يوسف - عليه السلام - أن يحمله إلى الأرض المقدسة ويدفنه بجنب أبيه إسحاق ففعل ذلك. وقالوا: عاش يعقوب مائة وسبعا وأربعين سنة، وأما يوسف فإنه عاش بعد أبيه سنتين، وقيل: أكثر من ذلك، والله أعلم، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة فدفنوه في نيل مصر: (لأن أهل مصر تشاحنوا عليه وطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته، ثم اتفقوا أن يدفن في نيل مصر) ليجري الماء عليه وتصل بركته إليهم كلهم. وعن عكرمة: أنه دفن في [الجانب] الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر فاتفقوا على أن جعلوه في تابوت من حديد - وقيل: من رخام - ودفنوه في وسط النيل، وقدروا ذلك بسلسلة عندهم فأخصب الجانبان، وكان يوسف أوصى إخوته أنهم إذا خرجوا من مصر أخرجوه مع أنفسهم، فلما كان زمن موسى أخرجه موسى مع نفسه إلى الأرض المقدسة ودفته بقرب آبائه؛ وفي القصص أن عجوزا دلتهم على قبر يوسف وأن تلك العجوز سألت موسى مرافقته في الجنة به حتى دلت، فنزل الوحي على موسى بأن يعطيها ذلك.
وروى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أن الله تعالى لما جمع بين يعقوب ويوسف قال له يوسف: يا أبتاه حزنت علي حتى انحنى ظهرك، وبكيت علي حتى
69

* (نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (102) وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (103) وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين (104)) * * عمى بصرك، أما علمت أنا كنا نلتقي يوم القيامة؟ فقال: يا بني، خشيت أن يسلب دينك فلا نلتقي يوم القيامة. وقوله: * (وألحقني بالصالحين) يعني: من آبائي وهم: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.
قوله تعالى: * (ذلك من أنباء الغيب) يعني: من أخبار الغيب.
قوله: * (نوحيه إليك) أي: نلقيه إليك بالوحي. وقوله: * (وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) هذا منصرف إلى إخوة يوسف ومكرهم حين أخذوه من أبيه، وفائدة الآية: أنك إذا علمت هذا بتعليمنا إياك ووحينا إليك.
وقوله تعالى: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) روي أن قريشا واليهود سألوا النبي عن قصة يوسف، فلما أخبرهم بها على ما كان يوافق التوراة، ولم يكن في نفسه قارئا طمع أن يسلموا فلم يسلموا؛ فحزن لذلك فقال الله تعالى: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) معناه: وما أكثر الناس بمؤمنين وإن حرصت على إيمانهم.
قوله تعالى: * (وما تسألهم عليه) أي: على التبليغ * (من أجر) أي: من جعل وقوله: * (إن هو إلا ذكر للعالمين) أي: عظة للعالمين.
قوله - تعالى -: * (وكأين من آية) معناه: وكم من آية. وقوله: * (في السماوات) السماوات: سقوف الأرض بعضها على بعض طبقا طبقا * (والأرض) هي موضع سكنى الآدميين، وأما الآيات في السماوات (كما) بينا من قبل، وذلك من شمسها وقمرها ونجومها ودوران الفلك بها، واستوائها من غير عمد وغير ذلك، وقد زعم بعض أهل العلم أنه يجوز للإنسان أن يتعلم علم النجوم بقدر ما يعرف به
70

* (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون (105) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106) أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب
الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون (107) قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن) * * من آيات السماء، وأما آيات الأرض معلومة أيضا [وهي]: شجرها ونباتها وجميع ما فيها وما يخرج منها. وقوله: * (يمرون عليها وهم عنها معرضون) معناه: أنهم يعرضون عنها مع مشاهدتها ولا يستدلون بها على وحدانية الله.
قوله تعالى: * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) فإن قيل: كيف يجوز اجتماع الإيمان مع الشرك في الواحد؟ الجواب من وجوه: أحدها: أن معناه * (وما يؤمن أكثرهم بالله) أي: وما يقر أكثرهم بالله إلا وهم مشركون بقلوبهم وضمائرهم.
والثاني: أن مشركي مكة كانوا إذا قيل لهم: من خلقكم؟ قالوا: الله، وإذا قيل لهم: من يرزقكم؟ قالوا: الله، وإذا قيل لهم: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله ثم مع ذلك يعبدون الأصنام، وبعضهم يقولون: إن الملائكة بنات الله، وبعضهم يقول: الأصنام شفعاؤنا عند الله، فالقول الأول: هو الإيمان، [وليس] المراد من الإيمان هو حقيقة الإيمان الذي يصير به الإنسان مؤمنا، وإنما المراد ما بينا.
والقول الثالث: أن معنى شركهم هو شركهم في التلبية، فإنهم كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
قوله تعالى: * (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله) قيل: قطعة من عذاب الله، وقيل: عقوبة محللة من عذاب الله. وقوله: * (أو تأتيهم الساعة بغتة) أي: فجأة، والبغتة: وقوع الشيء من غير توقع سابق. قال الشاعر:
(ولكنهم باتوا ولم أدر بغتة
* وأفظع شيء حين يفجؤك البغت)
وقوله: * (وهم لا يشعرون) أي: لا يعلمون
71

* (اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين (108) وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون (109) حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم) * *
قوله تعالى: * (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله) أي: طريقي، والسبيل يذكر ويؤنث، قال الشاعر:
(تمنى رجال أن أموت وإن مت
* فتلك سبيل لست فيها بأوحد)
وقوله: * (على بصيرة) أي: على (يقين)، والبصيرة هي المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل. وقوله: * (أنا ومن اتبعني) معناه: أدعو إلى الله أنا، ومن اتبعني يدعون أيضا إلى الله، وقال بعضهم: تم الكلام عند قوله * (أدعو إلى الله) ثم استأنف وقال: * (على بصيرة أنا ومن اتبعني). وقوله: * (وسبحان الله وما أنا من المشركين) يعني أقول: سبحان الله، وما أنا من المشركين.
قوله تعالى: * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) قال الحسن البصري: لم يبعث الله نبيا من بدو، وإنما بعث الله الأنبياء من الأمصار والقرى. وقال أيضا: لم يبعث الله نبيا من الجن ولا من النساء، وقيل: لم يبعث الله نبيا من البادية لغلظهم وجفائهم، وأما أهل الأمصار فهم [أحن] قلوبا وأذكى وأفطن في الأمور؛ فلهذا بعث الله الأنبياء منهم. وقوله: * (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) ظاهر المعنى.
وقوله: * (ولدار الآخرة) معناه: والحال في الدار الآخرة، وللإنسان حالان: الحال الأولى، والحال الآخرة، وقيل: ' ولدار الآخرة ' هذا إضافة الشيء إلى نفسه كقولهم: * (خير للذين اتقوا) يوم الخميس، ويوم الجمعة، قال الشاعر:
(أتمدح فقعسا وتذم عبسا؟!
* ألا لله أمك من هجين!!)
(ولو فزت عليك ديار عبس
* عرفت الذل عرفان اليقين)
72

* (قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين (110) لقد) * *
أضاف العرفان إلى اليقين: وقوله: * (أفلا تعقلون) أفلا تفقهون.
قوله تعالى: * (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا) قرىء بقراءتين بالتشديد والتخفيف، قرأ أهل الكوفة بالتخفيف، والآية مشكلة إذا قرئت بالتخفيف؛ لأن القائل يقول: كيف ظن الرسل أنهم قد كذبوا، ولا يجوز هذا على الأنبياء. وكانت عائشة تنكر هذه القراءة، وتقول: إنما هو ' كذبوا ' بالتشديد، يعني: أن الرسل ظنوا أن من آمن بهم كذبوهم لشدة المحنة والبلاء عليهم، وتطاول المدة بهم، هذا رواه الزهري عن عروة عن عائشة. وعن قتادة: أن الظن هاهنا بمعنى اليقين، ومعناه: وأيقن الرسل أن القوم كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعده إيمانهم، وهو تأكيد لقوله: * (حتى إذا استيأس الرسل) لأن معناه: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، أي: أيسوا، وأما القراءة بالتخفيف هذه قراءة صحيحة، وهي منقولة عن علي وعن عبد الله بن مسعود وابن عباس وكثير من الصحابة.
وفي معناه قولان: أحدهما: ما روي عن ابن عباس أنه قال: ضعفت قلوب الرسل - وقد كانوا بشرا - بتطاول الزمان وكثرة الإمهال، وقد قال الله تعالى في موضع
آخر: * (وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) وقوله: * (متى نصر الله): استبطاء، أو قالوا هذا من ضعف البشرية.
والقول الثاني - وهو الصحيح - وهو منقول أيضا عن ابن عباس أن معنى الآية: وظن من آمن بالرسل، أن الرسل قد كذبوا بالتخفيف، أو ظن القوم الذين بعث إليهم أن الرسل قد كذبوا بالتخفيف، وقرأ مجاهد: ' وظنوا أنهم قد كذبوا ' ومعناه كما ذكرنا في القول الثاني: أن ظن القوم أن الرسل قد كذبوا.
وقوله: * ([جاءهم] نصرنا) ظاهر المعنى. وقوله: * (فنجي من نشاء) المشيئة واقعة على المؤمنين. وقوله: * (ولا يرد بأسنا) أي: عذابنا * (عن القوم المجرمين) أي:
73

* (كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (111)) * * عن القوم الكفار. قوله - تعالى -: * (لقد كان في قصصهم عبرة) أي: دلالة وآية.
قوله: * (لأولي الألباب) أي: لأولي العقول.
وقوله: * (ما كان حديثا يفترى) أي: [يختلق] يعني: قصة يوسف.
وقوله: * (ولكن تصديق الذي بين يديه) يعني: من التوراة والإنجيل.
وقوله: * (وتفصيل كل شيء) يعني: من الحلال والحرام، والأمر والنهي، والوعد والوعيد. وقوله: * (وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) (معناه: بيان ونعمة لقوم يؤمنون). والله أعلم بالصواب.
74

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (1) الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر) * *
سورة الرعد
تفسير سورة الرعد، وهي مكية إلا آيتين: قوله تعالى: * (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) وقوله تعالى: * (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) الآية، فإنهما مدنيتان.
قوله تعالى: * (المر) قالوا: معناه أنا الله أعلم وأرى، وقيل: إن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، والراء من إرسال الله إياه - يعني محمدا - وقد بينا من قبل غير هذا.
وقوله: * (تلك آيات الكتاب) قد بينا في سورة يوسف. وقوله: * (والذي أنزل إليك من ربك الحق) الإنزال هو النقل من العلو إلى الأسفل، ومعنى الآية أن ما أهبط الله به جبريل عليك هو الحق، والحق ضد الباطل، وقيل: وضع الشيء في موضعه على ما توجبه الحكمة. وقوله: * (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) يعني من اليهود والنصارى والمشركين.
قوله تعالى: * (الله الذي رفع السماوات بغير عمد) العمد: جسم مستطيل يمنع المرتفع من الميلان، وفي معنى قوله: * (بغير عمد) قولان: أحدهما، وهو الأصح: أن معناه: رفع السماوات بغير عمد * (ترونها) كذلك.
وقد قال أهل المعاني: لو كان للسموات عمد لرأيناها؛ لأن عمد الجسم الغليظ يكون بالجسم الغليظ، فلا بد أن ترى، وهذا قول مجاهد وقتادة وأكثر المفسرين.
وروي عن ابن عباس أنه قال: معنى الآية رفع السماوات بغير عمد ترونها.
75

* (الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (3) وفي) * *
وقوله: * (ترونها) راجع إلى العمد، كأنه قال: لها عمد لا ترونها، وزعم أن لها عمدا على جبل قاف، وأن السماء عليها مثل القبة، وجبل قاف محيط بالدنيا، وهو من زبرجدة خضراء، والصحيح ما بينا.
وقوله: * (ثم استوى على العرش) قد بينا المعنى. وقوله: * (وسخر الشمس والقمر) معناه: ذلل الشمس والقمر فهما مذللان مقهوران يجريان على ما يريد الله. وقوله: * (كل يجري لأجل مسمى) أي: لمدة مضروبة. وقوله: * (يدبر الأمر) التدبير من الله تعالى فعل الأشياء على ما يوجب الحكمة. وقوله: * (يفصل الآيات) معناه يبين الدلالات. وقوله: * (لعلكم بلقاء ربكم توقنون) تؤمنون.
قوله تعالى: * (وهو الذي مد الأرض) الآية قد كانت الأرض مدرة مدورة، فبسطها الله تعالى ومدها. وقوله: * (وجعل فيها رواسي) أي: جبالا ثوابت.
وقوله: * (وأنهارا) الأنهار: مجاري الماء الواسعة. وقوله: * (ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) أي: صنفين اثنين أحمر وأصفر وحلو وحامض، وقيل: إن قوله * (اثنين) تأكيد لقوله: * (زوجين).
وقوله: * (يغشي الليل النهار) معناه: يلبس النهار بظلمة الليل، ويلبس ظلمة الليل بضوء النهار. وقوله: * (إن في ذلك لآيات) لدلالات * (لقوم يتفكرون) التفكر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء.
قوله تعالى: * (وفي الأرض قطع متجاورات) فيه قولان: أحدهما: أن فيه حذفا؛ فكأنه قال: ' وفي الأرض قطع متجاورات وغير متجاورات، وهذا مثل قوله تعالى: * (وسرابيل تقيكم الحر) يعني: وسرابيل تقيكم الحر والبرد.
76

* (الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4)) * *
والقول الثاني: أنه ليس في الآية حذف، وهو صحيح المعنى، وفي المتجاورات قولان: أحدهما: أن معناه أنها متجاورة في الظاهر مختلفة في المعنى، هذه سبخة وهذه عذبة، وهذه قليلة الريع، وهذه كثيرة الريع، وهذه مزرعة، وهذه مغرسة، وهذه لا مزرعة ولا مغرسة.
والقول الثاني: أن معناه: هذه عامرة، وهذه غامرة، وهذه صحاري وبراري، وهذه جبال وأودية، فعلى هذا إذا قدرنا في الآية متجاورات وغير متجاورات، فالمتجاورات هي الأرض العامرة المتصل بعضها ببعض، وغير المتجاورات هي الأرض الخربة التي فيها الأودية والدكادك.
وقوله: * (وجنات من أعناب) يعني: بساتين من أعناب. وقوله: * (وزرع ونخيل) معلوم المعنى. وقوله: * (صنوان وغير صنوان) قرىء: ' صنوان ' بالضم: والمعروف ' صنوان ' بالكسر، وفي الآثار المسندة عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: الصنوان هو النخل المجتمع، وغير الصنوان هو المتفرق، والمعروف في اللغة أن الصنوان هي النخلات أصلها واحد، وغير صنوان هي النخلة الواحدة بأصلها.
وقوله: * (يسقى بماء واحد) الماء جسم رقيق مائع يشرب، به حياة كل نام، قال الله تعالى: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وفي الآية رد على أصحاب الطبيعة، فإن الماء واحد، والهواء واحد، والتراب واحد، والحرارة واحدة، والثمار مختلفة في اللون والطعم، وقلة الريع وكثرة الريع، والطبيعة واحدة يستحيل أن توجب شيئين مختلفين؛ فدل هذا أن الجميع من الله تعالى.
في جامع أبي عيسى الترمذي برواية أبي هريرة عن النبي في قوله: * (ونفضل
77

* (وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (5)) * * بعضها على بعض في الأكل) قال: ' هذا حلو وهذا حامض، وهذا دقل وهذا فارسي '.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات) يعني: الدلالات * (لقوم يعقلون) يفهمون. وأنشدوا في الصنوان:
(العلم والحلم خلتا كرم
* للمرء زين إذا هما اجتمعا)
(صنوان لا يستتم حسنهما
* إلا بجمع ذا وذاك معا)
وقد روي عن النبي أنه قال: ' عم الرجل صنو أبيه '. معناه: أنه وأبوه من أصل واحد.
قوله تعالى: * (وإن تعجب فعجب قولهم) العجب: تغير النفس برؤية المستبعد في العادات، والخطاب للرسول ومعناه: أنك تعجب؛ فعجب من إنكارهم النشأة الآخرة مع إقرارهم ابتداء الخلق من الله، وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء؛ فهذا موضع التعجب. وفي الأمثال: لا خير فيمن لا يتعجب من العجب، وأرذل منه من يتعجب من غير عجب.
وقوله: * (أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد) هذا هو المعنى في إنكارهم البعث.
وقوله: * (أولئك الذين كفروا بربهم) جحدوا بربهم.
وقوله: * (وأولئك الأغلال في أعناقهم) الغل طوق تجمع به اليد إلى العنق وهذه الأغلال من نار. وقوله: * (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء (وقته)، وقد كان الله تعالى أخر عقوبة الاصطلام عن المشركين
78

* (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب (6) ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد (7) الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض) * * كرامة للنبي. والسيئة هاهنا هي العقوبة، والحسنة: العافية، ومعناه: أنهم يطلبون العقوبة بدلا من العافية، وقد دل على هذا قوله تعالى: * (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) وقوله تعالى: * (سأل سائل بعذاب واقع).
وقوله: * (وقد خلت من قبلهم المثلات) روي عن مجاهد أنه قال: المثلات الأمثال، والأكثرون أن المثلات العقوبات، وقرأ الأعمش: ' المثلات ' بفتح الميم وكسر التاء، وحكي عنه أنه قرأ: ' المثلات ' بضم الميم وتسكين الثاء، والمعاني متقاربة.
وقوله: * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) معناه: لذو تجاوز عن الناس على ظلمهم * (وإن ربك لشديد العقاب) وفي بعض المسانيد عن سعيد بن المسيب ' أن النبي قال لما نزلت هذه الآية: لولا فضل الله وتجاوزه ما هنىء أحد العيش، ولولا وعيده وعقوبته لا تكل كل أحد '.
قوله تعالى: * (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه) معناه: لولا أنزل عليه آية مما نقترحها، وإلا فالآيات قد كانت نازلة عليه.
وقوله: * (إنما أنت منذر) مخوف أو مبلغ للوحي بالإنذار.
وقوله: * (ولكل قوم هاد) فيه أقوال، الأكثرون أن معناه: ولكل قوم نبي يدعوهم إلى الله، والقول الثاني: ولكل قوم هاد، يعني: محمدا وقيل: الهادي هو الله.
قوله تعالى: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) معناه: الله يعلم ما تحمل كل أنثى
79

* (الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار (8) عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال (9) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) * * من ذكر أو أنثى، أو سوى الخلق أو غير سويه، أو واحد أو اثنين أو أكثر.
قوله: * (وما تغيض الأرحام وما تزداد) الغيض هو النقصان، هكذا قال مجاهد وغيره، وفي بعض الأخبار أن النبي قال: ' إذا كان المطر قيظا، والولد غيضا، وغاض الكرام غيضا، وفاض اللئام فيضا ' الخبر.
وفي غيض الأرحام وزيادتها ثلاثة أقوال: الأول: أنه النقصان عن سبعة أشهر، والزيادة على تسعة أشهر، والثاني أنه: النقصان بإسقاط السقط، والزيادة بتمام الخلق، والثالث: أنه النقصان بالحيض على الحمل، والزيادة بعدم الحيض على الحمل؛ فإن الولد ينتقص إذا أهراقت المرأة الدم على الحمل وتتم إذا لم تهرق. وعن مكحول أنه قال: دم الحيض غذاء الولد في الرحم.
وقوله: * (وكل شيء عنده بمقدار) أي: بتقدير.
وقوله تعالى: * (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) يعني: المتعال عما يقوله المشركون.
قوله تعالى: * (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) الآية معناه: يستوي في علم الله المسر بالقول والجاهر به.
وقوله: * (ومن هو مستخف بالليل) أي: مستتر بظلمة الليل وقوله: * (وسارب بالنهار) أي: ظاهر ذاهب بالنهار، والسرب: الطريق، تقول العرب: خل له سربه أي:
80

((10) له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم) * * طريقه، وزعم بعض أهل المعاني أن قوله: * (ومن هو مستخف بالليل) أي: ظاهر بالليل، يقال: خفيت إذا ظهرت، وأخفيت إذا كتمت، قال الشاعر:
(خفاهن من أنفاقهن كأنما
* خفاهن ودق من سحاب مركب)
وقوله: * (وسارب بالنهار) أي مستكن بالنهار، يقال: أسرب الوحش إذا استكن، والقول الأول هو الأصح.
قوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) الآية، في الآية أقوال، أظهرها: أن المعقبات: الملائكة، والمعقبات المتداينات، يعني: يذهب بعضها ويأتي البعض في عقبها، وقد صح برواية أبي هريرة عن النبي أنه قال: إن لله ملائكة يتعاقبون بينكم، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر فيعرج الذين باتوا فيكم؛ فيقول الله لهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون.
القول الثاني هو ما روي عن عكرمة قال: الآية في الأمراء وحرسهم.
والقول الثالث: ما روي عن ابن جريج أنه قال: الآية في الذي يقعد عن اليمين والشمال يكتب، وذلك في قوله تعالى: * (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد).
وقوله: * (يحفظونه من أمر الله) الأكثرون على أن قوله: * (من أمر الله) ومعناه: أنهم يحفظونه بإذن الله، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبينه، وفي بعض الآثار: أن الله تعالى يوكل ملائكة بالنائم يحفظونه من الحي والهوام فإذا قصده شيء، قالوا: وراءك وراءك إلا شيئا قدر أن يصيبه.
81

* (حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (11) هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد) * *
وروي عمرو بن أبي جندب: كنا عند سعيد بن قيس الهمداني، فجاء علي يتوكأ على عنزة له، فقلنا له: يا أمير المؤمنين، أما تخاف أن يغتالك أحد؟ فقال: إن الله تعالى قد وكل بابن آدم ملائكة يحفظونه، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبينه.
وفي قوله: * (من أمر الله) قول آخر، وهو أنه على المعنى التقديم والتأخير، وكأن الله تعالى قال: له معقبات من أمره يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وقيل: من أمر الله: مما أمر الله به من الحفظ عنه. وعن ابن عباس أنه قرأ: ' له معقبات من بين يديه ورقباء من خلفه '. وقرى في الشاذ: ' له معاقيب من بين يديه ومن خلفه '.
وقوله: * (إن الله لا يغير ما بقوم) معناه: لا يغير شيئا بقوم من النعمة * (حتى يغيروا ما بأنفسهم) بالمعصية.
وقوله: * (وإذا أراد الله بقوم سوءا) في الآية رد على القدرية صريحا، ومعناه: بلاء وعذابا * (فلا مرد له) أي: لا راد له. * (وما لهم من دونه من وال) أي: من ولي يمنعهم وينصرهم، قال الشاعر:
(ما في السماء سوى الرحمن من وال
*)
قوله تعالى: * (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا) البرق: نور مضىء شبه عمود من نار من اتقاد السحاب، والتفسير المعروف عن السلف أن البرق مخاريق بأيدي الملائكة من نار يسوقون بها السحاب إلى حيث شاء الله تعالى.
وقوله * (خوفا وطمعا) فيه أقوال: أحدها أن الخوف من الصاعقة، والطمع في نفع المطر.
والثاني: أن الخوف للمسافر، فإن عادة المسافر أن يتأذى بالمطر، والطمع للمقيم، لأن المقيم يرجو الخصب بالمطر.
82

* (بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في) * *
والثالث: أن الخوف من المطر في غير إبانة، وفي غير مكانه، والطمع إذا كان في إبانه ومكانه من البلدان [فمنهم] إذا مطروا قحطوا، مثل مصر وغيره، وإذا لم يمطروا أخصبوا.
وفي بعض الأخبار عن النبي ' أن الله تعالى يقول: لو أن عبادي أطاعوني أسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد '.
وقوله: * (وينشىء السحاب الثقال) يعني: الثقال بالماء، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: السحاب غربال السماء. وعن ابن عباس أنه قال: إن الله تعالى خلق السحاب كل سبع سنين مرة.
وقوله: * (ويسبح الرعد بحمده) أكثر المفسرين أن الرعد ملك، والمسموع من الصوت تسبيحه، وهذا مروي عن النبي حين سأله اليهود عن الرعد، وذكر فيه أن الصوت هو زجره للسحاب، وقد حكي هذا عن ابن عباس وعلي ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن. وعن قتادة قال: هذا عبد لله تعالى سامع مطيع.
83

وفي الآثار: أن الإنسان إذا سمع الرعد ينبغي أن يقول: سبحان من سبحت له. روي هذا عن ابن الزبير وغيره، وعن عبد الله بن عباس قال: من قال إذا سمع صوت الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير؛ فإن أصابته صاعقة فعلى ديته.
وعن محمد بن علي الباقر قال: الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر.
وفي الرعد قول آخر، وهو أنه صوت اصطكاك الأجرام العلوية. والصحيح هو الأول، وقيل أيضا: إن الرعد نطق السحاب، والبرق ضحكه.
وقوله * (والملائكة من خيفته) يعني: وتسبح الملائكة من خيفته. وعن ابن عباس أن لله تعالى ملائكة يبكون من خشيته من يوم خلقهم، وملائكة في الركوع، وملائكة في السجود، وملائكة في التسبيح لا يشغلهم عن ذلك شيء.
وقوله: * (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) الصاعقة: هي العذاب المهلك، وهي تنزل من البرق في بعض الأحوال فتحرق ما تصيبه، والآية نزلت في شأن أربد بن ربيعة حين جاء إلى النبي فقال: مم ربك؟ أمن در أو ياقوت أو من ذهب [أو من فضة]؟ فنزلت صاعقة من السماء فأحرقته، ورثاه أخوه لبيد بن ربيعة، فقال:
(أخشى على أربد الحتوف ولا
* أرهب نوء السماك والأسد)
(فجعني البرق والصواعق بالفارس
* يوم الكريهة النجد)
ويقال: إنه جاء مع عامر بن طفيل، وقصد الفتك بالنبي فجفت يده على قائمة السيف، فلما خرج من عند رسول الله أصابته صاعقة في يوم صحو قائظ، فأما عامر فأصابته غدة، ومات في بيت سلولية، وجعل يقول: أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية.
وروي ' أن يهوديا أتى النبي وسأله: مم ربك؟ فنزلت صاعقة وأحرقته '.
84

* (الله وهو شديد المحال (13) له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في) * *
وقوله: * (وهم يجادلون في الله) يعني: يخاصمون ويقولون في الله ما لا يعلمون وقيل: وهم يجادلون في الله: يكذبون بعظمة الله.
وقوله: * (وهو شديد المحال) قال ابن عباس: شديد الحول، ومنه قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقيل: شديد المحال شديد الانتقام. وعن علي - رضي الله عنه - شديد الأخذ. وقيل: شديد الإهلاك. وقيل: شديد المكر. وقال الشاعر:
(فرع نبع يهتز في غصن المجد
* عزيز الندى شديد المحال)
وقرئ في الشاذ: ' شديد المحال ' بنصب الميم.
قوله تعالى: * (له دعوة الحق) هي شهادة أن لا إله إلا الله، هذا روي عن ابن عباس وغيره، وقيل: دعوة الحق هو الدعاء بالإخلاص، والدعاء بالإخلاص لا يكون
إلا لله، ألا ترى أن الله تعالى قال: * ([فادعوا] الله مخلصين له الدين).
قوله: * (والذين يدعون من دونه) يعني: الأصنام * (لا يستجيبون لهم بشيء) يعني: لا يجيبون لهم شيئا. وقوله: * (إلا كباسط كفيه إلى الماء). فيه قولان: أحدهما: أنه كالقابض على الماء، ومن قبض على الماء لم يبق في يده شيء. قال الشاعر:
(فأصبحت (فيما) كان بيني وبينها
* من الود مثل القابض الماء باليد)
والقول الثاني - وهو المعروف - أن قوله: * (كباسط كفيه إلى الماء) يعني: كالعطشان المشير بكفه إلى الماء، وبينه وبين الماء مسافة لا يصل إليه؛ فهو يشير بكفه ويدعو بلسانه، ولا يصل إليه؛ فكذلك من يدع الأصنام بدفع أو نفع لا يصل إلى شيء بدعائه. وقوله: * (ليبلغ فاه) يعني: ليناله فاه * (وما هو ببالغه) وما هو بنائله.
85

* (ضلال (14) ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال (15) قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات) * *
وقوله: * (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) يعني: إلا في خطأ وبطلان.
قوله تعالى: * (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها) يعني: يسجد من في السماوات طوعا، ويسجد من في الأرض بعضهم طوعا وبعضهم كرها. والسجود هو الخضوع بالتذلل، وقيل: إن سجود الأشياء [هو] تذللها وتسخيرها لما أريد له وسخر له. وقوله: * (وظلالهم) قالوا: ظل الكافر يسجد طوعا، والكافر يسجد كرها، وظل المؤمن يسجد طوعا، وكذا المؤمن يسجد طوعا، هذا هو القول المنقول عن السلف. وقيل: إن سجود الظل هو تسخيره وتذليله لما أريد له. وقيل: إن معنى قوله: * (وظلالهم) أشخاصهم * (بالغدو والآصال) بالبكر والعشايا.
قوله تعالى: * (قل من رب السماوات والأرض) معناه: قل يا محمد: من رب السماوات والأرض؟ ثم أمره بالإجابة، وقال: * (قل الله) وروي أنه إنما قال هذا للمشركين، عطفوا عليه، وقالوا: أجب أنت، فأمره الله، وقال: * (قل الله) وإنما صحت هذه الإجابة معهم؛ لأنهم كانوا يقرون أن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض.
وقوله: * (قل أفاتخذتم من دونه أولياء) معناه: أنكم مع إقراركم أن الله خالقكم وخالق السماوات والأرض اتخذتم من دونه أولياء يعني: الأصنام. * (لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا) يعني: أنهم عجزة، فإذا لم يملكوا لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فكيف يملكون لكم؟.
وقوله: * (قل هل يستوي الأعمى والبصير) ضرب مثلا للمؤمن والكافر والإيمان والكفر؛ فقال: (* (قل هل يستوي الأعمى والبصير) * أم هل تستوي الظلمات
86

* (والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار (16) أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله) * * والنور) أي: كما لا يستوي الأعمى والبصير والظالمات والنور؛ فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر والإيمان والكفر.
وقوله: * (أم جعلوا لله شركاء) يعني: أجعلوا لله شركاء * (خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) أي: اشتبه ما خلقوه بما خلقه الله، ومعنى الآية: أنهم كما عرفوا أن الأصنام لا تخلق كخلق الله؛ فلا ينبغي أن تعبد كعبادة الله.
وقوله: * (قل الله خالق كل شيء) ظاهر المعنى. وقوله * (وهو الواحد القهار) الواحد: هو الشيء الذي لا ينقسم، وقد يكون شيئين لا ينقسم في معنى، ويسمى واحد، مثل قولهم: دينار واحد؛ لأنه لا ينقسم في الدينارية. والقهار: الغالب الذي لا يغلبه شيء، وفي بعض الأخبار: ' سبحان من تعزز بقدرته وقهر عباده بالموت '.
قوله تعالى: * (أنزل من السماء ماء) هذا مثل ضربه الله في القرآن، وضرب الأودية مثلا للقلوب، فقوله: * (أنزل من السماء ماء) أي: مطرا * (فسالت أودية بقدرها) قرئ: ' بقدرها '، قرأها أبو الأشهب العقيلي، والمعنى: بقدرها من الصغر والكبر، وكذلك القلوب تحمل القرآن بقدرها من الضيق والسعة.
وقوله: * (فاحتمل السيل زبدا رابيا) الزبد: هو الخبث الذي يظهر على وجه الماء، وكذلك على وجه القدر، وكذلك على فم البعير. وقوله: * (رابيا) أي: طافيا عاليا تم المثل الأول هاهنا. ثم ذكر مثلا ثانيا، وهو قوله تعالى * (ومما يوقدون عليه في النار) ومن الذي توقدون عليه، الإيقاد: جعل النار تحت الشيء ليذوب.
وقوله: * (ابتغاء حلية) معناه: لطلب الحلية، والذي أوقد عليه هاهنا هو الذهب والفضة؛ لأن الحلية تطلب منهما. وقوله: * (أو متاع) معناه: أو طلب متاع، وذلك من الصفر والنحاس وغيره يوقد عليها، والمتاع: هو الأواني المتخذة من هذه الأشياء.
87

* (الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال (17) للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم) * *
وقوله: * (زبد مثله) أي: زبد مثل زبد الماء * (كذلك يضرب الله الحق والباطل) أي: كذلك يبين الله الحق والباطل بضرب المثل، ثم قال: * (فأما الزبد فيذهب جفاء) يعني ضائعا باطلا، يقال: أجفأت القدر، إذا زبدت من جوانبها، وذهب الزبد. وذكر أبو زيد اللغوي أن رؤبة بن العجاج قرأ: ' فأما الزبد فيذهب جفالا '
والمعنى قريب من الأول.
وقوله: * (وأما ما ينفع الناس فيمكث) يعني: الماء والذهب والفضة والحديد والرصاص والصفر والنحاس. قوله: * (فيمكث في الأرض) أي: يبقى ولا يذهب.
وقوله * (كذلك يضرب الله الأمثال) جعل هذا مثلا للحق والباطل في القلوب، يعني: أن الباطل كالزبد يذهب ويضيع ويهلك، والحق كالماء وكهذه الأشياء يمكث ويبقى في القلوب، وقال بعضهم: هذا تسلية للمؤمنين، يعني أن أمر المشركين كذلك الزبد، يرى في الصورة شيئا ثابتا وليس له حقيقة. وأمر المؤمنين كالماء المستقر في مكانه، فله الثبات والبقاء، يقال: للباطل جولة، وللحق دولة.
قوله تعالى: * (للذين استجابوا لربهم الحسنى) الآية، قد بينا أن الاستجابة والإجابة بمعنى واحد. وقوله: * (الحسنى) الأكثرون أنها الجنة، وقيل: هو الرزق والعافية في الدنيا والنعيم في الآخرة، والحسنى فعلى من الحسن.
وقوله: * (والذين لم يستجيبوا له) أي: لم يجيبوا له. وقوله: * (لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به) يعني: لبذلوا ذلك افتداء من النار.
وقوله: * (أولئك لهم سوء الحساب) روي عن إبراهيم النخعي أنه قال لفرقد: يا فريقد، أتدري ما سوء الحساب؟ هو أن يحاسب على جميع الذنوب ولا يغفر منها شيئا. وقد صح عن النبي برواية عائشة - رضي الله عنها -: ' من نوقش الحساب
88

* (جهنم وبئس المهاد (18) أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب (19) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق (20) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب (21) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) * * عذب ' وفي رواية ' هلك ' وقيل: إن سوء الحساب هو أن لا يقبل حسنة، ولا يعفو عن سيئة. وقوله: * (ومأواهم جهنم) أي: مستقرهم جهنم.
وقوله: * (وبئس المهاد) أي: بئس ما مهدوا لأنفسهم أي: بئس ما مهد لهم.
قوله تعالى: * (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) نزلت الآية في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام، فالأول حمزة والثاني أبو جهل، وقيل: في عمار بن ياسر وأبي جهل.
وقوله: * (إنما يتذكر أولو الألباب) أي: يتعظ أولو الألباب، ومعنى الآية: أن من يبصر الحق ويتبعه، ومن لا يبصر الحق ولا يتبعه لا يستويان أبدا.
قوله تعالى: * (الذين يوفون بعهد الله) ظاهر المعنى، وقيل: عهد الله تعالى ما أخذه الله تعالى من العهد على ذرية آدم حين أخذهم من صلبه.
وقوله: * (ولا ينقضون الميثاق) هو تحقيق الوفاء السابق.
وقوله: * (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) يعني: يؤمنون بجميع الأنبياء، وقيل: يصلون الرحم ولا يقطعونه.
وقوله: * (ويخشون ربهم) أي: يخافون ربهم * (ويخافون سوء الحساب) أي: يرهبون سوء الحساب، وسوء الحساب قد بينا.
وقوله: * (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم) يعني: صبروا على أمر الله [طلبا لرضا] ربهم، وقيل: صبروا على الفقر، وعلى المصائب والبلايا، وقيل: صبروا عن
89

* (ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار (22) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23)) * * المعاصي وقيل: صبروا عن شهوات الدنيا ولذاتها.
وقوله: * (يدرءون بالحسنة السيئة) يعني: يدفعون السيئة بالحسنة، وهو معنى قوله: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) ومعنى قوله عليه السلام: ' إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها '. وفي الآية قول آخر وهو أن السيئة: الذنب. والحسنة: التوبة. ومعناه: يدفعون الذنب بالتوبة وفي الخبر: ' ما من شيء أدرك لشيء من توبة حديثة لذنب قديم '.
قوله: * (أولئك لهم عقبى الدار) أي: الجنة، ومعناه: لهم عاقبة دار الثواب. قوله: * (جنات عدن يدخلونها) أي: بساتين [للإقامة].
وقوله: * (يدخلونها) معناه معلوم. وقوله: * (ومن صلح من آبائهم) أي: ويدخلها من صلح من آبائهم * (وأزواجهم وذرياتهم) وفي الخبر: أن المؤمن يدخل الجنة، فيرى ذريته فيها، فيقول: متى دخلتم فيها؟ فيقولون: نحن منذ قديم ننتظرك، والله أعلم.
وقوله: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب) يعني: من أبواب الجنة، وقيل: من أبواب القصور. وقوله: * (سلام عليكم) يعني: يسلمون عليهم سلاما، وقيل: يقولون: قد سلمكم الله من الآفات التي كنتم تخافونه منها، وفي الآثار أنهم - يعني: الملائكة - يأتون بالتحف والهدايا من الله تعالى بقدر كل يوم من أيام الدنيا [ثلاث] عشرة مرة. وقوله: * (بما صبرتم) قد بينا. وقوله: * (فنعم عقبى الدار) أي: نعم عاقبة الدار.
90

* (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (24) والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أو يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار (25) الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع (26) ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن) * *
قوله تعالى: * (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) ظاهر، وهذا وارد في الكفار. وقوله تعالى: * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) يعني: يؤمنون ببعض الأنبياء، ويكفرون بالبعض، وقيل: يقطعون الرحم.
وقوله: * (ويفسدون في الأرض) يعني: يعملون فيها بالمعاصي. وقوله: * (أولئك لهم اللعنة) أي: البعد من رحمة الله. وقوله: * (ولهم سوء الدار) أي: سوء المنقلب لأن المنقلب: منقلب الناس إلى الدار.
قوله: * (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) يعني: يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء. وقوله: * (وفرحوا بالحياة الدنيا) الفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى، وهذا دليل على أن الفرح بالدنيا حرام منهي عنه.
قوله: * (وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) يعني: إلا قليل، ويقال: كمتاع الراكب، وقد صح عن النبي أنه قال: ' ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع '.
وقوله تعالى: * (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه) يعنون الآية المقترحة؛ فإن قال قائل: لم لا يجوز أن يجيبهم إلى الآية المقترحة، ولعلها تكون سببا لإيمانهم؟ والجواب: أن الآية المقترحة لا نهاية لها، وإن وجب في المصلحة أن يجيب واحدا، وجب أن يجيب آخر، إلى ما يتناهى.
وقوله: * (قل إن الله يضل من يشاء) ظاهر المعنى. وقوله: * (ويهدي إليه من أناب) معناه: ويهدي إليه من يشاء بالإنابة، وفي الآية رد على القدرية، والله الهادي إلى الصواب بمنه.
91

* (الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب (27) الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28) الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن) * *
وقوله تعالى: * (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) أي: تسكن قلوبهم بذكر الله، وقيل: تستأنس قلوبهم بذكر الله، والسكون باليقين، والاضطراب بالشك، قال الله تعالى في شأن المشركين: * (إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) أي: اضطربت، وقال في المؤمنين * (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله).
وقوله: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) معناه: ألا بذكر الله تسكن القلوب، وطمأنينة القلب بزوال الشك منه واستقرار اليقين فيه، فإن قال قائل: أليس الله تعالى قال: * (وجلت قلوبهم) فكيف توجل وتطمئن في حالة واحدة؟ والجواب: أن الوجل بذكر الوعيد والعقاب، والطمأنينة بذكر الوعد والثواب، فكأنها توجل إذا ذكر عدل الله وشدة حسابه، وتطمئن إذا ذكر فضل الله وكرمه.
قوله تعالى: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) معناه: وعملوا الطاعات. وقوله: * (طوبى لهم) فيه أقوال: روي عن أبي هريرة وأبي أمامة وأبي الدرداء وعن ابن عباس برواية الكلبي أنهم قالوا: طوبى شجرة في الجنة تظلل الجنان كلها.
وفي بعض الأخبار أن أصلها في منزل النبي وقصره، وفي كل قصر من قصور الجنة غصن منها، وعليها من جميع أنواع الثمر، وتقع عليها طيور كالبخت إذا رآها المؤمن واشتهى منها سقطت بين يديه، فيأكل منها ما شاء ثم تطير، وفي بعض الأخبار: أن رجلا لو ركب حقا أو جذعا، وجعل يطوف بأصلها لقتله الهرم، ولم يبلغ إلى الموضع الذي ابتدأ منه.
والقول الثاني: أن طوبى اسم الجنة، قال مجاهد: هي اسم الجنة بالحبشية. وعن عكرمة: طوبى لهم أي نعماء لهم، وعن إبراهيم النخعي: أي خير وكرامة لهم، وعن
92

* (مآب (29) كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب (30)) * * الضحاك: طوبى لهم أي: غبطة لهم. والأقوال متقاربة في المعنى، قال الزجاج: طوبى فعلى من الطيب، ومعناها: العيش الطيب لهم.
وقوله: * (وحسن مآب) أي: حسن منقلب.
قوله تعالى: * (كذلك أرسلناك في أمة) الآية. معنى كاف التشبيه هاهنا: إنا كما أرسلنا الأنبياء إلى سائر الأمم؛ كذلك أرسلناك إلى هذه الأمة.
قوله: * (قد خلت من قبلها أمم) أي: قد مضت من قبلها أمم. قوله: * (لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك) أي. لتقرأ عليهم الذي أوحينا إليك.
وقوله: * (وهم يكفرون بالرحمن) فيه قولان: أحدهما: قال ابن جريج: الآية مدنية في قصة الحديبية فإن سهيل بن عمرو لما جاء واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح، كتب علي رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: لا نعرف الرحمن، اكتب كما نكتب نحن: باسمك اللهم... القصة، فهذا معنى قوله: * (وهم يكفرون بالرحمن).
والقول الثاني - وهو المعروف - أن الآية مكية، وسبب نزولها أن أبا جهل سمع النبي وهو في الحجر يدعو ويقول: ' يا الله، يا رحمن '. فرجع إلى المشركين، وقال: إن محمدا يدعو إلهين يدعو الله، ويدعو آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل أيضا قوله تعالى: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن).
وقوله: * (قل هو ربي) يعني قل: الرحمن ربي * (لا إله إلا هو عليه توكلت) عليه اعتمدت وبه وثقت * (وإليه متاب) يعني: وإليه التوبة، والتوبة هي الندم على ما سلف من الجرائم مع الإقلاع عنها في المستقبل.
93

* (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين
كفروا) * *
قوله تعالى: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) روي أن المشركين قالوا لرسول الله: سل ربك أن يسير هذه الجبال التي بمكة فتتسع أرضنا ونتخذ فيها المزارع، وسل ربك أن يقرب إلينا الشام، فإن إليه متاجرنا وقد أبعد عنا، وقالوا أيضا: سل ربك أن يخرج لنا الأنهار ويشق العيون في الأرض لنغرس الأشجار، ونتخذ البساتين، وسل ربك أن يبعث لنا جماعة من الموتى فنسألهم عن أمرك، وأحى لنا قصيا؛ فإنه كان شيخا مباركا حتى نسأله عن أمرك. وفي بعض الروايات أنهم قالوا: سل ربك بالقرآن الذي أنزل عليك أن يفعل هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) معناه: ولو قضيت أن أسير الجبال بكتاب أو أقطع الأرض به أو أحيي به الموتى لفعلت بهذا القرآن.
فإن قيل: هذا الجواب الذي تقولون غير مذكور في القرآن، وهذا زيادة؟
الجواب عنه، أن الجواب محذوف، والعرب تفعل مثل هذا، قال الشاعر:
(فلو أنها نفس تموت سوية
* ولكنها نفس تساقط أنفسا)
ومعناه: ولو أنها نفس واحدة لتسليت بها، ولكنها أنفس كثيرة. وذكر الفراء أن الجواب هو: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) لم يؤمنوا؛ لما سبق في علمنا من تركهم الإيمان.
معناه: أنا لو فعلنا بالقرآن الذي أنزل إليك ما سألوا، لم يؤمنوا أيضا. وقوله: * (بل لله الأمر جميعا) معناه: بل لله الأمر جميعا في هذه الأشياء؛ إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها.
وقوله: * (أفلم ييئس الذين آمنوا) أكثر أهل المعاني على أن معناه: أفلم يعلم الذين آمنوا، وفي قراءة ابن عباس هكذا: ' أفلم يتبين للذين آمنوا ' وقد ورد هذا اللفظ بمعنى العلم في لغة العرب، قال الشاعر:
94

* (تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد (31) ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف) * *
(أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني
* ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم)
وقال آخر:
(ألم ييئس الأبطال أني أنا ابنه
* وإن كنت عن أرض العشيرة تائيا)
وأنكر الكسائي أن يكون هذا بمعنى العلم، وقال: إن العرب لا تعرف اليأس بمعنى العلم، قال: وإنما معنى الآية: أن أصحاب رسول الله لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا في أن يفعل الله ما سألوا ويؤمنوا؛ فأنزل الله هذه الآية: * (أفلم ييئس الذين آمنوا) يعني: من الصحابة من إيمان هؤلاء القوم، وكل من علم شيئا فقد يئس عن خلافه وضده، وبعضهم قال معناه: أفلم يعلم الذين آمنوا من حال هؤلاء الكفار علما يوجب يأسهم عن إيمانهم، وقوله: * (أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) ظاهر المعنى.
وقوله: * (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) أي نازلة وبلية، وقيل: إن القارعة هاهنا: سرايا رسول الله * (أو تحل قريبا من دارهم) يعني: أو تحل السرية قريبا من دارهم، وقيل: أو تنزل أنت قريبا من دارهم.
* (حتى يأتي وعد الله) فيه قولان: أحدهما: أنه يوم القيامة، والقول الثاني: أنه يوم بدر.
وقوله: * (إن الله لا يخلف الميعاد) ظاهر المعنى.
قوله: * (ولقد استهزئ برسل من قبلك) الاستهزاء: طلب الهزء، وقد كان الكفار يسألون هذه الأشياء عن طريق الاستهزاء، فأنزل الله تعالى هذه الآية تسلية للنبي، معناه: ولقد استهزئ برسل من قبلك يعني: كما استهزءوا بك، فقد استهزئ برسل من قبلك. * (فأمليت للذين كفروا) معناه: فأمهلت وأطلت المدة لهم، ومنه الملوان وهو الليل والنهار. وقوله: * (ثم أخذتهم فكيف كان عقاب) معناه: ثم أخذتهم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار فكيف كان [عقابي] لهم.
95

* (كان عقاب (32) أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد (33) لهم عذاب في الحياة) * *
قوله تعالى: * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) أكثر المفسرين أن قوله: * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) هو الله، والله تعالى لا يجوز أن يسمى قائما على الإطلاق؛ لأن الشرع لم يرد به، ولأن القائم هو المنتصب، ويجوز أن يوصف بالقيام على التقييد، وهو أنه قائم على كل نفس بما كسبت، ومعنى قوله: * (قائم على كل نفس): أنه المتولي لأحوالها وأعمالها وأرزاقها، وغير ذلك، وكذلك هو المتولي للمجازاة بكسب الخير والشر.
وقال بعضهم: معنى قوله: * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) أي: عالم بكسب كل نفس، قال الشاعر:
(فلولا رجال من قريش أعزة
* سرقتم ثياب البيت والله قائم)
أي: عالم. وقوله: * (أفمن) معناه: أفمن كان هكذا كمن ليس بهذا الوصف. وقوله: * (وجعلوا لله شركاء) أي: وصفوا لله شركاء، وقوله: * (قل سموهم) معناه: قل صفوهم بالصفات التي هي مستحقة لها، ثم انظروا هل هي أهل أن تعبد أو لا؟
قوله: * (أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض) معناه: أم أنتم تنبئون الله بما لا يعلم. يعني: تذكرون له شريكا وإلها آخر، وهو لا يعلمه.
وقوله: * (أم بظاهر من القول) يعني أم تتعلقون بظاهر من القول لا معنى له، شبه المتجاهل الذي لا يطلب حقيقة الأمر، وقيل: بظاهر من القول بباطل من القول: قال الشاعر:
(وعيرني الواشون أني أحبها
* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها)
أي: زائل، وحكي أن عبد الله بن الزبير أنشد هذا حين قيل له: يا ابن ذات النطاقين، وقصد القائل تعبيره وذمه؛ فقال عبد الله بن الزبير:
(وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
*).
قوله: * (بل زين للذين كفروا مكرهم) أي: كفرهم. وقوله: * (وصدوا عن السبيل) وقرئ: ' وصدوا ' برفع الصاد، أي: فعل بهم ذلك. وقوله: * (وصدوا)
96

* (الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق (34) مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار (35) والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من) * * معناه: فعلوا هم ذلك، وقوله: * (ومن يضلل الله فما له من هاد) ظاهر المعنى.
وقوله: * (لهم عذاب في الحياة الدنيا) قد بينا العذاب في الدنيا.
* (ولعذاب الآخرة أشق) يعني: أشد. وقوله: * (وما لهم من الله من واق) أي: من يقي.
وقوله: * (مثل الجنة التي وعد المتقون) قرئ في الشاذ: ' أمثال الجنة التي وعد المتقون ' [و] المعروف: * (مثل الجنة) وفيه قولان: أحدهما: صفة الجنة التي وعد المتقون، والقول الثاني: مثل الجنة التي وعد المتقون جنة * (تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم) أي: لا ينقطع ثمرها ونعيمها.
فإن قال قائل: قد قال هاهنا: * (أكلها دائم) وقال في موضع آخر: * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) فكيف التوفيق بين الآيتين؟
الجواب: أن الدوام بمعنى عدم الانقطاع، فإذا لم ينقطع ورزقوا بكرة وعشيا، فهو دائم. وقوله: * (وظلها) هذا في معنى قوله تعالى: * (وظل ممدود).
وفي الأخبار: ' أن ظل شجرة واحدة في الجنة يسير الراكب فيها مائة عام لا يقطعه '. وقوله تعالى: * (تلك عقبى الذين اتقوا) معناه: تلك عاقبة الذين اتقوا. وقوله: * (وعقبى الكافرين النار) أي: عاقبة الكافرين النار.
97

* (ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب (36) وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق (37) ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان) * *
قوله تعالى: * (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك) الآية. روي أن [اليهود] الذين أسلموا كانوا يستقلون ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرر الله ذكر الرحمن في القرآن فرحوا فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون...) الآية.
وقوله: * (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) الأحزاب: هم الذين تحزبوا على النبي. وقوله: * (من ينكر بعضه) يعني: ذكر الرحمن؛ لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله، وقوله: * (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وكذلك أنزلناه حكما عربيا) فيه قولان: أحدهما: قرآنا عربيا؛ لأن فيه الأحكام، والآخر نبيا عربيا؛ لأن النبي كان منهم، والقرآن نزل بلغتهم.
وقوله: * (ولئن اتبعت أهواءهم) الهوى: ميل الطبع لشهوة النفس. وأكثره مذموم. قوله: * (بعد ما جاءك من العلم) يعني: من القرآن * (مالك من الله من ولي ولا واق) يعني: من ناصر ولا حافظ.
قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك) الآية، روي أن اليهود ذموا النبي باستكثاره من النساء، وقالوا: هذا الرجل ليس له همة إلا في النساء، فأنزل الله تعالى هذه الآية: وقيل: إن المشركين قالوا هذا؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) ويقال: إنه كان لداود مائة امرأة، وقد صح الخبر فيه عن النبي، ودل عليه الكتاب. وكان لسليمان [ألف] امرأة
98

* (لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب (38) يمحو الله ما يشاء ويثبت) * * في الصحيح، ثلاثمائة امرأة، وسبعمائة سرية؛ فهذا معنى قوله: * (وجعلنا لهم أزواجا وذرية) وكذلك عامة الأنبياء تزوجوا وولد لهم.
وقوله: * (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) أي: إلا بأمر الله * (لكل أجل كتاب) معناه: لكل أجل أجله الشرع كتاب أثبت فيه. وقيل: هذا على التقديم والتأخير، ومعناه: لكل كتاب أجل ومدة، ومعناه الكتب المنزلة وقيل: لكل أجل كتاب، أي: لكل قضاء قضاه الله تعالى وقت يقع فيه، وكتاب أثبت فيه.
قوله تعالى: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فيه أقوال: روي عن ابن عباس أنه يمحو الله ما يشاء من الشريعة، أي: ينسخ. ويثبت ما يشاء، فلا ينسخ. وحكي عنه أيضا برواية سعيد بن جبير قال: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت، وعن عمر وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - أنهما قالا: يمحو الشقاوة والسعادة أيضا، ويمحو الأجل والرزق، ويثبت ما يشاء. وكان عمر يقول: اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحه واكتبني ما تشاء سعيدا، فإنك قلت: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت). وفي بعض الآثار أن الرجل يكون قد بقي له من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه، فيرد إلى ثلاثة أيام، والرجل يكون قد بقي له من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة. وقد ورد خبر يؤيد قول ابن عباس في أنه لا يمحى الشقاوة والسعادة والأجل والرزق، روى حذيفة بن أسيد عن النبي أنه قال: ' إذا وقعت النطفة في الرحم، ومضى عليها خمس وأربعون ليلة، قال الملك: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله، ويكتب الملك، فيقول: يا رب، أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله تعالى، ويكتب الملك، فيقول: يا رب ما الأجل؟ وما الرزق؟ فيقضي الله تعالى ويكتب الملك ثم لا يزاد فيه ولا ينقص. ذكره مسلم في الصحيح.
99

* (وعنده أم الكتاب (39) وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (40) أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله) * *
وفي الآية قول آخر، وهو قول الحسن: * (يمحو الله ما يشاء) أي: يمحو من حضر أجله ويثبت ما يشاء من لم يحضر أجله، وفي الآية قول رابع: أن المراد منه أن الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم، فيمحو الله منها ما يشاء، وهو ما لا ثواب عليه ولا عقاب، ويثبت ما يشاء وهو الذي يستحق عليه الثواب والعقاب، وقيل: * (يمحو الله ما يشاء) أي: يمحو ما يشاء لمن عصاه فختم أمره بالطاعة، ويثبت بالمعصية لمن أطاع، وختم أمره بالمعصية. والمنقول عن السلف هي الأقوال التي ذكرناها قبل هذا القول.
وقوله: * (وعنده أم الكتاب) معناه: وعنده أصل الكتاب، وأصل الكتاب: هو اللوح المحفوظ. وفي بعض الأخبار ' أن الله تعالى ينظر في الكتاب الذي عنده لثلاث ساعات يبقين من الليل؛ فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، ويبدل ما يشاء ويقرر ما يشاء '.
وقوله تعالى: * (وإما نرينك بعض الذي نعدهم) الآية. بعض الذين نعدهم، أي: قبل وفاتك * (أو نتوفينك) وقبل أن نريك ذلك * (فإنما عليك البلاغ) أي: التبليغ * (وعلينا الحساب) يوم القيامة.
قوله تعالى: * (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) أكثر المفسرين على أن المراد من هذا هو فتح ديار الشرك، وسمي ذلك نقصانا؛ لأنه إذا زاد في دار الإسلام فقد نقص من دار الشرك، وهذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة. وعن ابن عباس - في رواية أخرى - قال: هو موت الأخيار والعلماء. وحكي ذلك عن مجاهد. وقيل: ننقصها من أطرافها بخرابها، والساعة تقوم وكل الأرض خربة، ويقال في منثور
100

* (يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (41) وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار (42) ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (43)) * * الكلام: الأشراف على الأطراف ليقرب منهم الأضياف. وقوله: * (والله يحكم لا معقب لحكمه) أي: لا راد ولا ناقص لحكمه * (وهو سريع الحساب) معلوم.
قوله تعالى: * (وقد مكر الذين من قبلهم) المكر: إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر. قوله * (فلله المكر جميعا) أي عند الله جزاء مكرهم جميعا. وقيل إن الله خالق مكرهم جميعا. وقوله: * (يعلم ما تكسب كل نفس) ظاهر المعنى * (وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) لمن عاقبة الدار، والآية تهديد ووعيد. وقوله: * (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) ظاهر المعنى. وقوله: * (قل كفى بالله شهيدا) أي: شاهدا * (بيني وبينكم).
وقوله: * (ومن عنده علم الكتاب) قال قتادة: هو عبد الله بن سلام، وقيل: عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري، وعلى هذا جماعة من التابعين، وأنكر الشعبي وعكرمة وجماعة هذا القول، وقالوا: السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة، وأيضا فإن الله تعالى كيف يستشهد بمخلوق، وإنما المراد منه هو الله تعالى. وقد قرأ ابن عباس: ' ومن عنده علم الكتاب ' وهذا يبين أن المراد [منه] هو الله تعالى.
وعنى عبد الله بن سلام نفسه، قال: أنا المراد بالآية.
وعن الحسن ومجاهد أن المراد هو الله.
وسعيد بن جبير قال: هو جبريل - عليه السلام - والصحيح أحد القولين الأولين، والله أعلم.
101

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (1) الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من) * *
تفسير سورة إبراهيم
وهي مكية إلا قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) إلى قوله: * (فإن مصيركم إلى النار) والله أعلم.
قوله تعالى: * (الر) معناه: أنا الله أرى، وقيل معناه: أنا الله الرحمن.
وقوله: * (كتاب أنزلناه إليك) معناه: هذا كتاب أنزلناه إليك.
وقوله: * (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) معناه: من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان ومن الغواية إلى الرشد، وقيل: من البدعة إلى السنة.
والظلمة اسوداد الجو بما يمنع من البصر، والنور: بياض شعاعي يحصل به الإبصار. قوله: * (بإذن ربهم) أي: بأمر ربهم، وقيل: بعلم ربهم.
وقوله * (إلى صراط العزيز الحميد) الصراط هو الدين، والعزيز الحميد هو الله تعالى. ومعنى العزيز: الغالب، ومعنى الحميد: هو المستحق للحمد في أفعاله؛ لأنه إنما متفضل أو عادل.
وقوله: * (الله الذي) قرئ بالرفع والخفض، فمن قرأ بالخفض فهو مسبوق على قوله: * (العزيز الحميد)، ومن رفع فعلى تقدير هو الله.
وقوله: * (له ما في السماوات وما في الأرض) يعني: له ملك السماوات والأرض. وقوله: * (وويل للكافرين) الويل: واد في جهنم، وقيل: إنه دعاء الهلاك. * (من
102

* (عذاب شديد (2) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد (3) وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين) * * عذاب شديد) أي: عذاب عظيم.
قوله: * (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) معناه: الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ومعنى الإيثار: هو طلب الدنيا من غير نظر للآخرة، وذلك بأن يأخذ من حيث يجد، ولا يبالي أنه حرام أو حلال. وقد روي عن النبي أنه قال: ' يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أخذ الدنيا بحلال أو بحرام '.
وقوله: * (ويصدون عن سبيل الله) يعني: يمتنعون عن قبول دين الله، ويمنعون الناس عن قبوله. * (ويبغونها عوجا) العوج في الدين، والعوج في الرمح والحائط، ومعنى الآية: ويطلبون دين الله زيغا، وقيل: ويطلبون سبيل الله جائرين عن القصد، وقيل: يطلبون لمحمد الهلاك، ويقال: إن الكناية راجعة إلى الدنيا، ومعناه: يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق، وذلك هو بجهة الحرام على ما قلناه.
وقوله: * (أولئك في ضلال بعيد) أي: في خطأ طويل.
قوله تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) والحكمة في هذا: هو أنه إذا أرسله بلسان قومه عقلوا قوله، وفهموا عنه، فإن قال قائل: إن الله تعالى بعث النبي إلى كل الخلق على ما قال: ' بعثت إلى الأحمر والأسود ' ولم يبعث بلسان كل الخلق؟.
والجواب عنه: أن سائر الخلق تبع العرب في الدعوة، وقد بعث بلسانهم ثم إنه بعث بالرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله، وترجم لهم قوله.
103

* (لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم (4) لقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (5) وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي) * *
وقوله: * (ليبين لهم) معناه ما بينا. وقوله: * (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) ظاهر المعنى.
وقوله: * (وهو العزيز الحكيم) قد بينا.
قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) يعني: من الكفر إلى الإيمان.
وقوله: * (وذكرهم بأيام الله) روي عن أبي بن كعب أنه قال: معناه: بنعم الله. وفي بعض المسانيد نقل هذا مرفوعا إلى النبي. والقول الثاني: بأيام الله أي: بنقم الله. وقال بعضهم: بوقائع الله، يعني: بما أوقع بالأمم الماضية، يقال: فلان عارف بأيام العرب، أي: بوقائعهم.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) الصبار: كثير الصبر، والصبر: حبس النفس عما تنازع إليه النفس، وقد روي عن الشعبي أنه قال: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصفه، واليقين هو الإيمان كله. والشكور: هو الكثير الشكر.
وقوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم) الآية أي: منة الله عليكم.
قوله: * (إذ نجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) قد بينا في سورة البقرة.
وقوله تعالى: * (ويذبحون أبناءكم) قال في موضع بغير الواو، وقال هاهنا بالواو، وذكر الواو يقتضي أنه سبق الذبح عذاب آخر، وترك ذكر الواو يقتضي أن
104

* (ذلكم بلاء من ربكم عظيم (6) وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (7) وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد (8) ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من) * * العذاب هو الذبح.
وقوله: * (ويستحيون نساءكم) يعني: يتركون قتل النساء، وفي الخبر: ' اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم '. * (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) قيل: إن البلاء هو المحنة، وقيل: إن البلاء هو النعمة، وموضع النعمة في الإنجاء من البلاء، وقيل معناه: اختبار من الله عظيم.
وقوله تعالى: * (وإذ تأذن ربكم) أي: أعلم ربكم، والتأذين: الإعلام، والأذين والمؤذن هو المعلم، قال الشاعر:
(ولم (تشعر) بضوء الصبح حتى
* سمعنا في مساجدنا الأذينا)
وقوله: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) الشكر هو الاعتراف بالنعمة على وجه الخضوع للمنعم. وقد حكي عن داود صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا رب، كيف أشكرك ولم أؤد شكرك إلا بنعمة جديدة علي. فقال: يا داود، الآن شكرتني.
وروي أن النبي قال له رجل: أوصني يا رسول الله، فقال: ' عليك بالشكر فإنه زيادة '. ومعنى الآية: لئن شكرتموني بالتوحيد لأزيدنكم نعمة الآخرة على نعمة الدنيا. وقيل: لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب.
وقوله: * (ولئن كفرتم) جحدتم. * (إن عذابي لشديد) لعظيم.
قوله تعالى: * (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) أي: غني عن خلقه، حميد في فعله.
قوله تعالى: * (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم) أي: خبر الذين من قبلكم.
105

(* (بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا) * قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: كذب النسابون، ونقل بعضهم هذا مرفوعا إلى النبي '. وعن عبد الله بن عباس أنه قال: بين إبراهيم وبين عدنان جد الرسول ثلاثون قرنا لا يعلمهم إلا الله. وعن عروة بن الزبير قال: وما وراء عدنان إلى إبراهيم - عليه السلام - لا يعلمهم إلا الله، وعن مالك بن أنس أنه كره أن ينسب الإنسان نفسه أبا أبا إلى آدم، وكذلك في حق الرسول كان يكره؛ لأنه لا يعلم أولئك الآباء أحد إلا الله.
وقوله: * (جاءتهم رسلهم بالبينات) أي: بالدلالات الواضحات. وقوله: * (فردوا أيديهم في أفواههم) روي عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود قال: عضوا أيدهم غيظا، قال الشاعر:
(لو أن سلمى أبصرت التخددي
* ورقة في عظم ساقي ويدي)
(وبعد أهلي وجفاء عودي
* عضت من الوجد أطراف اليد)
وقال آخر:
(قد أفنى أنامله غيظه
* فأمسى يعض على الوظيفا)
والقول الثاني في الآية: أن الأنبياء لما قالوا: نحن رسل الله، وضع الكفار أيديهم على أفواههم أن اسكتوا، نقله الكلبي وغيره.
والقول الثالث: أن معنى الآية أنهم كذبوا الرسل في أقوالهم، يقال: رددت قول فلان في فيه إذا كذبته.
والقول الرابع: أن الأيدي هاهنا هي النعم، ومعناه: ردوا ما لو قبلوا كانت آيادي ونعما.
106

* (كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب (9) قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين (10) قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * *
وقوله: * (في أفواههم) يعني: بأفواههم، ومعناه: بألسنتهم تكذيبا. وأشرق الأقاويل هو القول الأول، والقول الثالث محكي عن ابن عباس.
وقوله: * (وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به) أي: جحدنا بما أرسلتم به.
وقوله: * (وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب) أي: مرتاب، والشك هو التردد بين طرفي نقيض.
قوله تعالى: * (قالت رسلهم أفي الله شك) معناه: ليس في الله شك، وهذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه. وقوله: * (فاطر السماوات والأرض) خالق السماوات والأرض. وقوله: * (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) قال أبو عبيدة: ' من ' صلة، ومعناه: ليغفر لكم ذنوبكم.
وقوله: * (ويؤخركم إلى أجل مسمى) إلى حين استيفاء آجالكم. وقوله: * (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا) أي: تمنعونا. * (عما كان يعبد آباؤنا) ظاهر المعنى. وقوله: * (فأتونا بسلطان مبين) أي: بحجة [ومعجزة] بينة، والسلطان هاهنا: هو البرهان الذي يرد المخالف إلى الحق.
قوله تعالى: * (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم) أي: ما نحن إلا بشر مثلكم. * (ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) يعني: ينعم على من يشاء من عباده بالنبوة، وقيل: بالتوفيق والهداية.
وقوله: * (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان) أي: بحجة ومعجزة. * (إلا بإذن الله)
107

(* (11) وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون (12) وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (13) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد (14) واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد (15) من) * * أي: بأمر الله. * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وما لنا ألا نتوكل على الله) معناه: وأي شيء لنا في ألا نتوكل على الله؛ وقد عرفنا أنه لا ينال شيء بجهد إلا بعد أن يقضيه الله تعالى ويقدره. وقوله: * (وقد هدانا سبلنا) أي: أرشدنا إلى سبل الحق.
وقوله: * (ولنصبرن على ما آذيتمونا) والآية تعليم المؤمنين وإرشادهم إلى الصبر على أذى مخالفي الحق. قوله: * (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) ظاهر المعنى.
وقوله: * (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) قد بينا هذا في سورة الأعراف، وهو في قوله تعالى: * (أو لتعودن في ملتنا).
وقوله: * (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين) أي: المشركين.
وقوله: * (ولنسكننكم الأرض من بعدهم) يعني: نجعل ديارهم موضع سكناكم، وهذا في معنى قوله تعالى: * (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم).
وقوله: * (ذلك لمن خاف مقامي) الفرق بين المقام والمقام: أن المقام موضع الإقامة، والمقام فعل الإقامة. فإن قيل: كيف يكون لله مقام، وقد قال: * (ذلك لمن خاف مقامي)؟ قلنا: أجمع أهل التفسير أن معناه: ذلك لمن خاف مقامه بين يدي، وهو مثل قوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان).
وقوله: * (وخاف وعيد) أي: عقابي.
قوله تعالى: * (واستفتحوا) معناه: واستنصروا، وفي الخبر: ' أن النبي يستفتح بصعاليك المهاجرين ' أي: يستنصر من الله بحقهم.
108

* (ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد (16) يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من) * *
وقوله: * (وخاب كل جبار عنيد) وخاب أي: خسر، وقيل: وهلك كل جبار. والجبار هو الذي لا يرى فوقه أحد، والجبرية طلب العلو بما لا غاية وراءه، وهو وصف لا يصح إلا لله، وأما في وصف الخلق فهو مذموم، وقيل: الجبار هو الذي يجبر الخلق على مراده. وأما العنيد: هو المعاند للحق.
قوله تعالى: * (من ورائه جهنم) الأكثرون معناه: من أمامه جهنم. قال الشاعر:
(ومن ورائك يوم أنت بالغه
* لا حاضر معجز عنه ولا باد)
يعني: من أمامك، وقال أبو عبيدة: قوله: * (ومن ورائه جهنم) يعني: من بعده جهنم. وقوله: * (ويسقى من ماء صديد) معناه: من ماء هو صديد. والصديد ما يسيل من الكفار من القيح والدم، والأصل في الصديد هو الماء الذي يخرج من الجرح مختلطا بالدم والقيح، وقيل: من ماء صديد أي: من ماء كالصديد.
وقوله: * (يتجرعه) أي: يشربه جرعة جرعة من مرارته وشدته. وفي الحديث أن النبي قال: ' إذا أدناه من وجهه شوى وجهه وسقطت فروة رأسه، وإذا شربه تقطعت أمعاؤه، وخرجت الأمعاء من دبره '.
وقوله: * (ولا يكاد يسيغه) يعني: لا يسيغه، وقيل معناه: يكاد لا يسيغه، ويسيغه؛ ليغلي في جوفه. وقوله: * (ويأتيه الموت من كل مكان) قال إبراهيم التيمي: من كل شعرة من جسده، وقيل: يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته، وعن يمينه وعن شماله.
وقوله: * (وما هو بميت) يعني: عليه شدة الموت ولا يموت، وهو في معنى قوله
109

* (كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ (17) مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصم لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد (18) ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم) * * تعالى: * (لا يموت فيها ولا يحيى). وقوله: * (ومن ورائه عذاب غليظ) أي: شديد، والعذاب الغليظ هو الخلود في النار.
قوله تعالى: * (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم) وموضع المثل في قوله: * (كرماد اشتدت به الريح) يعني: ذهبت الريح المشتدة به.
وقوله: * (في يوم عاصف) فيه معنيان.
أحدهما: أنه وصف اليوم بالعاصف؛ لأن فيه العصوف، كما يقال: يوم حار ويوم بارد، أي: فيه الحر والبرد، قال الشاعر:
(يومين غيمين ويوما شمسا
*)
والمعنى الثاني: في يوم عاصف أي: في يوم عاصف الريح، قال الشاعر:
(ويضحك عرفان الدروع جلودنا
* إذا جاء يوم مظلم الشمس (كاسف))
أي: كاسف الشمس.
وقوله * (لا يقدرون مما كسبوا على شيء) لأن أعمالهم قد ذهبت وبطلت كالرماد الذي ذهبت به الريح العاصف.
وقوله: * (ذلك هو الضلال البعيد) الخطأ الطويل.
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق) معنى خلق السماوات والأرض بالحق: ما نصب فيها من الدلائل على وحدانيته وسائر صفاته.
وقوله: * (إن يشأ يذهبكم) يعني: إن يشأ يهلككم. * (ويأت بخلق جديد) أي: بقوم آخرين، وهو في معنى قوله تعالى: * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم).
110

* (ويأت بخلق جديد (19) وما ذلك على الله بعزيز (20) وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص (21) وقال) * *
قيل في التفسير: قوما أطوع لله منكم. وقوله: * (وما ذلك على الله بعزيز) أي: شديد؛ وذلك لأن الأشياء كلها سهلة هينة في القدرة، ولا يصعب على الله شيء من الأشياء وإن جل وعظم.
قوله تعالى: * (وبرزوا لله جميعا) أي: خرجوا من قبورهم إلى الله جميعا.
وقوله: * (فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا) معنى الذين استكبروا: يعني تكبروا على الناس، وتكبروا عن الإيمان، وهم القادة والرؤساء.
وقوله: * (إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون) كنا لكم تبعا، أي: أتباعا * (فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء) أي: دافعون عنا من عذاب الله من شيء. وقوله: * (قالوا لو هدانا الله لهديناكم) معناه: لو هدانا الله لدعوناكم إلى الهدى، فلما أضلنا دعوناكم إلى الضلالة.
وقوله: * (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا) في الآثار أنهم يقولون: قد جزع أقوام في الدنيا؛ فنجوا فنحن نجزع لننجوا، فيجزعون مدة مديدة فلا يرون نجاة، فيقولون: قد صبر أقوام في الدنيا، فنحن نصبر للنجوا، فيصبرون مدة مديدة، فلا يرون نجاة فيقولون بعد ذلك: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا.
قوله: * (ما لنا من محيص) أي: منجي ومخلص، ويقال: يجزعون مائة سنة، ويصبرون مائة سنة، ويقال: فلان وقع في حيص بيص، وحاص وباص إذا وقع في أمر لا مخلص عنه.
قوله تعالى: * (وقال الشيطان لما قضى الأمر) قوله: * (لما قضى الأمر) دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وفي بعض الآثار: ' أنه يوضع لإبليس منبر من نار فيصعد عليه ويخطبهم ' وذلك حين يتعلقون به، ويقولون: أنت فعلت بنا هذا.
111

* (الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم (22) وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها) * *
وقوله: * (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) ووعد الحق هو الذي يقع الوفاء [به]. وقوله: * (ووعدتكم فأخلفتكم) هو ما لا يقع به الوفاء، وقيل: إنه يقول لهم: قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار، وغير ذلك.
وقوله: * (وما كان لي عليكم من سلطان) معناه: أني لم آتكم بحجة فيما دعوتكم إليه. وقوله: * (إلا أن دعوتكم) هذا استثناء منقطع، ومعناه: ولكن دعوتكم أي: زينت لكم. قوله: * (فاستجبتم لي) أي: أجبتم لي. وقوله: * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) يعني: لا تعودوا باللائمة علي، وعودوا باللائمة على أنفسكم.
وقوله: * (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) معناه: ما أنا بمعينكم وما أنتم بمعيني، وقيل [معناه]: ما أنا بمنجيكم وما أنتم بمنجي، وقرأ حمزة: ' وما أنتم بمصرخي ' بكسر الياء، وأهل النحو لا يرضون هذه القراءة، وذكر الفراء شعرا يدل على قراءة حمزة. قيل: إنه لغة بني يربوع. والشعر:
(قال لها هل أنت يا باغي
* قالت له ما أنت بالمرضي)
وقوله: * (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) فيه قولان: أحدهما: إني كفرت بجعلكم إياي شريكا في عبادة الله وطاعته، والقول الثاني: إني كفرت قبل أن أشركتموني في عبادته، يعني: كفرت قبل كفركم.
وقوله: * (إن الظالمين لهم عذاب أليم) أي: وجيع.
112

* (الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام (23) ألم تر كيف ضرب الله مثلا) * *
قوله تعالى: * (وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) قد بينا. * (خالدين فيها) مقيمين فيها أبدا. * (بإذن ربهم) بأمر ربهم.
قوله: * (تحيتهم فيها سلام) وفي المحيي بالسلام ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المحيي بالسلام هو الله تعالى، والآخر: هم الملائكة، والثالث: أن المحيي بالسلام بعضهم على بعض.
قوله تعالى: * (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة) المثل قول سائر لتشبه شيء بشيء في المعنى. وقوله: * (كلمة طيبة) أجمع المفسرون على أن الكلمة الطيبة هاهنا: لا إله إلا الله.
وقوله: * (كشجرة طيبة) أكثر أهل التفسير على أن الشجرة الطيبة هاهنا: هي النخلة، وقد بينت برواية ابن عمر عن النبي أنه قال لأصحابه: ' أخبروني عن شجرة هي مثل المؤمن؟ فوقعت الصحابة في شجر البوادي. قال ابن عمر: ووقع في نفسي أنها النخلة، ثم إن النبي قال: هي النخلة. قال ابن عمر: فذكرت لأبي أنه كان وقع في نفسي كذا، فقال: لو كنت قلته كان أحب إلي من حمر النعم '.
وفي بعض الأخبار عن النبي أنه قال: ' أكرموا النخلة فإنها عمتكم '.
ومعناه: أنها خلقت من فضل طينة آدم.
113

* (كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25) ومثل كلمة خبيثة
كشجرة) * *
والقول الثاني: أن الشجرة الطيبة شجرة في الجنة، وقد حكي هذا عن ابن عباس، وقيل: إن الشجرة الطيبة شجرة جوز الهندي.
وقوله: * (أصلها ثابت) أي: ثابت في الأرض. وقوله: * (وفرعها في السماء) أي: أعلاها في السماء.
وقوله: * (تؤتي أكلها كل حين) الحين في اللغة هو الوقت، وفي معنى الحين أقوال: قال ابن عباس: ستة أشهر؛ لأنها من حين ضرابها إلى حين إطلاعها، وقال مجاهد: الحين هاهنا هو سنة كاملة؛ لأن النخلة تثمر كل سنة.
وعن سعيد بن المسيب قال: أربعة أشهر لأنها من حين ظهورها إلى حين إدراكها، وقال بعضهم: شهران؛ لأنه من حين يؤكل إلى حين يصرم.
والقول الخامس: أنه غدوة وعشية؛ لأن ثمر النخلة يؤكل منها أبدا، إما رطبا، وإما تمرا وإما بسرا.
وقوله: * (بإذن ربها) أي: بأمر ربها. وقوله: * (ويضرب الله الأمثال للناس) موضع المثل أن الإيمان ثابت في القلب، والعمل صاعد إلى السماء، كالنخلة ثابت أصلها في الأرض، وفروعها مرتفعة إلى السماء، موضع المثل في قوله: * (تؤتي أكلها كل حين) لأن فائدة الإيمان وبركته لا تنقطع أبدا، بل تصل إلى المؤمن في كل وقت، كما أن نفع النخلة وبركتها تصل إلى حاجتها في كل وقت.
واستدل بعضهم على أن النخلة تشبه الآدمي؛ لأنها محتاجة إلى اللقاح، كالآدمي لا يولد له حتى يلقح. قوله: * (لعلهم يتذكرون) أي: يتعظون.
قوله تعالى: * (ومثل كلمة خبيثة) الكلمة الخبيثة هي الشرك. وقوله: * (كشجرة خبيثة) اختلفوا فيها، قال أنس بن مالك: هي الحنظلة، وعن ابن عباس قال: هي الثوم، وقيل: إنها الكشوثا، وهي العشقة.
114

* (خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (26) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) * *
وقوله: * (اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) أي: اقتلعت من فوق الأرض. وقوله: * (ما لها من قرار) أي: ما لها من ثبات، وحقيقة المعنى أنه ليس لها أصل ثابت في الأرض، ولا فرع يصعد إلى السماء، وموضع المثل معلوم.
قوله تعالى: * (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) القول الثابت: كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، وقال: * (يثبت الله) لأنه هو المثبت للإيمان في قلوب المؤمنين.
وقوله: * (في الحياة الدنيا) يعني: قبل الموت. وقوله * ([و] في الآخرة) أي: في القبر، وعليه أكثر أهل التفسير، وقد ثبت ذلك عن النبي برواية البراء بن عازب، وهو قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجماعة من الصحابة.
واعلم أن سؤال القبر ثابت في السنة، والإيمان به واجب، وقد وردت فيه الأخبار الكثيرة، روى أبو سعيد الخدري: ' أن النبي كان في جنازة، فذكر لأصحابه أنه يدخل على الرجل في قبره ملكان ويسألانه، فيقولان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ قال: فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد. فيفتح له باب إلى النار، فيقال له: هذا كان مكانك لو قلت غير هذا، ثم يفتح له باب إلى الجنة، ويفسح له في قبره مد البصر. وأما الكافر فيقول الملكان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان: لا دريت ولا تليت، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقولان: هذا مكانك لو أجبت، ثم يفتح له باب إلى النار، ويضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، ويضربانه بمطرقة من نار فيصيح صيحة يسمعها كل الخلائق إلا الثقلين '.
115

* (في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27) ألم تر إلى) * *
وفي بعض الأخبار: ' أن النبي قال: لو نجا أحد من عذاب القبر لنجا سعد بن معاذ، ولقد ضمه القبر ضمة أو ضمتين ' وروي أن النبي قال لعمر: ' كيف بك إذا أتاك ملكان... ' الخبر. فقال: يا رسول الله، ومعي عقلي؟ قال: نعم. قال: أكفيهما إذا '.
وقيل: إن عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من ترك الاستنزاه من البول، وثلث من الغيبة، وثلث من المشي بالنميمة. والله أعلم.
وفي الآية قول آخر: أن الحياة الدنيا هي القبر، وفي الآخرة هي القيامة، والقول الأول أصح.
وقوله: * (ويضل الله الظالمين) معناه: أنه لا يهدي المشركين إلى هذا الجواب، ولا يلقنهم إياه. وقوله: * (ويفعل الله ما يشاء) من التوفيق والخذلان والتثبيت وترك التثبيت.
قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) الآية [فيها] ثلاثة
116

* (الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار (28) جهنم يصلونها وبئس القرار (29) وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) * * أقوال: أحدها: أنهم كفار قريش، والآخر: أنهم قادة المشركين ببدر، قاله ابن عباس، والثالث: روي عن علي - رضي الله عنه - أنه سئل عن هذه الآية فقال: هم الأفجران بنو المغيرة وبنو أمية: فأما بنو المغيرة فقتلوا يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
وقوله: * (وأحلوا قومهم دار البوار) أي: دار الهلاك، وهي جهنم قال الشاعر:
(إن لقيما وإن قتلا
* وإن لقمان حيث باروا)
يعني: هلكوا. وقوله: * (جهنم يصلونها [وبئس] القرار) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وجعلوا لله أندادا) أي: شركاء وأمثالا، قال حسان بن ثابت: شعرا:
(أتهجوه ولست له بند
* فشركما لخير كما الفداء)
واعلم أن الله ليس له ضد ولا ند. أما الند الذي هو المثل فمعلوم، وأما الضد فلأن فيه معنى من المثلية، والله ليس له مثل بوجه ما.
وقوله: * (ليضلوا عن سبيله) إنما نسب إليهم الضلالة، لأنهم سبب في (الضلال)، وهذا كما يقول القائل: فتنتني الدنيا؛ نسب الفتنة إلى الدنيا، لأنها سبب في الفتنة. وقوله: * (ليضلوا عن سبيله) ظاهر المعنى.
وقوله: * (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) قال ابن عباس: لو أن كافرا كان في أشد بؤس وضر لا يهدأ ليلا ولا نهارا، كان ذلك نعيما في جنب ما يصير إليه في الآخرة، ولو أن مؤمنا كان في أنعم عيش، كان ذلك بؤسا في جنب ما يصير إليه في الآخرة.
وقوله: * (فإن مصيركم إلى النار) أي: مرجعكم إلى النار.
117

(* (30) قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال (31) الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار) * *
وقوله تعالى: * (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) هذا خبر بمعنى الأمر، أي: أقيموا الصلاة. وقوله: * (وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) يعني: جهرا وغير جهر. وقيل: نفلا سرا، وفرضا جهرا.
وقوله: * (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه) قال أبو عبيدة: يعني لا فداء فيه * (ولا خلال) أي: لا مخالة ولا صداقة، وهذا معنى قوله تعالى: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
قوله تعالى: * (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) ظاهر المعنى.
وقوله: * (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) أي: بعلمه وإذنه.
وقوله: * (وسخر لكم الأنهار) أي: ذلل لكم الأنهار تجرونها حيث شئتم.
وقوله: * (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) وذلك لكم، وتسخير الشمس والقمر هو جريانهما على وتيرة واحدة فيما يعود إلى مصالح العباد.
وقوله: * (دائبين) معناه: أنهما لا يفتران ولا يقفان، والدأب في الشيء هو الجري على عادة واحدة.
وقوله: * (وسخر لكم الليل والنهار) ظاهر المعنى. وقوله: * (وآتاكم من كل ما سألتموه) قرىء بقراءتين، المعروف: * (من كل ما سألتموه)، ويقرأ: ' من كل ما سألتموه ' بالتشديد والتنوين، فالقول المعروف معناه: يعني من كل الذي سألتموه.
فإن قال قائل: نحن نسأله أشياء ولا يعطينا؟ والجواب: أن جنسه يعطي الآدميين
118

(* (33) وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار (34) وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * * وإن لم يعطه على التعيين؛ فاستقام الكلام على هذا، وقيل معناه: من كل ما سألتموه، ولم تسألوه. وأما القراءة الثانية، فمعنى ' ما ' هو النفي، ومعناه: أعطاكم أشياء لم تسألوها، فإن الله تعالى أعطانا الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والرياح، وما أشبه ذلك ولم نسأله شيئا منها.
وقوله: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) قال أبو العالية: معناه: لا تطيقوا عدها، وقيل: لا تطيقون شكرها.
وقوله: * (إن الإنسان لظلوم كفار) يعني: ظالم لنفسه كافر بربه، ويقال: إن هذه الآية نزلت في أبي جهل خاصة، ويقال: إنها نزلت في جنس الكفار، ويجوز أن يذكر الإنسان ويراد به جنس الناس، قال الله تعالى: * (والعصر إن الإنسان لفي خسر) وقيل: [الظالم] هو الذي يشكر غير من أنعم عليه، والكافر هو الذي يجحد منعمه.
قوله: * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا) أجمعوا أن البلد هو مكة، وقوله: * (آمنا) أي: ذا أمن.
وقوله: * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) معناه: بعدني وبني من عبادة الأصنام، فإن قال قائل: قد كان إبراهيم معصوما عن عبادة الأصنام، فكيف يستقيم سؤاله لنفسه، وقد عبد كثير من بنيه الأصنام، فأين الإجابة؟
الجواب: أما في حق إبراهيم، فالدعاء لزيادة العصمة والتثبيت، وأما في حق البنين فيقال: إن الدعاء لبنيه من الصلب، ولم يعبد أحد منهم الصنم، وقيل: إن دعاءه لمن كان مؤمنا من بنيه.
119

(* (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36) ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم) * *
وقوله: * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) نسب الضلالة إليهن لما بينا من المعنى. وقوله: * (فمن تبعني فإنه مني) أي: من أهل ديني.
وقوله: * (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه قال هذا قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك.
والآخر: أن المراد من العصيان هو ما دون الشرك.
قوله تعالى: * (ربنا إني أسكنت) يعني: أنزلت. قوله تعالى: * (من ذريتي) الذرية هاهنا إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر.
وفي القصة: أنه حمل هاجر وإسماعيل وهو طفل يرضع، وكانوا ثلاثتهم على البراق، فجاء بهم إلى موضع البيت، وهي مدرة حمراء، فقال له جبريل: هاهنا أمرت. فأنزل إسماعيل وأمه في موضع الحجر، ومضى راجعا إلى الشام، فنادته هاجر، يا خليل الله، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله تعالى. قالت: قد قبلنا ذلك، والقصة في هذا معروفة.
وقوله: * (بواد غير ذي زرع) قال هذا لأن مكة بين جبلين، وهي واد.
وقوله: * (عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة) سماه محرما؛ لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره.
وقوله: * (فاجعل أفئدة من الناس) الأفئدة جمع الفؤاد، قال ابن عباس: لو قال ' أفئدة الناس ' لزاحمتكم [فارس] والروم، وفي رواية: الترك والديلم، وفي رواية عن غيره: لحجت اليهود والنصارى والمجوس.
وقوله: * (تهوي إليهم) أي: تحن إليهم، قال السدي معناه: أمل قلوبهم إلى هذا
120

* (يشكرون (37) ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء (38) الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء (39) رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء) * * لموضع؛ فإن الإنسان يميل مع قلبه حيث مال.
وقوله: * (وارزقهم من الثمرات) في بعض الأخبار: أن الله تعالى قلع قرية من الشام بأشجارها وأرضها فوضعها بمكان الطائف. وقوله: * (لعلهم يشكرون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء) ظاهر المعنى.
وقوله: * (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق). في القصة: أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وإسحاق ولد له بعد ذلك بثلاث عشرة سنة. ويقال: إن إسماعيل ولد له بعد أن بلغ سنة مائة [وسبع] عشرة سنة. وقوله: * (إن ربي لسميع الدعاء) ظاهر المعنى.
قوله: * (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) يعني: ممن يقيم الصلاة بحدودها وأركانها، ويحافظ عليها. قوله: * (ومن ذريتي) معناه: واجعل من ذريتي من يقيمون الصلاة. قوله: * (ربنا وتقبل دعاء) أي: واستجب دعائي.
قوله: * (ربنا اغفر لي ولوالدي) قرأ سعيد بن جبير: * (ولوالدي)، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن يعمر: ' ولوالدتي '، والمعروف: * (ولوالدي).
فإن قال قائل: كيف استغفر لوالديه ولم يكونا آمنا؟
والجواب عنه: قد قيل: إن أمه قد أسلمت، وأما الوالد فإنما استغفر له قبل أن يتبين له أنه مقيم على الشرك، وقد بينا هذا من قبل، وقيل: ولوالدي آدم وحواء، وقيل: نوح وأم إبراهيم.
121

(* (40) ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41) ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (42) مهطعين مقنعي) * *
وفي تفسير الدمياطي: أن قوله: * (ولوالدي) أي: لولدي، قال ابن فارس: ويجوز هذا في اللغة، وهو أن يذكر الوالد بمعنى المولود، كما يقال: ماء دافق أي: مدفوق. وقوله: * (وللمؤمنين) ظاهر المعنى.
وقوله: * (يوم يقوم الحساب) أي: يوم يحاسب الله الخلق.
قوله تعالى: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) الآية. الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور. وروي عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية تعزية للمظلوم وتسلية له، وتهديد للظالم.
وقوله: * (إنما يؤخرهم) معناه: إنما يمهلهم. وقوله: * (ليوم تشخص فيه الأبصار) يعني: من الدهش والحيرة وشدة الأمر، ومعنى تشخص أي: ترتفع وتزول عن أماكنها.
وقوله * (مهطعين) الأكثرون أن معناه مسرعين، وقال أبو العباس أحمد بن يحيى الثعلب: الإهطاع هو النظر في (الذل والخضوع). وقيل: مهطعين أي: مديمي النظر لا يطرفون. ومعنى الإسراع الذي ذكرنا هو أنهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا، ولا يعرفون مواطن أقدامهم، وليس لهم همة ولا نظر إلى ما يساقون إليه.
وقوله: * (مقنعي رؤوسهم) يقال: أقنع رأسه أي: رفعه، وأقنع رأسه إذ خفضه، فإن كان المراد هو الرفع فمعناه: أن أبصارهم إلى السماء ينظرون ماذا يرد عليهم من الله تعالى، وإن حمل الإقناع على خفض الرأس فمعناه: مطرقون ناكسون، قال الشاعر:
(نغض رأسي نحوه وأقنعا
* كأنما يطلب شيئا أطمعا)
وقال المؤرج: رفعوا رؤوسهم حتى كادوا يضعونها على أكتافهم.
122

* (رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء (43) وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال (44) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) * *
وقوله * (لا يرتد إليهم طرفهم) يعني: لا يرجع إليهم طرفهم، فكأنه ذهلهم ما بين أيديهم فلا ينظرون لشيء سواه.
وقوله: * (وأفئدتهم هواء) قال أبو عبيدة: متخرقة لا تعي شيئا، وقال قتادة: خرجت قلوبهم عن صدورهم حتى بلغت الحناجر من شدة ذلك اليوم وهوله فهذا معنى قوله: * (وبلغت القلوب الحناجر)، فعلى هذا قوله: * (وأفئدتهم هواء) أي: خالية، ومنه سمي الجو هواء لخلوه، وقيل: خالية عن العقول؛ فكأنها ذهبت من الفزع والخوف.
وقال سعيد بن جبير: ' وأفئدتهم هواء ' أي: مترددة لا تستقر في مكان، وقيل: هواء أي: متخربة من الجبن والفزع. قال حسان بن ثابت:
(ألا أبلغ أبا سفيان عني
* فأنت مجوف نخب هواء)
حقيقة المعنى من الآية أن القلوب زائلة عن أماكنها، والأبصار شاخصة من هول ذلك اليوم.
وقوله: * (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب) يعني: خوف الناس.
قوله: * (فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب) معناه: أمهلنا.
وقوله: * (إلى أجل قريب) هذا سؤال الرجعة، كأنهم سألوا ردهم إلى الدنيا.
وقوله: * (نجب دعوتك ونتبع الرسل) ظاهر المعنى. وقوله: * (أو لم تكونوا أقسمتم) أي حلفتم في الدنيا. وقوله: * (من قبل ما لكم من زوال) يعني: ليس لكم بعث ولا جزاء ولا حساب.
وقوله: * (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) أي: ظلموا أنفسهم
123

* (وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (46) فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) * * فأهلكناهم. وقوله: * (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) يعني: عرفتم عقوبتنا إياهم.
وقوله: * (وضربنا لكم الأمثال) أي: الأشباه، ومعناه: بينا أن مثلكم كمثلهم.
قوله تعالى: * (وقد مكروا مكرهم) أي: كادوا كيدهم.
وقوله: * (وعند الله مكرهم) أي: عند الله جزاء مكرهم.
وقوله: * (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) قرئ بقرائتين: ' لتزول ' و ' لتزول ' قرأه الكسائي وحده بنصب اللام.
أما قوله: * (لتزول) - بكسر اللام وعليه الأكثرون - معناه: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، يعني: أن مكرهم لا يزيل أمر محمد الذي هو ثابت كثبوت الجبال.
وقيل: إن معنى الآية بيان ضعف كيدهم ومكرهم، وأنه لا يبلغ هذا المبلغ، وأما قوله: ' وإن كان مكرهم لتزول ' بنصب اللام الأول ورفع الثاني معناه: أن مكرهم لو بلغ في العظم بمحمد يزيل الجبال لم يقدروا على إزالة أمر محمد. وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس وجماعة: ' وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال:. وعن أبي بن كعب أنه قرأ: ' ولولا كلمة الله لزال بمكرهم الجبال '.
وعن علي رضي الله عنه في معنى الآية: وهو أنها نزلت في نمروذ حين قال: لأصعدن السماء، واتخذ النسور وجوعها ثم اتخذ تابوتا، ونصب خشبات في أطرافها، وجعل على رءوسها اللحم، ثم ربط قوائم النسور على الخشبات وخلاها، فاستعلت النسور، وقد جلس نمروذ في التابوت مع حاجبه، وقيل: مع غلام له، وللتابوت بابان: باب من أعلى، وباب من أسفل، وقال: فلما صعدت النسور في السماء، ومضى على ذلك يوم، قال لغلامه: افتح الباب السفلى، فإذا الأرض
124

* (إن الله عزيز ذو انتقام (47) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله) * * كاللجة، فقال: افتح الباب الأعلى فإذا السماء كما هي، ثم مر [يوم] آخر فقال: افتح الباب الأسفل ففتح فإذا الأرض كالدخان، فقال: افتح الباب الأعلى ففتح فإذا السماء كما هي، فأمر غلامه حتى يصوب رؤوس النسور والخشبات، فجاء التابوت إلى جانب الأرض وله هدة عظيمة، فخافت الجبال أنه جاء من السماء أمر، وكادت تزول عن أماكنها، فهذا معنى قوله: * (وإن كان مكرهم لتزول) - بنصب اللام الأولى ورفع الثاني - * (منه الجبال).
وفي الآية قول آخر - وهو قول قتادة - أن معناها: وإن كان شركهم لتزول منه الجبال، وهو معنى قوله تعالى * (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا).
قوله تعالى: * (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) قيل: هذا من المقلوب ومعناه: مخلف رسله وعده. قوله: * (إن الله عزيز ذو انتقام) قد بينا المعنى.
قوله تعالى: * (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا) قال ابن مسعود: تبدل هذه الأرض بأرض بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم، ولم يعمل فيها بخطيئة، وأما السماء تبدل بسماء من ذهب.
والقول الثاني: قاله أبو جعفر محمد بن علي الباقر ومحمد بن كعب: أنه تبدل الأرض بأرض من خبزة يأكلون منها، وقرأ أبو جعفر: * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) والقول المعروف في الآية أن تبديل الأرض هو تغييرها من هيئة إلى هيئة، كالرجل يقول لغيره: تبدلت بعدي، أي: تغيرت هيئتك وحالك. وتغيير الأرض بتسيير جبالها، وطم أنهارها، وتسوية أوديتها، وقلع أشجارها وجعلها قاعا
125

* (الواحد القهار (48) وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد (49) سرابيلهم من) * * صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وأما تبديل السماوات بتغيير حالها، وذلك بتكوير شمسها وقمرها، وانتثار نجومها، وكونها مرة كالدهان، وهو الأديم الأحمر، ومرة كالمهل، وقيل: إن معنى التبديل هو أنه يجعل السماوات جنانا والأرضين نيرانا، وقد صح عن النبي برواية مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ' يا رسول الله، قوله تعالى: * (يوم تبدل الأرض غير الأرض) أين يكون الناس حينئذ؟ فقال عليه السلام: على الصراط ' وإذا ثبت هذا فالأولى هو هذا القول.
أخبرنا بهذا الحديث أبو علي الحسن بن عبد الرحمن الشافعي، قال أبو الحسين بن فارس، قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ قال: حدثنا جدي محمد بن عبد الله، قال: نا سفيان بن عيينة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة عن النبي... الخبر.
وقوله: * (وبرزوا لله الواحد القهار) معناه: وخرجوا من قبورهم لله الواحد القهار يحكم فيهم بما أراد.
قوله: * (وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد) يقال: صفده إذا قيده، وأصفده إذا أعطاه، قال الأعشى:
(تضيفته يوما فأكرم مقعدي
* وأصفدني على الزمانة قائدا)
أصفدني أي: أعطاني. وقوله: * (مقرنين) أي: مجعولين بعضهم مع بعض في السلاسل والأقياد، وقيل: إنه يقرن كل كافر مع شيطان في كل سلسلة وقيد، ذكره الكلبي، ويقال: تجمع رجلاه إلى عنقه ويغل، فهو معنى قوله: * (مقرنين في الأصفاد).
126

* (قطران وتغشى وجوههم النار (50) ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب (51) هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب (52)) * *
وقوله: * (سرابيلهم من قطران) أي: قميصهم من قطران، والقطران ما تهنأ به الإبل، وقرأ ابن عباس وعكرمة: ' من قطرآن ' أي: من صفر مذاب، (قال): انتهى حره. وقيل: من نحاس مذاب قد انتهى حره. قال أهل المعاني: وإنما ذكر أن قميصهم من قطران؛ لأن النار إليه أسرع اشتعالا.
وقوله: * (وتغشى وجوههم النار) معناه: وتعلو وجوههم النار، وقيل: تصلى.
وقوله: * (ليجزي الله كل نفس بما كسبت) يعني: ما كسبت من خير وشر.
وقوله: * (إن الله سريع الحساب) معناه: سريع المجازاة، وحقيقة الحساب إحصاء ما عمله الإنسان من خير أو شر ليجازي عليه.
قوله تعالى: * (هذا بلاغ للناس) يعني: هذا القرآن، وهذا الذي أنزلته عليك بلاغ للناس، أي: فيه تبليغ للناس. قوله: * (ولينذروا به) أي: [و] ليخوفوا به.
وقوله: * (وليعلموا أنما هو إله واحد) أي: ليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى.
وقوله: * (وليذكر أولو الألباب) معناه: وليتعظ أولو الألباب - أي أولو العقول -، وفي بعض التفاسير: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. والله أعلم.
127

