الكتاب: تفسير الثعلبي
المؤلف: الثعلبي
الجزء: ٤
الوفاة: ٤٢٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور ، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠٢م
المطبعة: بيروت - لبنان - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

((سورة المائدة))
مدنية، فيها من المنسوخ تسع آيات منها قوله: " * (لا تحلوا شعائر الله) *) نسختها آية السيف
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع قال: (يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها) وهي إحدى عشر ألفا وتسعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا، وألفان وثمانمائة وأربع كلمات، ومائة وعشرون آية.
عن عبد الله بن عمر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو على راحلة فلم تستطع أن تحمله حتى نزل عنها.
أبو أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات).
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (ياأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد * ياأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولاءامين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد آلعقاب * حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به
5

والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام ذالكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم * يسألونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا ممآ أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب * اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذآ ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو فى الاخرة من الخاسرين) *) 2
" * (يا أيها) *) يا نداء أي إشارة، ها تنبيه " * (الذين آمنوا) *) (نصب على البدل من: أيها) * * (أوفوا بالعقود) *) يعني بالعهود.
قال الزجاج: العقود أو كل العهود. يقال: عاقدت فلانا وعاهدت فلانا، ومنه ذلك باستيثاق وأصله عقد الشيء بغيره. وهو وصله به كما يعقد الحبل بحبل إذا وصل شدا قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم
شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
واختلفوا في هذه العقود ما هي، قال ابن جريح: هذا الخطاب خاص لأهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالكتب المقدسة والرسل المتقدمين.
أوفوا بالعهود التي عهد بها بينكم في شأن محمد، وهو قوله " * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) *). وقوله " * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) *) وقال الآخرون: فهو عالم.
قال قتادة: أراد به الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية دليله قوله " * (والذين عقدت أيمانكم) *))
.
6

ابن عباس: هي عهود الأيمان و (الفراق)، غيره: هي العقود التي عقدها الناس بينهم، " * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) *) اختلفوا فيها، فقال الحسن وقتادة والربيع والضحاك والسدي: هي الأنعام كلها وهي اسم للبقر والغنم والإبل، يدل عليه قوله تعالى " * (ومن الأنعام حمولة وفرشا) *) ثم بين ما هي، فقال " * (ثمانية أزواج من الضأن اثنين) *) وأراد بها ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام.
وقال الشعبي: بهيمة الأنعام: الأجنة التي توجد ميتة في بطن أمهاتها إذا ذبحت.
وروى عطية العوفي عن ابن عمر في قوله تعالى " * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) *) قال ما في بطونها، قلت: إن خرج ميتا آكله. قال: نعم هي بمنزلة رئتها وكبدها.
وروى قابوس عن أبيه عن ابن عباس أن بقرة نحرت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين وقال: هذا من بهيمة الأنعام التي أحلت لكم.
وقال أبو سعيد الخدري: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنين، فقال: (ذكاته ذكاة أمه).
قال الكلبي: بهيمة الأنعام وحشها، كالظباء وبقر الوحش مفردين، وإنما قيل لها بهيمة لأن كل حي لا يميز فهو بهيمة، سميت بذلك لأنها أبهمت عن أن تميز.
" * (إلا ما يتلى عليكم) *) يقول: عليكم في القرآن (لأنه حاكم) وهو قوله " * (حرمت عليكم الميتة والدم) *) إلى قوله " * (وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق) *) وقوله " * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) *).
" * (غير محلي الصيد وأنتم حرم) *) قال الأخفش: هو نصب على الحال يعني أوفوا بالعقود منسكين غير محلي الصيد وفيه (معنى النهي).
وقال الكسائي: هو حال من قوله " * (أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد) *) كما يقول: أحل لكم الطعام غير معتدين فيه.
معناه أنه أحلت لكم الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد ولا يحل لكم إذا كنتم
7

محرمين. فذلك قوله تعالى " * (وأنتم حرم) *) قرأه العامة بضم أوله وهي من حرم يحرم حراما في الحركات وهما جميعا جمع حرام، ويقال: رجل حرام وحرم ومحرم، وحلال وحل ومحل " * (إن الله يحكم ما يريد) *) (يحرم ما يريد على من يريد).
" * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) *) الآية نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة بن هند بن شرحبيل البكري، وقال: إنه لما أتى المدينة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلى ما تدعو الناس؟ فقال: (إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة). فقال: حسن إلا إن لي من لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم بعض من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان، ثم خرج شريح من عنده، فلما خرج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز:
لقد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر الوضم
باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم
خلج الساقين مسموح القدم
فلما كان في العام القابل خرج حاجا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلدوا الهدي فقال ناس من أصحابه للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الحطم خرج حاجا فحل بيننا وبينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (مه قد قلد الهدي).
فقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل " * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) *).
ابن عباس ومجاهد: هي مناسك الحج، وكان المشركون يحجون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله تعالى عنها، (وقال الحسن دين الله كله) يدل عليه قوله " * (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) *).
عطية عن ابن عباس: هي أن تصيد وأنت محرم، يدل عليه قوله " * (فإذا حللتم فاصطادوا) *).
عطاء: شعائر حرمات الله اجتناب سخطه واتباع طاعته بالذي حرم الله.
أبو عبيدة: هي الهدايا المشعرة وهي أن تطعن في سنامها ويحلل ويقلد ليعلم أنها هدي،
8

والإشعار العلامة، ومنه (الحديث): حين ذبح عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أشعر أمير المؤمنين بها كأنه أعلم بعلامة، وهي على هذا القول فعيلة، بمعنى مفعلة.
قال الكميت:
نقتلهم جيلا فجيلا تراهم
شعائر قربان بهم يتقرب
ودليل هذا التأويل قوله: " * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير) *) وقيل: الشعائر المشاعر.
وقال القتيبي: شعائر الله واحدتها شعيرة، وهي كل شيء جعل علما من أعلام طاعته.
" * (ولا الشهر الحرام) *) بالقتال فيه فإنه محرم لقوله " * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) *).
وقال: النسيء، وذلك أنهم كانوا يحلونه عاما ويحرمونه عاما، دليله قوله " * (إنما النسيء زيادة في الكفر) *) * * (ولا الهدي) *) وهو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة.
" * (ولا القلائد) *) قال أكثر المفسرين هي الهدايا، والمراد به (المقلدات) وكانوا إذا أخرجوا إلى الحرم في الجاهلية قلدوا السمر فلا يتعرض لهم أحد وإذا رجعوا تقلدوا قلادة شعر فلم يتعرض لهم أحد فهي عن استحلال واجب منهم.
وقال مطرف بن الشخير وعطاء: هي القلائد نفسها وذلك أن المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكة ونحوها فيقلدونها فيأمنون بها في الناس فنهى الله عز وجل أن ينزع شجرها فيقلدوه كفعل أهل الجاهلية " * (ولا آمين) *) قاصدين " * (البيت الحرام) *) يعني الكعبة.
وقرأ الأعمش: ولا آمي البيت الحرام بالإضافة كقوله تعالى * (غير محلي الصيد) * * (يبتغون) *) يطلبون " * (فضلا من ربهم) *) يعني الرزق بالتجارة " *
(ورضوانا) *) معناه على زعمهم وعدهم لأن الكافر لا نصيب له في الرضوان، وهذا كقوله " * (وانظر إلى إلاهك) *) فلا يرضى الله تعالى عنهم حتى يسلموا
9

قتادة: هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها.
وقيل: ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة لأن الناس كانوا يحجون من بين مسلم وكافر، يدل عليه قراءة حميد بن قيس " * (يبتغون فضلا من ربكم) *) على الخطاب للمؤمنين، وهذه الآية منسوخة بقوله " * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *) وقوله " * (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) *).
فلا يجوز أن يحج مشرك، ولا يأمن الكافر بالهدي والقلائد والحج.
" * (وإذا حللتم) *) من إحرامكم " * (فاصطادوا) *) أمر إباحة وتخيير كقوله " * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) *) * * (ولا يجرمنكم شنآن قوم) *).
روح ابن عبادة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أقبل رجل مؤمن كان حليفا لأبي سفيان بن الهذيل يوم الفتح بعرفة لأنه كان يقتل حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن الله من قبل دخل الجاهلية (ما شيء كان في الجاهلية إلا وهو) تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحج فإنهما مردودتان إلى أهليهما).
وقال الآخرون: نزلت في حجاج كفار العرب، وقوله " * (لا يجرمنكم) *)، قرأ الأعمش وعيسى ويحيى بن أبي كثير: يجرمنكم بضم الياء وقرأ الباقون بالفتح، وهما لغتان ولو أن الفتح أجود وأشهر وهو اختيار أبي محمد وأبي حاتم، قال أبو عبيد: لأنها اللغة الفاشية وإن كانت الأخرى مقبولة.
واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس وقتادة: لا يحملنكم. قال أبو عبيد: يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني.
قال الشاعر، وهو أبو أسماء بن الضرية:
يا كرز إنك قد فتكت بفارس
بطل إذا هاب الكماة مجرب
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
والمؤرج: لا يدعونكم. الفراء: لأكسبنكم، يقال فلان جرمه أهله أي كافيهم.
وقال الهذلي يصف عقابا:
10

جرمة ناهض في رأس نيق
ترى لعظام ما جمعت صليبا
وقال بعضهم وهو الأخفش: قوله " * (لا جرم إن لهم النار) *): أي حق لهم النار.
" * (شنآن قوم) *) أي بغضهم وعداوتهم وهو مصدر شنئت.
قرأ أهل المدينة والشام، وعاصم والأعمش: بجزم النون الأول، وقرأ الآخرون بالفتح، وهما لغتان إلا أن الفتح أجود لأنه أفخم اللغتين. فهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن المصادر نحوه على فعلان بفتح العين مثل الضربان والنزوان والعسلان ونحوها.
" * (أن صدوكم) *) قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمر: إن صدوكم بكسر الألف على الاستيناف والجزاء واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة عبد الله: أن يصدوكم، وقرأ الباقون بفتح الألف أي لأن صدوكم، ومعنى الآية لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء لأنهم صدوكم، واختاره أبو حاتم ومحمد بن جرير، قال ابن جرير: لأنه لا يدافع بين أهل العلم أن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية فإذا كان كذلك فالصد قد يقدم.
" * (أن تعتدوا) *) عليهم فتقتلوهم وتأخذوا أموالهم.
" * (وتعاونوا) *) أي ليعين بعضكم بعضا، ويقال للمرأة إذا كسى لحمها وتراجمها: متعاونة " * (على البر) *) وهو متابعة الأمر " * (والتقوى) *) وهو مجانبة الهوى " * (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) *) يعني المعصية والظلم.
عن واصب بن معبد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله عن البر والإثم قال: (جئت إلي تسألني عن البر والإثم)؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره، فقال: (البر ما انشرح به صدرك، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس).
عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، قال: حدثني أبي قال: سمعت النؤاس بن سمعان الأنصاري، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك فكرهت أن يطلع عليه الناس) * (واتقوا الله إن الله شديد العقاب) * * (حرمت عليكم الميتة) *) وهي كل ما له نفس سائلة مما أباح الله عز وجل أكلها، فارقتها روحها بغير تذكية، وإنما قلنا: نفس سائلة لأن السمك والجراد دمان وهما حلال.
" * (والدم) *) أجمل هاهنا وفسر في آية أخرى فقال عز من قائل: " * (أو دما مسفوحا) *) فالدم الملطخ فهو كاللحم في أكله لأن الكبد والطحال دمان وهما حلال
.
11

عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحلت لنا ميتتان ودمان فالميتتان الحوت والجراد وأما الدمان فالطحال والكبد).
" * (ولحم الخنزير) *) وكل شيء منه حرام وإنما خص اللحم لأن اللحم من أعظم منافعه. " * (وما أهل به) *) ذبح " * (لغير الله) *) وذكر عليه غير اسم الله.
قال أبو ميسرة: في المائدة ثمان عشرة فريضة ليس في سورة من القرآن وهي آخر سورة نزلت ليس فيها منسوخ.
" * (والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام) *)، * (وما علمتم من الجوارح مكلبين) * * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) *)، * (إذا قمتم إلى الصلاة) * * (والسارق والسارقة) *).
" * (ولا تقتلوا الصيد) *) إلى قوله " * (ذو انتقام) *) * (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) * * (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) *).
فأما المنخنقة فهي التي تختنق فتموت، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها، والموقوذة: التي تضرب بالخشب حتى تموت.
قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا حتى إذا ماتت أكلوها. فقال فيه: قذه يقذه وقذا إذا ضربه حتى شفى على الهلاك.
قال الفرزدق:
شغارة تقذ الفصيل برجلها
طارة لقوادم الأبكار
والمتردية: التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت.
والنطيحة: التي تنطحها صاحبتها فتموت، و (هاء) التأنيث تدخل في الفعيل بمعنى الفاعل فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيها المذكر والمؤنث نحو لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب، فإنما أدخل الهاء ها هنا لأن الاسم لا يسقط منها ولو أسقط الهاء منها لم يدر أهي
12

صفة لمؤنث أو مذكر، والعرب تقول لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب فإذا حذفوا الاسم وأفردوا الصفة أدخلوا الهاء، قالوا: رأينا كحيلة وخضيبة ودهينة، وأكيلة السبع فأدخلوا الهاء مثل الذبيحة والسكينة وما أكل السبع غير (المعلم).
وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع، وقرأ ابن أبي زائدة: وأكيلة السبع، وقرأ الحسن وطلحة ابن سليمان: وما أكل السبع بسكون الباء (وهي لغة لأهل نجد).
قال حسان بن ثابت في عتبة بن أبي لهب:
من يرجع العام إلى أهله
فما أكيل السبع بالراجع
قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا أكل السبع مليا أو أكل منه أكلوا ما بقي " * (إلا ما ذكيتم) *) يعني إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، والتذكية تمام فري الأوداج، وإنهار الدم، ومنه الذكاة في السن وهو أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة ومثله المثل السائد: جري المذكيات غلاب.
قال الشاعر:
يفضله إذا اجتهدوا عليه
تمام السن منه والذكاء
ومنه الذكاء في الفهم إذا كان تام العقل سريع القبول.
ويقول في الذكاة إذا أتممت إشعالها، فمعنى ذكيتم أدركتم ذبحه على التمام.
وقال ابن عباس وعتبة بن عمير: إذا طرفت بعينها أو ظربت بذنبها أو ركضت برجلها أو تحركت فقد حلت لك.
وعن زيد بن ثابت: أن ذئبا نيب في شاة فذبحوها بمروة فرخص النبي صلى الله عليه وسلم في أكله.
أبو قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)
13