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (1) ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين))
* *
تفسير سورة الحجر وهي مكية
قوله تعالى: * (الر) معناه: أنا الله أرى، وقيل: ' الر '، و ' حم ' و ' ن ' هو الرحمن. * (تلك آيات الكتاب) معناه: هذه آيات الكتاب.
* (وقرآن مبين) معناه: أنه يبين الحلال من الحرام، والحق من الباطل، فإن قال قائل: القرآن هو الكتاب، والكتاب هو القرآن، فأيش فائدة الجمع بينهما؟
الجواب: أن كل واحد منهما يفيد معنى لا يفيده الآخر، فإن الكتاب هو ما يكتب، والقرآن هو ما يجمع بعضه إلى بعض، وقيل: إن المراد من الكتاب هو التوراة والإنجيل، والقرآن هو الذي أنزله الله تعالى على محمد.
قوله تعالى: * (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) اعلم أن كم للتكثير، ورب للتقليل، ويقال: ربما للتشديد، وربما بالتخفيف، وربتما بالتاء بمعنى واحد. قال الشاعر:
(ماوي يا ربتما غارة
* شعواء كاللذعة بالميسم)
وقد فصل بعضهم بين رب وربما، قال: رب تدخل على الاسم، وربما على الفعل، فقال: رب رجل جاءني، ويقال: ربما جاءني.
واختلف القول في الحال الذي يتمنى الكفار هذا، - والود هو التمني - [فالقول] الأول: أنه في حال المعاينة، وهذا قول الضحاك.
والقول الثاني: أنه يوم القيامة، والقول الثالث - وهو الأشهر -: أنه حين يخرج
128

* (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون (3) وما أهلكنا من قرية) * * الله المؤمنين من النار. وفي الأخبار المسندة برواية أبي موسى الأشعري عن النبي قال: ' يدخل الله قوما - من أهل القبلة النار مع الكفار فيمكثون فيها ما شاء الله؛ فيقول الكفار لهم: أنتم مسلمون، فيقولون: نعم، فيقول الكفار: ما أغنى عنكم إسلامكم شيئا، وأنتم معنا في النار، فيقولون: نحن أذنبنا ذنوبا فأخذنا بها، فيسمع الله تعالى ذلك كله، فيقول: أخرجوا من النار من كان مسلما - وفي رواية: من قال لا إله إلا الله - فيخرجون، فحينئذ يتمنى الكفار لو كانوا مسلمين '. وفي بعض الروايات: ' أن الكفار إذا قالوا للمسلمين هذه المقالة؛ يغضب الله تعالى لقولهم، فيقول: أخرجوا...، على ما بينا.
فإن قال قائل: إذا كانت ربما للتقليل، فكيف يقل تمنيهم هذا، ونحن نعلم حقيقة أن كلهم يتمنون هذا، وأن هذا التمني منهم يكثر؟
والجواب: أن العرب قد تذكر هذا اللفظ وتريد به التكثير، يقول القائل لغيره: ربما تندم على هذا الفعل، وهو يعلم أنه يكثر منه الندم عليه، ويكون المعنى: إنك لو ندمت قليلا لكان القليل من الندامة يكفيك للاجتناب عنه، فكيف الكثير؟!.
والجواب الثاني: أن شغلهم بالعذاب لا يفرغهم للندامة، وفي بعض الآحايين ربما يقع لهم هذا الندم، ويخطر ببالهم.
قوله تعالى: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) الآية. هذا تهديد ووعيد، والأكل معلوم، وأما التمتع هو التلذذ بطلبه حالا بعد حال (كالتعرب) هو طلبه حالا بعد حال. قوله: * (ويلههم الأمل) أي: يشغلهم الأمل عن الآخرة.
129

* (إلا ولها كتاب معلوم (4) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون (5) وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6) لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين (7) ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (8) إنا نحن نزلنا الذكر) * *
قوله: * (فسوف يعلمون) تهديد آخر، وقد قال بعض أهل العلم: ' ذرهم ' تهديد. وقوله: * (فسوف يعلمون) تهديد آخر، فمتى يهنأ العيش بين تهديدين؟.
قوله تعالى: * (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) أي: أجل مضروب لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه. وقوله: * (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) معناه: أن العذاب المضروب لا يتقدم على وقته، ولا يتأخر عن وقته، وقيل: هذا في الموت أنه لا يتقدم ولا يتأخر عن وقته.
قوله تعالى: * (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) الذكر هو القرآن. وقوله: * (إنك لمجنون) خطابهم مع النبي.
وقوله ' * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) إنما قالوه على طريق الاستهزاء؛ لأنهم لو قالوا ذلك على طريق التحقيق لآمنوا به.
قوله تعالى: * (لو ما تأتينا بالملائكة) أي: هلا تأتينا بالملائكة، قال الشاعر:
(تعدون (قعر) النيب أفضل مجدكم
* بنى (طوطبري) لولا الكمي المقنعا)
أي: هلا تعدون الكمي المقنعا.
وقوله: * (إن كنت من الصادقين) معناه: أنك نبي.
قوله تعالى: * (ما ننزل الملائكة إلا بالحق) الحق الذي تنزل به الملائكة هو الوحي، وقبض [أرواح] العباد، وإهلاك الكفار، وكتبة الأعمال، وما أشبه ذلك.
وقوله: * (وما كانوا إذا منظرين) أي: مؤخرين، وقد كان الكفار يطلبون إنزال
130

* (وإنا له لحافظون (9) ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين (10) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون (11) كذلك نسلكه في قلوب المجرمين (12) لا) * * الملائكة عيانا، فأجابهم الله تعالى بهذا، ومعناه: أنهم لو نزلوا عيانا زال الإمهال عن الكفار وعذبوا في الحال.
قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر) يعني: القرآن * (وإنا له لحافظون) فيه قولان: أحدهما: أنا نحفظ محمدا، والآخر: أنا نحفظ القرآن، وهو الأليق بظاهر اللفظ، ومعنى حفظ القرآن أنه يمنع من الزيادة فيه أو النقصان عنه، قال الله تعالى * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) والباطل هو إبليس، ومعناه: أن إبليس لا يقدر أن يزيد فيه ما ليس منه، ولا أن ينقص عنه ما هو منه.
قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين) الشيعة: هم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم، ومعناه هاهنا: في أمم الأولين.
وقوله: * (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) هذا تسلية للنبي، ومعناه: أنهم كما استهزءوا بك فقد استهزىء بالأنبياء من قبلك.
وقوله تعالى: * (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) قال الحسن: كذلك نسلك الشرك في قلوب المجرمين، ونسلك، أي: ندخل، وقال مجاهد: نسلك التكذيب، ومعنى كاف التشبيه، أي: كما فعلنا بالكفار من قبل هؤلاء، كذلك نفعل بهؤلاء الكفار. وقد قال بعضهم: إن معنى قوله: * (كذلك نسلكه) أي: نسلك القرآن، ومعناه: أنه لما أعطاهم ما يفهمون به القرآن، فكأنه سلك القرآن في قلوبهم. والمنقول عن السلف هو القول الأول، وهو رد على القدرية صريحا.
وقوله: * (لا يؤمنون به) يعني بالنبي والقرآن. * (وقد خلت سنة الأولين) أي: مضت سنة الأولين، وسنة الأولين: هو الإهلاك عند تكذيب الأنبياء.
131

* (يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين (12) ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15) ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين (16) وحفظناها من كل شيطان رجيم (17) إلا من) * *
قوله تعالى: * (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء) ظاهر المعنى. وقوله: * (فظلوا فيه يعرجون) يقال: ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا، وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا.
وقوله: * (يعرجون) يصعدون، يقال: عرج يعرج إذا صعد، وعرج يعرج إذا صار أعرج، واختلف القول في المعنى بقوله: * (فظلوا) الأكثرون على أنهم الملائكة، والقول الآخر أنهم المشركون. وقوله: * (لقالوا إنما سكرت أبصارنا) قرىء بقراءتين ' سكرت ' ' سكرت ' مخفف، فمعنى التخفيف أي: سحرت، ومعنى التشديد أي: سدت وأخذت، وقيل: عميت، قال عمرو بن العلاء: هو مأخوذ من السكر، يعني: كما أن السكر يغطي على عقولنا، كذلك هذا غطي على أبصارنا. وقوله: * (بل نحن قوم مسحورون) أي: مخدوعون، وقيل معناه: عمل فينا السحر.
قوله تعالى: * (ولقد جعلنا في السماء بروجا) البروج: هي النجوم الكبار، وهو مأخوذ من الظهور، يقال: تبرجت المرأة إذا ظهرت. ويقال: إنها المنازل، ويقال: إنها البروج الإثنا عشر، ويقال: إنها السبع السيارة، وعن عطية العوفي: أنها قصور في السماء عليها الحرس. قوله: * (وزيناها للناظرين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) ذكر الكلبي أن السماوات لم تكن محفوظة من الشياطين قبل عيسى، فلما بعث عيسى - عليه السلام - حفظت ثلاثة من السماوات، فلما بعث محمد حفظت السماوات كلها. وقوله: * (رجيم) أي: مرجوم، وقيل: أي: ملعون، وقيل: شتيم.
وقوله تعالى: * (إلا من استرق السمع) في الأخبار: أن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا، ويسترقون السمع من الملائكة؛ فترجمهم الكواكب فتقتل
132

* (استرق السمع فأتبعه شهاب مبين (18) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها) * * البعض وتخبل البعض '. واختلف القول في أنهم متى يسترقون السمع؟ فأحد القولين: أنهم يسترقون السمع من الملائكة في السماء، والقول الآخر: أنهم يسترقون السمع من الملائكة في الهواء. وأما معرفة ملائكة السماء بالأمر فباستخبارهم ملائكة أهل السماء الثانية، هكذا يستخبر أهل كل سماء من أهل السماء [التي] فوقهم، حتى يصلوا إلى حملة العرش فيخبرون بما قضاه الله تعالى من الأمر، ويرجع الخبر من سماء إلى سماء حتى يصل إلى السماء الدنيا، ثم الشياطين يسترقون على ما قلنا من قبل.
وقوله: * (فأتبعه شهاب مبين) الشهاب هو الشعلة من النار، فإن قال قائل: نحن لا نرى نارا، وإنما نرى نورا أو نجما ينقض.
والجواب: أنه يحتمل أنه ينقض نورا، فإذا وصل إليه صار نارا، أو يحتمل أنه يرى من بعد المكان أنه نجم وهو نار، وقيل: إن النجم ينقض فيرمي الشيطان ثم يعود إلى مكانه. واعلم أن هذا لم يكن ظاهرا في زمن الأنبياء قبل الرسول، ولم يذكره شاعر من العرب قبل زمان النبي، وإنما روي هذا في ابتداء أمر النبي، وكان ذلك أساسا لنبوته، وإنما ذكر الشعراء ذلك في زمانه، قال الشاعر:
(كأنه كوكب في إثر عفرية
* مسوم في سواد الليل منقضب)
قوله تعالى: * (والأرض مددناها) معناه: بسطناها، ويقال: إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها، دحيت من تحت الكعبة.
وقوله: * (وألقينا فيها رواسي) أي: جبالا ثوابت، وقد كانت الأرض تميل إلى أن أرساها الله بالجبال.
133

* (من كل شيء موزون (19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين (20) وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (21) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا) * *
وقوله: * (وأنبتنا فيها من كل شيء موزون) أي: معلوم، ويقال: من كل شيء موزون معناه: من الحديد والرصاص والنحاس والذهب والفضة وكل ما يوزن.
وقوله: * (وجعلنا لكم فيها معايش) قيل: إنها المطاعم والمشارب والملابس، وقيل: إنها ما يعش به المرء في الدنيا، قال جرير شعرا:
(تطالبني معيشة آل زيد
* ومن لي (بالمرقق والصناب))
الضباب من الآجار، وغير ذلك من (اللوامخ) * (ومن لستم له برازقين) معناه: جعلنا فيها معايش لكم، وجعلنا فيها من لستم (فيها) برازقين، وهي الدواب والطيور والوحوش. وفي الآية قول آخر: وهو أنا جعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم أيضا الدواب والطيور والأنعام، وكفيناكم رزقها، فإن قال قائل: قد قال: ' ومن لستم له برازقين '، و ' من ' إنما تقال فيمن يعقل لا فيمن لا يعقل؟.
والجواب عنه: أن العبيد والمماليك قد دخلوا في هؤلاء، والعرب إذا جمعت بين من يعقل وبين من لا يعقل غلبت من يعقل.
قوله تعالى: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) يعني: مفاتيح خزائنه، وقيل: إنها نفس الخزائن، ومعنى الخزائن أنه إذا قال: كن كان.
قوله: * (وما ننزله إلا بقدر معلوم) أي: إلا بقدر معلوم في وقت معلوم، ويقال: إنه لا تنزل قطرة من السماء إلا ومعها ملك يسوقها حيث يريد الله، والله أعلم.
134

* (من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين (22) وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن) * *
قوله تعالى: * (وأرسلنا الرياح لواقح) قال أبو عبيدة: ملاقح واحدتها ملقحة، وقال غيره: هي لواقح واحدها لاقح، ومعنى اللاقح أنها تحمل الماء، ومعنى الملقح
أنها تمر على السحاب والأرض فتلقحه، وإلقاح السحاب هو أن يلقي إلى السحاب ما يحمل به الماء، وقيل: إنها تلقح الأشجار أيضا.
وقال ابن مسعود: إن الريح تحمل الماء فتجريه السحاب؛ فتدر السحاب، كما تدر اللقحة، وعن عبيد بن عمير أنه قال: تجىء الريح المبشرة فتقم الأرض قما، ثم تجىء الريح المنشأة فتنشىء السحاب نشئا، ثم تجيء الريح المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض، ثم تجيء الريح اللاقحة فتلقح السحاب. (وفى): أن لقح الرياح؛ الجنوب.
وفي بعض الآثار: ' ما هبت ريح الجنوب إلا وأنبعت عينا غرقة غدقة '، وأما الريح العقيم هي التي لا تلقح وتأتي بالعذاب.
وقوله: * (وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه) يعني: أعطينا لكم بها سقيا، يقال: أسقى فلانا إذا جعل له سقيا، وسقى فلانا إذا أعطاه ما يشرب.
وقوله: * (وما أنتم له بخازنين) يعني: أنه في خزائننا، وليس في خزائنكم، وقيل: وما أنتم له بمانعين ولا دافعين (أي: أردتموه).
قوله تعالى: * (وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون) ظاهر المعنى. وقوله: والوارث في صفات الله أنه الباقي بعد هلاك الخلق أجمعين، وقيل معناه: أن مصير
135

* (الوارثون (23) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم (25) ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون) * * الخلق إليه.
قوله تعالى: * (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) قال الشعبي: معناه: ولقد علمنا الأولين منكم والآخرين، ويقال معناه: علمنا المتقدمين منكم بالطاعة، والمتأخرين منكم بالمعصية، وقيل: علمنا من خلقنا منكم ومن سنخلقه من بعد. وعن الربيع بن أنس ' أن النبي حض الناس على الجماعة فتقدم بعضهم، وتأخر البعض لكثرة الجمع؛ فأنزل الله تعالى: * (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) '.
ويقال معناه: ولقد علمنا المستقدمين منكم في حق القتال، وعلمنا المستأخرين عنه. وفي الآية خبر مسند برواية أبي الجوزاء عن ابن عباس: ' أن امرأة كانت تحضر الجماعة، وهي من أحسن النساء وجها، فكان قوم يتقدمون لئلا يرونها، وقوم يتأخرون. فإذا ركعوا نظروا إليها من تحت آباطهم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية '. أورده أبو عيسى الترمذي في جامعه.
قوله تعالى: * (وإن ربك هو يحشرهم) يعني: يحشرهم إلى القيامة. وقوله: * (إنه حكيم عليم) أي: حكيم في تدبيره، عليم بخلقه.
قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون) الصلصال هو
136

(* (26) والجان خلقناه من قبل من نار السموم (27) وإذ قال ربك للملائكة إني خالق) * * الطين اليابس الذي إذا حرك صلصل أي: صوت، قال الشاعر:
(وقاع ترى الصلصال فيه ودونه
* بقاع تلال بالعرى والمناكب)
ويقال: الصلصال المنتن، يقال: صل اللحم إذا أنتن، وذكر الكلبي عن ابن عباس: أن الصلصال هو الطين الرطب، ويقال: إذا جرى الماء على الأرض الطينة، ثم انحسر الماء وتشققت الأرض حتى يرى مثل الخزف، فهو صلصال.
وقوله: * (من حمأ مسنون) الحمأ: الحمأة، وهي الطين الأسود، والمسنون: المتغير المنتن، كذلك قاله مجاهد. وقال بعضهم: المسنون المصبوب، وهذا يشبه القول الذي بينا أن الصلصال هو الطين الرطب، وفي الآثار: أن الحسن كان يسن الماء على وجهه سنا، أي: يصب.
وفي الآية قول ثالث: وهو أن المسنون هو المصبوب على قالب وصورة، وفي بعض (التفاسير): أن الله تعالى خمر طينة آدم، وتركه حتى صار متغيرا أسود منتنا، ثم خلق آدم منها.
قوله: * (والجآن خلقناه من قبل من نار السموم) يقال: الجآن هو إبليس، ويقال: الجآن أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر، وأما إبليس هو أبو الشياطين، وفي الجن مؤمنون وكافرون، ويحيون ويموتون.
وأما الشياطين فليس فيهم مسلم، ويموتون إذا مات إبليس، وذكر وهب بن منبه: أن من الجن من يولد لهم، ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين، ومن الجن من هم بمنزلة الريح لا يتوالدون، ولا يأكلون، ولا يشربون، والله أعلم.
وقوله: * (من نار السموم) أي: من الريح الحارة، والسموم: ريح حارة تدخل في مسام الإنسان فتقتله، ويقال: إن السموم بالنهار والحرور بالليل، ويقال: إن السموم
137

* (بشرا من صلصال من حمأ مسنون (28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (30) إلا إبليس أبى أن يكون مع) * * بالليل والنهار جميعا، وقيل: نار السموم لهيب النار.
وفي بعض الآثار عن عبد الله بن مسعود: أن هذا السموم الذي نراه جزء من سبعين جزءا من سموم جهنم. ويقال: من نار السموم أي: من نار جهنم.
قوله تعالى: * (وإذا قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون) قد ذكرنا. قوله تعالى: * (فإذا سويته) أي: صورته. وقوله: * (ونفخت فيه من روحي) الروح: جسم لطيف يحيا به الإنسان، [وأضافها] إلى نفسه تشريفا وتكريما.
وقوله: * (فقعوا له ساجدين) أي: أسقطوا له ساجدين.
قوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) في بعض التفاسير: أنه قال لجماعة من الملائكة: اسجدوا لآدم فلم يفعلوا؛ فجاءت نار وأحرقتهم جميعا، ثم قال لجماعة آخرين: اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس.
وقوله: * (كلهم أجمعون) فيه سؤال معروف، وهو أنه يقال: لما قال * (فسجد الملائكة)؟ فأيش فائدة قوله: * (كلهم أجمعون)؟.
والجواب: أن الخليل وسيبويه زعما أن هذا تأكيدا بعد تأكيد، (وذكر) المبرد أن قوله: * (فسجد الملائكة) كان من المحتمل أن بعضهم سجد؛ فذكر كلهم ليزيل هذا الإشكال، ثم كان يحتمل أنهم سجدوا في أوقات مختلفة؛ فذكر أجمعون ليزيل الالتباس.
وقوله: * (إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين) ظاهر المعنى. قوله تعالى:
138

* (الساجدين (31) قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين (32) قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون (33) قال فأخرج منها فإنك رجيم (34) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين (35) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (36)) * * (قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين) معناه: لم لم تسجد وقد أمرتك؟ قوله: * (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون) معناه: أني أفضل منه؛ لأنه طيني، وأنا ناري، والنار تأكل الطين.
وفي بعض الآثار: ' أن الله تعالى خلق الملائكة من نور العزة، وخلق الجآن من النار، وخلق آدم من التراب '.
فإن قال: إذا كان عندكم أن إبليس من الملائكة، وقد خلقوا من النور، فكيف قال إبليس خلقتني من نار؟
الجواب عنه: أن إبليس كان من قبيلة من الملائكة خلقوا من النار، وقد ذكرنا في سورة البقرة.
قوله: * (قال فأخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) ظاهر المعنى، ويقال: إن إبليس ملعون السماء والأرض، وإن أهل السماء يلعنونه، كما أن أهل الأرض يلعنونه.
قوله تعالى: * (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون) أي: فأمهلني إلى يوم البعث، وأراد الملعون ألا يموت؛ فأجابه الله تعالى وقال: * (إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) أي: الوقت الذي يموت فيه الخلائق، ويقال: إن مدة موت إبليس أربعون سنة، وهو ما بين النفختين. وقال أهل المعاني: إن إبليس لما سأل الإمهال لم تكن إجابة الله إياه كرامة له، بل كانت زيادة له في شقائه وبلائه.
139

* (قال فإنك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم (38) قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين (40) قال هذا صراط علي مستقيم (41) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من) * *
قوله تعالى: * (قال رب بما أغويتني) الأكثرون على أن معناه: بما أضللتني، وقيل: بما خيبتني من رحمتك، وقيل: بما أهلكتني، ويقال: بما نسبتني إلى الغواية، وهو تأويل باطل عند أهل السنة.
وقوله: * (لأزينن لهم في الأرض) معناه: لأزينن لهم حب الدنيا والغواية. وقوله: * (ولأغوينهم أجمعين) أي: لأضلنهم أجمعين، والمراد من إغواء إبليس تسببه إلى الغواية.
قوله تعالى: * (إلا عبادك منهم المخلصين) والمخلصين: ظاهر المعنى، وقد بينا من قبل.
قوله تعالى: * (قال هذا صراط علي مستقيم) أكثر أهل المعاني على أن الآية للتهديد والوعيد، كالرجل يقول لغيره: طريقك علي، مسيرك إلي، أي: لا تفلت مني. وهذا في معنى قوله تعالى: * (إن ربك لبالمرصاد) أي: على طريق الخلق.
والقول الثاني في الآية: أن معنى قوله: * (هذا صراط علي) أي: إلي.
وقوله * (مستقيم) أي: بأمري وإرادتي.
والقول الثالث: صراط علي مستقيم أي: علي استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية، وقرأ الحسن وابن سيرين: ' هذا صراط علي مستقيم ' أي: رفيع، وعبروا عنه: رفيع من أن ينال، مستقيم من أن يمال، وقال الشاعر في الصراط بمعنى الطريق:
(أمير المؤمنين على صراط
* إذا اعوج الموارد مستقيم)
قوله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) هذا تحقيق لقوله تعالى فيما سبق: * (إلا عبادك منهم المخلصين).
140

* (الغاوين (42) وإن جهنم لموعدهم أجمعين (43) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (44) إن المتقين في جنات وعيون (45) ادخلوها بسلام آمنين (46)) * *
قوله تعالى: * (وإن جهنم لموعدهم أجمعين) يعني: موعد إبليس ومن تبعه للخلود فيها.
قوله تعالى: * (لها سبعة أبواب) روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: سبعة أبواب بعضها فوق بعض، وقال ابن جريج: النار سبعة دركات: أولاها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية.
وقوله: * (لكل باب منهم جزء مقسوم) أي: لكل دركة قوم يسكنونها بقدر ذنوبهم. وفي بعض الآثار: أن في الدركة الأولى [المسلمين] - يعني: الذين أدخلوا النار
بقدر ذنوبهم ثم يخرجون منها - وفي الثانية النصارى، وفي الثالثة اليهود، وفي الرابعة [الصابئين]، وفي الخامسة المجوس، وفي السادسة أهل الشرك، وفي السابعة [المنافقين].
قوله تعالى: * (إن المتقين في جنات وعيون) أي: في بساتين وأنهار.
قوله: * (ادخلوها بسلام أمنين) يعني: يقال لهم: ادخلوها بسلام آمنين، والسلام هو السلامة، والأمن من الموت والخروج.
قوله تعالى: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) في الأخبار المسندة عن النبي قال: ' يحبس المؤمنون على قنطرة بين النار والجنة فيقتص لبعضهم من بعض، حتى إذا هذبوا ونقوا، وخرج الغل من قلوبهم، أمر بهم إلى الجنة '. وأما الغل فقد قيل: إنه الشحناء والعداوة، وقيل: إنه الحقد والحسد والخيانة، قال الشاعر:
(جزى الله عنا جمرة ابنة نوفل
* جزاء مغل بالأمانة كاذب)
141

* (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين (47) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين (48) نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم (49) وأن عذابي هو) * * أي: خائن. وفي بعض الآثار: أن أهل الجنة يصلون إلى باب الجنة والغل في صدورهم، فإذا دخلوا يذهب الغل كله عن صدورهم. ومن المعروف عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: إني أرجو أن أكون وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين).
وقوله: * (على سرر متقابلين) أي: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وفي بعض الأخبار عن النبي: ' أن المؤمن في الجنة إذا ود أن يلقاه أخاه المؤمن سار سرير كل واحد منهما إلى صاحبه، ويلتقيان ويتحدثان، ثم ينصرف كل واحد منهما إلى منزله '.
قوله تعالى: * (لا يمسهم فيها نصب) أي: تعب. قوله: * (وما هم منها بمخرجين) هذا أنص آية في القرآن على الخلود؛ هكذا قال أهل العلم.
قوله تعالى: * (نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم) روي أن النبي خرج على الصحابة، وهم يضحكون، فقال لهم: ' أتضحكون، وبين أيديكم النار؛ فجاء جبريل بهذه الآية وقال: يقول لك ربك: يا محمد، لم تقنط عبادي؟ '
142

* (العذاب الأليم (50) ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون (52) قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم (53) قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون (54) قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين) * *
وقوله: * (أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) ظاهر المعنى. وروى أبو هريرة عن النبي أنه قال: ' لو يعلم المؤمن ما عند الله من الرحمة ما تورع عن ذنب، ولو يعلم الكافر ما عند الله من العقوبة لنخع نفسه '. وأورد مسلم في صحيحه ما هو قريب من هذا.
قوله تعالى: * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) قيل معناه: عن أضياف إبراهيم، وقد بينا عدد الملائكة الذين كانوا أضيافه. وقوله: * (إذا دخلوا عليه فقالوا سلاما) أي: سلموا سلاما.
وقوله: * (قال إنا منكم وجلون) وسبب وجل إبراهيم منهم؛ أنه قرب إليهم الطعام فلم يأكلوه، وقد كانوا إذا لم يأكل الضيف استرابوا به. * (قالوا لا توجل) أي: لا تخف، قال الشاعر:
(لعمرك لا أدري وإني لأوجل
* على أينا تعدو المنية أول)
وقوله: * (إنا نبشرك بغلام عليم) معناه: غلام في صغره، عليم في كبره، وهو إسحاق. وقوله تعالى: * (قال أبشرتموني) الأصل: أبشرتمونني؛ فأسقط إحدى النونين واكتفى بالكسرة. وقوله: * (على أن مسني الكبر) يعني: على حال الكبر، وهذا على طريق التعجب، وكذلك قوله: * (فبم تبشرون) على طريق التعجب، وليس على طريق الشك والإنكار.
قوله تعالى: * (قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القاطنين) الحق: وضع الشيء في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة، والقنوط هو اليأس، ومعنى الحق هاهنا هو الصدق.
143

(* (55) قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون (56) قال فما خطبكم أيها المرسلون (57) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (58) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين (59) إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين (60) فلما جاء آل لوط المرسلون (61) قال إنكم قوم منكرون (62) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون (63) وأتيناك بالحق وإنا) * *
قوله تعالى: * (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) يعني: إلا الكافرون، والقنوط من رحمة الله كبيرة من الكبائر كالأمن من مكر الله.
قوله تعالى: * (قال فما خطبكم أيها المرسلون) قد ذكرنا معناه في سورة هود. قوله تعالى: * (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) أراد به قوم لوط. وقوله: * (إلا آل لوط) المراد منه لوط وبناته ومن آمن به، وقد ذكرنا. وقوله: * (إنا لمنجوهم أجمعين) هذا استثناء من الاستثناء، فالاستثناء الأول من المهلكين، والثاني من المنجين، فبقي المستثنى بالاستثناء الثاني في المهلكين وهو امرأته، وهذا مثل ما يقول الرجل لك: على عشرة إلا أربعة إلا ثلاثة، فالمستثنى بالاستثناء الثاني (بقي) في المقر به بالإقرار الأول، فيصير كأنه استثنى درهما، ويجب تسعة دراهم.
وقوله: * (قدرنا) أي: حكمنا. وقوله: * (إنها لمن الغابرين) أي: من الباقين في العذاب، قال الشاعر:
(لا تكسع الشول بأغبارها
* إنك لا تدري من الناتج)
أي: ببقاياها، وفي الأحاديث: ' يذهب أهل العلم وتبقى غبرات في أوعية سوء ' أي: بقايا.
قوله تعالى: * (فلما جاء آل لوط المرسلون) ظاهر المعنى. قوله تعالى: * (قال إنكم قوم منكرون) لأنه لم يعرفهم. قوله تعالى: * (قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون) أي: يشكون، وفي القصة: أن لوطا كان يتوعدهم بالعذاب، فلا يصدقونه فهو في معنى قوله: * (بما كانوا فيه يمترون).
144

* (لصادقون (64) فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون (65) وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (66) وجاء أهل المدينة يستبشرون (67) قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون (68) واتقوا الله ولا تخزون (69) قالوا أولم ننهك عن العالمين (70) قال هؤلاء بناتي إن) * *
وقوله: * (وآتيناك بالحق وإنا لصادقون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فأسر بأهلك) سرى وأسرى بمعنى واحد. وقوله: * (بقطع من الليل) أي: بقطعة من الليل. وقوله: * (واتبع أدبارهم) هذا دليل على أن الله تعالى أمره أن يقدم أهله، ثم يمضي في إثرهم.
وقوله: * (ولا يلتفت منكم أحد) أمرهم بترك الالتفات حتى لا يرتاعوا من العذاب إذا نزل بقومهم، وقيل: إن الله تعالى جعل ذلك علامة لمن ينجو من آل لوط، فإن المرأة التفتت لما سمعت الهدة فهلكت.
وقوله: * (وامضوا حيث تؤمرون) يقال: أمروا أن يمضوا إلى ' زغر '، وهي بلدة بالشام، وقيل: إلى أرض الأردن وفلسطين.
قوله تعالى: * (وقضينا إليه ذلك الأمر) قد ذكرنا أن القضاء بمعنى الفراغ ومعناه: أنا حكمنا وأبرمنا الأمر الذي أمرناه في قوم لوط. وقوله: * (أن دابر هؤلاء) أي: أصل هؤلاء، وقيل: آخر هؤلاء * (مقطوع مصبحين) يعني: حين يدخلون في الصبح.
قوله تعالى: * (وجاء أهل المدينة يستبشرون) يعني: يبشر بعضهم بعضا لما يرجون من ارتكاب الفاحشة.
قوله تعالى: * (قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون) الفضيحة: فعل يفعل بالمرء يلزمه به العار (والأنفة) * (فاتقوا الله ولا تخزون) فالخزي بمعنى الفضيحة.
قوله تعالى: * (قالوا أولم ننهك عن العالمين) معناه: أولم ننهك أن تضيف
145

* (كنتم فاعلين (71) لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72) فأخذتهم الصيحة مشرقين (73) فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل (74) إن في ذلك لآيات) * * أحدا، وقيل: أولم ننهك عن العالمين، يعني: إدخال الغرباء في المدينة، فإنك إن أدخلتهم (نركب منهم) الفاحشة. * (قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين) قد بينا.
وقوله: * (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) قال ابن عباس: وعيشك، وقيل: وحياتك. وعن ابن عباس أنه قال: ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد، فإن الله تعالى لم يقسم بحياة أحد إلا بحياة محمد. وقوله: * (لفي سكرتهم يعمهون) أي: في ضلالتهم يترددون.
قوله تعالى: * (فأخذتهم الصيحة مشرقين) يقال: أشرقت الشمس إذا طلعت، فإن قيل: قد قال قبل هذا: * (مصبحين)، وقال هاهنا: * (مشرقين) فكيف وجه الجمع؟
الجواب من وجهين: أحدهما: أن ابتداء العذاب كان من الصبح، وتمامه عند الإشراق.
والجواب الثاني: أن الإشراق هاهنا بمعنى الإصباح، وهو جائز في كلام العرب.
وقوله: * (فجعلنا عاليها سافلها) قد بينا.
وقوله: * (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) قد بينا.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) أي: للناظرين المعتبرين.
وقيل للمتفرسين، وهم الذين يعلمون الناس [بسيماهم] على ما يريهم الله منها.
146

* (للمتوسمين (75) وإنها لبسبيل مقيم (76) إن في ذلك لآية للمؤمنين (77) وإن كان) * * وقد روي عن النبي: ' اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ' رواه عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي، ذكره أبو عيسى الترمذي في جامعه.
وروى ثابت عن أنس عن النبي أنه قال: ' من أمتي قوم يعلمون الناس بالتوسم '
وقوله: * (وإنها لبسبيل مقيم) أي: بطريق واضح لا يخفى ولا يندرس، وسماه مقيما لثبوت الآيات فيه، وقد كانوا يمرون عليها عند مضيهم إلى الشام ورجوعهم. وقوله: * (إن في ذلك لآية للمؤمنين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين) قال أهل المعاني: ' إن ' للتأكيد، وكذا اللام في قوله * (لظالمين) ومعنى الآية: وقد كان أصحاب الأيكة ظالمين
. والأيكة هي الغيضة، وقيل: هي الشجر الملتف، وقال قتادة: كان شجرهم دوما، وقال بعضهم: كانت أشجارهم مثمرة يأكلون منها رطبا بالصيف ويابسا بالشتاء، وقد قال في موضع آخر: * (ليكة) فيه قولان: أحدهما: أن الأيكة وليكة بمعنى واحد.
والآخر: أن الأيكة اسم البلاد، وليكة اسم القرية، قال أهل التفسير: وكان رسولهم شعيب النبي، وبعث إلى أهل مدين وإلى أهل الأيكة، فأما أهل مدين
147

* (أصحاب الأيكة لظالمين (78) فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين (79) ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين (80) وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين (81) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين (82) فأخذتهم الصيحة مصبحين (83) فما أغنى عنهم) * * أهلكوا بالصيحة، وأما أهل الأيكة فأهلكوا بعذاب [الظلة].
وفي القصة: أنه أصابهم حر شديد في منازلهم، ومنع الله تعالى الريح عنهم، وشدد الحر عليهم، وكانوا كذلك أياما، ثم اضطرم عليهم الوادي نارا فهلكوا أجمعين. ويقال: إنهم هلكوا غما؛ وهذا معنى قوله: * (فانتقمنا منهم).
وقوله: * (وإنهما لبإمام مبين) أي: بطريق واضح، وسمى الطريق إماما؛ لأنه يؤتم به وتبع، والكناية في قوله: * (وإنهما) تنصرف إلى قرية قوم لوط وقرية أصحاب الأيكة، وهذه البلاد بين الحجاز والشام، وقد كانت قريش يمرون عليها في أسفارهم.
قوله تعالى: * (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين) ' الحجر ': ديار ثمود. وقوله: * (المرسلين) المراد به صالح - عليه السلام - وقوله: * (وآتيناهم آياتنا) قال ابن عباس: الآيات في الناقة: خروجها من الصخرة، وكبرها وقرب ولادتها وغزارة لبنها، فقد كانوا يحلبونها ما يكفيهم يوما. وقوله: * (فكانوا عنها معرضين) ظاهر المعنى.
قوله: * (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين) أي: آمنين من الوقوع عليهم، وقيل: (عليهم) آمنين من الخراب، وقيل: آمنين من العذاب.
وقوله: * (فأخذتهم الصيحة مصبحين) أي: حين دخلوا في الصبح.
وقوله: * (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) أي: ما دفع عنهم ما كانوا يكسبون.
148

* (ما كانوا يكسبون (84) وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل (85) إن ربك هو الخلاق العليم (86) ولقد آتيناك سبعا) * *
قوله تعالى: * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) أي: لإظهار الحق، ووجه اتصال هذا بما قبله في المعنى أنهم لما كذبوا بالحق أهلكناهم؛ لأنا ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وقيل: معنى الحق هو جزاء المحسن بإحسانه، وجزاء المسيىء بإساءته.
قوله تعالى: * (وإن الساعة لآتية) أي: فيظهر الجزاء بالإحسان والإساءة.
وقوله: * (فاصفح الصفح الجميل) أي: أعرض عنهم من غير جزع ولا شكوى.
قال ابن عباس: هذا قبل نزول آية السيف، ثم نسخ بآية السيف. وقوله: * (إن ربك هو الخلاق العليم) يعني: الخالق العليم بخلقه.
قوله تعالى: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) اختلف القول في هذا، فروي عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود - في إحدى الروايتين - ومجاهد وقتادة أنهم قالوا: هي فاتحة الكتاب، وقد ثبت هذا عن النبي برواية آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن النبي قال: ' الحمد لله: أم الكتاب، والسبع المثاني، والقرآن العظيم '.
قال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام أبو المظفر: أخبرناه المكي بن عبد الرزاق الكشميهني قال: أنا جدي أبو الهيثم محمد بن المكي، قال: أنا الفربري، قال: أنا محمد بن إسماعيل البخاري عن آدم بن أبي إياس... ' الخبر.
وقد اختلفوا في بسم الله الرحمن الرحيم، فقال علي وابن عباس: إنها الآية السابعة، وقال أبو هريرة ومجاهد وقتادة: إنها ليست بآية منها، والآية السابعة قوله: * (صراط الذين أنعمت عليهم).
وروى أبي بن كعب أن النبي قال: ' أنزلت علي سورة ما أنزلت في التوراة
149

والإنجيل مثلها، وهي أم القرآن، والسبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته ' ذكره أبو عيسى الترمذي في جامعه.
والقول الثاني في الآية: أن السبع المثاني هي السبع (الطول) وواحدة الطول طولى، وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس وهذا هو المنقول، وهو قول عبد الله بن عباس - في رواية سعيد بن جبير - وهو قول الحسن البصري وجماعة من التابعين.
وفي الآية قول ثالث: وهو أن السبع المثاني: الأمر، والنهي، والبشارة، والنذارة، وضرب الأمثال، وتعداد النعم، وأنباء القرون السالفة.
وأما معنى المثاني: فإذا حملنا الآية على الفاتحة، فمعناه: أنها تثنى في كل ركعة، وقيل: لأن فيها الثناء على الله تعالى، فهنا تكون ' من ' للتجنيس لا للتبعيض، فهذا مثل قوله تعالى: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) وذكر بعضهم أن معنى الآية: ولقد آتيناك سبعا من القرآن الذي هو مثاني، وسمي القرآن مثاني؛ لأنه تثنى [فيه] الأحكام والقصص والأمثال والعبر؛ فتكون على هذا ' من ' للتبعيض، وأما على القول الذي قلنا أن سبع المثاني هي السبع (الطول) فإنما سماها مثاني؛ لأنه يثني فيها الأخبار والأمثال والعبر والقصص.
وأما قوله: * (والقرآن العظيم) المراد منه سائر القرآن سوى الفاتحة، وفي هذا شرف عظيم للفاتحة؛ لأنه خصها بالذكر والامتنان عليه بها، ثم ذكر سائر القرآن،
وعلى القول الثاني: القرآن العظيم هو السبع (الطول) وغيرها، وخص السبع
150

* (من المثاني والقرآن العظيم (87) لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا) * * (الطول) بالذكر تشريفا لها، قال الشاعر:
(نشدتكم بمنزل الفرقان
* أم الكتاب السبع من المثاني)
((ثنتين) من آي من القرآن
*)
قوله تعالى: * (لا تمدن عينيك إلا ما متعنا به أزواجا منهم) وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما من عليه بالقرآن، نهاه عن الرغبة في الدنيا والنظر إلى زينتها، ومزاحمة أهلها عليها، وروى أبو عبيد أن سفيان بن عيينة قال في معنى قوله: ' ليس منا من لم يتغن بالقرآن ' أي: لم يستغن بالقرآن، ثم تأول هذه الآية * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم، لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) على هذا.
وفي الخبر عن النبي أنه قال: ' من أوتي القرآن فظن أن أحدا أعطى أفضل مما أعطى فقد صغر عظيما وعظم صغيرا '.
وقوله: * (أزواجا منهم) معناه: أصنافا منهم، وهم اليهود والنصارى وسائر المشركين، وقيل: إنهم الأغنياء.
وقوله: * (ولا تحزن عليهم) يعني: لا تغتم على ما فاتك من مشاركتهم في الدنيا،
151

* (تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين (88) وقل إني أنا النذير المبين (89) كما) * * وفي بعض التفاسير عن أبي رافع: ' أن رسول الله أتاه ضيف فلم يك عنده ما يقدمه إليه؛ فبعث إلى يهودي يستقرض منه طعاما إلى هلال رجب، فقال اليهودي: والله لا أعطينه إلا برهن، فقال رسول الله: أنا أمين الله في السماء والأرض، ولو باعني أو أسلفني لقضيته ثم بعت بدرعه فرهنها منه؛ فأنزل الله تعالى: * (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به).
وقوله: * (واخفض جناحك للمؤمنين) أي: ألن جانبك للمؤمنين.
وقوله تعالى: * (وقل إني أنا النذير المبين) للحق.
قوله تعالى: * (كما أنزلنا على المقتسمين) فإن قال قائل: ما معنى الكاف هاهنا، وهي للتشبيه؟ والجواب عنه: أن معناه أنذركم عذابا ينزل بكم، كما أنزلنا على المقتسمين من العذاب، ويقال: إن الكاف صلة، ومعناه: وقل إني أنا النذير المبين ما أنزلنا على المقتسمين.
وأما معنى المقتسمين فيه أقوال: أحدها: أنهم اليهود والنصارى، ومعنى الاقتسام منهم أنهم آمنوا ببعض الكتب وكفروا بالبعض، وهذا قول ابن عباس.
والقول الثاني: أنهم قريش، ومعنى الاقتسام أنهم فرقوا القول في رسول الله فقال بعضهم: هو كاهن، وقال بعضهم: هو ساحر، وبعضهم: هو شاعر.
والقول الثالث: ذكر الفراء أن أهل مكة بعثوا بقوم في طرق الواردين إلى مكة أيام الموسم حتى يقولوا لمن لقيهم من الواردين إلى مكة: لا تقربوا محمدا، وكانوا يسألونهم عن حاله؛ فيقول بعضهم: هو كاهن، ويقول بعضهم: هو مجنون، ويقول
152

* (أنزلنا على المقتسمين (90) الذين جعلوا القرآن عضين (91) فوربك لنسألنهم) * * بعضهم: هو ساحر، وبعضهم يقول: هو شاعر، ومعنى الاقتسام: أنهم اقتسموا طرق مكة، وهذا قول معروف ذكره مجاهد وقتادة وغيرهما.
وقوله: * (الذين جعلوا القرآن عضين) قال أبو عبيدة: عضين مأخوذ من الإعضاء، (وزعم) الفراء: أنه من العضاة. وقال الكسائي: يجوز أن يكون منهما، ومعنى الآية أنهم جعلوا القرآن أبعاضا وأجزاء، فقال بعضهم: إنه أساطير الأولين، وقال بعضهم: إنه كهانة، وما أشبه هذا.
وفي الآية قول آخر: وهو أن معنى قوله: * (عضين) يعني: سموه سحرا، والعضة هي السحر، فتكون العضة والعضين بمعنى واحد، مثل عزة وعزين، قال الشاعر:
(وليس دين الله بالمعضي
*)
أي: بالمتفرق.
قوله تعالى: * (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) روى أنس عن النبي أنه قال: ' هو قول لا إله إلا الله '، وعن أبي العالية الرياحي قال: إن جميع (الخلق) يسألون عن شيئين: عن التوحيد، وعن إجابة المرسلين. وقيل: إن معنى قوله: * (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) يعني: جميع الأعمال التي يعملونها الداخلة تحت التكليف.
قوله تعالى: [* (فاصدع بما تؤمر)] قال القتيبي معناه: اظهر بما تؤمر، وأبن
153

* (أجمعين (92) عما كانوا يعملون (93) فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94) إنا كفيناك المستهزئين (95)) * * غير مراقب لأحد، وقد كان رسول الله مختفيا إلى [أن] أنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره بالظهور، وقال بعضهم: معنى قوله: * (فاصدع بما تؤمر) أي: أفرق بالقرآن بين الحق والباطل، وذكر مجاهد أن معنى قوله: * (فاصدع) أي: اجهر بالقرآن، وقد كان يقرأ (مسرا) خوفا من المشركين؛ فأمره الله تعالى بالجهر وألا يبالي بهم.
والصدع في اللغة مأخوذ من الظهور، ومنه الصديع اسم للصبح، قال الشاعر:
(كأنهن ربابة وكأنه
* يسر يفيض على القداح ويصدع)
قوله تعالى: * (وأعرض عن المشركين) أي: عن جوابهم؛ لأن السفيه لا يسافه معه إلا سفيه.
قوله تعالى: * (إنا كفيناك المستهزئين) قال ابن عباس: المستهزئون خمسة نفر: وهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، وعدي بن قيس، وقد ضم بعضهم إلى هؤلاء الحارث بن الطلاطلة، والحارث بن غيطلة، والمروي عن ابن عباس ما بينا، فروي: ' أن جبريل كان واقفا مع النبي فمر بهما هؤلاء القوم رجلا رجلا، وكان جبريل يقول للنبي: ما قولك في هذا
154

* (الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون (96) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (97) فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (98) واعبد ربك حتى يأتيك) * * الرجل؟ فيقول النبي: بئس عبد الله هذا، فيقول جبريل: كفيناكه فهلكوا، أما الوليد بن المغيرة فمر بسهم فتعلق بردائه فذهب يجلس فقطع أكحله فنزف فمات، وأما العاص بن وائل فمر على شوكة فخدشت ساقه، فتساقط من ذلك لحمه ومات، وأما الأسود بن عبد يغوث فضرب بغصن من شوك على وجهه فسالت حدقتاه ومات، وجعل يقول: استجيبت في دعوة محمد، وأما عدي بين قيس، والأسود بن المطلب، فإن أحدهما قام من الليل فلسعته حية فمات، وأما الآخر فأصابه عطش، فما زال يشرب حتى انشق بطنه وهلك '؛ فهذا هو معنى كفاية المستهزئين.
قوله تعالى: * (الذين يجعلون مع الله إلها آخر) وصفهم بالشرك وعبادة الأوثان. وقوله: * (فسوف يعلمون) تهديد ووعيد.
قوله تعالى: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) فهذا تسلية [للنبي]، قد روي في بعض التفاسير: أن الله تعالى لما أنزل في القرآن سورة العنكبوت وسورة النمل وسورة الذباب وسورة النحل، وكانوا يجتمعون ويقولون
155

* (اليقين (99)) * * استهزاء: يقول هذا إلى سورة النمل، ويقول هذا إلى سورة الذباب، ويقول هذا إلى سورة العنكبوت، ويقول هذا إلى سورة النحل، وما أشبه ذلك؛ فأنزل الله تعالى * (ولقد نعلم أنه يضيق صدرك بما يقولون) وهذا هو الاستهزاء المذكور في الآية المتقدمة.
وقوله: * (فسبح بحمد ربك) والتسبيح: هو الثناء على الله بالتبرئة والتنزيه من العيوب، وقيل: فصل بأمر ربك، وفي رواية عائشة - رضي الله عنها -: ' أن النبي كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة '. وقوله: * (وكن من الساجدين) أي: من المصلين. قوله تعالى: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) أي: الموت.
فإن قال قائل: أما كان يكفي قوله: * (واعبد ربك) فما فائدة قوله: * (حتى يأتيك اليقين)؟.
قلنا: لو اقتصر على قوله: * (واعبد ربك) لكان إذا عبد مرة خرج عن موجب الأمر، فقال: * (حتى يأتيك اليقين) ليدوم عليها إلى أن يموت، وهذه الآية في معنى الآية التي ذكرها من بعد، وهي في مريم، وهي قوله تعالى: * (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا).
156

وفي الأخبار المسندة برواية جبير بن نفير عن النبي أنه قال: ' ما أمرني الله بجمع المال، وأن أكون من التاجرين، ولكن أمرني بالصلاة، وأن أكون من الساجدين، وأن أعبد ربي حتى يأتيني اليقين '.
157

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون (1) ينزل الملائكة بالروح) * *
تفسير سورة النحل
وهي مكية سوى ثلاث آيات من آخرها، وهي قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) إلى آخر السورة، وقيل: إن قوله: * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد فتنوا) الآية مدنية أيضا، وهذه السورة تسمى سورة النعم، وقيل: سورة الآلاء.
قوله تعالى: * (أتى أمر الله) أي: دنا وقرب، كالرجل يقول لغيره: أتاك الخبر، أو أتاك الغوث إذا دنى منه، ويقال: إن معناه سيأتي أمر الله، وهذا مثل ما يقول القائل: إذا أكرمتني أكرمتك أي: أكرمك. واختلفوا في معنى قوله: * (أمر الله) فالأكثرون على أن المراد منه عقوبته وعذابه للمكذبين الجاحدين.
والقول الثاني: أن المراد من أمر الله هو الفرائض والأحكام، ذكره الضحاك، وهذا قول ضعيف. وزعم الكلبي وغيره أن المراد منه القيامة.
وقوله: * (فلا تستعجلوه) الاستعجال طلب الشيء قبل حينه، ومعناه: لا تطلبوه قبل وقته، وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: لما نزل قوله: * (أتى أمر الله) رفع الكفار رؤوسهم، وظنوا أنها قد أتت حقيقة، لما قال: * (فلا تستعجلوه) خفضوا رؤوسهم. وفي بعض الأخبار: ' أنه لما نزل قوله تعالى: * (أتى أمر الله) قام رسول الله فزعا، فقال جبريل: فلا تستعجلوه '، قد ذكره مقاتل في تفسيره.
وقوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) معناه: تعاظم بالأوصاف الحميدة عما يصفه به (المشركون). قوله تعالى: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) روى
158

* (من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون (2) خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون (3) خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (4) والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5) ولكم) * * مجاهد عن ابن عباس: أن الروح خلق من خلق الله تعالى على صور بني آدم، وليسوا بالملائكة، لا ينزل الله ملكا إلا ومعه روح، والقول الثاني: أن الروح هو الوحي؛ لأنه تقع به حياة القلوب، كالروح تقع بها حياة الأبدان، وقيل: إنها النبوة،
وقيل: إنها الرحمة.
وقوله: * (على من يشاء من عباده) يعني: من النبيين والمرسلين.
وقوله: * (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) معناه: مروهم بقول لا إله إلا الله منذرين ومخوفين لهم بالعذاب؛ يقولوا أو لم يقولوا. فقوله: * (فاتقون) أي: فخافون.
قوله تعالى: * (خلق السماوات والأرض بالحق) أي: لإظهار الحق. وقوله تعالى: * (تعالى عما يشركون) أي: ارتفع عما يشركون.
قوله تعالى: * (خلق الإنسان من نطفة) يقال: إنه نزلت هذه الآية في أبي بن خلف، والصحيح أنها عامة في الكل. وقوله: * (من نطفة فإذا هو خصيم مبين) أي: مخاصم مفصح عما في ضميره بالخصومة، والخصومة: قد تكون حسنة، وقد تكون قبيحة؛ فالحسن منها ما كان لإظهار الحق، والقبيح ما كان لدفع الحق، ومعنى الآية بيان القدرة، وهي أن الله تعالى خلق النطفة من كائن بهذه الحالة، وقيل: إن المراد من الآية بيان النعمة، وقيل: إن المراد من الآية كشف قبيح ما فعلوا من جحدهم نعمة الله مع ظهورها عليهم.
قوله تعالى: * (والأنعام خلقها لكم فيها دفء) الدفء هو الحر المعتدل الذي يكون في بدن الإنسان من الدثار. وأما معنى الآية: قال ابن عباس: الدفء هو اللباس، وقال قتادة: ما يستدفأ به من الأصواف والأوبار، وما أشبه ذلك.
وقال بعضهم: الدفء هو النسل، وذكر الآمدي أن هذا من كلام العرب.
159

* (فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم (7) والخيل والبغال والحمير) * *
وقوله: * (ومنافع) المنافع هي الركوب والنتاج، وسائر ما ينتفع به. وقوله: * (ومنها تأكلون) هو التناول من لحمها ولبنها.
قوله تعالى: * (ولكم فيها جمال) أي: زينة، قال السدي: الجمال: أنها إذا خرجت ورئيت قيل: هذه إبل فلان.
وإنما خص [بقوله]: * (حين تريحون وحين تسرحون) الرواح في الأنعام هو إذا جاءت من مراعيها إلى أفنية ملاكها عشيا، والسراح هو إذا خرجت من الأفنية إلى المراعي بكرة؛ فإن قال قائل: لم قدم الرواح، والسراح هو المقدم؟ قلنا: لأن المالك يكون أعجب بها إذا راحت؛ ولأن المنافع منها إنما تؤخذ بعد الرواح.
وقوله: * (وتحمل أثقالكم) الثقل: هو المتاع الذي يثقل حمله. وقوله: * (إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) أي: بجهد الأنفس ومشقتها، وقرئ: ' بشق الأنفس '. واختلفوا في البلد المذكور، قال بعضهم: هي مكة، وقال بعضهم: أي بلد كان في العالم، فإن قال قائل: أي مشقة في أن يركب دابة وطية ويسير عليها من بلد إلى بلد مع الزاد التام وأمن الطريق؟
والجواب أن السفر لا يخلو عن مشقة في الجملة، والثاني: أن معنى الآية لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، لولا هذه الدواب.
وقوله: * (إن ربكم لرءوف رحيم) ظاهر المعنى. قوله تعالى: * (والخيل والبغال والحمير) الآية حكي أن أبا عمرو بن العلاء سئل: لم سميت الخيل خيلا؟ فلم يذكر شيئا، وكان ثم أعرابي حاضرا، فقال: سميت الخيل خيلا لاختيالها.
وقوله: * (لتركبوها) زعم بعضهم أن ركوب الحمر الغرة الحسان أبلغ في الزينة من الخيل والبغال؛ لأن الله تعالى قال: * (لتركبوها وزينة) عقيب ذكر الحمر، وهذا
160

* (لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (8)) * * كقوله تعالى: * (قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) دل أن البصل أرذل من هذه الأشياء حيث ذكر قوله: * (أتستبدلون الذي هو أدنى) عقيب ذكر البصل، وقيل: شر الحمر الأسود القصير.
والأولى أن يقال: إن الجمال في الخيل أكثر للحسن والعيان؛ ولأن الله تعالى بدأ بها بالذكر.
وقيل لخالد بن صفوان: ما لك لا تركب الحمر؟ قال: هي بطيئة الغوث كثيرة الروث، إذا سار أبطأ وإذا وقف أدلى. ورؤي مرة على حمار؛ فسئل عن ذلك فقال: أدب عليه دبيبا، وألقى عليه حبيبا، ويمنعني أن أكون جبارا عنيدا.
وقد ثبت أن رسول الله ركب الفرس والبغل والحمار. وفي الآثار: أن الأنبياء من بني إسرائيل كانوا يركبون الأتن. وعن ابن عباس أنه كره لحم الخيل؛ قال: لأن الله تعالى قال: * (لتركبوها وزينة). وقد ثبت برواية جابر أن النبي أذن في لحوم الخيل '، وثبت أيضا عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت: ' أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله ' فالأولى هو الإباحة، وعليه أكثر أهل العلم.
وقوله: * (ويخلق ما لا تعلمون) قيل معناه: ويخلق ما لا يخطر ببال أحد،
161

* (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين (9) هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون) * * والإنسان قل ما يخلو في يوم وليلة أن يرى شيئا من خلق الله تعالى لم يره من قبل. وروى ابن السدي عن أبيه أن معنى قوله: * (ويخلق ما لا تعلمون) أي: السوس في النبات والحبوب. وفي بعض التفاسير: أن النبي قال في هذه الآية: ' إن لله تعالى أرضا بيضاء خلقها، ومسافتها قدر مسيرة الشمس ثلاثين ليلة، وقد ملأها من خلق لم يعصوا الله طرفة عين؛ فقيل له: أهم من بني آدم؟
فقال: إنهم لا يعلمون أن الله تعالى خلق آدم، فقيل له: فكيف لا يفتنهم إبليس؟ قال: إنهم لا يعلمون أن لله في خلقه إبليس ' وهذا خبر غريب، والله أعلم.
قوله تعالى: * (وعلى الله قصد السبيل) قيل معناه: وعلى الله بيان الهدى من الضلالة، وقيل: بيان الحق بالآيات والبراهين، وهذا بحكم الوعد، ويقال: وعلى الله قصد السبيل أي: على الله الحكم بالعدل بين الخلق.
وقوله: * (ومنها جائر) معناه: ومن السبيل جائر، وقرأ علي وابن مسعود: ' ومنكم جائر '. أي: عادل عن الحق، قال الشاعر:
(لما خلطت دماؤنا بدمائهم
* وقف الثقال بها (وجار) العادل)
الثقال: البطر.
وقوله: * (ولو شاء لهداكم أجمعين) ظاهر المعنى، وفيه رد على القدرية.
قوله تعالى: * (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب) أي: لكم منه ما تشربون.
وقوله: * (ومنه شجر فيه تسيمون) أي: تسيمون المواشي فيها، والإسامة هي
162

* (والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11) وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (12) وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون (13) وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) * * تخلية المواشي للرعي.
وقوله تعالى: * (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) الآية. ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: * (وسخر لكم الليل والنهار) أي: ذلل لكم الليل والنهار، وقيل: سخر ضوء الشمس بالنهار ونور القمر بالليل.
وقوله: * (والنجوم مسخرات بأمره) أي: مذللات بأمره. وقوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) ظاهر المعنى.
* (وما ذرأ لكم في الأرض) أي: ما خلق لكم في الأرض. وقوله: * (مختلفا ألوانه) أي: صورته وهيئته. وقوله: * (إن في ذلك لآية لقوم يذكرون) أي: يعتبرون.
قوله تعالى: * (وهو الذي سخر البحر) أي: ذلل البحر * (لتأكلوا منه لحما طريا) أي: السمك. وقوله: * (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) يعني: درأ تتخذون منه لباسا للتحلي.
وقوله: * (وترى الفلك مواخر فيه) قال الحسن البصري: مواقر - أي مملوءة - ويقال: مواخر أي: مقبلة مدبرة بريح واحدة، والمخر هو الشق، والسفينة تمخر الماء أي: تشقه، وفي الخبر أن النبي قال: ' إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح ' أي:
163

* (وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (14) وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون (15) وعلامات وبالنجم هم يهتدون (16) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم (18) والله يعلم ما تسرون وما تعلنون (19) والذين) * * لينظر موضع هبوبها فليستدبرها، والمخر: صوت هبوب الريح عند شدتها.
وقوله: * (ولتبتغوا من فضله) يعني: للتجارة. وقوله: * (ولعلكم تشكرون) يعني: إذا رأيتم صنع الله فيما سخر لكم، وروي أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى عمرو بن العاص يسأله عن البحر؛ فقال: خلق عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود، ليس إلا السماء والماء، إن مال غرق، وإن نجا برق، أي: دهش وتحير.
قوله تعالى: * (وألقى في الأرض رواسي) أي: جبالا ثوابت، وفي الآثار: أن الله تعالى لما خلق الأرض كانت تكفأ؛ فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرة على ظهرها أحد؛ فأصبحوا وقد خلق الجبال فاستقرت وثبتت.
وقوله: * (أن تميد بكم) أي: أن تميل بكم. وقوله: * (وأنهارا وسبلا) يعني: طرائق. وقوله: * (لعلكم تهتدون) أي: لعلكم تهتدون بالطريق والجبال.
وقوله: * (وعلامات) أي: ودلالات، وقيل: إن هذه العلامات هي الجبال. وقوله: * (وبالنجم هم يهتدون) قال الفراء: بالجدي والفرقدين، وقيل: وبالنجوم هم يهتدون، وعن قتادة قال: خلق الله النجوم لثلاثة أشياء: لزينة السماء الدنيا، ولرجم الشياطين، وليهتدي بها في البحر والبر، فمن طلب منها علما غير هذا فقد أخطأ، وهذه الأشياء الثلاثة مذكورة في القرآن.
قوله تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) قيل: أفمن ينعم كمن لا ينعم. وقوله: * (أفلا تذكرون) أي: أفلا تعتبرون.
قوله تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) أي: تطيقوا عدها، وقيل: لا تطيقوا شكرها. وقوله: * (إن الله لغفور رحيم) ظاهر المعنى.
164

* (يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (21) إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة) * *
قوله تعالى: * (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا) أراد به الأصنام. وقوله: * (وهم يخلقون) معناه: أن المخلوق لا يكون إلها.
قوله تعالى: * (أموات غير أحياء) فإن قيل: الصنم كيف يكون ميتا ولم يكن حيا قط؟ الجواب: أن معناه: أنها كالأموات في أنها لا تعقل.
وقوله: * (غير أحياء) تأكيد للأول. وقوله: * (وما يشعرون أيان يبعثون) أي: متى يبعثون؟ فإن قيل: هل للأصنام بعث؟ والجواب: أنه قد ذكر في بعض التفاسير: أن الأصنام تبعث، وتجعل فيها الحياة، وتتبرأ من عابديها، وقد دل على هذا القرآن في مواضع، وقيل في معنى الآية: وما تشعر الأصنام متى يبعث الكفار؟ وفي الآية قول ثالث: وهو أن معناها: وما يشعر الكفار متى يبعثون؟.
قوله تعالى: * (إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة) أي: جاحدة، وهذا دليل على أن العبرة بجحد القلب وإنكاره.
وقوله: * (وهم مستكبرون) أي: متكبرون، ويقال: إنه لا ينكر الدين إلا متكبر.
قال الله تعالى: * (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' لا يدخل الجنة أحد في قلبه ذرة من كبر '.
قوله تعالى: * (لا جرم) معناه: حقا * (أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه
165

* (وهم مستكبرون (22) لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين (23) وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (24) ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون (25)) * * لا يحب المستكبرين) أي: المتكبرين.
قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم) معناه: وإذا قيل للكفار الذين تقدم ذكرهم: ' ماذا أنزل ربكم '؟ ما الذي أنزل ربكم؟
وقوله: * (قالوا أساطير الأولين) يعني: أكاذيب الأولين، والأساطير واحدها أسطورة، وقيل: أقاصيص الأولين.
وقوله: * (وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة) الأوزار هي الذنوب.
وقوله: * (كاملة) إنما ذكر الكمال؛ لأن البلايا والمحن التي تلحقهم في الدنيا لا تكفر عنهم شيئا، وكذلك ما يفعلونه بنية الحسنات.
وقوله: * (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) ومن ذنوب الذين يضلونهم، وهم الأتباع.
فإن قال قائل: كيف يحملون أوزار الأتباع، والله تعالى يقول: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟ والجواب عنه: يحملوا ذنوبهم بحكم الإغواء والدعاء إلى الضلال؛ فإنه روي عن النبي أنه قال: ' أيما داع دعا إلى الهدى (فاتبع)؛ فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء '.
166

* (قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم) * *
وقوله: * (بغير علم) معناه: أنهم رجعوا إلى محض التقليد من غير دليل، ومنهم من قال معناه: أنهم دعوهم إلى الضلال من غير حجة. وقوله: * (ألا ساء ما يزرون) معناه: ألا بئس ما يحملون من الذنوب.
قوله تعالى: * (قد مكر الذين من قبلهم) معناه: قد أشرك الذين من قبلهم، وقيل: المكر هو التدبير الفاسد.
وقوله: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) وهذا مذكور على طريق التمثيل، يعني: قلع الله مكرهم من أصله، ورد وبال مكرهم وضرره عليهم، وإلا فليس ثم بنيان ولا أساس ولا سقف.
والقول الثاني في الآية: أن الآية نزلت في نمروذ بن كنعان لما بنى الصرح ليصعد إلى السماء، وفي القصة: أنه بنى قصرا طوله في السماء فرسخان، وقيل: كان خمسة آلاف ذراع وزيادة شيء، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع؛ فبعث الله جبريل - عليه السلام - فرمى برأسه في البحر، ثم خرب الباقي؛ فسقط عليهم وهم تحته، فهذا معنى قوله: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم) وهذا محكي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
فإن قيل: قال: * (فخر عليهم السقف من فوقهم) فأيش معنى قوله: * (من فوقهم) وقد فهم المعنى بقوله: * (فخر عليهم السقف)؟ والجواب: أن ذلك مذكور على طريق التأكيد مثل قوله تعالى: * (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم)، ومثل قوله: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم).
جواب آخر ذكره ابن الأنباري وغيره: أن العرب تقول: خر على فلان بيوته، إذا سقطت، وإن لم يكن تحتها، فإذا قالت: خر على فلان بيته من فوقه يفهم أنه كان
167

* (وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (26) ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين (27) الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن) * * تحته. وقوله: * (وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) معناه: من الجهة التي كانوا آمنين منها. قوله تعالى: * (ثم يوم القيامة يخزيهم) يعني: يذلهم ويهينهم فيها. وقوله: * (ويقول أين شركاءي الذين كنتم تشاقون فيهم) أي: تعادون المؤمنين فيهم.
فإن قيل: أين شركائي؟ وليس لله شريك، فكيف معنى الآية؟ والجواب أن معناها: أين شكائي في زعمكم؟! ومنهم من قال: أين الذين كنتم تدعونهم شركاء؟!
وقوله: * (قال الذين أوتوا العلم) يعني: المؤمنين.
وقوله: * (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) معناه: أن العذاب اليوم والهوان على الكافرين.
قوله تعالى: * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) قال أهل التفسير: هذه نزلت في قوم أسلموا بمكة، فلما هاجر النبي لم يهاجروا، ثم إن المشركين لما هاجروا إلى بدر أخرجوهم مع أنفسهم، فلما رأوا النبي وقلة من معه ظنوا أنهم يهلكوا على أيدي المشركين، فمكثوا مع الكفار فقتلوا يومئذ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية: * (
الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) معناه: في حال ظلمهم أنفسهم بتركهم المهاجرة مع النبي وخروجهم مع الكفار.
قوله: * (فألقوا السلم) أي: استسلموا وانقادوا لملك الموت.
وقوله: * (ما كنا نعمل من سوء) أي: ما كنا مشركين. وقوله: * (بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون) معناه: أن الله عليم بأنكم عملتم عمل الكفار - وعمل الكفار هو ترك المهاجرة والخروج مع المشركين - وقد كان في ابتداء الإسلام لا يقبل
168

* (الله عليم بما كنتم تعملون (28) فأدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين (29) وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين (30) جنات عدن يدخلونها تجري) * * الإسلام إلا مع الهجرة، فهؤلاء أسلموا ولم يهاجروا، فلم يقبل إسلامهم.
وقوله: * (فأدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها) أي: مقيمين دائمين فيها، وها هنا إضمار، وهو أنه يقال لهم: ادخلوا أبواب جهنم. وقوله: * (فلبئس مثوى المتكبرين) يعني: منزل الكافرين.
قوله تعالى: * (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم) فإن قيل: قد قال من قبل: * (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) بالرفع وقال ها هنا: * (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) بالنصب، فكيف وجه الآيتين؟
والجواب: أن معنى قوله: * (أساطير الأولين) أي: المنزل أساطير الأولين، وقوله: * (قالوا خيرا) معناه: أنزل ربنا خيرا. وقوله: * (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) إحسانهم هو قول: لا إله إلا الله، وقوله: * (حسنة) اختلف القول فيها:
قال ابن عباس: هي تضعيف الأجر إلى العشر فما زاد، وقال الضحاك: الحسنة هو النصر والفتح، وقال مجاهد: هو الرزق الحسن، وقال غيره: ما فتح الله على المسلمين من البلدان، وأفاء عليهم من الغنائم.
وقوله: * (ولدار الآخرة خير) معناه: ولحال دار الآخرة خير.
وقوله: * (ولنعم دار المتقين) أكثر المفسرين على أن المراد [منها] الجنة، وروي عن الحسن البصري أنه قال: هي الدنيا، والدنيا دار المتقين، ومنها يتزود إلى الآخرة، [و] فيها يطلب رضا الله تعالى، وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان إذا فرق العطايا بين المهاجرين والأنصار قال: هذا لكم في الدنيا وما ادخر الله لكم في الآخرة.
169

* (من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين (31) الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (32) هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (33) فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به) * *
قوله تعالى: * (جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين) ظاهر.
قوله تعالى: * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) يعني: طاهرين زاكين من الشرك، وقيل: معناه: أن وفاتهم تقع طيبة سهلة.
قوله: * (يقولون سلام عليكم) يقال: إن المراد منه تسليم الملائكة، يبلغون سلام الله إليهم، وفي الأخبار: ' أنهم يقولون لكل واحد منهم: السلام عليك يا ولي الله '. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن الميت المؤمن يزف إلى الله كما تزف العروس. وقوله: * (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) يعني: يقال لهم: ادخلوا الجنة بإيمانكم وطاعتكم.
قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) معناه: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة بالموت؟ * (أو يأتي أمر ربك) القيامة.
وفي بعض الآثار: أن أعوان ملك الموت ستة أملاك: ثلاثة يقبضون أرواح المؤمنين، وثلاثة يقبضون أرواح الكفار، وقيل: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة بالعذاب والقتل للكفار، أو يأتي أمر ربك؟ يعني: الموت. وقوله: * (كذلك فعل الذين من قبلهم) يعني: كذلك كفر الذي من قبلهم. وقوله: * (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فأصابهم سيئات ما عملوا) معناه: فأصابهم وبال السيئات التي
170

* (يستهزءون (34) وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا) * * عملوا، وقيل: جزاء السيئات التي عملوا. وقوله: * (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) معناه: نزل بهم، وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون.
قوله تعالى: * (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء).
ومعنى التحريم المذكور في الآية هو ما حرموا من البحيرة والوصيلة والسائبة والحام، وقد احتجت القدرية بهذه الآية، ووجه احتجاجهم أن المشركين قالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، [* (ولا حرمنا من دونه من شيء)] ثم إن الله تعالى قال في آخر الآية: * (كذلك فعل الذين من قبلهم) ردا وإنكارا عليهم، فدل على أن الله تعالى لا يشاء الكفر، وأنهم فعلوا ما فعلوا بغير مشيئة الله.
والجواب عنه: ذكر الزجاج وغيره أنهم قالوا هذا القول على طريق الاستهزاء لا على طريق التحقيق، ولو قالوا على طريق التحقيق لكان قولهم موافقا لقول المؤمنين، وهذا مثل قوله تعالى في قصة شعيب: * (إنك لأنت الحليم الرشيد) فإنهم قالوا هذا على طريق الاستهزاء لا على طريق التحقيق، وكذلك قوله تعالى في سورة يس،
* (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) وهذا إنما قالوه على طريق الاستهزاء؛ لأنه في نفسه قول حق يوافق قول المؤمنين، كذلك هاهنا قالوا ما قالوا على طريق الاستهزاء؛ فلهذا أنكر الله تعالى عليهم، ورد قولهم، والدليل على أن المراد من هذا ما ذكر من بعد وسنبين.
وقوله: * (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) يعني: ليس إليهم الهداية والإضلال، وإنما عليهم التبليغ.
171

* (البلاغ المبين (35) ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (36) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين (37) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه) * *
قوله تعالى: * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) أي: وحدوا الله واجتنبوا الأصنام. وقوله: * (فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) معناه: فمنهم من هداه الله للإيمان، ومنهم من وجبت عليه الضلالة، وتركه في الكفر بالقضاء السابق، فهذه الآية تبين أن من آمن بمشيئة الله، وأن من كفر، كفر بمشيئة الله.
وقوله: * (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) معناه: مآل أمر المكذبين ومرجعهم.
قوله تعالى: * (إن تحرص على هداهم) الحرص: طلب الشيء بالجد والاجتهاد: وقوله: * (فإن الله لا يهدي من يضل) قرأ بقراءتين: قرأ أهل الكوفة: ' لا يهدي من يضل ' بفتح الياء الأولى وضم الثانية، وقرأ الباقون: ' لا يهدي من يضل ' بضم اليائين، أما القراءة الأولى فمعناه: لا يهدي الله من أضله، وأما القراءة الثانية فمعناه: فإن من يضله الله لا يهدى، وقيل: لا يقدر أحد على هدايته، قالوا: وهذا أولى القراءتين. وقوله: * (وما لهم من ناصرين) أي: مانعين من العذاب.
قوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) جهد اليمين هو أن يحلف بالله الذي لا إله غيره. وقوله: * (لا يبعث الله من يموت) هذا دليل على أنهم كانوا مستبصرين في كفرهم.
وقوله: * (بلى وعدا عليه حقا) معناه: ليس الأمر كما قالوا، ولكن الله يبعثهم، ثم قال: * (وعدا عليه حقا) أي: واجبا.
وقوله: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يعني: أن وعد الله حق؛ فإنه إنما يعلمه
172

* (حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (38) ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين (39) إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (40) والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة) * * المؤمنون دون الكفار.
قوله تعالى: * (ليبين لهم الذي يختلفون فيه) يعني: ليظهر لهم الحق فيما يختلفون فيه. وقوله: * (وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) يعني: في الدنيا.
قوله تعالى: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه) فإن قيل: قد قلتم بأن المعدوم ليس بشيء، وقد جعل الله هاهنا المعدوم شيئا حيث قال: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه) ومعناه: أردنا تكوينه.
والجواب: أن الأشياء التي قدر الله كونها هي في علم الله كالكائنة (القائمة)؛ فاستقام قوله: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه) وقيل: إن هذا على طريق المجاز، ومعناه: إنما يكون شيئا إذا أردنا تكوينه.
وقوله: * (أن نقول له) معناه: أن نقول لأجله: * (كن فيكون) أي: كن فكان، وقرئ بقرائتين. ' فيكون ' بالنصب، ' ويكون ' بالرفع.
أما بالرفع معناه: فهو يكون، وأما بالنصب فهو منسوق على قوله: * (أن نقول) وذلك يقتضي النصب.
قوله تعالى: * (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) قال أهل التفسير: نزلت الآية في عمار، وبلال، وصهيب بن سنان، وخباب بن الأرت، وسالم مولى أبي حذيفة. وقوله: * (من بعد ما ظلموا) يعني: من بعد ما عذبوا وأوذوا.
وقوله: * (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) قال ابن عباس والشعبي والحسن: هي المدينة، ويقال: هي قدم الصدق، وقيل: التوفيق والهداية.
173

* (أكبر لو كانوا يعلمون (41) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون (42) وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (43) بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (44) أفأمن) * *
وقوله: * (ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) أي: أعظم لو كانوا يعلمون. وقوله: * (لو كانوا يعلمون) منصرف إلى المشركين دون هؤلاء النفر، فإنهم كانوا يعلمون أن أجر الآخرة أكبر.
وقوله: * (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) ظاهر المعنى، وهي نازلة في هؤلاء الخمسة. قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) معناه: إلا رجالا من البشر نوحي إليهم، فإن المشركين كانوا ينكرون إرسال الآدميين، ويطلبون إرسال الملائكة على ما ذكر الله تعالى ذلك في غير موضع. وقوله: * (فاسألوا أهل الذكر) يعني: مؤمني أهل الكتاب، وقيل: حملة أهل الكتابين، فإنهم كانوا لا ينكرون هذا. وقوله: * (إن كنتم لا تعلمون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (بالبينات والزبر) اختلفوا في أن قوله: * (بالبينات والزبر) إلى ماذا يرجع؟
قال بعضهم معناه: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا بالبينات والزبر، ومنهم من قال معناه: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم بالبينات والزبر. ثم قال: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
قوله: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم). وقد كان الرسول مبينا للوحي، وقد قال أهل العلم: إن بيان الكتاب في السنة. وقوله: * (ولعلهم يتفكرون) يعني: يتدبرون ويعتبرون.
قوله سبحانه وتعالى: * (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض) ' مكروا السيئات ' يعني: فعلوا السيئات، وذلك جحدهم التوحيد وعبادتهم غير الله، وعملهم بالمعاصي، وقد قالوا: إن المكر في هذا الموضوع هو السعي بالفساد، وما قلناه أفسد الفساد.
174

* (الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون (45) أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين (46) أو يأخذهم على تخوف) * *
وقوله: * (أن يخسف الله بهم الأرض) الخسف معلوم المعنى، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' بينما رجل يتبختر في حلة له فخسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة '.
وحكى النقاش عن بعض أهل العلم مسندا: أن قوما تدافعوا الإمامة بعد ما أقيمت الصلاة فخسف الله بهم الأرض.
وفي بعض المسانيد عن أبي هريرة أن النبي قال: ' يفتح للناس معدن، ويبدو من الذهب أمثال البخت؛ فيميل الناس إليه فيخسف الله بهم وبالمعدن، فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة '.
وقوله: * (أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) أي: لا يعلمون. قوله تعالى: * (أو يأخذهم في تقلبهم) قال ابن جريج: في إقبالهم وإدبارهم، وقيل: في ليلهم ونهارهم، وقيل: في أسفارهم. وقوله: * (فما هم بمعجزين) أي: بفائتين.
قوله تعالى: * (أو يأخذهم على تخوف) قال ابن عباس: على تنقص، ومعنى التنقص في هذا الموضع أنه يأخذهم الأول فالأول حتى يهلكهم.
والقول الثاني: أن معنى التخوف هو أن يأخذ قوما ولا يأخذ آخرين، وتخوفهم بأخذ هؤلاء، قول الحسن والضحاك.
والقول الثالث: حكى عن الليث بن سعد أنه قال: سمعت أنه على عجل.
175

* (فإن ربكم لرءوف رحيم (47) أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله) * *
وقوله: * (فإن ربكم لرءوف رحيم) رحمته للكفار هي إمهالهم في العذاب.
قوله تعالى: (أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله) يتحول ظلاله، وأما الفرق بين الفيء والظل: فيقال: إن الظل بالغداة، والفيء بالعشي، ويقال: إن معناهما واحد.
وقوله: * (عن اليمين) أي: عن الأيمان؛ لأنه قد قال عقيبه: * (والشمائل) والظل دائر من جوانب الإنسان، فمرة يكون عن يمينه، ومرة يكون عن شماله، ومرة يكون قدامه، ومرة يكون خلفه.
وقوله: * (سجدا لله) أكثر السلف أن السجود هاهنا: هو الطاعة لله، وأن كل الأشياء ساجدة لله مطيعة من حيوان وجماد، وهذا محكي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن البصري، قال الحسن: يا ابن آدم، ظلك يسجد لله تعالى، وأنت لا تسجد، فبئس ما صنعت.
وذكر أبو عيسى الترمذي في جامعه برواية ابن عمر عن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال: أربع بعد الزوال قبل الظهر يعدلن مثلهن من السحر، وما من شيء إلا ويسجد لله في تلك الساعة، ثم تلا قوله تعالى: * (أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله) الآية.
قال الضحاك: المراد من سجود الظلال سجود الأشخاص، وذكر بعضهم أن معنى قوله: * (سجدا لله) أي: خاضعة ذليلة خادمة فيما أريد لها بأصل الخلقة، والأشياء.
176

* (وهم داخرون (48) ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون (49) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون (50) وقال الله) * * كلها مجبولة على ما أريد لها في أصل الخلقة.
وذكر بعضهم: أنه إنما أضاف السجود إلى هذه الأشياء؛ لأنها تدعو إلى السجود، فكأنها في أنفسها ساجدة، والأصح هو القول الأول ثم الثاني.
وقوله: * (وهم داخرون) أي: صاغرون.
قوله تعالى: * (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة) المراد من الدابة هاهنا قالوا: هي الحيوان؛ لأن الحيوان من شأنه الدبيب، ويقال: ولله يسجد ما في السماوات من الملائكة، وما في الأرض من دابة.
فإن قال قائل: كيف يستقيم هذا المعنى، وقد قال بعده: * (والملائكة)؟
والجواب من وجهين: أحدهما: أنه خصهم بالذكر تشريفا لهم.
والآخر: أن المراد من الملائكة المذكورين أخيرا هم ملائكة الله في الأرض، يعبدون الله تعالى ويسبحونه. وقوله: * (وهم لا يستكبرن) الاستكبار: طلب الكبر بترك الإذعان للحق.
قوله تعالى: * (يخافون ربهم من فوقهم) قال بعضهم معناه: يخافون عذاب ربهم من فوقهم، والقول الثاني - وهو الأصح - أن هذه صفة العلو [التي] تفرد الله بها،
وهو كما وصف به نفسه من غير تكييف.
وقوله: * (ويفعلون ما يؤمرون) يعني: أن الملائكة لا يعصونه.
قوله تعالى: * (وقال الله لا تتخذوا إليهن اثنين) فإن قال قائل: أيش معنى قوله: * (اثنين) وقد قال: * (إلهين)؟
الجواب من وجهين: أحدهما: على طريق التأكيد، وهو مثل قوله تعالى: * (فصيام
177

* (لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون (51) وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون (52) وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا) * * ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا أرجعتم تلك عشرة كاملة).
والجواب الثاني: أن الآية على التقديم والتأخير، ومعناها: وقال الله: لا تتخذوا إلهين اثنين، إنما هو إله واحد. * (فإياي فارهبون) يعني: فخافون.
قوله تعالى: * (وله ما في السماوات والأرض) معلوم المعنى. وقوله: * (وله الدين واصبا) أي: دائما، هكذا قاله ابن عباس، والدين بمعنى الطاعة.
وحقيقة المعنى أن [طاعة] غير الله تنقطع وتزول، وطاعة الله لا تزول ولا تنقطع، وقيل: واصبا أي: خالصا، والوصب في اللغة هو التعب، فيقال على هذا: أن معنى الآية أن الطاعات كلها لله، وإن كان فيها الوصب والتعب.
وقوله: * (أفغير الله تتقون) أي: تخافون، وهذا استفهام على طريق الإنكار.
قوله تعالى: * (وما بكم من نعمة فمن الله) معناه: وما يكن لكم من نعمة فمن الله، وفي بعض المسانيد برواية ابن عمر عن النبي أنه قال: ' ما مس عبدا نعمة فعلم أنها من الله إلا وقد [شكر] الله، وإن لم يحمده '.
وقوله: * (ثم إذا مسكم الضر) قيل: القحط، وقيل: المرض. وقوله: * (فإليه تجأرون) الجؤار هو الصوت على وجه الاستغاثة، ومنه جؤار البقر، ومعنى الآية أنكم تدعون الله مستغيثين. قال الشاعر:
178

* (مسكم الضر فإليه تجأرون (53) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (55) ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون (56) ويجعلون لله البنات) * *
(يراوح في صلوات المليك
* فطورا سجودا وطورا وجؤارا)
قوله تعالى: * (ثم إذا كشف الضر عنكم) يعني: ما يضركم. وقوله: * (إذا فريق منكم بربهم يشركون) أي: يكفرون.
قوله تعالى: * (ليكفروا بما آتيناهم) معناه: أن حاصل أمرهم هو كفرهم بما آتيناهم من النعمة، وهذه اللام وأمثالها تسمى لام العاقبة، وقيل: إن النعمة هي الآيات التي أراها خلقه على وحدانيته.
وقوله: * (فتمتعوا) أي: عيشوا المدة التي ضرب لكم في طلب اللذة * (فسوف تعلمون) عاقبة أمركم.
قوله تعالى: * (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم) معناه: ويجعلون للأصنام نصيبا مما رزقناهم، وهو معنى قوله تعالى: * (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا). وقوله: * (لا يعلمون) يعني: لا يعلمون أنها تضرهم ولا تنفعهم.
وقوله: * (تالله لتسألن عما كنتم تفترون) معناه: والله لتسألن، والسؤال سؤال إلزام الحجة، لا سؤال الاستعلام والاستفهام.
قوله تعالى: * (ويجعلون لله البنات) هذا معنى قولهم: إن الملائكة بنات الله. وقوله: * (سبحانه) هو بيان تنزيهه عن قولهم.
وقوله: * (ولهم ما يشتهون) أي: البنين، فإنهم كانوا يقولون له البنات، ولنا البنون. وقوله: * (وإذا بشر أحدهم بالأنثى) كان أهل الجاهلية يودون الذكور من الأولاد، ويكرهون الإناث، ويقولون: إنهن لا يقاتلن، ولا يركبن الخيل، وكان الرجل منهم إذا دنت ولادة امرأته توارى من نادى قومه، فإن بشر بالابن ظهر، ويهنئه القوم،
179

* (سبحانه ولهم ما يشتهون (57) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم (58) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا) * * وإن بشر بالأنثى تغير واستخفى وربما يئدها؛ فهذا معنى قوله: * (يتوارى من القوم من سوء ما بشر به) يعني: من كراهة ما بشر به.
وأما قوله: * (ظل وجهه مسودا وهو كظيم) معناه: تغير وجهه من الغم، تقول العرب: اسود وجه فلان، إذا تغير بما أصابه من الغم.
وقوله: * (وهو كظيم) أي: ممتلئ حزنا، وقال ابن عباس: حزين، وقال غيره: امتلأ حزنا، فهو يكظمه، أي: يمسكه ولا يظهره.
وأما قوله: * (أيمسكه على هون) قرأ الجحدري: ' على هوان '، وقال الكسائي: الهون والهوان بمعنى واحد، وقالت الخنساء شعرا:
(نهين النفوس ووهن النفوس
* ليوم الكريهة أبقى لها)
وقرأ عيسى بن عمر: ' أم يدسها في التراب ' ويلزمه على هذه القراءة أن يقرأ: ' أيمسكها '، وأما على القراءة المعروفة فإنها تنصرف إلى لفظة ' ما ' وما بمعنى الذي.
وقوله: (أم يدسه في التراب) أي: يدفنه حيا، وعن قتادة قال: رب أنثى خير لأهلها من غلام، وفي بعض الأخبار عن النبي أنه قال: ' ما وضعت امرأة بنتا إلا وضع الملك يده على رأسها وقال: ضعيفة خرجت من ضعيفة، المنفق عليها معان إلى يوم القيامة '.
180

* (ساء ما يحكمون (59) للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم (60) ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن) * *
وقوله: * (ألا ساء ما يحكمون) أي: بئس ما يحكمون، وحكمهم: وأد البنات وترك البنين.
قوله تعالى: * (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء) أي: صفة السوء، وقيل: عاقبة السوء. وقوله: * (ولله المثل الأعلى) أي: الصفة العليا، وذلك مثل قولهم: عالم وقادر ورازق وحي، وغير هذا.
وقال مجاهد: ' ولله المثل الأعلى ' شهادة أن لا إله إلا الله، فإن قيل: قد قال في موضع آخر: * (فلا تضربوا لله الأمثال) وقال هاهنا: * (ولله المثل الأعلى) فكيف وجه الجمع؟ والجواب أن معنى قوله: * (فلا تضربوا لله الأمثال) أي: الأمثال التي هي الأشباه فإن الله تعالى لا شبه له، وأما قوله: * (ولله المثل الأعلى) أي: الصفة العليا، وهذا جائز لكل أحد أن يقوله، بل واجب. وقوله: * (وهو العزيز الحكيم) قد بينا.
قوله تعالى: * (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم) أي: بكفرهم. وقوله: * (ما ترك عليها من دابة) روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الجعل في جحره يعذب بذنب بني آدم، وعن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال له: بئسما قلت، إن الحبارى تموت هزلا من ظلم الظالم.
وقال بعض أهل المعاني معنى الآية: لو أخذ الظالمين فأهلك الآباء انقطع النسل، ولم يوجد الأبناء فيهلك من في الأرض.
181

* (يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (61) ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون (62) تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم) * *
وقوله: * (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) يعني: إلى يوم القيامة. وقوله: * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ويجعلون لله ما يكرهون) يعني: البنات. وقوله: * (وتصف ألسنتهم الكذب) معنى الكذب المذكور هو قولهم: * (أن لهم الحسنى).
وفي الحسنى قولان: أحدهما: أنها البنون، والآخر: أنها الجنة. وقوله: * (لا جرم أن لهم النار) ' لا ' رد لقولهم. وقوله: * (جرم) أي: حقا، وقيل: لا محالة أن لهم النار، وقيل: لا بد، وقد بينا أن رجم بمعنى كسب، وذكرنا عليه الاستشهاد.
وقوله: * (وأنهم مفرطون) أكثر القراء قرأوا بفتح الراء، وقرأ نافع: ' مفرطون ' بالكسر، وقرأ أبو جعفر المدني: ' مفرطون ' بتشديد الراء.
واختلف القول في معنى قوله: * (مفرطون) بفتح الراء، قال سعيد بن جبير ومجاهد: منسيون، وعنهما: متروكون، وقيل: مضيعون، وعن الحسن البصري، مقدمون إلى النار، ومنه الفارط، وهو الذي يتقدم إلى الماء، قال الشاعر:
(استعجلونا فكانوا من صحابتنا
* كما تقدم فراط لوراد)
وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' أنا فرطكم على الحوض ' أي: متقدمكم، واختار الكسائي وأبو عبيدة والفراء معنى قول مجاهد.
وأما قوله: ' مفرطون ' بكسر الراء، هو من الإفراط، يعني: مبالغون في الإساءة، وأما قوله: ' مفرطون ' هو من التفريط، يعني: أنهم مقصرون.
قوله تعالى: * (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) يعني: والله لقد أرسلنا إلى أمم
182

* (فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم (63) وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (64) والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون (65) وإن لكم في الأنعام لعبرة) * * من قبلك. وقوله: * (فزين لهم الشيطان أعمالهم) يعني: كفرهم وجحودهم. وقوله: * (فهو وليهم اليوم) سماه وليا لهم لطاعتهم إياه. وقوله: * (ولهم عذاب أليم) أي: مؤلم.
قوله: * (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) الفرق بين التبيين والتمييز، أن في التبيين طلب العلم، وليس في التمييز طلب العلم، فإن الرجل يميز بين الجيد والردئ (مع علمه) بهما.
وقوله: * (اختلفوا فيه) أي: في الكتاب. وقوله: * (وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) معناه: أن الكتاب هدى ورحمة للمؤمنين، وقيل: إن الرسول هدى ورحمة للمؤمنين.
قوله تعالى: * (والله أنزل من السماء ماء) أي: المطر. وقوله: * (فأحيا به الأرض بعد موتها) أي: بالنبات. وقوله: * (إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) يعني: يسمعون سماع التفهم.
قوله تعالى: * (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم) قرىء بالنصب والرفع، أما بالنصب فمعلوم المعنى، وأما بالرفع فهو أن يجعل لكم سقيا، قال الشاعر في الفرق بينهما:
(سقى قومي بني مجد وأسقي
* نميرا والقبائل من هلال)
قوله: * (مما في بطونه) فإن قيل: كيف لم يقل: مما في بطونها، والأنعام جمع؟ والجواب عنه: أن معناه: مما في بطون كل واحد منهما أو كل نوع منها، والعرب قد تحذف مثل هذا، قال الشاعر:
(ألا يا سهيل فالقطيخ قد فسد
* وطاب ألبان اللقاح فبرد)
183

* (نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (66) ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) * *
أي بردت.
وقوله: * (من بين فرث ودم) الفرث هو ما يحصل في الكرش من الثقل، ويقال: إن العلف الذي تأكله الدابة يتغير في الكرش فيتحول لبنا وفرثا ودما فأعلاه دم، وأوسطه لبن، وأسفله فرث، ثم يميز الله تعالى بينهما، فيجري كل واحد منهما في مجراه على حدة، (فيجعل) اللبن في الضرع، ويجعل الدم في العروق، ويبقى الفرث في الكرش، فهذا معنى قوله: * (من بين فرث ودم).
وقوله: * (لبنا خالصا) أي: ليس عليه لون الدم ولا رائحة الفرث. وقوله: * (سائغا) السائغ: ما يجري في الحلق على السهولة، وفي بعض الأخبار: ما غص أحد بلبن؛ لقوله: * (سائغا). وقوله: * (للشاربين) ظاهر المعنى.
قوله: * (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا) اختلفوا في السكر، فالمروي عن ابن عباس: أن السكر ما حرم من الثمر، والرزق الحسن ما حل من الثمر، وعن مجاهد وقتادة وإبراهيم النخعي والشعبي: أن الآية منسوخة، وهذا قبل تحريم الخمر ثم حرمت.
وروي عن الشعبي أنه قال: السكر هو النبيذ، والرزق الحسن هو التمر والزبيب، وهذا قول من يبيح (النبيذ)، وأما على قول ابن عباس فالمراد من الآية هو الإخبار عنهم، لا الإحلال لهم، وأولى الأقاويل أن قوله: * (تتخذون منه سكرا) منسوخ.
وفي بعض المسانيد أن النبي قال: ' لكم من العنب خمسة حلال: العصير، والزبيب، والخل، والرب، وأن تأكلوه عنبا ' والله أعلم بصحته. وقال الشاعر في
184

* (إن في ذلك لآية لقوم يعقلون (67) وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك دللا) * * السكر:
(بئس الضجيع وبئس الشرب شربهم
* إذا جرى فيهم المزاء والسكر)
أي: المسكر. وقوله: * (إن في ذلك لآية لقوم يعقلون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وأوحى ربك إلى النحل) الآية، وأوحى ربك أي: ألهم ربك، والوحي في اللغة هو إعلام الشيء في السترة، وقد يكون ذلك بالكتابة، وقد يكون بالإشارة وقد يكون بالإلهام، وقد يكون بالكلام الخفي، وقال بعضهم معنى قوله: * (وأوحى ربك إلى النحل) أي: جعل في غرائزها ذلك، وقيل: أوحى بمعنى سخر، وذلل، وأصح الأقاويل هو الأول. وقوله: * (إلى النحل) والنحل: ذباب العسل، وفي رواية ابن عمر عن النبي أنه قال: ' كل الذباب في النار إلا النحل ' والخبر غريب.
وقوله: * (أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر) أي: خلايا، وهي الأمكنة التي يضع النحل فيها العسل، ويقال: إنما يضع العسل في أجواف الأشجار، وقد يضع على أغصان الأشجار، وقوله: * (ومما يعرشون) يعني: يبنون، وقد جرت عادة أهلها أنهم يبنون لها الأماكن فهي تأوي إليها بتسخير الله إياها لذلك.
قوله تعالى: * (ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك) أي: طرق ربك، قال مجاهد: هي تسلك سبلها لا يتوعر عليها مكان.
185

* (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) * *
وقوله: * (ذللا) يحتمل وجهين:
يحتمل أنه راجع إلى الطرق، يقال: سبيل ذلول، وسبل ذلل، إذا كانت سهلة المسلك، ويحتمل أنه ينصرف إلى النحل، ومعناه: أنها مطيعة منقادة لما خلقت له، ويقال: إن للنحل يعسوبا - وهو سيد النحل - إذا وقفت وقفت، وإذا سارت سارت، ويقال: ' ذللا ' يعني لأربابها؛ فإنه قد جرت العادة أن أربابها ينقلونها من مكان إلى مكان، فهي مسخرة لذلك.
وقوله: * (يخرط من بطونها). فإن قال قائل: إنما يخرج من أفواهها لا من بطونها؟، والجواب عنه أنه إنما ذكر بطونها لأن الاستحالة تقع في بطونها؛ ولأنه يخرج من بطونها إلى أفواهها، ثم تسيل من أفواهها كهيئة الريق، وروي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مر على عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وهو مقتول يوم الجمل؛ فقال: هذا يعسوب قريش شفيت نفسي، وقتلت قومي، أشكو إلى الله عجري وبجري، أي: همومي وأحزاني.
وقوله: * (شراب مختلف ألوانه) يعني: أحمر، وأصفر، وأبيض. وقوله: * (فيه شفاء للناس) لا يشكل على أحد أن في العسل شفاء لبعض الأمراض، وقد يجعل في المعجونات وكثير من الأدوية، وروي عن ابن عباس أنه قال: فيه شفاء للناس، أي: في القرآن، والأظهر في الآية هو القول الأول.
وروى أبو سعيد الخدري: ' أن رجلا أتى النبي وذكر أن أخاه اشتكى بطنه فقال: اسقه عسلا، فسقاه، فزاد الوجع، فعاد وذكر له؛ فقال: اسقه عسلا، فسقاه فازداد وجعا، فعاد وذلك له ذلك؛ فقال: اسقه عسلا، فسقاه فبرأ، فعاد وذكر ذلك للنبي فقال: صدق الله، وكذب بطن أخيك '.
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: من اشتكى شيئا فليأخذ من امرأته أربعة
186

(* (69) والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير (70) والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا) * * دراهم من مهرها وليشتر بها عسلا، وليخلطه بماء المطر وليشربه؛ فإن فيه شفاء.
وكان ابن عمر إذا أصابه وجع طلى على موضع الوجع بالعسل حتى الدمل: وعن أبي حرة أنه كان يكتحل بالعسل. وقوله: * (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) أي: يتدبرون.
قوله تعالى: * (والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) يعني: الهرم، وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: إنه خمس وسبعون سنة، وقيل: ثمانون سنة، حكاه قطرب. وقيل: تسعون سنة، وعن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، ومعناه: أنه لا يذهب عقله ولا يخرف، وقيل: إن الرد إلى أرذل العمر للكافرين؛ فإن الله تعالى قال: * (ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا).
وقوله: * (لكيلا يعلم بعد علم شيئا) يعني: ينتقص علمه وعقله، وهذا دليل على أنه قد يذكر الشيء، ويراد به الأغلب، فإنه إذا رد إلى أرذل العمر لا يذهب جميع علمه إذا، وإنما يذهب أكثر علمه. وقوله: * (إن الله عليم قدير) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) معناه: بسط لهذا وضيق على هذا، وأكثر لهذا وقلل.
وقوله: * (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) في الآية رد على المشركين في اتخاذهم الأصنام آلهة مع الله، ومعنى الآية: أن الأحرار المالكين منكم لا تسخو أنفسهم بدفع أموالهم إلى عبيدهم ليشاركوهم في الملك، فيكونوا وهم سواء؛ فإذا لم ترضوا هذا لأنفسكم؛ فأولى أن تنزهوا ربكم عنه، ونظير هذا ما ذكر في سورة الروم: * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم) إلى قوله: * (فأنتم فيه سواء).
187

* (برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون (71) والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون (72) ويعبدون من دون الله ما لا) * *
وقوله: * (أفبنعمة الله يجحدون) يعني: بأن أنعم عليكم جحدتموه، واتخذتم غيره إلها معه.
قوله تعالى: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) فيه قولان: أحدهما: أن هذا في آدم - عليه السلام - فإن الله تعالى خلق حواء من بعض أضلاعه.
والقول الثاني: خلق من أنفسكم أزواجا أي: من جنسكم أزواجا.
وقوله: * (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) في الحفدة أقوال: روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: هم الأختان، وعنه أيضا أنه قال: هم الأصهار، ومعنى الآية على هذا القول: وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهم؛ فيحصل لكم بسببهم الأختان والأصهار.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - ومجاهد وغيرهما أنهم قالوا: الخدم، وعن الحسن البصري قال: الأعوان، وقيل: [أولاد] الأولاد، وقيل: بنو المرأة من غيره.
والحفد في اللغة: هو الإسراع في العمل، وفي دعاء القنوت: وإليك نسعى ونحفد أي: نسرع، وقال الشاعر:
(حفد الولائد حولهن وأسلمت
* بأكفهن أزمة الأجمال)
وقيل: إن البنين هم الكبار، والحفدة هم الصغار، ويقال: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه: وجعل لكم حفدة ومن أزواجكم بنين. وقوله: * (ورزقكم من الطيبات) يعني: من النعم الحلال.
وقوله: * (أفبالباطل يؤمنون) وهذا على طريق الإنكار. وقوله: * (وبنعمة الله هم
188