قال عاصم عن عكرمة: إن رجلا أضجع شاته وجعل يحد شفرته ليذبحها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (تريد أن تميتها موفات قبل أن تذبحها).
" * (وما ذبح على النصب) *) قال بعضهم: فهو جمع واحدها نصاب، وقيل: هو واحدة جمعها أنصاب مثل عنق وأعناق.
وقرأ الحسن بن صالح وطلحة بن مصرف: النصب بجزم الصاد.
وروى الحسن بن علي الجعفي عن أبي عمرو: النصب بفتح النون وسكون الصاد.
وقرأ الجحدري: بفتح النون والصاد (جعله) إسما موحدا كالجبل والجمل والجمع أنصاب كالأجمال والأجبال وكلها لغات وهو الشيء المنصوب، ومنه قوله تعالى " * (كأنهم إلى نصب يوفضون) *) واختلفوا في معنى النصب ها هنا.
فقال مجاهد وقتادة وابن جريح: كان حول البيت ثلاثمائة وستين حجرا وكان أهل الجاهلية يذكون عليها يشرحون اللحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون لها، وكانوا مع هذا يبدلونها إذا شاؤوا لحجارة (من قبالهم) منها، قالوا: وليست هي بأصنام إنما الصنم ما يصور وينقش.
وقال الآخرون: هي الأصنام المنصوبة.
قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تستكنه
لعاقبة والله ربك فاعبدا
ثم اختلفوا في معناها. فقال بعضهم: تقديره على اسم النصب. ابن زيد " * (وما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به) *) هما واحدة.
قطرب: معناه: ما ذبح للنصب أي لأجلها على معنى اللام وهما يتعاقبان في الكلام. قال الله تعالى " * (فسلام لك) *) أي عليك، وقال " * (وإن أسأتم فلها) *) أي فعليها، " * (وأن تستقسموا) *) معطوف على ما قبله، وأن في محل الرفع أي وحرم عليكم الإستقسام بالأزلام، والاستقسام طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها زلم مثل عمر، وزلم وهي القداح.
14

قال الشاعر:
فلئن جذيمة قتلت سرواتها
فنساؤها يضربن بالأزلام
وكان استقسامهم بالأزلام على ما ذكره المفسرون أن أهل الجاهلية إذا كان سفرا أو غزوا أو تجارة أو تزويجا أو غير ذلك ضرب القداح وكانت قداحا مكتوب على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها: أمرني ربي، إن خرج الآمر مضى لأمره، وإن خرج الناهي أمسك.
وقال سعيد بن جبير: الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها.
أبو هشام عن زياد بن عبد الله عن محمد بن إسحاق قال: كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة وكانت عند هبل أقداح سبعة كل قدح منها فيه كتاب، قدح فيه: العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة فإن خرج العقل حمله، وقدح فيه: نعم، للأمر، إذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القدح فعلوا ذلك الأمر.
وقدح فيه: لا إذا أرادوا أمر يضربون فإن خرج قدح (لا) لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه: منكم وقدح فيه: ملصق وقدح فيه: من غيركم، وقدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القداح فحيثما خرج عملوا به.
وكانوا إذا أرادوا أن يختتنوا غلاما أو أن ينكحوا امرأة أو يدفنوا ميتا أو شكوا في نسب خصمهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وبجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب فيضرب، فإن خرج عليه: منكم، كان وسيطا منهم وإن خرج عليه: من غيركم، كان حليفا، وإن خرج عليه: ملصق، كان على منزلته منهم لا نسب له ولا حليف، وإن كان في شيء مما سوى هذا مما يعملون به كنعم عملوا به، فإن خرج: لا، أخروا عامهم ذلك حتى يأتوه مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. فقال الله عز وجل " * (ذلكم فسق) *).
قال مجاهد: هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها.
قال سفيان بن وكيع: الشطرنج.
رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من تكهن أو استقسم أو تطير
15

طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة).
" * (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) *) يعني عن أن يرجعوا إلى دينهم كفارا، وفيه لغتان قال: الشعبي وائس يايس إياسا وإياسة.
قال النضر بن شميل: " * (فلا تخشوهم واخشوني اليوم أكملت لكم دينكم) *) نزلت الآية في يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر للهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم أقف بعرفات على ناقته العضباء وكادت عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت.
وقال طارق بن شهاب: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: آية (نقرؤها) لو علينا نزلت في ذلك اليوم لاتخذناه عيدا، قال: أية آية؟ قال: " * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت) *)، قال عمر: قد علمت في أي يوم نزلت وفي أي مكان، إنها نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوفا بعرفات وكلاهما بحمد الله لنا عيد، ولا يزال ذلك اليوم عيدا للمسلمين ما بقي منهم أحد وقد صار من ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ولا يجمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية بكى عمر (رضي الله عنه) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ما يبكيك يا عمر) قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، فقال: (صدقت).
وكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها أحد وثمانون يوما أو نحوها.
واختلف المفسرون في معنى الآية فقال ابن عباس والسدي: " * (اليوم) *) وهو يوم نزول هذه الآية " * (أكملت لكم دينكم) *) أي الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض. فهذا معنى قول ابن عباس والسدي.
وقال سعيد بن جبير وقتادة: اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك، وقيل: هو أن الله تعالى أعطى هذه الأمة من أنواع العلم والحكمة جميع ما أعطى سائر الرسل والأمم فزادهم.
وقيل: إن شرائع الأنبياء زالت ونقضت وشريعة هذه الأمة باقية لا تنمح ولا تتغير إلى يوم القيامة (.......) هو بايعك ثم فرقوه، يكن هذا لغيرهم، وقيل: لم يكن إلا هذه الأمة
16

وقيل: هو أن الله تعالى جمع بهذه الآية جميع (........) الولاية وأسبابها.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم بن حسيب قال: سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي قال: سمعت العباس بن حمزة قال: سمعت ذا النون يقول يعلمنا من سياسة فيقول أربعة أشياء: الكتاب والرسول، والخلعة والولاية.
قال: كتاب جعله أشرف الكتب وأكثرها يسرا وأخفها أمرا وأغزرها علما وأوفرها حكما، ورسول الله جعله أعظم الرسل وأفضلهم، والخلعة جعله عطاء ولم يجعلها عارية، والولاية جعلها دائمة إلى نفخ الصور.
" * (وأتممت عليكم نعمتي) *) حققت وعدي في قولي ولأتم نعمتي عليكم فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين.
وقال الشعبي: نزلت هذ الآية بعرفات حيث هدم منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت (غيرهم).
السدي: أظهرتكم على العرب.
" * (ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر) *) اجتهد " * (في مخمصة) *) مجاعة يقال: هو خميص البطن إذا كان طاويا خاويا، ورجل خمصان وامرأة خمصانة إذا كانا ضامرين مضيمين والخمص والخمص الجوع.
قال الشاعر:
يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة
يبت قلبه من قلة الهم مبهما
" * (غير متجانف لإثم) *).
قال أبو عبيدة: غير متحرف مائل، قطرب: مائل، المبرد: (زايغ) وقرأ النخعي: متجنف وهما بمعنى واحد يقال: تجنف وتجانف مثل تعهد وتعاهد.
قتادة: غير متعرض بمعصية في مقصده وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: ما أكل فوق الشبع " * (فإن الله غفور رحيم) *) فيه إضمار، تقديره: فأكله، ويكتفى بدلالة الكلام عليه، فإن الله غفور رحيم أي غفور له غفور كما يقول عبد الله: ضربت، فيريد ضربته.
قال الشاعر
17

ثلاث كلهن قتلت عمدا
فأخزى الله رابعة تعود
وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم المخمصة (بما رواه) (الأوزاعي) عن حسان بن عطية عن أبي واقد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا بأرض يصيبنا بها مخمصة فمتى تحل لنا الميتة؟
قال صلى الله عليه وسلم (إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها).
" * (يسألونك ماذا أحل لهم) *) الآية.
قال أبو رافع: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه فخرج فقال: قد أذنا لك يا رسول الله، قال: أجل يا رسول الله ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو.
عن عبد الله بن يحيى عن أبيه عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب).
رجعنا إلى حديث أبي رافع قال: فأمرني أن لا أدع كلبا بالمدينة إلا قتلته وقلت حتى خفت العوالي (فأتيت) إلى امرأة في ناحية المدينة عندها كلب يحرس عنها فرحمته
فتركته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بأمري، فأمرني بقتله فرجعت إلى الكلب فقتلته.
وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رافعا صوته: (اقتلوا الكلاب).
قال: وكنا نلقى المرأة (تقدم من) المدينة بكلبها فنقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها وحرم ثمنها.
وروى علي بن رباح اللخمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل ثمن الكلاب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي).
ونهى عن اقتنائها وإمساكها وأمر بغسل الإناء من ولوغها سبع مرات أولاهن بالتراب نرجع إلى الحديث الأول.
قال: فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب جاء ناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الآمة التي نقتلها، فسكت رسول الله فأنزل الله هذه الآية وأذن رسول الله في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها، وأمر بقتل الكلب العقور وما يضر ويؤذي ورفع القتل عما سواها مما لا ضرر فيه
18

وروى الحسن عن عبد الله بن معقل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم وأيما قوم اتخذوا كلبا ليس بكلب حرث أو صيد أو ماشية نقصوا من أجورهم كل يوم قيراطا).
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتنى كلبا ليس كلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينتقص من أجره قيراطان كل يوم).
والحكمة في ذلك ما روى أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الرزاق السريعي قال: قيل لعبد الله بن المبارك: ما تقول في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم (من اقتنى كلبا لا كلب صيد ولا ماشية نقص من عمله كل يوم كذا وكذا من الأجر).
فقال حدثني (الأصمعي) قال: قال أبو جعفر المنصور لعمرو بن عبيد: ما بلغك في الكلب؟ قال: بلغني أن من أخذ كلبا لغير زرع ولا حراسة نقص من أجره كل يوم قيراط. فقال له: ولم ذلك؟ قال: هكذا جاء الحديث، قال: خذها بحقها إنما ذلك لأنه ينبح على الضيف ويروع السائل.
وكانت أسخياء العرب تبغض الكلاب لهذا المعنى وتذم من ربطه وهم بقتله.
قال الثعلبي: أنشدني أبو الحسن الفارسي قال: أنشدني أبو الحسن الحراني البصري أن بعض شعراء البصرة نزل بعمار فسمع لكلابه نبحا فأنشأ يقول:
نزلنا بعمار فأشلى كلابه
علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل
فقلت لأصحابي أسر إليهم
إذا اليوم أم يوم القيامة أطول
قال عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: نزلت في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل (الطائيين) وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير وذلك إنهما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد الكلاب والبزاة فإن كلاب آل درع وآل حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما يدرك ذكاته ومنه ما يقتل فلا يدرك ذكاته وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت " * (يسألونك) *) يا محمد " * (ماذا أحل لهم) *) قل: " * (أحل لكم الطيبات) *) يعني الذبائح التي أحلها الله " * (وما علمتم) *) يعني وصيد ما علمتم " * (من الجوارح) *))
.
19

واختلفوا في هذه الجوارح التي يحل صيدها بالتعليم غير المدرك ذكاته وما أدركت فما ذكاته فهو لك، وإلا فلا يطعم، وهذا غير معمول به.
وقال سائر العلماء: هي الكواسب من السباع والبهائم والطير مثل النمر والفهد والكلب والعقاب، والصقر، والبازي، والباشق، والشاهين ونحوها مما يقبل التعليم، فسميت جوارح لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد أي كسبها. يقال: فلان جارحة أهلها أي كاسبهم ولا جارحة لفلان إذ لم تكن لها كسب " * (مكلبين) *) منصوب على الحساب في المعنى وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين إلى هذه الحال أي في حال صيدكم (أصحاب) كلاب، والتكليب إغراء الصيد وإشلاؤه على الصيد.
قال الشاعر:
باكره عند الصباح مكلب
أزل كسرحان القصيمة أغبر
قرأ أبن مسعود وأبو زرين والحسن: مكلبين بتخفيف اللام على هذا المعنى، وهي قراءة الحسن والقتيبي أيضا، ويجوز أن يكون من قولهم: أكلب الرجل، إذا كثرت كلابه، مثل: وأمشى إذا كثرت ماشيته، وذكر الكلاب لإنها أكثر وأعم والمراد به جميع الجوارح.
" * (تعلمونهن) *) آداب الصيد " * (مما علمكم الله) *) أي من العلم الذي علمكم الله، وقال السدي: من بمعنى الكاف، أي كما علمكم الله، وهو أن لا (يجثمن) ولا يعضن ولا يقتلن ولا يأكلن " * (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) *) عند إرسال البهم والجوارح.
حكم الآية
والمعلم من الجوارح الذي يحل صيده هو أن يكون إذا أرسله صاحبه وأشلاه استشلى وإذا أخذ أمسك ولم يأكل. فإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك
مرات فهو معلم فمتى كان بهذا الوصف فاصطاد جاز أكله فإذا أمسك الصيد ولم يأكل منه جاز أكله، وكان حلالا، فإن أكل منه، فللشافعي فيه قولان: أحدهما: لا يحل ولا يؤكل وهو الأشهر والأظهر من مذهبه لأن الله عز وجل قال: " * (فكلوا مما أمسكن عليكم) *) وهو لم يمسك علينا وإنما أمسك على نفسه، وهذا قول الحسن وطاووس والشعبي وعطاء والسدي.
وقال ابن عباس: إذا أرسلت الكلب فأكل من صيد فهي ميتة لا يحل أكله لأنه سبع أمسكه على نفسه، ولم يمسك عليك ولم يتعلم ما علمته، فاضربه ولا تأكل من صيده
20