* (يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون (73) فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون (74) ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن) * * يكفرون) يعني: بالإسلام هم يكفرون، وقيل: بمحمدهم يكفرون.
وقوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون) المراد من الآية ذكر عجز الأصنام عن إيصال نفع أو دفع ضر. وقوله: * (فلا تضربوا لله الأمثال) أي: الأشباه، ومعناه: فلا تجعلوا لله شبها. ولا مثلا؛ فإنه لا شبه له، ولا مثل له. وقوله: * (إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا) قال مجاهد والضحاك: ضرب المثل لنفسه وللصنم الذي عبد من دونه، فقوله: * (عبدا مملوكا) أراد به الصنم. وقوله: * (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) ضرب مثلا لنفسه على معنى أنه الجواد الرازق الذي يعطي من حيث يعلمه العبد ومن حيث لا يعلمه.
وقال قتادة - وهو القول الثاني - هو ضرب مثلا للكافر والمؤمن، فقوله: * (عبدا مملوكا) أراد به الكافر، وقوله: * (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) أراد به المؤمن
، وقيل: إن القول الأول أليق بظاهر الآية؛ لأنه إنما سبق ذكر الأصنام، (وتأخر ذكر الأصنام).
ومن نصر القول الثاني استدل على صحته بقوله: * (عبدا مملوكا) والصنم لا يسمى عبدا، وفي بعض الروايات عن ابن عباس أن الآية في رجلين بأعيانهما: أما الذي رزقه الله رزقا حسنا، فهو ينفق منه سرا وجهرا، هو عمرو بن هشام، وأما [العبد] المملوك فهو هو مولاه أبو الجواب، وكان يأمره بالإيمان ويمتنع، أورده
189

* (رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (75) وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو و من يأمر بالعدل وهو على صراط) * * النحاس في تفسيره بإسناده.
وقوله: * (هل يستوون) فإن قال قائل: كيف قال: * (هل يستوون)، وإنما ضرب المثل لاثنين؟ والجواب عنه: أن المراد منه الجنس لا واحد بعينه. وقوله: * (الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) ظاهر المعنى. أي: حمد نفسه على علمه وجهلهم، وقيل: معناه: قل الحمد لله على ما أوضح من الدليل. وبين من الحق بل أكثرهم لا يعلمون، ويقال: الحمد لي فإني أنا المستحق للحمد لا ما يشركون بي، بل أكثرهم لا يعلمون أني أنا المستحق للحمد.
قوله تعالى: * (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم) الأبكم: هو الذي لا ينطق، ولا يعقل، ولا يفهم. وقوله: * (لا يقدر على شيء) أي: لا يقدر على النطق.
وقوله: * (وهو كل على مولاه) أي: ثقل على مولاه. وقوله: * (أينما يوجهه لا يأت بخير) يعني: أينما يبعثه لا يهتدي إلى خير. وقوله: * (هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل) عنى به نفسه، والله تعالى يأمر بالعدل، ويفعل العدل.
وقوله: * (وهو على صراط مستقيم) أي: على طريق قويم، والمراد من الآية: ضرب مثلا آخر لنفسه وللأصنام، فالأول هو الصنم، والمراد من قوله: * (ومن يأمر بالعدل) هو الله تعالى. وقوله: * (على صراط مستقيم) لأن الله تعالى على طريق الحق، وليس عنه معدل.
وفي الآية قول آخر: وهو ما روى عن ابن عباس أنه قال: الآية في رجلين بأعيانهما: أما الأول: فهو أسيد بن أبي العيض. وقوله: * (ومن يأمر بالعدل) هو عثمان بن عفان، وكان عثمان يأمره بالإسلام فلا يسلم.
قوله تعالى: * (ولله غيب السماوات والأرض) يعني: علم غيب السماوات
190

* (مستقيم (76) ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير (77) والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون (78) ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (79)) * * والأرض. وقوله: * (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر) معناه: أنه إذا قال له: كن فيكون.
وقوله: * (أو هو أقرب) يعني: أدنى من لمح البصر، فإن قيل: كيف قال: * (أو هو أقرب)، و ' أو ' للشك ولا يجوز على الله هذا؟
والجواب من وجهين: أحدهما: أن قوله: * (أو هو أقرب) يعني: بل هو أقرب قال الشاعر:
(بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
* وبهجته أو أنت في العين أملح)
يعني: بل أنت في العين أملح.
والجواب الثاني: أن المراد منه: أو هو أقرب في علمكم. وقوله: * (إن الله على كل شيء قدير) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) يعني: لا تعلمون شيئا مما علمتم الآن.
وقوله: * (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) أي: الأسماع والأبصار والأفئدة، وهي جمع الفؤاد. وقوله: * (لعلكم تشكرون) أي: نعمتي عليكم.
قوله تعالى: * (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء) أي: مذلالات في كبد السماء، وعن كعب الأحبار أن الطير يرتفع اثنى عشر ميلا ولا يرتفع فوق هذا. وفوق الجو السكاك وفوق السكاك السماء.
وقوله: * (ما يمسكهن إلا الله) يعني: في حال طيرانهن وقبضهن وبسطهن.
191

* (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين (80) والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر) * * وقوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) أي: لعبرا.
قوله تعالى: * (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) أي: مواضع تسكنون فيها. وقوله: * (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا) يعني: الفساطيط والخيم والقباب من الأدم.
وقوله: * (تستخفونها) يعني: يخف عليكم حملها. وقوله: * (يوم ظعنكم) يعني: يوم سفركم. وقوله: * (ويوم إقامتكم) أي: حال إقامتكم.
وقوله: * (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها) الأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز. وقوله: * (أثاثا) الأثاث: متاع البيت، وهو ما يتأثث به أي: ينتفع به، قال الشاعر:
(أهاجتك الظعائن يوم بانوا
* على الزي الجميل من الأثاث)
وقيل: الأثاث اللباس. وقوله: * (ومتاعا إلى حين) أي: متعة إلى حين آجالكم.
قوله تعالى: * (والله جعل لكم مما خلق ظلالا) أي: ما يظلكم من الشمس من الأشجار والحيطان والسقوف والجبال وأشباه ذلك.
وقوله: * (وجعل لكم من الجبال أكنانا) أي: الغيران والأسراب، والأكنان جمع الكن. وقوله: * (وجعل لكم سرابيل) أي: قمصا، وقد تكون من الصوف، وقد تكون من القطن، وقد تكون من الكتان.
وقوله: * (تقيكم الحر) هاهنا حذف، ومعناه: تقيكم الحر والبرد. قال الشاعر:
(ولا أدري إذا يممت أرضا
* أريد الخير أيهما يليني)
قال النحاس: أريد الخير وأتقي الشر؛ لأن كل من يريد الخير فيتقي الشر، وقوله: أيهما يليني أي: الخير والشر.
192

* (وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون (81) فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين (82) يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون (83)) * *
وقوله: * (وسرابيل تقيكم بأسكم) أي: الدروع، والبأس هو ما يقع به البأس، وهو السلاح. وقوله: * (كذلك يتم نعمته عليكم) يعني: منته عليكم. وقوله: * (لعلكم تسلمون) أي: تؤمنون، وعن ابن عباس أنه قرأ: ' لعلكم تسلمون ' والقراءة غريبة.
فإن قيل: كيف ذكر هذه النعم من الجبال والظلال والسرابيل والقمص والأوبار والأصواف، ولله تعالى نعم كثيرة فوق هذا لم يذكرها؟ فما معنى تخصيص هذه النعم وترك ما فوقها؟
والجواب عنه: أن العرب كانوا أصحاب أنعام، وكانوا أهل جبال، وكانت بلادهم حارة؛ فذكر من النعم ما يليق بحالهم، وكانت هذه النعم عندهم فوق كل نعمة؛ فخصها بالذكر لهذا المعنى، وعن قتادة: أن هذه السورة تسمى سورة النعم.
قوله تعالى: * (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) هذه تسلية للنبي ومعناه: أنهم إن أعرضوا فلا يلحقك في ذلك عتب ولا سمة تقصيرا؛ فإنما عليك البلاغ وقد بلغت.
قوله تعالى: * (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) قال السدي: هو محمد، وعلى هذا جماعة من أهل التفسير، ويقال: إن معناه الإسلام. وروي عن ابن عباس أن معنى الآية: أنه كان إذا قيل لهم: من أعطاكم هذه النعم؟ فيقولون: الله، فإذا قيل لهم: فوحدوه؛ فيقولون: أعطينا بشفاعة آلهتنا.
وعن قتادة: أنهم يقرون أن النعم من الله، ثم إذا قيل لهم: تصدقوا، وامتثلوا فيها أمر الله تعالى، قالوا: ورثناها من آبائنا.
وعن عون بن عبد الله قال: إنكار النعمة هو أن يقول: لولا كذا لأصبت كذا، ولولا فلان لأصابني كذا. وعن الحسن البصري قال: النعم ستة: محمد،
193

* (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون (84) وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون (85) وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون (86) وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون) * * والقرآن، والإسلام، والعافية، والستر، والاستغناء عن الناس.
وقوله: * (وأكثرهم الكافرون) يعني: وكلهم الكافرون؛ لأن الآية في الكفار.
قوله تعالى: * (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) هذا في معنى قوله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا).
وقوله: (ثم لا يؤذن للذين كفروا) يعني: في الاعتذار، وقيل: في الكلام أصلا. وقوله: * (ولا هم يستعتبون) يعني: لا يردون إلى الدنيا ليتوبوا، وحقيقة المعنى في الاستعتاب: هو التعريض لطلب الرضا، وهذا الباب منسد على الكفار في الآخرة.
قوله تعالى: * (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب) يعني: جهنم. وقوله: * (فلا يخفف عنهم) أي: لا يسهل عليهم. وقوله: * (ولا هم ينظرون) أي: لا يمهلون. قوله تعالى: * (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم) هذا في الوقت الذي يبعث الله الأصنام ويحضرها، فإذا رآها الكفار * (قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك).
وقوله: * (فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) فيه قولان:
الأظهر أن هذا قول الأصنام يقولون للمشركين: إنكم لكاذبون، يعني: في أنا دعوناكم إلى عبادتنا، أو في قولكم: إن هؤلاء آلهة، أو في قولكم: إنا نستحق العبادة.
والقول الثاني: أن الملائكة يقولون: إنكم لكاذبون.
قوله تعالى: * (وألقوا إلى الله يومئذ السلم) أي: استسلم العابد والمعبود لله
194

(* (87) الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون (88) ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89) إن) * * تعالى. وقوله: * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي: بطل عنهم ما كانوا يكذبون، وحقيقة المعنى: أنه فات عنهم ما زعموه؛ فإنه كان فرية وكذبا.
قوله تعالى: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) يعني: منعوا الناس من طريق الحق. وقوله: * (زدناهم عذابا فوق العذاب) روى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال: عقارب كالبغال، وفي رواية أخرى عنه: أفاعي كالفيلة، وعقارب كالنخيل الطوال، وعن أبي الزاهرية قال: [ما] من عذاب يعرفه الناس، أو لا يعرفونه إلا ويعذب الله به أهل النار. وروي أنهم يهربون من النار، فيخرجون إلى زمهرير في جهنم، هو أشد عليهم من النار؛ فيعودون إلى النار مستغيثين بها، وقوله: * (بما كانوا يفسدون) أي: [يشركون].
وقوله تعالى: * (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) قد بينا المعنى.
وقوله: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) أي: بيانا للثواب والعقاب، والحلال والحرام. وعن الأوزاعي قال: تبيانا بالسنة.
وقوله: * (وهدى) أي: من الضلالة. وقوله: * (ورحمة) أي: عطفا على من أنزل عليهم. وقوله: * (وبشرى) أي: بشارة * (للمسلمين).
قوله تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) في الآية أقوال: أحدها: أن العدل هو شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره، وقيل: إنه التوحيد، وهو في معنى الأول.
195

* (الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) * *
والقول الثاني: أنه الإنصاف وترك [الجور [، وعن محمد بن كعب القرظي أنه دعاه عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة، فقال له: صف لي العدل، فقال: كن للصغير أبا، وللكبير ابنا، ولمثلك أخا، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم، وإياك أن تضرب أحدا (بغضبك) والقول الثالث: وهو أن العدل هو أن تستوي سريرة المرء وعلانيته.
وقوله تعالى: * (والإحسان) أن تكون سريرة المرء أفضل من علانيته عند الله، وقوله: * (والإحسان) فيه أقوال:
أحدها: أن الإحسان هو العفو، والآخر: هو أداء الفرائض والثالث: (أنه) أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والرابع: أنه التفضل، وقيل: الإحسان أن تكون سريرة المرء أفضل من علانيته.
وقوله: * (وإيتاء ذي القربى) أي: صلة ذوي الأرحام، وقيل: إنه يدخل في هذا جميع بني آدم؛ لأن بينه وبين الكل وصلة بآدم - صلوات الله عليه - وأدنى ما يقع في الصلة ترك الأذى، وأن يحب له ما يحبه لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه.
وقوله: * (وينهى عن الفحشاء) الفحشاء: كل ما استقبح من الذنوب، وقيل: إنه الزنا، وقيل: إنه البخل، وقيل الفحشاء: أن تكون علانية المرء أفظع من سريرته.
وقوله: * (والمنكر) يعني: كل ما يكون منكرا في الدين، وقيل: إنه الشرك، فإنه أعظم المناكير.
وقوله: * (والبغي) يقال: إنه الظلم والاستطالة على الناس، وقيل: إنه الكبر، وقيل: إنه الغيبة، وعن قتادة قال: جمع الله تعالى كل ما يحب، وكل ما يكره في هذه الآية.
196

* (يعظكم لعلكم تذكرون (90) وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91) ولا تكونوا كالتي) * *
وفي بعض المسانيد: أن شتيرا جاء إلى مسروق، فقال له: إما أن تحدثني عن عبد الله فأصدقك، أو أحدثك عن عبد الله فتصدقني، فقال: حدث أنت، فقال: سمعت عبد الله يقول: أجمع آية في القرآن للخير والشر قوله تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) فقال له مسروق: صدقت.
ويقال: إن العدل زكاة الولاية، والعفو زكاة القدرة، والإحسان زكاة النعمة، والكتب إلى الإخوان زكاة الجاه؛ يعني: كتب الوسيلة.
وقوله تعالى: * (يعظكم لعلكم تذكرون) يعني: تعتبرون.
قوله تعالى: * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) الآية، قال: العهد هاهنا هو اليمين، وعن جابر بن زيد والشعبي أنهما قالا: العهد يمين، وكفارته كفارة اليمين.
وعن عمر قال: الوعد من العهد، ومثله عن ابن عباس.
وقوله: * (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) أي: بعد إحكامها * (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) أي: شهيدا، وقيل: توثقتم باسمه كما يتوثق بالكفيل. وقوله: * (إن الله يعلم ما تفعلون) وعيد وتهديد.
قوله تعالى: * (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها) هذه امرأة كانت تسمى ريطة بنت سعد، وكانت بها وسوسة؛ فكانت تجلس بجانب الحجر، وتغزل طول نهارها بمغزل كبير، فإذا كان العشي نقضته.
وقيل: كانت تأمر جواريها بنقضه، فشبه الله من نقض العهد بها، ومعناه: أنها لم تكف عن العمل، ولا حين عملت كفت عن النقض، فكذلك أنتم لا كففتم عن العهد، ولا حين عهدتم وفيتم.
وقوله: * (من بعد قوة) أي: بعد إحكام. وقوله: * (أنكاثا) أي: إنقاضا وقطعا.
197

* (نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون (92) ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم) * * وقوله: * (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) أي: غشا وخديعة.
والدخل: ما تدخل في الشيء للفساد، ويقال: إن (الدغل) هو أن يظهر الوفاء، ويبطن النقض، وكذلك الدخل.
وقوله: * (أن تكون أمة هي أربى) أي: أكثر، وأما معناه: فروى عن مجاهد أنه قال: كانوا يعاهدون مع قوم، فإذا رأوا أقواما أعز منهم وأكثر، نقضوا عهد الأولين، وعاهدوا مع الآخرين؛ فعلى هذا قوله: * (أن تكون أمة هي أربى من أمة) يعني: طلبتم العز بنقض العهد بأن كانت أمة أكثر من أمة.
وفي الآية قول آخر: وهي نزلت في قوم عاهدوا مع النبي ثم نقضوا العهد معه، وعاهدوا مع قوم من الكفار، فظنوا أن قوتهم أكثر، لأن عددهم أكثر، ويقال: إن الآية نزلت في المؤمنين، نهاهم الله تعالى عن نقض العهد؛ فكأنه تعالى قال: إذا عاهدتم مع قوم لمخافة، فإذا أمنتم فلا تنقضوا، ليكون جانبكم أقوى وأكثر.
وقوله: * (إنما يبلوكم الله به) يعني: بالكثرة والقلة، وقيل: يبلوكم الله به يعني: بالأمر بالوفاء بالعهد. وقوله: * (وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) أي: على دين واحد، وهو الإسلام. وقوله: * (ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء) والآية صريحة في الرد على القدرية.
وقوله: * (ولتسألن عما كنتم تعملون) يعني: يوم القيامة، وحقيقة المعنى أني لا أسأل عما أفعل من الإضلال والهداية، وأنتم تسألون عما تعملون من الخير والشر. وقوله تعالى: * (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم) أي: سبب فساد بينكم، وقد
198

* (تعملون (93) ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم (94) ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون (95) ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (96) من عمل صالحا من ذكر) * * بينا معنى الدخل.
وقوله: * (فتزل قدم بعد ثبوتها) يعني: تزل عن الإسلام بعد ثبوتها على الإسلام قال:
(النحو صعب وطويل سلمه
* إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه)
(زلت به إلى الحضيض قدمه
*)
وقوله: * (وتذوقوا السوء) بالعذاب. وقوله: * (بما صددتم عن سبيل الله) يعني: سهلتم طريق نقض العهد على الناس بنقضكم العهد. وقوله: * (ولكم عذاب عظيم) أي: كبير.
قوله تعالى: * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) يعني: شيئا يسيرا من عرض الدنيا. وقوله: * (إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ما عندكم ينفد) يعني: أن الدنيا وما فيها تفنى. وقوله: * (وما عند الله باق) يعني: الآخرة، وعلى العاقل أن يؤثر ما يبقى، وفي بعض الآثار: للدنيا بنون، وللآخرة بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا.
وقوله: * (ولنجزين الذين صبروا أجرهم) يعني: صبروا عن الدنيا. وقوله: * (أجرهم) أي: ثوابهم وجزاءهم. وقوله: * (بأحسن ما كانوا يعملون) أي: بأحسن الذي كانوا يعملون.
قوله تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) اختلفوا في الحياة الطيبة على أقاويل:
199

* (أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (97) فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98)) * *
روي عن ابن عباس أنه قال: الحياة الطيبة هي الرزق الحلال. وعن مجاهد وعكرمة: أنها القناعة، وفي بعض دعاء النبي: ' اللهم قنعني بما رزقتني ' وفي منثور الكلام: القناعة ملك خفي.
والقول الثالث: روي عن الحسن البصري قال: الحياة الطيبة في الجنة، قال الحسن: وليس في الدنيا حياة طيبة، وعنه أنه قال: الدنيا كلها بلاء، فما كان فيها من خير فهو ريح، وروي أنه سمع رجلا يقول لآخر: لا أراك الله مكروها أبدا، فقال له: دعوت الله له بالموت، فإن الدنيا لا تخلو عن المكروه.
وعن سعيد بن جبير قال: الحياة الطيبة رزق يوم بيوم، وقيل: إنه حلاوة العبادة وأكل الحلال، ويقال: إنها عيش الإنسان في بلده مع الكفاية والعافية، وقيل: مطلق الكفاية والعافية.
وقوله: * (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) قد بينا المعنى.
قوله تعالى: * (فإذا قرأت القرآن) روي عن أبي هريرة أنه قال: فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم بعد القراءة؛ لأن الله تعالى قال: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) وحكى بعضهم عن مالك مثل هذا.
والأصح أن الاستعاذة قبل القراءة، وقد روي ذلك بروايات كثيرة عن النبي وقد روي عن النبي برواية أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال له: ' إذا افتتحت القراءة فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم '. وثبت
200

* (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (100) وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل) * * أن النبي قال: ' اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفثه '.
وأما معنى الآية: إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا مثل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وفي بعض الآثار: أنه لا شيء أشد على إبليس من الاستعاذة، والاستعاذة بالله هي الاعتصام بالله.
وقوله: * (من الشيطان الرجيم) أي: الشيطان المرجوم.
وقوله تعالى: * (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا) أي: ليس له ولاية على الذين آمنوا. وقوله: * (وعلى ربهم يتوكلون) يقال معناه: أنه لا يقدر على إيقاعهم في ذنب ليس لهم منه توبة، وقيل: إنه لا يقدر على إدخالهم في الشرك وإغوائهم.
قوله تعالى: * (إنما سلطانه على الذين يتولونه) يعني: الذين يدخلون في ولايته ويتبعونه.
وقوله: * (والذين هم به مشركون) قال بعضهم: برب العالمين مشركون، وقال ثعلب: والذين هم به مشركون أي: لأجله مشركون أي: لأجل إبليس، وهذا معنى صحيح؛ لأن من يشرك بإبليس يكون مؤمنا بالله، فالمعنى هذا.
قوله تعالى: * (وإذا بدلنا آية مكان آية) قال أهل التفسير: كان النبي إذا نزلت عليه آية شدة، ثم نسخت، وأنزلت عليه آية لين، قال المشركون: انظروا إلى
201

* (قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102) ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه) * * هذا الرجل يبدل كلام الله من قبل نفسه، وكانوا يقولون على طريق الاستهزاء: وتبدل الشيء بالشيء؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (وإذا بدلنا آية مكان آية) ' أي: وضعنا آية مكان آية.
وقوله: * (والله أعلم بما ينزل) يعني: والله أعلم بمنفعة العباد فيما ينزل.
وقوله: * (قالوا إنما أنت مفتر) أي: مختلق. وقوله: * (بل أكثرهم لا يعلمون) يعني: كلهم لا يعلمون أني أنا المنزل لجميع الآيات الناسخ والمنسوخ.
قوله تعالى: * (قل نزله روح القدس) أي: جبريل. وقوله: * (من ربك بالحق) أي: بالصدق وقوله: * (ليثبت الذين آمنوا) أي: ليثبت قلوب الذين آمنوا.
وقوله: * (وهدى وبشرى للمسلمين) قد بينا المعنى.
قوله: * (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) الآية، اختلفت الأقاويل في معنى قوله: * (بشر) روي عن ابن عباس أنه قال: هو غلام لعامر بن الحضرمي، وكان يقرأ الكتب، وكان المشركون يزعمون أن رسول الله يتعلم منه، وقال مجاهد: هو غلام لحويطب، وقال غيره: كان اسمه جبر، ومنهم من قال: غلامان من عين التمر يسمى أحدهما: جبر، والآخر: يسار، وكانا يقرآن الكتب بلسانهما، وقال بعضهم: كان اسمه: أبو (فكيهة)، وقيل: كان اسمه: عايش، قالوا: كان النبي يجلس إليهما، ويدعوهما، إلى الإسلام، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: * (لسان الذي يلحدون إليه) قرئ: ' يلحدون إليه ' و ' يلحدون '، والإلحاد: الميل، والملحد هو الذي مال عن الحق إلى التعطيل؛ فقوله: * (يلحدون إليه) أي: يميلون إليه.
وقوله: * (يلحدون إليه) أي: يميلون القول إليه، وقال ابن قتيبة: يومئون إليه،
202

* (بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103) إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم (104) إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون (105)) * * وقوله: * (أعجمي) الأعجمي: هو الذي لا يفصح بالعربية.
وقوله: * (وهذا لسان عربي مبين) أي: كلام عربي مبين، ومعنى الآية: أنه كيف يأخذ منهم، وهم لا يفصحون بالعربية؟ وقد روي أن ذلك الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم، وحسن إسلامه.
قوله تعالى: * (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله) يعني: لا يرشدهم الله إلى الحق، وقد قال في موضع آخر: * (ومن يؤمن بالله يهد قلبه).
وقوله: * (ولهم عذاب أليم) أي: مؤلم.
قوله تعالى: * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكذبون) فإن قال قائل: قد قال: * (إنما يفتري الكذب) فأيش معنى قوله: * (وأولئك هم الكاذبون)؟
والجواب عنه: أن قوله: * (إنما يفتري الكذب) هذا إخبار عن فعل الكذب، وقوله: * (وأولئك هم الكاذبون) نعت لازم، ومعناه: أن هذا صفتهم ونعتهم، وهذا كالرجل يقول لغيره: كذبت، وأنت كاذب أي: كذبت في هذا القول، ومن صفتك الكذب. وفي بعض المسانيد عن يعلى بن الأشدق عن عبد الله بن جراد أنه قال: ' قلت يا رسول الله: المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك، فقلت: المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك، فقلت المؤمن يكذب؟ فقال: لا، وقرأ قوله تعالى: * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) ' وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال
203

* (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم (106) ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين (107) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون (108) لا جرم أنهم في الآخرة هم
) * *: الكذب مجانب للإيمان.
قوله تعالى: * (من كفر بالله من بعد إيمانه) نزلت الآية في عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أخذه المشركون، وأكرهوه على سب النبي فطاوعهم في بعض القول، ثم جاء إلى النبي، فقال له النبي: ' ما وراءك؟ فقال: شر يا رسول الله، لم يتركني الكفار حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، فقال: وكيف وجدت قلبك؟ فقال: مطمئنا بالإيمان؛ فقال: إن عادوا فعد؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ' وتقدير الآية: من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم إلا من أكره، وقلبه مطمئن بالإيمان * (ولكن من شرح بالكفر صدرا) فحكمه ما بينا. وقوله: * (شرح) أي: فتح قلبه لقبول الكفر.
قوله تعالى: * (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) يعني: آثروا الحياة الدنيا على الآخرة. واعلم أن المؤمن يجوز أن يطلب الدنيا، ويطلب الآخرة، ولكن لا يؤثر الدنيا على الآخرة إلا الكافر. وقوله: * (وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) لا يرشد القوم الكافرين.
قوله تعالى: * (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون) أي: عما يراد بهم.
قوله تعالى: * (لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) أي: حقا أنهم في الآخرة هم المغبونون.
204

* (الخاسرون (109) ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (110) يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل) * *
قوله تعالى: * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد فتنوا) نزلت الآية في قوم كانوا بقوا بمكة من المسلمين، وعذبهم المشركون حتى ذكروا كلمة الكفر بلسانهم، منهم عمار وخباب وصهيب وغيرهم.
وقوله: * (من بعد ما فتنوا) أي: عذبوا حتى وقعوا في الفتنة، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا، ولحقوا بالنبي. وقوله: * (ثم جاهدوا وصبروا) يعني: على الجهاد والإيمان.
وقوله: * (إن ربك من بعدها لغفور رحيم) أي: من بعد فعلتهم التي فعلوها من إعطاء الكفار بعض ما أرادوا منهم.
فإن قال قائل: إذا كان ذلك رخصة، فلا يحتاج إلى المغفرة والرحمة؟ والجواب: أنه يحتمل أنهم فعلوا ما فعلوا ذلك قبل نزول الرخصة.
قوله تعالى: * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها). فإن قيل: كيف قال: تجادل، وقد سبق ذكر كل، ولفظ كل مذكر؟
والجواب عنه: أنه عاد كلمة كل على المؤنث؛ فلهذا المعنى أنث، وهذا كما يقال: كل امرأة قائمة، وما أشبه هذا.
وقوله: * (تجادل عن نفسها) أي: تخاصم عن نفسها، ومجادلتهم هي قولهم: والله ربنا ما كنا مشركين، وقولهم: ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، وما أشبه هذا من الأقوال التي ذكرت في القرآن.
وقيل: تجادل عن نفسها: تدفع عن نفسها. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة، فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا خر وجثى على ركبتيه، ويقول: نفسي نفسي حتى إبراهيم خليل الرحمن فيقول: ربي لا أريد إلا نجاة نفسي، قال كعب: وهو في كتاب الله تعالى: * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها).
205

* (نفس ما عملت وهم لا يظلمون (111) وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا) * *
وروي أنه قال هذا بين يدي عمر - رضي الله عنه - وقد كان عمر قال له: حدثنا، ذكرنا. وقوله: * (وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة) الآية. أكثر أهل التفسير: أن القرية ها هنا هي مكة - وقوله: * (يأتيها رزقها رغدا من كل مكان) هو معنى قوله تعالى: * (وارزقهم من الثمرات).
وقوله: * (فكفرت بأنعم الله) الأنعم: جمع النعمة. وقوله: * (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) ذكر الذوق، لأن المراد من لباس الجوع والخوف التعذيب، ويستقيم أن يقال في التعذيب: ذق، كما قال تعالى: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم).
والمعنى: أن العذاب يتجدد إدراكه كل ساعة كالذوق.
روي أن الله تعالى سلط عليهم القحط سبع سنين حتى أكلوا (الطعام) المحترقة والعلهز، وهو الوبر بالدم، حتى كان ينظر أحدهم إلى السماء فيرى كشبه الدخان من الجوع '.
* (والخوف) هو الخوف من القتل، ومن سرايا النبي.
والمراد من القرية: أهل القرية، وهو مثل قوله تعالى: * (واسأل القرية) وكذلك قوله: * (آمنة) أي: آمن أهلها، وكذلك مطمئنة.
وفي الآية قول آخر: وهو أنه كل بلد من بلدان الكفار.
206

* (يصنعون (112) ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون (113) فكلوا مما رزقكم الله حلال طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون (114) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم (115) ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا
حلال وهذا) * *
وفي الآية قول ثالث: وهو أنها المدينة، وكفران أهلها بأنعم الله هو ما فعلوا بعد النبي من قتل عثمان، وما يعقبه من الأمور، وهو قول ضعيف. وأما ذكر اللباس في الآية، فلأن من جاع لحقه من الهزال والشحوب والتغير ما يزيد ظاهره عما كان من قبل؛ فجعل ذلك كاللباس لجلوده.
وقوله: * (بما كانوا يصنعون) أي: يكفرون.
قوله تعالى: * (ولقد جاءهم رسول منهم) أي: محمد، وقوله: * (منهم) أي: نسبهم، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وقوله: * (فكذبوه) أي: كفروا به. وقوله: * (فأخذهم العذاب وهم ظالمون) أي: كافرون. قوله تعالى: * (فكلوا مما رزقكم الله حلال طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون) قد بينا المعنى.
قوله تعالى: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد) معنى قوله: * (باغ) أي: طالب بذلك ليتقوى على المعصية * (ولا عاد) أي: لا يتعدى القدر الذي جوز له من التناول، وهذا دليل على أن العاصي في السفر لا يترخص بهذه الرخصة.
وقوله: * (فإن الله غفور رحيم) ظاهر المعنى.
قوله: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب) يعني: لوصف ألسنتكم الكذب. وقوله: * (هذا حلال وهذا حرام) المراد منه: ما ذكروه في البحيرة والسائبة
207

* (حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (116) متاع قليل ولهم عذاب أليم (117) وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (118) ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (119) إن) * * والوصيلة والحام، وقد كانوا يحلونها لقوم، ويحرمونها على قوم. وقوله: * (لتفتروا على الله الكذب) أي: لتختلقوا على الله الكذب. وقوله: * (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) أي: لا يفوزون.
قوله تعالى: * (متاع قليل ولهم عذاب أليم) أي: عيشهم في الدنيا متاع قليل، * (ولهم عذاب أليم) أي: وجيع.
قوله تعالى: * (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) معناه: ما ذكره في سورة الأنعام، وهو قوله تعالى: * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر). وقوله: * (وما ظلمناهم) أي: ما نقصنا من حقهم * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي: هم الذين نقصوا من حقوقهم.
قوله تعالى: * (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة) قال أهل العلم: وكل من عمل بمعصية، فهو من داعي الجهالة. وقوله: * (ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) شرط الصلاح هاهنا، ومعناه: الاستقامة على التوبة. وقوله: * (إن ربك من بعدها لغفور رحيم) أي: من بعد الفعلة التي تابوا عنها.
قوله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة) في الأمة أقوال، أحسن الأقاويل ما حكاه مسروق عن ابن مسعود أنه المعلم للخير، وهو الذي يقتدى به ويؤتم؛ وروي أن عبد الله بن مسعود قال بعد موت معاذ بن جبل: كان معاذ بن جبل أمة، وأراد به هذا المعنى.
القول الثاني: كان أمة، أي: إمام هدى، والقول الثالث: كان أمة أي: كان مؤمنا
208

* (إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122) ثم أوحينا إليك أن ابتع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123) إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما) * * بالله، وجميع الناس كافرون. وقوله: * (قانتا لله) قال ابن مسعود: مطيعا لله، وقال غيره: قائما بأوامر الله، وقيل: دائما على العبادة.
وقوله: * (حنيفا) أي: مخلصا، وقيل: مستقيما على الدين.
قوله: * (ولم يك من المشركين) أي: ممن يعبد الأصنام، وقال بعض أهل المعاني: كان يرى العطاء والمنع من الله.
قوله: * (شاكرا لأنعمه) أي: لنعمه. وقوله: * (اجتباه وهداه) أي: اختاره وأرشده. وقوله: * (إلى صراط مستقيم) أي: إلى دين الحق.
قوله: * (وآتيناه في الدنيا حسنة) قيل: هي النبوة، وقيل: لسان الصدق، وقيل: التنويه لذكره بطاعته لربه، وقيل: قبول كل أهل الملل له، وقيل: ضيافته ودعاء الناس له إلى يوم القيامة. وقوله: * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) هذا دليل على أنه يجوز للفاضل أن يتبع المفضول. وقوله: * (وما كان من المشركين) ظاهر المعنى.
وقد قال بعض أهل الأصول: إن النبي كان مأمورا بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ في شريعته بدليل هذه الآية، وقد قيل غير هذا، والصحيح أنه كان مأمورا باتباع شريعته في بعض الأشياء، وصار ذلك شريعة له.
قوله تعالى: * (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) معناه: إنما جعل السبت لعنة على الذين اختلفوا فيه. وقوله: * (اختلفوا فيه) أي: خالفوا فيه، وقال
209

* (كانوا فيه يختلفون (124) ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * * بعضهم: اختلفوا فيه أي: حرم بعضهم، وأحل بعضهم يعني: السبت.
وقال مجاهد: كان الله تعالى أمرهم بالجمعة فأبوا، وطلبوا السبت فشدد عليهم فيه، وكذلك النصارى أمروا بالجمعة فأبوا، وطلبوا الأحد، وأعطى الله تعالى الجمعة لهذه
الأمة فقبلوا، وبورك لهم فيها، وفي الباب خبر صحيح قد بيناه من قبل.
قوله: * (وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) ظاهر المعنى. قوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك) إلى دين ربك. وقوله: * (بالحكمة) أي: بالقرآن، وقيل: الحكمة معرفة الأشياء على مراتبها في الحسن والقبح، وقيل: الدعاء بالحكمة هو الرد عن القبيح إلى الحسن بشرط العلم.
وقوله: * (والموعظة الحسنة) الموعظة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب، وقيل: الموعظة الحسنة هي القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف.
وقوله: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) أي: مع الإعراض عن أذاهم لك والصبر على مكروههم، وقد نسخ هذا بآية السيف.
وقوله: * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) أكثر أهل التفسير أن هذه الآية نزلت فيما فعله المشركون بحمزة وأصحابه؛ فإنه يروى: ' أن النبي - - مر عليه، وقد بقر بطنه، وأخذ كبده، وقطعت مذاكيره وجعلت في فيه؛ فرأى أمرا فظيعا؛ فقال: لئن قدرت عليهم لأمثلن بسبعين منهم، وروي أن الصحابة قالوا قريبا
210

* (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)) * * من هذا القول فأنزل الله تعالى هذه الآية '.
وقد قال زيد بن أسلم والضحاك: إن الآية مكية، وليست في حمزة وأصحابه، والأصح هو الأول.
وقوله: * (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) يعني: لئن عفوتم * (لهو خير للصابرين) أي: خير للعافين، وقد تحقق هذا العفو في حق وحشي قاتل حمزة بعدما أسلم، وكذلك هذا في كل المشركين الذين أسلموا.
قوله تعالى: * (واصبر وما صبرك إلا بالله) أي: بمعونة الله. وقوله: * (ولا تحزن عليهم) أي: لا تحزن على أفعالهم وإبائهم للإسلام.
وقوله: * (ولا تك في ضيق مما يمكرون) قرئ: ' في ضيق ' ومعنى القراءتين: لا يضيقن صدرك * (مما يمكرون) أي: يشركون، وقيل: مما فعلوا من الأفاعيل.
قوله تعالى: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) يعني: اتقوا المناهي * (والذين هم محسنون) بأداء الفرائض، [وقوله]: * (مع) بالحفظ والنصرة والمعونة، والله أعلم.
211

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (سبحان الذي أسرى) * *
تفسير سورة بني إسرائيل
وهي مكية إلا خمس آيات، سنذكرها في مواضعها.
وروي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه من تلادي، وهن من العتاق الأول.
قوله تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده) سبحان: تنزيه الله من كل سوء، وحقيقته تعظيم الله بوصف المبالغة، ووصفه بالبراءة من كل نقص.
وكلمة سبحان؛ كلمة ممتنعة لا يحوز أن يوصف بها غير الله؛ لأن المبالغة في التعظيم لا تليق لغير الله، ولا تنصرف حسب ما ينصرف كثير من المصادر؛ لأنه لما لم يستقم الوصف به لغير الله، ولم تتصرف جهاته لزم أيضا منهاجا واحدا في الصرف.
وأما التسبيح في القرآن على وجوه: قد ورد بمعنى الصلاة، قال الله تعالى: * (فلولا أنه كان من المسبحين) أي: من المصلين.
وورد بمعنى الاستثناء، قال الله تعالى: * (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) أي: تستثنون.
وورد بمعنى التنزيه. وهو قوله تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده)، وورد في الخبر بمعنى النور، وهو في الخبر الذي قال: ' لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره ' أي: نور وجهه، وقد ورد في الخبر عن النبي ' أنه فسر سبحان الله
212

* (بعبده ليلا من المسجد الحرام) * * بتنزيه الله من كل سوء '.
وقوله: * (أسرى بعبده) يقال: أسرى به إذا سيره ليلا، وكذا سرى به. قال الشاعر:
(وليلة ذات ندى سريت
* ولم يلتني عن سراها ليت)
وقوله: * (بعبده) أي: بمحمد، وقد روي عن النبي أنه قال: ' إن الله اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا '.
وقوله: * (ليلا) ذكر ليلا؛ لينبه أنه كان في طائفة منه.
وقرأ ابن مسعود: ' أسرى بعبده من الليل '. وقوله: * (من المسجد الحرام) اختلفوا في الموضع الذي أسري منه برسول الله؛ فأحد القولين: أنه من المسجد الحرام، وعليه يدل ظاهر الآية.
وعن محمد بن علي الباقر: أن النبي قال: ' كنت نائما في الحجر، فأتاني جبريل - عليه السلام - وحركني حركة لطيفة، وقال: يا محمد، قم وافدا إلى ربك '.
والقول الثاني: أنه أسرى به من بيت أم هانيء بنت أبي طالب، وهذا في رواية أبي صالح عن ابن عباس.
213

* (إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير (1)) * *
واختلف القول في الوقت الذي أسرى به؛ قال مقاتل: كان قبل الهجرة بسنة، ويقال: إنه كان في رجب، ويقال: في رمضان. وقال بعضهم أسرى به وهو ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما، والله أعلم.
وقوله * (إلى المسجد الأقصى) يعني: إلى مسجد بيت المقدس، وسماه الأقصى لبعده من المسجد الحرام.
وقوله: * (الذي باركنا حوله) يعني: بالماء والشجر، وقيل: باركنا حوله؛ لأنه (مواضع) الأنبياء ومهبط الملائكة.
قوله: * (لنريه من آياتنا) أي: من عجائب قدرتنا، وقد رأى هناك الأنبياء، ورأى آثارهم.
وقوله: * (إنه هو السميع البصير) - ذكر السميع ها هنا لينبه على أنه المجيب لدعائه، وذكر البصير لينبه على أنه كان الحافظ له في ظلمة الليل.
وأما الكلام في الإسراء فاختلف القول على أنه أسري بجسمه وروحه أم بروحه؟ فالأكثرون على أنه أسري بجسمه وروحه جميعا. وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: ما فقد جسم رسول الله وإنما أسري بروحه؟
وقد تواترت الأخبار الصحيحة على ما يوافق القول الأول، وأتمها حديث أنس عن مالك بن صعصعة، عن النبي، وفيه: أنه أسري به إلى بيت المقدس ثم منه إلى السماء، واستفتح جبريل السماء الدنيا، فقيل له: ومن معك؟ فقال: محمد عليه السلام.
فقالوا: أوبعث؟ قال: نعم.
214

قالوا: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، وهكذا في كل سماء، وذكر فيه: أنه رأى في السماء الدنيا آدم - عليه السلام - وفي السماء الثانية ابني الخالة عيسى ويحيى، وفي السماء الثالثة يوسف، وفي السماء الرابعة إدريس عليه السلام، وفي السماء الخامسة هارون، وفي السماء السادسة موسى، وفي السماء السابعة إبراهيم، وفيه أنه قال: ' رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا أوراقها كآذان الفيلة، وإذا نبقها كقلال هجر، ورأيت أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران باطنان ونهران ظاهران؛ فأما الباطنان في الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات وذكر فيه أن الله تعالى فرض عليه خمسين صلاة.. القصة بطولها إلى أن ردت إلى الخمس.
وقد روى شبها بهذه القصة جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة بن اليمان، وأبو هريرة، وغيرهم.
وروى معمر عن قتادة عن أنس عن النبي ' أن جبريل عليه السلام جاء بالبراق مسرجا ملجما، فأراد الرسول أن يركبها فاستعصت عليه، فقال لها جبريل: والله ما ركبك أحد أكرم على الله منه فارفض به عرقا '. ذكره أبو عيسى في جامعه.
وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' أتيت بدابة دون البغلة وفوق الحمار، خطوها عند منتهى بصرها '. وثبت أيضا عن النبي أنه قال: ' رأيت موسى ليلة أسري بي، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ربعة أحمر، كأنه خرج من ديماس، ورأيت
215

* (وآتينا موسى الكتاب) * * إبراهيم وصاحبكم أشبه الناس به '.
وفي هذا الخبر أنه قال: ' أتيت بإناءين في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فأخذت اللبن وشربته، فقال جبريل: أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك '.
وفي القصة: أنه لما أصبح تحدث الناس بمسراه، [ففتن] كثير من الناس، وارتد جماعة ممن آمن به وصدق، وجاء المشركون إلى أبي بكر - رضي الله عنه - وقالوا له: ألا ترى إلى صاحبك يحدث أنه أسري به إلى بيت المقدس ورجع من ليلته، ونحن نضرب أكباد الإبل شهرا حتى نصل إليه! فقال أبو بكر: إن كان قال ذلك فقد صدق، فقالوا له: أتصدق بمثل هذا؟ قال: نعم، وأكثر منه، فأنا أصدقه أنه يأتيه خبر السماء في غدوة أو روحة.
وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' كنت قائما في الحجر، فرفع لي بيت المقدس (فجعلت أنعته) لهم ' وهذا حين سألوه عن وصفه.
وفي القصة: أن المشركين سألوه عن ركب لهم في الطريق فقال: قد بلغ موضع كذا، ويقدمه جمل أورق، قالوا: ومتى يصل؟ قال: مع طلوع الشمس، فخرج بعضهم يرتقبون العير، وبعضهم يرتقبون طلوع الشمس، فقال أولئك: هذا العير قد أقبل، وقال هؤلاء: هذه الشمس قد طلعت.
216

* (وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا (2) ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا (3) وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض) * *
وروي أنه قال: ' مررت بإناء مغطى وهو ملآن ماء فشربت بعضه وتركته ' فسئل الركب عن ذلك فأخبروا بصورته.
قوله تعالى: * (وآتينا موسى الكتاب) الآية يعني: أعطينا موسى الكتاب، وهو التوراة.
وقوله: * (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) أي: يهتدي به بنو إسرائيل. وقوله: * (ألا تتخذوا) قرئ بقراءتين: بالتاء، والياء، فمن قرأ بالتاء فمعناه: وآتينا موسى الكتاب آمرين ألا تتخذوا، ومن قرأ بالياء فمعناه: وعهدنا إليهم ألا يتخذوا. قوله: * (من دوني وكيلا) أي: شريكا، وقيل معناه: أمرناهم أن لا يتوكلوا على غيري، ولا يتخذوا أربابا دوني.
قوله تعالى: * (ذرية من حملنا مع نوح) معناه: يا ذرية من حملنا مع نوح، وقرأ مجاهد بنصب الذال. وعن زيد بن ثابت في بعض الروايات: ' ذرية من حملنا مع
نوح ' بكسر الذال. وإنما قال: * (ذرية من حملنا مع نوح) لأن الخلق الآن من أولاد نوح على ما بينا من قبل.
وقوله: * (من حملنا) أي: في السفينة.
وقوله: * (إنه كان عبدا شكورا) سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه، وقيل: كان اسمه عبد الغفار. ذكره النقاش في تفسيره.
وأما شكره: فروي أنه كان إذا أكل قال: الحمد لله، وإذا شرب قال: الحمد الله،
217

* (مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس) * * وإذا لبس قال: الحمد الله، وفي بعض الروايات: أنه إذا دخل قال: الحمد الله، وإذا خرج قال: الحمد الله، وكذا في القيام والقعود.
وروي أنه لم يخط خطوة إلا ذكر الله تعالى، فقال: * (إنه كان عبدا شكورا) أي: كثير الشكر.
قوله تعالى: * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) الآية. القضاء: فصل الأمر بالأحكام، ومعنى قضينا ها هنا أي: أوحينا، وأعلمنا.
وقيل معناه: وقضينا على بني إسرائيل في الكتاب.
وقوله: * (لتفسدن في الأرض مرتين) أي لتعصن في الأرض مرتين. وقوله: * (ولتعلن) أي: لتتعظمن وتبغن وتتكبرن.
وقوله: * (علوا كبيرا) أي: كبرا عظيما.
قوله تعالى: * (فإذا جاء وعد أولاهما) يعني: أولى المرتين. وفي القصة: أن فسادهم في المرة الأولى وكان بقتل إشعيا النبي - عليه السلام - وارتكابهم المعاصي، ورفضهم ما أمروا به. وفي بعض التفاسير: أنهم عبدوا الأوثان.
والأرض المذكورة: أرض الشام، وأرض بيت المقدس. وقوله: * (بعثنا عليكم عبادا لنا) هذا البعث هو مثل قوله تعالى: * (أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) فيجوز أن تكون بمعنى التسليط، ويجوز أن تكون بمعنى التخلية بينهم وبين القوم، [واختلفت] الأقاويل في أنهم من كانوا؟
قال ابن عباس: هم جالوت وقومه، وقال سعيد بين المسيب: بخت نصر الفارسي،
218

* (شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا (6) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن) * * وقال غيره: سنحاريب الملك، وقال بعضهم: العمالقة. وأظهر الأقاويل أنه بخت نصر، وروي عن مجاهد أنه قال: ملك الأرض أربعة: مؤمنان، وكافران؛ أما المؤمنان: فسليمان، وذو القرنين - عليهما السلام - وأما الكافران: فنمروذ، وبخت نصر.
قال الشيخ الإمام الأجل: أخبرنا بهذا أبو علي الشافعي بمكة قال: أخبرنا أبو الحسن بن فراس قال: أنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم الديبلي وقال: أنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي قال: أنا [سفيان] بن عيينة عن داود بن شابور عن مجاهد.
وقوله: * (أولي بأس شديد) أي: أولي قوة شديدة.
وقوله: * (فجاسوا خلال الديار) والجوس: طلب الشيء بالاستقصاء.
قال الزجاج: طلبوا خلال الديار هل بقي أحد فيقتل؟ وخلال الديار وسط الديار.
وقوله: * (وكان وعدا مفعولا) أي: وعدا لا بد منه. قال الشاعر:
(في الجوس جسنا إليك الليل بالمطي
*)
قوله تعالى: * (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) أي: الدولة عليهم، وفي القصة: أن هذا التخريب كان بعد ملك سليمان، وأن بخت نصر قتل المقاتلة، وسبى الذرية، وخرب بيت المقدس، وألقى الجيف في مسجده، وكان من موت عزير النبي مائة سنة في هذا التخريب، وما قص الله من أمره في سورة البقرة، ثم إن الله تعالى رد الدولة إلى بني إسرائيل حتى عمروا ما خرب.
وفي بعض القصص: أن الله تعالى أرسل ملكا إليهم حتى رد العمارات، واستنقذ
219

* (أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7)) * * الأسارى، وعاد البلد أفضل مما كان. فهذا معنى قوله: * (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) وفي تعذيب بخت نصر ومسخه قصة طويلة ليس هذا موضعه.
وقوله: * (وأمددناكم بأموال وبنين) ظاهر المعنى. وقوله: * (وجعلناكم أكثر نفيرا) أي: أكثر عددا.
قال الشاعر:
(وأكرم بقحطان من معشر
* وحمير أكرم بقوم نفيرا)
قوله تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) يعني: جلبتم النفع إليها.
وقوله: * (وإن أسأتم فلها) أي: فعليها.
وقوله: * (فإذا جاء وعد الآخرة) يعني: وعد الكرة الآخرة. وقوله: * (ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة) قرئ هكذا، وقرئ: ' ليسوء وجوهكم ' مقصور، وعن علي - رضي الله عنه -: ' لنسوء وجوهكم ' بالنون، وهو اختيار الكسائي، وفي الشاذ: ' لنسوء وجوهكم ' بفتح اللام. أما قوله: * (ليسوء وجوهكم) بالياء يعني: أولئك القوم يسوءوا وجوهكم: وقوله: * (ليسوءوا وجوهكم) أي: ليسوء الوعد وجوهكم.
وقوله: ' لنسوء ' بالنون ظاهر المعنى، وسوء الوجه بإدخال الغم والحزن.
وقوله: * (وليتبروا ما علو تتبيرا) أي: ليخربوا، ويدمروا ما علوا عليه - أي: ما ظهروا - تخريبا.
قال الشاعر:
(وما الناس إلا عاملان فعامل
* يتبر ما يبني وآخر رافع)
وفي القصة: أن فسادهم الثاني كان بقتل يحيى بن زكريا - عليهما السلام -
220

* (عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (8) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * * وكان سبب قتله، أن بغية من بغايا بني إسرائيل طلبت من الملك أن يقتله فقتله، فلما قتله، ووقع دمه على الأرض، جعل يغلي فلا يسكن بشيء، وسلط الله عليهم عدوهم.
فقيل: إن العدو في الكرة الثانية كان بخت نصر، وفي الأولى جالوت. وقيل: إن العدو في المرة الثانية كان ملكا من الروم، جاء وخرب بيت المقدس، وقتل المقاتلة، وسبى الذرية.
فروي أنه استصعب عليه فتح المدينة، فقالت عجوز: أيها الملك، أتريد أن تفتح هذه المدينة؟ فقال: نعم، فقالت: قل اللهم إني أستفتحك هذه المدينة بدم يحيى بن زكريا، فقال هذا القول، فتساقطت حيطان المدينة؛ فدخل بالسيف يقتل، ووصل إلى المكان الذي يغلي فيه دم يحيى. فقال: لأقتلن عليه الناس حتى يسكن الدم؛ فقتل عليه أربعين ألفا فلم يسكن، فقتل خمسين ألفا فلم يسكن، فقتل ستين ألفا فلم يسكن، فقال: والله لا أزال أقتل عليه حتى يسكن، فاستكمل سبعين ألفا فسكن، وقيل: ثمانين ألفا.
وقوله تعالى: * (عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا) قال مجاهد: عسى من الله واجب.
وقوله: * (أن يرحمكم) أي: يرد الدولة إليكم بعد زوالها. وفي القصة: أن الله تعالى رد إليهم الدولة، وعمر بيت المقدس بعد ما خرب، [و] عاد ملكم على ما كان.
وقوله: * (وإن عدتم عدنا) معناه: وإن عدتم إلى المعصية عدنا إلى الانتقام. فروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: عادوا إلى المعصية، فانتقم الله منهم بالعرب، فهم مقهورون مستذلون إلى يوم القيامة، وقيل: بمحمد. والقولان متقاربان في المعنى.
221

* (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (9) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما (10) ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان) * * وقوله: * (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) قال مجاهد: محبسا، وقيل: حصيرا أي: حاصرا، فعيل بمعنى فاعل، قاله ابن قتيبة.
والحصر هو الحبس، والسجن يسمى حصيرا في اللغة.
قوله تعالى: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) فيه قولان: أحدهما: للكلمة التي هي أقوم، وأقوم أي: أعدل، والكلمة هي شهادة أن لا إله إلا الله.
والقول الثاني: قاله الزجاج * (يهدي للتي هي أقوم) أي: للحال التي هي أقوم، والحال التي هي أقوم: توحيد الله، واتباع رسله، وطواعيته في أوامره.
وقوله: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات) يعني: القرآن يبشر الذين يعملون الصالحات.
وقوله: * (أن لهم أجرا كبيرا) أي: عظيما.
وقوله: * (وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة) معناه: ويبشر الذين لا يؤمنون بالآخرة أنا * (اعتدنا لهم عذابا أليما) أي: أعددنا. والبشارة هاهنا بمعنى الخبر؛ لأن العرب لا تضع البشارة إلا في موضع السرور.
وحقيقة المعنى أي: ضع هذا الخبر لهم موضع البشارة.
قوله تعالى: * (ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا) دعاء الإنسان بالشر هو أن يدعو على نفسه وأهله وولده حالة الغضب، فيقول: اللهم أهلكهم، اللهم العنهم، وربما يقول لنفسه هذه المقالة.
وقوله: * (دعاءه بالخير) أي: كدعائه بالخير، ويقال: إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث فإنه قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
222

* (الإنسان عجولا (11)) * *
فاستجاب الله له، وضربت عنقه صبرا يوم بدر.
وروي عن النبي أنه قال: ' اللهم إني بشر، أغضب كما يغضب البشر، وأيما مسلم لعنته، أو سببته فاجعلها له صلاة ورحمة '.
وفي بعض الأخبار: ' أتى النبي بأسير فسلمه إلى سودة بنت زمعة لتحفظه، وكان الأسير أتى مشدودا فجعل جميع الليل يئن، فقامت سودة، وأرخت من وثاقه؛ فهرب الأسير، فلما دخل رسول الله قال لها: أين الأسير؟ فذكرت له ذلك فقال: قطع الله يدك، وبعث خلف الأسير من رده، فأخرجت سودة يدها؛ ليجيء من يقطعها بدعاء النبي؛ فدخل عليها النبي، ورآها على تلك الحالة، فسألها: ممن هذا؟ فقالت: لدعائك يا رسول الله؛ فقال رسول الله: ' اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر.. ' الخبر.
وقوله: * (وكان الإنسان عجولا) يعني: أنه يعجل بدعاء الشر، والله لا يعجل بالإجابة.
وفي الآية قول وهو أن هذا في آدم صلوات الله عليه، وفي القصة: أن الله تعالى أدخل الروح في رأسه، فجعل ينظر إلى نفسه كيف يخلق! فلما بلغ الروح وسطه أراد أن يقوم فلم يقدر، فقال الله تعالى: ' وخلق الإنسان عجولا '.
هذا محكي عن قتادة وغيره، وعن سلمان الفارسي أن الله خلق آدم في آخر ساعة
223

* (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب) * * من يوم الجمعة، فجعل الروح تجري في جسده، ويحيى آدم فنظر إلى الشمس، وهي تغرب، فقال: يا رب، قبل الليل - أي أتم خلقي قبل الليل - فقال الله تعالى: ' وخلق الإنسان عجولا '.
وفي أصل الآية قول آخر؛ وهو أن معنى قوله: * (ويدعو الإنسان بالشر) أي: يدعو بفعل المعصية كما يدعو بفعل الطاعة. قال الشاعر:
(عسى فارج الهم عن يوسف
* يسخر لي ربة المحمل)
والصحيح ما قدمنا من قبل.
قوله: * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) أي: علامتين دالتين على أن لهما إلها واحدا.
وقيل: علامتين على الليل والنهار، والمراد من الليل والنهار: هو الشمس والقمر.
وقوله: * (فمحونا آية الليل) روي عن علي وابن عباس أنهما قالا: المحو هو السواد الذي في القمر.
وفي بعض الآثار أن ابن الكواء قام إلى علي فسأله عن هذا فقال: أعمى - أراد عمى القلب - يسأل عن عمياء! ثم قال: هو السواد الذي في القمر، وقيل: إن معنى قوله: * (فمحونا آية الليل) أي: جعلنا الليل بحيث لا يبصر فيه كما [لا] يبصر الكتاب إذا محي.
وقال قتادة وجماعة من المفسرين، وهو محكي أيضا عن ابن عباس قالوا: إن الله تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين نيرين كل واحد منهما مثل الآخر في الضياء، فلم يكن يعرف الليل من النهار، والنهار من الليل، فأمر جبريل حتى مسح بجناحه
224

* (وكل شيء فصلناه تفصيلا (12) وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا (13) اقرأ كتابك) * * وجه القمر.
قال مقاتل: انتقص مما كان تسعة وستون جزءا، وبقي جزء واحد.
وقوله: * (وجعلنا آية النهار مبصرة) أي: مضيئة نيرة، وقيل: ذات أبصار أي: يبصر بها.
وقوله: * (لتبتغوا فضلا من ربكم) بالنهار.
وقوله: * (ولتعلموا عدد السنين والحساب) أي: عدد السنين وحساب الشهور والأيام.
وقوله: * (وكل شيء فصلناه تفصيلا) أي: بيناه تبيينا.
قوله تعالى: * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) روى عطاء عن ابن عباس قال معناه: ما قدر له من خير وشر.
وعن مجاهد: عمله من خير وشر، وعن الضحاك: أجله ورزقه وسعادته وشقاوته. وعن أبي عبيدة قال: حظه. وقيل: كتابه.
وعن مجاهد في رواية أخرى: ورقة (متعلقة) في عنقه مكتوب فيها شقي أو سعيد. والأقوال متقاربة، وإنما سمي طائرا أي: ما طار له من خير أو شر، وهذا على جهة التمثيل والتشبيه، ومن ذلك السوانح والبوارح، فالسانح: هو الذي يطير من قبل اليمين، فيتبرك به الإنسان، والبارح: هو الذي يطير من قبل الشمال، فيتشاءم به الإنسان. قال الشاعر:
(تطير غدائر الإشراك شفعا
* ووترا والزعامة للغلام)
وقوله: * (ونخرج له يوم القيامة) وقرئ: ' ويخرج له ' بالياء أي: الطائر يخرج له،
225

* (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (14) من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15) وإذا أردنا) * * وقرئ: ' ويخرج له يوم القيامة كتاب ' على ما لم يسم فاعله، وقرئ ' ويخرج ' بفتح الياء يعني: عمله يخرج * (كتابا) يوم القيامة، كأنه يتحول العمل كتابا في القيامة.
وقوله: * (يلقاه) قرأ الحسن: ' يلقاه ' بضم الياء من التلقية، وهذا في الشاذ.
وقوله: * (منشورا) في الآثار أن الله تعالى يأمر الملكين بطي الصحيفة، إذا تم عمر العبد، فلا ينشر إلى يوم القيامة، وهذا في معنى قوله تعالى: * (وإذا الصحف نشرت).
قوله: * (اقرأ كتابك) فيه إضمار، وهو أنه يقال له: اقرأ كتابك. قال قتادة: يقرأ كل إنسان سواء كان قارئا في الدنيا، أو لم يكن قارئا.
وقوله: * (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) أي: شاهدا قال الحسن: عدل معك من جعلك حسيب نفسك.
وقال بعضهم: يقال له هذا كتاب كان لسانك قلمه، وريقك مداده، وجوارحك قرطاسه، وكتب المملي على كاتبيك، فاقرأ ما أمليت، والله أعلم.
قوله تعالى: * (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) أي: نفع اهتدائه له.
وقوله: * (ومن ضل فإنما يضل عليها) أي: وبال ضلالته عليه.
وقوله: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) يقال: نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة، فإنه قال لمن أسلم: ارجعوا إلى دينكم القديم، فإني أحمل أوزاركم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، ومعناه: أنه لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، وقيل: ليس لأحد أن يذنب، فيقول: فلان قد أذنب فأنا أتبعه، فإني لا آخذ أحدا بذنب أحد.
وقوله: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) هذا دليل على أن ما وجب وجب
226

* (أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16)) * * بالسمع لا بالعقل، فإن الله تعالى نص أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث الرسول.
وفي بعض المسانيد عن أبي هريرة أنه قال: إن الله تعالى يبعث يوم القيامة أهل الفترة و [المعتوه] والأصم والأبكم والأخرس والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام (فيؤجج) لهم نارا، فيقول: ادخلوها، فيقولون: كيف ندخلها، ولم تبعث إلينا رسولا؟! ولو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما، فيرسل الله إليهم رسولا، فيطيعه من علم الله أنه يطيعه، ويعصيه من علم الله أنه يعصيه، فيفصل بينهم على ذلك.
قوله تعالى: * (وإذا أردنا أن نهلك قرية) أي: أهل قرية، وقرئ * (أمرنا مترفيها) والمعروف هذا، وقرئ: ' آمرنا ' - بالمد -، ' مترفيها ' وهذل محكي عن علي، وقرئ ' أمرنا ' بالقصر والتشديد، وقرئ: ' أمرنا - بكسر الميم - مترفيها ' وهذا محكي عن ابن عباس.
أما قوله: * (أمرنا) فيه قولان: أحدهما: معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا وعصوا.
وهكذا روي عن ابن عباس وجماعة من التابعين منهم ابن جريج وغيره.
والقول الثاني: أمرنا أي: أكثرنا، يقال: أمر القوم: إذا كثروا، قال الشاعر:
(إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا
* يوما يصيروا للهلك والنكد)
وأنكر الكسائي أن يكون أمرنا بمعنى أكثرنا، وقال: هو آمرنا بمعنى أكثرنا، وهذا هو اللغة الغالبة.
وأما أبو عبيدة فقال: تقول العرب: أمرنا بمعنى أكثرنا، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالمعاصي.
وهذا باتفاق الأمة وفي الآية سؤال معروف، وهو أنه يقال: كيف يأمر مترفيها بالفسق، والله تعالى يقول: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، ويقول: * (إن الله
227

* (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا (17) من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19)) * * لا يأمر بالفحشاء)؟ والجواب ما سبق.
وفي الآية قول ثالث وهو أنه معنى قوله: * (أمرنا مترفيها) أي: بعثنا، وفي قراءة أبي بن كعب: ' وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا مترفيها '، وأما قوله: ' أمرنا ' بالتشديد أي: سلطنا.
وقيل: أمرنا أي: جعلناهم أمراء؛ فيجوز أن يكون بعثنا على هذا المعنى.
وأما ' أمرنا ' - بكسر - الميم فقد ذكروا أنه ضعيف في اللغة.
وقوله: * (مترفيها) أي: منعميها، والمترف: الملك المنعم، أورده ثعلب.
وقوله: * (ففسقوا فيها) أي: عصوا فيها. * (فحق عليها القول) أي: وجب عليها العذاب.
وقوله: * (فدمرناها تدميرا) أي: أهلكناها إهلاكا.
قوله تعالى: * (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح). اختلفوا في القرن، فقال بعضهم: القرن مائة وعشرون سنة، وقال بعضهم: مائة سنة، وقال بعضهم: ثمانون سنة، وقال بعضهم: أربعون سنة، والمراد من القرون أهل القرون.
وقوله: * (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (من كان يريد العاجلة) أي: الدنيا، وهذا وصف الكفار؛ لأنهم الذين يريدون الدنيا، ولا يريدون الآخرة، والآية في قوم أرادوا العاجلة فحسب.
وقوله: * (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) يعني: لمن نريد إهلاكه.
وقوله: * (ثم جعلنا له جهنم يصلاها) أي: يدخلها، وقيل: يقاسي حرها.
وقوله: * (مذموما مدحورا) والمذموم من الذم، والمدحور هو المطرود والمبعد من
228

* (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا (20) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (21)) * * رحمة الله، يقال: (دحره) عن كذا أي: أبعده.
قوله تعالى: * (ومن أراد الآخرة) أي: طلب الآخرة * (وسعى لها سعيها وهو مؤمن) أي: عمل لها عملها، وهو مؤمن.
وقوله: * (فأولئك كان سعيهم مشكورا) أي: مقبولا.
ويقال: إن الشكر من الله هو قبول الحسنات، والتجاوز عن السيئات، وقيل معنى الآية: أنه وضع أعمالهم الموضع الذي يشكر عليها.
قوله تعالى: * (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء) يعني: المؤمنين والكفار.
وقوله: * (من عطاء ربك) أي: من رزق ربك.
وقوله: * (وما كان عطاء ربك محظورا) أي: ممنوعا.
وأجمع أهل التفسير أن معنى عطاء ربك في هذه السورة هو الدنيا، فإن الآخرة للمتقين، وليس للكفار فيها نصيب.
وفي بعض المسانيد عن النبي أنه قال: ' إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب '.
قوله تعالى: * (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) يعني: الدنيا، ومعنى
229

* (لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا (22)) * * لتفضيل هو التقتير والتوسيع، والتقليل والتكثير، والقبض والبسط، وقد روي في بعض الآثار أن الله تعالى عرض ذرية آدم على آدم فرأى فيهم تفاوتا شديدا! فقال: رب هلا سويت بين خلقك؟ فقال: يا آدم، أردت أن أشكر.
وقوله: * (وللآخرة أكبر درجات) قد بينا أن الدرجة ما بين السماء والأرض.
وفي بعض المسانيد عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ' الجنة مائة درجة؛ ما بين كل درجتين خمسمائة سنة '.
وقوله: * (وأكبر تفضيلا) أي: أعظم تفضيلا.
وفي الأخبار أن النبي قال: ' إن المؤمنين يدخلون الجنة بإيمانهم؛ ويقتسمون الدرجات بأعمالهم '.
قوله تعالى: * (لا تجعل مع الله إلها آخر) فيه قولان: أحدهما: أن الخطاب مع الرسول، والمراد فيه الأمة، وقد بينا نظير هذا من قبل.
والقول الآخر: لا تجعل أيها الإنسان مع الله إلها آخر، وهذا الخطاب مع كل أحد.
وقيل: إن المراد منه النبي على ما هو الظاهر، وهو وإن كان معصوما، فلم يسقط عنه الخطاب بالاحتراز والمباعدة عن الكفر.
وقوله: * (فتقعد مذموما مخذولا) أي: مذموما من غير حمد، ومخذولا من غير نصر.
230

* (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو) * *
وقيل: مخذولا أي: متروكا من العصمة، والله تعالى إذا ترك العبد فقد أهلكه.
ومعنى قوله: * (فتقعد) أي: فتكون مأفوكا، وتبقى مخذولا.
قوله تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) قرأ عبد الله بن مسعود: ' ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه '، وقال الضحاك: كان في الأصل ' ووصى ' إلا أنه اتصل الواو بالصاد في الكتابة فقرىء: ' وقضى '. والمعروف هو قوله: * (وقضى). وعليه اتفاق القراء؛ ومعناه: وأمر ربك؛ وحقيقة القضاء هو إحكام الشيء وإمضاؤه على وجه الفراغ منه، ومنه قولهم: قضى القاضي بين الخصمين، ومنه قوله تعالى: * (ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) أي: أفرغوا ما في أنفسكم وامضوه، فعلى هذا معنى قوله: * (وقضى ربك) أي: حكم عليهم ربك حكم تعبد.
ومعنى الفراغ هاهنا: هو إتمام التعبد. وفي بعض التفاسير: أن رجلا أتى الحسن البصري وقال: إني طلقت امرأتي ثلاثا، فقال: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، فقال الرجل: كذلك كان قضاء الله؟ فقال الحسن: كذبت، ما قضى الله. أي: ما أمر الله، وكان الحسن فصيحا فلم يفهم الناس قوله؛ فذكروا أنه ينكر القدر.
وفي بعض الروايات أنه قيل له: إن بني أمية يقتلون الناس، ويقولون: كذا قضاء الله، فقال الحسن: كذب أعداء الله؛ ومعناه ما بينا.
وقيل: إنه أنكر جعلهم ذلك علة لقتلهم، ذكره ابن قتيبة في المعارف.
وقوله: * (ألا تعبدوا إلا إياه) يعني: أن توحدوه ولا تشركوا به. وقوله: * (وبالوالدين إحسانا) أي: أمر أن تحسنوا بالوالدين إحسانا.
وقد ثبت عن النبي برواية ابن مسعود، أنه سأل رسول الله فقال: ' أي الذنوب أعظم؟ فقال: الإشراك بالله. قال: ثم أي؟ قال: عقوق الوالدين '.
231

* (كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (23)) * *
وقوله:: * (إما يبلغان) وقرئ: ' إما يبلغن عندك الكبر ' فقوله: * (يبلغان) ينصرف إليهما؛ فعلى هذا قوله: * (أحدهما أو كلاهما) على وجه الاستئناف.
وقوله: * (يبلغن) ينصرف إلى أحدهما، فقوله: * (أو كلاهما) على البدل منه.
وقوله: * (فلا تقل لهما أف) قرئ: ' أف ' بكسر الفاء، و ' أف ' بفتح الفاء، و ' أف ' بكسر الفاء والتنوين. قالوا: وفيه ست لغات: أفا وأف وأف الثلاثة بالتنوين، وأف وأف وأف بغير التنوين.
قال الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والتف وسخ الأظفار، وقيل: الأف وسخ الأظفار، والتف الشيء الحقير، وحقيقته أنه كلمة تقال عند الضجر من الشيء واستثقاله، وقيل: الأف بأدنى ما يتبرم به، فمنى الآية: لا يتبرم بهما، ولا يستثقل معالجة أذاهما. وذكر مجاهد أنه عند الحدث وذكر البول وصاحبه أنه لا يستثقل معالجتهما في ذلك؛ كما لم يستثقلا معالجته.
وقوله: * (ولا تنهرهما) الانتهار من النهر، [و] هو الزجر بالإغلاظ والصياح.
وقوله: * (وقل لهما قولا كريما) أي: قولا لينا.
وعن محمد بن علي الباقر قال: شر الآباء من يحمله البر على الإفراط، وشر الأبناء من يحمله التقصير على العقوق.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: لو علم الله شيئا أبلغ في الزجر من قوله: * (أف)، لنهى عن ذلك، ثم قال علي: ليعمل البار ما شاء فلن يدخل النار، وليعمل العاق ما يشاء فلن يدخل الجنة.
وفي الأخبار، عن النبي أنه قال: ' البر يزيد في العمر '. وذكر مسلم في
232

* (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا (24) ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين) * * الصحيح برواية سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي قال: ' رغم أنفه. رغم أنفه، رغم أنفه! فقيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه على الكبر أو أحدهما فلم يدخل الجنة '.
وروى عامر بن ربيعة أن رجلا أتي النبي فقال: ' إن أبوي قد توفيا، فهل بقي شيء أبرهما به؟ فقال: نعم، إنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، والاستغفار لهما، والصدقة عنهما '.
قوله تعالى: * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) معناه: وألن جانبك لهما.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أطعهما ما أمراك. والخفض هو التواضع، وجناح الذل: ترك الاستعلاء. مأخوذ من استعلاء الطائر [بجناحيه].
وقوله: * (من الرحمة) أي: من الشفقة والعطف.
وقرأ عاصم الجحدري ويحيى بن دثار: ' واخفض لهما جناح الذل ' - بكسر الذال - فالذل - بضم الذال - من التذلل، أي: كن لهما كالذليل المقهور، والذل - بكسر الذال - من الانقياد والطاعة.
وعن سعيد بن المسيب قال: كن بين يديهما كالعبد المذنب بين يدي السيد الفظ الغليظ.
233

* (فإنه كان للأوابين غفورا (25) وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا (26)) * *
وقوله: * (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) أي: كما رحماني بتربيتي صغيرا.
قوله تعالى: * (ربكم أعلم بما في نفوسكم) أي: بما في قلوبكم. وقوله: * (إن تكونوا صالحين) أي: مطيعين.
وقوله: * (فإنه كان للأوابين غفورا) ووجه اتصال الآية بما قبلها، هو أن الله تعالى قال: * (ربكم أعلم بما في نفوسكم) من العقوق والبر، فإن بدرت من بار بدرة من العقوق، فإن الله كان للأوابين غفورا يعني: [للتوابين] غفورا.
وفي الأواب أقوال كثيرة، روي عن ابن عباس أنه قال: هو الذي يرجع من الشر إلى الخير، وعن سعيد بن المسيب: هو الذي كلما أذنب تاب وإن كثر، وعن عبيد بن عمير: هو الذي لا يقوم من مجلس حتى يستغفر الله من ذنوبه، وقيل: إن الأواب هو المسبح، قال الله تعالى: * (يا جبال أوبي معه) وعن محمد بن المنكدر قال: الأواب الذي يصلي بين المغرب والعشاء، وتسمى الصلاة في ذلك الوقت صلاة الأوابين، وعن عون العقيلي قال: الأواب هو الذي يصلي الضحى، وعن السدي قال: هو الذي يذنب سرا ويتوب سرا.
وأصل الأواب: هو الراجع، قال الشاعر:
(يومان يوم مقامات وتفدية
* ويوم سير على الأعداء تأويب)
قوله تعالى: * (وآت ذا القربى حقه) الأكثرون على أن ذا القربى ها هنا قرابة الإنسان، ومعنى الآية: الأمر بصلة ذوي الأرحام.
وعن علي بن الحسين قال: ذا القربى ها هنا قرابة الرسول. وقوله: * (والمسكين)
234

* (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا (27) وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا (28)) * * أي: السائل الطواف.
وقوله: * (وابن السبيل) قيل: المنقطع به، وقيل: الضيف. وقوله: * (ولا تبذر تبذيرا) أي: لا تسرف إسرافا.
والتبذير: هو الإنفاق في غير طاعة الله تعالى. وعن عثمان بن الأسود قال: كنت أطوف مع مجاهد بالبيت فقال: لو أنفق عشرة آلاف درهم في طاعة الله ما كان مسرفا، ولو أنفق درهما واحدا في معصية الله، كان من المسرفين.
قوله تعالى: * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) أي: أشباه الشياطين، وقيل: سماهم إخوان الشياطين؛ لأنهم اتبعوا ما سول لهم الشياطين، [وقيل] لمن اتبع إنسانا في شيء هو أخوه.
وقوله: * (وكان الشيطان لربه كفورا) أي: بربه كافرا.
قوله تعالى: * (وإما تعرضن عنهم) الإعراض صرف الوجه عن الشيء (....) أو إلى من هو أولى منه، أو لإذلال من يصرف عنه الوجه.
وقوله: * (ابتغاء رحمة من ربك) أي: طلب رزق من ربك.
وقوله: * (ترجوها) الرجاء: تعليق النفس بمن تطلب منه الخير. وعن علي رضي الله عنه قال: لا ترجون إلا ربك، ولا تخافن إلا من ربك.
235

* (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (29)) * *
وقوله: * (فقل لهم قولا ميسورا) اليسر: ضد العسر، والميسور ها هنا هو العدة في قول أكثر المفسرين. وهو أن يقول: يأتينا شيء فنعطيه. وعن سفيان الثوري قال: عدة النبي دين، وقيل: القول الميسور هو أن تقول: يرزقنا الله وإياك، أو يقول: بارك الله فيك.
واعلم أن الآية خطاب مع النبي، وقد كان هؤلاء القوم يسألونه، وكان يكره الرد وليس عنده شيء يعطى، فجعل يمسك من القول، فأنزل الله تعالى هذه الآية * (فقل لهم قولا ميسورا).
قوله تعالى: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) الآية. روى ابن مسعود: ' أن امرأة بعثت غلاما إلى رسول الله تسأله شيئا، فقال النبي: ليس عندي شيء، فرجع الغلام وذكر لها؛ فردت الغلام وقالت: سله قميصه الذي هو لابسه، فسأله فأعطاه ذلك، وبقي في البيت بلا قميص، فأنزل الله تعالى هذه الآية '.
وقوله: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) أي: لا تبخل، والكلام على وجه التمثيل فجعل البخيل الممسك كمن يده مغلولة إلى عنقه.
وقوله: * (ولا تبسطها كل البسط) أي: لا تسرف في الإعطاء.
وقوله: * (فتقعد ملوما محسورا) والملوم: هو الذي أتى بما يلوم به نفسه ويلومه غيره، والمحسور هو المنقطع به الذي قد ذهب ماله، وبقي ذا حسرة، يقال: دابة حسير إذا أعيت من السير فقامت بالراكب. فمعنى الآية لا تحمل على نفسك كل الحمل في الإعطاء، فتصير بمنزلة من بلغت به النهاية في التعب والإعياء.
قال قتادة: محسورا أي: نادما. وأنشدوا في الدابة الحسير:
236

* (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (30) ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا (31) ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا (32)) * *
(له ديك حسري
* فأما عظامها فبيض
* وأما جلدها فصليب)
قوله تعالى: * (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) ظاهر المعنى، وقد بينا معنى البسط والقدر من قبل.
قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) أي: خشية الفقر، وقد كانوا يئدون البنات خشية الفقر.
وقوله: * (نحن نرزقهم وإياكم) أي: نحن المعطي للزرق لا أنتم.
وقوله: * (إن قتلهم كان خطأ كبيرا) المعروف: ' خطأ ' بالكسر والقصر. وقرأ ابن كثير ' خطاء كبيرا ' بالكسر والمد، وقرأ ابن عامر: ' خطأ ' بفتح الخاء والطاء والقصر، وقرئ: ' خطآء ' بالفتح والمد، فأما قوله: ' خطأ ' بالكسر والقصر أي: إثما كبيرا. وأما قوله: ' خطأ ' بالكسر والمد، وقال الأزهري: أهل اللغة لا يعرفون هذا! ولعله لغة.
وأما قوله: ' خطاء ' بالفتح والقصر مصدر مثل قوله: أخطا، والفرق بين الخطأ والخطأ كلاهما بالقصر أن الخطأ - بالكسر - ما يتعمد بالفعل وآثم فاعله. والخطأ - بالفتح - ما لم يتعمد. وأنشدوا:
(عباد يخطئون وأنت رب
* كريم لا يليق بك الذموم)
قوله تعالى: * (ولا تقربوا الزنا) ظاهر المعنى.
وقوله: * (إنه كان فاحشة) الفاحشة: فعل قبيح على أقبح الوجوه.
وقوله: * (وساء سبيلا) أي: ساء طريقا، ومعناه بئس السلك هذا الفعل.
وفي بعض الأخبار برواية علي - رضي الله عنه - عن النبي أنه قال: ' في الزنا
237

* (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (33)) * * ست خصال: (ثلاث) في الدنيا، (وثلاث) في الآخرة؛ أما الثلاث في الدنيا: يذهب نور الوجه، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما الثلاث في الآخرة: فغضب الرب، وسوء الحساب، ودخول النار '.
وقوله تعالى: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) قد ثبت عن النبي أنه قال: ' لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الكفر بعد الإيمان، والثيب الزاني، والقاتل نفسا بغير حق '.
فقوله: * (إلا بالحق) فالقتل بالحق أن يقع بأحد هذه الأشياء الثلاثة.
وقوله: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) أي: سلطان القود، هكذا قاله قتادة وغيره. وعن الضحاك أن السلطان ها هنا هو تخيير ولي القتيل بين أن يقتل أو يعفو، أو يأخذ الدية.
وأصل السلطان هو الحجة، فلما ثبت هذا لولي القتيل بحجة ظاهرة سماه سلطانا، وقيل: معنى الآية أن الولي يقتل؛ فإن لم يكن ولي، قتله السلطان.
وقوله: * (فلا يسرف في القتل) أكثر المفسرين على أن السرف في القتل أن يقتل غير القاتل، وقيل: إن السرف في القتل أن يمثل بالمقتول، وعن سعيد بن جبير قال: السرف في القتل أن يطلب قتل الجماعة بالواحد، وقد كانت الجاهلية لا يرضون بقتل القاتل وحده؛ إذا كان المقتول شريفا ويطلبون قتل القاتل وجماعة معه من أقربائه وقومه.
238

* (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا (34)) * * وقرئ: ' فلا تسرف ' ' بالتاء ' على خطاب ولي القتيل، وأما ' بالياء ' على المغايبة. وفي الآية قول آخر وهو أن معنى قوله: * (فلا يسرف في القتل) بالياء أي: القاتل الأول المتعدي.
وقوله: * (إنه كان منصورا) على هذا يعني أن القاتل الأول لو تعدى فولي القتيل منصور من قبلي، وقد قال أهل المعاني: أن معنى قوله: * (إنه كان منصورا) معناه أي: القتيل منصور في الدنيا والآخرة؛ أما النصرة في الدنيا ففي إيجاب القود له. وأما النصرة في الآخرة فبتكفير خطاياه، وبإيجاب الثأر لقاتله، وقيل: إنه كان منصورا؛ أي: ولي القتيل.
وقرأ أبي بن كعب: ' فلا تسرفوا في القتل إن ولي القتيل كان منصورا '.
قوله تعالى: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) معناه: إلا بالعفة التي هي أحسن. واختلفوا في معناه على أقاويل: أحدها: أن القربان بالأحسن هو حفظ الأصول، وتثمير الفروع، والآخر: أن القربان بالأحسن هو التجارة في ماله، وهذا قريب من الأول، والقول الثالث: أن القربان بالأحسن هو أن لا يخالط مال اليتيم بمال نفسه.
فروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه لما نزلت هذه الآية ميز الأوصياء طعامهم من طعام اليتامى، وشرابهم من شراب اليتامى، وكانوا يمسكون طعام اليتيم حتى يأكل أو يفسد، فأنزل الله تعالى: * (وإن تخالطوهم فإخوانكم).
وعن مجاهد أنه قال: القربان بالأحسن أن يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه، فإذا استغنى رد.
239

* (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا (35)) * *
وقال سعيد بن المسيب: لا يقرب ماله أصلا، ولا يشرب الماء من ماله.
وذهب بعض العلماء منهم أبو يوسف إلى أن قوله تعالى: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) منسوخ بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). وقد ذكرنا في هذا المعنى من قبل ما هو أكثر من هذا.
وقوله: * (حتى يبلغ أشده) الأكثرون على أن الأشد هو الحلم، ومنهم من قال: (ثمان) عشرة سنة، ومنهم من قال: ثلاث وثلاثون سنة، وهذا وقت منتهى القوة وتمام العقل بالحنكة والتجارب.
وقوله: * (وأوفوا بالعهد) قال قتادة: العهد: كل ما أمر الله تعالى به ونهى عنه.
وقوله: * (إن العهد كان مسؤولا) فيه أقوال: أحدها: أنه كان مظلوما، وهو قول السدي.
والآخر: كان مسؤولا عنه، وهو أحسن الأقاويل، والثالث: أن العهد يسأل عن صاحب العهد. فيقال له: فيم نقضت، كالموءودة تسأل فيم قتلت؟.
وفي معنى العهد قول آخر: وهو أنه كل ما يلتزمه الإنسان على نفسه.
قوله تعالى: * (وأوفوا الكيل إذا كلتم) ظاهر المعنى.
وقوله: * (وزنوا بالقسطاس المستقيم) فيه قولان: أحدهما: أنه القبان، والآخر: أنه كل ميزان يكون. ذكره الزجاج.
واختلفوا أن القسطاس رومي أو عربي؟ قال مجاهد: هو رومي معرب، وقال غيره:
240

* (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد) * * هو عربي مأخوذ من القسط، والقسط هو العدل، فعلى هذا معنى الآية وزنوا بالعدل المستقيم.
وقوله: * (ذلك خير) يعني: ذلك خير لكم في الدنيا بحسن الذكر. * (وأحسن تأويلا) وأحسن عاقبة في الآخرة.
قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) قالوا: معناه ولا تقل ما ليس لك به علم، وقرئ: ' ولا تقف ما ليس لك به علم ' برفع القاف؛ معناه ما ذكرنا، ومنهم من قال: معنى قوله: * (ولا تقف) أي: لا ترم بالظن ما ليس لك به علم. وأصل القيافة اتباع الأثر، يقال: قفوت فلانا، إذا [اتبعت] أثره. وحقيقة المعنى: ولا تتبع لسانك ما ليس لك به علم فيتكلم بالحدس والظن.
وروي عن النبي أنه قال: ' نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا '.
وفي بعض الأخبار أن النبي قال: ' من تقوف ما ليس له به علم حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال '.
وقوله: * (إن السمع والبصر والفؤاد) روي عن قتادة أنه قال: لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم. واختلف القول في سؤال السمع والبصر والفؤاد؛ ففي أحد القولين: يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده.
241

* (كل أولئك كان عنه مسؤولا (36) ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا (37) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها (38) ذلك مما) * *
والقول الثاني: أن السمع والبصر والفؤاد يسأل عما فعله المرء. فإن قيل: قد قال: * (كل أولئك كان عنه مسؤولا)، وأولئك لا يقال إلا للعقلاء؟ والجواب: قلنا: يجوز أن يقال لغير العقلاء. قال جرير:
(ذم المنازل بعد منزلة اللوى
* والعيش بعد أولئك الأيام)
قوله تعالى: * (ولا تمش في الأرض مرحا) المرح هو الفرح بالباطل، ويقال: هو الأشر والبطر، ويقال: هو البأو والعظمة، وقيل: الخيلاء.
وقوله: * (إنك لن تخرق الأرض) أي: لن تثقب الأرض، وقيل: لن تقطع الأرض بالسير.
وقوله: * (ولن تبلغ الجبال طولا) أي: لا يقدر أن يتطاول الجبال، وفي المعنى وجهان: أحدهما: أن الإنسان إذا مشى مختالا، فمرة يمشي على عقبيه، ومرة يمشي على صدور قدميه. فقال: لن تثقب الأرض إن مشيت على عقبيك، ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك.
والوجه الثاني: أن من أراد أن يخرق الأرض أو يطاول الجبال لا يحصل على شيء، فكذلك من مشى مختالا لا يحصل باختياله على شيء.
وقوله: * (كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها) قرى: ' سيئه ' وقوله: ' سيئة ' بالتنوين أي: كل ما نهيت عنه في هذه الآيات فهي سيئة مكروهة عند ربك، ومن قرأ ' سيئه ' بالرفع فمعناه على التبعيض؛ لأنه قد تقدم بعض ما ليس بسيئة مثل قوله: * (وآت ذا القربى حقه)، وكذلك قوله: * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما) وغير ذلك. فمعناه أن ما تقدم في هذه الآيات من السيئة مكروهة عند ربك.
242

* (أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا (39) أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما (40) ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا (41) قل لو كان معه) * *
قوله تعالى: * (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة) كل ما أمر الله به ونهاه فهي حكمة.
وقوله: * (ولا تجعل مع الله إلها آخر) قد بينا هذا من قبل، وهو أن الخطاب معه، والمراد منه الأمة.
وقوله: * (فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) أي: مطرودا.
قوله تعالى: * (أفأصفاكم ربكم) معناه: أفجعل لكم الصفوة، وجعل لنفسه ما ليس بصفوة؟ وهذا على طريق الإنكار فإنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله.
وقوله: * (بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا) هذا معناه.
وقوله: * (إنكم لتقولون قولا عظيما) أي: فظيعا كبيرا.
قوله تعالى: * (ولقد صرفنا في هذا القرآن) فيه قولان: أحدهما: تكرير الأمر والنهي والمواعظ والقصص، والآخر: تبيين القول بجميع جهاته.
وقوله: * (ليذكروا) معناه: ليتعظوا.
وقوله: * (وما يزيدهم إلا نفورا) أي: ما يزيدهم التبيين إلا نفورا. وقيل: تصريف القول في الأمر والنهي.
قوله تعالى: * (قل لو كان معه) أي: مع الله * (آلهة).
وقوله: * (كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) فيه قولان: أحدهما: إذا لطلبوا إلى ذي العرش سبيلا بالتقرب إليه، والآخر: وهو الأصح إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا بالمفازة والمغالبة وطلب الملك، وهذا مثل قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).
243

* (آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا (42) سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا (43) تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح) * *
قوله تعالى: * (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن) قد بينا من قبل.
وقوله: * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) قال عكرمة: وإن من شيء حي إلا يسبح بحمده وعن عكرمة أيضا قال: الشجرة تسبحه.
وعن مجاهد قال: كل الأشياء تسبح لله حيا كان أو جمادا، وتسبيحها (بسبحان الله وبحمده).
وعن أبي صالح أنه سمع صرير باب فقال: هو تسبيحه.
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: لا تضربوا الدواب على رءوسها فإنها تسبح الله، وعن ابن عباس: إن تسبيح هذه الأشياء: يا حليم، يا غفور.
وروى منصور بن المعتمر أبو غياث عن إبراهيم النخعي قال: ' وإن من شيء جماد أو حي إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف.
واعلم أن لله في الجماد علما لا يعلمه غيره، ولا يقف عليه غيره، فينبغي أن يوكل علمه إليه. وقال بعض أهل المعاني: تسبيح السماوات والأرض والجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء، هو ما دلت بلطيف تركيبها وعجيب هيئاتها على خالقها، فيصير ذلك بمنزلة التسبيح منها.
والمنقول عن السلف ما قلنا من قبل، والله أعلم.
وقوله تعالى: * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) أي: لا تعلمون تسبيحهم.
وعن الحسن البصري أن موضع هذه الآية في التوراة ألف آية كان الله تعالى قال:
244

* (بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44) وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا (45) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن) * * سبح لي كذا، وسبح لي كذا، وسبح لي كذا، وعلى القول الأخير قوله: * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) أي: لا تستدلون بمشاهدة هذه الأشياء على تعظيم الله. وهذا ليس بمعتمد، والصحيح ما بينا.
وقوله: * (إنه كان حليما غفورا) قد بينا معنى الحليم والغفور.
وقوله تعالى: * (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) روي في الأخبار أنه لما نزلت سورة * (تبت يدا أبي لهب) جاءته امرأته أم جميل، ومعها فهر، وقصدت النبي وهي تقول: مذمما أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، وكان النبي جالسا مع أبي بكر في الحجر، فقال أبو بكر للنبي: هذه المرأة قد جاءت، فقال النبي: إنها لا تراني؛ وقرأ هذه الآية؛ فجاءت المرأة، وقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه هجاني، وهجا أبا لهب، وقد علمت قريش أني بنت سيدها. فلم يقل أبو بكر شيئا، ورجعت وهي تقول: قد كنت جئت بهذا الحجر؛ لأرضخ رأسه '. روته عائشة رضي الله عنها.
ومنهم من قال: كان النبي يصلي ويقرأ القرآن، وكان المشركون يقصدونه بالأذى، فكانوا يجيئون ولا يرونه.
وقوله: * (حجابا مستورا) فيه قولان: أحدهما: حجابا ساترا، والآخر: مستورا به. وقيل: إن الحجاب الذي جعله الله هو الأكنة التي خلقها على قلوبهم.
قوله تعالى: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة) أي: أغطية، وحكى بعض السلف أنه
245

* (يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا (46) نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون) * * سمع رجلا يقرأ: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى) فقال: الأكنة.
وقوله: * (أن يفقهوه) معناه: كراهة أن يفقهوه، وقيل: لئلا يفقهوه.
وقوله: * (وفي آذانهم وقرا) أي: ثقلا، ومعناه: لئلا يسمعوه. وفي الآية رد على القدرية صريحا.
وقوله: * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده) هو قوله: لا إله إلا الله.
وقوله: * (ولوا على أدبارهم نفورا) أي: نافرين.
ومثل هذا قوله تعالى: * (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة).
قوله تعالى: * (نحن أعلم بما يستمعون به) قال أهل التفسير: ' به ' صلة، ومعناه نحن أعلم بما يستمعون، أي: يطلبون سماعه، وهو في معنى قوله تعالى: * (وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون).
وقوله تعالى: * (إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى) أي: ذووا نجوى. وفي القصة: أن النبي كان يقرأ، والمشركون قد اجتمعوا، وكانوا يتناجون فيما بينهم، فيقول هذا: كاهن، ويقول هذا: ساحر، ويقول هذا: شاعر، ويقول هذا: مجنون؛ ويريدون به الرسول.
وقوله: * (إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) قال مجاهد: مخدوعا، وقال أبو عبيدة: رجلا له سحر، وهو الرئة، يعني: أنه بشر. قال الشاعر:
(أرانا موضعين (لحتم) غيب
* ونسحر بالطعام وبالشراب)
246

* (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (47) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (48) وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا (49) قل كونوا حجارة أو حديدا (50)) * *
أي: نعلل ونخدع، وهو على تأويل الخدع، وهو الأصح.
وقيل: مسحورا أي: مصروفا عن الحق.
وقوله تعالى: * (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) أي: الأشباه.
وقوله: * (فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) أي: وصولا إلى طريق الحق.
قوله تعالى: * (وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا) قال الفراء: رفاتا، أي: ترابا، وقال غيره: رفاتا: أي: حطاما. يعني: إذا تحطمنا.
وقوله: * (أءنا لمبعوثون خلقا جديدا) قالوا ذلك على طريق الإنكار.
قوله تعالى: * (قل كونوا حجارة أو حديدا) فإن قيل: كيف يأمرهم بأن يكونوا حجارة أو حديدا، وهم لا يقدرون عليه قطعا؟ والجواب: أن هذا أمر تعجيز، وليس بأمر إلزام، ومعنى الآية أي: استشعروا في قلوبكم أنكم حجارة أو (حديد)، فلو كنتم كذلك لم تفوتوني، وقيل معناه: لو كنتم خلقتم من الحجارة والحديد بدل اللحم والعظم لمتم ثم بعثتم. قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
قوله تعالى: * (أو خلقا مما يكبر في صدوركم) قال ابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص: هو الموت. ومعناه: لو كنتم الموت بعينه لأدرككم الموت.
وقد ثبت الخبر عن النبي أنه قال: ' يجاء بالموت يوم القيامة على هيئة كبش أغبر، فيوقف بين الجنة والنار؛ فيعرفه كلهم، فيذبح، فيقال: يا أهل الجنة، خلود لكم ولا موت، ويا أهل النار، خلود ولا موت '.
247

* (أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا (51) يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا (52)) * *
وعن مجاهد أن معنى قوله: * (أو خلقا مما يكبر في صدوركم) هو السماوات والأرض والجبال. أي: لو كنتم كذلك لمتم وبعثتم.
وقال قتادة: هو كل ما يعظم في عين الإنسان وصدره. وعن الكلبي قال: هو القيامة.
وقوله: * (فسيقولون من يعيدنا) ظاهر المعنى.
وقوله: * (قل الذي فطركم أول مرة) أي: أنشأكم أول مرة، ومن قدر على الإنشاء فهو على الإعادة أقدر.
وقوله: * (فسينغضون إليك رؤوسهم) أي: يحركون إليك رؤوسهم، وهذا على طريق الاستهزاء.
وقوله: * (ويقولون متى هو) أي: متى الساعة؟ وهذا أيضا قالوه استهزاء.
وقوله: * (قل عسى أن يكون قريبا) معناه: أنه قريب، ' وعسى ' من الله واجب على ما بينا.
قوله تعالى: * (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) أي: حامدين له. فإن قيل: كيف يصح هذا؟ والخطاب مع الكفار؛ والكافر كيف يبعث حامدا لربه؟
والجواب من وجهين: أحدهما: أنه خطاب للمؤمنين، وقد انقطع خطاب الكفار إلى هذه الآية.
والقول الثاني: أن الخطاب مع الكفار، ومعنى قوله: * (فتستجيبون بحمده) أي: مقرين أنه خالقكم وباعثكم.
وقوله: * (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) هذا في جنب مدة القيامة (والخلود) فلو مكث الإنسان في قبره الألوف من السنين، يعد ذلك قليلا في جنب ما يصل إليه من
248

* (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا (53) ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك) * * الخلود.
وعن قتادة قال: إنهم يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة.
وعن سعيد بن أبي عروبة قال: يقومون فيقولون: سبحانك اللهم وبحمدك. والأولى أن يكون هذا في المؤمنين.
وقال الكلبي: إن الله تعالى يرفع العذاب عن الكفار بين النفختين، وهو أربعون سنة، فإذا حشروا وقد استراحوا تلك المدة قالوا: ما لبثنا إلا قليلا.
قوله تعالى: * (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) في الآية قولان: الأشهر والأظهر أن قوله: * (يقولوا التي هي أحسن) أي: الكفار، وهذا قبل نزوله آية السيف.
قال أهل التفسير: كان المشركون يؤذون المؤمنين، وكان المؤمنون يستأذنون رسول الله في القتال فينهاهم عن ذلك، ويأمرهم بالإحسان في القول، والإحسان في القول هو قولهم للكفار: يهديكم الله. وفي بعض الروايات: أن عمر شتمه بعض الكفار، فأراد أن يقاتله، فأمره رسول الله بالصفح والعفو.
والقول الثاني: في الآية: أن المراد به المؤمنون، وأراد به: أن يقولوا ويفعلوا التي هي أحسن. أي: الخلة التي هي أحسن.
وقيل: المراد منه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وقوله: * (إن الشيطان ينزغ بينهم) أي: يفسد بإيقاع العداوة. وقوله: * (إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا) أي: عدوا ظاهر العداوة.
قوله تعالى: * (ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم) قال: يرحمكم بالتوفيق والهداية، ويعذبكم بالإضلال، وقيل: يرحمكم بالإنجاء من النار، أو يعذبكم بالإيقاع فيه. وقوله: * (وما أرسلناك عليهم وكيلا) أي: كفيلا. قال الشاعر:
([ذكرت] أبا أروى فبت كأنني
* برد الأمور الماضيات وكيل)
249

* (عليهم وكيلا (54) وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا (55) قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم) * * أي: كفيل.
ومنهم من قال معناه: لم يسلطك عليهم بمنعهم من الكفر.
قوله تعالى: * (وربك أعلم بمن في السماوات والأرض) أي: وربك العالم بمن في السماوات والأرض، وهو العالم بأحوالهم وأفعالهم ومقاصدهم.
وقوله: * (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) معناه: أنه اتخذ بعضهم خليلا، وكلم بعضهم، وسخر الجن والإنس والطير والريح لبعضهم، وأحيا الموتى لبعضهم، فهذا معنى التفضيل.
وقوله: * (وآتينا داود زبورا) قالوا: الزبور كتاب يشتمل على مائة وخمسين سورة، كلها تحميد وتمجيد وثناء على الله، ليس فيها أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام. ومعنى الآية: أنكم لما لم تنكروا تفضيل سائر النبيين وإعطائهم الكتب، فلا تنكروا فضل النبي وإعطائه القرآن. فيجوز أن يكون هذا الخطاب مع أهل الكتاب، ويجوز أن يكون مع قوم كانوا مقرين بهذا من مشركي العرب. والزبور مأخوذ من الزبر؛ والزبر هو الكتابة.
وقوله تعالى: * (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) روي أن المشركين لما قحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف استغاثوا بالنبي، ليدعو لهم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (قل ادعوا الذين زعمتم) أنهم آلهة * (من دونه) أي: من دون الله.
وقوله: * (فلا يملكون كشف الضر عنكم) أي: كشف الجوع والقحط عنكم.
وقوله: * (ولا تحويلا) أي: لا يملكون نقل الحال، وتحويلا من السقم إلى الصحة، ومن الجدب إلى الخصب، ومن العسر إلى اليسر.
قوله تعالى: * (أولئك الذين يدعون) قرأ ابن مسعود: ' أولئك الذين تدعون '
250