يدل عليه ما روى الشعبي عن عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال: (إذا
أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه فإن أدركته لم يقتل، فاذبح واذكر اسم الله عليه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك، فإن وجدته قد أكل منه فلا تطعم منه شيئا، فإنما أمسك على نفسه، فإن خالط كلبك كلاب فقتلن ولم يأكلن فلا تأكل منه فإنك لا تدري أيها قتل). (وإذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن أدركته فكل، إلا أن تجده وقع في ماء فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك) فإن وجدته بعد ليلة أو ليلتين ولم تر فيه سهمك فإن شئت أن تأكل منه فكل).
والقول الثاني: أنه يحل وإن أكل وهو قول سلمان الفارسي، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبي هريرة، قال حميد بن عبد الله وسعد ابن أبي وقاص: لنا كلاب ضواري يأكلن ويبقين، قال: كل وإن لم يبق إلا نصفه أو ثلثيه فكل ميتة.
وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا فرق في حمله على ما ذكرنا من الطيور والسباع المعلمة.
وروى أبو قلابة عن ثعلبة الخشني: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إن أرضنا أرض صيد فأرسل سهمي وأذكر اسم الله وأرسل كلبي المعلم وأذكر اسم الله وأرسل كلبي الذي ليس معلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما حبس عليك سهمك، وذكرت اسم الله (فكل)، وما حبس عليك كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل وما حبس عليك كلبك الذي ليس معلم فأدركت ذكاته فكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل).
* (واتقوا الله إن الله سريع الحساب) * * (اليوم أحل لكم الطيبات) *) يعني الذبائح " * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) *) يعني ذبائح اليهود والنصارى، ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم حلال لكم، فمن دخل في دينهم بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فلا تحل ذبيحته، فأما إذا سمى أحدهم غير الله عند الذبح مثل قول النصارى: باسم المسيح، اختلفوا فيه.
فقال ربيعة: سمعت ابن عمر يقول: لا تأكلوا ذبائح النصارى، فإنهم يقولون: باسم المسيح، فإنهم لا يستطيعون أن تهدوهم وقد ظلموا أنفسهم، دليله قوله " * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فإنه فسق) *).
والقول الثاني: إنه يجوز ذبيحتهم، الكتابي، وإن سمي غير الله فإن هذا مستثنى من قوله
21

تعالى " * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *) وهي إنما نزلت في ذبائح المشركين وما كانوا يذبحونها لأصنامهم، وعلى هذا أكثر العلماء.
قال الشعبي وعطاء: في النصراني يذبح فيقول: باسم المسيح قالا: يحل. فإن الله عز وجل قد أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون.
وسأل الزهري ومكحول عن ذبائح عبدة أهل الكتاب، (والمربيات) لكنائسهم وما ذبح لها فقالا: هي حلال، وقرأ هذه الآية.
وقال الحسن والحرث العكلي: ما كنت أسأله عن ذبحه فإنه أحل الله لنا طعامه، فإذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر غير اسم الله وأنت تسمع فلا تأكله، فإذا غاب عنك فكل، فقد أحل الله لك (ما في) القرآن، فذبح اليهود والنصارى ونحرهم مكروه.
قال علي (رضي الله عنه): (لا يذبح ضحاياكم اليهود ولا النصارى ولا يذبح نسكك إلا مسلم).
قوله عز وجل " * (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) *) اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها، فقال قوم: عنى بالإحصان في هذه الآية الحرية وأجازوا نكاح كل حرة، مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة وحرموا إماء أهل الكتاب أن يتزوجهن المسلم بحال، وهذا قول مجاهد وأكثر الفقهاء، والدليل عليه قوله: " * (فمن لم يستطع منكم طولا) *) الآية، فشرط في نكاح الإماء الإيمان.
وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بالمحصنات في هذه الآية العفائف من الفريقين إماء كن أو حرائر، فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب بهذه الآية، وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات، وهذا قول أبي ميسرة والسدي.
وقال الشعبي: إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة، وتحصن فرجها.
وقال الحسن: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فاستيقن فإنه لا يمسكها، ثم اختلفوا في الآية أهي عامة أم خاصة. فقال بعضهم: هي عامة في جميع الكتابيات حربية كانت أو ذمية، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن.
وقال بعضهم: هي الذميات، فإما الحربيات فإن نساءهم حرام على المسلمين، وهو قول ابن عباس.
السدي عن الحكم عن مقسم عنه قال: من نساء أهل الكتاب من تحل لنا ومنهم من لا
22

تحل لنا، ثم قرأ: " * (قاتلوا الذين لا يؤمنون..) *) إلى قوله " * (صاغرون) *). فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.
قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم فأعجبه، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات، ويفسر هذه الآية بقوله: " * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) *) يقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى.
وروى المبارك عن سليمان بن المغيرة قال: سأل رجل الحسن: أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ماله ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات: فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حصانا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة، قال: هي التي إذا ألمح الرجل إليها بعينه أتبعته " * (ومن يكفربالإيمان فقد حبط عمله) *).
قال قتادة: ذكر لنا ان رجالا قالوا لما نزل قوله " * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) *): كيف نتزوج نساء لسن على ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقال مقاتل ابن حيان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر يعني عنهن في دينهن (...) وجعلهن ممن كفر بالإيمان، فقد حبط عمله وهو بعد للناس عامة، " * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) *) يعني من أهل النار.
وقال ابن عباس: ومن يكفر بالله قال الحسن بن الفضل: إن صحت هذه الرواية كان فمعناه برب الإيمان وقيل: بالمؤمنين به.
قال الكلبي: ومن يكفر بالإيمان أي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
قال الثعلبي رحمه الله: وسمعت أبا القاسم الجهني قال: سمعت أبا الهيثم السنجري يقول: الباء صلة كقوله تعالى: * (يشرب بها عباد الله) * * (تنبت بالدهن) *) والمعنى ومن يكفر بالإيمان أي يجحده فقد حبط عمله.
وقرأ الحسن بفتح الباء، قرأ ابن السميع: فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلواة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضىأو على سفر أو جآء أحد
23

منكم من الغائط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولاكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون * واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور * ياأيهآ الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم علىألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم * والذين كفروا وكذبوا بئاياتنآ أولائك أصحاب الجحيم) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) *) الآية، أمر الله تعالى بالوضوء عند القيام إلى الصلاة. واختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم: هذا من العام الذي أريد به الخاص. والمجمل الذي وكل بيانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر، يدل عليه ما روي عن عكرمة إنه سأل عن هذه الآية قال: أو كل ساعة أتوضأ؟ فقال: إن ابن عباس قال: لا وضوء إلا من حدث.
وقال الفضل بن المبشر: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات الخمس بوضوء واحد. فإن بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل مائه الخفين. فقيل: أي شيء تصنعه برأيك؟ فقال: بل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه وأنا أصنع كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع.
وروى محارب بن دثار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد.
وقال المسور بن مخرمة لابن عباس: هل لك في عبيد بن عمير إذا سمع النداء خرج من المسجد. فقال ابن عباس: هكذا يصنع الشيطان، فدعاه فقال: ما يحملك على ما تصنع إذا سمعت النداء خرجت وتوضأت، قال إن الله عز وجل يقول: " * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) *)... الآية. قال: ليس هذا إذا توضأت فإنك على طهر حتى تحدث، ثم قال: هكذا يصنع الشيطان إذا سمع النداء ولى وله ضراط.
وروى الأعمش عن عمارة قال: كان للأسود قعب قد ري رجل وكان يتوضأ به ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها.
وقال زيد بن أسلم والسدي: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، وقال بعضهم: أراد بذلك كل قيام العبد إلى صلاته أن يجدد لها طهرا على طريق الندب والاستحباب، قال عكرمة: كان علي يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية " * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) *).
24

عن أبي عفيف الهذلي إنه رأى ابن عمر يتوضأ للظهر ثم العصر ثم المغرب، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أسنة هذا الوضوء؟ قال: إنه كان كافيا وضوئي للصلاة كلها مالم أحدث ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات) ففي ذلك رغبت يا ابن أخي.
وقال بعضهم: بل كان هذا أمرا من الله عز وجل لنبيه وللمؤمنين حتما وامتحانا أن يتوضأ لكل صلاة، ثم نسخ للتخفيف.
وقال محمد بن يحيى بن جبل الأنصاري قلت: لعبيد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر عمن هو؟ قال: حدثتنيه أسماء بنت زيد الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيلي حدثها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث، وكان عبد الله يرى أن به قوة عليه فكان يتوضأ.
وروى سليمان بن بريد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكة صلى الصلوات الخمس كلها بوضوء واحد، فقال عمر (رضي الله عنه): إنك تفعل شيئا لم تكن تفعله قال: (عمدا فعلته يا عمر).
وقال بعضهم: هذا إعلام من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال.
وذلك إنه إذا كان أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ فأذن الله عز وجل بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث غير الصلاة.
وروى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم
عليه فلا يرد علينا حتى يأتي منزله فيتوضأ لوضوء الصلاة حتى نزلت آية الرخصة " * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) *).
وحد الوجه من منابت شعر الرأس إلى طرف الذقن طولا، وما بين الأذنين عرضا، فأما ما استرسل من اللحية عن الذقن؛ فللشافعي هنا قولان:
أحدهما: أنه لا يجب على المتوضىء غسله، وهو مذهب أبي حنيفة واختيار المزني
25

واحتجوا بأن الشعر النازل من الرأس لا يحكم بحكم الرأس. وكذلك من الوجه.
والثاني: أنه يجب غسله، ودليل هذا القول من ظاهر هذه الآية، لأن الوجه ما يواجه به، فكل ما تقع به المواجهة من هذا العضو يلزمه غسله بحكم الظاهر.
ومن الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم حيث نهى عن تغطية اللحية في الصلاة إنها من الوجه، ومن اللغة قول العرب بدل وجه فلان وخرج وجهه إذا نبتت لحيته.
" * (وإيديكم إلى المرافق) *) غسل اليدين من المرفقين واجب بالإجماع واختلفوا في المرفقين.
فقال الشعبي ومالك والفراء ومحمد بن الحسن ومحمد بن جرير: لا يجب غسل المرفقين في الوضوء، وإلى ها هنا بمعنى الحد والغاية، ثم استدلوا بقوله تعالى " * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) *) والليل غير داخل في الصوم، وقال سائر الفقهاء: يجب غسلهما و (إلى) بمعنى مع واحتجوا بقوله تعالى " * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) *) وقوله " * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) *) وقوله * (من أنصاري إلى الله) * * (وامسحوا برؤوسكم) *) اختلف الفقهاء في القدر الواجب من مسح الرأس.
فقال مالك والمزني: مسح جميع الرأس في الوضوء واجب.
وجعلوا الباء بمعنى التعميم، كقوله عز وجل " * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) *) وقوله " * (وليطوفوا بالبيت العتيق) *).
وقال أبو حنيفة: مسح ربع الرأس واجب. أبو يوسف: نصف الرأس، الشافعي: يجوز الاقتصار على أقل من ربع الرأس، فإذا مسح مقدار ما يسمى مسحا أجزأه، واحتج بقوله " * (وامسحوا برؤوسكم) *)، وله في هذه الآية دليلان، أحدهما: مسح بعض رأسه وإن قل فقد حصل من طرفي (اللسان) ماسحا رأسه. فصار مؤديا فرض الأمر.
والثاني: إنه قال في العضوين اللذين أمر بتعميمها بالطهارة " * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) *) فأطلق الأمر في غسلهما وقال في الرأس " * (فامسحوا برؤوسكم) *) فأدخل الباء للتبعيض لأن الفعل إذا
26

تعدى إلى المفعول من غير حرف الباء كان دخول الباء للتبعيض، كقول القائل: مسحت يدي بالمنديل وإن كان مسح ببعضه.
قال عنترة:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت
زوراء تنفر عن حياض الديلم
ويدل عليه من السنة ما روى عمرو بن وهب النقعي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفيه، فاقتصر في المسح على الناصية دون سائر الرأس.
" * (وأرجلكم) *) اختلف القراء فيه، فقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام ومجاهد، وإبراهيم التميمي وأبو وائل، والأعمش، والضحاك وعبد الله بن عامر، وعامر ونافع، والكسائي وحفص وسلام ويعقوب: (وأرجلكم) بالنصب وهي قراءة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).
وروى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: قرأ علي الحسن والحسين فقرأا: وأرجلكم بالخفض، فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس، فقال: وأرجلكم بالنصب، وقال: هذا من المقدم والمؤخر من الكلام.
وقراءة عبد الله وأصحابه. قال الأعمش: كان أصحاب عبد الله يقرؤن: وأرجلكم نصبا فيغسلون.
وقراءة ابن عباس، روى عكرمة عنه أنه قرأها: وأرجلكم بالنصب وقال: عاد الأمر إلى الغسل وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالكسر، وهي قراءة أنس والحسن وعلقمة والشعبي، واختيار أبي حاتم، فمن نصب فمعناه واغسلوا أرجلكم، ومن خفض فله وجوه ثلاث: أحدها أن المسح يعني الغسل والباء بمعنى التعميم، يقول تمسحت للصلاة أي توضأت، وذلك أن المتوضىء لا يرضى أن يصيب وجهه وذراعيه وقدميه حتى يمسحها فيغسلها فلذلك سمي الغسل بها، وهذا قول أبي زيد الأنصاري وأبي حاتم السجستاني.
وقال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما: إن الأرجل معطوفة على الرؤس على الاتباع بالجواز لفظا لا معنى. كقول العرب (جحر ضب خرب) قال تعالى " * (ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) *).
قال الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى
متقلدا سيفا ورمحا
27