* (أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57) وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب) * * وعنه أنه قال: كان قوم من المشركين يعبدون قوما من الجن، فأسلم الجنيون الذين كانوا يعبدون، وبقي هؤلاء على شركهم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. معناه: إن الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم * (يبتغون) أي: يطلبون * (إلى ربهم الوسيلة) والوسيلة هي الدرجة الرفيعة في الجنة، وقيل: الوسيلة كل ما يتوسل به إلى الله تعالى أي: يتقرب.
وقوله: * (أيهم أقرب) معناه: ينظرون أيهم أدنى وسيلة، وقيل: أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به، وقيل: الآية في عزير والمسيح وغيرهما، وقيل: الآية في الملائكة؛ فإن المشركين كانوا يعبدون الملائكة، والملائكة عبيد يطلبون إلى الله الوسيلة، وهذا في نفر من المشركين دون جميعهم.
وقوله: * (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) يعني: الجنيين الذين أسلموا والملائكة، أو عزيرا والمسيح.
وفي بعض الأخبار عن النبي: ' لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا '.
وقوله: * (إن عذاب ربك كان محذورا) أي: يطلب منه الحذر. قوله تعالى: * (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة) معناه: وما من قرية إلا نحن مهلكوها فإهلاك المؤمنين بالإماتة، وإهلاك الكفار بالاستئصال والعذاب، وقيل قوله: * (مهلكوها) هذا في حق المؤمنين بالإماتة.
قوله: * (أو معذبوها عذابا شديدا) في حق الكفار.
251

* (مسطورا (58)) * *
وذكر النقاش في تفسيره بإسناده عن مقاتل بن سليمان قال: وجدت في كتاب ضحاك بن مزاحم - وهو الكتاب المخزون - وقد ذكر فيه ما يهلك الله به أهل كل بلدة، أما مكة فيهلكها الحبشان، وأما المدينة فالجوع، وأما البصرة فالفرق، وأما الكوفة فعدو [سلطه] الله عليهم، وأما الشام ومصر فويل لها من عدوها، وقيل: تخربها الرياح، وأما أصفهان وفارس وكرمان فبالظلمات والصواعق، وكذلك ذكر في أرمينية وأذربيجان، وأما الري، فيغلب عليهم عدوهم من الديلم، وأما الهمذان فيهلكهم عدو لهم فلا همذان بعده، وأما النيسابور فالرعود والبروق والريح، وأما مرو فيغلب عليه الرمل وبهما العلماء الكثير، وأما هراة فيمطرون حيات فتأكلهم، وأما سجستان فتهلك بالريح، وأما بلخ فيغلب عليه الماء فتهلك، وأما بخارى فيغلب عليهم الترك، وأما سمرقند وفرغانة والشاش وإسبيجاب وخوارزم فيغلب عليهم بنو قنطورا بن كركرى فيهلكون عن آخرهم، والخبر غريب جدا. وفي بعض الروايات: ' ويل لأهل بغداد يخسف بهم ' والأثر غريب.
وفي بعض المسانيد عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لا يهلك الله قوما حتى يظهر فيهم الزنا والربا.
وقوله: * (كان ذلك في الكتب مسطورا) أي: مكتوبا، ومعنى الكتاب: هو اللوح المحفوظ.
وفي الأخبار المشهورة عن النبي أنه قال: ' أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة '.
يقال: سطر إذا كتب.
252

* (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا) * *
قوله تعالى: * (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون) الآية. فإن قال قائل: كيف يجوز ألا يرسل الله الآيات لأن الأولين كذبوا بها؟ وما وجه الامتناع عن إرسال الآيات بتكذيب الأولين؟ والسؤال معروف، وهو مشكل. والجواب من وجهين: أحدهما: أن ' إلا ' محذوف، ومثله قول الشاعر:
(وكل أخ مفارقه أخوه
* لعمرو أبيك إلا الفرقدان)
ومعناه: وما منعنا من إرسال الآيات وإن كذب بها الأولون، يعني: أن تكذيب الأولين لا يمنعنا من إرسال الآيات.
والجواب الثاني - وهو المعروف - وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحها الكفار، فإنه قالوا للنبي: اجعل لنا الصفا ذهبا، أو بعد عنا هذه الجبال لنزرع الأراضي.
وقوله: * (إلا أن كذب بها الأولون) معنى الاستثناء في إهلاك الأولين حين كذبوا بالآيات المقترحة، وقد حكمنا أن هذه الأمة ممهلة في العذاب، قال الله تعالى: * (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) وتلخيص الجواب: أن الأولين اقترحوا الآيات فلما أعطوا كذبوها فأهلكوا، فلو أعطينا هؤلاء الآيات المقترحة وكذبوا بها عاجلناهم بالعذاب، وقد حكمنا بإمهالهم، والدليل على صحة هذا الجواب أنه قال: * (وآتينا ثمود الناقة مبصرة) أي: آية نيرة مضيئة، أو آية يبصر بها الحق، وقوله: * (فظلموا بها) أي: كذبوا بها، فعوجلوا بالعقوبة. فهذا هو المراد، وإن كان غير مذكور.
وقوله: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) أي: تحذيرا.
قوله تعالى: * (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) قال مجاهد أي هم في قبضته. قال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوك أو يكيدوك بغير القتل. فهذا معنى الإحاطة.
253

* (الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا (60)) * *
وقوله: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) الأكثرون أن هذه الرؤيا هي ليلة المعراج، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، وغيرهم.
فإن قال قائل: ليلة المعراج كانت رؤية عين لا رؤيا نوم؟ والجواب: أنه قد صح عن عبد الله بن عباس أنه قال في هذه الآية: هي رؤيا عين، أسرى بالنبي تلك الليلة.
* (والشجرة الملعونة) هي شجرة الزقوم.
قال الشيخ الإمام الأجل أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني: أخبرنا أبو علي الشافعي بمكة قال: أنا أبو الحسن بن فراس، قال: أنا أبو جعفر الديبلي، قال: أنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس، ذكره البخاري في صحيحه.
وأما ذكر الرؤيا بمعنى الرؤية هاهنا يجوز؛ لأنهما أخذا من معنى واحد. ومنهم من قال: كان له معراجان: معراج رؤية، ومعراج رؤيا.
وأما معنى الفتنة على هذا القول: أن قوما من الذين آمنوا ارتدوا حين سمعوا عن النبي هذا، وفي أصل الآية قول آخر: (وهو) أن الرؤيا المذكورة في الآية هي ' أن النبي رأى في النوم أنه قد دخل مكة، فاستعجل، وسار إلى مكة عام الحديبية محرما بالعمرة، وذكر الصحابة أنه رأى هذه الرؤيا، فلما صد عن مكة حتى احتاج إلى الرجوع افتتن بذلك قوم.
254

وفي الخبر المشهور، أن عمر قال لأبي بكر: أليس قد رأى أنه يدخل مكة؟ فقال له أبو بكر: هل قال: إنه يدخل العام؟ قال: لا. قال: سيدخلها.. الخبر إلى آخره.
والقول الثالث في الآية: ما حكاه الدمياطي في تفسيره عن ابن عباس قال: ' رأى النبي في منامه كأن أولاد الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره نزو القرود - وفي رواية (يتداولون منبره تداول الكرة) - فساءه ذلك، فدعا أبا بكر وعمر وأخبرهما بذلك، ثم سمع أن الحكم بن أبي العاص يحكي الرؤيا، فلم يتهم أبا بكر، واتهم عمر فدعاه، وقال له: لم أفشيت سري؟ فقال: والله ما ذكرته لأحد؟ فقال رسول الله، كيف والحكم يحكي هذا للناس؟! فقال عمر: نجتمع ثانيا حتى أخبرك من أفشاه. قال: فجاء هو وأبو بكر، وقعدا مع الرسول في ذلك الموضع، وجعلوا يذكرون هذا، ثم إن عمر خرج مبادرا، فإذا هو بالحكم يستمع، فذكر ذلك للنبي، فطرده رسول الله من المدينة، ولم يأوه أبو بكر ولا عمر، وما زال طريدا إلى زمن عثمان ' القصة إلى آخرها. هذا هو الرؤيا التي ذكر في الآية.
وقد روي ' أن النبي ما روى مستجمعا [ضاحكا] منذ رأى هذه الرؤيا إلى أن مات.
وأما الشجرة الملعونة فالأكثرون أنها شجرة الزقوم، فإن قيل: أين لعنها في القرآن؟ والجواب: أن المراد من الشجرة الملعونة، أي: الملعون آكلها. وقال الزجاج: العرب تقول لكل طعام كريه: طعام ملعون. فعلى هذا تقدير الآية: * (وما جعلنا الرؤيا التي
255

* (وإذ قلنا للملائكة اسجوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا (61)) * * أريناك)، وكذلك ما جعلنا الشجرة الملعونة * (في القرآن) إلا فتنة للناس.
وأما الفتنة في شجرة الزقوم من وجهين: أحدهما: أن أبا جهل قال: إن النار تأكل الشجر، وأن محمدا يزعم أن النار تنبت الشجرة. والوجه الثاني: أن عبد الله بن الزبعري قال: يا قوم، إن محمدا يخوفنا بالزقوم، وما نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر، فقال أبو جهل: يا جارية، هلمي فزقمينا.
والقول الثاني: في شجرة الزقوم أنها شجرة الكشوثا التي تلتوي على الشجر فتجففه. والقول الثالث: أن الشجرة الملعونة في القرآن أولاد الحكم بن أبي العاص، وهو مروان وبنوه.
ذكره سعيد بن المسيب، وأنكر جماعة من أهل التفسير هذا القول، والله أعلم.
وقوله: * (ونخوفهم) أي: نحذرهم * (فما يزيدهم) أي: ما يزيدهم التخويف * (إلا طغيانا كبيرا) أي: تمردا وعتوا عظيما.
قوله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) قد ذكرنا معنى السجود في سورة البقرة، واختلاف الناس فيه. وقوله: * (فسجوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا) معناه: لمن خلقته طينا. وقوله: * (طينا) نصب على الحال أي: في حال طينته، وفي الآية حذف، ومعناه: أأسجد لمن خلقته من طين، وخلقتني من نار، وللنار فضل على الطين، فإن النار تأكل الطين. ولم يعلم الخبيث أن الجواهر كلها من جنس واحد؛ والفضل لما فضله الله تعالى. وفي الطين من المنافع ما يقادم منافع النار، أو يرقى عليها، وللطين من كرم الطبع ما ليس للنار.
256

* (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا (62)) * *
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن الله بعث إبليس حتى أخذ من الأرض قبضة من التراب، وكان فيها المالح والعذب فخلق منها آدم، فمن خلقه من العذب كان سعيدا وإن كان من أبوين كافرين، ومن خلقه من المالح كان شقيا، وإن كان من صلب (بني آدم).
قال ابن عباس فقوله: * (أأسجد لمن خلقت طينا) أي: أأخضع لمن خلقته من طين، وأنا جئت به؟.
قوله تعالى: * (قال أرأيتك هذا الذي) قوله: ' أرأيت ' أي: أخبرني، والكاف لتأكيد المخاطبة. وقوله تعالى: * (هذا الذي كرمت علي) أي: كرمته علي وفضلته.
وقوله: * (لئن أخرتن) أي: أمهلتني * (إلى يوم القيامة) فطمع الخبيث أن ينطر إلى يوم القيامة، وينجو من الموت، فأبى الله تعالى ذلك عليه، على ما قال في سورة الحجر: * (فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم).
وقوله: * (لأحتنكن ذريته) قالوا: لأستأصلنهم؛ يقال: احتنك الجراد الزرع إذا استأصله. ومنهم من قال: هو مأخوذ من حنك الدابة إذا شد في حنكها الأسفل حبلا (رسنا) يسوقها به.
ومعناه: لأسوقنهم إلى المعاصي سوقا، ولأميلنهم إليه ميلا، وقيل: لأستولين عليهم بالإعواء، وقيل: لأضلنهم.
وقوله: * (ذريته) أولاده * (إلا قليلا) والقليل هم الذين قال الله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) فإن قيل: كيف عرف إبليس أن
257

* (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا (63) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال) * * أكثر ذرية آدم يتبعونه؟ قلنا: الجواب من وجهين: أنه لما رأى انقياد آدم لوسوسته طمع في ذريته.
والثاني: أنه رأى ذلك في اللوح مكتوبا، وعرف كما عرف الملائكة حين قالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء).
قوله تعالى: * (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) أي: موفرا ومعنى موفرا أي: مكملا وقال الشاعر:
(ومن يجعل المعروف من دون عرضه
* يفسره ومن لا يتق الشتم يشتم)
قوله تعالى: * (واستفزز) قال الأزهري معناه: وادعوهم دعاء تستفزهم إلى إجابتك، أي: فتستخفهم.
وقيل: استفزز بهم أي: أسرع بهم، وقيل: احملهم على الإغواء. وقوله: * (من استطعت منهم) بينا معنى الاستطاعة، وأنشد الشاعر في معنى الاستفزاز:
(فقلت لها هي فلا تستفزي
* ذوات العيون والبيان المحصب)
وقوله: * (بصوتك) قال مجاهد: الغناء واللهو، وقال الحسن: الدف والمزمار، وقيل: كل صوت يدعو إلى غير طاعة الله، وقيل: كل كلام يتكلم به في غير ذات الله.
وقوله: * (وأجلب عليهم) أي: اجمع عليهم مكائدك وحيلك، يقال: جلب على العدو إذا جمع عليهم الجيش. وفي المثل: ' إذا لم تغلب فأجلب ' وقيل معناه: أجمع عليهم جيشك وجندك.
وقوله: * (بخيلك ورجلك) كل راكب في معصية فهو من خيل إبليس، وكل ماشي في معصيته فهو في رجل إبليس. والخيل: الراكب، والرجل: المشاة، وفي الخبر:
258

* (والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (64)) * * ' يا خيل الله، اركبي '.
وقوله: * (وشاركهم في الأموال) كل كسب من حرام، وكل ما أنفق [في] معصية الله، فهو الذي شارك فيه إبليس، وقيل: ما زين لهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
وقوله: * (والأولاد) فيه أقوال: قال ابن عباس: الموءودة.
قال مجاهد: أولاد الزنا، وقال غيره: هو تهويدهم وتنصيرهم وتمجيسهم.
وعن ابن عباس في رواية أخرى هو: تسميتهم الأولاد: عبد العزى، وعبد الدار، وعبد مناف، وما أشبه ذلك.
وفي بعض المسانيد عن ابن عباس أن رجلا أتاه، وقال: إن امرأتي استيقظت، وكأن في فرجها شعلة نار، قال: ذاك من وطئ الجن. قال: فمن أولادهم؟ قال: هؤلاء المخنثون.
وعن جعفر بن محمد: إن الشيطان يقعد على ذكر الرجل؛ فإذا لم يسم الله أصاب امرأته معه، وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل. وروي قريبا من هذا عن مجاهد. وفي بعض الأخبار عن النبي قال: ' إن فيكم مغربين. قيل: ومن المغربون؟ قال: الذين شارك فيهم الجن '.
وقوله: * (وعدهم) أي: قل لهم: لا جنة ولا نار، وقيل: قل لهم: أن لا بعث.
وقوله: * (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) الغرور: تزيين الباطل بما يظن أنه حق. وفي بعض التفاسير برواية أنس عن النبي: ' أن إبليس قال: يا رب، لعنتني، وأخرجتني من الجنة لأجل آدم؛ فسلطني عليه وعلى ذريته، فقال الله تعالى: أنت مسلط، فقال: إني لا أستطيعه إلا بك فزدني، فقال: * (واستفزز من استطعت منهم)
259

* (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)) * * إلى آخر الآية. فقال آدم: يا رب، أنت سلطت إبليس علي وعلى ذريتي، وإني لا أستطيعه إلا بك فمالي، فقال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظونه، فقال: زدني، فقال: الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فقال: زدني. فقال: التوبة معروضة ما دام الروح في الجسد، فقال: زدني، فقال: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم...) الآية '. وفي هذا الخبر ' أن إبليس قال: يا رب، بعثت أنبياء، وأنزلت كتبا، فما قرآني؟ قال: الشعر. قال: فما كتابي؟ قال: الوشم. قال: فما طعامي؟ قال: كل طعام ما لم يذكر عليه اسم الله. قال: فما شرابي؟ قال: كل مسكر. قال: فما حبائلي؟ قال: النساء. قال: فما آذاني؟ قال المزمار. قال: فما بيتي؟ قال: الحمام. قال: فما منتصبي؟ قال: السوق '. والخبر غريب جدا، والله أعلم.
فإن قال قائل: كيف يأمر الله تعالى بهذه الأشياء، وهو يقول: * (إن الله لا يأمر بالفحشاء) والجواب: أن هذا أمر تهديد ووعيد، وهو مثل قوله تعالى: * (اعملوا ما شئتم) وكالرجل يقول لغيره: افعل ما شئت فسترى، ومثل هذا يكثر.
قوله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) قد بينا، وقد قيل إن معناه: ليس لك عليهم سلطان في أن تحملهم على ذنب لا أقبل توبتهم منه.
وقوله: * (وكفى بربك وكيلا) أي: حافظا، أو من يوكل إليه الأمر.
260

* (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما (66) وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67) أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم) * *
قوله تعالى: * (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر) أي: يسوق ويسير، قال الشاعر:
(يا أيها الراكب المزجى مطيته
* سائل بني أسد ما هذه الصوت)
وقوله: * (لكم الفلك في البحر) أي: السفينة في البحر.
* (ولتبتغوا من فضله) أي: لتطلبوا من رزقه.
وقوله: * (إنه كان بكم رحيما) ظاهر.
قوله تعالى: * (وإذا مسكم الضر في البحر) أي: الشدة في البحر، وإنما خص البحر بالذكر؛ لأن اليأس عند وقوع الشدة فيه أغلب.
وقوله: * (ضل من تدعون إلا إياه) أي: بطل وسقط.
وقوله: * (من تدعون) أي: من تدعونه * (إلا إياه) أي: إلا الله، وهذا في معنى قوله تعالى: * (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين).
وقوله: * (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم) يعني: عن الإخلاص والالتجاء إلى الله.
وقوله: * (وكان الإنسان كفورا) أي: كافرا.
قوله تعالى: * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر) الخسف بالشيء: هو تغييبه في الأرض، وقيل: هو ابتلاع الأرض إياه.
وقوله * (جانب البر) أي: طرفا من البر.
وقوله: * (أو يرسل عليكم حاصبا) أي: ريحا ذات حصباء، والحصباء الحجارة. معناه: ريحا ترمي بالحجارة.
261

* (حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا (68) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا (69) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم) * *
وقال بعض أهل اللغة الحاصب: البرد، وقال بعضهم الحاصب: الثلج. قال الفرزدق:
(مستقبلين شمال الريح بطردهم
* ذو حاصب كنديف [القطن] منثور)
وقوله: * (ثم لا تجدوا لكم وكيلا) أي: من تكلون أمركم إليه فينجيكم؟.
قوله تعالى: * (أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى) أي: في البحر كرة أخرى. وقوله: * (فيرسل عليكم قاصفا من الريح) القاصف: هو الريح التي تكسر كل شيء وصلت إليه.
وقوله: * (فيغرقكم بما كفرتم) أي: بكفركم.
وقوله: * (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) أي: ثائرا، وهو طالب الثأر، هكذا قاله الفراء، وقيل: من يتبعنا بالإنكار.
قوله تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) فيه أقوال: روي عن ابن عباس أنه قال: هو أكلهم باليد، وسائر الحيوانات يأكلون بأفواههم، وقيل: امتداد القامة وانتصابها، والدواب منكبة على وجوهها، وقيل: بالعقل والتمييز، وقيل: بأن سخر جميع الأشياء لهم، وقيل: بأن جعل فيهم خير أمة أخرجت للناس، وقيل: بالخط والقلم.
وقوله: * (وحملناهم في البر والبحر) أي: حملناهم في البر على الدواب، وفي البحر على السفن.
وقوله: * (ورزقناهم من الطيبات) التي رزقها الله تعالى بني آدم في الدنيا معلومة، وقيل: الحلال، وقيل.
262

* (على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70) يوم ندعو كل أناس بإمامهم) * * (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) قال أبو النضر محمد بن السائب الكلبي: على كل الخلق سوى طائفة من الملائكة منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وفي تفضيل البشر على الملائكة أو الملائكة على البشر كلام كثير ليس هذا موضعه. وظاهر الآية أنه فضلهم على كثير من خلقه لا على الكل، ويجوز أن يذكر الأكثر، ويراد به الكل، والأولى أن يقال: إن البشر أفضل من الملائكة على تفصيل معلوم، وهو أن عوام المؤمنين الأتقياء أفضل من عوام الملائكة، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة. وقد قال الله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) والبرية كل من خلق الله على العموم.
وقوله تعالى: * (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) فيه أقوال: أحدها: بنبيهم، والآخر: بكتابهم، والثالث: بأعمالهم، وعن ابن عباس: إمام هدى وإمام ضلالة، وعن سعيد بن المسيب: كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر. وفي الخبر: ينادى يوم القيامة: قوموا يا متبعي موسى، يا متبعي عيسى، يا متبعي محمد، يا متبعي شيطان، يا متبعي كذا وكذا.
وفي جامع [أبي] عيسى الترمذي في هذه الآية: ' أن النبي قال: يعطى المؤمن كتابه بيمينه، ويمد في جسمه ستون ذراعا، ويبيض وجهه، ويوضع على رأسه تاج من لؤلؤ، فيقبل إلى أصحابه، ويقول لهم: أبشروا؛ فلكل رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فيعطى كتابه بشماله، ويمد في جسمه ستون ذراعا، ويسود وجهه، ويوضع على رأسه تاج من نار، فيقبل (إلى) أصحابه ويقول لهم: أبشروا؛ فلكل رجل منكم مثل هذا '.
263

* (فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا (71) ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا (72) وإن كادوا ليفتنونك عن) * *
وقوله تعالى: * (فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم) والكتاب: هو صحيفة الحسنات والسيئات.
وقوله: * (ولا يظلمون فتيلا) أي: لا ينقص من حقهم بقدر الفتيل.
والفتيل: هو الذي في شق النواة، وقيل: ما فتل بين الأصابع.
قوله تعالى: * (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) ليس العمى هاهنا هو عمى البصر؛ لأن الناس يحشرون بأتم خلق مصححة الأجساد لخلود الأبد. وفي الخبر عن النبي قال: ' تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما ' وقوله: بهما: أي: مصححة الأجساد للخلود. فعلى هذا معنى قوله: * (ومن كان في هذه أعمى) أي: أعمى القلب عن رؤية [الحق] * (فهو في الآخرة أعمى) أي: أشد عمى.
وقيل معناه: من كان في هذه الدنيا بعيدا عن الحق، فهو في الآخرة أبعد، وقيل: من كان في هذه الدنيا أعمى من الاعتبار، فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار.
وقوله: * (وأضل سبيلا) أي: أخطأ طريقا.
قوله تعالى: * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك) معناه: ليصرفونك عن الذي أوحينا إليك. وسبب نزول الآية أن المشركين قالوا للنبي: اطرد هؤلاء الفقراء عنك حتى نجلس معك ونسلم؛ فهم أن يفعل ثم يدعوهم من بعد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنهما قالا: طلبوا من النبي أن يمس آلهتهم حتى يسلموا ويتبعوه، فقال النبي في نفسه: وما علي أن أفعل ذلك إذا علم الله مني أني كاره له، وكان ذلك خاطر قلب، ولم يكن عزما - فأنزل
264

* (الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74)) * * الله تعالى هذه الآية ' والقول الثالث: أن أهل الطائف لما جاءوا إلى النبي ليسلموا، وكان استصعب عليه أمرهم، وحاصرهم بضع عشرة ليلة، ولم يفتح، فلما جاءوا قالوا للنبي: نسلم بشرط أن لا نركع، وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها، وذكروا غير هذا، فقال: ' أما ترك الركوع فلا خير في دين لا ركوع فيه، وأما اللات فلا أترك وثنا بين المسلمين؛ فراجعوه في أمر اللات، وقالوا: لتتحدث العرب زيادة كرامتنا عليك، فسكت النبي، فطمع القوم عند سكوته، فأنزل الله تعالى هذه الآية ' وهذا قول معروف.
وقوله: * (لتفتري علينا غيره) أي: تقول علينا غير ما أنزلناه عليك. وقوله: * (وإذا لاتخذوك خليلا) أي: صاحبا ووديدا.
قوله تعالى: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهن شيئا قليلا) معنى كاد أي: قرب، وكدت أي: قربت من الفعل.
وقوله: * (شيئا قليلا) في موضع المصدر كأنه قال: لقد كدت تركن إليهم ركونا. فإن قيل: النبي كان معصوما من الشرك والكبائر، فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه منه؛ والذي طلبوه منه كفر؟
الجواب من وجهين: أحدهما: أنا نعتقد أن الرسول معصوم من الشرك والكبائر، ونحمل على أن ما وجد منه كان هما من غير عزم، وقد قال النبي: ' إن الله تعالى وضع عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل ' وفي الجملة الله
265

* (إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75)) * * أعلم برسوله من غيره، وقد قال قتادة: لما وقع هذا كان رسول الله يقول بعد ذلك: ' اللهم، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين '.
والجواب الثاني: وهو أنه قال: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن) وقد ثبته ولم يركن، وهذا مثل قوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) إلى أن قال: * (إلا قليلا) وقد تفضل الله، ورحم، ولم يتبعوا الشيطان.
قوله تعالى: * (وإذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) قال ابن عباس: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات.
وقيل: ضعف عذاب الدنيا، وضعف عذاب الآخرة، وقيل: إن الضعف بمعنى العذاب، فكأنه قال: لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات، وإنما سمي العذاب ضعفا لتضاعف الألم فيه.
فإن قيل: لم يضاعف العذاب له؟ قلنا: لعلو مرتبته كما يضاعف الثواب له عند الطاعة. وقد قال الله تعالى: * (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) والمعنى ما بينا.
وقوله: * (ثم لا تجد لك علينا نصيرا) أي: لا تجد من يمنعنا من عذابك.
قوله تعالى: * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها) الاستفزاز: هو الإزعاج بسرعة. واختلفوا في معنى هذه الآية، فقال بعضهم: إنها نزلت بالمدينة، وسبب نزولها أن يهود قريظة والنضير وبني قينقاع أتوا النبي، وقالوا: يا أبا القاسم، قد علمت أن بلاد الأنبياء هي الشام وهي الأرض المقدسة، ومتى سمعت
266

* (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا (76) سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا (77)) * * بنبي من تهامة؟! فأخرج معنا إلى الشام نؤمن بك وننصرك؛ فهم النبي بالخروج معهم، وضرب بقبته على ثلاثة أميال من المدينة ليخرج؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، والأرض هاهنا هي المدينة، وهذا قول معروف.
وعن قتادة قال: الآية مكية، ومعنى الأرض: أرض مكة، وكان المشركون قد هموا أن يخرجوه منها أو يقتلوه، فأمره الله تعالى بالهجرة، وأن يخرج بنفسه.
وقيل: الأرض جميع الأرض، والإخراج منها هو القتل.
وقوله: * (وإذا لا يلبثون خلفك) وقرئ: ' خلافك ' ومعناه: بعدك * (إلا قليلا) ومعنى القليل على القول الثاني: ما بين خروج رسول الله إلى أن قتلوا ببدر، وعلى القول الأول مدة الحياة.
قوله تعالى: * (سنة من قد أرسلناك قبلك من رسلنا) الآية. [انتصبت] السنة؛ لأن معناه: [هذه] السنة كسنة من قد أرسلنا، ثم حذفت الكاف فانتصبت السنة، ومعنى سنة الله هو استئصال القوم بالهلاك إذا أخرجوا الرسول أو قتلوه.
وقوله تعالى: * (ولا تجد لسنتنا تحويلا) أي: تبديلا، وقيل: لعادتنا، ومعناه: ما أجرى الله تعالى من العادة في خلقه.
قوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) اختلفوا في الدلوك: قال ابن [مسعود]: هو الغروب، وقال ابن عباس: هو الزوال، وقد حكي عنهما كلا القولين، وكذلك اختلف التابعون في هذا. وأصل الدلوك من الميل، والشمس تميل إذا زالت أو غربت، وقيل: من الدلك، والإنسان عند الزوال يدلك عينيه لشدة ضوء
267

* (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78)) * * الشمس، ويدلك عينيه عند الغروب، فتبين الشمس لمعرفة جرمها. قال الشاعر:
(مصابيح ليست باللواتي تقودها
* نجوم ولا بالآفلات الدوالك)
تقول العرب: طريق دوالك إذا كانت ذات شعب. وأولى القولين أن يحمل على الزوال لكثرة القائلين به، فإن أكثر التابعين حملوه عليه، ولأنا إذا حملنا عليه تناولت الآية جميع الصلوات الخمس، فإن قوله: * (لدلوك الشمس) يتناول الظهر والعصر.
وقوله: * (إلى غسق الليل) يتناول المغرب والعشاء.
وغسق الليل: ظهور ظلمته، وقيل: اجتماع سواده.
وقله: * (وقرآن الفجر) أي: صلاة الفجر، واستدل العلماء بهذا على وجوب القراءة في الصلاة حيث سمى الصلاة قرآنا. وقوله: * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. ومعنى تشهده: تحضره. وقد صح برواية الأعمش رحمه الله عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي قال في هذه الآية: ' إن قرآن الفجر - صلاة الفجر - تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار '. وقيل معنى قوله: * (مشهودا) أي: أمر الناس بشهودها ليصلوها جماعة.
والصحيح هو القول الأول.
قوله تعالى: * (ومن الليل فتهجد به) يقال: تهجد إذا قام بعد النوم للصلاة، وهجد إذا نام. قال الأزهري: التهجد: إلقاء الهجور، وهو النوم، وعن علقمة والأسود وغيرهما: أنه لا يكون التهجد إلا بعد النوم.
وقوله: * (نافلة لك) أي: زيادة لك، قيل: هي زيادة لكل أحد فما معنى
268

* (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79)) * * تخصيص النبي بذلك؟ قلنا: لأنه هي تكفير الذنوب لغيره وزيادة له، لأن ذنوبه مغفورة، وقيل: نافلة لك أي: فريضة عليك، وقد كان عليه القيام بالليل فريضة، وقيل: نافلة لك أي: فضيلة لك، وخص بالذكر، ليكون له السبق في هذه الفضيلة؛ وليقتدي الناس به فيها.
وقوله: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) أجمع المفسرون أن هذا مقام الشفاعة، وقد ثبت هذا عن النبي. وفي رواية أبي هريرة أن النبي قرأ قوله: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) قال: ' هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ' وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: ' أنا سيد الأنبياء إذا بعثوا، وأنا وافدهم إذا تكلموا، وأنا مبشرهم إذا أبلسوا، وأنا إمامهم إذا سجدوا؛ أقول فليسمع، وأشفع فأشفع، وأسأل فأعطي '.
وعن مجاهد أنه قال: يجلسه على العرش، وعن غيره: يقعده على الكرسي بين يديه، وقال بعضهم: يقيمه عن يمين العرش.
وعن حذيفة أنه قال: يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وهم حفاة عراة قيام، لا يسمع منهم حس، فيقول الله تعالى: يا محمد، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والمهتدى من هديت، تباركت وتعاليت، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، وأنا عبدك بين يديك. قال: فهذا
269

* (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا (80)) * * هو المقام المحمود.
وعن بعضهم أن المقام المحمود: هو لواء الحمد الذي يعطى النبي وقد ثبت عن النبي، أنه قال: ' شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي '. وقال: ' إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة '. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ' لا أزال أشفع حتى يسلم إلي صكاك بأسماء قوم وجبت لهم النار، وحتى يقول مالك خازن النار: ما تركت للنار في أمتك من نقمة '. والأخبار في الشفاعة كثيرة، وأول من أنكرها عمرو بن عبيد، وهو ضال مبتدع بإجماع أهل السنة.
قوله تعالى: * (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) فيه أقوال: أحدها: أدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرج من مكة مخرج صدق، وذكر الصدق لمدح الإخراج، كقوله: * (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق) فالصدق لمدح القدم، وكذلك قوله: * (في مقعد صدق) لمدح المقعد. وإنما مدح لما يؤول إليه الخروج والدخول من النصر والعز ودولة الدين.
والقول الثاني: أخرجني من مكة، وأدخلني مكة، قاله الضحاك. والقول الثالث: أدخلني في الدين، وأخرجني من الدنيا، والقول الرابع: أدخلني في الرسالة، وأخرجني من الدنيا، وقد قمت بما وجب على من حقها. والقول الخامس: أخرجني يعني من المناهي وأدخلني يعني في الأوامر.
والمشهور هو القولان الأولان. والمخرج بمعنى الإخراج، والمدخل بمعنى الإدخال.
270

* (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (81)) * *
وقوله: * (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) قال مجاهد: حجة بينة، وقال غيره: ملكا عزيزا، والملك العزيز: هو المؤيد بالقدرة والحجة.
قوله تعالى: * (وقل جاء الحق وزهق الباطل) قال قتادة: الحق: القرآن، والباطل: الشيطان. وقيل: الحق: عبادة الله، والباطل: عبادة الأصنام. وقد ثبت برواية ابن مسعود: ' أن النبي دخل مكة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ' ذكره البخاري في الصحيح، قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني: أخبرنا به المكي بن عبد الرزاق الكشميهني قال: أنا جدي أبي الهيثم قال: أخبرنا محمد بن يوسف الفربري قال: أخبرنا البخاري قال: أخبرنا علي بن [المديني] قال: أنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود الخبر '.
وفي بعض التفاسير: أن النبي كان يشير بيده إلى الصنم فيستلقي الصنم من غير أن يمسه.
وقوله: * (إن الباطل كان زهوقا) أي: ذاهبا. يقال: زهقت نفسه إذا خرجت.
قوله تعالى: * (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة) الآية قيل: إن ' من ' ها هنا للتجنيس لا للتبعيض. ومعناه: وننزل القرآن الذي منه الشفاء، وقيل: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة أي: ما كله شفاء فيكون المراد من البعض هو الكل، كما قال الشاعر:
(أو يعتلق بعض النفوس حمامها
*)
271

* (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا (82) وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا (83)) * *
أي: كل النفوس، الحمام: هو الموت.
وأما المراد من الشفاء هو الشفاء من الجهل بالعلم، ومن الضلالة بالهدى، ومن الشك باليقين، وقيل: المراد من الشفاء هو الشفاء من المرض بالتبرك به، وقيل: إن معنى الشفاء هو ظهور دليل الرسالة منه بالإعجاز وعجيب النظم والتأليف.
وقوله: * (ورحمة للمؤمنين) أي: هو بركة وبيان وهدى للمؤمنين.
وقوله: * (ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) معنى زيادة الخسار في القرآن للظالمين: ما كان يتجدد منهم بالتكذيب عند نزوله آية آية، فذلك زيادة الخسار والكفر.
قوله تعالى: * (وإذا أنعمنا على الإنسان) أي: بالصحة، وسعة الرزق، وطيب الحياة، وما أشبه ذلك.
وقوله: * (أعرض) أي: تولى. وقوله: * (ونأى بجانبه) أي: تباعد بجانبه. وقرئ ' وناء بجانبه ' وهذا يقرب معناه من الأول. ومعنى الآية: هو ظهور التضرع والإخلاص في الدعاء والالتجاء إلى الله عند المحنة والشدة، وترك ذلك عند النعمة والصحة. ومعنى التباعد: هو ترك التقرب إلى الله، وما كان يظهره من ذلك عند الضر والشدة.
وقوله: * (وإذا مسه الشر كان يؤسا) أي: آيسا. ومعناه أنه يتضرع ويدعو عند الضر والشدة، فإذا خرت الإجابة يئس، ولا ينبغي للمؤمن أن ييئس من إجابة الله، وإن تأخرت الإجابة مدة طويلة.
وعن بعض التابعين أنه قال: إني أدعو الله بدعوة منذ عشرين سنة ولم يجبني إليها وما آيست منها. قيل: وما تلك الدعوة؟ قال: ترك ما لا يعنيني.
قوله تعالى: * (قل كل يعمل على شاكلته) أي: على جديلته وطبيعته، ومعناه: ما يشاكل خلقه. وصحف بعضهم كل يعمل على جديلته - وهو تصحيف قريب من المعنى - والتصحيف في التفسير.
272

* (قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (84) ويسألونك عن) * *
وقوله: * (فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) أي: أوضح طريقا، وأبين مسلكا.
قوله تعالى: * (ويسألونك عن الروح) الآية. روى علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: ' كنت مع رسول الله في حرث، وهو متوكئ على عسيب فجاءه قوم من اليهود، وسألوه عن الروح فوقف رسول الله ينظر إلى السماء فعرفت أنه يوحى إليه، وتنحيت عنه، ثم قال: * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) وهذا خبر صحيح '.
وعن ابن عباس برواية عطاء ' أن قريشا اجتمعت وقالوا: إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق، وما أتهمناه بكذب، وقد ادعى ما ادعى، فابعثوا بنفر إلى اليهود، واسألوهم عنه، فبعثوا بقوم إلى المدينة؛ ليسألوا يهود المدينة عنه، فذهبوا وسألوهم، فقالوا: سلوه عن ثلاثة أشياء: إن أجاب عن اثنين، ولم يجب عن الثالث، فهو نبي، وإن أجاب عن الثلاث، أو لم يجب عن شيء من الثلاثة فليس بنبي، سلوه عن ذي القرنين، وعن فتية فقدوا في الزمن الأول، وعن الروح، - وأرادوا بالذي لا يجيب عنه الروح - فرجعوا وسألوا النبي عن ذلك، وقد اجتمعت قريش فقال: سأجيبكم غدا. ولم يقل: إن شاء الله، فتلبث الوحي أربعين يوما لما أراد الله تعالى، ثم إنه نزل بعد أربعين يوما قوله تعالى: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) ونزل الوحي بقصة (أصحاب) الكهف وقصة ذي القرنين، ونزل بالروح قوله تعالى: * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي).
واختلفوا في الروح على أقاويل: فروي عن ابن عباس أنه جبريل عليه السلام. وقد قال في موضع آخر * (نزل به الروح الأمين). وعنه أنه قال: خلق في السماء من
273

* (الروح قل الروح من أمر ربي) * * جنس بني آدم لهم أيدي وأرجل ليسوا من الملائكة.. وذكره أبو صالح أيضا، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: الروح ملك ذو سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان - وفي رواية سبعون لسانا يسبح الله بألسنته كلها.
وعن الحسن البصري: إن الروح ها هنا: هو القرآن. وقيل: إنه عيسى عليه السلام. ومعناه أنه ليس كما قال اليهود ولا كما قال النصارى، ولكنه روح الله وكلمته تكون بأمره.
وأصح الأقاويل: أن الروح ها هنا هو الروح الذي يحيا به الإنسان، وعليه أكثر المفسرين. واختلفوا فيه: منهم من قال: هو الدم؛ ألا ترى أن الإنسان إذا مات لم يغب منه إلا الدم، ومنهم من قال: هو تنفس الإنسان من الهواء؛ ألا ترى أن المخنوق يموت لاحتباس النفس عليه، ومنهم من قال: إنه عرض، وقال بعضهم: جسم لطيف يشبه الريح، يجري في تجاويف الإنسان. واستدل من قال إنه جسم [إن] الله تعالى قال: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله) وإنما يتصور رزق الأجسام لا رزق الأعراض وتدل عليه أن النبي قال: ' أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلف من ثمر الجنة أو تأكل '.
وروي عن النبي أنه قال: ' إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ' وهذا كله دليل على أن الروح جسم وليس بعرض، وهذا أولى القولين.
274

* (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)) * *
وذكر بعض أهل المعاني: أن الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء، ألا ترى أنه إذا كان موجودا رأت العين وسمعت الأذن، فإذا ذهب الروح فات السمع والبصر، وإذا كان موجودا فالإنسان طيب فإذا خرج أنتن وإذا كان موجودا فيوجد في الإنسان العلم بالأشياء، فإذا فات صار جاهلا، وكذلك توجد فيه الحياة فإذا فات صار الإنسان ميتا، ويوجد فيه العلو واللطافة فات تسفل وكنف.
وأولى الأقاويل في الروح أن يوكل علمه إلى الله.
ويقال: هو معنى يحيا به الإنسان لا يعلمه إلا الله. وذكر القرآن أن الله تعالى لم يخبر أحدا بمعنى الروح، ولا يعلمه غيره. وعن عبد الله بن بريدة أنه قال: إن الله تعالى لم يطلع على معنى الروح ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، وخرج رسول الله من الدنيا، ولم يعلم معنى الروح، والله أعلم.
وقوله: * (قل الروح من أمر ربي) معناه: من علم ربي، وقد قال بعضهم: إن رسول الله علم معنى الروح إلا أنه لم يخبرهم به؛ لأن ترك إخبارهم به كان علما على نبوته. وأيضا لم يخبرهم به؛ لئلا يكون إخباره ذريعة إلى سؤالهم عما لا يعنيهم.
وقوله: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) يعني: في جنب علم الله، ويقال: إن هذا خطاب لليهود على معنى أنه قال للنبي: قل لليهود.
وقيل: إنه خطاب للرسول. وقد روي أن اليهود قالوا: قد أوتينا التوراة، وفيها العلم الكثير؛ فأنزل الله تعالى: * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي) الآية معناه: أن ما أوتيتم من العلم الذي في التوراة قليل في جنب علم الله.
275

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (كهيعص (1) ذكر رحمت ربك عبده زكريا (2) إذ نادى ربه نداء خفيا (3)) * *
((تفسير) سورة مريم مكية
(و) قد روينا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ' سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه من تلادي، وفي رواية: من العتاق الأول '.
وقوله تعالى: * (كهيعص). روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: هذا اسم من أسماء الله تعالى، وحكي عنه أنه قال: (يا الله يا عين صاد)، اغفر لي. وعن الحسن وقتادة: اسم من أسماء السورة. وأما ابن عباس فالمروي عنه: أن كل حرف مأخوذ من اسم، فالكاف مأخوذ من الكافي، ومنهم من قال: من كبير، ومنهم من قال: من كريم، وأما الهاء قال ابن عباس: مأخوذ من الهادي، وأما الياء مأخوذ من حليم، ومنهم من قال: من يمين، ومنهم من قال: من أمين، وقال بعضهم: الياء من ياء النداء، وأما العين فقال ابن عباس: من عليم، وعن غيره: من عزيز. وأما الصادق، قال ابن عباس: من الصادم. وقد بينا قبل هذا أقوالا في الحروف المهجاة في أوائل السور.
وقوله: * (ذكر رحمة ربك عبده زكريا) يعني: هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا، وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير؛ يعني: هذا ذكر ربك عبده زكريا بالرحمة.
وقوله: * (إذ نادى ربه نداء خفيا) أي: دعا ربه دعاء خفيا. وفي بعض الأخبار: ' خير الدعاء الخفي، وخير الرزق ما يكفي '. وفي بعض الأخبار أيضا: ' دعوة السر
276

* (قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا (4) وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا (5)) * * تفضل دعوة العلانية بسبعين درجة '.
فإن قيل: لم أخفى؟ والجواب من وجوه: أحدها: أنه أفضل، والآخر: لأنه استحيا من الناس أن يدعو جهرا، فيقولون: انظروا إلى هذا الشيخ يسأل على كبره الولد!. ويقال: إنه أخفى، لأنه دعا في جوف الليل، وهو ساجد.
قوله تعالى: * (قال رب إني وهن العظم مني) يعني: رق وضعف من الكبر. قال قتادة: اشتكى سقوط الأضراس.
قوله: * (واشتعل الرأس شيبا) أي: شعر الرأس. والعرب تقول إذا كثر الشيب في الرأس: اشتعل رأسه، وهذا أحسن استعارة، لأنه يشتعل فيه كاشتعال النار في الحطب.
وقوله: * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) فيه قولان: أحدهما: أنك عودتني الإجابة، ولم تخيبني، والآخر: ولم أكن بدعائك لي شقيا يعني: لما دعوتني إلى الإيمان آمنت، ولم أشق بترك الإيمان.
وقوله: * (وإني خفت الموالي من ورائي) قال أبو صالح: المراد منه الكلالة. وعن أبي عبيدة: بنو العم.
وقوله: * (ورائي) أي بعدي، وقال أبو عبيدة: ورائي أي: أمامي. والقول الأول أصح.
وفي الشاذ: ' وإني خفت الموالي من ورائي ' أي: قلت.
وقوله: * (وكانت امرأتي عاقرا). العاقر: هي التي لا تلد.
وقوله: * (فهب لي من لدنك وليا). وقوله: * (يرثني) أي: ولدا يرثني. فإن
277

* (يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (6)) * * قيل: كيف يخاف نبي الله أن يرثه بنو العم والعصبة؟ وأيش معنى هذا الخوف؟! وعن قتادة قال: أي شيء كان على نبي الله زكريا أن يرثه غير ولده؟
والجواب: أنه اختلف الأقوال في الإرث: فعن ابن عباس: أنه أراد به إرث المال، وهو قول جماعة، وعنه أيضا أن المراد منه: إرث العلم، وهو قول الحسن البصري، وفيه قول ثالث: أنه ميراث الحبورة، فإنه كان رأس الأحبار.
قال الزجاج: والأولى أن يحمل على ميراث غير المال؛ لأنه يبعد أن يشفق زكرياء عليه السلام - وهو نبي من الأنبياء - أن يرثه بنو عمه وعصبته مالا، وقد ثبت عن
النبي أنه قال: ' كان زكريا نجارا '. قال الشيخ الإمام الأجل: أخبرنا به أبو الحسن أحمد بن محمد بن النقور، قال أبو القاسم بن حبابة، قال عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قال هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي... الخبر. خرجه مسلم في الصحيح، ولم يخرجه البخاري؛ لأنه لا يروى عن حماد بن سلمة.
والمراد من الخوف أنه أراد أن يكون وارثه في النبوة والحبورة ولده، وقد قال النبي: ' إذا مات ابن آدم انقطع [عمله] إلا من ثلاثة.. وقال فيها: ولد صالح يدعو له '.
وقوله: * (ويرث من آل يعقوب) قيل: النبوة، وقيل: الملك؛ لأن زكريا كان من بيت الملك.
وقوله: * (واجعله رب رضيا) أي: مرضيا.
278

* (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا (7) قال رب أنى) * *
قوله تعالى: * (يا زكريا إنا نبشرك بغلام) معناه: قلنا: زكريا إنا نبشرك.
وقوله: * (بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) يعني: من تسمى باسمه. فإن قيل: وأي فضيلة له في هذا؟ قلنا: فضيلة التخصيص، وقيل: فضيلة تسمية الله إياه بهذا الاسم. وفي الآية قول آخر: هو أن قوله: * (لم نجعل له من قبل سميا) أي: شبها ومثلا؛ فإنه لم يذنب، ولم يهم بذنب، وما من أحد إلا وقد أذنب أو هم بذنب. وقد روي هذا عن النبي في خبر مسند أنه قال: ' ما من أحد يأتي الله يوم القيامة إلا وقد أذنب أو هم بذنب غير يحيى بن زكريا، ثم أخذ عودا صغيرا من الأرض وقال: ما كان له إلا مثل هذا ' والخبر غريب.
279

* (يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا (8) قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (9) قال رب اجعل لي آية قال) * *
وقيل في منع الشبهة: أنه لم تلد عاقر من النساء مثله.
قوله تعالى: * (قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) أي: يأسا وجفوفا، كأنه شكى نحولة العظم والفحل.
وقرأ ابن مسعود: ' عسيا ' بالسين، والمعنى واحد.
وقيل: كيف سأل الله الولد فلما أجيب قال: * (أنى يكون لي غلام)؟
والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه كان قال حال الشباب، ثم إنه أجيب في حال الكبر. وهذا قول ضعيف.
القول الثاني: أن معناه: أنى يكون لي غلام؟ يعني: كيف يكون لي غلام؟ أفتردني إلى حال الشباب أو تهب لي الغلام وأنا شيخ؟ وقيل: إنه سأل الولد مطلقا لا من هذه المرأة، فقال: كيف يكون لي الغلام؟ أمن هذه المرأة أو من غيرها؟
قوله تعالى: * (قال كذلك قال ربك هو علي هين) أي: يسير.
وقوله: * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) قد بينا.
قوله تعالى: * (قال رب اجعل لي آية) أي: دلالة. فإن قيل: لم سأل الآية؟ أما صدق الله تعالى حتى يسأل الآية؟. والجواب: أن في القصة: أن الشيطان تمثل له، وقال: إن الذي يجبك ليس هو الله، وإنما هو شيطان يستهزئ بك، فحينئذ سأل الله
280

* (آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا (10) فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (11) يا يحيى) * * الآية، وقد سأل الآية ليكون زيادة في سكون القلب.
وقوله: * (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) أي: متتابعات، وقيل: فيه تقديم وتأخير، ومعناه: ألا يتكلم الناس سويا يعني: وأنت سوي لا آفة بك ثلاث ليال.
وفي القصة: أنه لم يقدر أن يتكلم مع الناس، وكان إذا أراد التسبيح وذكر الله يطلق لسانه.
قوله تعالى: * (فخرج على قومه من المحراب) قد بينا معنى المحراب.
وقوله: * (فأوحى إليهم) أي: أومأ إليهم * (أن سبحوا بكرة وعشيا)
وروي أنه كان يدور على الأحبار كل يوم بكرة وعشيا، ويأمرهم بالعبادة والصلاة، فلما كان في هذه الأيام جعل يشير، ويقال: إنه كتب حتى قرءوا منه.
وقال بعض أهل العلم: إن أخذ لسانه عن الكلام كان عقوبة عليه لما سأل الله تعالى عن الآية بعد أن سمع وعد الله إياه، والله أعلم.
قوله تعالى: * (يا يحيى) قيل: يحيى مأخوذ من قوله: (يا) حي '. وحكى النقاش في تفسيره: أن ' سارة ' كان اسمها ' يسارة ' فسماها جبريل ' سارة '، فقالت: لم نقصت من اسمي حرفا؟ فقال: هو لولد لك يأتي من بعدك، وكان اسم يحيى: ' حي ' في اللوح المحفوظ على معنى أنه حي من كبيرين أيسا من الولد، ثم زيد فيه الياء فصار ' يحيى '. وفي الآية حذف، ومعناه: وهبنا له الولد ثم قلنا: يا يحيى.
281

* (خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا (12) وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا (13) وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا (14) وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث) * *
وقوله: * (خذ الكتاب بقوة) أي: بجد واجتهاد.
وقوله: * (وآتيناه الحكم صبيا) أي النبوة. هذا قول أكثر المفسرين، وقال قتادة: أعطى النبوة وهو ابن ثلاث سنين. وقيل: المراد من الحكم هو العلم، فقرأ التوراة، وهو صغير. وعن بعض السلف قال: من قرأ القرآن قبل أن يبلغ، فهو ممن أوتي الحكم صبيا. وفي الآية قول ثالث رواه أبو وائل: وهو أن يحيى قيل له وهو صغير: تعال نلعب، فقال: ما للعب خلقت '. فهو معنى قوله تعالى: * (وآتيناه الحكم صبيا).
قوله تعالى: * (وحنانا من لدنا) أي: رحمة من عندنا، قال الشاعر:
(أبا منذر (أفنيت فاستبق بعضنا
* حنانيك بعض الشر أهون من بعض)
هو مأخوذ من التحنن وهو التعطف.
وقوله: ' وزكاة ' أي ' طهارة وتوفيقا، وقيل: إخلاصا.
وقوله: * (وكان تقيا). وصفه بالتقوى؛ لأنه لم يذنب، ولم يهم بذنب.
وقوله: * (وبرا بوالديه) أي: عطوفا.
وقوله: * (ولم يكن جبارا عصيا) الجبار هو الذي يقتل على
وقوله تعالى: * (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) خص هذه الأحوال بهذه الأشياء، لأن هذه الأحوال أوحش شيء فإنه عند الولادة يخرج من بطن
282

* (حيا (15) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) قالت إني أعوذ) * * الأم على وحشة شديدة، ويموت على وحشة شديدة، ويبعث على وحشة شديدة. ومعنى السلام هو: الأمان في هذه المواضع.
قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها) أي: تنحت واعتزلت. وقوله: * (من أهلها) أي: من قومها.
وقوله: * (مكانا شرقيا) أي: من جانب المشرق، ويقال: كان يوما شاتيا شديد البرد، فذهبت إلى مشرقه تفلي رأسها. وروي أنها كانت طهرت من الحيض فذهبت لتغتسل.
قوله تعالى: * (فاتخذت من دونهم حجابا) اختلف القول في هذا الحجاب: أحد الأقوال: أنه وراء جدار، وقيل: وراء جبل، والقول الثالث: وراء ستر. وروي أنها كانت تجردت لتغتسل.
وقوله: * (فأرسلنا إليها روحنا) الأكثرون على أنه جبريل عليه السلام، وفيه قول آخر: أن المراد من الروح عيسى عليه السلام، جاء في صورة بشر، وحملت به، والصحيح هو القول الأول.
قوله تعالى: * (فتمثل لها بشرا سويا) في القصة: أنه جبريل جاء في صورة غلام أمرد وضىء الوجه، (له) جعد قطط.
قوله تعالى: * (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) يعني: أستجير بالرحمن منك إن كنت تقيا. فإن قيل: إنما يستعاذ بالرحمن من الشخص إذا كان فاجرا، فأما إذا كان متقيا لا يكون محل الاستعاذة منه؛ لأنه متقي لا يقدم على الفجور، والجواب عنه: أن هذا كقول القائل: إن كنت مؤمنا فلا تظلمني، يعني أنه ينبغي أن
283

* (بالرحمن منك إن كنت تقيا (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21) فحملته فانتبذت به) * * يكون إيمانك مانعا من الظلم. كذلك هاهنا معناه: ينبغي أن يكون تقواك مانعا من الفجور وقيل: إنها شكت في حاله، فقالت ما قالت على الشك، والقول الثالث: إن كنت متقيا يعني: ما كنت متقيا جئت دخلت علي في هذه الحالة، وهذا مثل قوله تعالى: * (قل إن كان للرحمن ولد) أي: ما كان للرحمن ولد. وعن بعض السلف أنه قال: إن كنت متقيا علمت أن التقى ذو نهية أي: ذو عقل؟ فلهذا قالت: إن كنت تقيا.
قوله تعالى: * (قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك). وقرئ: ' ليهب لك ' فقوله: * (لأهب) أضاف إلى نفسه، لأنه أرسل بالموهوب على يده، وقوله: ' ليهب ' أي: ليهب الله لك. وقوله: * (غلاما زكيا) أي: طاهرا صالحا.
قوله: * (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر) أي: زوج. * (ولم أك بغيا) أي: زانية ومعناه: إن الولد يكون من نكاح أو سفاح، وليس هاهنا واحد منهما.
قوله تعالى: * (قال كذلك قال ربك هو علي هين) أي: يسير.
وقوله: * (ولنجعله آية للناس) أي: علامة للناس ودلالة.
قوله: * (ورحمة منا) أي: ونعمة منا.
وقوله: * (وكان أمرا مقضيا) أي: محكوما [محتما] لا يرد ولا يبدل.
قوله تعالى: * (فحملته) في القصة: أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها، وفي رواية: في كم قميصها، وفي رواية: في فيها، فحملت بعيسى في الحال،
وأخذ يتحرك في البطن.
284

* (مكانا قصيا (22) فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت) * *
وقوله: * (فانتبذت) أي: فتنحت وتباعدت * (به مكانا قصيا) أي: شاسعا بعيدا.
قال ابن عباس: كان الحمل والولادة في ساعة واحدة.
وقال غيره: حملت به ثمانية أشهر، وولدت لها، ولا يعيش ولد في العالم يود لثمانية أشهر، وكان هذا معجزة لعيسى.
وفي القصة عن مريم أنها قالت: كنت إذا خلوت جعل عيسى يحدثني، وأنا أحدثه وهو في بطني، وإذا كنت مع الناس، وتكلمت معهم أخذ يسبح وأسمع تسبيحه.
قوله تعالى: * (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) وقال أهل اللغة: جاءها وأجاءها بمعنى واحد، كما يقال: أذهبته وذهبت به. قال مجاهد: فأجاءها أي: فألجأها. وفي حرف ابن مسعود: ' فأداها المخاض إلى جذع النخلة '. وفي بعض القراءة: ' فاجأها ' من المفاجئة، قال الشاعر:
(وجار سار معتمدا عليكم
* فاجاءته المخافة والرجاء)
والمخاض: وجع الولادة. فإن قال قائل: لم التجأت إلى جذع النخلة؟ والجواب عنه: لتستظل بها، والأصح أنها التجأت إلى النخلة، لتستند إليها، أو لتتمسك بها، فتستعين بذلك على وجع الولادة. والدليل على أن هذا القول أصح، أو أنه من المشهور أن النخلة كانت يابسة لا رأس لها، وقيل: كانت نخرة مجوفة، ومثل هذا لا يستظل بها والصحيح هو القول الثاني. وعن السدي أنه قال: كانت النخلة يابسة، فلما هزت النخلة حييت، وأورقت وأطلعت ثم صار الطلع بلحا، ثم زهوا ثم أرطبت، وتساقطت عليها.
وقوله تعالى: * (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا)
285

* (نسيا منسيا (23) فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا (24) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (25) فكلي واشربي وقري عنيا فإما ترين) * *
النسي في اللغة: كمل ما (إذا) ألقي لم يذكر ونسي؛ لحقارته وخساسته. وقوله: * (نسيا) أي: متروكا. وعن ابن عباس قال: معناه: يا ليتني لم أخلق، ولم أك شيئا. وعن قتادة: لم أعرف ولم أذكر. وعن مجاهد قال: دم حيضة ملقاة.
فإن قيل: لم تمنت الموت؟. والجواب: أنها تمنت الموت استحياء من قومها. ويقال: إنها تمنت الموت، لأنها علمت أن الناس يكفرون بسبب ابنها وبسببها، فتمنت الموت حتى لا يعصى الله بسببها وبسبب ابنها.
قوله تعالى: * (فناداها من تحتها) قرىء: ' من ' بالفتح والكسر، فأما من قرأ بالفتح فحمل الآية على أن المنادي كان جبريل. وهذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة، وأما من قرأ بالكسر فحمل على أن المنادي هو عيسى. وهذا قول الحسن ومجاهد، وأظهر القولين أن المنادي هو جبريل، ويجوز أن تحمل القراءتان على ذلك.
وفي القصة: أن مريم كانت على أكمة، فكان جبريل وراء الأكمة تحتها.
وقوله: * (ألا تحزني). ألا تغتمي بالولادة من غير زوج وبالوحدة.
وقوله: * (قد جعل ربك تحتك سريا) أكثر المفسرين أن السري هاهنا هو: النهر، ويسمى سريا؛ لأنه يسري فيه الماء، وقال إبراهيم النخعي: هو نهر صغير.
وفي القصة: أنه كان هناك نهر يابس فأجرى الله تعالى فيه الماء، والدليل على صحة هذا القول أن الله تعالى قال في الآية الأخرى: * (فكلي واشربي) أي: كلي من الرطب، واشربي من النهر، وقال الشاعر في السري بمعنى النهر:
(سهل الخليفة ماجد ذي نائل
* مثل السري عدة الأنهار)
وفي السري قول آخر، وهو أنه بمعنى: الشريف، والمراد به. عيسى. قال بعض المتأخرين:
286

* (من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26) فأتت به) * *
(إن السري إذا سرى بنفسه
* وابن السري إذا سرى أسراهما)
قوله تعالى: * (وهزي إليك بجذع الخلة) قد بينا هذا من قبل، وذكرنا أنها هزت وأورقت وأثمرت.
وقوله: * (تساقط عليك رطبا) أي: تتساقط، فأدغمت إحدى التاءين في الأخرى.
والجني: هو الذي بلغ الغاية، وجاء أوان اجتنائه.
قال الكلبي: رطبا بغباره. وعن ابن المسيب بن دارم قال: كان برنيا، وهي أشبع التمر. وعن محمد بن كعب قال: كان عجوة.
قوله تعالى: * (فكلي واشربي) أي: كل من الرطب، واشربي من النهر.
وقوله: * (وقري عينا) أي: طيبي نفسا. ومنه قولهم: أقر الله عينك، وقيل: [أن] العين إذا بكت من السرور بالدمع يكون باردا، وإذا بكت من الحزن يكون حارا، فمن هذا: أقر الله عينك، وأسخن الله عينه.
وقوله: * (فإما ترين) معناه: فإما ترين، وذكر النون للتأكيد.
وقوله: * (من البشر أحدا) معلوم المعنى.
وقوله: * (فقولي إني نذرت للرحمن صوما) قرىء في الشاذ: ' صمتا '. والمعروف: ' صوما ' ومعناه هو: صمت، ويقال: إنها صامت عن الكلام والطعام جميعا، وقيل: كان الرجل من بني إسرائيل إذا اجتهد في العبادة صام عن الكلام والطعام جميعا.
والنذر عقد على البر لو تم أمر.
وقوله: * (فلن أكلم اليوم إنسيا) أي: أحدا. فإن قيل: هي تكلمت بهذا، فكيف تكون صائمة عن الكلام؟
قلنا: أذن لها في هذا القدر من الكلام.
287

* (قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ) * *
قوله تعالى: * (فأتت به قومها تحمله) في القصة أنها ولدت ثم (حملته) في الحين إلى قومها، وفي بعض الروايات: أنها حملته إلى قومها بعد أربعين يوما من ولادتها.
وقوله: * (قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا) قال مجاهد: عظيما منكرا، وقال أبو عبيدة: عجبا. وقيل: مختلقا مفتعلا. وقد روي أنها لما أتت بعيسى إلى قومها وأهل بيتها حزنوا حزنا شديدا - وكانوا أهل بيت صالحين - وظنوا بها الظنون.
قوله تعالى: * (يا أخت هارون) يا شبيهة هارون. قال قتادة: وكان هارون رجلا عابدا في بني إسرائيل، وليس هو هارون أخو موسى، فشبهوها به على معنى أنا ظننا وحسبنا (أنك في) الصلاح مثل هارون، وهذا مثل قوله تعالى: * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) أي: أشباه الشياطين.
وعن كعب: أن هارون كان من أعبد بني إسرائيل وأمثلهم، قال: ولما توفي صلى على جنازته أربعون ألفا، كلهم يسمون هارون سوى سائر الناس، وكانوا يسمون أولادهم باسمه لحبهم إياه.
وروى المغيرة بن شعبة ' أن النبي لما (بعثه) إلى نجران قال له نصارى نجران: إنكم تقرءون: يا أخت هارون! بين مريم وهارون كذا وكذا من السنين، فلم يدر المغيرة كيف يجيب، فلما رجع إلى النبي ذكر ذلك له، فقال: ألا قلت لهم: كانوا يسمون باسم أنبيائهم وصالحيهم '. رواه مسلم في صحيحه.
وفي الآية قول آخر: وهو أن المراد بهارون: أخو موسى، وهذا كما يقول القائل:
288

* (سوء وما كانت أمك بغيا (28) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا) * * أخا تميم، أو يا أخا ثعلب، إذا كان من أولاده، وقد كانت مريم من أولاد هارون. والقول الثالث: أن هارون كان رجلا فاسقا في بني إسرائيل عظيم الفسق، فشبهوها به.
وفي الآية قول رابع: أن هارون كان أخا مريم لأبيها، فعلى هذا المراد من الأخوة في النسب.
وقوله: * (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) أي: زانية. ومعناه: كيف جئت مفسدة زانية من أبوين صالحين؟
قوله تعالى: * (فأشارت إليه) معناه: فأشارت إليه أي: كلموه. قال ابن مسعود: لما لم يكن لها حجة أشارت إليه؛ لتبرىء ساحتها، ويكون كلامه حجة (لها).
وفي القصة: أنها لما أشارت إليه غضب القوم، وقالوا: مع ما فعلت تهزئين وتسخرين بنا.
وقوله تعالى: * (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا) فإن قيل: أيش معنى قوله: * (كان في المهد صبيا)، وما من رجل من العالم إلا كان في المهد صبيا؟! والجواب عنه: قال أبو عبيدة: كان صلة، ومعنى الآية: كيف نكلم صبيا في المهد؟. وقال الزجاج: هذا على طريق الشرط، أي: من هو صبي في المهد كيف نكلمه؟.
ومعنى ' كان ': هو، أو معنى ' كان ': صار، وهذا اختيار [ابن] الأنباري.
قوله تعالى: * (قال إني عبد الله) في التفسير: أن مريم لما أشارت إليه فكان يرتضع من ثديها فترك الثدي، وأقبل على (القوم، واتكأ على) يساره، وجعل يشير بيمينه، وقال هذا القول.
وقوله: * (إني عبد الله) أقر بالعبودية أولا؛ لئلا يتخذ إلها.
289

(* (29) قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (30) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا) * *
وقوله: * (آتاني الكتاب). أي: الإنجيل. والأكثرون على أنه أوتي الإنجيل وهو صغير طفل؛ إلا أنهم قالوا: كان يعقل عقل الرجال. هذا قول الحسن وغيره من السلف، وعن الحسن أنه قال: جعل نبيا، وأوتي الإنجيل، وهو في بطن أمه.
وقال بعضهم: * (آتاني الكتاب) أي: سيؤتيني الكتاب، ويجعلني نبيا إذا صرت رجلا. والصحيح هو الأول. وقال بعضهم: كان في ذلك الوقت على وصف آدم في
العقل والعلم دون القامة والجثة.
وعن سعيد بن جبير قال: أسلمته أمه إلى المعلم، فقال المعلم: قل بسم. فقال: الله. فقال: قل: الرحمن. قال: الرحيم. فجعل كلما ذكر اسما ذكر هو الذي يليه، فقال المعلم: هذا أعلم مني، ثم جعل يخبر الصبيان بما خبأت أمهاتهم في البيوت، فجعل الصبيان يرجعون إلى بيوتهم ويأخذونها، فضجت الأمهات من ذلك.
فقوله: * (وجعلني مباركا) أي: نفاعا معلما للخير، وقال الضحاك: قضاء للحوائج.
وقال الثوري: آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر.
وقوله: * (أينما كنت) أي: حيث كنت.
وقوله: * (وأوصاني بالصلاة والزكاة) أي: أمرني بالصلاة والزكاة. فإن قيل: لم يكن لعيسى مال، فكيف يؤمر بالزكاة؟ والجواب: أن معناه أمرني بالزكاة لو كان لي مال، وقيل: أمرني بالزكاة أي: بالطهارة من الذنوب، ويقال: بالاستكثار من الخير.
وقوله: * (ما دمت حيا) أي: ما حييت.
قوله تعالى: * (وبرا بوالدتي) أي: رؤوفا وعطوفا بوالدتي.
290

(* (32) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33) ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون (34) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (35)) * *
وقوله: * (ولم يجعلني جبارا شقيا) الجبار: المتكبر، والشقي هو الذي يعصي الله، ويقال: الجبار هو الذي يقتل، ويضرب على الغضب، وهذا قول معروف، ويقال: الجبار هو الذي يظلم الناس، والشقي هو الذي يذنب، ولا يتوب من الذنب.
قوله تعالى: * (والسلام علي يوم ولدت) معناه: التحية والحفظ من الله لي يوم ولدت * (ويوم أموت ويوم أبعث حيا) وقال بعضهم: السلام بمعنى السلامة عند الولادة، هو السلامة من طعن الشيطان وهمزه، والسلامة عند الموت هو من الشرك، فإن أكثر الشرك يكون عند الموت، والسلامة يوم القيامة من الأهوال.
وقيل: السلامة عند الموت من ضغطة القبر، وقيل: سلامة عند الموت بالوصول إلى السعادة.
قوله تعالى: * (ذلك عيسى ابن مريم) يعني: هذا عيسى ابن مريم * (قول الحق الذي فيه يمترون). يعني: هذا القول هو القول الحق، وقوله * (الذي فيه يمترون) أي: يختلفون.
قوله تعالى: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) معناه: ما يصلح لله، وما ينبغي أن يتخذ من ولد. فإن قيل: هلا قال ولدا؟ قلنا: قال من ولد للمبالغة؛ فإن الرجل قد يقول: ما اتخذ فلان فرسا يريد العدد، وإن كان قد اتخذ واحدا. فإذا قال: ما اتخذ فلان من فرس، يكون ذلك نفيا للواحد والعدد. وقد بينا أن الولد يكون من جنس الوالد، والله لا جنس له.
وقوله سبحانه: * (إذا قضى أمرا) قد بينا معنى القضاء.
وقوله: * (فإنما يقول له كن فيكون) قد ذكرنا أيضا.
291

* (وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (36) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم (37) أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن) * *
قوله تعالى: * (وإن الله ربي وربكم). أكثر المفسرين أن هذا بناء على قول عيسى عليه السلام، ومعناه: قال إني عبد الله... إلى آخره، وقال: إن الله ربي وربكم، وأما أن بالفتح معناه: وأخبر بأن الله ربي وربكم، وقيل تقديره: ولأن الله ربي وربكم، فاعبده، والعامل قوله: * (فاعبدوه).
وقوله: * (فاعبدوه هذا صراط مستقيم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فاختلف الأحزاب من بينهم) قال قتادة وابن جريج وغيرهما: لما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، اختار بنو إسرائيل أربعة من رؤوسهم، وسألوهم عن عيسى، فاختلفوا، فقال أحدهم: كان هو الله نزل من السماء، وصار في بطن مريم، وأحيا وأمات، ثم صعد إلى السماء. فقال الآخرون: كذبت، وهذا قول اليعقوبية من النصارى.
وقال الثاني: كان هو ابن الله، فقال الآخران: كذبت. وهذا قول النسطورية من النصارى.
وقال الثالث: كان ثالث ثلاثة: الله ومريم وعيسى، فعيسى أحد الأقانيم الثلاثة، وهذا قول الملكانية من النصارى، قال الرابع: كذبت. ثم إن الرابع قال: هو عبد الله ورسوله، وتبع كل واحد جماعة فاقتتلوا، وظهر على المسلمين، وبقي الأقوال الثلاثة من النصارى. فهذا معنى قوله تعالى: * (فاختلف الأحزاب من بينهم).
وقوله: * (فويل للذين كفروا). قد بينا معنى الويل.
وقوله: * (من مشهد يوم عظيم) يعني: يوم القيامة.
قوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر) يعني: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة. وإنما
292

* (الظالمون اليوم في ضلال مبين (38) وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة) * * وصفهم بهذا؛ لأنه تعالى كان وصفهم بالبكم والعمي والصمم في
الدنيا، فأخبر أنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة، ما لم يسمعوا ويبصروا في الدنيا. ويقال: وصفهم بشدة السمع والبصر في الآخرة بحصول الإدراك بغير رؤية ولا فكر.
وقوله: * (يوم يأتوننا) ظاهر المعنى.
وقوله: * (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) أي: خطأ بين.
ويقال قوله: * (أسمع بهم وأبصر) تهديد ووعيد ومعناه: أنهم يسمعون ما تصدع قلوبهم، ويرون ما يهلكهم.
وقوله تعالى: * (وأنذرهم يوم الحسرة) معناه: يوم الندامة، ويقال: كل الناس يندمون يوم القيامة؛ أما المسئ فيندم هلا أحسن، وأما المحسن فيندم هلا ازداد (حسنا). وأما قول أكثر المفسرين في الآية: هذه الحسرة حيث يذبح الموت على الصراط، وقد صح الخبر برواية أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري عن النبي، أنه قال:
' إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار ينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرفون وينظرون، وينادي: يا أهل النار، فيشرفون وينظرون؛ فيؤتى بالموت على صورة كبش أملح، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعرفه، هذا هو الموت فيذبح '. وفي رواية أبي هريرة: ' يذبح على الصراط ' ثم يقال: يا أهل الجنة خلود (ولا موت)، ويا أهل النار، خلود فلا موت '. وفي بعض الروايات: ' لو مات أهل الجنة لماتوا فرحا، ولو مات أهل النار لماتوا حزنا، ثم قرأ النبي: * (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر).. الآية '.
293

* (وهم لا يؤمنون (39) إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون (40) واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني) * *
وقوله: * (قضي الأمر) أي: فرغ من الأمر.
وقوله: * (وهم في غفلة) معناه: وهم في غفلة في الدنيا عما يعمل بهم في الآخرة.
وقوله: * (وهم لا يؤمنون) أي: لا يصدقون.
قوله تعالى: * (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها) الآية. معناه: إنا نميت سكان الأرض، ونهلكهم، فتكون الأرض ومن عليها لنا وفي حكمنا. ومعنى الإرث: هو أنه لا يبقى لأحد ملك ولا سبب سوى الله.
قوله: * (وإلينا يرجعون) أي: يردون.
قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا) الصديق هو: الكثير الصدق، القائم عليه. ويقال: من صدق الله في وحدانيته، وصدق أنبياءه ورسله، وصدق بالبعث، وقام بالأوامر فعمل بها؛ فهو صديق.
وقوله: * (نبيا) النبي هو: العالي في الرتبة بإرسال الله إياه، وإقامة الدليل على صدقه.
قوله تعالى: * (إذ قال لأبيه يا أبت) معناه: يا أبي، فأقيمت التاء مقام ياء الإضافة.
وقوله: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) أي: لا يسمع إن دعوته، ولا يبصر إن أتيته * (ولا يغني عنك شيئا) لا يدفع عنك، ومعناه: لا يغيثك إن استغثت به.
قوله تعالى: * (يا أبت إني قد جاءني ما لم يأتك) أي: من العلم والمعرفة بالله ما لم يأتك.
294

* (أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45) قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا (46) قال سلام) * * (فاتبعني أهدك) أرشدك * (صراطا سويا) مستقيما.
قوله تعالى: * (يا أبت لا تعبد الشيطان) معناه: لا تطع الشيطان فيما يزين لك من الكفر والشرك.
وقوله: * (إن الشيطان كان للرحمن عصيا) أي: عاصيا.
قوله تعالى: * (يا أبت إني أخاف) الخوف ها هنا بمعنى: العلم، ومعناه: إني أعلم أنه * (يمسك عذاب من الرحمن) إن أقمت على الكفر.
* (فتكون للشيطان وليا) يعني: يلزمك ولاية أي: موالاة الشيطان وتكون مثله. وقيل: فتوكل إلى الشيطان، ويخذلك الله.
قوله تعالى: * (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم)
في القصة: أن أبا إبراهيم كان ينحت الصنم ويعبده، وكان يعطي الأصنام بنيه يبيعونها، فكان إذا أعطى إبراهيم صنما يبيعه، فيقول إبراهيم: من يشتري مني ما يضره ولا ينفعه؟! فيرجع وما باع، ويرجع سائر البنين وقد باعوا.
وقوله: * (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) يقال: رغب عن الشيء إذا تركه، ورغب (في الشيء إذا طلبه).
وقوله: * (لئن لم تنته) يعني: عن عملك. * (لأرجمنك). قال الحسن البصري: لأقتلنك بالحجارة، وقال غيره: لأشتمنك، ولأبعدنك عن نفسي بالشتم والقبح من القول '، وهذا أعرف القولين. وقوله: * (واهجرني مليا) قال الحسن: زمانا طويلا. وقال عكرمة: دهرا.
295

* (عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا (47) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا (48) فلما اعتزلهم وما يعبدون من
دون) * *
قال مهلهل شعرا:
(فتصدعت صم الجبال لموته
* وبكت عليه المرملات مليا)
ومنه: الملوان هو الليل والنهار. ويقال: مليا أي: سليما سويا من عقوبتي وإيذائي، وحكي هذا عن ابن عباس، ومنه: فلان ملي بأمر كذا، إذا كان كاملا فيه.
قوله تعالى: * (قال سلام عليك).
قال بعضهم: هذا سلام هجران ومفارقة. وقال بعضهم: هو سلام بر ولطف، وهو جواب حليم لسفيه، قال الله تعالى: * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).
ويقال: معنى قوله: * (سلاما) أي: سلامة لك مني؛ لأنه لم يكن أمر بقتاله.
وقوله: * (سأستغفر لك ربي). فيه قولان: أحدهما: سأستغفر لك ربي إن آمنت، والقول الثاني: سأسأل الله لك التوبة التي توجب المغفرة، وقد كانت توبته هي الإيمان. وقوله: * (إنه كان بي حفيا) أي: عودني الإجابة لدعائي. وقيل: محبا.
قوله تعالى: * (وأعتزلكم) [هذا الاعتزال] هو: تركهم في مهاجرته إلى الشام على ما قال في موضع آخر: * (وقال إني مهاجر إلى ربي).
وقوله: * (وما تدعون من دون الله) أي: تعبدون من دون الله.
وقوله: * (وأدعو ربي) أي: وأعبد ربي.
وقوله: * (عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا) عسى من الله واجب، والدعاء بمعنى العبادة، والشقاوة: الخيبة من الرحمة.
قوله تعالى: * (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق)
296

* (الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (49) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا (50) واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا) * * (ويعقوب) هو ابن إسحاق.
ومعناه: أنا أعطيناه أولادا كراما بررة عوض الذين كان يدعوهم إلى عبادة الله فلم يجيبوا.
وقوله: * (وكلا جعلنا نبيا) يعني: إسحاق ويعقوب.
* (ووهبنا لهم من رحمتنا) يعني: أنعمنا عليهم، وأعطيناهم من كرامتنا ونعمنا.
وقوله: * (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) أي: ثناء حسنا إلى يوم القيامة، وقد بينا أن كل أهل الأديان يتولون: إبراهيم، فهو الثناء الحسن إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا) وقرئ: ' مخلصا ' ' مخلصا ' بالفتح والكسر، فبالكسر أي: موحدا لله وبالفتح أي: مختارا من الله تعالى. وقيل: مخلصا أي: خالصا، وهو مثل قوله تعالى: * (ورجلا سلما لرجل) أي: خالصا لرجل.
وقوله: * (وكان رسولا نبيا). قيل: الرسول والنبي واحد، وقد فرق بينهما، وقد بينا من قبل.
قوله تعالى: * (وناديناه من جانب الطور الأيمن) الطور: جبل بين مصر ومدين، ويقال: اسمه الزبير.
وقوله: * (الأيمن) وقيل: يمين الجبل، وقيل: يمين موسى، والأصح يمين موسى؛ لأن الجبل ليس له يمين ولا شمال.
297

(* (51) وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52) ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا (53) واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا) * *
وقوله: * (وقربناه نجيا) قال ابن عباس: أدناه حتى سمع صرير القلم، وقيل: صريف القلم. وفي رواية: رفعه على الحجب.
ويقال: قربناه نجيا أي: كلمناه، والتقريب ها هنا هو التكلم، وأما النجي فهو المناجي، وكأن معناه على هذا القول: أن الله يكلمه، وهو يكلم الله.
قوله تعالى: * (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) قال أهل التفسير: إنما سمى نبوة هارون هبة لموسى؛ لأن موسى كان قال: * (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي).
قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب إسماعيل). الأكثرون أن هذا: إسماعيل بن إبراهيم أبو النبي، وقال بعضهم: هو إسماعيل بن حزقيل، نبي آخر؛ فإن إسماعيل بن إبراهيم توفي قبل إبراهيم. والصحيح هو القول الأول، وقد كان بعث إلى جرهم [وهي] قبيلة، وأما وفاته قبل إبراهيم لا تعرف.
وقوله: * (إنه كان صادق الوعد) قال سفيان: لم يعد الله شيئا من نفسه إلا وفى به، ومن المعروف أنه وعد إنسانا شيئا فأنتظره ثلاثة أيام في مكان واحد، فسمي صادق الوعد، ويقال: انتظره حولا.
وعن سفيان الثوري أنه قال: إن للكذاب أطرافا، وأعظم الكذب إخلاف المواعيد، واتهام الأبرياء.
وفي بعض الأخبار: ' أن النبي بايع رجلا قبل الوحي، فقال له ذلك الرجل: مكانك يا محمد، حتى أرجع إليك، وذهب ونسي، ثم مر بذلك المكان بعد ثلاثة أيام، فوجد النبي جالسا، فقال له النبي: أتعبتني أيها الرجل، أنا أنتظرك
298

(* (54) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (55) واذكر في الكتاب) * * منذ ثلاث '.
وقد ثبت عن النبي أنه جعل إخلاف الوعد ثلث النفاق.
وعن زيد بن أرقم، أن من وعد إنسانا ومن نيته أن يفي به، ثم لم يتفق الوفاء، فإنه لا يدخل في هذا الوعيد.
وروى [قباث] بن أشيم أن النبي قال: ' العدة عطية '. هو خبر غريب.
وقوله: * (وكان رسولا نبيا) قد بينا.
قوله: * (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) قرأ ابن مسعود: ' وكان يأمر قومه بالصلاة '.
وقال أهل التفسير: إن معنى قوله: * (وكان يأمر أهله) أي: أمته، وإن أمة كل نبي أهلوه.
وقوله: * (وكان عند ربه مرضيا) أي: مختارا ومعناه: رضيه الله لنبوته ورسالته.
299

* (إدريس إنه كان صديقا نبيا (56) ورفعناه مكانا عليا (57) أولئك الذين أنعم الله) * *
قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب إدريس). قيل: إدريس هو أبو جد نوح. يسمى إدريس لكثرة درسه الكتب.
وقال محمد بن إسحاق: هو أول من خط بالقلم، وأول من لبس الثياب، وكان من قبله يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار.
قوله: * (إنه كان صديقا نبيا) قد بينا.
وقوله: * (ورفعناه مكانا عليا) قد ثبت برواية أنس أن النبي قال: ' رأيت إدريس ليلة المعراج في السماء الرابعة '. فهو قوله تعالى: * (ورفعناه مكانا عليا) في الجنة يعني: رفعه.
وقيل: هي الرفعة بعلو المرتبة. واختلف القول في أنه في السماء الرابعة حي أم ميت: أحد القولين: أنه حي.
قال قوم من أهل العلم: أربعة من الأنبياء في الأحياء، اثنان في السماء، واثنان في الأرض، أما اللذان في السماء: فإدريس، وعيسى، وأما اللذان في الأرض: فالخضر، وإلياس.
والقول الثاني: إن إدريس ميت. قال كعب الأحبار: كان لإدريس صديق من الملائكة، فقال له: إني أحب أن أعرف متى أموت؛ لأزداد من العمل، فهل لك أن تسأل ملك الموت؟ فقال: أسأله وأنت تسمع، ثم رفعه تحت جناحه إلى السماء، وجاء إلى ملك الموت، فقال: هل تعرف أن إدريس متى يموت؟ فقال: حتى أنظر، ثم
300

* (عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58) فخلف من) * * استخرج كتابا، ونظر فيه، فقال: بقي من عمره ست ساعات - وفي رواية لحظة - وقبض روحه ثمة، فهو معنى قوله: * (ورفعناه مكانا عليا) وهذا قول معروف.
قوله: * (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم) والمراد من ذرية آدم: إدريس.
وقوله: * (وممن حملنا مع نوح). أي: ومن ذرية من حملنا مع نوح، والمراد منه: إبراهيم؛ لأنه كان من ولد سام بن نوح.
وقوله: * (ومن ذرية إبراهيم) المراد منه: إسماعيل وإسحاق ويعقوب.
وقوله تعالى: * (وإسرائيل). أي: من ذرية إسرائيل، والمراد منه: موسى وداود وسليمان ويوسف وعيسى، وكل أنبياء بني إسرائيل.
وقوله: * (وممن هدينا واجتبينا) هذا يرجع إلى الأولين، ومعناه: أنا هديناهم، واختبرناهم، وهؤلاء ذريتهم.
وقوله: * (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا) أي: سقطوا، وقيل: وقعوا بوجوههم ساجدين، والسجد جمع ساجد.
وقوله: * (وبكيا) أي: باكين.
وروي أن النبي مر على رجل، وهو ساجد يدعو، فقال: ' هذا السجود وأين البكاء '؟!.
قوله تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف) الخلف: الرديء من القوم. والخلف
301

(بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59) إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا (60) جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا (61)) * * الصالح في القوم. والخلف هو الذي يخلف غيره، وذكر الفراء والزجاج أنه يجوز أن يستعمل أحدهما مكان الآخر.
وقوله: * (أضاعوا الصلاة). فيه قولان: أحدهما: أخروها عن وقتها، والآخر: تركوها أصلا. وعن ابن شوذب: هو التأخير عن الوقت، ولو تركوها أصلا لكفروا.
وقال عمر بن عبد العزيز: هو شربهم الخمر، وتركهم الصلاة.
وقال مجاهد: هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزوا بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة، وقيل: هم الزناة. ويقال: أضاعوا الصلاة باتباع الشهوات.
وقوله: * (فسوف يلقون غيا) قيل: الغي واد في جهنم، وقيل: غيا: هلاكا، وقيل: غيا: جزءا غيهم. شعر:
(ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره
* ومن يغو لا يعدم على الغي لائما)
قوله تعالى: * (إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا). أي: لا ينقصون شيئا.
قوله: * (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب) معناه: جنات إقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام.
وقوله: * (التي وعد الرحمن عباده بالغيب) أي: بالمغيب.
وقوله: * (إنه كان وعده مأتيا). مفعول في الإتيان، وكل ما أتيته فقد أتاك، والعرب لا تفرق بين أن يقول القائل: أتيت على خمسين سنة أو يقول: أتت على خمسون سنة، وكذلك لا تفرق بين أن يقول القائل: وصل الخير إلي، وبين أن يقول:
302

* (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا (62) تلك الجنة التي) * * وصل إلي الخير:
ويقال معنى قوله: (' آتيا ' أي: ' مأتيا ') مفعول بمعنى الفاعل.
قوله تعالى: * (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما)
الغغو: هو الفاسد من الكلام، وما لا معنى له، وقيل: هو الهذر من القول، وقيل: القبيح منه، وقيل: هو الحلف الكاذبة.
وقوله: * (إلا سلاما). معناه: لكن يسمعون سلاما. فإن قيل: أيجوز استثناء السلام من اللغو؛ وهو ليس من جنسه؟ قلنا: هو استثناء منقطع كما بينا. وذكر الأزهري أن تقديره: لا يسمعون فيها لغوا، لا يسمعون إلا سلاما. وأما السلام فهو تسليم بعضهم على بعض، وقيل: تسليم الله عليهم. ويقال: هو قول يسلمون منه. والسلام اسم لكلام جامع للخيارت، ومنهم من قال: هو اسم لكلام يتصل به السلامة.
وقوله: * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) فإن قيل: ما معنى قوله: * (بكرة وعشيا)، وليس في الجنة ليل ولا نهار؟! والجواب عنه أن معناه: بكرة وعشياء أي: على مقادير البكر والعشايا.
ويقال: إنه يعرف وقت النهار برفع الحجب وفتح الأبواب، ووقت الليل بإسبال الحجب وغلق الأبواب.
والقول الثاني: أن معنى قوله: * (بكرة وعشيا) أي: لهم فيها رفاهة العيش؛ الرزق الواسع من غير تضييق ولا تقتير.
وكان الحسن البصري إذا قرأ هذه الآية قال: لقد علمت العرب أن أرفه العيش هو الرزق بالبكرة والعشية، ولا يعرفون من الرفاهية فوق هذا.
303

* (نورث من عبادنا من كان تقيا (63) وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا) * *
قوله تعالى: * (تلك الجنة التي نورث من عبادنا) فيه قولان: أحدهما: يعطى وينول، والقول الآخر: أنه ما من أحد من الكفار إلا وله منزل في الجنة وأهل لو أسلم، فإذا لم يسلم ورثه المؤمنون.
وقوله: * (من كان تقيا) قيل: مخلصا.
قوله تعالى: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك). قد ثبت برواية عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن جبريل، أبطأ على النبي، فلما نزل، قال: ' يا جبريل لو زرتنا أكثر مما تزورنا، فقال جبريل: وما نتنزل إلا بأمر ربك '.
وفي بعض الروايات أن النبي قال له: ' يا جبريل، قد كنت مشتاقا إليك، (فقال: يا محمد، وأنا والله قد كنت مشتاقا إليك)، ولكن ما نتنزل إلا بأمر ربك '.
وروي أنه أبطا [اثنتا عشرة] ليلة، وروي أكثر من هذا، والله أعلم.
وقوله: * (له ما بين أيدينا وما خلفنا). يعني: له علم ما بين أيدينا وما خلفنا. وفي الآية أقوال:
أحدها: ما بين أيدينا يعني: الآخرة، وما خلفنا: ما مضى من الدنيا، وما بين ذلك: من الساعة إلى النفخة.
والقول الثاني: ما بين أيدينا: ما قابلناه وواجهناه، وما خلفنا: ما استدبرناه وجاوزناه
304

* (وما بين ذلك وما كان ربك نسيا (64) رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا (65) ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67) فوربك لنحشرنهم) * * (بين) الوقت وما بين ذلك، الحال.
والقول الثالث: ما بين أيدينا: الأرض، وما خلفنا: السماوات، وما بين ذلك: الهواء.
والقول الرابع: ما بين أيدينا: بعد أن نموت، وما خلفنا: قبل أن نخلق، وما بين ذلك. مدة الحياة.
وقوله: * (وما كان ربك نسيا). أي: ما نسيك ربك، ومعنى نسيك أي: تركك.
قوله تعالى: * (رب السماوات والأرض وما بينهما) ظاهر المعنى.
وقوله: * (فاعبده) أي: وحده.
وقوله: * (واصطبر لعبادته) أي: اصبر على عبادته.
وقوله: * (هل تعلم له سميا) قال ابن عباس: هل تعلم أحدا يسمى ' الرحمن ' غير الله؟ وقيل: يسمى ' الله ' غير الله، وقال قتادة: هل تعلم له سميا؟ أي: مثلا،
وقال بعضهم: سميا أي: ولدا.
قوله تعالى: * (ويقول الإنسان أإذا ما مت) قالوا: نزلت الآية في أبي بن خلف.
وقوله: * (لسوف أخرج حيا) أي: أسوف أخرج حيا؟
قوله تعالى: * (أولا يذكر) قرأ أبي بن كعب: ' أولا يتذكر الإنسان ' ومعناه: أولا يتفكر، ولا ينظر * (الإنسان).
وقوله: * (أنا خلقناه من قبل ولم [يك] شيئا). ومعناه: أنا لما قدرنا على إنشاء خلقهم، فنحن على الإعادة أقدر.
305

* (والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (68) ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا (69) ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا (70) وإن منكم إلا واردها) * *
قوله تعالى: * (فوربك لنحشرنهم والشياطين). في الخبر: أنه يحشر كل كافر مسلسلا مع شيطان.
وقوله: * (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) أي: جاثين على الركب. قال السدي: قاعين على الركب من ضيق المكان، ' وحول جهنم ' هو عين جهنم.
قوله تعالى: * (ثم لننزعن من كل شيعة) أي: لنستخرجن ونأخذن من كل شيعة، أي: من كل أمة وأهل دين من الكفار.
وقوله: * (أيهم أشد على الرحمن عتيا) أي: الأعتى فالأعتى، ومعنى الآية: أنا نقدم في إدخال النار من هو أكثر جرما، وأشد أمرا، وقال أهل اللغة: وقوله: * (عتيا) أي: افتراء بلغة تميم. ويقال: هؤلاء هم قادة الكفر ورؤساؤه، وفي بعض الآثار: أنهم يحضرون جميعا حول جهنم مسلسلين مغلولين، ثم يقدم الأكفر فالأكفر.
قوله تعالى: * (ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) أي: أحق دخولا. ويقال: الذين هم أشد عنوا أولى بها صليا، فهذا تقدير الآية.
قوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها) معناه: وما منكم إلا واردها. واختلفوا فيما ينصرف إليه قوله: * (واردها) قال ابن عباس: هي النار، قال: والورود هو الدخول، وقال: يدخلها البر والفاجر، ثم ينجو البر، ويبقى الفاجر. وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: تمارا ابن عباس ونافع بن الأزرق في الورود، فقال ابن عباس: هو الدخول، وتلا قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) ثم قال: يا نافع، أنا وأنت داخلها، وأرجو أن ينجيني الله منها، ولا
306

ينجيك منها، لأنك كذبت به.
قال الشيخ الإمام الأجل أبو المظفر السمعاني: أخبرنا أبو علي الشافعي بمكة، قال: أخبرنا أبو الحسن بن [فراس] قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد المقرئ قال: حدثنا جدي محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان.
وروى قرة عن ابن مسعود أن الناس يردون النار، ويصدر المؤمنون عنها بأعمالهم، فأولهم كلمح البصر، ثم كالريح ثم كحضر الفرس، ثم كشد الرجل، ثم كالماشي.
وعن ابن ميسرة أنه كان يدخل داره فيبكي، فيقال له: ما يبكيك؟ فيقول: الله تعالى أنبأنا أنا نرد النار، ولم ينبئنا أنا صادرون عنها.
وعن الحسن البصري أنه قال: ' حق لابن آدم أن يبكي... وذكر نحوا من هذا '.
والقول الثاني: أن المراد من الآية هم الكفار. هذا قول عكرمة وسعيد بن جبير. وقرئ في الشاذ: ' وإن منهم إلا واردها '. وعلى هذا كثير من أهل العلم، واستدلوا بقوله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم من الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها).
والقول الثالث: أن المراد من الورود هو الحضور والرؤية دون الدخول. وهذا قول الحسن وقتادة، وقد يذكر الورود بمعنى الحضور، قال الله تعالى: * (ولما ورد ماء مدين) أي: حضر. وقال زهير شعرا:
(ولما وردن الماء زرقا جمامه
* تركن عصي الحاضر المتخيم)
307

والقول الرابع، وروي عن ابن مسعود قال: وإن منكم إلا واردها: القيامة. وقد استحسنوا هذا القول لتقدم ذكر القيامة.
والقول الخامس: أن الصراط.
وفي الآية قول سادس: روي عن مجاهد أنه قال: ورود النار هو الحمى في الدنيا.
وفي بعض المسانيد عن النبي أنه عاد رجلا من وعك - أبي: الحمى - به، فقال: ' يقول الله تعالى: هي ناري أسلطها على من شئت من المؤمنين، ليكون حظه من نار جهنم '.
وفي بعض الأخبار: ' الحمى (كي) من جهنم، وهي حظ المؤمن من النار '.
وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء '.
وأولى الأقاويل هو القول الأول، وقد صح عن النبي أنه قال: ' من قدم من الولد لم يلج النار، إلا تحلة القسم '.
وفي بعض الأخبار: ' أنها تستعر على الكفار، وتخمد تحت أقدام المؤمنين '.
روى خالد بن معدان عن النبي أنه قال: ' يدخل الله قوما من المؤمنين الجنة،
308

* (كان على ربك حتما مقضيا (71) ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا (73) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا (74) قل من كان) * * فيقولون: ألم تعدنا ربنا أن ندخل النار؟ فقال لهم: قد وردتموها وهي خامدة '.
وقوله: * (كان على ربك حتما مقضيا) أي: لازما يصيب به.
قوله تعالى: * (ثم ننجي الذين اتقوا) استدل بهذا من قال: إن الورود هو الدخول؛ لأن التنجية إنما تكون بعد الدخول. وقال أيضا: * (ونذر الظالمين فيها جثيا) وهذا دليل على أن الكل قد دخلوها، وأما من قال: إن الورود هو الحضور قال: يجوز أن تذكر التنجية لأجل الإشراف على الهلاك.
قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) معناه: واضحات.
وقوله: * (قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما) أي: مكانا. وقوله: * (وأحسن نديا) قال ثعلب: مجلسا، قال الكسائي: الندي والنادي بمعنى واحد، ومنه دار الندوة؛ لأنهم كانوا يجتمعون فيها.
وسبب نزول الآية: أن المشركين كانوا يقولون لفقراء المؤمنين: نحن أعز مجلسا، وأحسن مكانا، وأكثر مالا؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. والمقام: موضع الإقامة، والمقام: فعل الإقامة. قال الشاعر:
(ومقام حسن فرقته
* بحسامي ولساني وجدل)
(لو يكون الفيل أو فياله
* زل عن مثل مقامي ورحل)
قوله تعالى: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا) وقرئ: ' وريا ' بغير همز، وفي الشاذ: ' وزيا ' بالزاء، حكي هذا عن سعيد بن جبير. أما قوله
309

* (في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا (75) ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا (76) أفرءيت الذي كفر بآياتنا) * * (ورئيا) بالهمز هو المنظرة، وأما بغير الهمز هو من النعمة. وأما الزي هو الهيأة. وعن الحسن البصري قال: [وأحسن رئيا] هو حسن الصورة. وقيل: الري من الارتواء، والمتنعم يظهر فيه ارتواء النعمة، والفقير يظهر عليه ذبول البؤس والفقر.
قوله تعالى: * (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) هذا أمر بمعنى الخبر، ومعناه: أن الله تعالى يتركهم في الكفر، ويمهلهم فيه.
وقوله: * (حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة) العذاب: هو القتل والأسر في الدنيا، والساعة: القيامة. ومعناه: لو نصر عليهم المؤمنون في الدنيا فقتلوا وأسروا، أو جاءتهم الساعة، فأدخلوا النار * (فسيعلمون) عند ذلك * (من هو شر مكانا) أي: منزلا * (وأضعف جندا) أي: ناصرا.
وقوله: * (وأضعف جندا) يرجع إلى الدنيا، وقوله: * (شر مكانا) يرجع إلى الآخرة.
* (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) يعني: يقينا على يقينهم، ورشدا على رشدهم.
وقوله: * (والباقيات الصالحات) قيل: إنها الصلوات الخمس، وقيل: هي الأذكار التي قلناها، وقد بينا.
وقوله: * (خير عند ربك ثوابا) أي: جزاء * (وخير مردا) أي: مرجعا. ونقل الكلبي عن ابن عباس [أن] زيادة الهدى هوالإيمان بالناسخ والمنسوخ.
قوله تعالى: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) سبب نزول الآية ما روى مسروق عن خباب [بن] الأرت قال: ' كنت قينا وحدادا بمكة، فعملت للعاص بن وائل السهمي، فاجتمعت لي عليه دراهم، فجئته أتقاضاه، فقال: لا
310

* (وقال لأوتين مالا وولدا (77) أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا (78) كلا) * * أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا أكفر حتى تموت ثم تبعث. فقال العاص: أو مبعوث أنا؟! فقلت: نعم. قال: فإذا بعثت فيكون لي هناك مال وولد، فأقضيك حقك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه: أخبرنا بهذا المكي بن عبد الرزاق، قال: أخبرنا جدي أبو الليث، قال الفربري، قال: ثنا البخاري، قال: ثنا الحميدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق... الحديث.
وقوله: * (أطلع الغيب) أي: اللوح المحفوظ، وقيل: علم الغيب، فعلم أن له مالا وولدا بعلم الغيب؟.
وقوله: * (أم اتخذ عند الرحمن عهدا) قال سفيان: عملا صالحا، وقال غيره: لا إله إلا الله.
وروى الأسود بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: ' من كان له عندي عهد (فليقم). فقيل: يا أبا عبد الرحمن، وما ذلك العهد؟ فعلمنا، فقال: قال: ' أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عهدا؟ قالوا: وكيف؟ قال: يقول: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، إني أتخذ عندك عهدا في الحياة الدنيا، وإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاحفظ عهدي تؤديه إلي يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد '.
311