والرمح لا يتقلد إنما يحمل.
وقال لبيد:
وأطفلت بالجلهتين
ظباؤها ونعامها
والنعام لا تطفل وإنما تفرخ.
وقال بعضهم: أراد به المسح على الأرجل لقرب الجوار. كقوله: غمر الردا أي واسع الصدر. ويقال: قبل رأس الأمير ويده ورجله، وإن كان في العمامة رأسها وفي الكم يده وفي الخف رجله. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يده على ركبتيه. وليس المراد إنه لم يكن بينهما حائل. قال الله تعالى: " * (وثيابك فطهر) *) قال كثير من المفسرين: أراد به قلبك فطهر.
قال همام بن الحرث: بال جرير بن عبد الله فتوضأ ومسح على خفيه فقيل له في ذلك، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
قال الأعمش: كان إبراهيم يعجبه هذا الحديث، وهو أن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.
وأجرى قوم من العلماء الآية على ظاهرها، وأجازوا المسح على القدمين، وهو قول ابن عباس قال: الوضوء مسحتان وغسلتان.
وقول أنس: روى ابن علية عن حميد عن موسى بن أنس إنه قال لأنس ونحن عنده: إن الحجاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال: إغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وكعبهما وعراقيبهما.
فقال: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله تعالى " * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) *) وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما.
وروى حماد عن عاصم الأحول عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة بالغسل.
وقول الحسن والشعبي، قال الشعبي: نزل جبرئيل بالمسح، ثم قال: ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا.
وقول عكرمة قال يونس: حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه إنما كان يمسح عليهما حتى خرج منها.
28

وقول قتادة قال: إفترض الله غسلين ومسحين، ومذهب داود بن علي الأصفهاني ومحمد ابن جرير الطبري وأبي يعلى وذهب بعضهم إلى إن المتوضىء يتخير بين غسلهما ومسحهما، والدليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء قول الله عز وجل: " * (إلى الكعبين) *) فتحديده بالكعبين دليل على الغسل كاليدين لما حدهما إلى المرفقين كان فرضهما الغسل دون المسح.
ويدل عليه من السنة ما روي عن عثمان وعلي وأبي هريرة وعبد الله بن زيد إنهم حكوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوا أرجلهم.
وروى خلاد بن السائب عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقبل الله صلاة إمرىء حتى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل أرجله).
وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر أنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغسل أرجلنا إذا توضأنا.
وقال ابن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب غسل الرجلين.
أبو يحيى عن عبد الله بن عمرو قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم عراقيبهم تلوح فقال: (أسبغوا الوضوء ويل للعراقيب من النار).
وقال حميد الطويل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمى يتوضأ فقال: (إغسل باطن قدميك) فجعل يغسل حتى سمي أبا غسيل).
روى أبو قلابة أن عمر (رضي الله عنه) رأى رجلا يتوضأ فترك باطن قدميه فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: لأن تقطعا أحب إلي من أن أمسح على القدمين بغير خفين إلى الكعبين.
وهما النابتان من جانبي الرجل ومجمع مفصل الساق والقدم. وسمتهما العرب المنجمين، وعليهما الغسل كالمرفقين، هذا مذهب الفقهاء وخالفهم محمد بن الحسن في الكعب فقال: هو الناتىء من ظهر القدم الذي يجري عليه الشراك. قال: وسمي ذلك لارتفاعه ومنه الكعبة.
ودليلنا قوله تعالى " * (وأرجلكم إلى الكعبين) *) فجمع الأرجل وثنى الكعبين فلو كان لكل رجل كعب واحد لجمعهما في الذكر كالمرافق لما كان في كل يد مرفق واحد، بجمع المرافق
29

فلما جمع الأرجل وثنى الكعبين ثبت أن لكل رجل كعبين ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للمحرم: (فليلبس النعلين فإن لم يجد النعلين فليلبس (خفين) وليقطعهما أسفل من الكعبين).
فدل على أن الكعبين ما قلنا، إذ لو كان الكعب هو الناتىء من ظهر القدم لكان إذا قطع الخف من أسفله لم يكن استعماله ولا المشي فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بإضاعة المال وإتلافه.
ويدل عليه ما روي أيضا عنه صلى الله عليه وسلم إنه مر في سوق مكة يقول: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
وأبو لهب يرميه من ورائه بالحجارة حتى أدمى كعبيه.
فلو كان ما ذهب إليه محمد بن الحسن، ما قيل: حتى أدمي، إذ رميت من ورائه.
ويدل عليه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم)، حتى كان الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه، فيدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (ويل للأعقاب والعراقيب من النار) أصل الأعقاب والعراقيب إنما يحصل لمن غسل المنجمين.
وروى أبو إدريس عن أبي ذر عن علي كرم الله وجهه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ملإ من المهاجرين إذ أقبل إليه عشرة من أحبار اليهود فقالوا: يا محمد إنا أتيناك لنسألك عن أشياء لا يعلمها إلا من كان نبيا مرسلا وملكا مقربا. فقال صلى الله عليه وسلم (سلوني تفقها ولا تسألوني تعنتا) فقالوا: يا محمد أخبرنا لم أمر الله بغسل هذه الأربعة المواضع وهي أنظف المساجد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن آدم لما نظر إلى الشجرة قصد إليها بوجهه ثم مشى إليها وهي أول قدم مشت إلى المعصية ثم تناول بيده وشمها فأكل منها فسقطت عنه الحلي والحلل فوضع يده الخاطئة على رأسه فأمر الله عز وجل بغسل الوجه لما أنه نظر إلى الشجرة وقصدها وأمر بغسل الساعدين وغسل يده وأمر بمسح رأسه، إبتلته الشجرة ووضع يده على رأسه وأمر بغسل القدمين لما مشى إلى الخطيئة فلما فعل آدم ذلك كفر الله عنه الخطيئة فافترضهن الله على أمتي ليكفر ذنوبهم من الوضوء إلى الوضوء).
قالوا: صدقت، فأسلموا.
30