* (سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا (79) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا (80) واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا (81) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون) * *
قوله تعالى: * (كلا سنكتب ما يقول) قوله: * (كلا) يعني: ليس الأمر على ما زعم العاص بن وائل، ثم قال: * (سنكتب ما يقول) أي: يأمر الملائكة حتى يكتبوا.
وقوله: * (ونمد له من العذاب مدا) أي: نطيل مدة عذابه.
وقوله: * (ونرثه ما يقول) قرأ ابن مسعود: ' ونرثه ما عنده ' فإن قيل: القول كيف يورث والمعروف * (ونرثه ما يقول)؟! والجواب عنه قال ثعلب: معناه: ونرثه ما زعم أن له مالا وولدا، أي: لا يعطيه، ويعطي غيره، فيكون الإرث راجعا إلى ما تحت القول، لا إلى نفس القول.
ويجوز أن يكون معنى قوله: * (ونرثه ما يقول) أي: ونرثه ما عنده، على ما قرأ ابن مسعود.
وفي الآية قول ثالث: وهو أن معنى قوله: * (ونرثه ما يقول) أي: نحفظ ما يقول حتى يجاز به.
وقوله: * (ويأتينا فردا) أي: فردا لا أنصار له، ولا أعوان، وقيل: هو في معنى قوله: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) الآية وحقيقته: أنه يأتينا ولا مال له ولا ولد.
قوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله آلهة) يعني: آلهة يعبدونها.
وقوله: * (ليكونوا لهم عزا) أي: منعة، ومعنى المنعة: أنهم يمتنعون بها من العذاب.
قوله تعالى: * (كلا) أي: ليس الأمر كما زعموا.
وقوله: * (سيكفرون بعبادتهم) فيه قولان: أحدهما: أن الأصنام والملائكة
312

* (عليهم ضدا (82) ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (83) فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا (84) * * يجحدون عبادتهم، والقول الآخر: أن المشركين ينكرون عبادة الأصنام والملائكة.
فإن قيل: ما عرف في المشركين أحد كان يعبد الملائكة؟ قلنا: ليس كذلك، فإنه كان بطن من العرب يسمون: بني المليح، كانوا يعبدون الملائكة.
وقوله: * (ويكونون عليهم ضدا) أي: بلاء. وقيل: أعداء.
قوله تعالى: * (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) فإن قيل: أتقولون: إن الشياطين مرسلون، والله قال: * (وسلام على المرسلين) فإذا كانوا مرسلين وجب أن يدخلوا في جملتهم؟ والجواب عنه: أنه ليس معنى الإرسال هاهنا هو الإرسال الذي يؤجد في الأنبياء، ولكن معنى الإرسال هاهنا أحد الشيئين: إما التخلية بينهم وبين الكفار، وإما التسليط على الكفار.
وقوله: * (تؤزهم أزا) قال ابن عباس: تزعجهم إزعاجا، كأنه يحركهم ويحثهم ويقول: اقدموا على الكفر. والهز والأز: هو التحريك، وفي الخبر: ' أن النبي كان يصلي، وبجوفه أزيز كأزيز المرجل ' أي: حركة.
قوله تعالى: * (فلا تعجل عليهم) يعني: لا تعجل بطلب عقوبتهم.
وقوله: * (إنما نعد لهم عدا) قال الكلبي: هو عد الأيام. وقال غيره: عد الساعات.
وعن الحسن: عد الأنفاس. وقيل لبعض الصالحين: إنما أيامك أنفاس معدودة، فقال: من صحة العدد أخاف.
وروى الأصمعي عن أبيه أنه قال: رأيت رجلا على باب البصرة أيام الطاعون يعد
313

* (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا (85) ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا (86) لا) * * الموتى، وقدامه كوز، كلما مر عليه بميت، يلقي فيه حصى. فعد في اليوم الأول ثمانين ألفا، وفي اليوم الثاني مائة وعشرين ألفا. قال: فمررنا عليه بجنازة، ثم عدنا، فإذا عند الكوز غيره. قلنا له: أين ذهب الرجل؟ قال: وقع في الكوز.
قوله تعالى: * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) الحشر: جمع الأقوام من كل (صقع) في موضع واحد.
وقوله: * (وفدا) معناه: ركبانا، وعن علي - رضي الله عنه - أنه قرأ هذه الآية، وقال: يؤتون بنوق من نوق الجنة عليها أرحلة من الذهب، ولها أزمة من الزبرجد، فيركبون عليها حتى يقرعوا باب الجنة. وفي بعض الأخبار عن أبي هريرة أن النبي قال: ' يحشر الأنبياء على دواب في الجنة، وأحشر على البراق، ويحشر الحسن والحسين على العضباء والقصواء، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة فيؤذن، فإذا بلغ قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، شهد بها جميع الخلق، قبل ممن قبل، ورد على من رد '.
وقيل: * (وفدا) أي: مكرمين. وفي الآية قول ثالث: وهو ما روي في الأخبار عن النبي: ' أن المؤمن إذا بعث يؤتى بعمله على أحسن صورة، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح طالما ركبتك فاركبني اليوم. وأما الكافر يؤتى بعمله على أقبح صورة، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، قال: طالما ركبتني، وأنا أركبك اليوم '.
وقوله: * (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) أي: مشاة. وقيل: عطاشا.
314

* (يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا (87) وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (90) أن دعوا للرحمن ولدا (91) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا (92)) * *
قوله تعالى: * (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) قال بعض أهل التفسير: هذا راجع إلى الملائكة. وقال بعضهم: هو راجع إلى المؤمنين.
وقوله: * (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) يعني: لا يشفعون إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا، فالعهد هو ' لا إله إلا الله '. ويقال: لا يشفع إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا يعني: لا يشفع إلا مؤمن.
وقوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا) أي: منكرا عظيما، (والإد) والاتخاذ إعداد الشيء لأمر في العاقبة.
قوله تعالى: * (تكاد السماوات يتفطرن منه) الانفطار: الانشقاق، وتكاد أي: تقرب، وفي التفسير: أن الكافرين لما قالوا: اتخذ الله ولدا غضبت السماوات والأرض، وتسعرت جهنم، فطلب الجميع أن ينتقموا من القائلين بهذا القول، فهذا معنى الآية.
وقوله: * (وتنشق الأرض) أي: تخسف بهم، أما الانفطار في السماء فمعناه على هذا: أن [تسقط] عليهم.
وقوله: * (وتخر الجبال هدا) أي: تنكسر انكسارا، ومعناه على ما ذكرنا أي: تنطبق عليهم.
وقوله: * (أن دعوا للرحمن ولدا) أي: حين دعوا للرحمن ولدا.
وقوله: * (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا) قد بينا.
315

* (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (95) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل) * *
وقوله: * (إن كل من في السماوات والأرض) أي: ما كل من في السماوات والأرض.
وقوله: * (إلا آت الرحمن عبدا)
وقد أجمع أهل العلم أن البنوة مع العبودية لا يجتمعان، ومن اشترى ابنه يعتق عليه؛ لأنه لا يصلح أن يكون ابنا وعبدا.
قوله تعالى: * (لقد أحصاهم وعدهم عدا) أي: يعلمهم، وعلم عددهم.
وقوله: * (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) قد بينا.
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) أي: محبة. قال مجاهد: يحبهم الله، ويحببهم إلى المؤمنين. وقيل: يحب بعضهم بعضا. وفي بعض الآثار: أن الله تعالى جعل مع الإيمان المحبة [والشفقة] والألفة '.
وقد ثبت عن النبي برواية أبي هريرة أنه قال: ' إذا أحب الله عبدا ينادي جبريل، فيقول: أنا أحب فلانا فأحبه، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، ثم يوضع له المحبة في الأرض - وفي رواية ' القبول ' - وإذا أبغض عبدا ينادي جبريل فيقول: أنا أبغض فلانا فأبغضه، فينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، ثم يوضع له البغض في الأرض '. خرجه مسلم في الصحيح.
وحكى الضحاك عن ابن عباس: أن الآية نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمراد منه: مودة أهل الإيمان له.
316

* (لهم الرحمن ودا (96) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا (97) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا (98)) * *
وقد روي عن النبي أنه قال لعلي: ' لا يحبك إلا مؤمن تقي، ولا يبغضك إلا منافق شقي '. خرج مسلم في الصحيح.
قوله تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك) يعني: سهلنا القرآن بلسانك.
وقوله: * (لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) اللد جمع الألد، والألد: المخاصم بالباطل. وقال أبو عبيدة: هو الذي لا ينقاد للحق ولا يقبله. وقال الحسن البصري: لدا أي: صما عن الحق. وقيل: الألد هاهنا هو الظالم. قال الشاعر:
(أبيت نجيا للهموم كأنني
* أخاصم أقوما ذوي جدل لدا)
قوله تعالى: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد) معناه: هل ترى منهم من أحد؟.
وقوله: * (أو تسمع لهم ركزا) أي: صوتا. قال أهل اللغة: الركز: الصوت الخفي. قال الحسن: بادوا جميعا، فلم يبق منهم عين ولا أثر.
317

بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة طه
وهي مكية
وفي بعض الغرائب من الأخبار برواية أبي هريرة، أن النبي: قال: ' إن الله تعالى قرأ سورة طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فقالت الملائكة: طوبى لأمة نزلت عليهم هذا، وطوبى لقلوب حملت هذه، وطوبى لألسن تكلمت بهذا '.
قوله تعالى: * (طه) روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلا اقرأ عليه: ' طه ' - بالإمالة - فقال: اقرأ * (طه)، فقال الرجل: أليس معناه طيء الأرض بقدميك؟ فقال: ' هكذا أقرأنيه رسول الله '.
واختلفت الأقاويل في معنى طه، فروي عن ابن عباس أنه قال: هو بالسريانية: يا رجل. ونقل الكلبي: أنه يا إنسان بلغة عك. قال الشاعر:
(إن السفاهة طه من خليقتكم
* لا قدس الله أرواح الملاعين)
وقال آخر:
(هتفت بطه في القتال فلم يجب
* فخفت عليه أن يكون مواليا)
318

* (طه (1) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2) إلا تذكرة لمن يخشى (3) تنزيلا) * *
ويقال: إن طه اسم للسورة، وقيل: إنه قسم أقسم الله به.
ومن المعروف أن معناه: طىء الأرض بقدميك، وهذا منقول عن ابن عباس أيضا، وسببه أن النبي اجتهد في العبادة حتى جعل يراوح بين الرجلين، فيقوم على واحد، ويرفع واحدا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ونقل بعضهم: أنه قام بمفرد قدم.
ومنهم من قال: إن الطاء من الطهارة، والهاء من الهداية، فالطاء: إشارة إلى طهارة قلبه من غير الله، والهاء: إشارة إلى اهتداء قلبه إلى الله.
وقوله: * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) أي: لتتعب وتنصب، وروي أنه لما اجتهد في العبادة، قال المشركون: يا محمد، ما أنزل القرآن إلا لشقاوتك، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعناه: اجتهد، ولا كل هذا التعب حتى تنسب إلى الشقاوة.
وقوله: * (إلا تذكرة لمن يخشى) معناه: لكن تذكرة، أي: تذكيرا ووعظا لمن يخشى، والخشية والخوف بمعنى واحد، وفرق بعضهم بينهما، فقال: الخشية ما لا يعرف سببه، والخوف ما يعرف سببه، وهو ضعيف.
وذكر الأزهري أن تقدير الآية: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ما أنزلنا إلا تذكرة لمن
319

* (ممن خلق الأرض والسماوات العلى (4) الرحمن على العرش استوى (5) له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما) * * يخشى.
وقوله: * (تنزيلا) أي: منزل تنزيلا من الله (الذي) * (خلق الأرض والسماوات العلى) والعلى: جمع العليا.
وقوله: * (الرحمن على العرش استوى) اعلم أن مخارج الاستواء في اللغة كثيرة: وقد يكون بمعنى العلو، وقد يكون بمعنى الاستقرار، وقد يكون بمعنى الاستيلاء - على بعد - وقد يكون بمعنى الإقبال.
والمذهب عند أهل السنة أنه يؤمن به ولا يكيف، وقد [رووا] عن جعفر بن عبد الله، وبشر الخفاف قالا: كنا عند مالك، فأتاه رجل وسأله عن قوله: * (الرحمن على العرش استوى) كيف استوى؟ فأطرق مالك مليا، وعلاه الرحضاء، ثم قال: الكيف غير معقول، والاستواء مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالا، ثم أمر به فأخرج.
ونقل أهل الحديث عن سفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في الآيات المتشابهة: أمروها كما جاءت.
وقال بعضهم: تأويله الإيمان به، وأما تأويل الاستواء بالاستقبال، فهو تأويل المعتزلة.
وذكر الزجاج، والنحاس، وجماعة [من] النحاة من أهل السنة: أنه لا يسمى الاستواء استيلاء في اللغة إلا إذا غلب غيره عليه، وهذا لا يجوز على الله تعالى.
قوله تعالى: * (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما) أي: علم ما في السماوات، وما في الأرض، وما بينهما.
320

* (وما تحت الثرى (6) وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى (7) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى (8)) * *
وقوله: * (وما تحت الثرى) فيه أقوال: أحدها: أن الثرى هي الأرض السابعة، والآخر: أن الثرى هو التراب المبتل، وهذا معروف في اللغة.
وحكى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن الأرضين على ظهر الحوت، والحوت على البحر، والبحر على الصخرة، والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، وما تحت الثرى لا يعلمه إلا الله.
قوله تعالى: * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) معناه: إن جهرت أو أسررت فلا يغيب عن علمه. واختلف الأقوال في قوله: * (وأخفى) فروي عن ابن عباس أنه قال: ' السر ' ما تحدث به غيرك، ' وأخفى ' ما تحدث به نفسك. وفي الآية تقدير، ومعناه: وأخفى منه، أي: من السر.
والقول الثاني: أن ' السر ' ما تحدث به نفسك، ' وأخفى ' ما يلقيه الله تعالى في قلبك من بعد ولم تحدث به نفسك.
والقول الثالث: أن السر هو العزيمة، وأخفى هو دون العزيمة، كأنه ما يخطر على القلب، ولم تعزم عليه.
والقول الرابع: يعلم السر وأخفى، أي: والخفي. قال الشاعر:
(تمنى رجال أن أموت وإن أمت
* فتلك سبيل لست فيها بأوحد)
أي: بالواحد.
والقول الخامس: يعلم السر وأخفى، أي: أخفى سره من عباده، وهذا قول ابن زيد.
قوله تعالى: * (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) قيل: فيه إضمار، ومعناه: فادعوا الله بها. وقال: الحسنى للأسماء هو جمع، والحسنى صفة الواحد، وذلك لأن
321

* (وهل أتاك حديث موسى (9) إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) * * هذه تتناول الأسماء لأنها جمع، كما تتناول الواحدة من المؤنثات، يقال: هذه أسماء؛ فلذلك صح أن يقال: حسنى، ولم يقل: حسان، وهكذا قوله تعالى: * (مآرب أخرى) ولم يقل: آخر.
قوله تعالى: * (وهل أتاك حديث موسى) معناه: وقد أتاك حديث موسى، وهو استفهام بمعنى التقرير.
وقوله: * (إذ رأى نارا) في القصة: أن موسى عليه السلام كان رجلا غيورا، فكان يصحب الرفقة بالليل، ويتنحى عنهم بالنهار؛ لئلا ترى امرأته، فأخطأ مرة الطريق - لما كان في علم الله تعالى - فكان ليلا مظلما، فرأى نارا من بعيد * (فقال لأهله امكثوا) أي: أقيموا.
وقوله: * (إني آنست نارا) أي: أبصرت نارا.
وقوله تعالى: * (لعلي آتيكم منها بقبس) القبس: كل ما في رأسه نار من شعلة أو فتيلة.
وقوله: * (أو أجد على النار هدى) أو أجد عند النار من يهديني، ويدلني على الطريق، فروي أنه لما توجه إلى النار رأى شجرة خضراء، أطافت به النار، والنار كأضوء ما يكون، والشجرة كأخضر ما يكون، فلا ضوء النار يغير خضرة الشجرة، ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار.
ويقال: إن الشجرة كانت شجرة العناب، ويقال: شجرة من عوسج، وقيل: من العليق.
وفي القصة: أن موسى أخذ شيئا من الحشيش اليابس، ودنا من الشجرة، فكان كلما دنا من الشجرة نأت منه النار، وإذا نأى هو دنت النار، فبقي واقفا متحيرا،
322

* (فلما أتاها نودي يا موسى (11) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى (12) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى (13) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم) * * فنودي: يا موسى.
قوله تعالى: * (فلما أتاها نودي يا موسى) قد بينا.
وقوله: * (إني أنا ربك) روي أن موسى لما سمع قوله: * (يا موسى) قال: من الذي يكلمني؟ قال: * (إني أنا ربك).
فإن قيل: بم عرف كلام الله عز وعلا؟ قلنا: سمع كلاما لا يشبه كلام المخلوقين، وروي أنه سمع من جميع جوانبه.
وقوله: * (فاخلع نعليك) اختلف القول أنه لم أمره بخلع نعليه؟ وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: كانتا من جلد حمار ميت، وهذا قول كعب.
والقول الثاني: أنه أمره بخلع نعليه: ليباشر الوادي بقدميه، وهذا قول مجاهد، وقد جرت عادة المسلمين أنهم يخلعون نعالهم إذا بلغوا المسجد الحرام للحج، ويطوفون حفاة.
وقوله: * (إنك بالوادي المقدس) أي: المطهر، قال الشاعر:
(وأنت وصول للأقارب مدرة
* تراءى من الآفات إني مقدس)
أي: مطهر.
وقيل: معنى المقدس، أي: المبارك فيه.
وقوله: * (طوى) عامة المفسرين أنه اسم الوادي، وقيل: طوى أي: قدس مرتين.
قوله تعالى: * (وأنا اخترتك) أي: اصطفيتك.
وقوله: * (فاستمع لما يوحى) أي: لما يوحى إليك.
قوله تعالى: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) أي: لا أحد يستحق العبادة سواي.
323

* (الصلاة لذكري (14) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى (15)) * *
وقوله: * (وأقم الصلاة لذكري) فيه أقوال: أحدها: لتذكرني فيها. والآخر: تذكرني، وهو قوله: الله أكبر. والثالث: أقم الصلاة لذكري أي: صل إذا ذكرت الصلاة، وهذا قول معروف. روى حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس، أن النبي قال: ' من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها؛ فإن ذلك وقتها، وقرأ قوله تعالى: * (وأقم الصلاة لذكري) '.
قال الشيخ الإمام: أخبرنا بهذا الحديث أبو الحسين بن النقور، قال: أخبرنا أبو القاسم بن حبابة، قال: حدثنا ابن بنت منيع، قال: حدثنا هدبة، عن حماد بن سلمة.. الحديث. خرجه مسلم في الصحيح عن هدبة.
قوله تعالى: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) في الآية أقوال، وهي مشكلة.
روي عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب أنهما قرآ: ' أكاد أخفيها من نفسي '. وبعضهم نقل: ' فكيف أظهرها لكم ' فهذا هو أحد الأقوال في معنى الآية.
فإن قال قائل: كيف يستقيم قوله ' أكاد أخفيها من نفسي '؟ قلنا: هذا على عادة العرب، والعرب إذا بالغت في الإخبار عن إخفاء الشيء، قالت: كتمته حتى من نفسي. والقول الثاني: أن قوله: * (أكاد) أي: أريد، ومعناه: إن الساعة آتية أريد أخفيها. وهذا قول الأخفش. والقول الثالث: أن قوله: * (أكاد) صلة، ومعناه: إن الساعة آتية أخفيها. والقول الرابع: إن الساعة آتية أكاد، ومعنى أكاد: تقريب الورود والإتيان، كما قال ضبائي البرجمي:
(هممت ولم أفعل وكدت وليتني
* تركت على عثمان تبكي حلائله)
فقوله: كدت لتقريب الفعل، ثم استأنف قوله: * (أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) أي: تأتيكم بغتة، لتجزى كل نفس بما عملت من خير وشر، هذا اختبار
324

* (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى (16) وما تلك بيمينك يا موسى (17) قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب آخرى (18)) * * ابن الأنباري.
والقول الخامس: * (أكاد أخفيها) أي: أظهرها، وقرئ: ' أخفيها ' بفتح الألف. ومعنى الإظهار في هذه القراءة أظهر في اللغة. قال الشاعر:
(فإن تدفنوا الداء لم نخفه
* وإن تأذنوا بحرب لا نقعد)
ومعنى لا نخفه: لم نظهره.
قوله تعالى: * (فلا يصدنك عنها) أي: فلا يمنعنك عن التصديق بها. * (من لا يؤمن بها) أي: من لا يصدق بها.
وقوله: * (واتبع هواه فتردى) أي: تهلك.
قوله تعالى: * (وما تلك بيمينك يا موسى) هذا سؤال تقرير، وليس بسؤال استفهام، والحكمة فيه تثبيته وتوثيقه على أنها عصا، حتى إذا قلبها الله حية، يعلم أنها معجزة عظيمة. وهذا قول على عادة العرب أيضا؛ يقول الرجل لغيره: هل تعرف هذا؟ وهو لا يشك أنه يعرفه، ويريد به أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه.
قوله تعالى: * (قال هي عصاي أتوكأ عليها) أي: أعتمد عليها.
وقوله: * (وأهش بها على غنمي) أي: أخبط بها (ورق الشجر؛ لترعاه غنمي، وقرأ عكرمة: ' وأهش بها) على غنمي ' بالسين غير المعجمة، والفرق بين الهش والهس؛ أن الهش هو خبط الشجر، وإلقاء الورق عنه، والهس زجر الغنم.
وقوله: * (ولي فيها مآرب أخرى) أي: حاجات أخر، ومن تلك الحاجات؛ قال
325

* (قال ألقها يا موسى (19) فألقاها فإذا هي حية تسعى (20) قال خذها ولا تخف) * * أهل المعاني: كان يقتل بها الحيات، ويحارب بها السباع، ويحمل بها الزاد والنفقة، ويصل الحبل إذا استقى من البئر، ويستظل بها إذا قعد، وعن الضحاك: كانت تضئ له بالليل بمنزلة السراج، وقال وهب: كانت العصا من آس الجنة، وطولها اثنا عشر ذراعا، ولها شعبتان، وعليها محجن. وعن سعيد بن جبير، قال: كان اسم العصا ما شاء. وأنشدوا في الهش:
(أهش بالعصا على أغنامي
* من ناعم الأراك والبشام)
قوله تعالى: * (قال ألقها يا موسى) أي: انبذها.
وقوله: * (فألقاها) أي: نبذها.
وقوله: * (فإذا هي حية تسعى) أي: تجئ وتذهب، وذكر محمد بن إسحاق أن موسى عليه السلام نظر فإذا العصا صارت حية من أعظم ما يكون من الحيات، وصارت شعبتاها شدقين، والمحجن صار عرفا يهتز كالبتارك وعيناها تتقدان كالنار، وهي تمر بالحجر كالجمل البارك فتبتلعه، ولها أنياب تقصف الشجر، فرأى موسى أمرا عظيما فهرب، ثم تذكر أمر ربه، فوقف مستحيا.
قوله تعالى: * (قال خذها ولا تخف) لما هرب موسى، قال الله تعالى له: * (أقبل ولا تخف)، فلما أقبل، قال: * (خذها).
وفي القصة: أنه كان على موسى مدرعة من صوف، قد خللها بعيدان، فلما قال الله له: * (خذها)، لف طرف كم المدرعة على يده، فأمره الله أن يكشف يده، فكشف يده، ووضعها في شدق الحية، فإذا هي عصا كما كانت، وإذا يده في شعبتها.
وذكر بعضهم: أنه لما لف كم المدرعة على يده، قال له ملك: أرأيت لو أذن الله لمن تحذره، أكانت تغني عنك مدرعتك؟ فقال أنا ضعيف، خلقت من ضعف.
326

* (سنعيدها سيرتها الأولى (21) واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (22) لنريك من آياتنا الكبرى (23) اذهب إلى فرعون إنه طغى (
24) قال) * *
وقوله: * (سنعيدها سيرتها الأولى). إلى هيئتها الأولى، وإنما انتصب؛ لأن معناه: إلى هيئتها الأولى، فحذف إلى فانتصب.
قوله تعالى: * (واضمم يدك إلى جناحك). فيه قولان: أحدهما: إلى جنبك، والآخر: إلى عضدك. والجناح هو العضد إلى أصل الإبط، قال الشاعر:
(خفضت لهم مني جناح مودة
* على كتف عطفاه أهل ومرحب)
وقوله: * (تخرج بيضاء من غير سوء) أي: نيرة مشرقة من غير مكروه وعيب، السوء ها هنا بمعنى البرص.
وقال قتادة: كانت اليد لها نور ساطع كضوء الشمس والقمر، تضئ بالليل والنهار.
وقوله: * (آية أخرى) أي: دلالة أخرى.
وقوله: * (لنريك من آياتنا الكبرى). أي: الكبيرة. قال ابن عباس: أكبر الآيتين يده؛ فكان إذا أخرجها من تحت عضده، رأوا لها شعاعا وضياء تحار الأعين فيها، فإذا ردها إلى إبطه، وأخرجها عادت إلى ما كانت.
وقوله: * (اذهب إلى فرعون إنه طغى) أي: جاوز الحد في العصيان والتمرد، ويقال: كان اسمه: وليد بن مصعب، وكان أغنى الفراعنة الذين كانوا بمصر.
قوله تعالى: * (قال رب اشرح لي صدري) أي: وسعه للحق، وكان موسى يخاف من فرعون خوفا شديدا؛ لشدة شوكته، وكثرة جنده، فضاق قلبه لما بعث إلى فرعون من الخوف؛ فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق؛ فيعلم أنه لا يقدر أحد أن يعمل به شيئا إلا بإذن الله، أو يناله بمكروه إلا بمشيئته.
وقوله: * (ويسر لي أمري) أي: سهل علي الأمر الذي بعثتني له.
327

* (رب اشرح لي صدري (25) ويسر لي أمري (26) واحلل عقدة من لساني (27) يفقهوا قولي (28) واجعل لي وزيرا من أهلي (29) هارون أخي (30) اشدد به أزري (31) وأشركه في أمري (32) كي نسبحك كثيرا (33) ونذكرك كثيرا (34) إنك) * *
قوله: * (واحلل عقدة من لساني) قال أهل التفسير: كانت على لسان موسى عقدة من أخذه الجمر، ووضعه إياه في فمه، وسببه أن امرأة فرعون جاءت بموسى إلى فرعون، فوضعته في حجره، فأخذ بلحية فرعون، وفي رواية: لطم وجه فرعون لطمة، فغضب فرعون، وقال: هذا هو عدوي، وأراد أن يقتله، فقالت امرأة فرعون: إنه صبي، لا يعقل ولا يميز، وهو لا يميز بين الجوهر والجمر، فدعي له بطبق من جمر، وطبق من جوهر، فأخذ الجمر، ووضعه في فيه، فاحترق لسانه، وصارت عليه عقدة. وذكر بعضهم: أنه أراد أن يأخذ الجوهر، فصرف جبريل يده إلى الجمر.
وقوله: * (يفقهوا قولي) أي: يفهموا قولي.
* (واجع لي لي وزيرا من أهلي) الوزير من يؤازرك على الشئ، أي: يعينك، ويتحمل عنك بعض ثقله، ووزير الأمير من يتحمل عنه بعض ما عليه.
وقوله: * (هارون أخي) كان هارون أكبر منه بأربع سنين، فكان أفصح منه لسانا، وأجمل منه وجها، وأوسم وأبيض، وكان موسى أدم، أقنى جعدا.
وقوله * (اشدد به أزري) أي: قو به ظهري، ويقال: إنه لم يكن أحد على أخيه أسعد ولأخيه أنفع من موسى لهارون.
وقوله: * (وأشركه في أمري) أي: النبوة وأداء الرسالة.
وقوله: * (كي نسبحك كثيرا) أي: نصلي لك كثيرا.
* (ونذكرك كثيرا) نتعاون على ذكرك.
* (إنك كنت بنا بصيرا) أي: خبيرا عليما.
328

* (كنت بنا بصيرا (35) قال قد أوتيت سؤلك يا موسى (36) ولقد مننا عليك مرة أخرى (37) إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى (38) أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني) * *
قوله تعالى: * (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) أي: أعطيت جميع ما سألت.
وقوله: * (ولقد مننا عليك مرة أخرى) أي: أنعمنا عليك مرة أخرى سوى هذه المرة.
قوله تعالى: * (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) ذكر نعمه وعددها عليه؛ ليعرفها، ويزيد في شكره.
وقوله: * (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) أي: ألهمنا أمك ما يوحى، أي: ما يلهم.
وقوله تعالى: * (أن اقذفيه) أي: ألهمناها أن أقذفيه.
قوله تعالى: * (في التابوت) هو شيء يتخذ من الخشب.
وقوله: * (فاقذفيه في اليم) اليم: هو البحر، ويقال: إن اليم ها هنا هو النيل، والعرب تسمي الماء الكثير بحرا.
روي أن المسلمين لما وصلوا إلى دجلة يوم فتحوا المدائن، فقالوا: كيف نفعل، وهذا البحر بيننا وبينهم؟ ثم إنهم ارتطموا دجلة بخيولهم، وخاضوا القصة إلى آخرها.
وقوله: * (فليلقه اليم بالساحل) في القصة: أن الماء ألقاه إلى مشرعة دار فرعون، وروي أنها ألقته في النيل، وألقاه النيل في البحر، ثم إن البحر ألقاه بالساحل.
وقوله: * (وألقيت عليك محبة مني) قال عكرمة: لم يره أحد إلا أحبه، وقال قتادة: ملاحة في عينيه تأخذ (بالقلوب).
وقوله: * (ولتصنع على عيني) أي: تربى وتغذى على نظر مني، وهو مثل قوله
329

(* (39) إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا) * * تعالى: * (واصنع الفلك بأعيننا) فإن قيل: ما من أحد في العالم إلا وهو يربى ويغدى بمرأى من الله ونظر منه، فأي معنى لتخصيص موسى؟ والجواب: أن الله تعالى فعل في اللطف في تربية موسى ما لم يفعل في تربية غيره، فالتخصيص إشارة إلى ذلك اللطف.
وقوله: * (إذ تمشي أختك) سنذكر هذا في سورة القصص، إن شاء الله تعالى.
وقوله: * (فتقول هل أدلكم على من يكفله) يعني: على امرأة ترضعه، وتضمه إليها.
وقوله: * (فرجعناك إلى أمك) أي: فرددناك.
وقوله: * (إلى أمك كي تقر عينها) قد بينا معنى قرة العين، وهو إشارة إلى فرحها وسرورها بوجوده.
وقوله: * (ولا تحزن) أي: يذهب عنها الحزن.
وقوله: * (وقتلت نفسا) أي: القبطي، وسنذكره من بعد إن شاء الله تعالى.
وقوله: * (فنجيناك من الغم) أي: من القتل، وقيل: من غم التابوت، وغم البحر.
وقوله: * (وفتناك فتونا) أي: ابتليناك مرة بعد مرة، وقيل: بلاء بعد بلاء، ويقال: أخلصناك إخلاصا. من المشهور المعروف أن سعيد بن جبير، سأل عبد الله بن عباس عن قوله: * (وفتناك فتونا) فقال: تغدو على غدا، فلما جاءه من الغد، أخذ معه في قصة موسى من أولها، وجعل يعد عليه شيئا فشيئا من ولادته في سنة قتل الأبناء، ومن إلقائه في الماء، وجعله في التابوت، ووقوعه في يد فرعون، ولطمه وجهه، وأخذه
330

* (فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى (40) واصطنعتك لنفسي (41) اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري (42) اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43)) * * الجمرة، ثم من قتله القبطي، ثم فراره إلى مدين... إلى آخر القصة على ما يرد، وجعل يقول كلما ذكر شيئا من هذا: ذلك (من) الفتون يا ابن جبير، حتى عد عليه الجميع.
وقوله: * (فلبثت سنين في أهل مدين) يعني: تراعي الأغنام.
وقوله: * (ثم جئت على قدر يا موسى) أي: على قدر النبوة والرسالة. قال ابن عباس: ولم يبعث الله نبيا إلا على رأس أربعين سنة، وجاء موسى ربه، وهو ابن أربعين سنة؛ فنبأه الله وأرسله، فهذا معنى قوله: * (ثم جئت على قدر يا موسى). وقيل معناه: جئت على موعد يا موسى، ولم يكن هذا الموعد مع موسى، وإنما كان موعدا في تقدير الله تعالى. ويقال: وافيت في الوقت الذي قدرت أي: توافى فيه، قال الشاعر:
(نال الخلافة إذ كانت له قدرا
* كمثل موسى الذي وافى على قدر)
وقوله: * (واصطنعتك لنفسي) قال الزجاج معناه: اخترتك لأمري، وجعلتك القائم بحجتي، والمخاطب بيني وبين خلقي، كأني الذي أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم، وقال بعضهم معناه: استكفيتك طلب كفاية أمر من خاص أمري، وصنيعة الإنسان خاصته وتربيته إذا أعده لأمر من مهم أمره.
وقوله: * (اذهب أنت وأخوك بآياتي) أي: بدلائلي.
وقوله: * (ولا تنيا في ذكري). أي: ولا تضعفا في ذكري، وقرأ ابن مسعود: ' ولا تهنا في ذكري '.
وقوله: * (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) قد بينا.
قوله تعالى: * (فقولا له قولا لينا). معناه: دارياه [بالرفق]، وارفقا معه، ويقال
331

* (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44) قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن) * * معناه: كنياه. واختلفوا في كنيته: منهم من قال: كنيته أبو الوليد، ومنهم من قال: أبو مرة ومنهم من قال: أبو العباس، والله أعلم.
وقوله: * (لعله يتذكر أو يخشى). أي: يتعظ ويخاف. فإن قيل قوله * (لعله) تطميع، فكيف يطمعهما في إسلامه، وقد قدر أنه لا يسلم؟ قلنا معناه: اذهبا على رجائكما وطمعكما، وقضاء الله وراء أمركما، وقال بعضهم: قد تذكر وخاف، إلا أنه حين لم تنفعه التذكرة والخوف، وقد بينا في سورة يونس.
وفي قوله: * (فقولا له قولا لينا) كلمات معروفة؛ قال بعضهم: هذا رفقك بمن يقول: أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول: أنت الإله، وهذا رفقك بالكفار، فكيف رفقك بالأبرار؟ وهذا رفقك بمن جحدك، فكيف رفقك بمن وحدك. وهذه تحببك إلى من تعاديه، فكيف إلى من تواليه وتناديه؟.
قوله تعالى: * (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) يعني: أن يبادر ويعجل بعقوبتنا قبل أن نريه الآيات. وحكي عن سعيد بن جبير أنه قال: كان موسى يخاف من فرعون خوفا شديدا، وكان إذا دخل عليه، يقول: اللهم إني أعوذ بك من شره، وأدرأك في نحره، فحول الله تعالى ذلك الخوف إلى فرعون؛ فكان إذا رأى موسى بال في ثيابه كما يبول الحمار.
وفي بعض المسانيد برواية ابن مسعود، عن النبي أنه قال: ' إذا دخل أحدكم على سلطان يخاف تغطرسه، فليقل: اللهم إني أعوذ بك من شره، وشر أحزابه؛ أن يفرط أحد منهم علي أو يطغى، عز جارك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك '.
332

* (يطغى (45) قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى (46) فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى (47) إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى (48) قال فمن ربكما) * *
وقوله تعالى: * (قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) أي: أسمع دعاءكما فأجيب، وأرى أمركما مع فرعون فأدفعه عنكما.
قوله تعالى: * (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل) أي: خلهم، وأطلقهم من أعمالك، وقد بينا أنه كان يكلفهم الأعمال الشاقة، وقد ضرب عليهم الضرائب.
وقوله: * (ولا تعذبهم) قد بينا.
وقوله: * (قد جئناك بآية من ربك) بدلالة من ربك.
وقوله: * (والسلام على من اتبع الهدى). ليس المراد منه تحية فرعون، وإنما المراد منه أن من اتبع الهدى فقد سلم من عذاب الله، ومنهم من قال: معناه: (من) أسلم سلم.
وفي بعض الآثار عن السدي: أن موسى عليه السلام قال لفرعون: ' آمن بالله، ولك شباب لا تهرم فيه، وملك لا ينزع منك، ولذة في المطعم والمشرب والمنكح إلى أن تموت، ثم إذا مت دخلت الجنة، فأعجبه هذا الكلام، وكان لا يقطع أمرا دون هامان، فقال: حتى أنظر في ذلك؛ فلما دخل عليه هامان، قال له: ألم تر أن هذا الرجل الذي أتانا قال كذا وكذا، وكان قبل ذلك يسميه الساحر، فلم يسمه الساحر في ذلك اليوم، فقال له هامان: كنت أظن أن لك رأيا وعقلا! تريد أن تصير مربوبا بعد أن كنت ربا، وعبدا بعد أن كنت معبودا، فغلبه عن رأيه، فأبى على موسى ما أراد منه.
قوله تعالى: * (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى). أي: كذب بآيات الله، وتولى عن طاعة الله.
333

* (يا موسى (49) قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50) قال فما بال القرون الأولى (51) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى (52) الذي) * *
قوله تعالى: * (قال فمن ربكما يا موسى) ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: * (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) قال الحسن: أعطى كل شيء ما يصلحه، ثم هداه إليه. وقال مجاهد: معناه أعطى كل شيء صورة، ثم هداه إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح.
وفيه قول ثالث: وهو أنه أعطى كل حيوان زوجه، ثم هداه إلى مأتاه، وكل ذكر يهتدي كيف يأتي الأنثى. وروي عن أبس سابط أنه قال: أبهمت البهائم إلا عن أربع: تعرف خالقها، وتطلب رزقها، وتدفع عن نفسها، وتعرف كيف يأتي (أنثاه).
قوله تعالى: * (قال فما بال القرون الأولى) معناه: فما حال القرون الأولى، وأراد به ما حالهم فيما دعوتني إليه؟
وقيل: لما دعاه موسى إلى الإقرار بالبعث سأل وقال: ما حال القرون الأولى في البعث؟ ويقال: إنه انصرف إلى هذا الكلام تعنتا، وعدولا عن الجواب.
قوله تعالى: * (قال علمها عند ربي) أي: علم القرون الأولى عند ربي.
[قوله: * (في كتاب) قال الكلبي: هو اللوح المحفوظ].
وقوله: * (لا يضل ربي) أي: لا يخطئ ربي، وقال ثعلب: لا يذهب عليه موضعه، وقيل: لا يغيب عن ربي، وقرأ الحسن: ' لا يضل ربي ' برفع الياء، من الإضلال، ويقال: لا يضل ربي: لا يغفل عنه ربي.
وقوله: * (ولا ينسى) أي: لا يتركه، فينتقم من الكافر، ويجازي المؤمن، ويقال:
334

* (جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى (53) كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى (54) منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجم تارة أخرى (55) ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى (56) قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى (57)). * * هو النسيان حقيقة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: ' ولا ينسى ' على ما لم يسم فاعله.
قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض مهادا) وقرئ: ' مهدا ' إلى هذا الموضع انتهى كلام فرعون مع موسى وجوابه إياه. وقوله: * (الذي جعل لكم الأرض مهدا) ابتداء كلام من الله ومعناه: مستقرا.
وقوله: * (وسلك لكم فيها سبلا) أي: سهل ووطأ لكم فيها طرقا.
وقوله: * (وأنزل من السماء ماء) أي: المطر.
وقوله: * (فأخرجنا به أزواجا) أي: أصنافا: الأحمر، والأصفر، والأخضر.
وقوله: * (من نبات شتى) أي: من نبات متفرقة.
وقوله: * (كلوا وارعوا أنعامكم) أي: كلوا، وأسيموا أنعامكم ترعى.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات لأولي النهى) قال ثعلب: لأولي العقول، وقيل: للذين ينتهي إلى رأيهم، وقيل: للذين يتناهون عن المعاصي وينزجرون عنها بعقولهم.
قوله تعالى: * (منها خلقناكم) أي: من الأرض.
وقوله: * (وفيها نعيدكم) أي: عند الموت.
وقوله: * (ومنها نخرجكم تارة أخرى) أي: عند الحشر. فإن قيل: في الابتداء لم نخرج عن الأرض، فكيف قال: * (تارة أخرى)؟. قلنا معناه: ومنها نخلقكم تارة أخرى، فيصح المعنى على هذا.
قوله تعالى: * (ولقد أريناه آياتنا كلها) هي الآيات التسع التي أعطيها موسى عليه السلام.
وقوله: * (فكذب وأبى) أي: كذب بالتوحيد، وأبى عن الإيمان.
قوله تعالى: * (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) معناه: لتأخذ رمنا أرضنا؛ فيكون لك الملك والسلطان، وتخرج من تشاء، وتدخل من تشاء.
335

* (فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى (58) قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى (59) فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى (60) قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) * *
قوله: * (فلنأتينك بسحر مثله) يعني: مثل سحرك.
وقوله: * (فاجعل بيننا وبينك موعدا) أي: موعدا للاجتماع.
وقوله: * (لا نخلفه نحن ولا أنت) أي: لا نتخلف نحن ولا أنت.
وقوله: * (مكانا سوى) قرىء بالرفع، وقرئ بالكسر. ومعناه: مكانا عدلا، وقيل: منصفا ويقال: في مكان مستوى لا يغيب عن أحد فيها ما يفعل بعضنا ببعض.
قال ابن فارس: وهذا قول الحسن، ويقال: مكانا سوى أي: يستوي في المسافة إليه.
قوله تعالى: * (قال موعدكم يوم الزينة) قال ابن عباس: يوم الزينة يوم عيد لهم؛ كانوا يجتمعون له، ويقال: يوم الفيروز. وعن عطاء: أنه كره الزينة للأعياد؛ قال: هو من عمل الكفار.
وقوله: * (وأن يحشر الناس ضحى) أي: في صدر النهار، وقد جرت العادة أن الأعياد تكون في أول النهار، وكذلك اجتماع الناس في الأمور أكثر ما يكون في أول النهار.
وقوله تعالى: * (فتولى فرعون) معناه: فأعرض، وقيل: ولى الأمر فرعون.
وقوله: * (فجمع كيده) أي: مكره وحيلته.
وقوله: * (ثم أتى) أي: ثم أتى بالموعد.
قوله تعالى: * (قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا) قال الضحاك، عن ابن عباس: جمع فرعون سبعين ألفا من السحرة، وذكر مقاتل: حمس عشرة ألفا، وذكر بعضهم: نيفا وسبعين رجلا، وهو قول معروف.
336

* (وقد خاب من افترى (61) فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى (62) قالوا إن) * *
وقوله: * (ويلكم لا تفتروا علي كذبا) أي: لا تختلقوا على الله كذبا، معناه: لا تكذبوا على الله.
وقوله: * (فيسحتكم بعذاب) بنصب الياء، وقرئ: ' فيسحتكم ' برفع الياء، ومعناه: الاستئصال أي: يستأصلكم بالعذاب، قال الفرزدق شعرا:
(وعض زمان يا بن مروان لم يدع
* من المال إلا مسحتا أو مجلف)
وفرق بعضهم بين الرفع والفتح؛ فقال: هو بالنصب أن لا يبقى شيء، وبالرفع أن يبقى بقية، والأصح أن لا فرق. وقيل: فيسحتكم، أي: (شهد) لكم.
وقوله: * (وقد خاب من افترى) أي: خسر وهلك من افترى.
قوله تعالى: * (فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) قال قتادة: هذا ينصرف إلى السحرة، وإسرارهم النجوى أنهم قالوا: إن كان ما يأتي به موسى سحرا، فسنغلبه، وإن غلبنا فله أمر، وروي أنهم قالوا: إن غلبنا اتبعناه.
قوله تعالى: * (قالوا إن هذان لساحران) اعلم أن هذه الآية مشكلة في العربية، وفيها ثلاث قراءات:
قرأ أبو عمرو: ' إن هذين لساحران '، وقرأ حفص: ' إن هذان لساحران '، وقرأ الباقون: ' إن هذان لساحران '.
أما قراءة أبي عمرو: فهي المستقيمة على ظاهر العربية، وزعم أبو عمرو أن ' هذان ' غلط من الكاتب في المصحف.
337

وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: أرى في المصحف لحنا، (تستقيمه) العرب بألسنتها. ومثله عن عائشة - رضي الله عنها -.
وأما قراءة حفص: فهي مستقيمة أيضا على العربية؛ لأن إن مخففة يكون ما بعدها مرفوعا، ومعناه: ما هذان إلا ساحران.
وأما قراءة الأكثرين - وهو الأصح - قال الزجاج: لا نرضى قراءة أبي عمرو في هذه الآية؛ لأنها خلاف المصحف، وأما وجه قوله: * (إن هذان) فله وجوه في العربية: أما القدماء من النحويين فإنهم قالوا: ' هو على تقدير: إنه هذان، فحذف الهاء، ومثله كثير في العربية، والوجه الثاني: أن هذا لغة كنانة وخثعم (وزبيد)، وقال الكسائي: لغة بلحارث بن كعب من كنانة، وأنشد الكسائي شعرا:
(تزود مني بين أذناه ضربة
* دعته إلى هذه التراب عقيم)
وأنشد غيره:
(إن أباها وأبا أباها قد
* بلغا في المجد غايتاها)
وأنشدوا أيضا:
(أي قلوص راكب تراها
* طاروا علاهن فطر علاها)
أي: عليهن.
قال الكسائي: على هذه اللغة يقولون: أتاني الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، ولا يتركون ألف التثنية في شيء منها.
وأما الوجه الثالث، هو أصح الوجوه، فإن القرآن لا يحمل على اللغة البعيدة؛ وهو أن معنى قوله: * (إن هذان) أي: نعم هذان، قال الشاعر:
(بكر العواذل في الصباح
* يلمنني وألومهن)
(ويقلن شيب قد علاك
* وقد كبرت فقلت إنه)
338

* (هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63) فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا) * *
أي: نعم
وروي أن أعرابيا أتى عبد الله بن الزبير يطمع شيئا، فلم (يحصل) له طمعه، فقال الأعرابي: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إن، وصاحبها، أي: نعم. وفي قراءة أبي بن كعب: ' إن ذاك إلا ساحران '، وهي شاذة.
وقوله: * (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما) قد بينا.
وقوله: * (ويذهبا بطريقتكم المثلى) أي: بالطريقة المستقيمة التي أنتم عليها، وكانوا يظنون أنهم على دين مستقيم، والمثلي تأنيث الأمثل. وأما ابن عباس قال: بطريقتكم المثلى أي: الرجال الأشراف.
وقال قتادة: أراد به بني إسرائيل، وكانوا أهل يسار (وعزة).
فقالوا: يريدان أن يذهبا بهؤلاء. والعرب تقول: هؤلاء طريقة القوم أي: أشرافهم.
ومنهم من قال: معناه أهل طريقتكم المثلى.
وقوله: * (فأجمعوا كيدكم) وقرئ بالوصل: ' فاجمعوا '. أما قوله: * (فأجمعوا) بالقطع فمعناه: العزيمة والإحكام. قال الأزهري: تقديره: اعزموا كلكم على كيده مجتمعين له، ولا تختلفوا فيختل أمركم. وأما قوله: ' فاجمعوا ' بالوصل، معناه: جيئوا بكل كيد لكم؛ لتعارضوا موسى.
وقوله: * (ثم ائتوا صفا) قال أبو عبيدة: مصطفين، وقال غيره: الصف هو
339

* (وقد أفلح اليوم من استعلى (64) قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66) فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) * * [المصلى]، ومعناه: ثم ائتوا المكان الموعود.
وقوله: * (وقد أفلح اليوم من استعلى) أي: سعد وفاز من كانت له الغلبة في اليوم.
قوله تعالى: * (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى) معناه: اختر، إما أن تلقي أنت أولا، أو نلقي نحن أولا.
قوله تعالى: * (قال بل ألقوا) يعني: ابتدءوا أنتم بالإلقاء. فإن قال قائل: إلقاؤهم كان كفرا وسحرا، فهل يجوز أن يأمرهم موسى بالإلقاء الذي هو سحر وكفر؟ الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن هذا أمر بمعنى الخبر، ومعناه: إن كان إلقاؤكم عندكم حجة فألقوا، والثاني: أنه أمرهم بالإلقاء على قصد إبطال سحرهم بما يلقى من عصاه، وهذا جائز.
وقوله: * (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) وقرئ بالياء والتاء ' تخيل '، فمن قرأ بالتاء، فهو راجع إلى العصي والحبال، فأنثت لأنها جمع،
وأما بالياء فينصرف إلى الإلقاء. وفي القصة: أنهم لما ألقوا الحبال والعصي رأى موسى والقوم كأن الأرض امتلأت حيات، وهي تسعى أي: تذهب وتجيء. واعلم أن التخايل ما لا أصل له. ويقال: إنهم أخذوا بأعين الناس، فظنوا وحسبوا أنها حيات، وقيل: إن حبالهم وعصيهم أخذت ميلا من هذا الجانب، وميلا من ذلك الجانب.
قوله تعالى: * (فأوجس في نفسه خيفة موسى) أي: وجد في نفسه خيفة، واختلفوا في هذا الخوف على قولين:
340

* (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى (68) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69) فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب) * *
أحدهما: أنه خوف البشرية، والآخر: خاف على القوم أن يلتبس عليهم الأمر، فلا يؤمنوا، ويقال: خاف على قومه أن يشكوا، فيرجعوا عن الإيمان.
قوله تعالى: * (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى) أي: الغلبة والظفر لك.
قوله تعالى: * (وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا) أي: تلتقم وتبتلع.
وفي القصة: أنها فتحت فاها، فابتلعت كل ما كان يمر من العصي والحبال، وفرعون يضحك ويظن أنه سحر، ثم قصدت قبة فرعون، وكان طولها في الهواء [أربعين] ذراعا، ففتحت فاها على قدر ثمانين ذراعا، وأرادت أن تلتقم القبة، فنادى فرعون: يا موسى، بحق التربية، قال: فجاء فأخذها، فعادت عصا على ما كانت.
وقوله: * (إنما صنعوا كيد ساحر) قرىء ' ساحر '، وقرئ ' سحر '، فقوله: * (كيد ساحر) أي: حيلة ساحر.
وقوله: * (كيد سحر) أي: حيلة من سحر.
وقوله: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) في التفسير أن معناه: أين وجد قتل.
وفي بعض المسانيد عن جندب بن عبد الله، أن النبي قال: ' إذا أخذتم الساحر فاقتلوه، وقرأ قوله تعالى: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) '.
قوله تعالى: * (فألقي السحرة سجدا) قد بينا من قبل.
وقوله: * (قالوا آمنا برب هارون وموسى) أي: بإله هارون وموسى، وقدم هارون على موسى على وفق رؤوس الآي.
341

* (هارون وموسى (70) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (71) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت) * *
قوله تعالى: * (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم) ظاهر المعنى.
وقوله: * (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) أي: معلمكم الذي علمكم السحر. وحكى الكسائي أن العرب تقول: رجعت من عند كبيري أي: معلمي.
وقوله: * (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) ظاهر المعنى.
وقوله: * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) معناه: على جذوع النخل، وذكر كلمة في؛ لأن المصلوب يصلب مستطيلا على الجذع؛ فالجذع يشتمل عليه.
وقوله: * (ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) أي: أنا أقوى أو رب موسى؟ وذكر الكلبي: أن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وذكر غيره: أنه لم يقدر عليهم، واستدل بقوله تعالى: * (لا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون).
قوله تعالى: * (قالوا لن نؤثرك) أي: لن نختارك. * (على ما جاءنا من البينات) أي: الدلالات؛ وكان استدلالهم أنهم قالوا: إن كان هذا سحر، فأين حبالنا وعصينا؟ وقيل: من البينات أي: اليقين والعلم.
وقوله: * (والذي فطرنا). فيه قولان: أحدهما: (وقوله) ولن نؤثرك على الذي فطرنا، والآخر: أنه قسم.
وقوله: * (فاقض ما أنت قاض) أي: فاصنع ما أنت صانع.
وقوله: * (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي: أمرك وسلطانك في هذه الحياة الدنيا، وسيزول عن قريب.
342

* (قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا (72) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73) إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها) * *
وقوله: * (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) أي: ذنوبنا.
وقوله: * (وما أكرهتنا عليه من السحر) فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد جاءوا مختارين، وحلفوا بعزة فرعون أن لهم الغلبة على ما ذكر في موضع آخر؟ والجواب عنه: أنه روي عن الحسن البصري أنه قال: كان فرعون يجبر قوما على تعلم السحر؛ لكيلا يذهب أصله، وكان قد أكرههم في الابتداء على تعلمه، فأرادوا بذلك.
وقوله: * (والله خير وأبقى) قال محمد بن كعب معناه: والله خير ثوابا إن أطيع، وأبقى عقابا إن عصي. يقال: إن أمر السلطان إكراه؛ فلهذا قالوا: وما أكرهتنا عليه من السحر، لما سجدوا أراهم الله تعالى مواضعهم في الجنة، وما أعد لهم من الثواب والكرامة، فلما رفعوا رؤوسهم وقد [رأوا] قالوا ما قالوا.
وعن عكرمة: أصبحوا وهم سحرة، وأمسوا وهم شهداء.
وروي أن الحسن كان إذا بلغ إلى هذه الآية قال: عجبا لقوم كافرين سحرة من أشد الناس كفرا، رسخ الإيمان في قلوبهم حين قالوا ما قالوا، ولم يبالوا بعذاب فرعون، وترى الرجل من هؤلاء يصحب الإيمان ستين سنة، ثم يبيعه بثمن يسير.
وفي القصة: أن امرأة فرعون كانت تستخبر في ذلك اليوم لمن الغلبة، فلما أخبرت أن الغلبة كانت لموسى، أظهرت الإيمان لله، فذكر ذلك لفرعون، فبعث قوما، وقال: انظروا إلى أعظم صخرة، فإن أصرت على قولها، فألقوا عليها الصخرة، فأراها الله تعالى موضعها من الجنة، وقبض روحها، فجاءوا وألقوا الصخرة على جسد ميت.
قوله تعالى: * (إنه من يأت ربه مجرما) قال بعضهم: هذا من قول السحرة، وقال بعضهم: هو ابتداء كلام من الله تعالى. قوله: * (مجرما) أي: مشركا.
وقوله: * (فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) أي: لا يحيا حياة ينتفع بها،
343

* (ولا يحيى (74) ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى (75) جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى (76) ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا) * * ولا يموت فيستريح، ويقال: إن أرواحهم تكون معلقة بحناجرهم، لا تخرج فيموتون، ولا تستقر في موضعها فيحيون، قال الشاعر:
(ألا من لنفس تموت فينقضي
* شقاها ولا تحيا حياة لها طعم)
قوله تعالى: * (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات) أي: أدى الفرائض. قال الحسن: من أدى الفراض فقد استكمل الإيمان، ومن لم يؤد الفرائض فلم يستكمل الإيمان.
وقوله: * (فأولئك لهم الدرجات العلى) جمع العليا، والعليا تأنيث الأعلى.
قوله تعالى: * (جنات عدن) قد بينا هذا من قبل، وفي بعض التفاسير عن عمر - رضي الله عنه - قال: جنة عدن قصر له عشرة آلاف باب، لا يعلم سعتها إلا الله ويقال: نهر في الجنة على حافتيه قصور الجنان.
وقوله: * (تجري من تحتها الأنهار) قد بينا.
وقوله: * (خالدين فيها) أي: مقيمين فيها.
وقوله: * (وذلك جزاء من تزكى) أي: تطهير من الذنوب، وقيل: جزاء من قال: لا إله إلا الله.
قوله تعالى: * (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) أي: سر بهم ليلا.
وقوله: * (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) أي: ذا يبس، وقيل: يابسا، أي: لا ندوة فيه، ولا بلل.
344

* (تخاف دركا ولا تخشى (77) فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم (78) وأضل فرعون قومه وما هدى (79) يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى (80) كلوا) * *
وقوله تعالى: * (لا تخاف دركا ولا تخشى) روي أنهم لما بلغوا البحر قالوا: يا موسى، هذا البحر أمامنا، وفرعون وجنده وراءنا، فقال الله تعالى: * (لا تخاف دركا ولا تخشى). أي: لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك، ولا تخشى أن يغرقك البحر أمامك، وقرأ حمزة: ' ولا تخف ' على الأمر.
قوله تعالى: * (فأتبعهم فرعون بجنوده) قرىء: ' فأتبعهم '، وقرئ: ' فاتبعهم ' أما قوله: * (فأتبعهم) أي: بعث في إثرهم جنوده.
وقوله: * (فاتبعهم) أي: اتبعهم بجنده.
وقوله: * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) معناه: غشيهم من البحر ما غرقهم، ويقال: غشيهم من اليم ما غشي قوم موسى فنجا قوم موسى، وغرقوا هم، ويقال: غشيهم من اليم ما أهلكهم.
وقوله: * (وأضل فرعون قومه وما هدى) أي: وما أرشد، وهو جواب لقول فرعون: * (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
وقوله تعالى: * (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) أي: من أعدائكم، ويقال: أراد به فرعون وحده.
وقوله: * (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) في التفسير: أن الله تعالى وعد موسى أن يؤتيه كتابا من عنده، وهو التوراة، فهو معنى قوله تعالى: * (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) أي: لإعطاء الكتاب.
وقوله: * (ونزلنا عليكم المن والسلوى) قد بيناه في سورة البقرة. وقوله: * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي: من حلال ما رزقناكم.
345

* (من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى (81) وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (82) وما أعجلك عن قومك يا موسى (83) قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب) * * وقوله: * (ولا تطغوا فيه). أي: لا تكفروا النعمة، ويقال: لا تخلطوا الحرام بالحلال، وعن ابن عباس: لا تدخروا ثم لا تدخروا فتدود، ولولا ما صاموا لم يتود طعام.
وقوله: * (فيحل عليكم غضبي) قرىء بالكسر والرفع، أما بالكسر فيجب، وأما بالرفع فينزل.
وقوله: * (ومن يحلل عليه غضبي) أي: ينزل عليه، وقرئ: ' ومن يحلل ' أي: يجب.
وقوله: * (فقد هوى) أي: هلك، وعن شفي بن ماتع الأصبحي قال: هوى واد في جهنم يهوي فيه أربعين خريفا، ومعنى الآية أي: وقع فيه.
قوله تعالى: * (وإني لغفار لمن تاب) أي: من الشرك. * (وآمن) أي: آمن بالله.
وقوله: * (وعمل صالحا) أي: أدى الفرائض.
وقوله: * (ثم اهتدى) فيه أقوال: قال ابن عباس: لم يشك في إيمانه وعن قتادة قال: مات على الإيمان. وعن سعيد بن جبير: لزم السنة والجماعة. وقال بعضهم: أخلص، وقال بعضهم: عمل (بعمله) وعن ثابت البناني قال: تولى أهل البيت.
قوله تعالى: * (وما أعجلك عن قومك يا موسى) في القصة: أنه لما جاء مع السبعين الميعاد تعجل بنفسه، وخلف السبعين وراءه، فقال الله تعالى له: * (وما أعجلك عن قومك يا موسى) أي شيء حملك على العجلة؟
وقوله: * (قال هم أولاء على أثري) أي: يأتوني خلفي.
وقوله: * (وعجلت إليك رب لترضى) أي: لتزداد رضا، وعن بعض السلف: أنه
346

* (لترضى (84) قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري (85) فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي (86) قالوا ما) * * تعجل شوقا.
قوله تعالى: * (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك) أي: أوقعناهم في الفتنة.
قوله: * (وأضلهم السامري) أي: ضلوا بسببه، وقد بينا طرفا من هذه القصة في سورة الأعراف. وحكي عن وهب بإسناده عن راشد بن سعد أن الله تعالى لما قال له هذا القول قال: يا رب، من صاغ العجل؟ قال: السامري، قال: فمن أحياه وأظهر منه الخوار؟ قال: أنا، قال: فأنت أضللتهم يا رب، فقال الله تعالى له: يا (رأس) النبيين، أنا رأيت ذلك في قلوبهم فسهلته عليهم.
وقوله: * (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) أي: شديد الحزن لما أصاب قومه من الفتنة.
قوله تعالى: * (قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) معناه: ما وعد من إنزال الكتاب، ومن التنجية من فرعون وقومه، وغير هذا مما وعد وحقق.
وقوله: * (أفطال عليكم العهد) كان موسى وعد أن يعود بعد أربعين يوما، فلما مضت عشرون يوما، عدوا النهار عشرين، والليل عشرين، وقالوا قد مضى الوعد.
وقوله: * (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم). أي: أردتم أن تفعلوا فعلا يجب عليكم الغضب من ربكم.
وقوله: * (فأخلفتم موعدي) (أو) وعدي.
347

* (أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى) * *
قوله تعالى: * (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا).
قرىء: ' بملكنا '، وقرئ: ' بملكنا '؛ فقوله: ' بملكنا ' أي: بطاقتنا، وقوله: ' بملكنا ' أي: بسلطاننا. وكذلك ' بملكنا ' بفتح الميم. وأحسن ما قيل في هذا هو أن المرء إذا وقع في البلية والفتنة لم يملك نفسه. وقد ثبت عن النبي في بعض دعواته: ' اللهم إذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون '.
وقوله: * (ولكنا (حملنا)) وقرئ: ' حملنا '. في القصة: أنهم استعاروا حلي نساء القبط، ثم لم يردوا حتى خرجوا إلى جانب البحر، فهو معنى قوله: * (حملنا أوزارا من زينة القوم). أي: من حلي القوم، والأوزار: الأثقال، وسمى الحلي أوزارا، لأنهم كانوا أخذوها على وجه العارية، ولم يردوها، فكانت بجهة الخيانة.
ويقال: إن الله تعالى لما أغرقهم نبذ البحر حليهم، فأخذها، ولم تكن الغنيمة حلالا لهم في ذلك الزمان، فسماها أوزارا لهذا المعنى، وقال الشاعر في الأوزار:
(وأعددت للحرب أوزارها
* رماحا طوالا وخيلا ذكورا)
وقوله تعالى: * (فقذفناها) (روي أن) هارون - عليه السلام - أمر أن يحفر حفرة، ثم أمرهم أن يلقوا تلك الحلي فيها، وأضرم عليها نارا، وفي قول آخر: أن السامري أمرهم بذلك، فهو معنى قوله: * (فقذفناها).
وقوله: * (فكذلك ألقى السامري) يعني: ألقى السامري أيضا ما عنده من الحلي.
348

* (السامري (87) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي (88) أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا (89)) * *
وقوله: * (فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار) في القصة: أن النار لما أخلصت الذهب والفضة جاء السامري، وألقى فيه قبضة من التراب، أخذها من تحت حافر فرس جبريل - عليه السلام - وقال: كوني عجلا له خوار، فصار عجلا يخور.
وقوله: * (جسدا) قيل: جسدا لا رأس له، وقيل: جسدا لا يضر ولا ينفع، وقال الخليل: العرب تسمي كل ما لا يأكل ولا يشرب جسدا، وكان العجل لا يأكل ولا يشرب ويصيح، والقول الأول أضعف الأقوال، واختلفوا في الخوار: فالأكثرون أنه صوت عجل حي، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة وجماعة، وقال مجاهد: هو صوت حفيف الريح، كانت تدخل في جوفه وتخرج، وهو قول ضعيف.
وقوله: * (فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي) فيه قولان: أحدهما: أن هذا إلهكم وإله موسى، تركه موسى هاهنا، وذهب يطلبه.
والثاني: معناه: فنسي السامري الإيمان بالله، أي: ترك. وقيل: فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا هو الإله.
وقوله: * (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا) في بعض التفاسير: أن العجل خار خوارا واحدا، ولم يعد، فهو معنى قوله: * (ألا يرجع إليهم قولا) وقال بعضهم: لا يجيبهم إذا دعوه.
وقوله: * (ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) ظاهر المعنى.
فإن قيل: السامري كان كافرا، وهذا الذي ظهر على يده معجزة، فكيف يجوز أن تظهر المعجزة على يد كافر؟ والجواب: أن ذلك كان لفتنة بني إسرائيل وابتلائهم.
وعند أهل السنة هذا جائز، ولا نقول: هو معجزة، ولكنه محنة وفتنة.
وفي بعض الآثار: أن هارون مر على السامري، وهو يصوغ العجل، فقال له:
349

* (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري (90) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (91) قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) ألا تتبعن أفعصيت أمري (93) قال يا) * * ما هذا؟ فقال: هو [شي] ينفع ولا يضر فادع لي. فقال هارون: اللهم أعطه على ما في نفسه، فألقى التراب في فم العجل، وقال: كن عجلا يخور، فكان كذلك بدعوة هارون.
وقد قال أهل العلم: إنه ليس من عجل من ذهب يخور بشبهة تقع في أنه إله ومعبود.
قوله تعالى: * (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به) أي: ابتليتم به.
* (وإن ربكم الرحمن) أي: معبودكم الرحمن، لا ما اتخذتموه معبودا.
وقوله: * (فاتبعوني) أي: اتبعوني في عبادة الله. * (وأطيعوا أمري) في ترك عبادة العجل.
قوله تعالى: * (قالوا لن نبرح عليه عاكفين) أي: لن نزل مقيمين على عبادته * (حتى يرجع إلينا موسى).
قوله تعالى: * (قال يا هارون) فيه تقدير، وهو أن موسى رجع، وقال: يا هارون.
وقوله: * (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن) لا زائدة، ومعناه: أن تتبعني.
وقوله: * (أفعصيت أمري) أي: خالفت أمري. فإن قال قائل: هل تقولون إن هارون خالف موسى فيما طلب منه، وأنه داهن عبدة العجل، ولم يشدد في منعهم عنها؟ والجواب: أن موسى لم يطلب من هارون إلا أن يخلفه في قومه، وأن يرفق بهم، فرأى هارون أن لا يقاتلهم، وأن الإمساك عن قتالهم أصلح، ورأى موسى أن يقاتلهم، ورأى أن القتال أصلح، فهذا رأي مجتهد خالف رأي مجتهد، ولا عيب فيه، وإنما
350

* (بنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بين إسرائيل ولم ترقب قولي (94)) * * عاتبه موسى في تركه القتال، يعني: لو كنت أنا مكانك كنت أقاتلهم، فهلا فعلت مثل ذلك.
قوله تعالى: * (قال يا بن أم). قرىء: ' يا بن أم ' بالنصب و ' يا بن أم ' بالكسر، وقد بينا هذا من قبل.
وقوله: * (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) قال ابن عباس: أخذ رأسه بيمينه، وأخذ لحيته بيساره، ويقال: إن المراد من الرأس شعر الرأس، ويقال: أراد بالرأس الأذن، فإن قال قائل: هذا تهاون بنبي من أنبياء الله، فتكون كبيرة من الكبائر، فكيف وجه فعل هذا من موسى؟ والجواب عنه: أنه يحتمل أنه لم يكن مثل هذا الفعل تهاونا في عادتهم، فكان الأخذ باللحية شبه الأخذ بالكف عندهم، وقال بعضهم: أنه أخذ بلحيته كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه عند الغضب فجعله كنفسه، وقد روي أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا غضب جعل يفتل شاربه، وأولى الأجوبة أن هذا فعل الإنسان بمثله وشكله عند الغضب، فتكون صغيرة لا كبيرة، والصغائر جائزة على الأنبياء، وإنما ذكر هارون ' الأم '، ولم يذكر ' الأب '، ليرققه على نفسه.
وقوله: * (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) هذا بيان ما رأي من الرأي، يعني: خشيت أن تقول: جعلتهم أحزابا، فحزب عبدوا العجل، وحزب قاتلوا، وحزب أمسكوا عن القتال، والتبس عليهم أنه هل يجوز القتال أو لا؟، وحزب أنكروا لم يقاتلون؟ فكل هذا التفرق كان جائزا لو قاتل هارون.
وقوله: * (ولم ترقب قولي) أي: لم تحفظ قولي، وهذا منصرف إلى قوله: * (واخلفني في قومي وأصلح) (وقد بينا أن معنى قوله: * (وأصلح)) أي: ارفق، فرأى أن الرفق أن يكف يده.
351

* (قال فما خطبك يا سامري (95) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي (96) قال فاذهب فإن لك في) * *
قوله تعالى: * (قال فما خطبك يا سامري) قال أهل التفسير: لما اعتذر هارون بما اعتذر به أقبل موسى على السامري، فقال: * (ما خطبك يا سامري) والخطب هو: الجليل من الأمر، ومعنى الآية: ما هذا الأمر العظيم الذي جئت به؟
وقوله: * (قال بصرت بما لم يبصروا به) رأيت بما لم يروا، ويقال: فطنت بما لم يفطنوا به.
وقوله: * (فقبضت قبضة من أثر الرسول) المعروف: بالضاد المعجمة، وقرأ الحسن البصري: ' فقبصت ' بالصاد غير المعجمة، والفرق بينهما أن القبض: هو الأخذ بملء الكف، والقبص هو الأخذ بأطراف الأصابع.
وقوله: * (من أثر الرسول) يعني: من تراب حافر فرس جبريل، فإن قال قائل: كيف عرف هذا؟ وكيف رأى جبريل من بين سائر الناس؟ والجواب عنه من وجهين
: أحدهما: أن أمه لما ولدته في السنة التي كان يقتل فيها الأنبياء، وضعته في كهف حذرا عليه، فبعث الله جبريل ليربيه ويغذيه لما قضى الله على يده من الفتنة، فلما رآه عرفه وأخذ التراب، والوجه الثاني: أن جبريل كان على فرس حصان أبلق، وكان ذلك الفرس تسمى فرس الحياة، وكان كلما وضع (الفرس) حافره على موضع أخضر ما تحت حافره، فعرف أنه فرس الحياة، وكان سمع بذكره، وأن الذي عليه جبريل، فأخذ القبضة.
وقوله: * (فنبذتها) أي: ألقيتها في فم العجل، وقد قال بعضهم: إنما خار العجل لهذا؟ وهو أن التراب كان مأخوذا من تحت فرس الحياة.
وقوله: * (وكذلك سولت لي نفسي) أي: زينت لي نفسي.
قوله تعالى: * (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) أي: لا أمس لا
352

* (الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا (97) إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما (98) كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا (99) من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا (100) خالدين) * * أمس، وفي القصة: أن موسى دعا عليه فصار يهيم مع الوحش، وروي أنه كان إذا مس أحدا أو مسه أحد حما جميعا، قال الشاعر: * (تميم كرهط السامري وقوله
* ألا لا يريد السامري مساسا)
وقال سعيد بن جبير: كان السامري رجلا من أهل كرمان، ويقال: من باجرما، والأكثرون أنه كان من بني إسرائيل من رهط يقال لهم: السامري.
وقوله: * (وإن لك موعدا لن تخلفه) أي: لن تكذبه، ومعناه: أن الله يكافئك على فعلك ولا تفوته، وقرئ: ' لن تخلفه ' بكسر اللام أي: توافى يوم القيامة لميعاد العذاب ولا تخلف.
وقوله: * (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا) أي: ظلت عليه مقيما.
وقوله: * (لنحرقنه) وقرئ: ' لنحرقنه ' من الإحراق، وهما في المعنى واحد، وهو التحريق بالنار، وعن علي وابن عباس - رضي الله عنهما - أنهما قرآ: ' لنحرقنه ' وهي قراءة أبي جعفر، ومعناه: لنبردنه بالمبرد، وفي قراءة أبي بن كعب: ' لنذبحنه ثم لنحرقنه '.
وقوله: * (ثم لننسفنه في اليم نسفا) يعني: لنذرينه في البحر تذرية.
قوله تعالى: * (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما) أي: وسع علمه كل شيء، وقالوا هذا من فصيح القرآن.
قوله تعالى: * (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) أي: من أخبار من تقدم.
وقوله: * (وقد آتيناك من لدنا ذكرا) الذكر ها هنا هو: القرآن.
قوله تعالى: * (من أعرض عنه) أي: عن القرآن.
وقوله: * (فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) أي: ثقلا، ومعناه: إثما يثقله.
353

* (فيه وساء لهم يوم القيامة حملا (101) يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا (102) يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا (103) نحن أعلم بما يقولون) * *
وقوله: * (خالدين فيها) أي: مقيمين في عذاب الوزر.
وقوله: * (وساء لهم يوم القيامة حملا) أي: بئس الوزر حملهم يوم القيامة.
وقوله تعالى: * (يوم ينفخ في الصور) وقرأ أبو عمرو: ' ويوم ننفخ في الصور ' واستدل بما عطف عليه من قوله: * (ونحشر المجرمين) وقرأ الباقون: * (يوم ينفخ في الصور) وهذا هو الأولى، وقد بينا معنى الصور من قبل.
وقوله تعالى: * (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) قال الحسن وقتادة وجماعة: عميا. فإن قال قائل: كيف يستقيم هذا، وقد قال الله تعالى: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) والله تعالى إنما خلقهم بصرا؛ والجواب: أنه حكي عن ابن عباس أن في القيامة تارات وحالات فيحشرون بصرا ثم يعمون. والقول الثاني في قوله: * (زرقا): أنه خضرة العين، فيحشر الكفار زرق الأعين سود الوجوه، والقول الثالث: عطاشا، ومعناه: وقد تغيرت أعينهم من شدة العطش، والقول الرابع: * (زرقا) أي: شاخصة أبصارهم من عظم الخوف، قال الشاعر:
(لقد زرقت عيناك يا بن مكعبر
* كذا كل ضبي من اللؤم أزرق)
والقول الخامس: * (زرقا) أي: أحد البصر؛ لأن الأزرق يكون أحد بصرا.
وقوله: * (يتخافتون بينهم) أي: يتساررون، ويتكلمون خفية.
وقوله: * (إن لبثتم إلا عشرا) أي: ما لبثتم إلا عشرا، وقد قال بعضهم: هذا في ' القبر '، وقال بعضهم: في الدنيا، فإن قال قائل: هذا كذب صريح، وقد لبثوا في الدنيا والقبر سنين كثيرة!، والجواب عنه: أن من شدة هول القيامة يظنون أنهم ما
354

* (إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما (104) ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا (105) فيذرها قاعا صفصفا (106) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (
107) يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) * * لبثوا إلا هذا القدر، وقال بعضهم: إن الله تعالى يرفع العذاب عنهم بين النفختين فيستريحون، فقولهم: * (إن لبثتم إلا عشرا) راجع إلى هذا.
قوله تعالى: * (نحن أعلم بما يقولون) معناه: أني عالم بقولهم وإن خافتوا.
وقوله: * (إذ يقول أمثلهم طريقة) تقول العرب: فلان أمثل قومه أي: أعدل قومه، ومعنى الآية ها هنا: أعقلهم وخيرهم طريقة في نفسه.
وقوله: * (إن لبثتم إلا يوما) أي: ما لبثتم إلا يوما.
قوله تعالى: * (ويسألونك عن الجبال) قال الحسن البصري: سأل المشركون رسول الله ما يفعل الله بهذه الجبال يوم القيامة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: * (فقل ينسفها ربي نسفا) النسف هو القلع من الأصل، ومعنى النسف في الآية: هو تسيير الجبال أو جعلها هباء جعلها رملا سائلا.
وقوله: * (فيذرها قاعا صفصفا) أي: يذر أماكن الجبال قاعا صفصفا، والقاع هو المكان الواسع المستوي، والصفصف هو الأملس الذي لا نبات فيه.
وقوله: * (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) أي: حدبا ونبكا، ومعناه: انخفاضا وارتفاعا.
قوله تعالى: * (يومئذ يتبعون الداعي) قال أهل التفسير: الداعي ها هنا هو إسرافيل يضع الصور في فيه، ويقول: أيتها العظام البالية، والجلود المتمزقة، واللحوم المتفرقة، هلموا إلى عرض الرحمن، أو لفظ هذا معناه.
وقوله: * (لا عوج له) أي: لا يزيغون يمينا ولا شمالا، وقيل: لا يمكنهم ألا يتبعوه.
وقوله: * (وخشعت الأصوات للرحمن) أي: سكنت وخضعت، وقال قتادة:
355

(* (108) يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا (109) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما (110) وعنت الوجوه للحي القيوم) * * ذلت. قال الشاعر:
((فما) أتى خبر الزبير تصدعت
* سور المدينة والجبال الخشع)
وقوله: * (فلا تسمع إلا همسا) الهمس هو الصوت الخفي، ويقال: صوت وطء الأقدام كهمس الإبل، قال الشاعر:
(فباتوا يذبحون وبات يسري
* بصير بالدجى هار هموس)
قوله تعالى: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة) أي: لا تنفع الشفاعة لأحد.
وقوله: * (إلا من أذن له الرحمن) أي: إلا لمن أذن الرحمن في الشفاعة له.
وقوله: * (ورضي له قولا) أي: قول لا إله إلا الله، وهو القول المرضي عند الله.
قوله تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) أي: يعلم ما بين أيديهم من الآخرة، وما خلفهم من الأعمال، ويقال: يعلم ما بين أيديهم أي: (لم يخلقهم وهو يريد أن يخلقهم).
وقوله: * (وما خلفهم) أي: الذين خلفهم من قبلهم فخلفوهم.
وقوله: * (ولا يحيطون به علما) أي: لا يحيطون بالله علما، والله يحيط بالأشياء، ولا يحاط به؛ لأن الإحاطة بالشيء هي العلم بالشيء من كل جهة يجوز أن يعلم، والله تعالى لا يقدر قدره، ولا يبلغ كنه عظمته، وأما سائر الأشياء فإن الله يعلم كل شيء بكل جهة يجوز أن تعلم.
قوله تعالى: * (وعنت الوجوه للحي القيوم) أي: ذلت الوجوه، وقال طلق بن أبي حبيب: خرت الوجوه للسجود.
وقوله: * (للحي القيوم) هو الدائم الذي لم يزل، والقيوم هو القائم بتدبير الخلق،
356

* (وقد خاب من حمل ظلما (111) ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (112) وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا (113) فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من) * * والقائم على كل نفس بما كسبت.
وقوله: * (وقد خاب من حمل ظلما) أي: هلك من حمل شركا، وحمل الشرك هو نفس الإشراك.
قوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن) ظاهر المعنى.
وقوله: * (فلا يخاف ظلما ولا هضما) قوله: * (ظلما) أي: يحمل عليه ذنب غيره. * (ولا هضما) أي: لا يخاف أن ينقص من حقه، وقيل: ظلما أي: لا يقبل طاعته، و * (هضما) أي: ينقص من ثوابه.
قوله تعالى: * (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا) أي: بلسان العرب. وقوله: * (وصرفنا فيه من الوعيد) أي: صرفنا القول فيه بذكر الوعيد. قال قتادة: هو ذكر وقائع الله في الأمم الخالية.
وقوله: * (لعلهم يتقون) أي: يتقون الشرك والمعاصي.
وقوله: * (أو يحدث لهم ذكرا) أي: يحدث لهم القرآن اعتبارا؛ فيعتبرون به، وقال بعضهم: يحدث لهم الوعيد ذكر العذاب؛ فينزجرون عن المعاصي. وقال بعضهم: أو يحدث لهم ذكرا أي: شرفا لإيمانهم به.
قوله تعالى: * (فتعالى الله الملك الحق) ارتفع الملك الحق ذو الحق.
وقوله: * (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) فيه أقوال: المشهور ما ذكره ابن عباس وغيره، أن النبي كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن، تلا أول الآية قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ مخافة التفلت منه والنسيان؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ' ومعناها: لا تعجل بقراءة القرآن قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ. والقول
357

* (قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما (114) ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما (115) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) * * الثاني: معناها: ولا تطلب الإنزال من الله تعالى، واصبر حتى يأتيك جبريل بما ينزله الله تعالى. والقول الثالث: معناها: ولا تبين للناس ما لم يصلي إليك تأويله، ومعناه: ولا تبين من قبل نفسك. والقول الأول هو المعروف.
وقوله: * (وقل رب زدني علما) أي: علما إلى ما علمت، فكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدني إيمانا ويقينا. وعن مالك بن أنس قال: من شأن ابن آدم ألا يعلم كل شيء، ومن شأن ابن آدم أن يعلم ثم ينسى، ومن شأن ابن آدم أن يطلب من الله علما إلى علمه.
قوله تعالى: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل) العهد ها هنا هو الأمر.
وقوله: * (فنسي) معناه: فترك، وعن ابن عباس: أن الإنسان سمي إنسانا؛ لأنه ينسى.
وقوله: * (ولم نجد له عزما) معناه: صبرا، وقيل: حزما، وقال عطية: حفظا لما أمر به والعزم هو توطين النفس على الفعل.
وعن الحسن البصري قال: لو قوبل عقل آدم بعقل جميع ولده لرجحهم، وقد قال الله تعالى: * (ولم نجد له عزما). وعن أبي أمامة الباهلي قال: لو وزن حلم آدم بحلم جميع ولده لرجح حلمه، وقد قال الله تعالى: * (ولم نجد له عزما) فإن قيل: أتقولون أن آدم - عليه السلام - كان ناسيا لأمر الله تعالى حين أكل من الشجرة؟ قلنا: يجوز أنه نسي، ومنهم من قال: نسي عقوبة الله تعالى، وظن أنه نهي تنزيه، لا نهي تحريم، ومنهم من قال: ظن أنه إنما نهى عن شجرة بعينها، ولم ينه عن جنس الشجرة.
قوله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى) ظاهر المعنى.
358

* (أبى (116) فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى (117) إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى (118) وأنك لا ظمأ فيها ولا تضحى) * * وقوله: * (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) أي: تتعب وتنصب. وقال السدي: بالحرث والحصد والطحن والخبز. وعن سعيد بن جبير: أن الله تعالى أنزل عليه ثورا أحمرا، فجعل يحرث، ويرشح العرق عن جبينه، فذلك شقاؤه. وروي عن سعيد أنه قال: جعل آدم يسوق الثور، وقد تعب، وعرق، فقال: يا حواء، هذا من قبلك، فبقي ذلك في ولده إلى يوم القيامة، فيقولون عند الحراثة: حوحو. ذكره ابن فارس في تفسيره.
قال أبو الحسين بن فارس في تفسيره. وعليه الخبر المعروف برواية أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي قال: ' لقي آدم موسى - صلوات الله عليهما - فقال: يا آدم، أنت الذي أشقيتنا، وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: يا موسى، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق.. الخبر بطوله. إلى أن قال: فحج آدم موسى ثلاثا '. وفي بعض الحديث: أن الله تعالى لما أهبط آدم إلى الأرض قال: ' لأطعمنك حتى يعرق جبينك، ويتعب بدنك، وفهو معنى قوله: * (فتشقى). فإن قال قائل: كيف لم يقل: فتشقيا، وقد قال من قبل: * (فلا يخرجنكما)؟
والجواب من وجهين: أحدهما: أن معناه: فتشقيا، ولكنه اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر، ونظير هذا قوله تعالى: * (عن اليمن وعن الشمال قعيد) أي: قعيدان.
والآخر: أنه قال: * (فتشقى)؛ لأنه هو الكاد والساعي على المرأة، فالتعب عليه.
قوله تعالى: * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) ظاهر المعنى.
وقوله: * (وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى). أي: لا تعطش، ولا يصيبك أذى
359

(* (119) فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (120) فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى (121)) * * الشمس. فإن قيل: ليست في الجنة شمس، فكيف يستقيم هذا الكلام؟ والجواب: أنه مستقيم؛ لأن أهل الجنة في ظل ممدود، فلا يصيبهم أذى الشمس مثل ما يصيبهم في الدنيا، وقيل معناه: لا يصيبك حر يؤذيك، ولا تضحى: لا تعرق، والعرب تقول: أضحى فلان إذا بدر للشمس. وفي بعض الآثار: اضح لمن أخدمت له. وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي أبو الخطاب - وولد ليلة مات عمر - رضي الله عنه -:
(رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
* فيضحى وأما بالعشي فيخصر)
قوله تعالى: * (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) أي: لا يخلق ولا يفنى، وقد بينا معنى [شجرة] الخلد من قبل.
قوله تعالى: * (فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما) أي: عوراتهما. وقال بعض أهل المعاني: بدت عورتهما لهما دون غيرهما؛ لأن الله تعالى قال: * (فبدت لهما سوءاتهما).
وقوله: * (وطفقا يخصفان) أي: طلبا. يقال: طفق يفعل كذا، إذا جعل يفعله.
وقوله: * (يخصفان) أي: يلصقان الورق بالورق للباسهما.
وقوله: * (عليهما من ورق الجنة) أي: للباسهما.
وقوله: * (وعصى آدم ربه) قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال: عصى آدم، ولكن لا يقال: آدم عاص؛ لأنه إنما يقال: عاص إذا اعتاد فعل المعصية؛ وهذا كالرجل يخيط ثوبه، يقال: خاط ثوبه، ولا يقال: خياط إلا إذا اعتاد الخياطة.
وأما قوله: * (فغوى) معناه: ضل وخاب، والضلال ها هنا بمعنى: أخطأ طريق الحق، والخيبة: فوات ما طمع فيه من الخلود.
360

* (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (122) قال اهبطا منها جميعا بعضهم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكا) * *
وقال ابن الأعرابي: غوى أي: فسد عيشه، وصار من العز إلى الذل، ومن الراحة إلى التعب.
قوله تعالى: * (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) أي: اختاره ربه وتاب عليه، أي: قبل توبته. وهدى أي: أرشده إلى الإنابة.
قوله تعالى: * (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) وقد بينا من قبل.
وقوله: * (فإما يأتينكم مني هدى) أي: بيان.
وقوله: * (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) أي: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. وعن الشعبي أنه قال: أجار الله تعالى من تبع القرآن، وعمل بما فيه أن يضل أو يشقى، ثم تلا هذه الآية.
قوله تعالى: * (ومن أعرض عن ذكري) أي: عن وحيي.
وقوله: * (فإن له معيشة ضنكا) فيه أقوال:
روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا: عذاب القبر. قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: يضغط حتى تختلف أضلاعه. وفي بعض المسانيد هذا عن النبي، ولفظه: ' يلتئم عليه القبر، حتى تختلف أضلاعه، ولا يزال كذلك حتى يبعث '. قاله في هذه الآية.
والقول الثاني: قال الضحاك: هو أكل الحرام، وقال بعضهم: هو أن يكسب دون ما يكفيه، والضنك هو الضيق، وقال الحسن: معيشة ضنكا: عذاب جهنم، وقال
361

* (ونحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (126) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى (127) أفلم يهد لهم) * * بعضهم: هو الضريع، والزقوم (في النار).
وقوله: * (ونحشره يوم القيامة أعمى) فقال: أعمى عن الحجة، ويقال: أعمى العين، وقد بينا أنه روي عن ابن عباس أنه قال: يحشرهم بصيرا ثم يعمى، وقيل: أعمى عن الحق، وقيل: أعمى عن كل شيء إلا عن عذاب جهنم.
قوله تعالى: * (قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا) معناه: ولم حشرتني أعمى عن الحجة، وقد كنت بصيرا بالحجة؟ وقيل: أعمى العين، وقد كنت بصير العين.
قوله تعالى: * (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها) أي: تركتها.
وقوله: * (وكذلك اليوم تنسى) أي: تترك. قال قتادة: نسوا من الخير، ولم ينسوا من العذاب.
قوله تعالى: * (وكذلك نجزي من أسرف) أي: من أشرك.
وقوله تعالى: * (ولم يؤمن بآيات ربه) ظاهر المعنى.
وقوله: * (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى). أي: أعظم وأدوم.
قوله تعالى: * (أفلم يهد لهم) وقرئ: ' نهد ' بالنون، فقوله: * (يهد) بالياء أي: يهدي القرآن، ومعنى نهدي: نبين، وقوله: ' نهدي ' أي: نبين نحن، وصلته باللام دليل على أنه بمعنى التبين.
وقوله: * (كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم) قال أهل التفسير:
362

* (كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى (128) ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى (129) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح) * * هذا الخطاب لقريش، وقد كانوا يسافرون إلى الشام، فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وثمود وقريات لوط.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات) أي: لدلالات وعبرا.
وقوله: * (لأولي النهى) أي: لأولي العقول، يقال: فلان ذو نهية أي: ذو عقل.
قوله تعالى: * (ولولا كلمة سبقت من ربك) فيه تقديم وتأخير، ومعناه: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى * (لكان لزاما) أي: العذاب لزاما، والكلمة هي
الحكم بتأخير العذاب، والأجل المسمى هو وعد القيامة، قال الله تعالى: * (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر).
وقوله تعالى: * (لزاما) أي: العذاب لا يفارقهم.
قوله تعالى: * (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك) أي: صل بأمر ربك.
وقوله: * (قبل طلوع الشمس) هو الفجر. * (وقبل غروبها) هو العصر * (ومن آناء الليل) المغرب والعشاء. والآناء جمع إني، والإنى: الساعة.
وقوله: * (وأطراف النهار) هو الظهر. فإن قيل: كيف سمي أطراف النهار؟ قلنا: لأنه طرف النصف الأول انتهاء، وطرف النصف الثاني ابتداء، وهذا قول قتادة وأكثر المفسرين. وقال بعضهم: أطراف النهار: ساعات النهار للتطوع، وعلى هذا قوله: قبل غروب الشمس دخل فيه الظهر والعصر، وقال بعضهم: أطراف النهار المراد منه الصبح والعصر، وهو مذكور لتأكيد ما سبق. وقد ثبت برواية جرير بن عبد الله البجلي قال: ' كنا جلوسا مع النبي، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: ' إنكم سترون ربكم مثل هذا، وأشار إلى القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة
363

* (وأطراف النهار لعلك ترضى (130) ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه وزرق ربك خير وأبقى (131) وأمر أهلك بالصلاة) * * قبل غروب الشمس، وقبل طلوعها فافعلوا، ثم قرأ هذه الآية: * (فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها). قال الشيخ الإمام: أخبرنا بهذا المكي بن عبد الرزاق، قال: أخبرنا جدي أبو الهيثم، قال: حدثنا الفربري، قال: نا البخاري رضي الله عنه، قال: نا إسحاق بن إبراهيم، عن جرير بن عبد الحميد الضبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم عن جرير...... الحديث.
قوله: * (لعلك ترضى) أي: لعلك ترضى ثوابه، وقرئ: ' لعلك ترضى ' على ما لم يسم فاعله، أي: تعطى ثوابه.
قوله تعالى: * (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) روي عن أبي رافع ' أن النبي نزل به ضيف، ولم يكن عنده شيء، فبعث إلى يهودي يستقرض منه طعاما، فأبى إلا برهن، فرهن منه درعه وحزن منه، فأنزل الله تعالى هذه الآية '.
وقوله: * (أزواجا منهم) أي: رجالا، وقيل: أضيافا منهم.
وقوله: * (زهرة الحياة الدنيا). (زينة الحياة الدنيا، وقيل: زهرة الحياة الدنيا) بهجتها وحسنها، وما تروق الناظر منهما.
وقوله: * (لنفتنهم فيه) أي: نوقعهم في الفتنة بسببه.
وقوله: * (ورزق ربك خير وأبقى) أي: خير لك في الآخرة، وأبقى بركة في الدنيا.
وروي عن أبي بن كعب أنه قال: من لم يتعز بعز الله تعالى تقطعت نفسه حسرات، ومن يتبع بصره ما في أيدي الناس يطل حزنه، ومن ظن أن نعمة الله تعالى
364

* (واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى (132) وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى (133) ولو أنا أهلكناهم بعذاب) * * في مطعمه ومشربه وملبسه، فقد قل عمله وحضر عذابه.
وعن يزيد بن ميسرة، أنه قال: كانوا يسمون الدنيا: خنزيرة، ولو علموا اسما أسوء منه لسموها به، فكانت إذا أقبلت على أحدهم، قال: إليك يا خنزيرة.
قوله تعالى: * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) في قوله: * (أهلك) قولان: أحدهما: أهل دينك، والآخر: قرابتك وقومك.
وفي بعض المسانيد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي كان إذا أصاب أهله خير أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها).
وقوله: * (لا نسألك رزقا) أي: لا نسألك أن ترزق أحدا من خلقي، ولا أن ترزق نفسك، وقيل: ثوابا.
وقوله: * (نحن نرزقك). أي: نوصل إليك رزقك، وقيل: ننشئك.
وقوله: * (والعاقبة للتقوى) أي: (لأهل) التقوى.
قوله تعالى: * (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه) أي: الآية المقترحة، فإنه كان قد أتاهم بآيات كثيرة.
وقوله: * (أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) أي: بيان ما في الصحف الأولى من أنباء الأمم، فإنهم اقترحوا الآيات، فأعطوا ولم يؤمنوا، فأهلكهم الله تعالى، ولو أعطينا هؤلاء أيضا، ولم يؤمنوا ألحقنا إهلاكهم.
365

* (من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى (134) قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى (135)) * *
قوله تعالى: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله) أي: من قبل إرسال الرسل وإنزال القرآن.
قوله: * (لقالوا لولا أرسلت إلينا رسولا) أي: لقالوا يوم القيامة.
وقوله: * (فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) أي: نذل في الدنيا، ونخزى في الآخرة. والذل: الهوان، والخزي: الافتضاح.
قوله تعالى: * (قل كل متربص) روي أن المشركين قالوا: نتربص بمحمد حوادث الدهر، فإذا مات تخلصنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية * (قل كل متربص) أي: منتظر.
وقوله: * (فتربصوا) أي: فانتظروا.
وقوله: * (فستعلمون من أصحاب الصراط السوي) في الشاذ: ' من أصحاب الصراط السوى ' على وزن فعلى، والمعروف: ' السوى '. ومعنى الصراط السوى: الدين القويم.
وقوله * (ومن اهتدى) أي: من هدى ورشد، والمهتدون نحن أم أنتم؟
366

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون (1) ما يأتيهم من ذكر من ربهم) * *
تفسير سورة الأنبياء
وهي مكية، قال ابن مسعود: سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي.
قوله تعالى: * (اقترب للناس حسابهم) قوله: * (اقترب): افتعل، من القرب. وقوله: * (للناس حسابهم) أي: وقت حسابهم، وقيل: عذابهم، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' من نوقش في الحساب عذب. والآية في المشركين دون المؤمنين، وهذا قوله بعضهم، وإنما سمى الساعة قريبة؛ لأنها كانت لا محالة، وكل ما هو كائن لا محالة فهو قريب، وأيضا فإن ما بقي من الدنيا في جنب ما مضى (قليل)، فسمى الساعة قريبة؛ على هذا المعنى، وقد روي أنه لما نزلت هذه الآية ارتدع المشركون عن بعض ما هم عليه، ثم لما لم يروا للقيامة أثرا انهمكوا فيما كانوا، وهكذا روي أيضا في قوله تعالى: * (أتى أمر الله)، والله أعلم.
وقوله: * (وهم في غفلة معرضون) أي: هم غافلون معرضون، وقيل: في اشتغال بالباطل عن الحق، ويقال: وهم في غفلة عما يراد بهم وأريدوا به.
قوله تعالى: * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) استدل المعتزلة بهذا على أن القرآن مخلوق، وقالوا: كل محدث مخلوق، والجواب عنه: أن معنى قوله: * (محدث) أي: محدث تنزيله، ذكره الأزهري وغيره، ويقال: أنزل في زمان بعد زمان، قال الحسن البصري: كلما جدد لهم ذكرا استمروا على جهلهم، وذكر النقاش في تفسيره: أن الذكر المحدث هاهنا ما ذكره النبي، وبينه من السنن والمواعظ
367

* (محدث إلا استمعوه وهم يلعبون (2) لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون (3) قال ربي يعلم القول في السماء) * * والدلائل سوى ما في القرآن، وأضافه إلى الرب؛ لأنه قاله بأمر الرب تعالى.
وقوله: * (إلا استمعوه وهم يلعبون) أي: استمعوه لاعبين.
وله تعالى: * (لاهية قلوبهم) أي: غافلة، وقيل: مشتغلة بالباطل عن الحق. قال امرؤ القيس:
(فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
* فألهيتها عن ذي تمائم محول)
أي شغلتها.
وقوله: * (وأسروا النجوى) فيه قولان: أحدهما: وأخفوا النجوى، والآخر: وأظهروا النجوى، والعرب تقول: أسر إذا أخفى، وأسر إذا أظهر، وقال بعض أهل اللغة: أسر إذا أخفى بالسين غير المعجمة، وأشر إذا أظهر بالشين المعجمة. قال الشاعر:
(ولما رأى الحجاج جرد سيفه
* أسر) الحروري الذي كان أضمرا)
وقوله: * (الذين ظلموا) أي: أشركوا.
وقوله: * (هل هذا إلا بشر مثلكم) أنكروا إرسال البشر، وطلبوا إرسال الملائكة.
وقوله: * (أفتأتون السحر) أي: تحضرون السحر وتقبلونه.
وقوله: * (وأنتم تبصرون) أي: تعلمون أنه سحر.
قوله تعالى: * (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض) يعني: القول يسر به، ويجهر به في السماء والأرض.
وقوله: * (وهو السميع العليم) ظاهر المعنى.
368

* (والأرض وهو السميع العليم (4) بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون (5) ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناهم أفهم يؤمنون (6) وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7) وما) * *
قوله تعالى: * (بل قالوا أضغاث أحلام) أي: تهاويل أحلام، ويقال: أخلاط أحلام، ويقال: ما لا تأويل له ولا تفسير.
قال الشاعر:
(أحاديث [طسم] أو سراب بقيعة
* ترقرق للساري وأضغاث حالم)
وقوله: * (بل افتراه) أي: اختلقه.
وقوله: * (بل هو شاعر) أي: مثل أمية بن الصلت ومن أشبه، والمراد من الآية: بيان تناقضهم في قولهم، وأنهم غير مستقرين على شيء واحد.
وقوله: * (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) بالآيات، وطلبوا آية مثل الناقة أو عصا موسى، ويد موسى، وما أشبه ذلك، وقد كان الله تعالى بين الآيات سوى ما طلبوا.
قوله تعالى: * (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها) معناه: ما آمنت قبلهم من أهل قرية طلبوا آية فأعطوا، أي: أعطيناهم الآية، ولم يؤمنوا. وقوله: * (أهلكناها) أي: حكمنا بهلاكها.
وقوله: * (أفهم يؤمنون) معناه: كما لم يؤمن أولئك، فلا يؤمن هؤلاء.
قوله تعالى: * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) يعني: أنا لم نرسل الملائكة قبلك إلى الأولين، فنرسل ملكا إلى قومك.
وقوله: * (فاسألوا أهل الذكر) الأكثرون على أن المراد بأهل الذكر مؤمنو أهل
369

* (جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين (8) ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين (9) لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون (10) وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين (11) فلما أحسوا) * * الكتاب، وعن علي - رضي الله عنه - أنهم علماء هذه الأمة.
وقوله: * (إن كنتم لا تعلمون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وما جعلناهم جسدا) أي: ذوي أجساد.
وقوله: * (لا يأكلون الطعام) معلوم. وقوله: * (وما كانوا خالدين) أي: في الدنيا، وهذا رد لقولهم: * (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام...) الآية.
قوله تعالى: * (ثم صدقناهم الوعد) معناه: صدقناهم الوعد في العقاب والثواب.
وقوله: * (فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين) أي: أنجينا المؤمنين، وأهلكنا المكذبين، وكل مكذب مشرك مسرف على نفسه، والسرف: مجاوزة الحد.
وقوله تعالى: * (لقد أنزلنا إلكيم كتابا فيه ذكركم) فيه أقوال: أحدها: ذكركم أي: حديثكم، وقيل ذكركم أي: ذكركم ما تحتاجون إليه من دينكم، وقال مجاهد: ذكركم أي: شرفكم، وهو شرف لمن يؤمن به، لا لمن يكفر به.
وقوله: * (أفلا تعقلون) أي: أفلا تعتبرون.
قوله تعالى: * (وكم قصمنا) القصم: الكسر، والفصم - بالفاء - الصدع، وفي الخبر: ' يرفع أهل الدرجات العلا إلى غرفة من در ليس فيها قصم ولا فصم '.
وقوله: * (من قرية كانت ظالمة) أي: ظلم أهلها.
وقوله: * (وأنشئنا بعدها قوما آخرين) أي: فريقا آخرين.
وقوله تعالى: * (فلما أحسوا بأسنا) أي: (وجدوا عذابنا)، وقيل: وصل إليهم
370

* (بأسنا إذا هم منها يركضون (12) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون (13) قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين (14) فما زالت تلك دعواهم حتى) * * عذابنا.
وقوله: * (إذا هم منها يركضون) أي: يهربون ركضا، يقال: ركض الدابة إذا أسرع في سيرها.
قوله تعالى: * (لا تركضوا) أي: لا تهربوا.
وقوله: * (وارجعوا إلى ما أترفتم فيه) أي: نعمتم فيه، والمترف: المنعم، وقيل: إلى دنياكم * (ومساكنكم) التي نعمتم فيها. قال أكثر أهل التفسير: هذه الآيات نزلت في أهل مدينة كفروا، فسلط الله عليهم بعض الجبابرة - وقيل: كان بختنصر - فلما أصابهم عذاب السيف هربوا، فقال لهم الملائكة، والسيوف قد أخذتهم: لا تهربوا، وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم. * (لعلكم تسألون) من دنياكم، فتعطون من شئتم، وتمنعون من شئتم، قالوا هذا لهم استهزاء، وقد قيل: هذا في أهل مدينة أصابهم عذاب من السماء، فخرجوا هاربين، وقال لهم الملائكة هذا القول، ويقال في قوله: * (لعلكم تسألون) أي: تسألون لم تركتم ما يصلح دينكم وأمر آخرتكم، واشتغلتم بما يوجب العذاب عليكم؟ ويقال: لعلكم تسألون عما عاينتم من العذاب، قالت الملائكة هذا توبيخا لهم.
قوله تعالى: * (قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين) الويل: دعاء الهلاك.
وقوله: * (ظالمين) أي: ظالمين لأنفسنا.
قوله تعالى: * (فما زالت تلك دعواهم) أي: دعاؤهم وقولهم.
وقوله: * (حتى جعلناهم حصيدا خامدين) الحصيد: هو المستأصل.
وقوله: * (خامدين) أي: ميتين، ومعنى الآية: جعلناهم كأن لم يكونوا.
قوله سبحانه وتعالى: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) أي:
371

* (جعلناهم حصيدا خامدين (15) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين (16) لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين (17) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون (18) وله من في السماوات والأرض) * * للعب.
قوله تعالى: * (لو أردنا أن نتخذ لهوا) اختلفوا في اللهو هاهنا على قولين: أحدهما: أن اللهو هو المرأة، والآخر: أن اللهو هو الولد، وهو في المرأة أظهر؛ فإن الوطء يسمى لهوا في اللغة، والمرأة محل الوطء، قال الشاعر:
(ألا زعمت بسباسة اليوم أنني
* كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي)
وعن بعضهم: أن اللهو هو الغناء، وهو ضعيف في هذا الموضع.
وقوله: * (لاتخذناه من لدنا) أي: لاتخذناه من عندنا لا من عندكم، ويقال: اتخذناه بحيث لا ترون).
وقوله: * (إن كنا فاعلين) أي: ما كنا فاعلين، ويقال: إن كنا فاعلين، ولم نفعله؛ لأنه لا يليق بنا.
قوله سبحانه وتعالى: * (بل نقذف بالحق على الباطل) الحق هاهنا: قول الله تعالى: ' إنه لا ولد له ' والباطل قولهم: إن الله اتخذ ولدا، ويقال: إن الحق هو القرآن، والباطل هو الشيطان.
وقوله: * (نقذف) أي: نلقي.
وقوله: * (فيدمغه) أي: يزيله، يقال: دمغت فلانا إذا كسرت دماغه وقتلته.
وقوله: * (فإذا هو زاهق) أي: ذاهب، وهذا من حيث بيان الدليل والحجة، لا من حيث إزالة الكفر أصلا، فإن الكفر والباطل في العالم كثير.
وقوله: * (ولكم الويل مما تصفون) قال قتادة: مما تكذبون، وقال الحسن: هو لكل واصف كذبا إلى يوم القيامة.
372

* (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (19) يسبحون الليل والنهار لا يفترون (20) أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون (21) لو كان فيهما آلهة إلا الله) * *
قوله تعالى: * (وله من في السماوات والأرض) أي: من في السماوات والأرض عبيدا وملكا.
وقوله: * (ومن عنده) أي: الملائكة.
وقوله: * (لا يستكبرون عن عبادته). أي: لا يتعظمون عن عبادته، وذكر ابن فارس في تفسيره في خبر: أن الله تعالى لما استوى على عرشه، سجد ملك فلا يرفع رأسه من السجود إلى يوم القيامة، فإذا رفع رأسه يوم القيامة قال: سبحانك، ما عبدتك حق عبادتك غير أني لم أشرك بك، ولم أتخذ لك ندا.
وقوله: * (ولا يستحسرون) أي: لا يعيون، يقال: دابة حسيرة إذا كانت عيية، قال كعب الأحبار: التسبيح لهم كالتنفس لبني آدم.
قوله تعالى: * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) يعني: يسبحون دائما، لا يضعفون ولا يفنون، واعلم أنه ليس عند الملائكة ليل ولا نهار؛ وإنما المراد بذكر الليل والنهار هاهنا: هو الدوام على التسبيح.
قوله تعالى: * (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) معنى قوله: * (من الأرض) أي: من الخشب والحجارة، (وقد كانت عامة أصنام المشركين من الخشب والحجارة)، وهما من الأرض.
وقوله: * (هم ينشرون) أي: يحيون، ولا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم؛ لأنه الإنعام بأبلغ وجوه النعم، وهذا لا يليق بوصف البشر وكل محدث. وأنشدوا للأعشى في الانتشار:
(لو أسندت ميتا إلى نحرها
* عاش ولم ينقل إلى قابر)
(حتى يقول الناس مما رأوا
* أيا عجبا للميت الناشر)
373

* (لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22) لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * *
وقرئ: ' ينشرون ' بفتح الياء أي: يحيون أبدا، ومعنى الآية هو الإنكار على متخذ الأصنام آلهة، وبيان أنه لا يليق بها الإلهية.
قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) قال أكثر أهل التفسير: ' إلا ' هاهنا بمعنى ' غير '، قال الشاعر:
(وكل أخ مفارقه أخوه
* لعمرو أبيك إلا الفرقدان)
يعني: غير الفرقدين، وهذا على ما اعتقدوا من دوام السماء والأرض.
وقال بعضهم: * (إلا الله) ' إلا ' بمعنى ' الواو ' هاهنا، ومعناه: لو كان فيهما آلهة والله (أيضا) لفسدتا، ومعنى الفساد في السماء والأرض إذا كان الإله اثنين، هو فساد التدبير وعدم انتظام الأمور بوقوع المنازعة والمضادة، وهو أيضا معنى قوله تعالى: * (ولعلا بعضهم على بعض).
وقوله: * (فسبحان الله رب العرش عما يصفون) نزه نفسه عما يصفه به المشركون من الشريك والولد.
قوله تعالى: * (لا يسأل عما يفعل وهم (يسألون)) يعني: لا يسأل عما يحكم على خلقه، والخلق يسألون عن (أفعالهم وأعمالهم)، وقيل: لا يسأل عما يفعل؛ لأنه كله حكمة وصواب، وهم يسألون عما يفعلون لجواز الخطأ عليهم، وقيل: معنى لا يسأل عما يفعل: لا يقال له: لم؟، ولماذا؟ بخلاف الخلق، وفي الآية رد على القدرية، وقطع شبهتهم بالكلية.
وقد روى أبو الأسود الدؤلي أن عمران بن حصين قال له: أرأيت ما يسعى فيه الناس ويكدحون، أهو أمر قضي عليهم أو شيء يستأنفونه؟ فقلت: لا، بل أمر قضي عليهم، قال: أفلا يكون ظلما؟ قلت: سبحان الله * (لا يسأل عما يفعل وهم
374

(* (23) أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون (24) وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي) * * يسألون) فقال لي: أصبت يا أبا الأسود، وقد أجزت عقلك، ثم روى عمران أن رجلا من جهينة - أو مزينة - أتى النبي قال له: عما يفعل الناس أو يكدحون فيه، أهو شيء قضي عليهم؟ أم شيء يستأنفونه؟ فقال النبي: ' هو شيء قضي عليهم، فقال ذلك الرجل: يا رسول الله، أفلا يكون ظلما؟ قال: لا، ثم تلا قوله تعالى: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) ' قال الشيخ: وقد ذكرنا هذا الخبر في كتاب ' مسند القدر '.
قوله تعالى: * (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم) أي: حجتكم.
وقوله: * (هذا ذكر من معي) أي: ذكر من معي (بما) أمروا من الحلال والحرام.
وقوله: * (وذكر من قبلي) أي: من يحيى منهم بالطاعة وهلك بالمعصية، وعن ابن عباس قال: ذكر من معي فهو القرآن، وذكر من قبلي هو التوراة والإنجيل، ومعناه: راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب، هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولدا؟
وقوله: * (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) أي: وحدون.
قوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) قال قتادة: قال طائفة من المشركين: إن الله تعالى صاهر الجن، فالملائكة بناته.
375

* (إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25) وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28) ومن يقل منهم إني) * *
وقوله: * (سبحانه) نزه نفسه عما قالوا.
وقوله: * (بل عباد مكرمون) أي: عبيد مكرمون.
قوله تعالى: * (لا يسبقونه بالقول) هذا ثناء من الله على الملائكة، ومعنى قوله: * (لا يسبقونه بالقول) أنهم لا يقولون قولا بخلافه، وهذا مثل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) أي: لا تقولوا قولا بخلاف الكتاب والسنة، وقد ثبت برواية عائشة - رضي الله عنها - عن النبي أنه قال: ' من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد '. والإحداث في الدين أن يقول بخلاف الكتاب والسنة.
وقوله: * (وهم بأمره يعملون) معناه: أنهم لا يخالفونه، لا قولا، ولا عملا، ويقال معناه: إذ أمر بأمر أطاعوا، فإذا قال لهم: افعلوا قالوا: طاعة.
قوله تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) أي: ما قدموا وأخروا، وقيل: ما بين أيديهم هو الآخرة، وما خلفهم أعمالهم.
وقوله: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) معناه: إلا لمن قال: لا إله إلا الله، ويقال: إلا لمن رضي الله عنه عمله.
وقوله: * (وهم من خشيته مشفقون) أي: من عذابه.
قوله تعالى: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين). فإن قيل: هل قال أحد من الملائكة إني إله من دونه؟ (قلنا) معناه: لو
376

* (إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (29) أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) * * قالوا، ولم يقولوا، والجواب المعروف: أن المراد منه إبليس لعنه الله؛ فإنه دعا الناس إلى طاعته، فهو معنى قوله: * (ومن يقل منهم إني إله) وهذا دليل على أن من دعا إنسانا إلى طاعته في معصية الخالق فكأنه قال: اعبدني أو اتخذني إلها.
قوله تعالى: * (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) فإن قال قائل: قد قال: أو لم ير الكفار، [و] لم يروا شيئا من هذا ولا المسلمون! والجواب عنه: أن معناه أو لم يعلموا بإخبارك إياهم، وقيل: أو لم يخبروا. وأما الرتق في اللغة هو السد، والفتق هو الشق، قال الشاعر:
(يهون عليهم إذا يغضبون
* سخط العداة وإرغامها)
(ورتق الفتوق وفتق الرتوق
* ونقض الأمور وإبرامها)
وأما معنى الآية: قال ابن عباس: قوله: * (كانتا رتقا) أي: كان السماء والأرض ملتصقين، ففتقناهما بالهواء، وقال غيره: معناه: كان السماء شيئا واحدا، ففتقناها، وجعلناها سبع سماوات، وكانت الأرض شيئا واحدا ففتقناها، وجعلناها سبع أرضين، والقول الثالث قاله مجاهد: فتقنا السماء بالمطر، والأرض بالنبات.
وقوله: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فإن قال قائل: قد خلق بعض ما هو حي من غير الماء، فكيف يستقيم قوله: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي)؟ وأيضا فإن الإنسان قد يموت بالماء، والشجر والنبات قد يهلك بالماء؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن الماء هاهنا هو النطفة، والحي هو الآدمي، ومعناه: كل شيء حي من الآدمي. والجواب الثاني: أن هذا على وجه التكثير، وأكثر الأحياء في الأرض إنما هو مخلوق من الماء أو بقاؤه بالماء، فاستقام معنى الآية من هذا الوجه.
377

(* (30) وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون (31) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون (32) وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون (33)) * *
وقوله: * (أفلا يؤمنون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وجعلنا في الأرض رواسي) أي: جبالا ثوابت، وقيل: ثقالا، قال الشاعر:
(رسا أصله تحت الثرى وسمائه
* إلى النجم فرع لا ينال طويل)
وقوله: * (أن تميد بهم). أي: كراهة أن تميد بهم، والميد: الحركة.
وقوله: * (وجعلنا فيها فجاجا سبلا) الفج هو الواسع بين الجبلين.
وقوله: * (سبلا) أي: طرقا مسلوكة.
وقوله: * (لعلهم يهتدون) أي: يهتدون إلى الحق.
قوله تعالى: * (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) أي: محفوظا من وقوعه على الأرض، وهو معنى قوله تعالى: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) ويقال معناه: محفوظا عن الشياطين بالشهب.
وقوله: * (وهم عن آياتها معرضون) آياتها: شمسها وقمرها ونجومها وارتفاعها واستمساكها بغير عمد، وغير ذلك.
قوله تعالى: * (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر) المعروف عن ابن عباس برواية عكرمة أنه قال: إن الله تعالى خلق الليل قبل النهار، وقرأ قوله تعالى: * (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا) أي: كانتا مظلمة بالرتق ففتقتا بالضياء.
وقوله: * (والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) أي: يجرون، ويقال يدور
378

* (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34) كل نفس ذائقة الموت) * * بهم فلك دون السماء، ويقال: يدور بهم السماء، والله أعلم؛ وإنما ذكر * (يسبحون) ولم يقل: يسبح على ما يقال لما لا يعقل؛ لأنه ذكر عنهم ما يذكر من العقلاء، وهو الجري والسبح، فذكر على ما يعقل.
قوله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) كانوا يقولون: نتربص بمحمد ريب المنون، فقال تعالى: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) يعني: أن الموت طريق معهود مسلوك لا بد منه لكل حي.
وقوله: * (أفإن مت فهم الخالدون) معناه: أفهم الخالدون إن مت؟ وقد روي ' أن النبي لما توفي دخل أبو بكر - رضي الله عنه - ووضع فمه بين عينيه ويده على جانب رأسه، وقال: يا رسول الله، طبت حيا وميتا، ثم قرأ قوله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون) وقد كان عمر يقول: إنه لم يمت، فلما تلا أبو بكر هذه الآية، فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية إللا ذلك الوقت، وأعرضوا عن عمر (وقوله)، وعلموا أنه قد مات '.
قوله تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت) قد بينا من قبل.
وقوله: * (ونبلوكم بالشر والخير) أي: بالرخاء والشدة، والصحة والسقم، وبالإشقاء والإسعاد، وغير ذلك مما يختلف على الإنسان، وقيل: بالشر والخير أي: بما يحبون ويكرهون، ويقال: الشر غلبة الهوى على الإنسان، والخير العصمة من المعاصي، قاله سهل بن عبد الله.
379

* (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون (35) وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون (36) خلق الإنسان) * *
وقوله: * (فتنة) أي: محنة وخبرة.
وقوله: * (وإلينا ترجعون) أي: تردون.
قوله تعالى: * (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا) أي: ما يتخذونك إلا هزوا.
وقوله: * (أهذا الذي يذكر آلهتكم) أي: يعيب آلهتكم، يقال: فلان يذكر فلانا أي: يعيبه، وفلان يذكر الله أي: يعظمه ويجله.
وقوله: * (وهم بذكر الرحمن هم كافرون) قال هذا؛ لأنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وهم ' الثانية صلة.
قوله تعالى: * (خلق الإنسان من عجل) فيه أقوال: أحدها: سرعة وتعجيل، والإنسان هو آدم - صلوات الله عليه - وقد خلقه الله تعالى من غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة، والعلقة، والمضغة، وغيره، وهذا قول حسن. والقول الثاني: من عجل أي: عجولا، ويجوز أن يكون المراد من الإنسان جميع بني آدم، وأما
ابن عباس فإنه قال: هو آدم لما نفخ الله فيه الروح وبلغ صدره، أراد أن يقوم، فهو عجلته. وذكر الكلبي: أنه لما نفخ فيه الروح نظر إلى الشمس فإذا هي تغرب، فقال: اللهم أتم خلقي قبل أن تغرب الشمس، فهو عجلته. والقول الثالث: خلق الإنسان والعجلة منه، وقيل: والعجلة فيه، وهذا على طريق المبالغة، والعرب تقول للشرير: خلقت من الشر، وكذلك تقول: خلق فلان من الخير إذا ذكر على طريق المبالغة.
والقول الرابع: قوله: * (خلق الإنسان من عجل) أي: من طين. قال الشاعر:
(والنبع في الصخرة الصماء منبته
* والنخل ينبت بين الماء والعجل)
أي: الطين.
380

* (من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون (37) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (38) لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون (39) بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون (40)) * *
وقوله: * (سأريكم آياتي فلا تستعجلون) هذا في المشركين، فإنهم كانوا يستعجلون القيامة على ما قال الله تعالى في موضع آخر: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) وقال بعضهم: * (سأريكم آياتي) أي: مواعدي. وقوله: * (فلا تستعجلون) أي: لا تطلبوا العذاب مني قبل وقته، وإنما نزلت هذه الآية؛ لأن النضر بن الحارث كان قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
قوله تعالى: * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون) أي: لا يدفعون.
وقوله: * (عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم) ظاهر المعنى.
وقوله: (ولا هم ينصرون). أي: لا يمنعون من العذاب، وفي الآية جواب محذوف ومعناه: لعلموا صدق وعدنا.
وقوله: * (لو يعلم) في ابتداء الآية معناه: لو يرى.
قوله تعالى: * (بل تأتيهم بغتة) أي: القيامة فجأة.
وقوله: * (فتبهتهم). أي: تحيرهم، يقال: فلان مبهوت أي: متحير، وهو معنى قوله تعالى: * (فبهت الذي كفر).
وقوله: * (فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون) أي: يمهلون.
قوله تعالى: * (ولقد استهزىء برسل من قبلك) ظاهر المعنى.
381

* (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون (41) قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون (42) أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون (43) بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) * *
وقوله: * (فحاق بالذين سخروا منهم) أي: نزل بالذين سخروا منهم. * (ما كانوا به يستهزئون) أي: جزاء استهزائهم.
وقوله تعالى: * (قل من يكلؤكم) أي: يحفظكم. قال الشاعر:
(إن سليمى فالله يكلؤها
* ضنت بشيء ما كان يرزؤها)
وقوله: * (بالليل والنهار من الرحمن) أي: من عذاب الرحمن، والله تعالى يحفظ العباد من عذاب نفسه.
وقوله: * (بل هم عن ذكر ربهم معرضون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا) أي: تمنع العذاب عنهم من دوننا.
وقوله: * (فلا يستطيعون نصر أنفسهم) أي: منع أنفسهم.
وقوله: * (ولا هم منا يصحبون) أي: يجارون، يقال: أجارك الله أي: حفظك، وتقول العرب: صحبك الله أي: حفظك ونصرك، وقد قيل: يصحبون أي: ينصرون.
قوله تعالى: * (بل متعنا هؤلاء وآباءهم) أي: أملينا وأمهلنا، ويقال: متعنا أي: أعطيناهم النعمة.
وقوله: * (حتى طال عليهم العمر) أي: امتد بهم الزمان.
وقوله: * (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) الأكثرون: أن هذا هو ظهور النبي، وفتحه ديار الشرك أرضا أرضا وبلدة بلدة، والدليل على صحة هذا
382

* (أفهم الغالبون (44) قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون (45) ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين (46) ونضع) * * التأويل أنه قال: * (أفهم الغالبون) أي: ليست الغلبة لهم؛ إنما الغلبة لي ولرسولي، وعن ابن جريج قال: ما ينقص من سائر الأرضين يزاد في الشام،
وما ينقص من الشام يزاد في أرض فلسطين، وبها المحشر. وقال عكرمة: لو نقص من الأرض ما وجد أحد مكانا يقعد فيه، ولكن المراد من الآية ذهاب خيارها وعلماؤها، ويقال: هو موت أهلها، وقيل: خرابها.
قوله تعالى: * (قل إنما أنذركم بالوحي) أي: بالقرآن.
وقوله: * (ولا يسمع الصم الدعاء) وقرئ: ' لا يسمع الصم الدعاء '، وقرأ عبد الرحمن المقرئ: ' لا تسمع الصم الدعاء '، وأما المعروف هو ظاهر المعنى، والصم هم الكفار، وسماهم صما، لأنهم لم يسمعوا ما ينفعهم.
وقوله: * (إذا ما ينذرون) أي: يخوفون بالوحي.
قوله تعالى: * (ولئن مستهم نفحة) النفحة هي: الدفعة اليسيرة، تقول العرب: نفح فلان بالسيف على هذا المعنى، وهي بخلاف... والنفخة لا بد فيها من خروج الريح من الخوف، ومعنى * (ولئن مستهم نفحة) أي: طرف من عذاب ربك، وقيل: أدنى شيء من عذاب ربك.
وقوله: * (ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين) معناه: يا هلاكنا، إنا كنا مشركين، كأنهم أقروا على أنفسهم باستحقاق العقوبة.
قوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط) معناه: ذوات القسط، والقسط، العدل، وفي المشهور في الأخبار: أن الميزان له لسان وكفتان، وفي بعض المأثور: أن داود - عليه السلام - قال: يا رب: أرني الميزان الذي يوزن به أعمال العباد، فأراه إياه،
383

* (الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها) * * وكل كفة منه مثل ما بين المشرق والمغرب، فقال: يا رب: ومن يملأ هذا من الحسنات؟ فقال: باداود، إذا رضيت عن عبدي ملأته بكسرة أو تمرة والله أعلم.
وأما كيفية الوزن فقد قال بعضهم إنه يوزن الحسنات والسيئات، وقيل: يوزن خواتيم الأعمال، وقال بعضهم: الميزان علامة يعرف بها مقادير استحقاق الثواب والعقاب، والصحيح هو الميزان حقيقة، فإن قيل: قد قال في موضع آخر: * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) فكيف التوفيق بين الآيتين؟ والجواب عنه: أن معنى قوله: * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) أي: لا يستقيم وزنهم على الحق، فإن ميزانهم شائل ناقص خفيف، ويقال: * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) أي: ثوابا، قال بعض الخوارج في ضربة ابن ملجم لعلي رضي الله عنه: -
(يا ضربة من تقى ما أراد بها
* إلا ليدرك من ذي العرش رضوانا)
(إني لأذكر يوما فأحسبه
* أوفى البرية عند الله ميزانا)
أي ثوابا، ونحن نبرأ من معنى هذا الشعر ومن قائله.
وقوله تعالى: * (فلا تظلم نفس شيئا) أي: [لا] يزاد في سيئاته، ولا ينقص من حسناته.
وقوله: * (وإن كان مثقال حبة من خردل) أي: زنة حبة خردل.
وقول: * (أتينا بها) أي: أحضرناها؛ لنجازى عليها.
وقرئ في الشاذ: ' آتينا بها ' بمد الألف، من الإيتاء أي: جازينا بها أو أعطينا بها.
وقوله: * (وكفى بنا حاسبين) أي: محاسبين، وقيل: حافظين عالمين، وقيل: محصين.
384

* (وكفى بنا حاسبين (47) ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين (48) الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون (49) وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون (50) ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51) إذ قال) * *
قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) فيه قولان: أحدهما: أنه التوراة، والآخر: أنه البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون.
وقوله: * (وضياء) وقرئ بغير الواو، فأما بالواو فهو صفة أخرى للتوراة، إذا حملنا الفرقان على التوراة، وإن حملناه على البرهان، فمعناه: أعطيناه البرهان، وأعطيناه التوراة التي هي ضياء، فأما بغير الواو فمعنى الفرقان على هذا ليس إلا التوراة، وقوله: * (وضياء) صفة لها.
وقوله: * (وذكرا للمتقين) أي: تذكيرا للمتقين.
قوله تعالى: * (الذين يخشون ربهم بالغيب) إنما قال: * (بالغيب)؛ لأن المؤمنين يخشونه ولا يرونه، فأما هو يراهم وليسوا بغيب عنه. وقوله: * (وهم من الساعة مشفقون) أي: خائفون.
قوله تعالى: * (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) قد بينا معنى المبارك، وقيل: يتبرك به أي: يطلب منه الخير.
وقوله: * (أفأنتم له منكرون) مذكور على وجه التوبيخ والذم لإنكارهم.
قوله تعالى: * (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل) في الرشد قولان: أحدهما: أنه الهداية، والآخر: أنه النبوة.
وقوله: * (من قبل) فيه قولان: أحدهما: من قبل البلوغ، وهو حين خرج من السرب، وهو صغير، ونظر إلى النجوم والشمس والقمر فاستدل، كما ذكرنا في
سورة الأنعام، والقول الثاني: من قبل أي: من قبل موسى وهارون.
وقوله: * (وكنا به عالمين) أي: عارفين.
385

* (لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين (53) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54) قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين (55) قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين (56) وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (57) فجعلهم جذاذا) * *
قوله تعالى: * (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) أي: الأصنام التي أنتم عليها مقيمون للعبادة.
قوله تعالى: * (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) معناه: وجدناهم كذلك فاتبعناهم.
قوله تعالى: * (قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) أي: في خطأ بين، والبين الواضح، والمبين الموضح.
قوله تعالى: * (قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) أي: بالصدق والجد، أم أنت من الهازئين؟
قوله تعالى: * (قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن) أي: خلقهن.
وقوله: * (وأنا على ذلكم من الشاهدين) أي: على أنه الإله الذي لا يستحق العبادة غيره، وأن الأصنام ليست بآلهة، وقيل: وأنا من الشاهدين على أنه خالق السماوات والأرض.
قوله تعالى: * (وتالله لأكيدن أصنامكم) الكيد: إيصال ضر بالغير بضرب من التدبير، وقيل: الكيد شبه المحاربة.
وفي مغازي الرسول غزا موضع كذا، فلم يلق كيدا، أي: حربا.
وقوله: * (بعد أن تولوا مدبرين) أي: بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم، فإن قيل: كيف يتصور كيد الأصنام، وهي لا تعقل؟ قلنا: سنبين وجه كيده لها.
قوله: * (فجعلهم جذاذا) قرىء: ' جذاذا ' و ' جذاذا ' وفي الشاذ ' جذاذا '، فقوله: ' جذاذا ' بالرفع هو مثل الحطام والرفات، وقوله: ' جذاذا ' بالكسر فهو جمع
386

* (إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (58) قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) * * الجذيذ، مثل الخفيف والخفاف، ومعناه: أنه قطعها وكسرها، أي: جعلها قطعة قطعة، وكسرة كسرة.
وفي القصة: أنهم لما مروا إلى عيدهم قالوا له: ألا تخرج معنا؟ فقال: لا، إني سقيم، ومعناه: ما برد بعد، ثم قال في نفسه: تالله لأكيدن أصنامكم، فسمعه رجل منهم، ومروا ولم يبق في البلد أحد، فجاء إلى بيت أصنامهم، ومعه فأس، وكان في البيت اثنان وسبعون صنما، بعضها من حجر، وبعضها من فضة، وبعضها من ذهب، وغير ذلك، والصنم الكبير من الذهب، وهو مكلل بالجوهر، وعيناه ياقوتتان تتقدان، وهو على هيئة عظيمة، فأخذ الفأس، وكسر الكل إلا الكبير، فإنه تركه وعلق الفأس في عنقه، وقيل: ربطه بيده، فهذا هو كيد الأصنام، ومعناه: [أنه] كادهم على ما يعتقدون فيهم، فهذا معنى قوله: * (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم)، وأنشدوا في الجذاذ شعرا:
(جذذ الأصنام في محرابها
* ذاك في الله العلي المقتدر)
وقوله: * (لعلهم إليه يرجعون) فيه قولان: أحدهما: لعلهم عنده يرجعون من الشرك أي: عند هذا الفعل، والقول الثاني: لعلهم إلى الكبير يرجعون، ومعناه: أنهم إذا رأوا أمثال الصنم الكبير مقطعة مكسرة، وعرفوا أنه مثلهم، ولم يكن عندهم دفع، عرفوا أنه لا دفع عنده أيضا، وأما قول من قال: إن معنى الآية: * (لعلهم إليه يرجعون): أن الكبير هو الذي فعل بهم ذلك حمية وأنفة، فهو قول باطل؛ لأنه لا يدخل في عقل أحد أن الصنم الكبير يكسر الأصنام الصغيرة، وإنما علق الفأس في عنق الكبير تعييرا لهم وتبكيتا، وقيل: على طريق إلزام الحجة، فإن اعتقادهم يوجب هذا، وهو أن الكبير لا يرضى بالأصنام الصغار مع هو لو كانوا يعقلون.
قوله تعالى: * (قالوا من فعل هذا بآلهتنا) فيه تقدير، وهو أنهم رجعوا ودخلوا على الأصنام، فلما رأوها قالوا كذلك.
387

(* (59) قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (60) قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون (61) قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم (62) قال بل فعله) * *
وقوله: * (إنه لمن الظالمين) أي: من المجرمين.
قوله تعالى: * (قالوا سمعنا فتى) أي: شابا * (يذكرهم) أي: يعيبهم، وفي القصة: أن ذلك الرجل الذي سمع منه ذكر كيد الأصنام قال هذا.
وقوله: * (يقال له إبراهيم) معلوم.
قوله تعالى: * (قالوا فأتوا به على أعين الناس) في القصة: أن الملك - وهو نمروذ - قال هذا القول، ومعناه: جيئوا به على مشهد الناس.
وقوله: * (لعلهم يشهدون) فيه قولان: أحدهما: أنهم يشهدون عذابه إذا عذبناه، والقول الآخر: لعلهم يشهدون أي: يسمعون قول الرجل أنه قال كذا في الأصنام، قال السدي: كره الملك أن يعاقبه بغير بينة.
قوله تعالى: * (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم) طلبوا منه الإقرار والاعتراف بما فعل.
قوله تعالى: * (قال بل فعله كبيرهم هذا) اعلم أنه قد ثبت عن النبي برواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي قال: ' إبراهيم كذب ثلاث كذبات ' - وفي رواية: ' في الله ' - قوله: * (بل فعله كبيرهم)، وقوله: * (إني سقيم)، وقوله لسارة: هذه أختي '. قال الشيخ الإمام: أخبرنا بهذا الحديث أبو علي الشافعي قال أبو الحسن بن [فراس]، قال: نا أبو جعفر الديبلي، قال: نا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قال: نا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد.. الحديث.
388

* (كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون (63) فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون (64) ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون (65) قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم (66) أف لكم ولما تعبدون من) * * قال أهل المعاني: قال إبراهيم ما قال بإذن الله تعالى لقصد الصلاح، وهو مثل ما أذن ليوسف أن يقول للإخوة: ' أيتها العير إنكم لسارقون، وقال بعضهم، هو قول يخالف لفظه معناه، ولكل تأويل، أما قوله: * (بل فعله كبيرهم) أي: على زعمكم واعتقادكم، وهو على وجه إلزام الحجة، كما بينا على تحقيق الخبر، وقال بعضهم معناه: بل فعله كبيرهم هذا * (فسألوهم إن كانوا ينطقون)، قاله على سبيل الشرط، قال النحاس: وفي هذا التأويل بعد، وهو مخالف للأخبار الثابتة، وأما قوله: * (إني سقيم) أي: سأسقم وقيل معناه: سقيم أي: مغتم بضلالتكم، فكأنه سقيم القلب بذلك، وأما قوله لسارة: هذه أختي أي: أختي في الدين، والأولى ما ذكرناه من المعنى الأول، وهو قول أهل السنة، وهو أن الله تعالى أذن له فيه.
قوله تعالى: * (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) معناه: رجعوا إلى فكرهم وعقولهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون يعني: بعبادتكم ما لا يدفع عن نفسه شيئا.
قوله تعالى: * (ثم نكسوا على رؤوسهم) قال أهل التفسير: أجرى الله تعالى حقا على لسانهم في القول الأول، ثم أدركتهم الشقاوة، فهو معنى قوله: * (ثم نكسوا على رؤوسهم) ومعناه: رجعوا إلى شركهم، ويقال: نكس المريض إذا رجع إلى حاله الأول، وقيل: نكسوا على رؤوسهم أي: رجعوا، ومعناه: إلى الاحتجاج عن الأصنام.
وقوله: * (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) ومعناه: فكيف نسألهم؟.
قوله تعالى: * (قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم) معناه: لا ينفعكم إن عبدتموه، ولا يضركم إن تركتم عبادته.
وقوله: * (أف لكم) أي: نتنا وقذرا لكم. وقوله: * (ولما تعبدو من دون الله)
389

* (دون الله أفلا تعقلون (67) قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين (68) قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (69)) * * أي: الأصنام.
وقوله: * (أفلا تعقلون) أي: أليس لكم عقل تعرفون هذا؟.
قوله تعالى: * (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم) التحريق هو التقطيع بالنار، واختلفوا أن القائل لقوله: * (حرقوه) من كان؟ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: هو رجل من أكراد فارس، وقال غيره: هو نمروذ الجبار، وعن بعضهم: أنه رجل يقال له: (هيرون) خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وقوله: * (وانصروا آلهتكم) قال الأزهري معناه: عظموا آلهتكم بإحراقه، وقيل: وادفعوا عن آلهتكم.
وقوله: * (إن كنتم فاعلين) يعني: إن كنتم ناصرين لها أي: للآلهة.
قوله تعالى: * (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما) في القصة: أنهم بنوا أتونا بقرية من قرى كوثى، وجمعوا الأحطاب مدة. وعن السدي قال: كان الرجل منهم يمرض فيوصي بشراء الحطب وإلقائه فيه، والمرأة تغزل فتشتري الحطب بغزلها فتلقيه فيه، ثم أوقدوا عليها سبعة أيام، ثم ألقوا فيها إبراهيم. وروي أنهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها؟ فجاء إبليس - عليه ما يستحق - وعلمهم عمل المنجنيق، فوضعوه فيه، وطرحوه في النار.
وعن بكر بن عبد الله المزني قال: لما طرح إبراهيم في النار ضجت الخليقة، وقالت: يا رب، إن خليلك يلقى في النار، فقال الله تعالى: إنه خليلي، ليس لي خليل غيره، وأنا إلهه، ليس له إله غيري، فإن استغاث بكم فأغيثوه، فلم يستغث بأحد. ومن المعروف أنه قال حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل. وروي أنه قال: سبحانك لا إله إلا أنت رب العالمين، ولك الحمد لا شريك لك. وعن كعب الأحبار
390

وقتادة أنهما قالا: جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغة، فإنه جعل ينفخ في النار، فأمر الرسول بقتله.
وفي بعض الأخبار عن النبي: ' من قتل وزغا فكأنما قتل كافرا '.
وقوله: * (قلنا يا نار كوني بردا) أي: ذات برد، قال أهل المعاني: يحتمل أنه خلق بردا في النار بدل الحر، ويحتمل أنه أحال بين النار وبين إبراهيم.
وقوله * (وسلاما) (روي) عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: لو لم يقل: * (وسلاما) لقتلته البرد ومثله عن كعب.
وعن قتادة قال: لم تحرق منه إلا وثاقه.
ومن المعروف في الآثار: أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم.
وقوله: * (على إبراهيم) لو لم يقل: * (على إبراهيم) بقيت ذات برد أبدا، وفي القصة: أنهم لما طرحوه في النار، وجعلها الله عليه بردا وسلاما، قال نمروذ وأصحابه: إنه قد سحر النار، فقال أبو لوط - وكان كافرا - اطرحوا فيه رجلا آخر وجربوه، فطرحوا فيها رجلا آخر فأكلته النار في الحال.
وفي بعض الغرائب من المسانيد عن النبي: ' أنه لما طرح إبراهيم في النار بعث الله جبريل إليه، وبعث معه بطنفسة من طنافس الجنة، وقميص من قمص الجنة، فأقعده على الطفنسة، وألبسه القميص وقعد معه يحدثه '. وروي: ' أنهم نظروا فإذا هو في روضة تهتز '.
391

* (وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين (70) ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (71) ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين (72)
وجعلناها أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا) * *
وقوله * (وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين) فمعنى الأخسرين ها هنا: أنهم خسروا السعي والنفقة، ولم يحصل لهم مرادهم، وقال بعضهم: معناه: أن الله تعالى أرسل على نمروذ وقومه البعوض، فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، ودخلت بعوضة في رأس نمروذ حتى أهلكته، ذكره مقاتل وغيره.
قوله تعالى: * (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) يعني: الشام، وبركتها كثرة مياهها وأشجارها، وعموم الخصب بها، حتى يعيش فيها الفقير والغني بعيش طيب، ويقال: بركتها كثرة الأنبياء بها، وفي الآية قول آخر: هو أن المراد من الأرض التي بارك فيها هي مكة، وقيل: مصر، والأصح هو الأول؛ لأنه مشهور أنه خرج وامرأته - يعني: إبراهيم - إلى حران، ثم من حران إلى الشام، وأما لوط فإنه ابن أخي إبراهيم، وكان خرج معه.
قوله تعالى: * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) قال ابن عباس: النافلة هو يعقوب، وأما إسحاق فليس بنافلة؛ لأن الله تعالى أعطاه إسحاق بدعائه، وإنما زاد يعقوب على ما دعا، والنافلة هي الزيادة، وقال مجاهد: كلاهما نافلة، والأصح هو الأول.
وقوله: * (وكلا جعلنا صالحين) ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: * (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) يعني: يرشدون بأمرنا.
وقوله: * (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) معناه: العمل بالشرائع.
وقوله: * (وإقام الصلاة) أي: المحافظة عليها.
* (وإيتاء الزكاة) معناه: وإعطاء الزكاة.
وقوله: * (وكانوا لنا عابدين) أي: موحدين.
392

* (عابدين (73) ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين (74) وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين (75) ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين (77) وداود وسليمان إذ) * *
قوله تعالى: * (ولوطا آتيناه حكما وعلما)
وقوله: * (ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث) القرية: هي سدوم، وأما الخبائث قيل: إتيانهم الذكور، ويقال هو: [التضارط] في الأندية.
وقوله: * (إنهم كانوا قوم سوء فاسقين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ونوحا إذ نادى من قبل) نداؤه هو قوله: * (أني مغلوب فانتصر)، (وقيل هو قوله:) * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا).
وقوله: * (فاستجبنا له) أي: أجبناه.
وقوله: * (فنجيناه وقومه من الكرب العظيم) في القصة: أنه كان أطول الأنبياء عمرا، وأشد الأنبياء بلاء، وروي أنه كان يضرب في اليوم سبعين مرة.
وقوله: * (من الكرب العظيم) أي: من الغرق، وقيل: من الغم والضيق.
قوله تعالى: * (ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا) أي: منعناه وحفظناه.
* (إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) اختلف القول في الحرث:
393

* (يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها) * *
قال ابن عباس: كان كرما قد بدت عناقيده، وقال قتادة: كان زرعا، وأما القصة فيه: فروي أنه كان رجلان لأحدهما حرث وللآخر غنم، فدخل الغنم في حرث صاحبه ليلا، فأكلت وأفسدت، حتى لم يبق شيء - وهو معنى قوله: * (إذ نفشت فيه غنم القوم) والنفش هو الرعي ليلا، والهمل هو الرعي نهارا - فلما أصبحا جاء صاحب الحرث يخاصم صاحب الغنم عند داود، فقال داود: خذ برقبة الأغنام فهي لك بدل حرثك، وكان سليمان ثم فقال: يا نبي الله، أو غير ذلك؟ هذا قول ابن مسعود، أن سليمان ثمة.
وقال غيره: أنهما خرجا فمرا على سليمان، وذكرا له حكم داود، فقال: قد كان ها هنا حكم هو أرفق بالرجلين، فذكر ذلك لأبيه داود، فدعاه وسأله بحق الأبوة، فقال: تسلم الغنم إلى صاحب الحرث، ينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتسلم الحرث إلى صاحب الغنم يقوم عليه، حتى إذا عاد إلى ما كان عليه ليلة نفشت فيه الغنم سلمت الحرث إلى صاحبه؛ فهذا معنى قوله تعالى: * (ففهمناها سليمان) وأخذ داود بذلك.
وأما قوله: * (وكنا لحكمهم شاهدين) أي: لم يغب عنا حكمهما جميعا، وكان بعلمنا ومرامنا.
قوله تعالى: * (ففهمناها سليمان) قد بينا المعنى.
واختلف العلماء أن داود حكم ما حكم بالاجتهاد أو بالوحي؟ وكذلك سليمان، فقال بعضهم: إنهما فعلا بالاجتهاد، وقالوا: يجوز الاجتهاد للأنبياء؛ ليدركوا ثواب
المجتهدين، إلا أن داود أخطأ، وسليمان أصاب، والخطأ يجوز على الأنبياء إلا أنهم لا يقرون عليه، واختلفوا [في] أنه هل يجوز على نبينا الخطأ في الحكم كما يجوز على سائر الأنبياء؟ قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجوز؛ لأن شريعته ناسخة، وليس
394

بعده نبي، وقال غيره: يجوز كما يجوز على سائر الأنبياء. وقد روي ' أن امرأة أتت النبي وقالت: إن زوجي توفي فأين أعتد؟ فقال لها: اعتدي أين شئت، فلما ولت دعاها وقال: سبحان الله امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب ' والخبر غريب.
وروي أن رجلا أتى النبي وقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت صابرا محتسبا، هل يحجزني من الجنة شيء؟ قال: لا، ثم دعاه وقال: ' إلا الدين، سارني به جبريل ' وهو خبر معروف، والخبران يدلان على أنه يجوز أنه يخطئ، إلا أنه لا يقرر عليه.
والقول الثاني في أصل الحكومة: هو أن داود وسليمان - عليهما السلام - حكما بالوحي، إلا أن ما حكم به داود كان منسوخا، والذي حكم به سليمان كان ناسخا، وقال هؤلاء القوم: لا يجوز للنبي أن يجتهد في الحوادث؛ لأنه مستغن بالوحي عن الاجتهاد، وقد قال الله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، والأول هو الأصح.
وأما حكم هذه المسألة في شريعتنا: فاعلم أن ما أفسدت الماشية بالليل عندنا مضمون على صاحبها، وما أفسدت بالنهار فلا ضمان، والحجة فيه ما روى الزهري، عن حرام بن محيصة عن أبيه: ' أن ناقة البراء بن عازب دخلت حرث قوم فأفسدته، فارتفعوا إلى النبي فقضى بأن حفظ الماشية على أربابها ليلا، وأن حفظ الحرث على أربابها نهارا ' وهذا أحسن حكم يكون؛ لأن العادة جرت أن المواشي تحفظ
395

* (سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) * * بالليل، وتسيب بالنهار، وأما الحروث والزروع تحفظ بالنهار، ويتعذر حفظها بالليل.
قال الشيخ الإمام: أخبرنا بهذا الحديث القاضي الإمام الوالد، قال: نا أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، قال: أبو بكر محمد بن زكريا العذافري، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري قال: [حدثنا] عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.... الخبر.
وقوله: * (وكلا آتينا حكما وعلما) وقد بينا.
فإن قيل: قد كان داود حكم بما حكم به، والحادثة إذا جرى فيها حكم الحاكم لا يجوز أن تنقض بغيره، فكيف وجه هذا؟ والجواب: يحتمل أنه كان طولب بالحكم، ولم يحكم بعد، إلا أنه ذكر وجه الحكم، وقال بعضهم: إنه كان حكم بالاجتهاد، فلما قال سليمان ما قال، نزل الوحي أن الحكم ما قال.
وقوله: * (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير) قيل: تسبيحها صلاتها، وقيل: تسبيحها هو الثناء على الله بالطهارة والتقديس، وقد روي أن الجبال كانت تجاوب داود بالتسبيح، وروي أنه كان إذا قرأ سمعه الله تسبيح الجبال والطير؛ لينشط في التسبيح، ويشتاق إليه.
وقوله: * (وكنا فاعلين). أي: قادرين على ما نريد، وقيل معناه: فعلنا ما فعلنا بالتدبير الصحيح.
قوله تعالى: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم) اللبوس ها هنا هو الدرع، وفي اللغة: اللبوس ما يلبس، قال قتادة: لم يسرد الدرع، ولم يحلقه أحد قبل داود، وكان قبله
396

(* (79) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80) ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين (81) ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين (82)) * * يتخذ الدرع من صفائح، فلما عمل هو الدرع جمع الخفة والحصانة.
وقوله: * (لتحصنكم من بأسكم) أي: من بأس عدوكم.
وقوله: * (لتحصنكم) قرئ بقراءات: بالياء والتاء والنون، أما الياء فمعناه: ليحصنكم اللبوس، وقيل: ليحصنكم الله، وأما التاء فمعناه: لتحصنكم الصنعة، وأما بالنون ينصرف إلى الله.
وقوله: * (فهل أنتم شاكرون) يعني: يا دود وأهل بيته، هل أنتم شاكرون؟.
قوله تعالى: * (ولسليمان الريح عاصفة) الريح العاصفة هي التي يشتد هبوبها، فإن قيل: قد قال في موضع آخر: * (رخاء حيث أصاب) والرخاء: اللين؟ والجواب عنه: أنه كان إذا أراد أن تشتد اشتدت، وإذا أراد أن تلين لانت.
وقوله: * (تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها) في القصة: أنه كان يسير من الشام إلى إصطخر تحمله الريح غدوة، ويسير من إصطخر إلى الشام تحمله الريح عشية.
وقوله: * (وكنا بكل شيء عالمين) يعني: أنه ما غاب عنا شيء من الأشياء.
قوله تعالى: * (ومن الشياطين من يغوصون له) الغوص هو النزول في قعر البحر، فكان الشياطين يفعلون ذلك لسليمان؛ لاستخراج الدر والجواهر.
وقوله: * (ويعملون عملا دون ذلك) أي: سوى الغوص، وهو معنى: * (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل...) الآية.
وقوله: * (وكنا لهم حافظين).
397

* (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83)) * *
قال الفراء والزجاج معنى ذلك: أنا حفظنا الشياطين من أن يفسدوا ما عملوا. وفي القصة: أن سليمان كان إذا بعث شيطانا مع إنسان ليعمل له عملا قال له: إذ فرغ من عمله قبل الليل، أشغله بعمل آخر؛ لئلا يفسد ما عمل، وكان من عادة الشيطان أنه إذا فرغ من العمل، ولم يشغل بعمل آخر يخرب ما عمل، ويفسده، فهذا معنى قوله تعالى: * (وكنا لهم حافظين) على ما ذكرنا من الفراء والزجاج، وروي عن ابن عباس أيضا.
قوله تعالى: * (وأيوب إذ نادى ربه) أي: دعا ربه.
وقوله: * (أني مسني الضر) أي: البلاء والشدة، وقيل: الجهد.
وقوله: * (وأنت أرحم الراحمين) أي: أرحم من يرحم.
واعلم أن قصة أيوب طويلة، وذكر في التفسير منها، وكذا نذكر بعضها، فروي عن الحسن البصري: أن الله تعالى أعطى أيوب مالا وولدا، ثم أهلك ماله وولده. وذكر وهب بن منبه وغيره: أنه كان ذلك لتسليط إبليس على ماله وولده، قال الحسن: فلما بلغه هلاك ماله وولده، حمد الله حمدا كثيرا وقال: اللهم إنه كان يشغلني مالي وولدي عن عبادتك، والآن قد فرغ لك سمعي وبصري وقلبي وليلي ونهاري. قال وهب: ثم ابتلاه الله تعالى في جسمه، وكان إبليس يحسده في كثرة عبادته وكثرة ثناء أهل السماء عليه فقال: يا رب، لو ابتليته لقصر في عبادتك، فقال الله تعالى له: سلطتك على جسمه سوى قلبه ولسانه وعقله - هذا قول وهب وغيره، والله أعلم - ثم ظهر البلاء في جسم أيوب، واشتد به البلاء غاية الشدة حتى قرح جميع جسده وتدود، واجتنبه جميع قومه، وألقي على مزبلة من مزابل بني إسرائيل، ولم يقربه أحد غير امرأته كانت تتصدق الناس وتطعمه، واختلفوا في مدة بلائه: فقال ابن عباس: سبع حجج، وقال وهب: ثلاث أحوال.
398

وأما قوله: * (أني مسني الضر) ففي القصة: أنه لم يدع الله تعالى بكشف الضر في تلك المدة الطويلة إلى أن بلغ وقت الكشف ثم دعا، واختلفوا في سبب دعائه: قال الحسن: كان سبب ذلك أن جماعة من أصدقائه رأوا به ذلك البلاء الشديد فقالوا: لو كانت عبادتك التي كنت تفعل لله تعالى خالصا ما أصابك هذا البلاء. قال حبيب بن أبي ثابت: لم يدع الله تعالى بالكشف حتى ظهرت ثلاثة أشياء أكره ما يكون: أما الأول: فقدم عليه صديقان له من الشام حين بلغهما خبره، فجاءا إليه، ولم يبق منه إلا عيناه، ورأيا أمرا عظيما، فقالا له: لو كان لك عند الله منزلة ما أصابك هذا، والثاني: أن المرأة طلبت طعاما فلم تجد شيئا تطعمه، فباعت ذؤابتها، وحملت إليه طعاما، وذكرت له ذلك، والثالث: أن إبليس اللعين لما رأى صبره جزع جزعا شديدا، فاتخذ تابوتا وجع فيه أدوية، وقعد على طريق امرأته يداوي الناس، فمرت عليه امرأته، فلما رأت ذلك قالت: أيها الرجل، إن عندي مريضا أفتداويه؟ قال: نعم، وأشفيه، قالت: ما تريد؟ قال: لا أريد شيئا إلا أن يقول حين أشفيه: أنت شفيتني، فذهبت وذكرت ذلك لأيوب - عليه السلام - فقال: هو إبليس قد خدعك، والله لئن شفاني الله لأضربنك مائة جلدة.
وروي أن إبليس جاء إلى أيوب ووسوس إليه، أن امرأته زنت، وأنه قطعت ذؤابتها لذلك، فحينئذ عيل صبره لهذه الأشياء فدعا وقال: * (أني مسني الضر).
فإن قال قائل: أليس أن الله تعالى سماه صابرا، وقد ترك الصبر حين دعا؟ قلنا: لا، لم يترك الصبر، فإن ترك الصبر بإظهار الشكوى إلى الخلق، فأما بإظهارها إلى الله تعالى فلا يكون تركا للصبر.
وعن سفيان بن عيينة أنه قال: إذا أظهر الشكوى إلى الخلق، وهو راض بقضاء الله، فإنه لا يكون تاركا للصبر أيضا.
وقد روي عن النبي ' أن جبريل دخل عليه في مرض الموت فقال: كيف تجد نفسك؟ فقال: يا جبريل، أجدني مغموما، أجدني مكروبا '.
399

* (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم) * *
وروي أنه قال لعائشة - صلوات الله (عليه) -: ' بل أنا وا رأساه ' الخبر بطوله.
وفي القصة: أن الدودتين كانتا [تقتتلان] على جسده، فكان يفرق بينهما، ويقول لهما: كلا من رزق الله.
قوله تعالى: * (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر) روي أن الله تعالى أنبع له عينا، وأمره أن يغتسل فيها فاغتسل فيها، وخرج كأصح ما يكون.
وقوله: * (وآتيناه أهله ومثلهم معهم) قال ابن مسعود وابن عباس والحسن: رد إليه أهله وأولاده بأعيانهم، وهذا هو القول المعروف، وظاهر القرآن يدل عليه، وهو أيضا مروي برواية جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي، وذكر في هذا الخبر: أن الله تعالى رد المرأة شبابها، فولدت له ستة وعشرين ولدا بعد ذلك، وفي هذا الخبر أيضا: أن الله تعالى بعث إليه ملكا وقال: إن ربك يقرئك السلام بصبرك، فأخرج إلى ضياع أندرك، فخرج إليه، فأرسل الله عليه جرادا من ذهب، قال: فطارت واحدة فاتبعها وردها إلى أندره، فقال له الملك: أما يكفيك ما في أندرك حتى تتبع الخارج؟ فقال: هذه بركة من بركات ربي، لا أشبع من بركته.
قال الشيخ الإمام: أخبرني بهذا أبو علي بن بندار بإسناده عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس.
وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس: أن الله تعالى أمطر على أيوب
400

* (رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84) وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من) * * جرادا من ذهب، فجعل يقبضه في ثوبه ويجمع ذلك، فقيل له: ألا تشبع؟ فقال: إنه من فضل ربي، ولا أشبع من فضله. قال الشيخ الإمام: أنا بهذا أبو علي الشافعي قال: أنا ابن فراس قال: أنا الديبلي قال: أنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي قال: أنا سفيان، عن عمرو... الأثر.
وفي الآية قول آخر: وهو أن معنى قوله: * (وآتيناه أهله) أي: ثواب أهله * (ومثلهم معهم) أي: مثل ذلك كأنه ضوعف له الثواب، وعن عكرمة قال: ' خير أيوب بين أن يرد عليه أهله بأعيانهم، وبين أن يعطى مثل أهله وأولاده، فاختار أن يردوا بأعيانهم ومثلهم معهم فأعطي ذلك.
وقوله: * (رحمة من عندنا) أي: نعمة من عندنا.
وقوله: * (وذكرى للعابدين) أي: وعظا واعتبارا للعابدين.
قوله تعالى: * (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل) أما إسماعيل وإدريس فقد ذكرناه، وأما ذو الكفل قال ابن عباس: كان في بني إسرائيل نبي، وكان مع ذلك ملكا، فلما حضرته الوفاة جمع بني إسرائيل فقال: من يكفل لي أن يقوم الليل لا يفتر، وأن يصوم النهار ولا يفطر، وأن يقضي بالحق ولا يغضب؟ فقام شاب وقال: أنا أكفل ذلك، فجعله خليفته، وقبض ذلك النبي، وقام بما كفل به فسمي ذا الكفل. قال ابن عباس فيما روي عنه في هذه القصة: إن إبليس اللعين لما رأى ذلك حسده، فجاء في هيئة شيخ ضعيف نصف النهار، وكان ذو الكفل يقيل ساعة في نهاره، فدخل عليه وقال: إن لي غريما، وهو يمطلني فأحب أن تقوم معي، وتستوفي حقي منه، وذكر كلاما كثيرا، فقام وخرج معه، فلما خرج معه ساعة اعتذر إليه وقال: إن صاحبي قد هرب، فرجع ذو الكفل، وقد ذهب وقت القائلة، ففعل هكذا ثلاثة أيام، ولم يره يغضب في شيء من ذلك، وقد ذهب نومه في الأيام الثلاث، فقال إبليس له عند ذلك: أنا إبليس، وقد حسدتك ولم أقدر عليك، وقد وفيت بما قلت. هذا هو القول المعروف.
401

* (الصابرين (85) وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين (86) وذا النون إذ ذهب) * *
وفي الآية قول آخر: وهو أن ذا الكفل رجل كفل أن يصلي كل ليلة مائة ركعة إلى أن يقبضه الله، فوفي بذلك فسمي ذا الكفل، واختلف القول أنه كان نبيا أو لم يكن نبيا، قال بعضهم: كان نبيا، وقال بعضهم: كان عبدا صالحا، ولم يكن نبيا.
وقوله: * (كل من الصابرين) أي: على طاعتنا.
قوله تعالى: * (وأدخلناهم في رحمتنا). قال بعض أهل المعاني: إن قوله: * (وأدخلناهم في رحمتنا) أبلغ من قوله: ورحمناهم؛ لأن قوله: * (وأدخلناهم في رحمتنا) يقتضي أنهم غمروا بالرحمة، وقوله: ورحمناهم يقتضي أنه أصابهم رحمته.
وقوله: * (إنهم من الصالحين) ظاهر المعنى، والصلاح اسم يجمع جميع خصال الخير.
وقوله تعالى: * (وذا النون إذ ذهب مغاضبا) النون: السمكة. قال الشاعر:
(يا حبذا القصر نعم القصر والوادي
* وحبذا أهله من حاضر بادي)
(ترقى قراقيره والوحش راتعة
* والضب والنون والملاح والحادي)
وقوله: * (إذ ذهب مغاضبا). قال الشعبي، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير: أي: مغاضبا لربه، وأما ابن عباس قال: أراد به مغاضبا لقومه، والقول الثالث: مغاضبا للملك الذي كان في زمانه.
وأما القول الأول فقد كرهه كثير من العلماء؛ لأن من غضب ربه فقد ارتكب كبيرة عظيمة، وذكر بعضهم: أن معنى غاضب ربه أي: أمر ربه، وسبب ذلك أنه وعد قومه أن العذاب يأتيكم يوم كذا، وخرج من بينهم، فلما كان ذلك اليوم، ورأى قوم يونس العذاب، خرجوا وضجوا إلى الله تعالى على ما ذكرنا في سورة يونس، فرد الله عنهم العذاب، فلما بلغ يونس أن العذاب لم ينزل على قومه غضب، فما كان غضبه، لا كراهة بحكم الله، ولكن كراهة أن يسمى كذابا، فهذا معنى هذا القول.
402

* (مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه) * *
وأما قول ابن عباس وهو المختار فإنه خرج مغاضبا لقومه حين لم يؤمنوا، وهو حسن صحيح لا اعتراض عليه.
وأما قول من قال: إنه غاضب الملك، فروى عطية العوفي عن ابن عباس أنه كان في بني إسرائيل ملك، وكان مع ذلك نبيا يوحى إليه، وكان قد غزا بني إسرائيل قوم، فدعا الملك يونس، وأرسله إلى أولئك القوم، فقال يونس: أمرك الله بهذا أو سماني لك؟ قال: لا، ولكن أرسلك، فغضب وخرج من بينهم متوجها إلى البحر.
وقوله: * (فظن أن لن نقدر عليه) وقرأ ابن عباس: ' فظن أن لن نقدر عليه '، وهو شاذ، وقرأ ابن عامر: ' فظن أن لن نقدر عليه '. واعلم أن في الآية سؤالا معروفا يعد من مشكلات القرآن، وهو أنه قال: * (فظن أن لن نقدر عليه) فكيف يظن هذا بالله، ومن ظن هذا بالله فقد كفر؟ والجواب عنه: أن للآية وجهين: أحدهما: أن معنى قوله: * (فظن أن لن نقدر عليه) أي: لن نقدر عليه بمعنى الحكم والقضاء، يقال: قدر وقدر بمعنى واحد، إلا أنه يقال: قدر يقدر، وقدر يقدر، قال الشاعر:
(فليس عشيات اللوى برواجع
* لنا أبدا ما أبرم السلم النضر)
(ولا عائدا ذاك الزمان الذي مضى
* تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر)
يعني: يقدره.
ومن هذا قوله: ' فإن غم عليكم فاقدروا له ' أي: قدروا له، وهو خبر صحيح.
والوجه الثاني من الجواب: وهو [أن] معنى قوله: * (فظن أن لن نقدر عليه) أي: لن نضيق عليه، ومن هذا قوله تعالى: * (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه)
403

* (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (87) فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (88)) * * أي: ضيق، واعلم أن معنى التضييق والتقدير عليه هو الحبس في بطن الحوت.
قال أهل العلم: ولم يكن يونس من أولي العزم من الرسل، وكان ضيق الصدر، فلما وضع عليه أعباء النبوة تفسخ تحتها كما يتفسخ الربع، وهذا القول مأثور عن السلف.
وقوله: * (فنادى في الظلمات) في القصة: أنه لما ذهب ركب السفينة، وفي السفينة قوم كثير، فجاء حوت وحبس السفينة، وخشي القوم على أنفسهم الهلاك، وتنبه يونس أنه هو المراد فقال: ألقوني تنجوا، فامتنعوا عن ذلك، ثم إنهم استهموا فخرج السهم عليه مرات، فألقوه فالتقمه الحوت، ومرت السفينة، قال سالم بن أبي الجعد: والتقم الحوت حوت آخر.
وأما قوله: * (فنادى في الظلمات) أي: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وفي القصة: أن الحوت مر به إلى الأرض السابعة، وسمع من تسبيح الأرضين والأحجار ودواب البحار أمرا عظيما، فنادى في الظلمات: * (أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) قال ابن عباس: مكث فيه أربعين يوما، وعن غيره: ثلاثة أيام، وروي أنه لما دعا بهذه الدعوة سمعت الملائكة صوته، فقالوا: يا رب صوت معروف من مكان مجهول، فقال الله تعالى: هو عبدي يونس جعلت بطن الحوت سجنا له فدعوا.
وقوله تعالى: * (فاستجبنا له) يعني: أجبناه.
وقوله: * (ونجيناه من الغم) أي: من غم البحر وضيق المكان.
وقوله: * (وكذلك ننجي المؤمنين) وقرئ: نجى المؤمنين '، والأولى أن يقرأ بنونين، قال الزجاج: بنون واحد لحن، وهو من [الخطأ] روى عاصم عنه.
404

* (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين (89) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا) * *
وروي عن [سعد بن أبي] وقاص - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت النبي يقول: ' كلمة أعرفها لا يقولها أحد في كرب إلا فرج عنه، وهي كلمة أخي يونس: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين '. وفي القصة: أن الحوت ألقاه في ساحل البحر: وأنبت الله له شجرة من يقطين، وقصة ذلك تأتي من بعد في سورة: ' والصافات '، فإن قيل: قوله: * (وكذلك ننجي المؤمنين) هو مكتوب في المصحف بنون واحدة فكيف جعلتم أصح القراءتين بنونين؟ والجواب عنه: أنه إنما كتب بنون واحد؛ لأن النون الأولى متحركة، والنون الثانية ساكنة، فخفيت الساكنة في جنب المتحركة، فحذفت، وقد ذكر الفراء وجها لقراءة عاصم، وهو أن معناه: نجى النجاء المؤمنين فخفض المؤمنين على إضمار المصدر.
قوله تعالى: * (وزكريا إذ نادى ربه) أي: دعا ربه.
وقوله: * (رب لا تذرني فردا) أي: وحيدا، ومعناه: هو ما ذكرنا من دعاء الولد.
وقوله: * (وأنت خير الوارثين).
قوله تعالى: * (فاستجبنا له) أي: فأجبناه.
وأما قوله: * (ووهبنا له يحيى) سمي يحيى، لأن رحمها حي بالولد.
وقوله: * (وأصلحنا له زوجه) فيه قولان: أحدهما - وهو المعروف - أنه كان عقيما فجعله ولودا، والآخر: ما روي عن عطاء أنه قال: معنى الإصلاح أنه كان في لسان امرأته طول، وفي خلقها سوء فأصلحها.
وقوله: * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) ينصرف إلى جميع الأنبياء الذين ذكرهم.
405

* (لنا خاشعين (90) والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين (91) إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92) وتقطعوا أمرهم) * * وقوله: * (يسارعون) أي: يبادرون.
وقوله: * (ويدعوننا رغبا ورهبا) أي: رغبا في الطاعات، ورهبا من المعاصي، (وقيل: رغبا في الجنة، ورهبا من النار). وقال خصيف: رغبا ببطون الأكف، ورهبا بظهورها.
وقوله: * (وكانوا لنا خاشعين) أي: متواضعين، وعن ابن عباس قال: هو أن يضع يمينه على شماله في الصلاة، يومىء ببصره إلى موضع السجود، وقال مجاهد: الخشوع هو الخوف اللازم في القلب، وعن الحسن قال: ذللا لأمر الله تعالى.
* (والتي أحصنت) أي: عفت * (فرجها)، وقيل: منعت من الحرام.
وقوله: * (فنفخنا فيها من روحنا) الأكثرون أن هذا جيب الدرع على ما بينا، وفيه قول آخر: أنه نفخ رحمها، وخلق الله المسيح في بطنها، وذكر روحنا تخصيصا
وكرامة للمسيح عليه السلام.
وقوله: * (وجعلنا وابنها آية للعالمين).
أي: دلالة للعالمين، فإن قيل: هما كانا آيتين، فهلا قال آيتين؟ والجواب: إنما قال: آية؛ لأن الآية فيهما كانت واحدة، وهي أنها أتت به من غير فحل، قال أهل العلم: وفيها آيات: أحدها: (أنه لم (تعتن) قبلها أنثى للتحرز)، والآخر: إتيانها بعيسى من غير أب، والثالث: مجيىء رزقها من عند الله من غير سبب من مخلوق، ويقال: إنها لم تقبل ثدي أحد سوى أمها.
قوله تعالى: * (إن هذه أمتكم أمة واحدة) أي: ملتكم ودينكم ملة واحدة،
406

* (بينهم كل إلينا راجعون (93) فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون (94) وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون (95) حتى إذا فتحت) * * والأمة في أصل اللغة: اسم للجماعة، وسمى الدين أمة؛ لأنه يبعث على الاجتماع.
وقوله: * (وأنا ربكم فاعبدون) أي: وحدوني، وحقيقة معنى الآية: أن الملة التي دعوتكم إليها هي ملة الأنبياء قبلكم، إذ دين الكل واحد، وهذا في التوحيد، فأما الشرائع يجوز اختلافها، ويقال: معنى الآية: أنكم خلق واحد وكونوا على دين واحد.
قوله تعالى: * (وتقطعوا أمرهم بينهم) أي: دعوت الخلق إلى دين واحد فتفرقوا، ويقال: صاروا قطعا متفرقين.
وقوله: * (كل إلينا راجعون) أي: من تفرق، ومن لم يتفرق.
قوله تعالى: * (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) أي: لا جحود لسعيه، وقيل: لا يخيب سعيه بل يجازى عليه.
وقوله: * (وإنا له كاتبون) أي: حافظون، ويقال: إن معنى الشكر من الله هو المجازاة.
قوله تعالى: * (وحرام على قرية) وقرئ: ' وحرم ' قال ابن عباس معنى قوله * (حرام) أي: واجب، قال الشاعر:
(وإن حراما لا أرى الدهر باكيا
* على (شجوة) إلا بكيت على (عمرو))
أي: واجبا، فمعنى الآية على هذا: أنه واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون إلى الدنيا، فإن قيل: كيف يوجب عليهم أن لا يرجعوا وليسوا بمحل الإيجاب ولا الإباحة [ولا] غيره؟.
407

* (يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون (96) واقترب الوعد الحق فإذا هي) * * والجواب: أن هذا على توسع الكلام، ومعناه: أنا نمنعهم من الرجوع، والتحريم في اللغة هو المنع.
والقول الثاني: أن ' لا ' صلة، قاله أبو عبيد، فمعناه: حرام على قرية أهلكناها أي: يرجعون، وقال الزجاج: قوله: * (وحرام على قرية) معناه: وحرام على أهل قرية * (أهلكناها)، أي: حكمنا بهلاكها أن يتقبل أعمالهم؛ ل * (أنهم لا يرجعون) أي: لا يتولون، قال والدليل على هذا المعنى أنه قد قال في الآية التي قبلها: * (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) أي: يتقبل عمله، ثم ذكر عقبه هذه الآية، وبين أن الكافر لا يتقبل عمله.
قوله تعالى: * (حتى إذا فتحت) قرىء بالتخفيف والتشديد، ومعنى التشديد على الجمع، ومعنى التخفيف على الوحدان.
وقوله: * (يأجوج ومأجوج) قد بينا، والفتح للسد الذي بيننا وبينهم، ويقال: إن الخلق عشرة أجزاء، تسعة أجزاء كلهم يأجوج ومأجوج، وجزء واحد هم سائر الخلق، ويقال: إن جزءا من ألف جزء سائر الخلق، والباقي هم يأجوج ومأجوج.
قوله: * (وهم من كل حدب ينسلون) الحدب: المكان المرتفع، فمعناه: يسرعون النزول من الآكام، وهو مكان مرتفع من القلاع، ونسلان الذئب: سرعة مشيه، قال الشاعر:
(نسلان الذنب أمسى باديا
* برد الليل عليه فينسل)
وقيل: من كل حدب أي: من كل جانب، فإن قيل: ما معنى * (حتى) في أول الآية؟ وأين جوابه:؟ والجواب عنه: قال بعضهم: معناه: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون اقترب الوعد الحق، والواو مقحمة، قال امرؤ القيس:
408

* (شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين (97) إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون (98) لو كان هؤلاء آلهة ما) * *
(فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
* بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل)
والواو في قوله: وانتحى مقحمة.
والثاني: أن معنى قوله: * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) قالوا * (يا ويلنا) ويقال: ظهر لهم صدق ما قلناه، وفي بعض الغرائب من
الأخبار برواية ابن مسعود: ' أن النبي ليلة أسري به اجتمع مع إبراهيم وموسى وعيسى - صلوات الله عليهم - فذكروا أمر الساعة، فبدءوا بإبراهيم وسألوه عنها، فقال: لا علم لي بها، ثم ذكروا لموسى فقال: لا علم لي بها، ثم ذكروا لعيسى فقال عيسى: إن الله تعالى عهد إلي أنها دون وحيها ولا يعلم وحيها، إلا الله، ثم قال عيسى: إن الله يهبطني إلى الأرض فأقتل الدجال '.
ورد الخبر ' أن يأجوج ومأجوج قد خرجوا فيغلبون على الأرض، ثم إن المسلمين يجأرون إلى الله، فيرسل الله النغف في رقابهم فيهلكون، وقد تنتن الأرض؛ فيرسل الله طيرا كأعناق البخت، فتأخذهم وتلقيهم في البحر '.
وعن أبي سعيد الخدري قال: إن الناس يحجون ويعتمرون بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم.
قوله تعالى: * (واقترب الوعد الحق) قد بينا.
وقوله: * (فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) أي: منزعجة.
409

* (وردوها وكل فيها خالدون (99) لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون (100)) * *
وقوله: * (يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) قرأ علي - رضي الله عنه - ' حطب جهنم '، وقرأ الجحدري: ' حصب جهنم '، وفي الشاذ أيضا: ' حضب جهنم ' بالضاد المعجمة متحركة، وأما المعروفة * (حصب جهنم) وهو ما يرمى به في النار، وأما قوله: * (وما تعبدون من دون الله)، ' روي أن النبي لما قرأ هذه الآية على الكفار، قال عبد الله بن الزبعري: خصمت محمدا ورب الكعبة، ثم قال: يا محمد، أتزعم أن ما يعبد من دون الله يدخلون النار؟ قال: نعم - والورود هاهنا: الدخول - قال عبد الله بن الزبعري: فعيسى وعزير والملائكة يعبدون من دون الله، أفهم معنا في النار؟ فأنزل الله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)، وأنزل الله أيضا في عبد الله بن الزبعري: * (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) ' يعني: أنهم قالوا ما قالوا خصومة ومجادلة بالباطل، وإلا قد عرفوا أن المراد هم الأصنام.
وزعم قطرب وجماعة من النحويين أن الآية ما تناولت إلا الأصنام من حيث العربية؛ لأن الله تعالى قال: * (وما تعبدون من دون الله) وهذا يقال فيما لا يعقل، فأما فيمن يعقل فيقال: ومن تبعدون من دون الله.
قوله تعالى: * (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) أي: ما دخلوها.
وقوله: * (وكل فيها خالدون) أي: مقيمون.
410

* (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101) لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون (102) لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون (103) يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا) * *
قوله تعالى: * (لهم فيها زفير) قد بينا معنى الزفير.
وقوله: * (وهم فيها لا يسمعون).
قال ابن مسعود: يجعلون في توابيت من نار، وقال بعضهم: والتوابيت في توابيت، فلا يسمعون ولا يبصرون شيئا، ويظن كل واحد أنه لا يعذب غيره؛ لئلا يكون له تسلى الأسوة، وهذا الخبر ليس من قول ابن مسعود.
قوله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) قد بينا.
ويقال: سبقت لهم منا السعادة، ويقال: وجبت لهم الجنة.
قوله: * (أولئك عنها مبعدون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (لا يسمعون حسيسها) أي: حسها.
وقوله: * (وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون) أي: مقيمون.
قوله تعالى: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) قال سعيد بن جبير: الفزع الأكبر هو أن تطبق جهنم، وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه، ويقال: الفزع الأكبر هو ذبح الموت، فيقال لهؤلاء: خلود ولا موت، ولهؤلاء: خلود ولا موت، وقيل الفزع الأكبر: الأمر بالجر إلى النار.
وقوله: * (وتتلقاهم الملائكة) أي: تستقبلهم الملائكة.
وقوله: * (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' يطوي الله السماء، ويأخذ الأرض بيمينه فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ '.
411

* (أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين (104) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن) * *
وقوله: * (كطي السجل للكتب) روي عن ابن إسحاق أن السجل كاتب للنبي، وهو قول غريب. والقول الثاني: أن السجل ملك، والقول الثالث - وهو أصح الأقوال
- أن السجل هو الصحيفة.
وقوله: * (للكتب) أي: لأجل ما كتب، فمعناه: كطي الصحيفة لأجل المكتوب.
وقوله: * (كما بدأنا أول خلق نعيده) أي: قدرتنا على إعادة الخلق كقدرتنا على إنشائه.
وقوله: * (إنا كنا فاعلين) أي: قادرين عليه، وقد ورد في هذه الآية خبر صحيح وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي قال: ' يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا '، وفي رواية: ' إنكم تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا ' ثم قرأ: * (كما بدأنا أول خلق نعيده)، وأول من يكسى إبراهيم - عليه السلام - ويجاء بقوم من أمتي فيؤمر بهم إلى النار، فأقول: يا رب، أصحابي، فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) وفي رواية ' أقول: سحقا لأهل النار '. قال الشيخ الإمام: أنا بهذا الحديث المكي بن عبد الرزاق، قال: أنا جدي أبو الهيثم، قال الفربري قال البخاري، قال محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير... الخبر.
قوله تعالى: * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) قال عامر بن شراحيل الشعبي أبو عمرو: الزبور زبور داود، والذكر هو التوراة، وقال سعيد بن جبير: الزبور
412

* (الأرض يرثها عبادي الصالحون (105) إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين (106) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)) * * هو التوراة والإنجيل، والذكر هو اللوح المحفوظ، ومعناه: من بعد ما كتب ذكره في اللوح المحفوظ.
وقوله: * (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قال ابن عباس: والأرض أرض الجنة. وعنه أيضا: أن الأرض هي أراضي الكفار، يفتحها الله للمسلمين، ويجعلها لهم، وقيل إن الأرض هي الأرض المقدسة.
قوله تعالى: * (إن في هذا لبلاغا) يجوز أن يكون قوله: * (في هذا) أي: في القرآن، ويجوز أن يكون معناه: في هذه السورة، وقوله: * (لبلاغا) أي: سببا يبلغهم إلى رضا الله، وقيل: بلاغا أي: كفاية.
وقوله: * (لقوم عابدين) قيل: عالمين، وقيل: مطيعين.
قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) من المشهور المعروف عن النبي أنه قال: ' إنما أنا رحمة مهداة ' أي: هدية من الله، ثم اختلفوا في العالمين على قولين: فأحد القولين: أنهم المسلمون، فهو رحمة للمسلمين، والقول الثاني: أنهم جميع الخلق، وهذا القول أشهر، وأما معنى رحمته للكافرين فهو تأخير العذاب عنهم، وقيل: هو رفع عذاب الاستئصال عنهم، وأما رحمته للمؤمنين فمعلومة.
413

* (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون (108) فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون (109) إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون (110) وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين (111) قال رب احكم بالحق) * *
قوله تعالى: * (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون) أي: أسلموا.
قوله: * (فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء) أي: لتستووا في الإيمان به، وأوضح الأقوال ما ذكره ابن قتيبة، وهو أن معناه: آذنتكم على وجه، نستوي نحن وأنتم في العلم به.
وقوله: * (وإن أدري أقريب أم بعيد) يعني: ما أدري أقريب أم بعيد * (ما توعدون)؟.
قوله تعالى: * (إنه يعلم الجهر من القول...) الآية؟. ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وإن أدري لعله فتنة لكم) اختلفوا في أن الهاء إلى ماذا ترجع في * (لعله) على قولين: أحدهما: أنه يرجع إلى قوله: * (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) يعني: إن هذا الذي أقول لعله فتنة لكم، والقول الثاني: أنه يرجع إلى ما ذكرنا من تأخير العذاب عنهم، وقوله: * (فتنة) أي: محنة واختبار.
وقوله: * (ومتاع إلى حين) أي: إلى القيامة، وقيل: إلى الموت.
قوله تعالى: * (قل رب احكم بالحق) وقرأ حفص عن عاصم: ' قال رب احكم بالحق ' على الخبر، والأول هو المختار؛ ولأن سواد المصحف متبع لا يجوز خلافه، فإن قيل: قوله: * (قل رب احكم بالحق) كيف يجوز هذا الدعاء، والله لا يحكم إلا بالحق؟ والجواب عنه: قلنا روي عن قتادة أنه قال: كان الأنبياء قبل محمد يقولون: ربنا افصل بيننا وبين قومنا بالحق، فأمر الله رسوله أن يقول: رب احكم بالحق، واختلفوا في معناه، قال بعضهم: رب احكم بالحق أي: عجل الحكم بالحق،
414

* (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون (112)) * * وقال أبو عبيد: رب احكم بحكمك الحق، والله يحكم بالحق طلب أو لم يطلب، ومعنى الطلب هو ظهور الرغبة من الطالب في حكمه بالحق، وهذا الأخير ليس من قول أبي عبيدة، وقال بعضهم: * (رب احكم بالحق) تعبد من الله، والله يحكم بالحق سئل أو لم يسأل، أورده النحاس.
وقوله: * (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) أي: تكذبون. ومثله قوله تعالى: * (سيجزيهم وصفهم) أي: سيجزيهم جزاء كذبهم، ويقال: على ما تصفون أي: تكذبون.
415

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم (1) يوم ترونها تذهل كل) * *
تفسير سورة الحج
قال ابن عباس في أظهر الروايتين: هي مكية إلا قوله تعالى: * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) وآيتين بعد هذه الآية، وقوله تعالى: * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا..) الآية، وعن ابن عباس في رواية أخرى: أن هذه السورة مدنية إلا آيات فيها نزلت بمكة.
قوله تعالى: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم) أي: احذروا عن عقوبته بطاعته، ويقال: اتقوا ربكم أي: اتقوا جميع المناهي: وفيها الشرك وغيره.
وقوله: * (إن زلزلة الساعة) الزلزلة شدة الحركة على حال هائلة، واختلف القول في هذه الزلزلة، فذكر علقمة والشعبي: أنها قبل يوم القيامة، وذكر ابن عباس الحسن وقتادة والسدي وغيرهم: أنها عند قيام الساعة، وهذه القول أصح القولين لما نذكره من الخبر من بعد.
وقوله: * (شيء عظيم) أي: أمر عظيم.
قوله تعالى: * (يوم ترونها) يعني: الساعة.
وقوله: * (تذهل) أي: تغفل وتشتغل، وفيه تسهو وتنسى، قال الشاعر في الذهول.
(أطالت بك الأيام حتى نسيتها
* كأنك عن يوم القيامة ذاهل)
وقال عبد الله بن رواحة بين يدي النبي:
416

* (مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد (2)) * *
(ضربا يزيل الهام عن مقيله
* ويذهل الخليل عن خليله)
وقوله: * (كل مرضعة عما أرضعت) يعني: كل أم عن ولدها.
وقوله: * (وتضع كل ذات حمل حملها). فإن قال قائل: كيف تضع المرأة حملها يوم القيامة؟ الجواب: قلنا: أما على قولنا إن الزلزلة قبل قيام الساعة، فمعنى وضع الحمل على ظاهره، وإن قلنا إن الزلزلة عند قيام الساعة، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن المراد من الآية النساء اللواتي متن وهن حبالى، والوجه الثاني، وهو الأصح: أن هذا على وجه تعظيم الأمر وذكر شدة الهول، لا على حقيقة وضع الحمل، والعرب تقول: أصابنا أمر يشيب فيه الوليد، وهذا على طريق عظم الأمر وشدته، وقد قال الله تعالى: * (يوما يجعل الوالدان شيبا) والمراد ما بينا.
وقوله: * (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) وقرئ: ' سكرى ' بغير الألف، والمعنى واحد، والذي عليه أهل التفسير: أن المراد من الآية سكرى من الفزع والخوف، وليسوا سكارى من الشراب وقالوا أيضا: في صورة السكارى، وليسوا بسكارى، والقول الأول أحسن؛ لأن الله تعالى قال: * (ولكن عذاب الله شديد).
وفي الآية خبر صحيح أورده البخاري وغيره، وهو ما رواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري أن النبي قرأها بين الآيتين ثم قال: ' إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى لآدم: قم يا آدم، فابعث من ذريتك بعث النار فيقول آدم: لبيك وسعديك، والخير في يديك، وما بعث النار؟ فيقول الله تعالى: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، [وواحد] إلى الجنة، فقال أصحاب رسول الله: وأينا ذلك الواحد؟ فقال النبي: ' سددوا وقاربوا وأبشروا، فإن معكم خليقتين ما كانتا مع قوم إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج وكفرة الجن والإنس من قبلكم '، وفي رواية
417

* (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد (3) كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير (4)) * * قال: ' تسعمائة وتسعة وتسعين من يأجوج ومأجوج، وواحد منكم، ثم قال: ' إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال: إني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال: إني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ما أنتم في ذلك اليوم بين الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض ' وفي رواية: ' ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، وكالرقمة في ذراع الدابة '. قال الشيخ الإمام: أخبرنا بهذا الحديث المكي بن عبد الرزاق، قال: أخبرنا جدي أبو الهيثم، قال الفربري، قال البخاري: قال عمر بن حفص بن غياث قال: أخبرنا أبي، عن الأعمش... الخبر.
قوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) الأكثرون على أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، وكان ينكر البعث ويجادل فيه، وعن سهل بن عبد الله في هذه الآية قال: هو من يجادل في آيات الله بالهوى، وعن غيره قال: هو الذي يرد النص بالقياس.
وقوله: * (ويتبع كل شيطان مريد) المريد المتمرد، والمتمرد هو المستمر في الشر، يقال: حائط ممرد أي: مطول، وقيل: المريد هو العاري عن الخير، يقال صبي أمرد إذا كان عاريا خده من الشعر.
وقوله: * (كتب عليه) أي: على الشيطان.
وقوله: * (أنه من تولاه فإنه يضله) أي: كتب على الشيطان أن يضل من تولاه.
وقوله: * (ويهديه إلى عذاب السعير) أي: إلى عذاب جهنم.
418

* (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة) * *
قوله تعالى: * (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث) ذكر الله تعالى في هذه الآية الدلالة على منكري البعث، والخطاب للمشركين.
وقوله: * (إن كنتم في ريب من البعث) أي: في شك من البعث.
وقوله: * (فإنا خلقناكم من تراب) ذكر التراب هاهنا؛ لأن آدم خلق من تراب، وهو الأصل.
وقوله: * (ثم من نطفة) النطفة هي الماء النازل من الصلب.
وقوله: * (ثم من علقة) العلقة هي الدم المتجمد، وقيل: المنعقد.
وقوله: * (ثم من مضغة) المضغة هي قطعة لحم كأنها مضغت.
وقوله: * (مخلقة وغير مخلقة). قال ابن عباس * (مخلقة) تام الخلق * (وغير مخلقة) ناقص الخلق، والقول الثاني: أن المخلقة هو الولد الذي تأتي به المرأة لوقته، وغير المخلقة هو السقط، وفي هذا الموضع أخبار: منها ما روى علقمة عن ابن مسعود أنه إذا استقرت النطفة في الرحم أخذها الملك بيده فيقول: أي رب، مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة قذفها الرحم دما، ولم تخلق منها نسمة، وإن قال: مخلقة، قال الملك: أشقي أو سعيد؟ أذكر أو أنثى؟ ما رزقه؟ ما عمله؟ ما أجله؟ وأين الموضع الذي يقبض فيه؟ فيقول الله تعالى له: اذهب إلى أم الكتاب ففيه كل ذلك، فيذهب إلى أم الكتاب فيجد فيه أنه شقي أو سعيد، ذكر أو أنثى، فيكتب ذلك، فيسعى الرجل في عمله، ويأكل رزقه، ويمضي في أجله حتى يتوفاه الله تعالى في المكان الذي قدر أين يقبض فيه.
وقد ورد خبران صحيحان عن النبي في هذا، أحدهما ما روى الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: أخبرني الصادق المصدوق أبو القاسم: أن خلق أحدكم يجمع في رحم أمه أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة،
419

* (لنبين لكم) * * ثم أربعين يوما مضغة، ثم يؤمر الملك بأربع كلمات؛ فيكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح '. والخبر متفق على صحته.
والخبر الثاني: هو ما روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي الطفيل قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. قال أبو الطفيل: فقلت ثكلتني! أنشقى ولم نعمل؟ فأتيت حذيفة بن أسيد، فذكرت له قول ابن مسعود، فقال: ألا أخبرك بأعجب من هذا، سمعت رسول الله يقول: ' إذا مكثت النطفة في رحم الأم أربعين يوما - أو خمسة وأربعين - جاء الملك فيقول: يا رب، أذكر أو أنثى؟ فيقول الرب، ويكتب الملك، فيقول: أشقي أو سعيد؟ فيقول الرب، ويكتب الملك، فيقول: ما رزقه، ما عمله، ما أجله، ما أثره، ما مصيبته؟ فيقضي الله ما شاء، ويكتب الملك، ثم يطوي الصحيفة، فلا يزاد ولا ينقص إلى يوم القيامة ' قال الشيخ الإمام أخبرنا بهذا الحديث أبو علي الشافعي بمكة حرسها الله تعالى، قال: أبو الحسن بن [فراس] قال: أخبرنا أبو جعفر الديبلي قال سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قال سفيان... الخبر. أخرجه مسلم في الصحيح.
وأنشدوا في المخلقة:
(أفي غير المخلقة البكاء
* فأين العزم ويحكم والحياء)
وقوله: * (لنبين لكم) أي: نبين لكم أمر الخلق في الابتداء؛ لتستدلوا (بقدرة
420

* (ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) * * الله) في الابتداء على قدرته على الإعادة.
وقوله: * (ونقر في الأرحام ما نشاء) أي: نثبت في الأرحام ما نشاء * (إلى أجل مسمى) أي: إلى وقت الولادة:
وقوله: * (ثم نخرجكم طفلا) أي: أطفالا، واحد بمعنى الجمع.
وقوله: * (ثم لتبلغوا أشدكم) قد بينا معنى الأشد.
وقوله: * (ومنكم من يتوفى) وحكى أبو حاتم أن في قراءة بعضهم: ' ومنكم من يتوفى ' بفتح الياء، ومعناه يستوفى أجله، والمعروف * (يتوفى) بالرفع يعني: يتوفى قبل بلوغ الكبر.
وقوله: * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) أي: إلى أخس العمر، والمراد منه حالة الخرف والهرم، قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يخرف.
وقوله: * (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) أي: لا يعقل من عبد عقله شيئا.
وقوله: * (وترى الأرض هامدة) وهذا ذكر دليل آخر على إحياء الموت.
وقوله: * (هامدة) أي: جافة يابسة لا نبات فيها، وقال قتادة: (هامدة) غبراء منهشمة، وقيل: هامدة: دارسة، قال الشاعر:
(قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا
* وأرى ثيابك باليات همدا)
وقال آخر:
(رمى الحدثان نسوة آل حرب
* بنازلة همدن لها همودا)
(فرد شعورهن السود بيضا
* ورد وجوههن البيض سودا)
421

* (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5) ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير) * *
وقوله: * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت) أي: تحركت، قال الشاعر:
(تثنى إذا قامت وتهتز إن ما مشت
* كما اهتز غصن البان في (ورق) خضر)
وقوله: * (وربت) أي: انتفخت للنبات، وقيل: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه: وربت واهتزت، ويقال اهتزت أي: النبات، وربت أي: ارتفع، وإنما أنث لذكر الأرض، وقرأ أبو جعفر: ' وربأت ' بالهمز، وهو في معنى الأول.
وقوله: * (وأنبتت من كل زوج بهيج) أي: صنف حسن، فهذا أيضا دليل على إعادة الخلق، وفي بعض ما ينقل عن السلف: إذا رأيتم الربيع فاذكروا والنشور.
وقوله: * (ذلك بأن الله هو الحق) يعني: هذا الذي ذكرته لكم [دليل] بأن الله هو الحق.
وقوله: * (وأنه يحيى الموتى) يعني: هو دليل على أنه يحيي الموتى.
وقوله: * (وأنه على كل شيء قدير) أي: لما قدر على ابتداء الخلق، وعلى إحياء الأرض الميتة، فاعلم أنه على كل شيء قدير، وفي بعض الأخبار عن النبي: ' من جاء يوم القيامة (بثلاث) لم يصد وجهه عن الجنة شيء، من علم أن الله وحده لا شريك له، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور '.
422

(* (6) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور (7) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (8) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق (9) ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد (10) ومن الناس من يعبد الله على حرف) * *
وقوله: * (وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) قد بينا.
قوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى) أي: ولا حجة.
وقوله: * (ولا كتاب منير) أي: ولا كتاب له نور، وفي بعض الأخبار: أن النبي قال: ' إن على الباطل ظلمة، وإن على الحق نورا '.
وعن بعضهم قال: ما عز ذو باطل، وإن طلع من جيبه القمر، وما ذل ذو حق، وإن أصفق العالم.
واعلم أن الآية نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة، ومجادلته إنكاره البعث وضربه لذلك الأمثال.
وقوله: * (ثاني عطفه) أي: لاوى عنقه، وقال ابن جريج: يعرض عن الحق تكبرا.
وقوله: * (ليضل عن سبيل الله) أي: ليضل الناس عن دين الله.
وقوله: * (له في الدنيا خزي) أي: هوان، وقد قتل النضر يوم بدر صبرا، ولم يقتل صبرا غيره وغير عقبة بن أبي معيط.
وقوله: * (ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) أي: المحرق.
وقوله: * (ذلك بما قدمت يداك...) الآية، ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ومن الناس من يعبد الله على حرف) قال مجاهد: على شك، وقال الزجاج: على حرف أي: الطريقة في الدين، لا يدخل فيها دخول متمكن، ولا يدخل بكليته فيه، ويقال: ومن الناس من يعبد الله على حرف أي: على ضعف، كالقائم على حرف الشيء يكون قدمه ضعيفا غير مستقر، ومنهم من قال: على
423

* (فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين (11) يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك) * * حرف أي: على جهة، ثم فسر الجهة فقال: * (فإن أصابه خير اطمأن به) أي: ثبت على الإيمان، ورضي به، وسكن إليه.
وقوله: * (وإن أصابته فتنة) أي: محنة وبلية.
وقوله: * (انقلب على وجهه) أي: رجع على عقبه وارتد.
وقوله: * (خسر الدنيا والآخرة) الخسران في الدنيا فوات ما أمل وطلب، والخسران في الآخرة هو الخلود في النار، ويقال: الخسران في الدنيا هو القتل على الكفر، والخسران في الآخرة ما بينا، وقرأ مجاهد: ' خاسر الدنيا والآخرة '.
وقوله: * (ذلك هو الخسران المبين) أي: البين.
قال أهل التفسير: نزلت الآية في قوم من المشركين كان يؤمن أحدهم، فإن كثر ماله، وصح جسمه، ونتجت فرسه، قال: هذا دين حسن، وقد أصبت فيه خيرا، وسكن إليه، وإن أصابه مرض أو مات ولده، أو قل ماله، قال: ما أصابني من هذا الدين إلا شر فيرجع.
وفي بعض الأخبار: ' أن رجلا من اليهود أسلم فعمي بصره، وهلك ماله، ومات ولده، فأتى النبي وقال: يا رسول الله، أقلني، فقال: إن الإسلام لا يقال، فقال: منذ دخلت في هذا الدين لم أصب إلا شرا؛ أصابني كذا وكذا، فقال النبي: ' إن الإسلام ليسبك الرجل، كما تسبك النار خبث الذهب والفضة والحديد '. والخبر غريب.
قوله تعالى: * (يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه) أي: لا يضر إن لم
424

* (هو الضلال البعيد (12) يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير (13) * * يعبده، ولا ينفعه إن عبده.
وقوله تعالى: * (ذلك هو الضلال البعيد) أي: الضلال المستمر.
قوله تعالى: * (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) هذه الآية من مشكلات القرآن، وفيها أسئلة: أولها قال: قالوا في الآية الأولى: * (ما لا يضره) وقال هاهنا: * (لمن ضره).
(فكيف وجه التوفيق؟ الجواب عنه: أن معنى قوله: * (يدعو لمن ضره)).
أي: لمن ضر عبادته، وقوله في الآية الأولى: * (ما لا يضره) أي: (لا يضر) إن ترك عبادته على ما بينا.
السؤال الثاني: قالوا: قال في هذه الآية: * (أقرب من نفعه) والجواب: أن هذا على عادة العرب، وهم يقولون مثل هذا اللفظ، ويريدون أنه لا نفع له أصلا، وهذا مثل قوله تعالى: * (ذلك رجع بعيد) أي: لا رجع أصلا.
السؤال الثالث: وهو المشكل أنه قال: * (لمن ضره) فأيش هذا الكلام؟ الجواب: أنه اختلف أهل النحو في هذا، فأكثر النحويين ذهبوا إلى أن هذا على التقديم والتأخير ومعناه: يدعو من بضره أقرب من نفعه، وأما المبرد أنكر هذا وقال: لا يجوز هذا في اللغة، والجواب عن السؤال على هذا: قال بعضهم: معنى * (يدعو): يقول.
قال الشاعر:
(يدعون [عنترا] (والسيوف) كأنها
* أشطان بئر في لبان الأدهم)
يعني: يقولون. فعلى هذا معنى الآية: يدعو أي: يقول لمن ضره أقرب من نفعه:
425

* (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد (14) من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد) * * هو إله أو مولى، ومنهم من قال: يدعو لمن ضره يعني: إلى الذي ضره أقرب من نفعه، ومنهم من قال معناه: ذلك هو الضلال البعيد يدعو أي: في حال دعائه ثم استأنف فقال: * (لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير)، ومنهم من قال: ذلك هو الضلال البعيد يدعو يعني: الذي هو الضلال البعيد يدعو، وذلك بمعنى ' الذي '، ثم استأنف قوله: * (لمن ضره أقرب من نفعه) اختاره الزجاج. وقال ابن فارس حين حكى أكثر هذه الأقاويل: ونكل الآية إلى عالمها.
وقوله: * (لبئس المولى) أي: الناصر، وقيل: المعبود.
وقوله: * (ولبئس العشير) أي: المخالط والصاحب، والعرب تسمى الزوج: عشيرا؛ لأجل المخالطة.
قال النبي: ' إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير ' أي: الزوج.
قوله تعالى: * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات...) الآية إلى آخرها ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (من كان يظن أن لن ينصره الله) قال ابن عباس: معناه من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا.
وروي عنه أنه قال: لما دعا رسول الله أسدا وغطفان إلى الإسلام - وكان بينهم وبين أهل الكتاب حلف - فقالوا: لا يمكننا أن نسلم ونقطع الحلف؛ لأن محمدا ربما لا يظهر ولا يغلب؛ فينقطع الحلف بيننا وبين أهل الكتاب فلا يميروننا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والقول الثاني: من كان يظن أن لن ينصره الله، أي: لن يرزقه الله، وهذا فيمن
426

* (بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ (15) وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد (16) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن) * * أساء الظن بربه، وخاف أن لا يرزقه.
قال أبو عبيدة: تقول العرب: أرض منصورة أي: ممطورة، وعن بعض الأعراب أنه سأل وقال: انصرني ينصرك الله أي: أعطني أعطاك الله.
وقوله: * (في الدنيا والآخرة) ظاهر المعنى.
وقوله: * (فليمدد بسبب إلى السماء) المراد من السماء: سماء بيته في قول جميع المفسرين، وهو السقف.
والسبب: الحبل، ومعناه: فليمدد حبلا من سقف بيته * (ثم ليقطع) أي: ليختنق به.
وقوله: * (فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) أي: هل له حيلة فيما يغيظه ليدفع عن نفسه؟ ويقال: ثم لينظر هل ينفعه ما فعله؟.
قال أهل المعاني: وهو مثل قوله القائل: إن لم ترض بكذا فمت غيظا.
قوله تعالى: * (وكذلك أنزلناه آيات بينات...) الآية. ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا) قد بينا هذا في سورة البقرة.
وقوله: * (إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) فإن قيل: ما معنى إعادة ' إن ' في آخر الآية، وقد ذكرها في أول الآية؟ والجواب: أن العرب تقول مثل هذا للتأكيد. قال الشاعر:
(إن الخليفة إن الله سربله
* سربال ملك به ترجى الخواتيم)
وقوله: * (إن الله على كل شيء شهيد) أي: شاهد.
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض) الآية، قال الزجاج: السجود هاهنا بمعنى الطاعة أي: يطيعه، واستحسنوا هذا القول؛ لأنه موافق للكتاب، وهو قوله تعالى: * (ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) وأيضا
427

* (الله على كل شيء شهيد (17) ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء (18)) * * فإن من اعتقاد أهل السنة أن الحيوان والموات مطيع كله لله تعالى، وقال بعضهم: إن سجود الحجارة هو بظهور أثر الصنع فيه، على معنى أنه يحمل على السجود والخضوع لمن تأمله وتدبر فيه، وهذا قول فاسد، والصحيح ما قدمنا، والدليل عليه أن الله تعالى وصف الحجارة بالخشية، فقال: * (وإن منها لما يهبط من خشية الله) ولا يستقيم حمل الخشية على ظهور أثر القدرة فيه، وأيضا فإن الله تعالى قال: * (يا جبال أوبي معه) أي: سبحي معه، ولو كان المراد ظهور أثر الصنع لم يكن لقوله: * (مع داود) معنى؛ لأن داود وغيره في رؤية أثر الصنع سواء، وأيضا فإن الله تعالى قال: * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) أي: يطيع الله بتسبيحه * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) ولو كان المراد بالتسبيح ظهور أثر الصنع فيه لم يستقم قوله: * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) ذكر هذه الدلائل أبو إسحاق الزجاج إبراهيم بن السري، وأثنى عليه ابن فارس فقال: ذب عن الدين ونصر السنة.
وقوله: * (والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب) أي: هذه الأشياء (كلها تسبح الله تعالى).
وقوله: * (وكثير من الناس) أي: المسلمون.
وقوله: * (وكثير حق عليه العذاب) هم الكافرون، وإنما حق عليهم العذاب هاهنا بترك السجود، ومعنى الآية: وكثير من الناس أبو السجود فحق عليهم العذاب.
وقوله: * (ومن يهن الله فما له من مكرم) أي: ومن يشقي الله فما له من مسعد، وقال بعضهم: ومن يهن الله: ومن يذله الله، فما له من إكرام أي: لا يكرمه أحد.
428

* (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من) * *
وقوله: * (إن الله يفعل ما يشاء) أي: يكرم ويهين، ويشقي ويسعد، بمشيئته وإرادته، وهو اعتقاد أهل السنة.
قوله تعالى: * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) في الآية أقوال: أحدها: أنها نزلت في أهل الكتاب (والمسلمين، قال أهل الكتاب): ديننا خير من دينكم، ونحن أحق بالله منكم؛ لأن نبينا وكتابنا أقدم، وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، وديننا خير من دينكم؛ لأن كتابنا قاض على الكتب؛ ولأن نبينا خاتم النبيين، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول قتادة وجماعة.
والثاني: ما روي عن محمد بن سيرن أنه قال: نزلت الآية في الذين بارزوا يوم بدر من المسلمين والمشركين، فالمسلمون هم: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، والمشركون هم: شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فالآية نزلت في هؤلاء الستة، وكان أبو ذر يقسم بالله أن الآية نزلت في هؤلاء، ذكره البخاري في الصحيح.
والقول الثالث: أن الآية نزلت في جملة المسلمين والمشركين.
والقول الرابع: أنها نزلت في الجنة والنار اختصمتا، فقالت الجنة: خلقني الله؛ ليرحم بي، وقالت النار: خلقني الله؛ لينتقم بي، وهذا قول عكرمة، والمعروف القولان الأولان. قال ابن عباس: ذكر الله تعالى ستة أجناس في قوله: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا...) الآية وجعل خمسة في النار وواحد للجنة فقوله: * (هذان خصمان) ينصرف إليهم، فالمؤمنون خصم، وسائر الخمسة خصم.
وقوله: * (اختصموا في ربهم) أي: جادلوا في ربهم.
وقوله: * (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار) أي: نحاس مذاب، ويقال:
429

* (فوق رؤوسهم الحميم (19) يصهر به ما في بطونهم والجلود (20) ولهم مقامع من حديد (21) كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب) * * سمى النار التي يعذبون بها لباسا؛ لأنها تحيط بهم كإحاطة اللباس، وقال بعضهم: يلبس أهل النار مقطعات من النار، وهذا أولى الأقاويل.
وقوله: * (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) وهو الماء الذي انتهت حرارته، وفي التفسير: أن قطرة منه لو وضعت على جبال الدنيا لأذابتها.
وقوله: * (يصهر به) أي: يذاب به، وفي الأخبار: أنه يثقب رأس الكافر، ويصب على دماغه الحميم، فيصل إلى جوفه، فتسليه جميع ما في جوفه.
وقوله: * (والجلود) أي: ويذيب الجلود وينضجها.
وقوله: * (ولهم مقامع من حديد) المقمعة هي المرزبة من حديد، ويقال: هي الحرز من حديد، وقيل: إن مقمعة منها لو وضعت في الدنيا، واجتمع الإنس والجن عليها لم يقلوها.
وقوله: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم) أي: رجوا وفي التفسير: أن النار تجيش بهم، فترفعهم إلى أعلاها، فيريدون الخروج، فيضربهم الزبانية بالمقامع من الحديد، فيهوون فيها سبعين خريفا.
وقوله: * (وذوقوا عذاب الحريق) أي: تقول لهم الملائكة: ذوقوا عذاب الحريق.
قوله تعالى: * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) ظاهر المعنى.
وقوله: * (يحلون فيها من أساور من ذهب) الأساور جمع السوار.
وقوله: * (من ذهب) معلوم المعنى.
وقوله: * (ولؤلؤ) أي: ومن لؤلؤ.
430

* (الحريق (22) إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (23) وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد (24) إن الذين كفروا) * *
وقرئ: ' لؤلؤا ' أي: يحلون لؤلؤا.
وقوله: * (ولباسهم فيها حرير) أي: من الديباج، وروى شعبة عن خليفة بن كعب، عن ابن الزبير قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله ' من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، (ومن لم يلبسه في الآخرة)، لا يدخل الجنة؛ لأن الله تعالى قال: * (ولباسهم فيها حرير) '.
وفي بعض الأخبار: ' ولو دخل الجنة لم يلبسه في الجنة '.
وقوله: * (وهدوا إلى الطيب من القول) قال ابن عباس: هو شهادة أن لا إله إلا الله، ويقال هو: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقيل: هو قول أهل الجنة: * (الحمد لله الذي صدقنا وعده) وعن قطرب: أنه القرآن، ويقال: هو الأمر بالمعروف، وقيل: هو القول الذي يثنى به الخلق، ويثيب عليه الخالق.
وقوله: * (وهدوا إلى صراط الحميد) أي: صراط الله، وصراط الله هو الإسلام، ويقال: إلى المنازل الرفيعة.
قوله تعالى: * (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) (تقدير الآية: إن الكافرين والصادين عن سبيل الله، وقال بعضهم معناه: إن الذين كفروا فيما تقدم
431

* (ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم (25)) * * ويصدون عن سبيل الله) في الحال.
وقوله: * (والمسجد الحرام) أي: يصدون عن المسجد الحرام.
وقوله: * (الذي جعلناه للناس) أي: جعلناه للناس قبلة لصلاتهم، ومنسكا لحجهم.
وقوله: * (سواء العاكف فيه والبادي) وقرئ: ' سواء العاكف فيه والباد ' بالنصب والتنوين، فقوله: * (سواء) بالرفع معلوم المعنى، وقوله: * (سواء) بالنصب أي: سويتهم سواء، وقوله: * (العاكف فيه والبادي) المقيم فيه، والجائي.
واختلفوا أن المراد من هذا هو جميع الحرم أو المسجد الحرام؟ فأحد القولين: أن المراد منه هو مسجد الحرام، وهذا قول الحسن وجماعة، ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة، وفضل فيه، وفضل الطواف وسائر العبادات وثوابها، والقول الثاني: أن المراد من الآية جميع الحرم، ومعنى التسوية: أن المقيم بمكة والجائي من مكة سواء في النزول، فكل من وجد مكانا فارغا ينزل، إلا أنه لا يزعج أحدا، وهذا قول مجاهد وعمر بن عبد العزيز وعطاء وجماعة من التابعين، وكان عمر - رضي الله عنه - ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في زمان الموسم، وفي رواية: منعهم أن يتخذوا الأبواب فاتخذ رجل بابا فضربه بالدرة، وفي الخبر: أن دور مكة كانت تدعى السوائب، من شاء سكن، ومن استغنى أسكن، وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها، وعلى القول الأول يجوز.
وقوله: * (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) (فيه قولان: أحدهما: أن الباء زائدة، ومعناه: ومن يرد فيه إلحادا بظلم) قال الشاعر:
([نحن بني جعدة أصحاب الفلج
* نضرب بالسيف ونرجو بالفرج])
432

* (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين) * *
أي: تدعو الفرح، وهذا قول الفراء ونحاة الكوفة، وأما المبرد أنكر أن تكون الباء زائدة وقال معنى الآية: من يكون إرادته فيه بأن يلحد بظلم، قال الشاعر:
(أريد لأنسى ذكرها فكأنما
* تمثل لي ليلى بكل سبيل)
ومعناه: أراد في أن أنسى.
وقوله: * (نذقه من عذاب أليم) أي: يوصل إليه العذاب الأليم، وأما الإلحاد فهو الميل، يقال: لحد وألحد بمعنى واحد، ومنهم من قال: ألحد إذا جادل، ولحد إذا عدل عن الحق، وأما معنى الإلحاد ها هنا، قال بعضهم: هو الشرك، وقال بعضهم: هو كل سيئة حتى شتم الرجل غلامه، وقال عطاء: الإلحاد في الحرم هو أن يدخل غير محرم، أو يرتكب محظور الحرم بأن يقتل صيدا، أو يقلع شجرة. فإن قال قائل: أيش معنى تخصيص الحرم بهذا كله؛ وكل من عمل سيئة، وإن كان خارج الحرم استحق العقوبة؟. والجواب: ما روي عن ابن مسعود أنه قال: من هم بخطيئة في غير الحرم لم تكتب عليه، ومن هم بخطيئة في الحرم كتب عليه، وعنه أنه قال: وإن كان بعدن أبين، ومعناه: أنه وإن كان بعيدا من الحرم فإذا هم بخطيئة في الحرم أخذ به، وهذا معنى الإرادة المذكورة في الآية.
قوله تعالى: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي: بينا وأعلمنا، وإنما ذكر * (مكان البيت)؛ لأن الكعبة رفعت إلى السماء من الطوفان، ثم إن الله تعالى لما أمر إبراهيم ببناء البيت، بعث ريحا خجوجا فكنس موضع البيت حتى أبدى عن موضع البناء. وفي رواية أخرى: أن الله تعالى بعث سحابة بقدر البيت فيها رأس تكلم فقال: يا إبراهيم، ابن بقدري، فهذا معنى قوله: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت).
وقوله: * (ألا تشرك بي شيئا) يعني: وقلنا له: لا تشرك بي شيئا.
433

* (والركع السجود (26) وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) * *
وقوله: * (وطهر بيتي للطائفين) أي: الطائفين بالبيت.
وقوله: * (والقائمين) أي المقيمين. * (والركع السجود) أي: المصلين.
وقوله: * (وطهر بيتي) أي: ابن بيتي طاهرا.
قوله تعالى: * (وأذن في الناس بالحج) وقرأ ابن أبي إسحاق: ' بالحج ' بخفض الحاء، وكذلك في جميع القرآن، وفي القصة: أن إبراهيم - عليه السلام - صعد المقام، فارتفع المقام حتى صار كأطول جبل في الدنيا، وفي رواية: صعد أبا قبيس ثم نادى: يا أيها الناس، إن الله تعالى كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم، فأجابه كل من يحج من أرحام الأمهات وأصلاب الآباء، قال ابن عباس: وأول من أجابه أهل اليمن، فهم أكثر الناس حجا، فالناس يأتون ويقولون: لبيك اللهم لبيك، فهو إجابة إبراهيم، وروي أن إبراهيم - صلوات الله عليه - لما أمره الله تعالى بدعاء الناس قال: يا رب، كيف يبلغهم صوتي؟ قال: عليك الدعاء وعلي التبليغ.
وقوله: * (يأتوك رجالا) أي: رجالة، وهم المشاة، وفي بعض الأخبار: أن آدم - صلوات الله عليه - حج أربعين حجة ماشيا.
وقوله: * (وعلى كل ضامر) أي: وعلى كل بعير ضامر، والضامر هو المهزول، قال ابن عباس: ما أتأسف على شيء، تأسفي أني لم أحج ماشيا؛ لأن الله تعالى قدم المشاة على الركبان.
وقوله: * (يأتين من كل فج عميق) أي: من كل طريق بعيد.
وقوله: * (ليشهدوا منافع لهم) قال أبو جعفر محمد بن علي: هي المغفرة، وقال غيره: منافع لهم أي: التجارة، والقول الأول أحسن، ويقال: منافع الدنيا والآخرة.
وقوله: * (ويذكروا اسم الله عليه في أيام معلومات) قال ابن عباس: الأيام
434

* (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (28) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (29)) * * المعلومات هي العشر، وقال علي وابن عمر: هي يوم النحر وثلاثة أيام بعده.
وقوله: * (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) أي: إذا ذبحوها.
وقوله: * (فكلوا منها) هذا أمر إباحة، وليس بأمر إيجاب، وقال بعضهم: هو أمر (ندب)، ويستحب أن يأكل منها.
وقوله: * (وأطعموا البائس الفقير) البائس هو الذي اشتد بؤسه، والبؤس: العدم، وقيل: البائس هو الذي به زمانه، والفقر معلوم المعنى.
قوله تعالى: * (ثم ليقضوا تفثهم) التفث ها هنا هو حلق الرأس، وقلم الظفر ونتف الإبط وإزالة الوسخ، وقيل: إن التفث ها هنا رمي الجمار، وقال الزجاج: ولا يعرف التفث ومعناه إلا من القرآن، فأما قطرب حكاه عن أهل اللغة بمعنى الوسخ.
وقوله: * (وليوفوا نذورهم) فيه قولان: أحدهما: أنه الوفاء بما نذره على ظاهره، والقول الآخر: أن معناه الخروج عما وجب عليه نذرا ولم ينذر، والعرب تقول لكل من خرج عن الواجب عليه: وفى بنذره.
وقوله: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) هذا الطواف هو طواف الإفاضة، وعليه أكثر أهل التفسير.
وقوله: * (بالبيت العتيق) في العتيق قولان: أحدهما: أن الله تعالى أعتقه عن أيدي الجبابرة، فلم يتسلط عليه جبار، والثاني: * (العتيق) أي: القديم، وهو قول الحسن، وفي العتيق قول ثالث: وهو أن معنى * (العتيق) أن الله تعالى أعتقه عن الغرق أيام الطوفان، وهذا قول معتمد يدل عليه قوله تعالى: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) فلما قال: * (مكان البيت) دل أن البيت رفع أيام الطوفان.
435

* (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور (30)) * *
قوله تعالى: * (ذلك ومن يعظم حرمات الله) قال مجاهد: حرمات الله الحج والعمرة، وقال عطاء: حرمات الله ما نهى عنه، والحرمة كل ما نهى عن انتهاكها، قال زيد بن أسلم: حرمات الله ها هنا خمسة: البيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والإحرام، وقال بعضهم: تعظيم حرمات الله أن يفعل الطاعة، ويأمر بها، ويترك المعصية، وينهى عنها.
وقوله: * (فهو خير له عند ربه). معناه: أن تعظيم الحرمات خير له عند الله في الآخرة.
وقوله: * (وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم) ما يتلى عليكم هو قول الله تعالى في سورة المائدة: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير...) الآية.
وقوله: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) ' من ' ها هنا للتجنيس، ومعناه: اجتنبوا الأوثان التي هي رجس، ويقال: إن الرجس والرجز هو العذاب، ومعنى قوله: * (فاجتنبوا الرجس) أي: اجتنبوا سبب العذاب.
وقوله: * (واجتنبوا قول الزور) أي: الكذب، قال عبد الله بن مسعود: أشهد لقد عدلت شهادة الزور بالشرك، وتلا هذه الآية: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور).
وروي هذا اللفظ مرفوعا إلى النبي.
436

* (حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق (31) ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى) * *
وفي الآية قول آخر: وهو أن قول الزور هو الشرك، والقول الثالث: أن قول الزور هو تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
وقوله: * (حنفاء لله غير مشركين به). قال أهل التفسير: كانت قريش يقولون: من حج واحتنف وضحى، فهو حنيف، فقال الله تعالى: * (حنفاء لله غير مشركين به) يعني أن (الحنيفة) إنما يتم بترك الشرك، ومن أشرك لا يكون حنيفا، وقد بينا معنى الحنيف من قبل.
وقوله: * (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء) أي: سقط من السماء، وفي بعض الأخبار عن بعض الصحابة أنه قال: ' بايعت رسول الله أن لا أخر إلا مسلما ' أي: لا أسقط ميتا إلا مسلما.
وقوله: * (فتخطفه الطير) أي: تسلبه الطير وتذهب به.
وقوله: * (أو تهوي به الريح في مكان سحيق). أي: تسقط به الريح في مكان بعيد، ومعنى الآية: أن من أشرك فقد هلك، وبعد عن الحق بعدا لا يصل إليه بحال ما دام مشركا.
قوله تعالى: * (ذلك ومن يعظم شعائر الله) في الشعائر قولان: قال ابن عباس: هي البدن، وتعظيمها استسمانها واستحسانها، وعن عطاء: أن شعائر الله هي الجمار، وعن [زيد] بن أسلم قال: شعائر الله: الصفا والمروة، والركن، والبيت،
437

* (القلوب (32) لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق (33) ولكل أمة جعلنا منسكا) * * وعرفة، والمشعر الحرام، والجمار، وقال بعضهم: شعائر الله: معالم دينه.
وقوله: * (فإنها من تقوى القلوب) أي: هذه الفعلة، وهي التعظيم من تقوى القلوب.
وقوله: * (لكم فيها منافع) قال عروة بن الزبير: يعني المنافع من البدن قبل النحر، وذلك ركوبها والشرب من لبنها، وغير ذلك، وقال مجاهد: المنافع التي فيها قبل أن يسمى للهدي، فإذا سميت للهدي فلا ينتفع بها، وهذا قول ابن عباس وطائفة من الصحابة، والقول الأول اختاره الشافعي - رحمة الله عليه - استدلوا (على صحة القول) الأول بما روي: أن النبي رأى رجلا يسوق بدنة، فسأله عنها فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها ويلك.
وقوله: * (إلى أجل مسمى) على القول الأول: الأجل المسمى هو النحر، وعلى القول الثاني: الأجل المسمى تسميتها بدنة، وأما إذا حملنا الشعائر على غير البدن فقوله: * (لكم فيها [منافع]) ينصرف إلى ما ذكر الله تعالى من الثواب في تعظيم الشعائر التي ذكرناها.
وقوله: * (ثم محلها إلى البيت العتيق) المحل ها هنا هو وقت النحر ومكانه.
وقوله: * (إلى البيت العتيق) قد بينا.
قوله تعالى: * (ولكل أمة جعلنا منسكا) قال ابن عباس: عيدا، وقال غيره:
438

* (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين (34) الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (35) والبدن جعلناها لكم من) * * مذبحا، ويقال: متعبدا.
وقوله: * (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) يعني: ليذكروا اسم الله تعالى على نحر ما رزقهم الله من بهيمة الأنعام.
وقوله: * (فإلهكم إله واحد) يعني: سموا على الذبائح اسم الله تعالى وحده، فإن إلهكم إله واحد.
وقوله: * (فله أسلموا) أي: فله أخلصوا.
وقوله: * (وبشر المخبتين) فيه أقوال: أحدها: أنه بمعنى المتواضعين، وقال إبراهيم النخعي: بمعنى المخلصين، وقال غيره: بمعنى الصالحين، ويقال: بمعنى
المسلمين، وعن عمرو بن أوس قال: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا، وذكر الكلبي أن المخبتين هم الرقيقة قلوبهم، والخبت هو المكان المطمئن من الأرض، قال امرؤ القيس شعرا:
(فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
* بنا بطن خبت ذي خفاف عقنقل)
وقوله: * (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) أي: خافت قلوبهم.
وقوله: * (والصابرين على ما أصابهم) أي: وبشر الصابرين على ما أصابهم.
وقوله: * (والمقيمي الصلاة) أي: المقيمين للصلاة.
وقوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) البدن جمع البدنة، وسميت البدنة لضخامتها، والبعير والبقر يسمى: بدنة، فأما الغنم لا تسمى بدنة.
وقوله: * (جعلناها لكم من شعائر الله) قد بينا، ومعناه: من أعلام دين الله، وسمي البدن شعائر؛ لأنها تشعر، وإشعارها هو أن تطعن في سنامها على ما هو
439

* (شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشركون (36) لن ينال) * * المعروف في الفقه، وفي الآثار: أن عمر - رضي الله عنه - حج آخر حجة في آخر سنة، فكان يرمي جمرة العقبة، فأصابت جمرة صلعته فسال الدم منها، فقال رجل: أشعر أمير المؤمنين فلما رجع إلى المدينة قتل.
وقوله: * (لكم فيها خير) قد بينا.
وقوله: * (فاذكروا اسم الله عليها صواف) وعن ابن مسعود أنه قرأ: ' صوافي '، وعن الحسن البصري أنه قرأ: ' صوافن '، والمعروف * (صواف) ومعناه: مصطفة، وأما ' صوافي ' معناه: خالصة، وأما ' صوافن ' فهو أن يقام على ثلاث قوائم، ويعقل يده اليسرى، وهذا هو الصفون. قال الشاعر:
(ألف الصفون فما يزال كأنه
* مما يقوم على الثلاث كسير)
وقوله: * (فإذا وجبت جنوبها) أي: سقطت على جنوبها.
وقوله: * (فكلوا منها) قد بينا.
وقوله: * (وأطعموا القانع والمعتر) المعروف أن القانع هو السائل، والمعتر هو الذي يتعرض ولا يسأل، قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا أن القانع هو المعتر والمعتر، الرائي، قال الشاعر:
(على مكثريهم حق من يعتريهم
* وعند المقلين السماحة والبذل)
ويقال: القانع هو الذي يقنع بما أعطي، والمعروف هو القول الأول أن القانع هو السائل، ويقال: المسكين الطواف.
وقوله: * (كذلك سخرناها لكم) أي: ذللناها لكم.
وقوله: * (لعلكم تشكرون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) روي أن المشركين كانوا إذا
440

* (الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين (37) إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور (38) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم) * * ذبحوا، أنضحوا بالدم حول البيت، فأراد المسلمون أن يفعلوا مثل ذلك، فأنزل الله تعالى قوله: * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)، ومعناه: لا يصل الدم واللحم إلى الله تعالى؛ وإنما تصل التقوى، وقيل: لا تصل الدماء واللحوم إلا بالتقوى، ويقال: لا يرضى إلا بالتقوى.
وقوله: * (كذلك سخرها لكم) أي: ذللناها لكم.
وقوله: * (لتكبروا الله على ما هداكم) معناه: لتعظموا الله على ما هداكم.
وقوله: * (وبشر المحسنين) قد بينا معنى المحسنين من قبل.
قوله تعالى: * (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) وقرئ: ' يدفع '، والمدافعة عنهم بحفظهم ونصرتهم، ويقال: يدافع الكفار عن الذين آمنوا، ويقال: يدافع المؤمنين وساوس الشيطان وهواجس النفوس، ويقال: يدافع عن الجهال بالعلماء، وعن العصاة بالمطيعين.
وقوله: * (إن الله لا يحب كل خوان كفور) الخوان هو كثير الخيانة، والكفور هو الذي كفر النعمة.
قوله تعالى: * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) قال أهل التفسير: هذه أول آية نزلت في إباحة القتال، وقد رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقرئ: ' أذن للذين
يقاتلون ' بنصب الألف والتاء، وإنما ذكر ' أذن ' و ' أذن ' بالرفع والنصب؛ ' لأن المسلمين قبل الهجرة كانوا قد استأذنوا من النبي أن يقاتلوا الكفار فلم يأذن لهم، فلما هاجروا إلى المدينة أنزل الله تعالى آيات القتال '.
441

* (لقدير (39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم) * * (ظلموا) أي: لأنهم ظلموا.
وقوله: * (وإن الله على نصرهم لقدير) أي: قادر.
قوله تعالى: * (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) أي: ظلما.
وقوله: * (إلا أن يقولوا ربنا الله) قال سيبويه: هذا استثناء منقطع، ومعناه: لكن أخرجوا؛ لأنهم قالوا: ربنا الله، وقال بعضهم: لكن أخرجوا لتوحيدهم.
وقوله: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) القول المعروف أن الدفع هاهنا هو دفع المجاهدين عن الدين، وعن سائر المسلمين، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: عمن لا يصلي بالمصلى، وعمن لا يجاهد بالمجاهد، وعمن لا يعلم بمن يعلم.
وروي عن علي - رضي الله عنه - قال: هذا هو الدفع عن التابعين بأصحاب رسول الله، وقال بعضهم: هو الدفع عن الحقوق بالشهود، وعن قطرب - واسمه محمد بن الحسين - قال: هو الدفع عن النفوس بالقصاص.
وقوله: * (لهدمت صوامع وبيع) أي: صوامع الرهبان، وبيع النصارى، * (وصلوات) اليهود أي: مواضع صلاتهم، وقرئ: ' وصلوات ' برفع الصاد واللام قراءة عاصم الجحدري، وعن الضحاك أنه قرأ: ' وصلوات '.
وقوله: * (ومساجد) أي: مساجد المؤمنين، وقال بعضهم: الصوامع للنصارى، والبيع لليهود، والصلوات هي المساجد في الطرق للمسافرين من المؤمنين، وأما المساجد هي المساجد في الأمصار.
وقال بعضهم: الصوامع للصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، فإن قال قائل: هذه المواضع التي للكفار ينبغي أن تهدم، فكيف قال: لهدمت؟ والجواب عنه: أن معنى الآية: لولا دفع الله لهدمت هذه المواضع في زمان كل نبي؛ فهدمت الصوامع في زمن موسى، والبيع في زمن عيسى، والصلوات في زمن داود وغيره، والمساجد
442

* (الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40) الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (41) وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود (42) وقوم إبراهيم وقوم لوط (43) وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير (44) فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية) * * في زمن محمد.
وقوله: * (يذكر فيها اسم الله كثيرا) معلوم المعنى.
وقوله: * (ولينصرين الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (الذين إن مكناهم في الأرض) هذه الآية تنصرف إلى قوله: * (ولينصرن الله من ينصره).
وقوله: * (أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) الآية نازلة في هذه الأمة، وروي عن ابن عباس أنه قال: الآية نزلت في طلقاء من بني هاشم، وهذا قول غريب.
وقوله: * (ولله عاقبة الأمور) أي: عواقب الأمور.
قوله تعالى: * (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح) أنزل الله تعالى هذه الآية في تعزية النبي وتسليته، فكأنه قال: إن كذبوك قومك * (فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى) يعني: أن هؤلاء الأنبياء قد كذبوا أيضا.
وقوله: * (فأمليت للكافرين) أي: أمهلت للكافرين، والإمهال من الله هو الاستدراج والمكر.
وقوله: * (ثم أخذتهم فكيف كان نكير) أي: إنكاري، وإنكاره بالعقوبة.
قوله: * (فكأين من قرية أهلكناها) أي: فكم من قرية أهلكناها.
443

* (على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد (45)) * *
وقوله: * (وهي ظالمة) أي: أهلها ظالمون.
وقوله: * (فهي خاوية على عروشها) أي: ساقطة على سقوفها، والخاوية في اللغة هي الخالية، وذكر الخاوية هاهنا؛ لأن الدور إذا سقطت خلت عن أهلها.
وقوله: * (وبئر معطلة). وقوله: * (وقصر مشيد) أي: وكم من قصر مشيد ذهب أهلوه، وهلكوا. وفي المشيد قولان: أحدهما: أن المشيد هو المطول، والآخر: أن المشيد هي المبني بالشيد، والشيد هو الجص، قال الشاعر:
(شاده مرما وجلله كلسا
* فللطير في ذراه وكور)
وقال بعضهم: إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن، أما القصر على قلة جبل، وأما البئر في سفحه، وكان لكل واحد منهما قوم في نعمة عظيمة، فكفروا فأهلكهم الله تعالى، وبقي البئر والقصر خاليتين عن الكل، وحكي أن سليمان بن داود - صلوات الله عليهما - كان إذا مر بخربة قال: أيتها الخربة، أين ذهب أهلوك؟
وعن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال في خطبته: أين الذين بنوا المدائن ورفعوها؟ وأين الذين بنوا القصر وشيدوها؟ وأين الذين جمعوا الأموال؟ ثم يقرأ * (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) فإن قال قائل: أيش فائدة ذكر البئر المعطلة والقصر المشيد، وفي العالم من هذا كثير، فلا يكون لذكر هذا فائدة؟ والجواب عنه: أنه قد جرت عادة العرب بذكر الديار للاعتبار، وقد ذكروا مثل هذا كثيرا في أشعارهم، فكذلك هاهنا ذكر الله تعالى القصور الخالية والديار [المعطلة]؛ ليعتبر المعتبرون بذلك.
قال الأسود بن يعفر:
(ماذا أومل بعد آل محرق
* تركوا منازلهم وبعد إياد)
444

* (أفلم يسروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46) ويستعجلونك بالعذاب) * *
(أهل الخورنق والسرير وبارق
* والقصر ذي الشرفات من سداد)
(نزلوا بأنقرة يسيل عليهم
* ماء الفرات يجيء من أطواد)
(وأرى النعيم وكل ما يلهى به
* يوما يصير إلى بلى ونفاد)
قوله تعالى: * (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) أي: يعلمون بها، ويقال: إن العقل علم غريزي، واستدل من قال: إن محله القلب بهذه الآية.
وقوله: * (أو آذان يسمعون بها) يعني: ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية فيعتبروا بها.
وقوله: * (فإنها لا تعمى الأبصار) وقد روي عن النبي أنه قال: ' ألا إن العمى عمى القلب '.
وقال بعضهم: عينان في الوجه وعينان في القلب؛ فالعينان في الوجه للنظر، والعينان في القلب للاعتبار، وعن قتادة أنه قال: البصر الظاهر بلغة ومنفعة، وأما بصر القلب فهو البصر النافع.
وقوله: * (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) معناه: أن العمى الضار هو عمى القلوب، وأما عمى البصر فليس بضار في أمر الدين، ومن المعروف في كلام الناس: ليس الأعمى من عمي بصره، وإنما الأعمى من عيت بصيرته.
وحكي عن ابن عباس [أنه] دخل على معاوية بعدما عمي، وكان أبوه قد عمي
445

* (ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون (47) وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير (48) قل يا أيها الناس إنما أنا) * * في آخر عمره، وكذلك جده عبد المطلب، فقال له معاوية: ما لكم يا بني هاشم، تصابون في أبصاركم؟ فقال له ابن عباس: وما لكم يا بني أمية، تصابون في بصائركم.
وقوله: * (تعمى القلوب التي في الصدور) هاهنا على طريق التأكيد مثل قوله تعالى: * (يقولون بأفواههم) ومثل قول القائل: نظرت بعيني ومشيت بقدمي.
قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده) نزلت الآية في النضر بن الحارث حين قال: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء...) الآية.
وقوله: * (ولن يخلف الله وعده) أي: وعد العذاب.
وقوله: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة) فيه قولان: أحدهما: وإن يوما من الأيام التي خلق فيها الدنيا كألف سنة، والقول الثاني: أن معناه: وإن يوما من أيام عذابهم كألف سنة * (مما تعدون) والقول الثاني هو الأولى؛ لأنه قد سبق ذكر العذاب.
قوله تعالى: * (وكأين من قرية أمليت لها) أي: أمهلت لها.
وقوله: * (وهي ظالمة) يعني: أهلها ظالمون.
وقوله: * (ثم أخذتها وإلي المصير) أي: المرجع.
قوله تعالى: * (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين) أي: منذر مرشد.
وقوله: * (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم) الرزق الكريم هو الذي لا ينقطع أبدا، وقيل: هو الجنة.
وقوله: * (والذين سعوا في آياتنا معاجزين) أي: معاندين مشاقين، وقرئ: ' معجزين ' أي: مثبطين الناس عن اتباع النبي، ويقال: ظانين أنهم يعجزوننا بزعمهم أن لا بعث، ولا جنة، ولا نار، ومعنى يعجزوننا أي: يفوتون منا.
وقوله: * (أولئك أصحاب الجحيم) أي: النار، والجحيم عبارة عن معظم النار.
446

* (لكم نذير مبين (49) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم (50) والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم (51) وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي) * *
وقوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) وقرأ ابن عباس: ' ولا محدث ' قال الشيخ الإمام - رضي الله عنه - أخبرنا بهذا أبو علي الشافعي قال: أخبرنا أبو الحسن بن [فراس] قال: أخبرنا أبو محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن جده محمد، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قرأ هكذا.
فقوله: ' ولا محدث ' يعني: ملهم، كأن الله حدثه في قلبه، ومن المعروف أن النبي قال: ' قد كان في الأمم السابقة محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فهو عمر '.
وأما الكلام في الرسول والنبي، فقال بعضهم: هما سواء، وفرق بعضهم بينهما فقال: الرسول هو الذي يأتيه جبريل - عليه السلام - بالوحي، والنبي هو الذي يأتيه الوحي في المنام، أو يلهم إلهاما، ومنهم من قال: الرسول الذي له شريعة يحفظها، والنبي هو الذي بعث على شريعة غيره فيحفظها، وقد قالوا: كل رسول نبي، وليس كل نبي برسول.
وقوله: * (إلا إذا تمنى) الأكثرون على أن معناه: إذا قرأ: * (ألقى الشيطان في أمنيته) أي: في قراءته، قال الشاعر في عثمان:
(تمنى كتاب الله أول ليلة
* وآخرها لاقى حمام المقادر)
أي: تلا، وقال بعضهم: تمنى هو حديث النفس، والقصة في الآية: هو ما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير، والزهري، والضحاك، وغيرهم أن
447

النبي قرأ سورة ' والنجم ' في صلاته، وعنده المسلمون والمشركون، ويقال: قرأ في الصلاة، فلما بلغ قوله تعالى: * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان على لسانه: ' تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ' ومر في السورة حتى سجد في آخرها، ففرح المشركون وسروا، وقالوا: قد ذكر آلهتنا بخير، ولا نريد إلا هذا، وسجدوا معه. قال ابن مسعود: ولم يسجد الوليد بن المغيرة، ورفع ترابا إلى جبهته، وقال: سجدت - وكان شيخا كبيرا - قال: فجاء جبريل - عليه السلام - وقال: اقرأ علي سورة ' والنجم ' فقرأ، وألقى الشيطان على لسانه هكذا، فقال: هذا لم آت به، وأخرجه من قراءته، فحزن رسول الله حزنا شديدا، فأنزل الله تعالى هذه الآية عليه: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته).
فإن قال قائل: كيف يجوز هذا على النبي، وقد كان معصوما من الغلط في أصل الدين؟ وقال الله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)، وقال الله تعالى: * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) أي: إبليس؟
والجواب عنه: اختلفوا في الجواب عن هذا، قال بعضهم: إن هذا ألقاه بعض المنافقين في قراءته، وكان المنافق هو القارئ فظن المشركون أن الرسول قرأ، وسمى ذلك المنافق شيطانا؛ لأن كل كافر متمرد بمنزلة الشيطان، وهذا جواب ضعيف.
448

* (الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (52) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد (53)) * *
ومنهم من قال: إن الرسول لم يقرأ، ولكن الشيطان ذكر هذا بين قراءة النبي، وسمع المشركون ذلك، وظنوا أن الرسول قرأ، وهذا اختيار الأزهري وغيره.
وقال بعضهم: إن الرسول أغفأ إغفأة ونعس، فجرى على لسانه هذا، ولم يكن به خبر بإلقاء الشيطان، وهذا قول قتادة، وأما الأكثرون من السلف ذهبوا إلى أن هذا شيء جرى على لسان الرسول بإلقاء الشيطان من غير أن يعتقد، وذلك محنة وفتنة من الله (وعادة)، والله تعالى يمتحن عباده بما شاء، ويفتنهم بما يريد، وليس عليه اعتراض لأحد وقالوا: إن هذا وإن كان غلطا عظيما، فالغلط يجوز على الأنبياء، إلا أنهم لا يقرون عليه.
وعن بعضهم: أن شيطانا يقال له: الأبيض عمل هذا العمل، وفي بعض الروايات: أنه تصور بصورة جبريل، وأدخل في قراءته هذا، والله أعلم.
وقوله: * (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) أي: يزيل الله ما يلقي الشيطان.
وقوله: * (ثم يحكم الله آياته) أي: يثبت الله آياته.
وقوله: * (والله عليم حكيم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض) أي: محنة وبلية.
وقوله: * (والقاسية قلوبهم) أي: الجافة قلوبهم عن قبول الحق.
وقوله: * (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) أي: في ظلال طويل، وقيل: مستمر، وهو الأحسن.
449

* (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم (54) ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) * *
قوله تعالى: * (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك) يعني: ما أثبته ولم ينسخه.
وقوله: * (فيؤمنوا به) (أي: يعتقدون به من قبل الله تعالى).
وقوله: * (فتخبت له قلوبهم) أي: تسكن إليه قلوبهم.
وقوله: * (وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) أي: إلى طريق قويم، وهو الإسلام.
قوله تعالى: * (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) أي: في شك منه.
وقوله: * (حتى تأتيهم الساعة بغتة) قيل: هي الموت، وقيل: هي القيامة.
وقوله: * (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) فيه قولان: أحدهما: أن اليوم العقيم هو يوم القيامة، والقول الثاني: أن اليوم العقيم هو يوم بدر، وعليه الأكثرون، وعن أبي بن كعب أنه قال: أربع آيات في يوم بدر: أحدها: هو قوله: * (عذاب يوم عقيم)، والآخر: قوله تعالى: * (يوم نبطش البطشة الكبرى)، والثالث: قوله تعالى: * (فسوف يكون لزاما)، والرابع: قوله تعالى: * (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر). فالقتل يوم بدر هو العذاب الأدنى، وأما العقيم في اللغة هو المنع، يقال: رجل عقيم، وامرأة عقيم إذا منعا من الولد، وريح عقيم إذا لم تمطر، ويوم عقيم إذا لم يكن فيه خير ولا بركة، (فيوم بدر يوم عقيم؛ لأنه لم يكن فيه خير ولا بركة) للكفار.
قال الشاعر:
450

* (حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم (55) الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم (56) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين (57) والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين (58) ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم (59) ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم) * *
(عقم النساء فلا يلدن شبيهه
* إن النساء بمثله لعقيم)
قوله تعالى: * (الملك يومئذ لله يحكم بينهم) أي: يقضي بينهم.
وقوله: * (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم) ظاهر المعنى.
وقوله: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين) أي: مذل مخز.
قوله تعالى: * (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا) الرزق الحسن هو الذي لا ينقطع أبدا، وذلك رزق الجنة.
وقوله: * (وإن الله لهو خير الرازقين) أي: أفضل الرازقين.
وقوله: * (ليدخلنهم مدخلا يرضونه). وقرئ: ' مدخلا ' بفتح الميم، والمدخل بالرفع من الإدخال، والمدخل بالفتح الموضع.
وقوله: * (وإن الله لعليم حليم) أي: عليم بأعمال العباد، حليم عنهم.
قوله تعالى: * (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به) روي أن قوما من المسلمين لقوا قوما من المشركين في آخر المحرم، وقد بقيت ليلتان منه، فتصد المشركون المسلمين فقال لهم المسلمون: كفوا، فإن هذا شهر حرام، فلم يكفوا؛ فقاتلهم المسلمون على وجه الدفع، وظفروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ويقال: إن قوما من المشركين قتلوا قوما من المسلمين، فظفر بهم النبي
451

* (بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور (60) ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير (61) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير (62) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير (63) له ما في السماوات) * * وقتلهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وإنما سمي الفعل الأول عقوبة، وإن كان في الحقيقة اسم العقوبة يقع على ما يكون جزاء للجناية على ازدواج الكلام؛ لأنه ذكره في مقابلة العقوبة، وهذا كقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها).
وقوله تعالى: * (ثم بغى عليه) البغي هاهنا ما فعله المشركون بالمسلمين من الظلم والإخراج من الديار وأخذ الأموال.
وقوله: * (لينصرنه الله) ظاهر المعنى.
وقوله: * (إن الله لعفو غفور) أي: ذو تجاوز وعفو عن المسلمين.
قوله تعالى: * (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار...) الآية. ظاهر المعنى.
وقوله: * (ذلك بأن الله هو الحق) أي: ذو الحق.
وقوله: * (وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) يعني: ليس بحق.
وقوله: * (وأن الله هو العلي الكبير) أي: المتعالي المتعظم، ويقال: إن العلي هاهنا ينصرف إلى الدين أي: دينه يعلو الأديان، والكبير صفته تبارك وتعالى، ويقال
: الحق اسم من أسماء الله تعالى، ذكره يحيى بن سلام، وأما الباطل فيقال: إنه إبليس، ويقال: إنه الأوثان.
قوله: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة) أي: ذات خضرة، كما يقال: مسبعة ومبقلة أي: أرض ذات بقل وذات مسبع.
قال عكرمة: الآية نزلت في مكة خاصة، فإن المطر هناك يقع بالليل، وتخضر
452

* (وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد (64) ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم (65) وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) * * الأرض بالنهار، وعن الخليل قال: ' ألم تر ' تنبيه ثم ابتداء، وقال: ينزل الله المطر فتصبح الأرضين مخضرة، فلهذا رفع تصبح.
وقوله: * (إن الله لطيف خبير) أي: لطيف باستخراج النبات من الأرض وبرزق العباد، خبير بما في قلوبهم أي: بما يعرض في قلوبهم عند نقصان الرزق أو عدمه، وقيل: عند جدوبة الأرض.
قوله: * (له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد) أي: الغني عن أعمال الخلق، المحمود في أفعاله.
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره) أي: وسخر الفلك تجري في البحر بأمره، ويقال: ما في الأرض هي الدواب التي تركب في البر، وأما الفلك هو الذي يركب في البحر.
وقوله: * (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) في بعض الآثار: أنه إذا أظهرت الصلبان في الأرض، وضربت بالنواقيس، ارتجت السماء والأرض، وكادت السماء أن تقع، فيرسل الله (ملائكة) فيمسكون بأطراف السماء والأرض، ويقرؤون سورة الإخلاص حتى تسكن، وأما المعروف في معنى الآية أن الله يمسك السماء بغير عمد، على ما ذكرنا من قبل.
وقوله: * (إن الله بالناس لرءوف رحيم) قد بيناه.
قوله تعالى: * (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) الإحياء الأول هو الإنشاء، والإحياء الثاني هو البعث من القبور.
وقوله: * (إن الإنسان لكفور) أي: لكفور (لنعمة الله).
453

* (إن الإنسان لكفور (66) لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم (67) وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون (68) الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون (69) ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير) * *
قوله تعالى: * (لكل أمة جعلنا منسكا) بفتح السين، وقرئ: ' منسكا ' بكسرها، فالمنسك بالكسر موضع النسك، كالمجلس موضع الجلوس، وأما المنسك بالفتح هو على المصدر للنسك، قال الفراء: المنسك بالفتح موضع العبادة، والمناسك مواضع أركان الحج، ويقال: المنسك: المذبح، وعن ابن عباس: منسكا أي: عيدا، وقيل: منسكا أي: شريعة وملة.
وقوله: * (هم ناسكوه) أي: عاملون بها.
وقوله: * (فلا ينازعنك في الأمر) منازعتهم أنهم قالوا: أتأكلون مما قتلتموه، ولا تأكلون مما قتله الله؟
وقال الزجاج: معنى قوله: * (فلا ينازعنك في الأمر) أي: فلا تنازعهم، قال: وهذا مستقيم في كل ما لا يكون إلا بين اثنين، يجوز أن يقال: لا يخاصمنك فلان أي: لا تخاصمه، ولا يجوز أن يقال: لا يضربنك فلان بمعنى لا تضربه؛ لأن الضرب إنما يكون من الواحد، وإنما قال الزجاج هذا؛ لأن قوله: * (فلا ينازعنك) إخبار، وقد نازعوه، ولا يجوز الخلاف في خبر الله تعالى، فذكر أن المعنى: فلا تنازعهم؛ ليكون أمرا لا خبرا، وقرئ: ' فلا ينزعنك في الأمر ' أي: لا يغلبنك.
وقوله: * (وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) أي: دين مستقيم.
قوله تعالى: * (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم...) الآية ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض) معنى قوله: * (ألم تعلم) أي: قد علمت.
وقوله: * (إن ذلك في كتاب) هو اللوح المحفوظ.
454

(* (70) ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير (71) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير (72) يا أيها الناس ضرب مثل) * *
وقوله: * (إن ذلك على الله يسير) أي: هين.
قوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله مالم ينزل به سلطانا) أي: حجة.
وقوله: * (وما ليس لهم به علم) يعني: أنهم فعلوا ما فعلوا عن جهل لا عن علم.
وقوله: * (وما للظالمين من نصير) أي: مانع من العذاب.
قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) أي: الإنكار.
وقوله: * (يكادون (يسطون)) أي: يقعون.
وقوله: * (بالذين يتلون عليهم آياتنا) يعني: المؤمنين، وقيل: يتناولون بالشتم والمكروه.
وقوله: * (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم) أي: بشر عليكم وأكره لكم.
وقوله: * (النار) كأنهم سألوا ما ذلك؟ فقال: أجب، وقل: النار.
وقوله: * (وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير) أي: بئس المرجع.
قوله: * (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) فإن قال قائل: أين المثل؟ قلنا معناه: ضرب لي مثل أي: شبه لي مثل، على معنى أن المشركين اتخذوا الأصنام معي آلهة * (فاستمعوا له) أي: استمعوا خبر الأصنام وحالها، ثم قال: * (إن الذين تدعون من دون الله) الأصنام.
وقوله: * (لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) ذكر الذباب لخسته ومهانته وضعفه،
455

* (فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز (74) الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) * * وعن بعض السلف قال: خلق الله تعالى الذباب ليذل؛ به الجبابرة، وهو حيوان مستأنس ممتنع؛ لأنه يستأنس بك فيقع عليك، ثم إذا أردت أن تأخذه امتنع منه.
وقوله: * (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه) قال ابن عباس: كانوا يطلون الأصنام بالزعفران، فإذا جف جاء الذباب واستلب منه شيئا، فأخبر الله تعالى أن الأصنام لا يستنقذون من الذباب ما استلبه، وعن السدي: أنهم كانوا يأتون بالطعام، ويضعون بين يدي الأصنام، فيجيء الذباب ويقعن عليه، ويأكلن منه، فهو معنى قوله تعالى: * (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه).
وقوله: * (ضعف الطالب والمطلوب) (الطالب الذباب، والمطلوب الصنم، ويقال: الطالب الصنم، والمطلوب) الذباب.
وقيل: * (ضعف الطالب والمطلوب) أي: العابد والمعبود.
وقوله: * (ما قدروا الله حق قدره) أي: ما عظموا الله حق عظمته، ويقال: ما عرفوا الله حق معرفته، وقيل: ما وصفوا الله حق صفته، وعن ابن عباس: أن اليهود قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، واستراح يوم السبت، فأنزل الله تعالى: * (ما قدروا الله حق قدره).
وقوله: * (إن الله لقوي عزيز) أي: قوي على ما يريد، عزيز أي: منيع في ملكه.
قوله تعالى: * (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) أما من الملائكة فهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، وغيرهم، وأما من الناس فهم: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وغيرهم صلوات الله عليهم.
وقوله: * (إن الله سميع بصير) سميع لأقوال العباد، بصير بهم.
قوله تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) قد بينا هذا من قبل، ويقال:
456

* (إن الله سميع بصير (75) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور (76) يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77) وجاهدوا في الله حق جهاده) * * ما بين أيديهم: ما قدموا من العمل، وما خلفهم: ما أخروها فلم يعملوها.
وقوله: * (وإلى الله ترجع الأمور) تصير الأمور.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) والركوع والسجود معلومان، ولا تقبل صلاة إلا بهما سوى صلاة الجنازة.
وقوله: * (واعبدوا ربكم) أي: وحدوا ربكم، ويقال: أخلصوا في ركوعكم وسجودكم.
وقوله: * (وافعلوا الخير) أي: صلة الأرحام ومكارم الأخلاق وسائر وجوه البر.
وقوله: * (لعلكم تفلحون) (وتفوزون).
وفي هذه الآية سجدة للتلاوة منقولة عن جماعة من الصحابة، وروى مشرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر أن النبي قال: ' في الحج سجدتان، من لم يسجدهما فلا يقرأها '، وفي رواية: ' من لم يسجدهما فلم يقرأها '.
قوله تعالى: * (وجاهدوا في الله حق جهاده) اعلم أن الجهاد يكون بالنفس، وبالقلب، وبالمال؛ فأما الجهاد بالنفس فهو فعل الطاعات واختيار الأشق من الأمور، وأما الجهاد بالقلب فهو دفع الخواطر الردية، وأما الجهاد بالمال فهو البذل (والإيثار).
وقوله: * (حق جهاده) قال بعضهم: ' هو أن يطيع الله (ولا يعصيه)، ويذكره
457

* (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم) * * فلا ينساه، ويشكره فلا يكفره، وقال بعضهم: حق جهاده: هو أن لا يخل بفرض ما.
وعن بعض أهل التحقيق قال: حق جهاده هو أن لا يترك جهاد نفسه طرفة عين. وفي بعض الغرائب من الأخبار: أن النبي لما رجع من غزوة تبوك قال: ' رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ' وعنى بالجهاد الأصغر هو الجهاد مع الكفار، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس، وأنشد بعضهم.
(يا رب إن جهادي غير منقطع
* وكل أرضك لي ثغر وطرسوس)
وقوله: * (هو اجتباكم) أي: اختاركم.
وقوله: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (فإن قال قائل: في الدين حرج كثير بلا إشكال فما معنى قوله: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج))؟ قلنا: فيه أقول: أحدها: أن الحرج هو الضيق، ومعنى الآية هاهنا: أنه لا ضيق في الدين بحيث لا خلاص عنه، فمعناه: أن المذنب وإن وقع في ضيق من معصيته، فقد جعل الله له خلاصا بالتوبة، وكذلك إذا حنث في يمينه جعل الله له الخلاص بالكفارة، والقول الثاني: أن معنى الآية أن الله تعالى لم يكلف نفسا فوق وسعها، وقد ذكرنا هذا من قبل، والقول الثالث: أن المراد من الآية أنه إذا كان مريضا فلم يقدر على الصلاة قائما صلى قاعدا، فإن لم يقدر على الصلاة قاعدا صلى بالإيماء، ويفطر إذا شق عليه الصوم بسفر أو مرض أو هرم، وكذلك سائر وجوه الرخص.
وقوله: * (ملة أبيكم إبراهيم) فيه قولان: أحدهما: أن الآية خطاب مع العرب، وقد كان إبراهيم أبا لهم، والقول الثاني: أن الآية خطاب مع جميع المسلمين، وجعل
458

* (المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * * إبراهيم أباهم على معنى وجوب احترامه، وحفظ حقه كما يجب احترام الأب وحفظ حقه، وإنما نصب ملة على معنى: ابتغوا ملة إبراهيم.
وقوله: * (هو سماكم المسلمين) فيه قولان: أحدهما: أن الله سماكم المسلمين * (من قبل) أو في التوراة والإنجيل.
وقوله: * (وفي هذا) أي: في القرآن، والقول الثاني: أن إبراهيم سماكم المسلمين، والدليل على هذا القول أن الله تعالى قال خبرا عن إبراهيم: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك...) الآية.
وقوله: * (ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) ذكرنا هذا في سورة البقرة والنساء، وفي الخبر: ' أن الله تعالى أعطى هذه الأمة ثلاثا مثل ما أعطى الأنبياء: كان يقال للنبي: اذهب فلا حرج عليك، وقال الله تعالى لهذه الأمة: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، وكان يقال للنبي: أنت شاهدا على أمتك، فقال الله تعالى لهذه الأمة: * (لتكونوا شهداء على الناس)، وكان يقال للنبي: سل تعطه، فقال الله تعالى لهذه الأمة: * (ادعوني أستجب لكم) '.
وقوله: * (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) ظاهر المعنى، وروى ابن مسعود عن النبي أنه قال: ' لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة '.
وقوله: * (واعتصموا بالله) أي: تمسكوا بدين الله، ويقال معناه: ادعوا الله
459

* (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير (78)) * * ليثبتكم على دينه، وفيه قول ثالث: أن الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة، وعن الزهري أنه قال: الاعتصام بالسنة نجاة.
وقوله: * (هو مولاكم) أي: حافظكم * (فنعم المولى) أي: الحافظ * (ونعم النصير) أي: الناصر.
460

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (قد أفلح المؤمنون (1)) * *
تفسير سورة المؤمنين وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (قد أفلح المؤمنون) روى عبد الرزاق، عن يونس بن سليم، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ' كنا إذا نزل الوحي على رسول الله سمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فأنزل عليه مرة فمكثنا ساعة، فلما سري عنه، استقبل القبلة وقال: اللهم أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وارضنا وارض عنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، ثم قال: لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، وقرأ: * (قد أفلح المؤمنون) إلى آخر العشر '. قال الشيخ الإمام: أخبرنا بهذا الحديث عبد الرحمن بن عبيد الله بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سراج قال: أخبرنا محمد بن محمد بن محبوب قال: أخبرنا محمد بن عيسى بن سورة أخبرنا عبد بن حميد عن عبد الرزاق. الحديث.
وقوله: * (قد أفلح) أي: فقد سعد وفاز وظفر، وقال بعضهم: نال البقاء الدائم والبركة. قال الشاعر:
(نحل بلادا كلها حل قبلنا
* ونرجوا الصلاح بعد عاد وحميرا)
461

* (الذين هم في صلاتهم خاشعون (2)) * * وقرئ ' ' قد أفلح المؤمنون ' أي: اصيروا إلى ما فيه الصلاح.
وقال لبيد شعرا:
(فاعقلي إن كنت (مما تعقلي
* ولقد أفلح من كان عقل)
وقال غيره:
(لو كان حي مدرك الفلاح
* أدركه ملاعب الرماح)
قال ابن عباس: نالوا ما إياه طلبوا، ونجوا مما عنه هربوا.
وقوله: * (المؤمنون) المصدقون.
وقوله: * (الذين هم في صلاتهم خاشعون) أي: خاضعون خائفون، يقال: الخشوع خوف القلب، وحقيقته هو الإقبال في الصلاة على معبوده، والتذلل بين يديه، ويقال: هو جمع الهمة، ودفع العوارض عن الصلاة، وتدبر ما يجري على لسانه من القراءة والتسبيح والتهليل والتكبير، وعن علي - رضي الله عنه - قال: الخشوع أن لا يلتفت عن يمينه ولا عن شماله في الصلاة.
وعن أبي هريرة قال: كان أصحاب رسول الله يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فلما نزل قوله تعالى: * (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) رموا بأبصارهم إلى مواضع السجود، وعن إبراهيم النخعي قال: هو السكن في الصلاة.
462

* (والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * *
وقوله: * (والذين هم عن اللغو معرضون) قال ابن عباس: يعني الشك، وقال الحسن: المعاصي كلها. ذكر الزجاج أن اللغو هو كل كلام باطل مطرح، ويقال: إن اللغو ها هنا هو معارضة الكفار بالسب والشتم، وهذا قول حسن؛ لأن الله تعالى قال: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.
قوله تعالى: * (والذين هم للزكاة فاعلون) أي: مؤدون.
قال الشعبي: هي زكاة الفطر، وقال بعضهم: الزكاة ها هنا هي العمل الصالح فكأنه قال: والذين هم للعمل الصالح فاعلون.
قوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون) حفظ الفرج هو التعفف عن الحرام.
وقوله: * (إلا على أزواجهم) يقال: إن الآية في الرجال بدليل أن الله تعالى قال: * (أو ما ملكت أيمانهم) والمرأة لا يجوز لها أن تستمتع بملك يمينها، وقيل: إن أول الآية في الرجال والنساء جميعا، وقوله: * (أو ما ملكت أيمانهم) إلى الرجال دون النساء * (فإنهم غير ملومين) أي: غير معاتبين، فإن قيل: إذا أصاب امرأته في حال الحيض أو النفاس وما أشبهه، وكذلك الجارية فقد أتى حراما، وإن كان قد حفظ فرجه عن غير زوجته وملك يمينه ويكون ملوما؟ والجواب عنه: أن تقدير الآية في هذا: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم على وجه يجوز في الشرع فإنهم غير ملومين، وكذلك الجواب عن قول من استدل بهذه الآية في جواز إتيان المرأة في غير مأتاها أو الجارية.
وقوله تعالى: * (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) (أي: سوى ذلك،
463

(* (6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (7) والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون (8) والذين هم على صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم) * * وابتغى أي: طلب، وقوله: * (فأولئك هم العادون) أي: الظالمون المتجاوزون عن الحلال إلى الحرام، واستدل العلماء بهذه الآية على أن الاستمناء باليد حرام، وعن ابن عباس سئل عنه فقال: هو نائك نفسه، وعن ابن جريج أنه قال: سألت عطاء عنه فقال: هو مكروه، فقلت أفيه حد؟ فقال: ما سمعت. وعن سالم بن عبد الله بن عمر أنه سئل عن هذا الفعل فقال: ' أف أف! سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى، فأظن أنهم هؤلاء. وعن سعيد بن جبير قال: عذب الله أمة من الأمم كانوا يعبثون بمذاكيرهم. وكرهه مالك والشافعي، وحكى أبو عاصم النبيل عن أبي حنيفة أنه كرهه، فإن جعل بين يديه وبين ذكره حريرة قال: لا بأس به، وذكر النقاش في تفسيره عن عمر بن الخطاب أنه قال: أولئك أقوام لا خلاق لهم.
وقوله تعالى: * (والذين هم لآمانتهم وعهدهم راعون) يقال: رعى كذا إذا قام بالمصلحة فيه، ومنه قوله: ' وكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته '، ويقال للوالي: هو راع؛ لأنه يقوم بمصلحة الرعية، ومعنى قوله: * (راعون) ها هنا أداء الأمانة والوفاء بالعهد.
قوله تعالى: * (والذين هم على صلاتهم يحافظون) قد بينا معنى المحافظة، وعن ابن مسعود أنه سئل عن المحافظة فقال: حفظ الوقت، فقيل له: فمن تركها أصلا؟ قال: ذلك الكفر. وأعاد ذكر الصلاة ها هنا؛ ليبين أن المحافظة واجبة كما أن الخشوع واجب.
قوله تعالى: * (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس) روي الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن النبي قال: ' ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا دخل النار ورث أهل الجنة منزله '.
464

وعن مجاهد قال: إذا دخل الجنة هدم منزله في النار، وعنه أنه قال: إن الله غرس جنة عدن بيده ثم قال: * (قد أفلح المؤمنون) وأغلق عليها، فلا يدخلها إلا من شاء الله، ويفتح بابها في كل سحر، وكانوا يرون أن نسيم السحر منه.
وفي بعض المسانيد: عن ابن عباس عن النبي: ' إن الله خلق جنة عدن، وخلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم قال لها: تكلمي فقالت: * (قلد أفلح المؤمنون) أنا محرمة على كل بخيل ومرائي '.
وفي رواية: ' أن الله تعالى قال: * (قد أفلح المؤمنون) ثم قال: وعزتي لا يجاورني فيك بخيل '.
وفي بعض المسانيد أيضا عن النبي قال: ' إن الله تعالى خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، ثم قال لجنة عدن وعزتي لا يسكنك بخيل ولا ديوث '.
وفي بعض التفاسير: أن النبي قال: ' أن الله تعالى خلق الفردوس وجعل لها
465

* (الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون (11) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا) * * لبنة من ذهب ولبنة من فضة (وحبالها) المسك الأفر '، والأخبار كلها غرائب. * (هم فيها خالدون) أي: مقيمون لا يظعنون أبدا.
قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) قال أهل اللغة: السلالة صفوة الماء المسلول من الصلب، وقوله: * (من طين) الطين ها هنا هو آدم، وعليه الأكثرون، والمراد من الإنسان ولده، ومنهم من قال: المراد من الإنسان هو آدم. وقوله: * (من سلالة) أي: سل من كل تربة، وقال الكلبي: السلالة ها هنا هو الطين الذي إذا قبض عليه الإنسان خرج الماء من جانبي يده، وعن مجاهد قال: هو منى بني آدم. قال الشاعر:
(وهل هند إلا مهرة عربية
* [سليلة] أفراس تجللها بغل)
(فإن نتجت مهرا [فلله درها
* وإن ولدت بغلا فجاء به البغل])
وقوله: * (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) أي: في مكان استقر فيه، وعن مجاهد قال: ما من نطفة إلا ويذر عليها من التربة التي خلق منها.
وقوله: * (ثم خلقنا النطفة علقة) العلقة هي القطعة من الدم.
466

* (النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14) ثم إنكم بعد ذلك لميتون) * *
وقوله: * (فخلقنا العلقة مضغة) المضغة هي القطعة من اللحم.
وقوله: * (فخلقنا المضغة عظما) وقري: ' عظاما '، والمعنى واحد. قال الشاعر:
(في حلقهم عظم وقد شجينا
*)
أي: في حلوقهم عظام.
ويقال: إن بين كل خلقين أربعين يوما.
وقوله: * (فكسونا العظام لحما) أي: ألبسنا.
وقوله: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) الأكثرون أن المراد منه نفخ الروح فيه، وقال الضحاك: استواء الشباب، وعن قتادة قال: نبت الأسنان، وعن الحسن: ذكرا أو أنثى. وفي بعض التفاسير أن الله ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر وعشرا من يوم وقعت النطفة في الرحم، ولهذا تقدرت عدة الوفاة بهذا القدر من الزمان.
وقوله: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) روي أن عمر - رضي الله عنه - لما سمع هذه الآية (قال: فتبارك الله أحسن الخالقين فقال النبي: ' هكذا أنزل '. فإن قيل: هذه الآية) تدل على أنا نخلق أفعالنا؛ لأن الله تعالى قال: * (فتبارك الله أحسن الخالقين)، فذكر الخالقين على وجه الجمع؟ الجواب أن معناه: أحسن المقدرين، وقد ورد الخلق بمعنى التقدير، قال الشاعر:
(ولأنت تفري ما خلقت وبعض
* القوم يخلق ثم لا يفري)
467

(* (15) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون (16) ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين (17) وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون (18) فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه) * *
[أي]: يقدر.
ويقال: إن معناه: يصنعون وأصنع، وأنا أحسن الصانعين.
قوله تعالى: * (ثم إنكم بعد ذلك لميتون) قال بعضهم: الميت والميت (واحد، وقال بعضهم: الميت هو الذي قد مات، والميت هو الذي يموت في المستقبل، ومثله المائت، وهذا كما قالوا: سيد وسائد هو الذي يسود في المستقبل.
قوله تعالى: * (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) البعث هو الإطلاق فكأنهم حبسوا مدة ثم أطلقوا.
قوله: * (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) الطرائق ها هنا هي السماوات، وفي تسميتها طرائق وجهان: أحدهما: أنها سميت طرائق؛ لأن بعضها فوق بعض، يقال: طارقت النعل إذا جعلت بعضها فوق بعض.
والوجه الثاني: أنها سميت طرائق؛ لأنها طرائق الملائكة.
وقوله: * (وما كنا عن الخلق غافلين) أي: نحن حافظون لهم، يقال: حفظنا السماء أن تقع عليهم، ويقال: ما تركناهم سدى بغير أمر ولا نهي.
قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء بقدر) في الخبر: ' أن الله تعالى أنزل أربعة أنهار من الجنة: سيحان، وجيحان، ودجلة، والفرات '.
وروي أنه أنزل خمسة أنهار من عين في الجنة، وذكر مع الأربعة التي ذكرناها نيل مصر، وفي هذا الخبر أن الله أودعها الجبال ثم أجراها لمنفعة العباد، وفي هذا الخبر أيضا: ' أنه إذا كان خروج يأجوج ومأجوج رفع الله القرآن والكعبة والركن والمقام وتابوت موسى والأنهار الخمسة فلا يبقى شيء من خير الدنيا والآخرة فهو قوله تعالى:
468

* (كثيرة ومنها تأكلون (19) وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين (20)) * * (وإنا على ذهاب به لقادرون) '.
قوله تعالى: * (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون) ظاهر المعنى، وخص النخيل والأعناب بالذكر؛ لأنهما كانتا أكثر فواكه العرب.
قوله تعالى: * (وشجرة تخرج من طور سيناء)، معناه: وأنشأنا شجرة تخرج من طور سيناء، وهي شجرة الزيتون، وإنما خصها بالذكر؛ لأنها لا تحتاج إلى معاهد، فالمنة فيها أكثر؛ ولأنها مأكول (ومستصبح) بها، وقوله: * (سيناء) بالحبشية هو الحسن، وأما المروي عن ابن عباس معنيان: أحدهما: أن المراد من سيناء هو البركة ومعناه: جبل البركة، والآخر: أن معناه الشجر، يعني الجبل المشجر، أورده الكلبي.
وقوله: * (تنبت بالدهن). وقرئ ' تنبت ' واختلفوا في هذا: منهم من قال: أنبت ونبت بمعنى واحد، قال الشاعر:
(رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم
* قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل)
يعني: حتى إذا نبت البقل، فالمعنى على هذا تنبت بالدهن أي: ومعها الدهن، أو فيها الدهن، وقال أبو عبيدة: الباء زائدة، فالمعنى على هذا: تنبت ثمر الدهن.
وأما من فرق بين تنبت وتنبت، فقال معناه: تنبت ثمرها بالدهن، وتنبت ثمر الدهن.
وأنشدوا في زيادة الباء شعرا:
469

* (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون (21) وعليها وعلى الفلك تحملون (22) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) * *
(سود المحاجر لا يقرأن بالسور
*)
أي: لا يقرأن السور.
وقوله: * (وصبغ للآكلين). وقرئ: ' وصباغ للآكلين '، وهو في الشاذ، مثل لبس ولباس، ومعناه: (وإدام) للآكلين، فإن الخبز إذا غمس فيه أي: في الزيت انصبغ به بمعنى تلون، والإدام كل ما يؤكل مع الخبر عادة، سواء انصبغ به الخبر أو لم ينصبغ، روي عن النبي أنه أخذ لقمة وتمرة، وقال: ' هذه إدام هذه '.
وعنه أنه قال: ' سيد إدام أهل الجنة اللحم '.
قوله تعالى: * (وإن لكم في الأنعام لعبرة) يعني الآية: تعتبرون بها.
وقوله: * (نسقيكم مما في بطونها) أي: اللبن.
وقوله: * (ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون) يعني: من لحومها * (وعليها وعلى الفلك تحملون) ظاهر المعنى.
470

* (فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (23) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (24) إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين (25) قال رب انصرني بما كذبون (26) فأوحينا إليه أن اصنع الفلك) * *
قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله) أي: وحدوا الله.
* (ما لكم من إله غيره) أي: معبود سواه. وقوله: * (أفلا تتقون) معناه: أفلا تخافون عقوبته إذا عبدتم غيره.
قوله تعالى: * (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم) قد ذكرنا معنى الملأ، وذكرنا إنكارهم إرسال البشر.
وقوله: * (يريد أن يتفضل عليكم) يتفضل أي: يظهر الفضل، ولا فضل له، كما يقال: فلان يتحلم أي: يظهر الحلم، ولا حلم له، ويتظرف أي: يظهر الظرافة، ولا ظرافة له.
وقوله: * (ولو شاء الله لأنزل ملائكة) يعني: بإبلاغ الوحي، وقوله: * (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين). أي: بإرسال بشر رسولا، وقيل: بدعوة مثل دعوته.
قوله تعالى: * (إن هو إلا رجل به جنة) أي: جنون.
وقوله: * (فتربصوا به حتى حين) قال ابن عباس: إلى وقت ما، ويقال: إلى أن يموت.
قوله تعالى: * (قال رب انصرني بما كذبون) يعني: أهلكهم نصرة لي جزاء تكذيبهم.
قوله تعالى: * (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيينا ووحينا). قد بينا من قبل، ويقال: غرس الشجر أربعين سنة، وجففه أربعين سنة.
وقوله: * (فإذا جاء أمرنا وفار التنور) المراد من الأمر هاهنا: وقت إغراقهم، والتنور تنور الخابزة، وقد بينا غير هذا.
وقوله: * (فاسلك فيها من كل زوجين اثنين) قال ابن عباس معناه: من كل صنف
471

* (بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (27) فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين (28) وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين (29) إن في) * * اثنين اثنين.
وقوله: * (وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم) أي: سبق عليه الحكم بإهلاكه، وهو ابن نوح. قال الحسن: كانوا سبعة وثامنهم نوح، وقيل: ستة وسابعهم نوح.
وقوله: * (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) قد بينا.
قوله تعالى: * (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك) أي: استقررت وجلست، وقد يكون الاستواء بمعنى الارتفاع، قال الخليل: دخلنا على أبي ربيعة الأعرابي، (فقال لنا: استووا) أي: ارتفعوا. وقوله: * (فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين) أي: الكافرين، وفي بعض الأخبار عن النبي أنه قال: ' مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها سلم، ومن لم يركبها (هلك) '.
قوله تعالى: * (وقل رب أنزلني منزلا مباركا) وقرئ: ' منزلا '، فالمنزل موضع النزول، والمنزل بمعنى الإنزال، وفي موضع النزول قولان: أحدهما: أنه السفينة بعد الركوب، والآخر: أنه الأرض بعد النزول من السفينة، والبركة بعد النزول هو كثرة النسل من أولاده الثلاثة، والبركة قبل النزول هو النجاة. وفي بعض أخبار النبي: ' من نزل منزلا فقال: رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين، كان ضمانا على الله أن يحفظه من كل شيء يهوله، وإن توفي في ذلك المنزل دخل الجنة '. ذكره ابن فارس
472

* (ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين (30) ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (31) فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (32) وقال الملأ) * * في تفسيره برواية أبي هريرة، والخبر غريب.
قوله تعالى: * (إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين) قال ابن عباس: مبتلين من أطاع ومن عصى، وعن غيره قال معناه: ما من أمة إلا ونحن قد ابتليناها.
قوله: * (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) (أي: قوما آخرين).
قوله تعالى: * (فأرسلنا فيهم رسولا منهم) في التفسير: أن القرن هم قوم هود، وهم عاد، والرسول هو هود، ويقال: قوم صالح وصالح، والأول أصح وأظهر.
وقوله: * (أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) قد ذكرنا.
473

* (من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون (33) ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون (34) أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم) * *
قوله تعالى: * (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة). أي: بالمصير إلى الآخرة.
وقوله: * (وأترفناهم في الحياة الدنيا) أي: وأغنياهم في الحياة الدنيا، ويقال: وسعنا عليهم المعيشة في الحياة الدنيا حتى أترفوا، والإتراف هو التنعم بملاذ العيش. قال القتيبي: والترفة كالتحفة.
وقوله: * (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون) يعني: منه.
وقوله تعالى: * (ولئن أطعتم بشرا مثلكم) أي: من لحم ودم مثلكم.
وقوله: * (إنكم إذا لخاسرون) أي: المغبونون، ويقال: تاركون طريقة العقلاء، فتكونون بمنزلة من خسر عقله.
قوله تعالى: * (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخروجون)
تحصيل المعنى: أيعدكم أنكم إذا متم وقبرتم ثم خرجتم من قبوركم، وفي قراءة ابن مسعود: ' أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخروجون ' وأما على القراءة المعروفة فنصب الأول بتقدير الباء أي: بأنكم، وأما إنكم الثانية للتأكيد، قال الزجاج: ونظير هذا في القرآن قوله تعالى: * (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم).
قوله تعالى: * (هيهات هيهات لما توعدون) قال ابن عباس معناه: بعيد بعيد ما توعدون أي: لا يكون ذلك أبدا، هيهات وأيهات بمعنى واحد، قال الشاعر:
(أيهات أيهات العقيق وأهله
* أيهات خل بالعقيق نواصله)
474

* (مخرجون (35) هيهات هيهات لما توعدون (36) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين (37) إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين (38) قال رب انصرني بما كذبون (39) قال عما قليل ليصبحن نادمين (40) فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين (41) ثم) * *
قوله تعالى: * (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) فإن قيل: كيف يستقيم قوله: * (ونحيا) ولم يكونوا مقرين بالبعث؟ والجواب من وجوه: أحدها: أنه على التقديم والتأخير يعني: نحيا ونموت، والآخر: يموت الآباء، ويحيا الأبناء، والثالث: يموت قوم، ويحيا قوم.
قوله: * (وما نحن بمبعوثين) أي: بمنشرين.
وقوله: * (إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين) أي: بمصدقين.
قوله تعالى: * (قال رب انصرني بما كذبون) قد بينا.
قوله: * (قال عما قليل ليصبحن نادمين) أي: ليصبحون نادمين، ومعنى يصبحون: يصيرون.
قوله تعالى: * (فأخذتهم الصيحة بالحق) في القصة: أن جبريل - عليه السلام - صاح بهم صيحة فتصدعت قلوبهم.
ويقال: إن المراد من الصيحة الهلاك. قال امرؤ القيس:
(فدع عنك نهيا صيح في حجراته
* ولكن حديث ما حديث الرواحل)
وتمثل بهذا البيت علي رضي الله عنه في بعض حروبه.
وقوله: * (بالحق) أي: بالعدل، ويقال: بما استحقوا.
وقوله: * (فجعلناهم غثاء). الغثاء: ما يبس من الشجر والحشيش، وعلا فوق السيل، ويقال: الغثاء هو الزبد، فالزبد لا ينتفع به، ويذهب باطلا، فشبههم بعد الهلاك به.
وقوله: * (فبعدا للقوم الظالمين) أي: هلاكا للقوم الظالمين.
475

* (أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين (42) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون (43) ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون (44) ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان) * *
قوله: * (ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين) أي: قوما آخرين.
قوله: * (ما تسبق من أمة أجلها) أي: وقت هلاكهم.
وقوله: * (وما يستأخرون) أي: يتأخرون عن وقت هلاكها.
قوله تعالى: * (ثم أرسلنا رسلنا تترى) وقرئ: ' تترى ' بالتنوين، والمعنى: متواترين بعضهم على إثر بعض، ويقال: بين كل نبيين قطعة من الزمان، والأصل في * (تترى) وترى إلا أن الواو قلبت تاء، فكأنه قال: بعثنا الرسل وترا وترا.
وقوله: * (كلما جاء أمة رسولها كذبوه) أي: جحدوه وأنكروه.
وقوله: * (فأتبعنا بعضهم بعضا) أي: في الهلاك.
وقوله: * (وجعلناهم أحاديث) أي: سمرا وقصصا، قال بعضهم شعرا.
(فكن حديثا حسنا ذكره
* فإنما الناس أحاديث)
وقوله: * (فبعدا لقوم لا يؤمنون) قد بينا.
قوله تعالى: * (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين) أي: بحجة بينة، وهي الآيات التسع.
قوله تعالى: * (إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين) أي: طالبين للعلو بغير الحق، والاستكبار طلب التكبر، ويقال: * (عالين) قاهرين (لمن) تحتهم بالظلم.
وقوله تعالى: * (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا) أي: لموسى وهارون. وقوله: * (وقومهما لنا عابدون) قال أبو عبيدة: تقول العرب لكل من أطاع إنسانا قد عبده.
476

* (مبين (45) إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين (46) فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون (47) فكذبوهما فكانوا من المهلكين (48) ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون (49) وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين (50)) * * وفي بعض التفاسير: أن القبط كانوا يعبدون فرعون، وفرعون كان يعبد الصنم.
قوله تعالى: * (فكذبوهما فكانوا من المهلكين) أي: بالغرق.
قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون) أي: التوراة.
قوله: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) قد بينا.
وقوله: * (وآويناهما إلى ربوة) وقرئ: ' ربوة '، وقرأ أبو الأشهب العقيلي: ' رباوة '. وأما الربوة فيها أقوال: عن أبي هريرة قال: هي رملة فلسطين، وروي هذا مرفوعا إلى النبي.
وقال سعيد بن المسيب: هي غوطة دمشق، (ويقال: أنزه المواضع في الدنيا [أربعة] مواضع: غوطة دمشق) في الشام، والإيلة بالعراق، وشعب بران بفارس،
وسعد سمرقند، وعن كعب قال: * (ربوة) هي بيت المقدس، وعن وهب بن منبه قال: هي مصر، وفي اللغة: الربوة هو المكان المرتفع.
وقوله: * (ذات قرار) أي: أرض مستوية يستقرون فيها، وقيل: مستوية مرتفعة منبسطة.
وقوله: * (ومعين) أي: ذات ماء جار، ويقال: ذات عيون تجري فيها، يقال: (عانت) البركة إذا جرى فيها الماء، وأنشدوا في المعين شعرا:
(إن الذين غدوا بلبك غادروا
* وسلا بعينك لا يزال معينا)
قوله تعالى: * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) قال مجاهد
477

* (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم (51)) * * وقتادة والسدي وجماعة: إن المراد من قوله: * (يا أيها الرسل) هو محمد، والعرب تذكر الجمع، وتريد به الواحد، فإنهم يقولون للرجل: أيها القوم، كف عنا أذاك ومنهم من قال: إن المراد منه جميع الرسل. وقال بعضهم المراد: عيسى - عليه السلام - كأنه قال: وقلنا لعيسى: يا أيها الرسل، وقد روى أبو هريرة أن النبي قال: ' يا أيها الناس، إن الله لا يقبل إلا الطيب، وإن الله تعالى أمر المسلمين بما أمر به المرسلين فقال: * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) وقال للمؤمنين: * (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات من رزقناكم واشكروا لله) ثم ذكر الرجل أشعث أغبر يمد يده إلى السماء، فيقول: يا رب، مطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، فأنى يستجاب له '؟!
وفي القصة: أن عيسى كان يأكل من غزل أمه، والأكل هو أخذ الشيء بالفم؛ ليوصله إلى البطن بالمضغ، وأما قوله: * (من الطيبات) أي: من الحلال. وقوله: * (واعملوا صالحا) الصلاح هو الاستقامة على ما توجبه الشريعة.
وقوله: * (إني بما تعملون عليم) هذا حث على فعل الطاعة، يعني: اعملوا الصالحات، فإني مجازيكم على عملكم.
قوله تعالى: * (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) أي: دينكم دين واحد، وقيل: شريعتكم شريعة واحدة، ويقال: أمرتكم بما أمرت به من قبلكم من الأنبياء والمرسلين، فأمركم واحد.
وقوله: * (وأنا ربكم فاتقون) فاحذروني.
قوله تعالى: * (فتقطعوا أمرهم بينهم) أي: تفرقوا هودا ونصارى وصابئين ومجوسا. * (زبرا) أي: قطعا. قال مجاهد: * (زبرا) كتبا أي: جعلوا كتبهم قطعا ومعناه: آمنوا بالبعض، وكفروا بالبعض، وحرفوا البعض، ولم يحرفوا البعض.
وقوله: * (كل حزب بما لديهم فرحون) أي: مسرورون.
478

* (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون (52) فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون (53) فذرهم في غمرتهم حتى حين (54) أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (56)) * *
ويعني أن كل فريق مسرورون بما عندهم: فأهل الإيمان مسرورون بالإيمان وبمتابعة النبي، والكفار مسرورون بكفرهم وبمخالفة النبي.
قوله تعالى: * (فذرهم في غمرتهم) أي: في ضلالتهم، وقيل: في عمايتهم.
وقوله: * (حتى حين) معناه: إلى أن يموتوا، والآية للتهديد.
قوله تعالى: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال) الآية. معناه: أيحسبون أن الذي نجعله مددا لهم من المال والبنين * (نسارع لهم في الخيرات) أي: نعجل لهم في الخيرات، ونقدمها ثوابا لهم رضا بأعمالهم، وحقيقة المعنى أن: ليس الأمر على ما يظنون أن المال والبنين خير لهم، بل هو استدراج لهم، ومكر بهم، فهو معنى قوله تعالى: * (بل لا يشعرون).
قوله تعالى: * (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون). الخشية: انزعاج النفس لما يتوقع من المضرة، والإشفاق هاهنا هو الخوف من العذاب، فمعنى الآية: أن المؤمنين من خشية ربهم لا يأمنون عذابه. قال الحسن البصري: المؤمن جمع إحسانا وخشية، والمنافق إساءة وأمنا.
قوله: * (والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) أي: يصدقون.
قوله تعالى: * (والذين هم بربهم لا يشركون) معلوم المعنى.
قوله تعالى: * (والذين يؤتون ما آتوا) روي عن النبي أنه قرأ: ' والذين يأتون ما أتوا به '، وهو قراءة عائشة - رضي الله عنها.
(وقوله: * (يؤتون ما آتوا) أي: يعطون ما أعطوا. وقوله: ' يأتون ما آتوا ' أي:
479

* (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (57) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (58) والذين هم بربهم لا يشركون (59) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) * * يفعلون ما فعلوا).
وقوله: * (وقلوبهم وجلة) أي: خائفة.
وقوله: * (أنهم إلى ربهم راجعون). أي: لأنهم إلى ربهم راجعون، ومعناه: خافوا لأنهم علموا أن رجوعهم إلى ربهم، وروى عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت للنبي: يا رسول الله، قول الله تعالى: * (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) أهم الذين يسرقون، ويشربون الخمر، وقلوبهم
وجلة؟ قال: لا يا ابنة الصديق، بل هم الذين (يصلون، ويصومون)، ويتصدقون، وقلوبهم وجلة أنها لا تقبل منهم ' وفي رواية: ' ويخشون أن لا تقبل منهم '. قال الشيخ الإمام: أخبرنا بهذا الحديث أبو علي الشافعي قال: أبو الحسن ابن [فراس]: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المقرئ، أخبرنا جدي محمد، عن سفيان بن عيينة، أخبرنا مالك بن مغول، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب... الخبر. وقال الحسن البصري: عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم. هذا هو القول المعروف في الآية،
480

* (أنهم إلى ربهم راجعون (60) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون (61) ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون (62) بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون) * * والقول الثاني: أن المراد من الآية أنهم عملوا بالمعاصي، وخافوا من الله.
قوله تعالى: * (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) أي: إليها سابقون.
قال الشاعر:
(تجانف عن جو اليمامة ناقتي
* وما قصدت من أهلها لسوائكا)
أي: إلى سوائكا. ويقال: ' لها سابقون ' أي: من أجلها سابقون، يقول الإنسان لغيره: قصدت هذه البلدة لك أي: لأجلك، وعن ابن عباس أنه قال: * (وهم لها سابقون) أي: سبقت لهم السعادة من الله.
قوله تعالى: * (ولا نكلف نفسا إلا وسعها) قد بينا المعنى، ويقال: لم نكلف المريض الصلاة قائما، ولا الفقير الزكاة والحج، ولا المسافر الصوم، وأشباه هذا.
وقوله: * (ولدينا كتاب ينطق بالحق) أي: عندنا كتاب ينطق بالحق، وهو اللوح المحفوظ، واستدل بعضهم بهذه الآية أن من كتب إلى إنسان كتابا فقد كلمه.
وقوله: * (ينطق بالحق) أي: يخبر بالصدق.
وقوله: * (وهم لا يظلمون) أي: لا ينقص حقهم.
قوله تعالى: * (بل قلوبهم في غمرة من هذا) أي: في غطاء، يقال: فلان غمره الماء، أي: غطاه.
وقوله: * (ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون) (فيه قولان: أن للكفار أعمالا خبيثة محكومة عليهم سوى ما عملوا * (هم لها عاملون)) هذا قول مجاهد وجماعة، وقال قتادة: الآية تنصرف إلى أصحاب الطاعات، ومعناه: أن المؤمنين لهم أعمال سوى ما عملوا من الخير * (هم لها عاملون)، والقول الأول أظهر.
481

(* (63) حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون (64) لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون (65) قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون (66) مستكبرين به سامرا تهجرون (67)) * *
قوله تعالى: * (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب) قد بينا معنى المترف.
وقوله: * (بالعذاب) وهو السيف يوم بدر، ويقال: هو القحط الذي أصابهم بدعاء الني.
وقوله: * (إذا هم يجأرون) أي: يصيحون ويستغيثون.
قوله تعالى: * (لا تجأروا اليوم) لا تصيحوا اليوم، والجؤار هو رفع الصوت.
وقوله: * (إنكم منا لا تنصرون) أي: ليس أحد يمنعنا من عذابكم، وقيل: * (لا تنصرون) لا ترزقون، يقال: أرض منصورة أي: ممطورة.
قوله تعالى: * (قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون) أي: ترجعون قهقري على أعقابكم، ويقال: أقبح المشي هو الرجوع على عقبيه قهقري.
قوله تعالى: * (مستكبرين به) اختلف القول في قوله، فأظهر الأقاويل: أن المراد منه الحرم، ويقال: البيت أي: متعظمين بالبيت الحرام، وتعظيمهم أنهم كانوا يقولون: نحن أهل الله وجيران بيته، وكان سائر العرب في خوف، وهم في أمن، هذا قول ابن عباس ومجاهد وجماعة، والقول الثاني: * (مستكبرين به) أي: بالقرآن، على معنى أنهم استكبروا فلم يؤمنوا به، والقول الثالث: أنه الرسول على المعنى الذي ذكرنا في القرآن.
وقوله: * (سامرا) وقرئ في الشاذ: ' سمارا '، والسامر والسمار في اللغة بمعنى واحد. والآية في أنهم كانوا يقعدون بالليل حول البيت يسمرون. قال الثوري: السمر ظل القمر تقول العرب: لا أكلمك السمر والقمر، أي: الليل والنهار.
وقوله: * (تهجرون) أي: تعرضون عن النبي والإيمان به والقرآن والإيمان،
482

* (أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين (68) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون (69) أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون (70) ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم) * * وقيل: * (تهجرون) أي: تهذون. وقرئ: ' تهجرون ' من الهجر في الكلام وهو القبيح، وفي الروايات: أنهم كانوا يقعدون عند البيت في ظل القمر ويسبون النبي.
قوله تعالى: * (أفلم يدبروا القول) يعني: ما جاءهم من القول، وهو القرآن.
وقوله: * (أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين) (يعني: أيظنون أنه جاءهم ما لم يأت من قبلهم، ومعناه: أنا بعثنا إليهم رسولا كما بعثنا إلى الأولين).
قوله تعالى: * (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون). يعني: أنهم عرفوه صغيرا وكبيرا، وعرفوا نسبه، وعرفوا وفاءه بالعهد، وأداءه للأمانات، وصدقه في
الأقوال، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، على ما ذكرنا من قبل.
قوله تعالى: * (أم يقولون به جنة) أي: جنون.
وقوله: * (بل جاءهم بالحق) أي: بالصدق. وقوله: * (وأكثرهم للحق كارهون) أي: ساخطون.
قوله تعالى: * (ولو اتبع الحق أهواءهم) أي: لو اتبع ما نزل من القرآن أهواءهم.
* (لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن) وإنما قال هذا؛ لأنهم كانوا يودون أن ينزل الله تعالى ذكر أصنامهم على ما يعتقدونها، ولأنه هو في معنى قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وفي قراءة ابن مسعود: ' لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ومن خلق '.
والقول الثاني في الآية: أن المراد من * (الحق) هو الله تعالى، ومعناه: لو اتبع (الله) أهواءهم لسمى لنفسه شريكا وولدا، ولفسدت السماوات والأرض ومن
483

* (بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون (71) أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين (72) وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم (73) وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون (74)) * * فيهن.
وقوله: * (بل أتيناهم بذكرهم) أي: بما يذكرهم، ويقال: بشرفهم، وهو معنى قوله تعالى: * (وإنه لذكر لك ولقومك) أي: شرف لك ولقومك.
وقوله: * (فهم عن ذكرهم معرضون) أي: عن شرفهم وعما يذكرهم معرضون.
قوله تعالى: * (أم تسألهم خرجا) وقرئ: (' خراجا ')، وكلاهما بمعنى الجعل والأجر، وعن أبي عمرو بن العلاء قال: الخراج في الأرض، والخرج في الرقاب.
وقوله: * (فخراج ربك) أي: ثوابه (* (خير) أي: أجر ربك) خير.
وقوله: * (وهو خير الرازقين) أي: المعطين.
قوله تعالى: * (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) أي: إلى دين الحق.
قوله تعالى: * (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون). أي: عن طريق الحق لعادلون.
قوله تعالى: * (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر) روي أن النبي دعا على قريش فقال: ' اللهم اجعل عليهم سنين كسني يوسف؛ فأصابهم الجدب والقحط حتى أكلوا العلهز، وهو الدم بالوبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (ولو
484

* (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون (75) ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون (76)) * * رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر) ' أي: الجوع والقحط.
وقوله: * (للجوا في طغيانهم يعمهون) أي: مضوا في طغيانهم يعمهون، ولم ينزعوا عنه.
قوله تعالى: * (ولقد أخذناهم بالعذاب) فيه قولان: أحدهما: أنه السيف يوم بدر، والآخر: أنه الجوع والقحط، وروي ' أن النبي لما دعا على قومه قدم أبو سفيان عليه، فقال: يا محمد، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: نعم، فقال له: قتلت الآباء بالسيف، وأهلكت الأبناء بالجوع، فادع لنا يكشف عنا هذا القحط، فدعا فكشف عنهم '.
وقوله: * (فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) أي: ما خضعوا وما ذلوا لربهم، والاستكانة طلب السكون.
وقوله: * (وما يتضرعون) أي: لم يتضرعوا إلى ربهم، بل مضوا إلى عتوهم وتمردهم.
485

* (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون (77) وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (78) وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون (79) وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون (80) بل قالوا مثل ما قال الأولون (81) قالوا أئذا متنا وكنا ترابا) * *
قوله تعالى: * (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد) يقال: بالموت، ويقال: بقيام الساعة.
وقوله: * (إذا هم فيه مبلسون). أي: متحيرون آيسون، وعن السدي قال: * (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد) هو فتح مكة. ويقال: العذاب الشديد هو الأمراض والشدائد، وعن مجاهد قال: هو القتل يوم بدر.
قوله تعالى: * (وهو الذي أنشأ لكم السمع) أي: الأسماع لتسمعوا، وهذا واحد بمعنى الجمع. وقوله: * (والأبصار) أي: لتبصروا. وقوله: * (والأفئدة) لتعقلوا. وقوله: * (قليلا ما تشكرون) أي: لم تشكروا هذه النعم.
قوله تعالى: * (وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون) أي: خلقكم وأنشركم وكثركم في الأرض. وقوله: * (وإليه تحشرون) أي: تبعثون.
قوله تعالى: * (وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار) أي: تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان، ويقال: ومنه اختلاف الليل والنهار.
وقوله * (أفلا تعقلون). معناه: أفلا تعقلون الآيات التي وضعتها فيها.
قوله تعالى: * (بل قالوا مثل ما قال الأولون) معناه: كذبوا كما كذب الأولون.
قوله تعالى: * (قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) أي: محشورون، وقالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب.
قوله تعالى: * (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين) أي: أكاذيب الأولين، ويقال: أسمار الأولين وأقاصيصهم، وقيل: ما سطره الأولون في
486

* (وعظاما أئنا لمبعوثون (82) لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (83) قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم (86) سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير) * * كتبهم ولا حقيقة له.
قوله تعالى: * (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (سيقولون لله) يعني: هو ملك لله وملكه.
وقوله: * (أفلا تذكرون) أي: تتعظون.
قوله تعالى: * (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم) أي: السرير الضخم.
قوله تعالى: * (سيقولون لله) وقرئ: ' سيقولون الله '.
أما قوله تعالى: ' سيقولون الله ' هذا راجع إلى اللفظ، فالمعنى كالرجل يقول لغيره: من مالك هذا الدار؟ فيقول: زيد.
وأما قوله: * (سيقولون لله) يرجع إلى المعنى دون اللفظ، كما يقول القائل لغيره: من مالك هذه الدار؟ فيقول: هي لزيد.
وقوله: * (قل أفلا تعقلون) أي: أفلا تحذرون.
قوله تعالى: * (قل من بيده ملكوت كل شيء). أي: مالك كل شيء، والتاء للمبالغة، وكذلك فعلوت تذكر للمبالغة مثل قولهم: جبروت ورهبوت، من كلامهم: رهبوت خير من رحموت، ومعناه: أن ترهب خير من أن ترحم.
وقوله: * (وهو يجير ولا يجار عليه) أن يؤمن على كل الناس، ولا يؤمن عليه أحد، ومعناه: أن من أمنه الله لا يقدر عليه أحد، ومن لم يؤمنه الله لم يؤمنه أحد، وقيل: من أراد الله عذابه لا يقدر أحد على منع العذاب عنه، ومن أراد أن يعذب غيره من الخلق قدر الله على منعه منه. وقوله: * (إن كنتم تعلمون) ظاهر المعنى.
487

* (ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون (88) سيقولون لله قل فأنى تسحرون (89) بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون (90) ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون (91) عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون (92) قل رب إما تريني ما يوعدون) * *
قوله تعالى: * (سيقولون لله قل فأنى تسحرون) أي: تخدعون، وقيل: تصرفون عن الحق، قال الحسن: معناه: أين ذهبت (عقولكم)؟، وقال أبو عبيدة: * (فأنى تسحرون) أي: تعمهون.
قوله تعالى: * (بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون) أي: بالصدق، إنهم لكاذبون فيما يدعون لله من الشريك والولد.
قوله تعالى: * (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) أي: من شريك. وقوله: * (إذا لذهب كل إله بما خلق) أي: تفرد بما خلقه، فلم يرض أن يضاف خلقه ونعمته إلى غيره. وقوله: * (ولعلا بعضهم على بعض). أي: طلب بعضهم الغلبة على البعض، كما يفعل ملوك الدنيا فيما بينهم، ثم نزه نفسه فقال: * (سبحان الله عما يصفون).
قوله تعالى: * (عالم الغيب والشهادة) أي: السر والعلانية.
وقوله: * (فتعالى عما يشركون) أي: تعظم عما يشركون، ومعناه: أنه أعظم أن يوصف بهذا الوصف.
قوله تعالى: * (قل رب إما تريني ما يوعدون) يعني: إن أريتني ما وعدتهم من العذاب * (رب فلا تجعلني في القوم الظالمين) أي: اجعلني خارجا منهم، ولا تعذبني معهم، هكذا ذكره الزجاج. قال أهل التفسير: وهذا دليل على أنه يجوز للعبد أن يسأل الله تعالى ما هو كائن لا محالة.
قوله تعالى: * (وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون) أي: ما نعدهم من العذاب.
488

(* (93) رب فلا تجعلني في القوم الظالمين (94) وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون (95) ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون (96) وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين (97) وأعوذ بك رب أن يحضرون (98) حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون (99)) * *
قوله تعالى: * (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) أكثر أهل التفسير أن المراد منه هو الدفع بالصبر، واحتمال الأذى، والكف عن المقاتلة، وهذا قبل آية السيف، وعن جماعة من التابعين أنهم قالوا: هو أن يسلم على من يؤذيه، فالدفع هو بالسلام عليه، وعن الضحاك، عن ابن عباس قال: هو دفع الشرك بلا إله إلا الله، وعن بعضهم: هو دفع المنكر بالموعظة.
قوله تعالى: * (نحن أعلم بما يصفون) أي: بوصفهم وكذبهم.
قوله تعالى: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) وساوسهم، والهمز في اللغة مأخوذ من الدفع، ودفع الشياطين غيره إلى المعصية يكون بوسوسته، فعرف أن الهمزات هي الوساوس، وقيل: همز الشيطان إغراؤه على المعصية.
وقوله: * (وأعوذ بك رب أن يحضرون) أي: يحضروا أمري، وإنما ذكر الحضور؛ لأنه يغريه على المعصية، ويوسوسه إذا حضر.
قوله تعالى: * (حتى إذا جاء أحدهم الموت) أي: حضر أحدهم الموت. وقوله: * (قال رب ارجعون) فيه قولان: أحدهما: أنه خطاب للملائكة، وهم الملائكة الذين يحضرون بقبض الروح، وهذا قول ضعيف؛ لأنه قد قال: * (رب).
وأما القول الثاني - وهذا المعروف - أن الخطاب مع الله، وكأن الكافر يسأل ربه عند الموت أن يرده إلى الدنيا، فإن قيل: كيف يستقيم هذا، وقد قال: * (ارجعون)، والواحد لا يخطاب بخطاب الجمع، ولا يستقيم أن يقول القائل: اللهم اغفروا لي؟ والجواب عنه: أنه إنما ذكر بلفظ الجمع على طريق التفخيم والتعظيم، فإن الله تعالى أخبر عن نفسه بلفظ الجمع فقال: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ومثل هذا كثير في القرآن، فذكر قوله: * (ارجعون) على موافقة هذا كما يخاطب الجمع،
489

* (لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (100) فإذا نفخ في الصور) * * وعن الخليل أنه سئل عن هذه الآية - وكان شديد التوقي في كلام القرآن - وقال: * (رب ارجعون) معناه: اجعلني مرجوعا.
وقوله تعالى: * (لعلي أعمل صالحا فيما تركت) أي: أقول لا إله إلا الله، وقيل: هو العمل بالطاعة، قال قتادة: طلب الرجوع ليعمل صالحا، لا ليجمع الدنيا، ويقضي الشهوات، فرحم الله امرءا عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب.
قوله تعالى: * (كلا إنها كلمة هو قائلها) يعني: سؤال الرجعة، وقد قال أهل العلم من السلف: لا يسأل الرجعة عبد له عند الله ذرة من خير؛ لأنه إذا كان له خير عند الله فهو يحب القدوم عليه، واتفقوا أن سؤال الرجعة يكون للكافر لا للمؤمن.
وقوله: * (ومن وراءهم برزخ) أي: حاجز، وهو القبر.
وقوله: * (إلى يوم يبعثون) فالبرزخ هو ما بين الموت إلى البعث، ويقال: ما بين الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: * (فإذا نفخ في الصور) حكي عن الحسن البصري أنه قال: أي: في الصور. وهذا قول ضعيف، والصحيح أن الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل، ومن المشهور أن النبي قال: ' كيف أنعم، وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى بأذنه متى يؤمر فينفخ '.
فمن العلماء من يقول: ينفخ ثلاث نفخات: نفخة للصعق، ونفخة للموت،
490

* (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون (101)) * * ونفخة للبعث. والأكثرون أنه ينفخ نفختين: نفخة للموت، ونفخة للبعث، والصعق هو الموت، ويكون بين النفختين أربعون سنة.
قوله تعالى: * (فلا أنساب بينهم يومئذ) أي: لا أنساب يتفاخرون ويتواصلون بها، وأما أصل الأنساب فباقية.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ' كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي ' أي: لا ينفع سبب ولا نسب يوم القيامة إلا سببي ونسبي، ويقال: سببه القرآن، ونسبه الإيمان.
وقوله: * (ولا يتساءلون) أي: لا يسأل بعضهم بعضا سؤال تواصل، فإن قيل: أليس أن الله تعالى قال: * (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)؟
الجواب: ما روي عن ابن عباس أنه قال: يوم القيامة مواطن وتارات، ففي موطن يشتد عليهم الخوف (فتذهل) عقولهم، فلا يتساءلون، وفي موضع يفيقون إفاقة فيتساءلون.
قوله تعالى: * (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون) أي: الفائزون والناجون.
قوله تعالى: * (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) أي: غبنوا
491

* (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (102) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون (103) تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون (104) ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون (105)) * * أنفسهم بهلاك (الآية). وقوله: * (في جهنم خالدون) أي: مقيمون.
قوله تعالى: * (تلفح وجوههم النار). اللفح أكبر من النفح، ومعناه: يصيب وجوههم حر النار، وقيل: تحرق وجوههم النار وتنضجها.
وقوله: * (وهم فيها كالحون) الكالح في اللغة: هو العابس، وأما المروي في التفسير: هو الذي تقلصت شفتاه، وظهرت أسنانه.
وعن ابن مسعود أنه قال: كالرأس النضيج قد بدت أسنانه، وتقلصت شفتاه. وذكر أبو عيسى الترمذي في جامعه برواية أبي سعيد الخدري عن النبي قال في هذه الآية: ' هو أن تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته '. وفي بعض التفاسير: وتخرج أسنانه عن شفتيه [أربعين] ذراعا.
وعن بعض التابعين من الخائفين: أنه مر على شواء، فرأى رؤوس الغنم وقد أبرزت، فلما نظر إليها غشي عليه، كأنه يذكر هذه الآية.
وقوله تعالى: * (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون) أي: تجحدون وتنكرون.
وقوله: * (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا) وقرئ: ' شقاوتنا ' وهما بمعنى واحد، والمراد منه: إنما أدخلنا النار بما غلب علينا من حكمك وقضائك بشقاوتنا. وقوله:
492

* (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين (106) ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون (107) قال اخسئوا فيها ولا تكلمون (108) إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين (109) فاتخذتموهم سخريا) * * (وكنا قوما ضالين) أي: عن الحق.
قوله تعالى: * (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) فيتركهم مقدار عمر الدنيا، وفي رواية: مثلي عمر الدنيا.
ثم يقول: * ([قال] اخسئوا فيها ولا تكلمون) قال: فينقطع رجاؤهم حينئذ، ولا يسمع بعد ذلك منهم إلا الزفير والشهيق، وأما قوله: * (اخسئوا) أي: ابعدوا، وهو مثل قولهم: خسأت الكلب أي: أبعدته.
قوله تعالى: * (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين). قال أهل التفسير: هذا في بلال وسلمان وعمار وصهيب والفقراء من أصحاب الرسول.
وقوله: * (فاتخذتموهم سخريا) وقرئ: ' سخريا ' فقوله: * (سخريا) من الاستهزاء، وقوله: ' سخريا ' من التسخير.
وقوله: * (حتى أنسوكم ذكري) أي: اشتغلتم بالاستهزاء والسخرية عليهم، وتركتم ذكري، وكان الواجب عليكم أن تذكروني بدل استهزائكم بهم.
وقوله: * (وكنتم منهم تضحكون) وفي الآية دليل على أن الاستهزاء بالناس كبيرة، وهو موعود عليه، وعن جعفر بن محمد - رضي الله عنه - قال: من ضحك ضحكة مج مجة من العلم لا يعود إليه أبدا.
قوله تعالى: * (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون) أي: بصبرهم * (أنهم هم الفائزون) أي: الناجون.
493

* (حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون (110) إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون (111) قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين (112) قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين (113) قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون (114) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115)) * *
قوله تعالى: * (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين). يعني: قال الله تعالى للكفار: * (كم لبثتم في الأرض عدد سنين) (أي: في الدنيا، ويقال: في القبور، وقرئ: ' قل كم لبثتم في الأرض عدد سنين ') ومعناه: قل يا أيها الكافر.
قوله تعالى: * (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) إنما ذكروا يوما أو بعض يوم؛ لأنهم نسوا عدد ما لبثوا من هول ما يلقاهم يوم القيامة، فإن قال قائل: هذه الآية تدل على أن عذاب القبر ليس بثابت للكفار؛ لأنه لو كان ثابتا لم يقولوا: لبثنا يوما أو بعض يوم؟ والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه ذهب عن قلوبهم عذاب القبر من هول ما يلقاهم يوم القيامة، والثاني: أن الله تعالى يرفع العذاب عن أهل القبور بين النفختين، فينسون عذاب القبر، ويستريحون، وإنما يقولون لبثنا يوما أو بعض يوم لهذا.
وقوله: * (فاسأل العادين) أي: الملائكة الذين يعرفون عدد ما لبثوا.
قوله تعالى: * (قال إن لبثتم إلا قليلا) يعني: ما لبثتم إلا قليلا * (لو أنكم كنتم تعلمون) أي: لو تعلمون عدد ما لبثتم، وإنما ذكر قليلا؛ لأن الواحد من أهل الدنيا وإن لبث في الدنيا سنين كثيرة، فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة.
قوله تعالى: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) أي: لتلعبوا أو تعبثوا، وقد سمى الله تعالى جميع الدنيا لعبا ولهوا فقال: * (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) فالآية تدل على أن الآدمي لم يخلق لطلب الدنيا والاشتغال بها، وإنما خلق ليعبد الله ويقوم بأوامره، وعن بعضهم قال: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) هو في معنى قوله
494

* (فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم (116) ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون (117) وقل رب) * * تعالى: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) ومعناه: أنه لا يهمل أمره وقال بعضهم: خلق (لهلاك) الأبد أو لملك الأبد.
وقوله: * (وأنكم إلينا لا ترجعون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) أي: المرتفع، وقيل: الحسن، وقد بينا معنى * (تعالى) من قبل.
قوله تعالى: * (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) أي: لا بينة ولا حجة له به، قال أهل العلم: لا حجة لأحد في دعوى الشرك، وإنما الحجة عليهم.
وقوله: * (فإنما حسابه عند ربه) هذا في معنى قوله تعالى: * (ثم إن علينا حسابهم)، وروي ' أن أعرابيا أتى النبي وقال: ومن يحاسبنا يوم القيامة؟ قال: الله. قال: نجونا ورب الكعبة، إن الكريم إذا قدر غفر ' والخبر غريب.
وقوله: * (إنه لا يفلح الكافرون) أي: لا يسعد ولا يفوز.
قوله تعالى: * (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين)
* (اغفر) استر * (وارحم) اعطف، والغفور: الستور، والرحيم هو العطوف.
495

* (اغفر وارحم وأنت خير الراحمين (118)) * *
قوله: * (وأنت خير الراحمين). أي: خير من رحم.
496

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (سورة أنزلناها وفرضناها) * *
تفسير سورة النور
وهي مدنية، وروى الحاكم أبو عبد الله الحافظ فيما خرجه من الزيادة على الصحيحين برواية شعيب بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال في النساء: ' لا تسكنوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغزل وسورة النور '.
قوله تعالى: * (سورة أنزلناها) وقراءة الأعرج ومجاهد ' سورة أنزلناها '، والسورة: مجموع آيات مما أنزل الله تعالى معلوم الابتداء والانتهاء، وإنما رفع سورة؛
لأن معناها: هذه سورة، وقوله: ' سورة ' بالنصب فتقديره أنزلنا سورة.
وقوله: * (وفرضناها) قرىء بالتشديد والتخفيف، أما بالتخفيف ففي معناه وجهان: أحدهما: ألزمناكم العمل بما فرض فيها، والآخر: فرضناها أي: قدرنا ما فيها من الحدود، والفرض هو التقدير، ومنه قوله تعالى: * (فنصف ما فرضتم) أي: ما قدرتم، وأما بالتشديد ففي معناه وجهان:
أحدهما: فرضنا فرائضها، وشدد لما فيها من الكثرة.
والوجه الثاني: فرضناها أي: بيناها وفصلناها.
قال مجاهد: هو الأمر بالحلال والنهي عن الحرام.
497

* (وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون (1) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * *
وقوله: * (وأنزلنا فيها آيات بينات) أي: دلالات واضحات.
وقوله: * (لعلكم تذكرون) أي: تتعظون.
قوله تعالى: * (الزانية والزاني) قال أهل العلم: إنما بدأ بالمرأة، لأن رقة القلب عليهن أكثر، فبدأ بهن لئلا يترك إقامة الحد عليها، ويكون أمرها لهم، ومنهم من قال: لأن الشهوة فيهن أكثر، والزنا نتيجة الشهوة، وبدأ في حد السرقة بالرجل؛ لأن القوة والجراءة في الرجال أكثر، والسرقة نتيجة القوة والجراءة، وهذا قول حسن.
وقوله: * (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) الجلد: ضرب الجلد، يقال: جلدته إذا ضربت جلده، وبطنته إذا ضربت بطنه، وظهرته إذا ضربت ظهره، وفي الآية قولان: أحدهما: أن الآية عامة في الأبكار والثيب، فتجلد الثيب مع الرجم. روي عن علي - رضي الله عنه - ' أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس مائة، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله '.
وأما قول عامة العلماء فهو: أن الآية مخصوصة للأبكار، وأن الثيب يرجم ولا يجلد، واتفق أهل العلم أن هذه الآية ناسخة؛ لأن المذكورة في الإمساك في سورة النساء.
وقد روي عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي نزل عليه الوحي ونحن عنده، وكان إذا نزل عليه الوحي تغير وجهه، وصرفنا أبصارنا عنه، فلما سرى عنه قال: ' لتأخذوا عني فقلنا: نعم يا رسول الله، فقال: قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب الرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام '.
498

* (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)) * *
وذكر النقاش أن في حرف أبي بن كعب في سورة الأحزاب، ' الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم '.
وكان عمر - رضي الله عنه - قد هم أن يكتب هذا على حاشية المصحف ثم ترك لئلا يلحق بالقرآن ما ليس منه.
وقوله: * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) وقرئ: ' رأفة ' بغير همز، وقرئ في الشاذ: ' رآفة ' يعني: رحمة. واعلم أن الرحمة والرأفة معنى في القلب لا ينهى عنه؛ لأنه يوجد في القلب من غير اختيار إنسان، وإنما معنى الآية: استعمال الرحمة في (تعطيل الحد) وتخفيفه.
وروي عن عبد الله بن عمر أنه ضرب أمة له الحد، وكانت قد زنت، فجعل يضرب رجلها وظهرها، فقال له سالم ابنه: * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) فقال: يا بني: إن الله لم يأمرني بقتلها، ولا بضرب رأسها، وقد ضربت فأوجعت. وقد قال أهل العلم: يجتهد في جلدة الزاني ما لا يجتهد في جلدة شارب الخمر لنص الكتاب.
(وقوله: * (في دين الله) أي: في حكم الله).
وقوله: * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) ظاهر المعنى.
وحقيقة معناه: أن المؤمن لا تأخذه رحمة ورقة إذا جاء أمر الرب.
وقوله: * (وليشهد عذابها طائفة من المؤمنين) قال ابن عباس: واحد فما فوقه. وعن عطاء: رجل إلى ألف رجل. وعن سعيد بن جبير وعكرمة: رجلان. وعن الزهري وقتادة: ثلاثة نفر. وقال مالك: أربعة نفر، وهو قول الشافعي وجماعة من أهل العلم.
قوله تعالى: * (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) في الآية أقوال: أحدهما: أن
499

* (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم) * * الآية نزلت في امرأة تسمى أم مهزول، وكانت بغية، وإذا تزوجت برجل شرطت عليه أن تنفق عليه، فأراد رجل من أصحاب رسول الله أن يتزوج بها، فسأل النبي []، فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (الزاني لا ينكح إلا زانية) ويقال: إن اسم المرأة كان عناق. وهذا قول عبد الله بن عمرو بن العاص.
والقول الثاني: قال مجاهد وقتادة وغيرهما: ' كان بالمدينة بغايا على أبوابهن رايات يعرفن بها، وكن مخاصيب الرجال، فلما هاجر أصحاب رسول الله إلى المدينة أراد ناس من فقراء المهاجرين أن يتزوجوا بهن لينفقن عليهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والقول الثالث: روي عن الحسن البصري أنه قال: معنى الآية: ' الزاني المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة، والزانية المجلودة لا ينكحها إلا زان مجلود وفي بعض
المسانيد: روى هذا القول عن النبي بطريق أبي هريرة.
500

والقول الرابع: روي عن علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية، ومعنى النكاح [هو الوطء]، قال الزجاج: وهذا القول ضعيف؛ لأنه لم يرد في القرآن ذكر النكاح بمعنى الوطء.
والقول الخامس - وهو أحسن الأقاويل - قول سعيد بن المسيب: أن الآية منسوخة، وقد كان في حكم الإسلام لا يجوز أن يتزوج الزاني بالمزني بها. قال عبد الله بن مسعود. إذا تزوج الزاني بالزانية فهما زانيان أبدا. قال سعيد بن المسيب: ثم نسخ هذا بقوله تعالى: * (وأنكحوا الأيامى منكم) والزانية أيم، فيجوز التزوج بها للزاني وغيره، والدليل على أن الحكم الآن هذا، ما روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه كان جالسا في المسجد وعنده عمر، فجاء رجل وقد دهش، وكان به لوث، فقال أبو بكر: قد جاء هذا لأمر، سله يا عمر، فقال له عمر: ما شأنك؟ فذكر أنه جاءه ضيف، وأن الضيف زنى بابنته، فقال له عمر: قبحك الله، ودق على صدره، وقال: هلا سترت على ابنتك، ثم دعا بالرجل والمرأة، فأمر أبو بكر - رضي الله عنه - أن يجلد الجلد، (ثم زوج المرأة من الرجل) وذكر أبو عبيد - رحمه الله - أنه يكره للرجل أن يتزوج بالفاجرة، وإن فجرت امرأته استحب له طلاقها، قال: وأما الخبر الذي روي عن النبي ' أن رجلا أتاه وقال: إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال: طلقها فقال: إني أحبها. قال: استمتع بها. قال أبو [عبيد] هذا الخبر نقل
501

* (ذلك على المؤمنين (3) والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم) * * بروايتين كل واحد منهما مرسل، فليس يثبت هذا عن النبي ولئن يثبت فيحتمل أن قوله: ' إن امرأتي لا ترد يد لامس ' تنفق ما وقع بيدها وتعطي، وكأنه شكا منها الخرق وتضييع ماله، وليس المراد هو أنها تزني، فإنه لا يجوز أن يذكر ذلك عند النبي، ثم يأمره بإمساكها.
وقوله: * (وحرم ذلك على المؤمنين) ظاهر المعنى، وقد بينا أن ذلك منسوخ.
قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) والمحصنات هن اللواتي أحصن أنفسهن.
وقوله: * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) أي: على زناهن، والمراد من الرمي المذكور في الآية هو القذف بالزنا.
وقوله: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) أي: اضربوهم ثمانين سوطا.
وقوله: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) اختلف السلف في هذا، فروي عن شريح والحسن وإبراهيم النخعي وجماعة أنهم قالوا: شهادة القاذف لا تقبل أبدا إذا حد وإن تاب، وهذا قول أهل العراق.
وقال عمر بن عبد العزيز والزهري وسعيد بن المسيب والشعبي وجماعة: أنه إذا تاب قبلت شهادته، وهذا قول أهل الحجاز.
وقال الشعبي: يقبل الله توبته، ولا تقبلون شهادته؟! وحكى سعيد بن المسيب أن عمر قال لأبي بكرة: تب تقبل شهادتك، فلم يتب، والمسألة معروفة.
وقوله: * (وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) فمن قال: إن شهادة القاذف
502

* (الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5) والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6)) * * تقبل بعد التوبة ذهب إلى أن قوله: * (إلا الذين تابوا) ينصرف إلى الكل سوى الحد، وعن الشعبي: أن الحد يسقط أيضا بالتوبة، وأما من ذهب إلى أن شهادة القاذف لا تقبل بعد التوبة قال: إن قوله: * (إلا الذين تابوا) ينصرف إلى قوله: * (وأولئك هم الفاسقون) فإن قيل: إذا قبلتم شهادة القاذف بعد التوبة، فما معنى قوله تعالى: * (أبدا)؟ والجواب عنه: قال الزجاج في كتابه: أبد كل إنسان مدته على ما يليق بقصته، فإذا قيل: لا تقبل شهادة الكافر أبدا يراد به ما دام كافرا، وإذا قيل: لا تقبل شهادة القاذف أبدا يراد به ما دام قاذفا، وأما توبة القاذف فبإكذابه نفسه، ويقال: بندامته على ما وجد منه.
قوله: * (وأصلحوا) أي: استقاموا على التوبة.
وقوله: * (فإن الله غفور رحيم) قد بينا من قبل.
قوله: * (والذين يرمون أزواجهم). يعني: يقذفون نساءهم بالزنا.
وقوله: * (ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) أي: غير أنفسهم.
وقوله: * (فشهادة أحدهم أربع) بالرفع، وقرئ بالنصب ' أربع '، فأما بالرفع فتقديره: فشهادة أحدهم التي تدرأ الحد أربع، فيكون رفعا على خبر الابتداء، وأما بالنصب فتقديره: فشهادة أحدهم أن يشهد أربع.
وقوله: * (شهادات بالله إنه لمن الصادقين) يعني: فيما رميتها به من الزنا.
قوله تعالى: * (والخامسة أن لعنة الله عليه) وقرئ: ' أن لعنة الله عليه ' بسكون
503

* (والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين (7) ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين (9)) * * النون، ومعناه: أنه لعنة الله عليه، وأنشد سيبويه شعرا:
(في فتية كسيوف الهند قد علموا
* أن هالك كل من يخفى وينتعل)
يعني: أنه هالك.
وقوله: * (إن كان من الكاذبين) يعني: فيما رماها به من الزنا.
قوله تعالى: * (ويدرأ عنها العذاب) في العذاب قولان: أحدهما: أنه الحد، والآخر: أنه الحبس، وتأويل الحد أظهر؛ لأن الله تعالى قال: * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) أي: الحد.
وقوله: * (أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين) يعني: فيما رماها به من الزنا.
قوله تعالى: * (والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) وقرئ: ' أن غضب الله عليها '، وقرئ: ' أن غضب الله عليها ' بكسر الضاد فقوله: * (أن غضب الله عليها) هذا فعل، وقوله: * (أن غضب الله عليها) اسم، وقوله: * (أن
504

غضب الله) هو (فعل) أيضا، يعني: أنه غضب الله.
وقوله: * (إن كان من الصادقين) أي: فيما رماها به من الزنا، وسبب نزول الآية، ما روى ابن عباس ' أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء عند النبي، فقال له النبي: البينة، (وإلا) فحد في ظهرك فقال هلال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق إني لصادق، وسينزل الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت هذه الآية، فدعا رسول الله هلالا وامرأته، ولاعن بينهما، فبدأ هلال، والتعن أربع مرات، فلما بلغ الخامسة قال له النبي: أمسك فإنها موجبة. فقال هلال إن الله يعلم أني صادق وشهد بالخامسة، ثم قامت المرأة فالتعنت أربع مرات، فلما بلغت الخامسة قال لها النبي: أمسكي فإنها موجبة. قال ابن عباس: فتلكت تلكؤا ساعة، حتى ظننا أنها سترجع ثم قالت: لا أفضح قومي اليوم، وشهدت بالخامسة، فقال النبي: ' إن جاءت بالولد أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء، فجاءت به على هذا النعت، فقال النبي: ' لولا الأيمان لكان لي ولها شأن '. والخبر صحيح.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ' كنا جلوسا في المسجد ليلة جمعة، ومعنا رجل فخرج منا ودخل بيته، فوجد مع امرأته رجلا، فجاء إلى النبي، وشكا إليه فقال: عليك بالشهود فقال: وأنى لي بالشهود؟ فقال: قد حرت في هذا الأمر، فإن الرجل إن قتل قتلتموه، وإن تكلم حددتموه، وإن سكت سكت على
505

* (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10) إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) * * غيظ، اللهم فاحكم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات '. وفي رواية ثالثة: أنه لما أنزل الله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربع شهداء... الآية) قال [سعد] بن عبادة: يا رسول الله، أرأيت أني وجدت لكاعا (يتفخذ) رجل، فلا أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فإلى أن آتي بالشهداء قد قضى الرجل حاجته، فقال النبي: ' انظروا يا معشر الأنصار ما يقول سيدكم '، فقالوا: يا رسول الله، إنه لرجل غيور، وإنه ما تزوج امرأة قط إلا عذراء، وما طلق امرأة فأحب أحد منا أن يتزوجها، فقال سعد: إني أعلم أن ما أنزل الله حق، ولكني تعجبت، فأنزل الله تعالى آية اللعان ' على ما بينا.
وفي الباب أخبار كثيرة، وفيه حديث عاصم بن عدي [وعويمر] العجلاني وغيرهما، وذلك مذكور في كتب الحديث.
قوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب رحيم).
جواب الآية محذوف، ومثله قول الرجل إذا شتمه إنسان: أيها الرجل لولا كذا أي: لولا كذا لشتمتك، فعلى هذا معنى قوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم
506

ورحمته) لنال الكاذب منكما العذاب في الحال، ومنهم من قال: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) بتأخير العذاب وإمهاله لعجل عذابه.
قوله تعالى: * (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) هذه الآيات في قصة عائشة - رضي الله عنها - وكان سبب نزولها ما رواه الزهري، عن عروة وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة كلهم عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: ' كان رسول الله إذا خرج إلى سفر أقرع بين نسائه، فخرج إلى غزوة غزاها، وأقرع بين نسائه، فخرجت قرعتي ' وفي رواية: أن الغزوة كانت غزوة مريسيع، وفي رواية أخرى: أن الغزوة كانت غزوة بني المصطلق، وقالت: فلما رجعنا قبل المدينة عرس رسول الله ليلة، ثم إنهم آذنوا بالرحيل، فخرجت لحاجتي فلما قضيت شأني رجعت فالتمست صدري، فوجدت عقدا لي من جزع ظفار سقط، فرجعت، وجاء القوم الذين يرحلون هودجي، ووضعوا الهودج على البعير، وظنوا أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا، فإنما يأكلن العلقة من الطعام، فرجعت وقد مر الجيش، فلا داع ولا مجيب، وكان صفوان بن المعطل السلمي كان تأخر عن الجيش، وفي رواية: أنه كان يعتاد التأخر، حتى إن كان سقط من أحد شيء، أو ترك إنسان شيئا يأخذه، ويرده عليه، فجاء ورائي، فاسترجع وما كلمني بكلمة وقد استدلت جلبابي، فأناخ بعيره ووطأه لي حتى ركبته، وجاء يقودني حتى لحقنا بالجيش، وقد نزلوا موغرين في حر الظهيرة، قالت: فلما وصلنا إلى الجيش تكلم الناس، وهلك من هلك ' الخبر بطوله.
قال الشيخ الإمام: أخبرنا بهذا الحديث المكي بن عبد الرزاق الكشميهني، أخبرنا
507

جدي أبو الهيثم بن محمد بن يوسف الفربري [أخبرنا] محمد بن إسماعيل البخاري أخبرنا أبو الربيع الزهراني عن فليح بن سليمان، عن الزهري... الخبر.
ويروى أنه... تلبث الوحي [سبعة] وثلاثين يوما.
وفي هذا الخبر أن عائشة اشتكت واستأذنت رسول الله، ورجعت إلى بيت أبيها، وكان رسول الله يدخل قبل رجوعها إلى بيت أبيها، وهي مشتكية، فيقول: ' كيف تيكم؟ ' ثم لما رجعت إلى بيت أبيها عرفت الخبر من قبل أم مسطح فازدادت وبقا، وجعلت تبكي، ولا يرقأ لها دمع، حتى كاد البكاء يصدع قلبها، وذكرت لذلك لأمها، فقالت لها أمها: هوني عليك فقلما تكون امرأة وضيئة عند رجل، ولها ضرائر إلا تكلموا فيها.
وفي هذا الخبر أن النبي دعا عليا وأسامة بن زيد، واستشارهما، فأما علي فقال يا رسول الله، إن في النساء كثرة، وأما أسامة فقال: لا أعلم منها إلا خيرا، وسل الجارية - يعني: بريرة - فسأل بريرة فقالت: لا أعلم منها إلا أنها جارية حديثة السن تعجن، فتدخل الداجن فتأكل عجينها.
وفي هذا الخبر أن النبي جاء إلى بيت أبي بكر - رضي الله عنه - بعد أن مضت المدة التي ذكرناها، فقال: ' يا عائشة، إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة: قالت: فقلص دمعي حتى ما أجد منه قطرة، ثم قلت: إن قلت أني فعلت، والله يعلم أني ما فعلت ليصدقنني، وإن قلت: لم أفعل، والله يعلم أني لم أفعل ليكذبنني، وما أعرف مثلي ومثلكم إلا ما قال أبو يوسف، ونسيت اسمه * (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) ثم تنحيت، فأخذ رسول الله [] الوحي، قالت: وكنت أحقر في نفسي أن أظن أن الله ينزل في قرآنا يتلى،
508

* (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11)) * * ولكني كنت أظن أنه يرى رؤيا، فلما تغشاه الوحي لم أفزع لما علمت أني بريئة، والله يعلم ذلك '.
وفي بعض الروايات: أن أبوي كادت نفسهما تخرج خوفا، فلما سرى عن رسول الله قال: ' أبشري يا عائشة قد أنزل الله تعالى براءتك، وتلا الآيات: * (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) فقال لي أبي: قومي إلى رسول الله، وقالت أمي: قومي إلى رسول الله، فقلت: لا أقوم ولا أحمد إلا الله، فإن الله تعالى أنزل براءتي '.
قوله تعالى: * (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) الإفك هو أشد الكذب، وإنما سمي إفكا لأنه مصروف عن الحق. وقوله: * (عصبة منكم هؤلاء العصبة هم: عبد الله بن أبي بن سلول، ومسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبد الله أخت زينب، ونفر آخرون، والعصبة العشرة فما فوقها.
وقوله: * (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم) هذا خطاب لعائشة وصفوان بن معطل فإنهم قذفوهما جميعا، وقال بعضهم: هو خطاب لعائشة ولأبويها والنبي وصفوان، ومعنى الآية: لا تحسبوه شرا لكم، يعني: هذا الإفك هو خير لكم لأجل الثواب، وما ادخر الله لهم من ذلك.
وقوله: * (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم) أي: من الإثم بقدر ما اكتسب.
وقوله: * (والذي تولى كبره). وقرئ: ' كبره '، وقرأ الأعرج: ' كبره '. فقوله: * (كبره) أي: إثمه. وقوله: ' كبره '. أي: معظمه، قال الشاعر:
509

* (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين (12) لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (13) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة) * *
(تنام عن كبر شأنها فإذا
* قامت [رويدا] تكاد تنغرف)
وأما الذي تولى كبره فالأكثرون أنه عبد الله بن أبي بن سلول، وأما العذاب العظيم فهو النار في الآخرة.
وقد روى مسروق أن حسان بن ثابت استأذن على عائشة فأذنت له، فقال مسروق: أتأذنين له، وقد قال ما قال، فقالت: قد أصابه العذاب العظيم، وكان قد عمى، وقد تاب حسان من تلك المقالة ومدح عائشة فقال:
(حصان رزان ما تزن بريبة
* وتصبح غرثى من لحوم الغوافل)
([فإن كان ما بلغت أني قلته]
* فلا رفعت سوطي إلى أناملي)
وعن أبي عمرو بن العلاء أنه أنكر الكبر وقال: إنما الكبر في الولاء والنسب. وقد ذكر غيره أن كل واحد منهما صحيح، وقد بينا.
قوله تعالى: * (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) أي: بمن هو مثل أنفسهم، وهو مثل قول النبي: ' المؤمنون كنفس واحدة '، وقد قال الله تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: لا يقتل بعضكم بعضا، ويقال: إن معنى ظن هاهنا أيقن.
وقوله: * (وقالوا هذا إفك مبين) أي: كذب ظاهر.
510

* (لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم (14) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم (15) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم (16)) * *
قوله: * (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) أي: على ما زعموا.
وقوله: * (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) فإن قال قائل: كيف يصيرون عند الله كاذبين إذا لم يأتوا بالشهداء، (ومن كان كاذبا فهو كاذب عند الله سواء أتى بالشهداء)، أو لم يأت بهم؟ الجواب: قلنا: قال بعضهم: * (عند الله) أي: في حكم الله، وقال بعضهم: * (عند الله هم الكاذبون) أي: كذبوهم بما أمركم الله، والجواب الثالث: أن هذا في حق عائشة - رضي الله عنها - فمعناه: أولئك هم الكاذبون في غيبي وعلمي.
قوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم) أفضتم أي: خضتم، وقوله: * (عذاب عظيم) أي: عذاب لا
انقطاع له، هكذا قاله ابن عباس، وفسر بهذا لأن الله تعالى قد ذكر أنه أصاب الذي تولى كبره عذاب عظيم، وكذلك العذاب العظيم هو في الدنيا، وقد أصابه، فإنه قد جلد وحد، وأما العذاب الذي لا انقطاع له لم يصبه في الدنيا، وإنما يصيبه في الآخرة.
وروت عمرة عن عائشة: ' أن النبي لما نزلت هذه الآيات حد أربعة نفر: عبد الله بن أبي، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش '.
قوله تعالى: * (إذا تلقونه بألسنتكم) أي: يلقيه بعضكم، ويرويه بعضكم عن بعض، وعن عائشة أنها قرأت: ' إذ تلقونه بألسنتكم الكذب ' ويقال: هو الإسراع في
511

* (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين (17) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (18) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم (20) يا أيها الذين آمنوا لا) * * الكذب.
وقوله: * (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا) أي: خفيفا.
* (وهو عند الله عظيم) أي: كبير.
قوله تعالى: * (ولولا إذ سمعتموه) ومعناه: هلا إذ سمعتموه.
* (قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم) البهتان هو الكذب على المكابرة، يقال: بهته إذا أخبرته بكذبه، وفي بعض الأخبار: أن أم أيوب الأنصاري قالت لأبي أيوب: أما بلغك كذا، وهو ما نسب إلى عائشة؟ فقال أبو أيوب: ما كان لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، قال هذا قبل أن تنزل الآية، ثم نزلت الآية على وفق قوله.
قوله: * (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا) قال مجاهد: ينهاكم الله أن تعودا لمثله أبدا.
* (إن كنتم مؤمنين ويبين لكم الآيات): أي: الدلالات.
* (والله عليم حكيم) عليم بخلقه، حكيم في فعله.
قوله تعالى: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) يعني: أن تذيع وتشتهر.
* (في الذين آمنوا) أي: عائشة وصفوان وآل أبي بكر، وكانت إشاعتهم أن بعضهم كان يلقى بعضا فيقول له: أما بلغك كذا وكذا من خبر عائشة.
وقوله: * (لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) العذاب في الدنيا هو الحد، والعذاب في الآخرة هو النار.
وقوله: * (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) يعني: براءة عائشة وأنه خلقها طيبة طاهرة
512

* (تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم (21) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) * * من الفواحش.
قوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم) محذوف الجواب، وجوابه: لنالكم العذاب الشديد في الحال.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان) أي: خطايا الشيطان، وقيل: آثاره، ويقال: تخطيه من الحلال إلى الحرام، ومن الطاعة إلى المعصية.
وقوله: * (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء) أي: القبائح من الأفعال.
* (والمنكر) أي: كل ما يكرهه الله.
وقوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) أي: ما صلح منكم من أحد أبدا.
* (ولكن الله يزكي من يشاء) أي: يصلح من يشاء. قال الشاعر:
(إنما نحن كشيء فاسد
* فإذا أصلحه الله صلح)
وقوله: * (والله سميع عليم) ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: * (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة) هو مأخوذ من الألية، والألية اليمين. قال الشاعر:
(قليل الألايا حافظ ليمينه
* وإن بدرت منه الألية برت)
نزلت الآية في شأن أبي بكر ومسطح، وكان ابن خالة أبي بكر وفي نفقته، وهو
513

* (أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم (22) إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب) * * رجل من أهل بدر من المهاجرين الأولين، فلما ذكر في عائشة ما ذكر أنزل الله تعالى براءتها من السماء، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه، وكان مسكينا لا شيء له، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقرئ: ' ولا يتأل ' (قرأه أبو جعفر)، فالأكثرون أن معنى قوله: * (ولا يأتل) ما بينا، ومنهم من قال معناه: لا يقصر من قول القائل: لا آلوا في أمركم كذا أي: لا أقصر، وقوله: * (أولو الفضل منكم والسعة) أي: الغنى والسعة.
وقوله: * (أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين) هو مسطح، فإنه كان قريب أبي بكر، وكان مسكينا ومن المهاجرين، فإن قال قائل: كيف ذكر الواحد بلفظ الجمع؟ قلنا: يجوز مثل هذا في اللغة، ويجوز أنه أراده وأراد غيره.
وقوله: * (وليعفوا وليصفحوا) أي: ليعفوا عن أفعالهم، وليصفحوا عن أقوالهم.
وقوله: * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) هذا خطاب لأبي بكر - رضي الله عنه - وروي أنه لما نزلت هذه الآية، وقرئت عليه قال: بلى والله نحب أن يغفر لنا.
وقوله: * (والله غفور رحيم) أي: ستور صفوح.
قوله تعالى: * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات) أي: الغافلات عن الفواحش، والغافلة عن الفاحشة أن لا يقع في قلبها فعل الفاحشة، وكانت عائشة - رضي الله عنها - هكذا.
514

* (عظيم (23) يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين (25) الخبيثات للخبيثين) * *
وقوله: * (لعنوا في الدنيا والآخرة) روي عن خصيف قال: قلت لمجاهد: من قذف مؤمنة لعنه الله في الدنيا والآخرة؟ فقال: ذاك لعائشة. ويقال: هذا في جميع أزواج النبي.
وقوله: * (ولهم عذاب عظيم) قد بينا.
قوله تعالى: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم) شهادة الألسنة يوم القيامة بنطقها من غير اختيار الإنسان.
وقوله: * (وأيديهم وأرجلهم) يقال: تختم الأفواه ثم تتكلم الأيدي والأرجل.
* (بما كانوا يعملون) ظاهر.
قوله تعالى: * (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) أي: حسابهم العدل.
وقوله: * (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) أي: العادل المظهر لعدله.
قوله تعالى: * (الخبيثات للخبيثين) في الآية قولان معروفان: أحدهما: الخبيثات من الكلام للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلام، والطيبون والطيبات هكذا.
والقول الثاني: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وهكذا الطيبات والطيبون، والخبيث من الرجال عبد الله بن أبي بن سلول ودونه، والخبيثات من النساء أهل بيته، ويقال: كلامه في عائشة، والطيبات هي عائشة من النساء وأمثالها، والطيبون للنبي وقومه.
واعلم أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تفتخر بأشياء منها: ' أن جبريل - عليه
515

* (والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم (26) يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلك خير لكم لعلكم تذكرون) * * السلام - أتى بصورتها في سرقة (من) حرير أي: قطعة، وقال: هذه زوجك، (وذلك) بعد وفاة خديجة، ويقال: أتى بصورتها في كفه، ومنها أن النبي لم يتزوج بعذراء إلا بها، ومنها أن النبي قبض ورأسه في حجرها، ودفن في بيتها، ومنها أنه نزل براءتها من السماء، ومنها أنها بنت خليفة رسول الله، وأنها صديقة '. وكان مسروق إذا روى عن عائشة يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله المبرأة من السماء.
وقوله: * (أولئك مبرءون مما يقولون) أي: مطهرون بما يقولون.
وقوله: * (لهم مغفرة ورزق كريم) المغفرة هو العفو عن الذنوب، والرزق الكريم هو الجنة.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا).
قرأ ابن عباس: ' حتى تستأذنوا ' قال: تستأنسوا غلط من الكاتب، والمعروف تستأنسوا، وفيه ثلاثة أقوال: أشهرها: ' تستأذنوا ' فالاستئناس بمعنى الاستئذان، والقول الثاني: هو ' التنحنح ' قاله مجاهد، والقول الثالث: ' حتى تستأنسوا ' هو التعرف والاستعلام حتى يؤذن له أو لا يؤذن.
516

(* (27) فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم) * *
وقوله: * (وتسلموا على أهلها).
السنة إذا بلغ الإنسان باب دار يقول: أدخل؟ وقال بعضهم: إذا وقع العين على العين يقدم السلام، وإذا لم تقع العين على العين قدم الاستئذان.
وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع ' فروي أن أبا موسى الأشعري أتى باب عمر، واستأذن ثلاثا فلم يؤذن له فرجع، فقال عمر: أليس قد سمعت صوت عبد الله بن قيس؟ قالوا: استأذن ثلاثا ورجع، فدعاه وقال: لم رجعت؟ فقال: سمعت رسول الله يقول كذا، فقال: لتأتيني بمن يشهد لك، وإلا لأعلونك بالدرة، فجاء أبي بن كعب وذكر له ذلك، فجاء وشهد له، وقيل: غيره شهد له.
قال الحسن: الأول إعلام، والثاني (مؤامرة)، والثالث استئذان بالرجوع. وعن قتادة قال: إذا لم يؤذن له لا يقعد على الباب، فإن للناس حاجات. وقال بعضهم: إن كان طريقا يجوز أن يقف ويقعد، وإن كان فناء بيته لا يقعد إلا بإذنه. قالوا: وإن كان الباب مردودا فلا ينظر إلى الدار من شق الباب، وإن كان الباب مفتوحا فلا بأس
أن ينظر؛ لأنه لما فتح الباب فقد أذن.
517

* (ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم (28) ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) * *
وقوله تعالى: * (فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم) أي: لا تدخلوها بغير إذن المالك.
وقوله: * (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم) يعني: إذا كان في البيت قوم وقالوا: ارجع، فليرجع، والسنة أن لا يتغير أذن أو رد لأنه ربما يكون للقوم معاذير، وكان ابن عباس - رضي الله عنه - يأتي باب الأنصاري لطلب الحديث، فيقعد على الباب حتى يخرج ولا يستأذن، فيخرج ذلك الرجل ويقول: يا ابن عم رسول الله، لو أخبرتني؟ فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم.
وقوله: * (هو أزكى لكم) يعني: هو أصلح لكم.
وقوله: * (والله بما تعملون عليم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة).
فيه أقوال: أحدها: أنها المنازل في طريق المسافرين، والقول الثاني: أنها حوانيت التجار، والقول الثالث: أنها المنازل الخربة، والقول الرابع: أنها الخانات والمنازل في الطرق، فهو الدخول فيها والنزول، وأما في حوانيت التجار فالمنفعة هو البيع والشراء، وأما في الخرابات فالبول والغائط.
وقوله: * (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) ظاهر المعنى.
وروي عن شعيب بن الحبحاب قال: كان أبو العالية يأتيني وأنا في دكانتي، فيستأذن ثم يدخل، فأقول له: إنما هو الحانوت، فيقول لي: الإنسان يخلو في حانوته بحسابه ودراهمه، وأما الاستئذان على المحارم فإن كانوا في دار منفردة يستأذن، وإن كانوا في دار واحدة فإذا دخل عليها يتنحنح، ويتحرك أدنى حركة، وقيل لقتادة: لا
518

(* (29) قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (30)) * * أستأذن على أمي؟ فقال: أتحب أن ترى عورتها؟ قال: لا، قال: استأذن. وعن إبراهيم النخعي أنه قال: ليس على حوانيت السوق إذن. وعن ابن سيرين أنه كان إذا جاء إلى حانوت السوق يقول: السلام عليكم أدخل؟ ثم يلج. وعن أبي موسى الأشعري وحذيفة أنه يستأذن على ذوات المحارم، ومثله عن الحسن البصري.
قوله تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) الآية. من صلة ومعناه: يغضوا أبصارهم، حكي هذا عن سعيد بن جبير، وقال بعضهم: من ها هنا للتبعيض، وإنما ذكر من ها هنا؛ لأن غض البصر إنما يجب عن الحرام، ولا يجب عن الحلال.
وقوله: * (ويحفظوا فروجهم) هذا أمر بالتعفف. قال أبو العالية: حفظ الفرج في كل القرآن بمعنى الامتناع من الحرام، وأما ها هنا فإنه بمعنى الستر.
وقد روي عن النبي أنه قال لعلي - رضي الله عنه - ' إن لك في الجنة كنزا، وإنك ذو قرنيها، فلا تتبع النظرة النظرة؛ فإن الأولى لك، والثانية عليك ' رواه على نفسه، وعن بعض السلف قال: إن النظر يزرع الشهوة في القلب، ورب شهوة أورثت حزنا طويلا. وعن خالد بن أبي عمران أنه قال: إن الرجل لينظر نظرة فينغل قلبه، كما ينغل الأديم، فيفسد قلبه حتى لا ينتفع به.
وروى أبو أمامة عن النبي أنه قال: ' من نظر إلى محاسن امرأة وغض بصره
519

* (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) * * عنها أعطاه الله عبادة يجد حلاوتها '.
وقوله: * (ذلك أزكى لهم) أي: أطهر لهم.
وقوله: * (إن الله خبير بما يصنعون) أي: عليم بما يصنعون.
قوله تعالى: * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن)
وروي أن ابن أم مكتوم أقبل إلى النبي وعنده أم سلمة وميمونة فقال لهما رسول الله: ' احتجبا. فقالتا: إنه أعمى، فقال: أعمياوان أنتما '.
وقوله: * (ولا يبدين زينتهن) الزينة: كل ما تتزين [به] المرأة من الحلي والثياب.
وقوله: * (إلا ما ظهر منها) اختلف القول في هذا: قال ابن مسعود: هي الثياب وهذا اختيار أبي عبيد.
والقول الثاني: ما روي عن ابن عباس أنه قال: الكحل. وحكى الكلبي عنه أنه قال: الكحل والخاتم والخضاب، وعنه أنه قال: الوجه والكفان. واعلم أن المراد بالزينة
520

* (وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني) * * موضع الزينة ها هنا فعلى هذا يجوز النظر إلى وجه المرأة وكفيها من غير شهوة، وإن خاف الشهوة غض البصر، واعلم أن الزينة زينتان: زينة ظاهرة، زينة باطنة، فالزينة الظاهرة هي الكحل والفتخة والخضاب إذا كان في الكف، وأما الخضاب في القدم فهو الزينة الباطنية، وأما السوار في اليد، فعن عائشة أنه من الزينة الظاهرة، والأصح أنه من الزينة الباطنة، وهو قول أكثر أهل العلم، وأما الدملج [والمخنقة] والقلادة، وما أشبه ذلك فهو من الزينة الباطنة، فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للأجنبي النظر إليه من غير شهوة، وما كان من الزينة الباطنة لا يجوز للأجنبي النظر إليها، وأما الزوج ينظر ويتلذذ، وأما المحارم ينظرون من غير تلذذ.
وقوله: * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) يعني: بمقانعهن على جيوبهن، وكان النساء في ذلك الوقت يسدلن خمرهن من ورائهن فتبدوا صدورهن ونحورهن، فأمر الله تعالى أن يضربن بالمقانع على جيوبهن؛ لئلا تظهر صدورهن ولا نحورهن، وروت صفية بنت شيبة عن عائشة - رضي الله عنها - أنه لما نزلت هذه الآية عمد نساء الأنصار إلى حجور مناطقهن، فقطعن منها قطعة، وتخمرن، فأصبحن وكأن على رؤسهن الغربان.
وقوله: * (ولا يبدين زينتهن) المراد من هذه الزينة الباطنية.
وقوله: * (إلا لبعولتهن) أي: أزواجهن.
وقوله: * (أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهم أو بني إخوانهم أو بني أخواتهن). فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة، إلا أنهم لا ينظرون إلى ما بين السرة إلى (الركبة)، ويحل للزوج النظر إليه، وأما نفس الفرج
521

* (أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من) * * فيه وجهان على ما عرف في الفقه، وقد ورد عن عائشة ما يدل على أنه يكره النظر إلى الفرج، وقيل: إنه يورث العمى.
وقوله: * (أو نسائهن). فيه قولان: أحدهما: أن المراد بهن النساء المسلمات، فعلى هذا لا يجوز للمسلمة أن تبدي محاسنها عند اليهودية ولا النصرانية.
والقول الثاني: أن قوله: * (نسائهن) عام في جميع النساء، فيجوز للمرأة أن تنظر إلى المرأة إلا ما بين السرة إلى الركبة.
وقوله: * (أو ما ملكت أيمانهن). اختلف القول في هذا، فروي عن عائشة وأم سلمة أنهما قالت: المراد منه العبيد، فيجوز للعبد أن ينظر إلى مولاته ما ينظر ذو الرحم المرحم من غير شهوة، وهذا إذا كان العبد عفيفا، والقول الثاني قول سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أنهم قالوا: لا يجوز للعبد أن ينظر إلى مولاته إلا ما ينظر الأجنبي إلى الأجنبي، فعلى هذا تحمل الآية على الإماء، والقول الأول أظهر في معنى الآية، لأنه قد سبق قوله: * (أو نسائهن) فدخل فيه الحرائر والإماء، وفي الآية قول ثالث: وهو أنه يجوز [أن ينظر] العبد إلى مولاته ما يظهر عند البذلة والمهنة، مثل الساعدين والقدمين والعنق ولا ينظر إلى ما سوى ذلك، وإنما جاز ذلك؛ لأنه يشق ستر هذا مع العبيد، وأما مع الأجانب لا يشق، وعن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها كاتبت عبدا لها يقال له نبهان، فكانت لا تحتجب عنه، ثم قالت له يوما: يا نبهان، ما بقي من كتابتك، فقال ألفا درهم، فقالت: أدها إلى محمد بن عبد الله بن أبي أمية والسلام عليك، وأرسلت حجابها.
وقوله: * (أو التابعين غير أولي الإربة) اختلف القول فيه: قال مجاهد: هو
522

* (الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) * * الصغير، وقال عكرمة: هو العنين، وقال بعضهم: هو الشيخ الهرم، وعن بعضهم: أنه المجبوب، ومن المعروف في التفاسير: أنهم الذين يتبعون الرجال، وليس لهم همة إلا بطونهم، ولا يعرفون أمر النساء، ويقال: إنه المخنث الذي ليس له حاجة إلى النساء، وعن عائشة - رضي الله عنها - أن مخنثا يقال له: هيت كان يدخل على أزواج النبي قالت: وكنا نظن أنه من غير أولي الإربة، يعني: أنه لا يعرف أمر النساء شيئا فوصف يوما امرأة فقال: إنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان، فسمع النبي ذلك، فقال: ' ما ظننت أنه يعرف هذا، وأمر بإخراجه '.
وأما الإربة هي الحاجة، مأخوذ من الإرب، ومن هذا حديث عائشة - رضي الله عنها - ' أن النبي كان يقبل وهو صائم، وكان أملككم لإربه ' ومن قال: لا، فقد أخطأ.
وقوله: * (أو الطفل الذين لم يظهروا) أي: الأطفال الذين لم يظهروا، واحد بمعنى الجمع.
وقوله: * (لم يظهروا على عورات النساء) أي: لم يطيقوا أمر النساء، ويقال: ' لم يظهروا على عورات النساء ' أي: لم يعرفوا العورة من غير العورة فلم يميزوا، وقيل: لم يبلغوا حد الشهوة.
523

* (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون (31) وأنكحوا الأيامى) * *
وقوله: * (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) روي أن المرأة كانت تمر على الرجال، وفي رجلها الخلخال، وكانت تضرب برجلها؛ لتسمعهم صوت خلخالها، فنهين عن ذلك، فإن قال قائل: أيش في ضرب الخلخال ما يوجب النهي؟ والجواب عنه: أن فيه استدعاء الميل وتحريك الشهوة.
وقوله: * (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) فيه قولان: أحدهما: أن المراد منه التوبة من الصغائر؛ لأنه لمم جميع المؤمنين، وإنما الصغائر توجد من جميع المؤمنين، فأما الكبائر فلا، ومنهم من قال: لا بل الآية عامة في الصغائر والكبائر، والتوبة هي الندم على [ما] سلف، والإقلاع في الحال، والعزيمة على ترك العود، وهذا هو معنى النصوح المقرون بالتوبة المذكور في غير هذا الموضع، وذكر بعضهم أن الله تعالى أمر المشركين بنفس التوبة مطلقا فقال: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)، وأمر اليهود والنصارى بالتوبة والإصلاح والبيان؛ وهو بيان صفة النبي فقال تعالى: * (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا)، وأمر المنافقين بالتوبة والإصلاح والاعتصام والإخلاص فقال: * (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله)، وقد بينا معنى ذلك من قبل، وأمر جميع المؤمنين بالتوبة في هذه الآية، ولا بد لكل إنسان أن يتوب إما من صغيرة أو كبيرة، وقد ثبت برواية الأغر المزني أن النبي قال: ' أيها الناس، توبوا إلى الله فإني أتوب كل يوم مائة مرة ' خرجه مسلم في الصحيح.
524

* (منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) * *
وقوله تعالى: * (لعلكم تفلحون) أي: تسعدون وتفوزون.
قوله تعالى: * (وأنكحوا الأيامى منكم). أي: زوجوا الأيامى منكم، والأيم اسم لكل امرأة لا زوج لها ثيبا كانت أو بكرا، قال الشاعر:
(فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي
* مدى الدهر ما لم تنكحي أتأيم)
وقد ذهب داود وأصحاب الظاهر أن النكاح واجب واستدلوا بهذه الآية، وأما عندنا هو مباح في وقت، سنة في وقت، مباح إذا كانت نفسه لا تتوق إلى النساء، سنة إذا تاقت نفسه إلى النساء، وقد روي عن النبي أنه قال: ' من أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح '.
وثبت عن النبي أنه قال: ' من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فليصم، فإن الصوم له وجاء '.
وعن بعض السلف أنه قال: من غلبت عليه الشهوة وعنده مال فليتزوج، وإن لم يكن عنده مال فليدم النظر إلى السماء، فإن شهوته تذهب.
وقوله: * (والصالحين من عبادكم وإمائكم).
قرئ في الشاذ: ' من عبيدكم وإمائكم ' زوجوا الأيامى من الحرائر، وزوجوا الصالحين من العبيد والإماء، والمراد من العباد: العبيد.
وقوله: * (إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله) روي عن عمر أنه قال: عجبت
525

* (والله واسع عليم (32) وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم) * * لمن يطلب الغنى بغير النكاح، والله تعالى يقول: * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). وعن بعضهم: أن الله تعالى وعد الغنى بالنكاح، ووعد الغنى بالتفرق، فقال في النكاح: * (يغنهم الله من فضله) أي: من الله، وقال في الفراق: * (وإن يتفرقا يغني الله كلا من سعته) ويقال: إن الغنى ها هنا هو الغنى بالقناعة، وقيل: باجتماع الرزقين، وقيل في قوله: * (ووجدك عائلا فأغنى) أي: بمال خديجة.
وقوله: * (والله واسع عليم) أي: واسع الغنى، عليم بأحوال العباد، وعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - أنه كان ينكح ويطلق كثيرا، ويقول: إنما أبتغي الغنى من النكاح والطلاق، ويتلو هاتين الآيتين، وقد ذكر بعضهم: أن الأيم كما ينطلق على المرأة ينطلق على الرجل، يقال: رجل أيم إذا لم يكن له زوجة، وامرأة أيم إذا لم يكن لها زوج، والشعر الذي أنشدنا دليل عليه، وفي الخبر: ' أن النبي نهى عن الأيمة ' أي: العزبة.
وعن القاسم بن محمد أنه قال: أمرنا بقتل الأيم أي: الحية. وقال بعضهم: * (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين) أي: بالصالحين. وقوله: * (من عبادكم) أي: من رجالكم، ثم أمر من بعد بتزويج الإماء، والقول الأول الذي سبق أظهر.
قوله: * (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا) أي: ليطلب العفة الذين لا يجدون ما لا ينكحون به.
وقوله: * (حتى يغنيهم الله من فضله) فيه معنيان: أحدهما: أن يجدوا مالا يقدرون به على النكاح، والآخر: أن يوفقهم الله للصبر عن النكاح، وعن عكرمة أنه قال: إذا رأى الرجل امرأة واشتهاها فإن كان له امرأة فليصبها، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السماوات والأرض.
526

* (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * *
وقوله: * (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم) أي: يطلبون الكتابة مما ملكت أيمانكم، أي: من العبيد والإماء، والكتابة هي أن يعقد مع عبده عقدا على مال بشرط أنه إذا أدى عتق، وسبب نزول هذه الآية: أنه كان لحويطب بن عبد العزى غلام، وطلب منه أن يكاتبه، فأبى فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: * (فكاتبوهم) أكثر أهل العلم على أنه أمر ندب لا حتم، وذهب جماعة إلى أنه أمر حتم إذا كان للعبد مال يؤدى، فروى (أبو محمد بن سيرين): كان عبدا لأنس بن مالك، وطلب من أنس أن يكاتبه، فأبى فذكر ذلك سيرين لعمر، فقال لأنس: كاتبه، فأبى، فعلاه الدرة حتى كاتبه. وعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أيجب على المولى أن يكاتب عبده إذا طلب؟ قال: نعم، ومثله عن الضحاك قالا: وهذا إذا كان عند (العقد) مال، فإن لم يكن عنده مال لم يجب، وروي أن عبدا لسلمان قال له: كاتبني، قال: عندك مال؟ قال: لا، قال: أتريد أن تطعمني أوساخ الناس؟ ولم يكاتبه.
وقوله: * (إن علمتم فيهم خيرا) أي: مالا، قاله ابن عباس، ومثله قوله: * (وإنه لحب الخير لشديد) أي: لحب المال. قال الشاعر:
(ماذا ترجى النفوس من طلب
* الخير وحب الحياة كاربها)
أي: المال، وقال الحسن البصري: * (إن علمتم فيهم خيرا) أي: دينا
527

* (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) * * وأمانة، وقال النخعي: وفاء وصدقا، وعن بعضهم: قدرة على كسب المال.
وقال الزجاج: لو أراد بالخير المال لقال: إن علمتم لهم خيرا، فلما قال: * (فيهم خيرا) دل أنه أراد به الوفاء والصدق.
وقوله: * (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) فيه أقوال: روى عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه قال: هو حث الناس على معونة الكاتبين. فعلى هذا تتناول الآية المولى وغير المولى.
والقول الثاني: أن المراد منه سهم الرقاب، وقد جعل الله تعالى للمكاتبين سهما في الصدقات، والقول الثالث: هو أن قوله: * (وآتوهم) خطاب للموالي خاصة.
وقوله: * (من مال الله الذي آتاكم) هو بدل الكتابة، روي هذا عن عثمان وعلي والزبير، ثم اختلفوا فقال بعضهم: يعينه بمال الكتابة، وقال بعضهم: يحط عنه من مال الكتابة، وعن علي - رضي الله عنه - أنه يحط عنه الربع، وعن ابن عباس: أنه يحط عنه الثلث، وعن بعضهم: أنه يحط شيئا من غير تحديد، وهذا قول الشافعي، واختلفوا أنه على طريق الندب أم على طريق الإيجاب؟ فعند بعض الصحابة الذي ذكرنا أنه ندب، وعند بعضهم: أنه واجب، والوجوب أظهر.
وقوله: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) يعني: على الزنا. نزلت الآية في عبد الله بن أبي بن سلول وقوم من المنافقين، كانوا يكرهون إماءهم على الزنا طلبا للأجعال، فروي أن عبد الله بن أبي بن سلول كان له أمة يقال لها: مثلة، فأمرها بالزنا فجاءت ببرد، ثم أمرها بالزنا فأبت، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: * (إن أردن تحصنا) أي: تعففا، فإن قيل: الآية تقتضي أنها إذا لم ترد التحصن يجوز إكراهها على الزنا؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أنه إنما ذكر قوله: * (إن أردن تحصنا) لأن الإكراه إنما يوجد في هذه الحالة، فإذا لم ترد التحصن بغت بالطوع.
528

* (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33) ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين (34) الله نور) * *
والجواب الثاني: أن قوله: * (إن أردن تحصنا) منصرف إلى الآية السابقة، وهو قوله: * (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) إن أردن تحصنا.
وقوله: * (لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) أي: لتطلبوا من أموال الدنيا، وفي بعض الآثار: الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا '.
وقوله: * (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) أي: لهن، وهكذا روي في قراءة ابن عباس: ' فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم '.
قوله تعالى: * (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات) أي: للحلال والحرام، وقوله: * (مبينات) أي: واضحات لا لبس فيها.
وقوله: * (ومثلا من الذين خلوا من قبلكم) معناه: تشبيها لحالكم بحالهم، حتى لا تفعلوا مثل ما فعلوا، فيصيبكم مثل ما أصابهم.
وقوله: * (وموعظة للمتقين) أي: تذكيرا وتخويفا.
قوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض) قال ابن عباس: هادي أهل السماوات والأرض، (وعنه أنه قال: ضياء السماوات والأرض) وعن قتادة وغيره: منور السماوات والأرض. فليقال: نور السماوات بالملائكة، والأرض بالأنبياء. ويقال: نور السماوات بالنجوم والشمس والقمر، ونور الأرض بالنبات والزهر.
وقوله تعالى: * (مثل نوره) قرأ أبي بن كعب: ' مثل نور المؤمن '، وعن ابن مسعود أنه قرأ: ' مثل نوره في قلب المؤمن ' (ومن المعروف * (مثل نوره) وفيه أقوال:
529

* (السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري) * * أحدها: أن معناه: مثل نور الله في قلب المؤمن) وهو النور الذي يهتدى به، وهذا في معنى قوله تعالى: * (فهو على نور من ربه)، والقول الثاني: * (مثل نوره) أي: نور قلب المؤمن بالإيمان، والقول الثالث: أنه نور محمد، ومنهم من أول على القرآن.
وقوله: * (كمشكاة) المشكاة هي الكوة التي ليس له منفذ، ومنهم من قال: المشكاة هي الحديدة التي يعلق بها القنديل، وهي السلسلة، وقيل: الموضع الذي توضع فيه الفتيلة، وهو كالأنبوب. والأول أظهر الأقاويل وأولى، ومعنى المشكاة هاهنا: الصدر، قاله أبي بن كعب. وقوله: * (فيها مصباح) أي: شعلة نار.
وقوله: * (المصباح في زجاجة) الزجاجة شيء معلوم، وهو جوهر له ضياء، فإن قيل: لم خص الزجاجة بالذكر؟ قلنا: قال أبي بن كعب: المشكاة الصدر، والزجاجة القلب، والمصباح الإيمان، فإنما ذكر الزجاجة؛ لأن المصباح فيها أضواء، وقال بعضهم: ذكر الزجاجة؛ لأنها إذا انكسرت لا ينتفع منها بشيء، كذلك القلب إذا فسد لا ينتفع منه بشيء.
وقوله: * (الزجاجة كأنها كوكب دري) شبه الزجاجة بالكوكب، قال بعضهم: هذا الكوكب هو الزهرة فإنها أضوء كوكب في السماء، وقال بعضهم: الكواكب الخمسة زحل ومشتري والمريخ وعطارد وزهرة، فإن قيل: لم لم يشبه بالشمس والقمر؟ قلنا: لأن الشمس والقمر يلحقهما الكسوف، والنجوم لا يلحقها الكسوف، وأما قوله: * (كوكب دري) منسوب إلى الدر، ونسبه إلى الدر لصفائه ولونه، وقرئ: ' درىء ' بكسر الدال والهمز والمد، وفيه قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من الدراء،
530

* (يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية) * * والدراء هو الدفع، والكوكب يدفع الشياطين عن السماء، فإن قيل: لم شبه به في حالة الدفع؟ قلنا: لأنه في تلك الحالة يكون أصفى، والقول الثاني: ' درىء '. أي طالع، يقال: درأ علينا فلان أي: طلع وظهر، وقال الأزهري: وهذا قول حسن، وقرئ: ' درىء ' برفع الدال مهموزا، قرأه حمزة وأبو بكر، وأهل النحو يخطؤنه في هذه القراءة، وقالوا: لا يوجد فعيل في اللغة، والشاذ: ' دري ' بفتح الدال.
وقوله: * (يوقد) أي: الزجاجة، ومعناه: نار الزجاجة، فحذف النار، وقرئ: ' يوقد ' بالياء أي: المصباح، وقرئ: ' توقد ' أي: تتوقد، وفي الشاذ: ' يوقد ' أي: يوقد الله تعالى.
وقوله: * (من شجرة مباركة) أي: من زيت شجرة مباركة، والشجرة المباركة هاهنا هي الزيتون، وفيها من الخير ما ليس في سائر الأشجار، فإنه دهن وإدام
وفاكهة تؤكل ويستصبح به، وبفضله يغسل به الثياب وهي شجرة تورق من رأسها إلى أسفلها، واستخراج الدهن منه لا يحتاج إلى عصار كغيره، بل يستخرجه من شاء من غير عسر، وقد روي عن النبي أنه قال: ' ائتدموا بالزيت، وادهنوا منه، فإنه من شجرة مباركة ' رواه معمر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر الخبر.
وقوله: * (لا شرقية ولا غربية) قال الحسن: ليس هذا من أشجار الدنيا، ولو كانت
531

* (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)) * * من أشجار الدنيا لكانت شرقية أو عربية، وقال غيره: بل هو وصف الزيتون - وهو الأصح - وفيه أقوال: أحدها أن معناه: لا شرقية أي: ليست مما تشرق عليها الشمس، ولا تغرب عليها الشمس، فتكون لا شرقية ولا غربية.
وقوله: * (ولا غربية) أي: ليست مما تغرب عليها الشمس ولا تشرق عليها الشمس، فتكون لا غربية ولا شرقية فمعنى الآية. أنها ليست بخالصة للشرق، ولا خالصة للغرب، بل هي شرقية غربية، يعني: بين الشرق والغرب، لا خالصا للشرق، ولا خالصا للغرب، والشمس مشرقة عليها في جميع أوقاتها، وإذا كان كذلك فيكون زيتها أضوأ قالوا: وهذا كما يقال: فلان ليس بأسود ولا أبيض أي ليس بأسود خالص ولا أبيض خالص أي: قد اجتمع فيه البياض والسواد، ويقال: هذا الرمان ليس بحلو ولا حامض أي: اجتمع فيه الحلاوة والحموضة ولم يخلص لواحد منهما، وهذا قول الفراء والزجاج وأكثر أهل المعاني، وزعم ابن قتيبة أن معنى قوله: * (لا شرقية ولا غربية) أي: ليست في مضحاة، ولا في مقتاة، ومعناه: ليست في مضحاة فتكون الشمس عليها أبدا، ولا في الظل فتكون في الظل أبدا، والقول الثالث: أنها شجرة بين الأشجار لا هي بارزة للشمس عند شروقها، ولا هي بارزة عند غروبها.
وقوله: * (يكاد زيتها يضيء) أي: من صفائه ولونه.
وقوله: * (ولو لم تمسسه نار) أي: وإن لم تمسسه نار.
وقوله: * (نور على نور) أي: نور المصباح على نور الزجاجة.
وقوله: * (يهدي الله لنوره من يشاء) أي: نور البصيرة والعقيدة.
وقوله: * (ويضرب الله الأمثال للناس) أي: يبين الله الأمثال للناس.
532

وقوله: * (والله بكل شيء عليم) معلوم.
واعلم أنه اختلف القول في معنى التمثيل: منهم من قال: التمثيل وقع للنور الذي في قلب المؤمن، ومنهم من قال: التمثيل وقع لنور محمد، ومنهم من قال: التمثيل وقع لنور القرآن، وأما إذا قلنا: إن التمثيل وقع للنور الذي في قلب المؤمن فهو ظاهر المعنى كما بينا.
وقوله: * (يكاد زيتها يضيء) أي: يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له لموافقته إياه.
وقوله: * (نور على نور) أي: نور العمل على نور الاعتقاد، وعن أبي بن كعب أنه قال: المؤمن بين خمسة أنوار، وقوله نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور. وعن غيره أنه قال: المؤمن بين أربعة أحوال: إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل. وإذا قلنا: التمثيل وقع لنور محمد، فالمشكاة صدره، والزجاجة قلبه، والمصباح هو نورة النبوة.
وقوله: * (توقد من شجرة مباركة) الشجرة المباركة هو إبراهيم - صلوات الله عليه - وذكر زيتونة، لأنها أبرك الأشجار على ما بينا؛ ولأن إبراهيم نزل الشام، وفي زيتون الشام من البركة ما ليس لغيره من البلاد.
وقوله: * (لا شرقية ولا غربية) معناه: أن إبراهيم لم يكن يصلي إلى المشرق ولا إلى المغرب، وهو معنى قوله تعالى: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) واليهود يصلون إلى المغرب، والنصارى إلى المشرق. وقوله: * (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) معناه: لو لم يكن إبراهيم نبيا لألحقه الله بالعمل الصالح بالأنبياء في درجاتهم، ويقال معناه: أن محمدا لو لم تأته معجزة لدلت أحواله على صدقه وعلى نبوته. وقوله: * (نور على نور) أي: نور محمد على نور إبراهيم، وقوله: * (يهدي
533

* (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال (36) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) * * الله لنوره من يشاء) يعني: يهدي الله للإيمان بمحمد من يشاء، وهذا كله معنى ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وفي الآية كلام كثير ذكره أصحاب الخواطر لا يشتغل به، وهذان القولان هما المعروفان.
قوله تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفع) معناه: توقد في بيوت، ويقال: المصابيح في بيوت، والبيوت هاهنا هي المساجد. وقوله: * (أذن الله أن ترفع) فيه أقوال: قال مجاهد: تبنى، وقال الحسن: تعظم. يعني: أنه لا يذكر فيها الخنا من القول، وعن بعضهم: تطهر.
وقوله: * (ويذكر فيها اسمه) ظاهر المعنى.
وقوله: * (يسبح) وقرئ: ' يسبح ' بكسر الباء، فقوله بكسر الباء أي: يسبح رجال، وقوله: ' يسبح ' على مال لم يسم فاعله، ومعنى يسبح: يصلي.
وقوله: * (بالغدو والآصال) أي: بالبكر والعشايا. قال الشاعر:
(وقفت فيها أصيلا لا أسائلها
* أعيت جوابا وما بالربع من أحد)
وإنما خص البكرة والعصر؛ لأن صلاة الغداة وصلاة العصر أول ما فرض على المسلمين، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: صلاة الضحى في القرآن ولا يغوص عليها الأغواص، ثم قرأ هذه الآية وهو قوله: (* (بالغدو والآصال) وزعم أن المراد بالتسبيح بالغدو وهو صلاة الضحى، والمعروف ما بينا، وهو أن المراد منه صلاة الصبح وصلاة العصر).
قوله تعالى: * (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) وعن عبيد بن عمير أنه
534

* (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار (37) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب (38) والذين كفروا أعمالهم كسراب) * * قال: يضع الله يوم القيامة منابر من نور، ويقول: أين الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ فيقومون فيجلسهم عليها.
وقال الفراء: التجارة ما بيع من الجلب، والبيع ما بعت على يدك.
وقوله: * (وإقام الصلاة) فإن قيل: إذا حملتم ذكر الله على الصلوات الخمس فما معنى قوله: * (وإقام الصلاة)؟ قلنا: معناه حفظ المواقيت، ومن لم يحفظ المواقيت فلم يقم الصلاة. وقوله: * (وإقام الصلاة) أي: وإقامة الصلاة، فحذفت الهاء بحكم الإضافة. قال الشاعر:
(إن الخليط أجدوا البين فانجردوا
* وأخلفوك عدي الأمر الذي وعدوا)
أي: عدة الأمور.
وقوله: * (وإيتاء الزكاة) منهم من قال: هي الزكاة المفروضة، ومنهم من قال: الأعمال الصالحة.
وقوله: * (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار) أي: تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشك والكفر، وتنفتح فيه الأبصار من الأغطية، ويقال: يتقلب القلب [بين الخوف] والرجاء، فإنه يخاف الهلاك، ويطمع النجاة، وأما تقلب البصر حتى من أين يؤتى كتابه؛ من شماله أو من يمينه، وقال: تتقلب القلوب في الجوف، وترتفع إلى الحنجرة فلا تزول ولا تخرج، وأما تقلب البصر شخوصه من هول الأمر وشدته.
وقوله: * (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا) يعني: ليجزيهم بما عملوا من الأعمال الحسنة.
535

* (بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب (39) أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من) * *
وقوله: * (ويزيدهم من فضله) أي: زيادة على ما يستحقون.
وقوله: * (والله يرزق من يشاء بغير حساب) قد بينا.
قوله تعالى: * (والذين كفروا أعمالهم) اعلم أن الله تعالى لما ذكر المثل في حق المؤمنين أعقبه بالمثل في حق الكفار.
وقوله: * (كسراب) السراب: ما يرى نصف النهار شبه الماء الجاري على الأرض، وأكثر ما يراه العطشان. قال الفراء: السراب ما لزم الأرض، والآل ما ارتفع من الأرض، وهو شعاع بين السماء والأرض شبه الملاة، يرى فيه الصغير كبيرا، والقصير طويلا.
وقال غيره: السراب نصف النهار، والآل بالغدوات، والرقراق بالعشايا، قال الشاعر:
(فلما كففنا الحرب كانت عهودهم
* كلمع سراب بالفلا متألق)
وقوله: * (بقيعة) القاع: هو الأرض المنبسطة.
وقوله: * (إذا جاءه لم يجده شيئا) أي: لم يجده شيئا مما أمل وحسب.
وقوله: * (ووجد الله عنده) أي: عند علمه، ومعناه: أنه لقي الله في الآخرة.
* (فوفاه حسابه) أي: جزاء عمله، قال الشاعر:
(فولى مدبرا هوى حثيثا
* وأيقن أنه لاقى الحسابا)
وقوله: * (والله سريع الحساب) ظاهر المعنى.
واعلم أن في نزول الآية قولان: أحدهما: أنها نزلت في شيبة بن ربيعة - وكان يطلب الدين قبل أن يبعث النبي - فكان يلبس الصوف، ويأكل الشعير، ثم لما بعث النبي كفر به.
والقول الثاني: أن الآية نزلت في جميع الكفار، والمراد من الآية: تشبيه أعمالهم بالسراب، وأعمالهم هي ما اعتقدوها خيرا، من الحج وصلة الأرحام، وحسن الجوار،
536

* (فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (40) ألم تر أن الله يسبح له من في
السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه) * * وقرى الضيف، والوفاء بالعهد، وما أشبه ذلك، فذكر الله تعالى أن هذه الأعمال كسراب حين لم يصدر عن مؤمن، فهو يرجو منها الخير والثواب، وإذا وصل إليها أخلفه ظنه، ولم يحصل على شيء.
قوله تعالى: * (أو كظلمات في بحر لجي) قال أهل المعاني: المراد من الآية أنك إن شبهت أعمالهم لما يوجد، فهو كما بينا من السراب بالقيعة، وإن شبهت أعمالهم لما يرى، فهو كالظلمات في البحر اللجي، والبحر اللجي هو العميق الذي بعد عمقه، وفي الخبر: أن النبي قال: ' من ركب البحر حين يلج، فقد برئت منه الذمة '.
معناه: حين يتوسط البحر فيصير إلى أعمق موضع، وأما الظلمات: فهي ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة الموج أيضا.
وقوله: * (يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب) هذا هو الظلمات التي ذكرناها.
وقوله: * (ظلمات بعضها فوق بعض) معناه: ظلمة الموج على ظلمة البحر، وظلمة السحاب على ظلمة الموج.
وقوله: * (إذا أخرج يده لم يكد يراها) أي: لم يرها، وقيل: لم يقارب رؤيتها، ويقال: يكد هاهنا صلة. قال الشاعر:
(وما كادت إذا رفعت سناها
* ليبصر ضوءها إلا البصير)
وقوله: * (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور). قال ابن عباس معناه: من لم
537

* (والله عليم بما يفعلون (41) ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير (42) ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء) * * يجعل الله له دينا فما له من دين ' ويقال معناه: من لم يهده الله فلا يهده أحد.
وقوله: * (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض) قد بينا.
وقوله: * (والطير صافات) أي: صفات أجنحتهن.
وقوله: * (كل قد علم صلاته وتسبيحه) قال مجاهد: الصلاة للآدميين، والتسبيح لسائر الخلق، ويقال: إن ضرب الأجنحة صلاة الطير، وصوته تسبيحه.
وقوله: * (والله عليم بما يفعلون) ظاهر المعنى. وكذلك قوله: * (ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير).
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله يزجي سحابا) أي: يسوق سحابا. قال الشاعر:
(إني أتيتك من أرضي ومن وطني
* أزجي حشاشة نفس ما بها رمق)
وقوله: * (ثم يؤلف بينه) أي: يجمع بينه.
وقوله: * (ثم يجعله ركاما) أي: متراكما بعضه على بعض.
وقوله: * (فترى الودق يخرج من خلاله) أي: المطر يخرج من خلاله، والخلال جمع الخلل كالجبال جمع الجبل، قال الشاعر في الودق:
(فلا مزنة ودقت ودقها
* ولا أرض أبقل إبقالها)
وقوله: * (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) روي عن ابن عباس أنه قال: في السماء جبال من برد فينزل منها البرد.
قال ابن عباس: وإنما خاطب القوم بما يعرفون، وإلا ما الثلج أكثر من البرد، والعرب ما رأوا الثلج قط. وعن ابن عباس أنه قال: الثلج شيء أبيض ينزل من السماء ما رأيته قط. وقال غيره: قوله: * (وينزل من السماء من جبال) أي: مقدار الجبال في الكثرة، ويقال: فلان له جبال مال، شبه بالجبال للكثرة.
538

* (ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43) يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) * *
وقوله: * (من) صلة معناه: ينزل من السماء جبالا * (من برد).
وقوله: * (فيصيب به من يشاء) يعني: بالبرد من يشاء. * (ويصرفه عن من يشاء).
وقوله: * (يكاد سنا برقه) أي: ضوء برقه، وقد ذكرنا شعرا في هذا.
وقوله: * (يذهب بالأبصار) يعني: من شدة الضوء.
وقوله: * (يقلب الله الليل والنهار) أي: يصرف الليل والنهار، وتقليب الليل والنهار اختلافهما، وهو معنى قوله تعالى: * (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) وقد صح عن النبي برواية سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أنه قال: ' يقول الله تعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وإنما أنا الدهر، بيدي الليل والنهار (و) أقلبهما '.
قال رضي الله عنه: أخبرنا بذلك المكي بن عبد الرزاق، قال: أخبرنا جدي أبو الهيثم الفربري، أخبرنا البخاري، أخبرنا الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب الخبر.
ويقال: يقلب الله الليل والنهار أي: يدبر أمر الليل والنهار.
وقوله: * (إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) أي: آية وعظة لأولي الأبصار في القلوب، وزعم أهل النحو أن الله تعالى ذكر ' من ' ثلاث مرات في الآية الأولى، ولكل واحد منها معنى، فقوله: * (من السماء) لابتداء الغاية، وقوله: * (من جبال) للتبعيض، وقوله: * (من برد) للتجنيس، وقد قال بعضهم في الآية الثانية: إن معنى التقليب هو أنه يذهب بالليل ويأتي بالنهار، ويذهب بالنهار ويأتي بالليل.
539

* (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) * *
قوله تعالى: * (والله خلق كل دابة من ماء) فإن قال قائل: كيف يستقيم قوله: * (خلق كل دابة من ماء) وقد خلق كثيرا من الحيوانات من غير الماء كالجن والملائكة؟ والجواب عنه: أن الله تعالى خلق جميع الحيوانات من الماء، وزعم أهل التفسير أن الله تعالى خلق ماء ثم جعله نارا، فخلق منها الجن، ثم جعله ريحا، فخلق منها الملائكة، ثم جعله طينا، فخلق منه بني آدم.
وقوله: * (فمنهم من يمشي على بطنه) يعني: مثل الحيات والحيتان وما أشبههما، فإن قيل: كيف يتصور المشيء على البطن؟ والجواب: أن المراد منه السير، والسير عام في القوائم وعلى البطن، وقال بعضهم: المشي صحيح في المشي على البطن، يقال: مشى أمر كذا.
وقوله: * (ومنهم من يمشي على رجلين) يعني: مثل بني آدم والطير، فإن قيل: أيسمى الطير دابة؟ قلنا: بلى؛ لأن كل ما يدب على الأرض فهو دابة.
وقوله: * (ومنهم من يمشي على أربع) يعني: البهائم، فإن قيل: قد نرى ما يمشي على أكثر من الأربع، قلنا: قد ذكر السدي أن في قراءة أبي بن كعب: ' ومنهم من يمشي على أكثر من الأربع ' فيكون تفسير للقراءة المعروفة، ويصير كأن الله تعالى قال: * (ومنهم من يمشي على أربع) وعلى أكثر من الأربع، وأما على القراءة المعروفة فإنما لم يزد على الأربع؛ لأن القوائم وإن زادت فاعتماد الحيوان على جهاته الأربعة، فكأنها تمشي على أربعة، ويقال: إنها وإن مشيت على أكثر من الأربع فهي في الصورة كأنها تمشي على أربع، فإن قيل: قال: * (ومنهم من يمشي) وكلمة ' من ' لمن يعقل ليس لما لا يعقل، والجواب عنه: أنه إنما ذكر بكلمة ' من ' لأن الكلام إذا جمع من يعقل، ومن لا يعقل غلب من يعقل على ما لا يعقل.
540

* (يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (45) لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (46) ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (47) وإذا) * *
وقوله: * (يخلق الله ما يشاء) يعني: يخلق الله ما يشاء سوى ما ذكر.
وقوله: * (والله على كل شيء قدير) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (لقد أنزلنا آيات مبينات) قد بينا.
وقوله: * (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) أي: دين الحق، وهو الصراط المستقيم.
قوله تعالى: * (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا) ذكر النقاش أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين يسمى بشرا ورجل من اليهود، كانت بينهما خصوصة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد، وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف، فأنزل الله تعالى في هذا المنافق وأشباهه هذه الآية، وأورد أبو بكر الفارسي في ' أحكام القرآن ' أن النبي لما هاجر إلى المدينة، ترك الأنصار له وللمهاجرين كل أرض لا يصل إليها الماء، فأعطى رسول الله عثمان وعليا من ذلك، فباع علي نصيبه من عثمان، فوجد عثمان الأرض كلها أحجار لا يمكن أن تزرع، فطلب من علي الثمن الذي أعطاه، فقال علي: وما علمي بالأحجار، ولو وجدت كنزا هل كان لي منه شيء؟ فأراد أن يتحاكما إلى النبي، فقال الحكم بن أبي العاص لعثمان: لا تحاكمه إلى محمد، فإنه يقضي لابن عمه، فأنزل الله تعالى هذه الآية في الحكم بن أبي العاص.
وقوله: * (ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك) أي: من بعد ما قالوا آمنا بالله وبالرسول.
وقوله: * (وما أولئك بالمؤمنين) أي: بالمصدقين.
قوله تعالى: * (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) الحكم فصل الخصومة بما توجبه الشريعة.
541

* (دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون (50) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) * *
قوله: * (إذا فريق منهم معرضون) أي: عن الحق، وقيل: عن الإجابة، والآية تدل على أن القاضي إذا دعا إنسان ليحكم بينه وبين خصمه، وجبت عليه الإجابة.
قوله تعالى: * (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) أي: مسارعين منقادين خاضعين.
وقوله: * (أفي قلوبهم مرض) استفهام بمعنى التوبيخ والذم، ومعناه: علة تمنع من قبول الحق.
وقوله: * (أم ارتابوا) أي: شكوا.
وقوله: * (أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله) الحيف هو الميل بغير حق، ويجوز أن يعبر به عن الظلم.
وقوله: * (بل أولئك هم الظالمون) قد بينا.
قوله تعالى: * (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم).
هذا ليس على طريق الخبر، ولكنه تعليم أدب من الشرع، على معنى أن المؤمنين كذا ينبغي أن يكونوا.
وقوله: * (أن يقولوا سمعنا وأطعنا) أي: سمعنا الدعاء، وأطعنا بالإجابة.
وقوله: * (وأولئك هم المفلحون) أي: الفائزون.
قوله تعالى: * (ومن يطع الله ورسوله) أي: من يطع الله فيما أمر، ويطع رسوله فيما سن.
وقوله: * (ويخش الله) أي: فيما مضى.
وقوله: * (ويتقه) أي: يحذره فيما يستقبل.
542

* (وأولئك هم المفلحون (51) ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون (52) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون (53) قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين (54)) * *
وقوله: * (فأولئك هم الفائزون) أي: الناجون.
قوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) جهد اليمين هو أن يحلف بالله، قال أهل العلم: ولا حلف فوق الحلف بالله.
وقوله: * (لئن أمرتهم ليخرجن) أي: لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن.
وقوله: * (قل لا تقسموا) أي: لا تحلفوا.
وقوله: * (طاعة معروفة) فيه أقوال: أحدها: ليكن منكم طاعة معروفة، والآخر: طاعة معروفة أمثل من يمين بالقول لا يوافقها الاعتقاد، والثالث: هذه طاعة معروفة منكم أن تحلفوا كاذبين، وأن تقولوا ما لا تفعلون، ومعناه: هذا أمر معروف منكم.
وقوله: * (إن الله خبير بما تعملون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا) أي: فإن تتولوا، وقيل: فإن يتولوا، بصرف خطابه المواجهة إلى المغايبة.
وقوله: * (فإنما عليه ما حمل) أي: على الرسول ما حمل من التبليغ.
* (وعليكم ما حملتم) من الإجابة أي: إن أجبتم فلكم الثواب، وإن أبيتم فعليكم العقاب.
وقوله: * (وإن تطيعوه) يعني الرسول * (تهتدوا).
وقوله: * (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) أي: التبليغ البين.
قوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات) قال أبو العالية الرياحي: بعث الله محمدا، فمكث هو وأصحابه بمكة عشر سنين، وأمروا
543

* (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا لصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) * * بالصبر على أذى الكفار، فكانوا يصبحون خائفين ويمسون خائفين، ثم إنه هاجر إلى المدينة، وأمروا بالقتال وهم على خوفهم، فكان لا يفارق أحد منهم سلاحه، فقال رجل من المسلمين: أما نأمن يوما من الدهر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر بعض أهل التفسير: أن أصحاب رسول الله تمنوا أن يظهروا على مكة، فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) قال قتادة: كما استخلف داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء الذين ملكوا.
واستدل أهل العلم بهذه الآية على صحة خلافة الخلفاء الراشدين وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم - ومن المشهور المعروف برواية حماد بن سلمة، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة أن النبي قال: ' الخلافة بعدي ثلاثون سنة '.
قال رضي الله عنه: أخبرنا بهذا الحديث أبو الحسين بن النقور ببغداد، أخبرنا أبو القاسم بن حبابة، أخبرنا ابن بنت منيع عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، عن هدبة [بن] خالد، عن حماد بن سلمة... الخبر. خرجه مسلم في الصحيح.
وقوله: * (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) أي: ليظهرن دينهم على جميع الأديان، قال أهل العلم: يعين: فارس والروم ومن أشبههم، وفي بعض الغرائب من الأخبار: أن النبي قال: ' ما من بيت مدر ولا وبر في الأرض إلا ويدخله الله
544

* (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) * * الإسلام كرها '.
وقوله: * (ارتضى لهم) اختار لهم.
وقد ثبت عن النبي أنه قال لعدي بن حاتم: ' ليظهرن الله هذا الدين، حتى تخرج الظعينة من الحيرة تؤم بيت الله، لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها '. قال عدي بن حاتم: فقلت في نفسي: فأين اللصوص؟ قال عدي: ولقد رأيت ما قاله رسول الله.
وقوله: * (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا). هذا هو الذي قلناه، وقد روي أن أصحاب رسول الله حين كانوا بمكة لم يكونوا يصلون إلا مختفين، وكان الواحد منهم يحفظ صاحبه حتى يصلي، وصاحبه يحفظه حتى يصلي، ثم إنهم لما هاجروا أمنوا وعبدوا الله جهرا، وما زال يزداد الأمن إلى زماننا هذا... الحديث.
وقوله: * (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) يعني: يعبدونني آمنين ولا يشركون.
وقوله: * (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) أكثر أهل التفسير على أنه ليس الكفر هاهنا هو الكفر بالله، وإنما المراد به كفران النعمة بترك الطاعة، فلهذا قال: * (فأولئك هم الفاسقون) ومنهم من قال: هو الكفر بالله، والأصح هو الأول.
قوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون)
545

* (يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون (56) لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير (57) يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم) * * أي: افعلوا ما تفعلوا على رجاء الرحمة.
قوله تعالى: * (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض) معناه: لا تظنن الذين كفروا يفوتون عنا فوات من نعجز عنه، وحقيقة المعنى: أنا لا نعجز عن أحدهم، (وليس معهم ما يقولون به غنى، فيكونوا بمنزلة من عجزوا غيرهم عنهم).
وقوله تعالى: * (ومأواهم النار ولبئس المصير) أي: ولبئس المرجع.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) فيه أقوال: قال مجاهد: الذين ملكت أيمانكم هم العبيد، وعن بعضهم: أنهم الإماء، روي هذا عن ابن عمر، والأصح أنه في العبيد والإماء.
قوله: * (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) ليس هؤلاء هم الذين لم يظهروا على عورات النساء، فإن الذين لم يظهروا على عورات النساء لا حشمة لأحد منهم؛ لأنا بينا أنهم الذين لا يميزون، ولكن هؤلاء هم الذين ميزوا، وعرفوا أمر النساء، ولكن لم يبلغوا.
قوله: * (ثلاث مرات) أي: استأذنوا ثلاث مرات.
وقوله: * (من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء) خص هذه الأوقات الثلاثة بالأمر بالاستئذان؛ لأنها أوقات ينكشف فيها الناس ويبدوا منهم ما لا يحبون أن يراه أحد، فإن قبل الفجر ينتبهون من النوم فينكشفون، وعند الظهيرة يلقون ثيابهم ليقيلوا، وبعد العشاء (الأخير) ينكشفون للنوم، فأمر الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة لهذا المعنى، والمراد من الآية: استئذان الخدم والصبيان، فأما غيرهم يستأذنون في جميع الأحوال،
546

* (منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن) * * وعن ابن عباس قال: لم يكن للقوم ستور ولا [حجاب]، وكان الخدم والولائد يدخلون عليهم، فيرون منهم ما لا يحبون أن يرى منهم، فأمر الله تعالى بالاستئذان، ثم إن الله تعالى بسط رزفه، واتخذ الناس ستورا و [حجابا]، فرأوا أن ذلك قد أغنى من الاستئذان، قال الشعبي وسعيد بن جبير: هذه الآية غير منسوخة لكن تهاون الناس. وحكى عطاء عن ابن عباس أنه قال: ثلاث آيات من القرآن لا يعمل الناس بها، وذكر هذه الآية وذكر قوله تعالى: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فلا يزال الناس يقولون: أنا ابن فلان، وأكرم من فلان، وأحسن من فلان، قال عطاء: ونسيت الثالثة.
وقوله: * (ثلاث عورات لكم) قرئ برفع الثاء ونصبه، فقوله: * (ثلاث) بالرفع، أي: هي ثلاث عورات لكم، وقوله: * (ثلاث عورات لكم) بالنصب بدل من قوله: ' ثلاث مرات ' فيكون نصبا على البدل.
وقوله: * (ليس عليكم ولا عليهم جناح) أي: إثم في ترك الاستئذان فيما سوى هذه الأوقات الثلاثة.
وقوله: * (بعدهن) إشارة إلى هذا المعنى.
وقوله: * (طوافون عليكم بعضكم على بعض) ابتداء أي: هؤلاء الخدم والولائد طوافون عليكم، يطوفون عليكم ليخدموكم، ومن هذا قوله في الهرة: ' إنها من الطوافين عليكم والطوافات '.
547

* (طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (58) وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم (59) والقواعد من النساء) * *
وقوله: * (بعضكم على بعض) أي: يطوف بعضكم على بعض.
وقوله: * (كذلك يبين الله لكم الآيات) أي: الدلالات، وقيل: الأحكام.
وقوله: * (والله عليم حكيم) أي: عليم بأمور خلقه، حكيم فيما دبر لهم.
وقوله تعالى: * (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا) قوله: * (الحلم) أي: الاحتلام، وقوله: * (فليستأذنوا) (كما استأذن الرجال البالغون، ويقال): * (كما استأذن الذين من قبلهم) يعني: كما استأذن الذين من قبلهم، (مع إبراهيم وموسى وعيسى).
وقوله: * (كذلك يبين الله لكم آياته) أي: أحكامه.
وقوله: * (والله عليم حكيم) قد بينا.
قوله تعالى: * (والقواعد من النساء). القواعد جمع قاعد، يقال: امرأة قاعد إذا قعدت عن الأزواج، إذا قعدت عن الحيض بالكبر، وأما القاعدة فهي الجالسة.
وقوله: * (اللاتي لا يرجون نكاحا) يعني: لا يردن نكاحا، وقيل: لا يردن الرجال لكبرهن، وقيل: قعدن عن التصرف بالكبر، وإنما قيل: امرأة قاعدة إذا كبرت؛
لأنها تكثر القعود، قاله ابن قتيبة.
وعن ربيعة الرأي قال: هن العجائز اللواتي إذا رآهن الرجال استقذروهن، فأما من كان فيه بقية من جمال، وهي محل الشهوة، فلا تدخل في هذه الآية.
وقوله: * (فليس عليهن جناح) أي: إثم.
وقوله: * (أن يضعن ثيابهن) في قراءة ابن مسعود: ' أن يضعن من ثيابهن '، قال
548

* (اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات) * * ابن مسعود: وثيابهن ها هنا الرداء والجلباب. وعن ابن عباس قال: الجلباب، وأما الخمار لا يجوز لها أن تضعه، وأما الثوب الذي يكون فوق الخمار يجوز أن تضعه.
وفي بعض الأخبار: أن للزوج ما تحت الدرع، ولذي المحرم ما فوق الدرع، ولغير المحرم ما فوق الدرع والرداء والجلباب والخمار.
وقوله: * (غير متبرجات بزينة) أي: لا يردن بإلقاء الرداء والجلباب إظهار زينتهن ومحاسنهن، وأصل التبرج من الظهور، قال الله تعالى: * (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) أي: لا تنكشفن تكشف الجاهلية الأولى، وفي التفسير: أن المرأة إذا مشت بين يدي الرجال، فقد تبرجت تبرج الجاهلية الأولى.
وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ' رواه أسامة.
وقيل لبعض الحكماء: ما أحن السباع؟ قال: المرأة. وعن بعضهم أنه قال لآخر: لم يدخل باب داري شر قط، قال: من أين تدخل امرأتك؟. [وعن] بعضهم أنه رأى امرأة مصلوبة، فقال: لو أن كل شجرة تثمر مثل هذه، لنجى الناس من شر كبير.
وقوله: * (وأن يستعففن) يعني: ألا يلقين الرداء والجلباب خير لهن، وعن عاصم الأحول قال: كنا ندخل على حفصة، وهي متجلببة متردية متقنعة، فقلنا لها: يا أم المؤمنين، ألست من القواعد؟ فقرأت قوله تعالى: * (وأن يستعففن خير لهن).
وقوله: * (والله سميع عليم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض
549

* (بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم (60) ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من) * * حرج) اختلف القول في هذه الآية، قال الحسن البصري: الآية نزلت في رخصة هؤلاء للتخلف عن الجهاد، والذي ذكره بعده من الأكل عطف رخصة على رخصة. وعن ابن عباس قال: نزلت الآية في رخصة الأكل من أولها إلى آخرها، وسبب ذلك أن الناس كانوا يتحرجون من الأكل مع العميان والعرج والمرضى، ويقولون: إن الأعمى لا يستوفي الأكل، والأعرج من الجلوس، والمريض يضعف عن التناول، وكان هؤلاء أيضا يتحرجون من الأكل مع الأصحاء، فيقول الأعمى: لا آكل مع بصير، فربما آكل أكثر مما يأكل، والأعرج يقول: ربما آخذ مكان نفسين، والمريض يقول: يتقذرني الناس، فأنزل الله تعالى هذه الآية ورفع الحرج.
والقول الثالث: أن الناس كانوا يخرجون إلى الغزو، ويخلفون هؤلاء في بيوتهم، فكانوا يتحرجون من الأكل، فأنزل الله تعالى هذه الآية ورفع الحرج، وهذا قول عائشة، والقول الرابع: أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فلا يجدون شيئا، فيذهب ذلك الرجل إلى بيت آخر، ويحملهم مع نفسه ليصيبوا من طعام ذلك الرجل، وهذا قول مجاهد، وعن عبد الكريم الجزري قال: المراد من الآية هو الأعمى الذي معه قائد، فيحمل معه قائده ليأكل معه، وكذلك الأعرج والمريض يحملان إنسانا مع أنفسهما.
وقوله: * (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) أي: ولا حرج على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم، وفي معناه قولان: أحدهما: أنه بيوت الأولاد، روي عن النبي أنه قال: ' أنت ومالك لأبيك '.
550

* (بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت) * *
والقول الثاني: أن المراد بيوت الأزواج، ويقال: بيت كل إنسان في نفسه، والأولاد أظهر.
وقوله: * (أو بيوت آبائكم...) الآية إلى آخرها ظاهر المعنى.
وقوله: * (أو ما ملكتم مفاتحه) قال ابن عباس: هذا وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وغنمه، يأكل من الثمر، ويشرب من اللبن، ولا يحمل ولا يدخر، والقول الثاني: أن المراد من الآية بيوت العبيد، والمفاتح: الخزائن، قال الله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب) أي: خزائن الغيب.
وقوله: * (أو صديقكم) الصديق هو الذي صدقك في المودة، ويقال: الصديق هو الذي ظاهره مثل ظاهرك، وباطنه مثل باطنك، والصديق ها هنا واحد بمعنى الجمع.
قال الشاعر:
([دعون] الهوى [ثم ارتمين] قلوبنا
* بأسهم أعداء وهن صديق)
وعن بعضهم: أن الله تعالى رفع أمر الصديق على أمر الأبوين، قال الله تعالى حكاية عن أمر جهنم: * (فمالنا من شافعين ولا صديق حميم)، وعن جعفر بن محمد الصادق أنه قال: مثل صديقك مثل نفسك. وعن الحسن وقتادة قالا: كانوا يستحبون أن يدخلوا دور إخوانهم فيتناولون من غير استئذان، وكان يقع ذلك بطيب من نفوسهم
، ومودة في قلوبهم. وعن ابن عمر قال: وما كان أحدنا بأحق بدرهمه وديناره عن صاحبه. وعن بعضهم: أنه ذكر صديقا له فقال: أيأخذ من كيسك
551

* (خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا) * * ودراهمك ما تحب فلا تكرهه؟ قال: لا، قال: ليس لك هو بصديق.
وقوله: * (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا) روي أن الله تعالى لما أنزل قوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض) توقى الناس غاية التوقي، وقالوا: لا نأكل مع أحد حتى لا نأكل باطلا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي أن الآية نزلت في مالك بن زيد مع الحارث بن عمرو، وكان الحارث خلف مالك بن زيد في داره، وخرج غازيا، وأباح له الأكل، فلم يأكل شيئا. ومن المعروف في التفسير: أن الآية نزلت في بني بكر من كنانة، وكان لا يأكل أحد منهم وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه، وإذا لم يجد وأجهده الجوع نصب خشبة ولف عليها ثوبا وأكل عندها؛ ليظن الناس أنه إنسان يأكل معه، وروي أن واحدا منهم نزل بلقاحه واديا، فجاع فحلب لقحة منها، ونادى في الوادي: من كان ها هنا فليحضر ليأكل، وكان في الوادي رجل فاختفى ولم يجب، وأجهده الجوع، فجلس يأكل وحده، فخرج الرجل، وقال له: يا رضيع، أتأكل وحدك، فأخذ الرجل سيفه وعدى عليه وقتله مخافة أن ينشر في الناس ذلك الفعل منه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأباح للقوم أن يأكلوا منفردين وجماعة، فإن قيل: ما قولكم في هذه الآية، وإذا دخل بيت واحد ممن سبق ذكره، هل يجوز له أن يأكل بغير إذنه؟ والجواب عنه: قال أبو بكر الفارسي: إن كان سبق منه إذن على الإجمال - وإن لم يكن على التعيين - فإنه يجوز له أن يأكل، وفي غير هؤلاء لا يجوز إلا أن يعين. وقال بعضهم: إذا كان الطعام مبذولا غير محرز، جاز له أن يأكل وإن كان محرزا في حرز لا يجوز له أن يأكل، وأما حمل الزاد ومباذلة الغير فهو حرام ما لم يؤذن على التعيين، وقد قيل: إذا كان يسيرا فلا بأس به للعبيد والخدم.
وقوله: * (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) أي: ليسلم بعضكم على بعض، وهذا كقوله: * (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: ولا يقتل بعضكم بعضا،
552

* (أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبن الله لكم الآيات لعلكم تعقلون (61)) * * ويقال معنى الآية: إذا دخل بيته يسلم على أهله، وهي سنة قد هجرت، قال قتادة ' أهلك أحق أن تسلم عليهم. وكان الأوزاعي إذا دخل بيته ونسي السلام خرج ثم رجع وسلم. وأما إذا دخل بيتا خاليا، فيقول: السلام علينا من ربنا، وإذا دخل مسجدا ليس فيه أحد يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقد بينا أن السنة إفشاء السلام على من تعرف ومن لا تعرف، وكان ابن عمر يسلم على النسوان كما يسلم على الرجال، وقالوا: إن كانت عجوزا فلا بأس به، وإن كانت شابة فلا يسلم.
وقوله: * (تحية من عند الله مباركة طيبة) أي: حسنة جميلة، قاله ابن عباس، ويقال: ذكر البركة والطيب ها هنا لما فيه من الثواب، ومن أهدى سلاما إلى إنسان، فهي هدية خفيفة المحمل، طيبة الريح، مباركة العاقبة.
وقوله: * (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه). هذا تعليم أدب من آداب الإسلام، والأمر الجامع كل ما يجمعوا المسلمين، وقد قيل: إنه الجهاد، ويقال: هو الجمعة العيدان، ويقال: كل طاعة يجتمع عليها المسملون مع الإمام.
وفي الأخبار: ' أن الرجل من المسلمين كان إذا كان مع النبي في أمر، وأراد الاستئذان لحاجة له، قام وأشار إلى النبي كأنه يستأذن، فيشير إليه النبي أذنت لك '. وقد قالوا: إنما يحتاج إلى الاستئذان إذا لم يكن هناك سبب يمنعه من المقام، فأما إذا عرض سبب يمنعه من المقام مثل امرأة تكون في المسجد فتحيض، أو رجل يجنب، أو عرض له مرض وما أشبه، فلا يحتاج إلى الاستئذان.
553

* (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم (62) لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم) * *
وقوله: * (إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) روي أن عمر استأذن رسول الله في غزوة تبوك أن يرجع إلى أهله فقال: ' ارجع فلست بمنافق ولا مرتاب ' يعرضه بالمنافقين، وقيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى في سورة التوية: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم).
وقوله: * (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم) أي: أمرهم.
وقوله: * (فأذن لمن شئت منهم) معناه: إن شئت فأذن، وإن شئت فلا تأذن.
* (واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم) أي: ادع لهم إذا طلبوا الدعاء منك.
قوله تعالى: * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) أي: لا تقولوا: يا محمد، يا أبا القاسم، يا ابن عبد الله، ولكن قولوا: يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يا رسول الله، وادعوه على التفخيم والتعظيم.
وقوله: * (قد يعلم الله الذين يتسللون) التسلل هو الخروج على خفية، وكان المنافقون يفعلون هكذا، وكان يشق عليهم حضور المسجد والمكث فيه، وسماع خطبة النبي، فكان [يسير] بعضهم ببعض ويخرج من المسجد.
وقوله: * (لواذا) أي: يلوذ بعضهم ببعض، وقيل: (رحلا).
وقوله: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) أي: أمره.
وقوله: * (أن تصيبهم فتنة) معناه: لئلا تصيبهم فتنة أي: بلية.
وقوله: * (أو يصيبهم عذاب أليم) يقال: العذاب الأليم في الدنيا، ويقال: في الآخرة.
554

* (بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63) ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم (64)) * *
قوله تعالى: * (ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه) أي: يعلم، و ' قد ' صلة.
وقوله: * (ويوم يرجعون إليه) يعني: في الآخرة.
وقوله: * (فينبئهم بما عملوا) أي: يخبرهم الله بما عملوا.
وقوله: * (والله بكل شيء عليم) أي: عالم. تم بحمد الله تعالى المجلد الثالث من تفسير أبي المظفر السمعاني ويتلوه المجلد الرابع إن شاء الله تعالى وأوله تفسير سورة الفرقان
555