فاختلف الفقهاء في حكم الروايات المذكورة في الآية. فجعلوها بمعنى الترتيب والتعقيب وأوجبوا الترتيب في الوضوء وهو أن يأتي بأفعال الوضوء تباعا واحدا بعد واحد. فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه، وهو اختيار الشافعي، فاحتج بقوله " * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) *).
قال جابر بن عبد الله: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج وذكر الحديث إلى أن قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا وقال: (إبدأوا بما بدأ الله به) فدل هذا على شيئين: أحدهما: أن الواو يوجب الترتيب، والثاني أن البداية باللفظ توجب البداية بالفعل إلا أن يقوم الدليل.
واحتج أيضا بقوله " * (اركعوا واسجدوا) *) فالركوع قبل السجود، واحتج أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم (لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ثم يغسل يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه). و (ثم) في كلام العرب للتعقيب.
عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه إنه قال لعبد الله بن زيد الأنصاري قال: أتستطيع أن تري كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله: نعم، فدعا بوضوء وأفرغ على يديه فغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ومسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ذهب بهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه.
وقال مالك: إن ترك الترتيب في الوضوء عامدا، أعاد وضوءه فإن تركه ناسيا لم يعد، وهو اختيار المزني.
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وصاحباه: الترتيب في الوضوء سنة فإن تركه ساهيا أو عامدا فلا إعادة عليه، وجعلوا الواو بمعنى الجمع، واحتجوا بقوله تعالى " * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) *) ولا خلاف أن تقديم بعض أهل السهمين على بعض في الإعطاء بتمايز. وبقوله " * (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) *). ويحرم تقديم أحدهما على الآخر.
وأما فضل الوضوء
فروى يحيى بن أبي كثير عن زيد عن ابن سلام عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الطهور شطر الإيمان).
31

وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عثمان النهدي قال: كنت مع سلمان فأخذ غصنا من شجرة يابسة فحته ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ فأحسن الوضوء (ثم صلى الصلوات الخمس) تحاتت عنه خطاياه كما تحات هذه الورق).
وروى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: قيل: يا رسول اللهصلى الله عليه وسلم كيف تعرف من لم تر من أمتك يوم القيامة؟ قال: (هم غر محجلون من آثار الوضوء).
وروى أبو أمامة عن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله ما الوضوء حدثني عنه؟ قال: (ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق وينثر إلا جرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء ثم إذا غسل وجهه كما أمر الله إلا جرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم إذا غسل يديه من المرفقين إلا جرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا جرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا جرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإذا هو قام فصلى وحمد الله وأثنى عليه ومجده وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه).
وعن أنس بن مالك قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثمان سنين وكان أول ما علمني أن قال: (يا أنس يا بني أحسن وضوءك لصلاتك يحبك الله ويزاد في عمرك).
وروى سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن حمزة الأنصاري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مسجد المدينة فقال: (لقد رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاء وضوؤه فاستنقذه من ذلك).
" * (فإن كنتم جنبا فاطهروا) *) فاغتسلوا.
روى أبو ذر عن علي (عليه السلام) فقال: أقبل عشرة من أحبار اليهود، فقالوا: يا محمد لماذا أمر الله بالغسل من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط وهما أقذر من النطفة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن آدم لما أكل من الشجرة تحول في عروقه وشعره، وإذا جامع الإنسان نزل من أصل كل شعرة فافترضه الله عز وجل علي
وعلى أمتي تكفيرا وتطهيرا وشكرا لما أنعم عليهم من اللذة التي يصيبونها منه).
قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا بثواب ذلك من اغتسل من الحلال، فقال صلى الله عليه وسلم (إن
32

المؤمن إذا أراد أن يغتسل من الحلال بنى الله له قصرا في الجنة وهو سر بين المؤمن وبين ربه، والمنافق لا يغتسل من الجنابة فما من عبد ولا أمة من أمتي قاما للغسل من الجنابة تيقنا أني ربهما، أشهدكم أني غفرت لهما كتبت لهما بكل شعرة على رأسه وجسده ألف (سنة) ومحى عنه مثل ذلك ورفع له مثل ذلك). قالوا: صدقت، نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
وعن أبي محمد الثقفي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم (يا بني الغسل من الجنابة فبالغ فيه فإن تحت كل شعرة جنابة). قلت: يا رسول الله كيف أبالغ؟ قال: (نقوا أصول الشعر وأنق بشرتك تخرج من مغتسلك وقد غفر لك كل ذنب).
وقال عبد الرحمن بن حمزة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة. فقال: (إني رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا إلى حلقه طردوه فجاءه اغتساله من الجنابة (فأخذ بيده) فأقعده إلى جنبي).
" * (وإن كنتم مرضى أو على سفر) *) إلى قوله " * (بوجوهكم وأيديكم منه) *) أي من الصعيد " * (وما يريد الله ليجعل عليكم) *) بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم " * (من حرج) *) من ضيق " * (ولكن يريد أن يطهركم) *) من الأحداث والجنابات والذنوب والخطيئات " * (وليتم نعمته عليكم) *) فيما أباح الله لكم من التيمم عند عدم الماء وسائر نعمه التي لا تحصى " * (لعلكم تشكرون) *) الله عليها.
وروى محمد بن كعب القرضي عن عبد الله بن داره مولى عثمان بن عفان (رضي الله عنه) عن عمران مولى عثمان قال: مرت على عثمان فخارة من ماء فدعا به فتوضأ فأسبغ وضوءه ثم قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا ما حدثتكم به.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما توضأ عبد فأسبغ وضوءه ثم قام إلى الصلاة إلا غفر (الله) له ما بينه وبين الصلاة الأخرى).
قال محمد بن كعب: فكنت إذا سمعت الحديث من رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم التمسته في القرآن فالتمست هذا في القرآن فوجدته " * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك) *) فعلمت أن الله لم يتم عليه النعمة حتى غفر له ذنوبه.
33

ثم قرأت الآية التي في المائدة " * (إذا قمتم إلى الصلاة) *) حتى بلغ قوله " * (يريد الله ليطهركم وليتم نعمته عليكم) *) فعرفت أن الله لم يتم عليهم النعمة حتى غفر لهم.
قتادة عن شهر بن حوشب عن الصدي بن عجلان وهو أبو إمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: (الطهور يكفر ما قبله (ثم) تصير الصلاة نافلة).
" * (واذكروا نعمة الله عليكم) *) يعني النعم كلها " * (وميثاقه) *) عهده " * (الذي واثقكم به) *) عاهدتم به أيها المؤمنون " * (إذ قلتم سمعنا وأطعنا) *) وذلك حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا. هذا قول أكثر المفسرين.
وقال مجاهد: من الميثاق الذي أخذ الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم (عليه السلام) * * (واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور) *) عليم ما في القلوب من خير وشر " * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) *) أمرهم بالصدق والعدل في أقوالهم وأفعالهم " * (ولا يجرمنكم شنآن قوم) *) ولا يحملنكم بغض قوم " * (على أن لا تعدلوا) *) أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم، ثم قال: " * (إعدلوا) *) بين أوليائكم وأعدائكم " * (هو أقرب للتقوى) *) يعني إلى التقوى " * (واتقوا الله إن الله خبير) *) عالم " * (بما تعملون) *) مجازيكم به " * (وعد الله الذين آمنوا وعلموا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) *) تقديرها: وقال لهم مغفرة، لأن الوعد قول، فلذلك جمع الكلام " * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) *).
2 (* (ياأيهآ الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون * ولقد أخذ الله ميثاق بنىإسراءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إنى معكم لئن أقمتم الصلواة وءاتيتم الزكواة وءامنتم برسلى وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولادخلنكم جنات تجرى من تحتها الانهار فمن كفر بعد ذالك منكم فقد ضل سوآء السبيل * فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خآئنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم) *) بالدفع عنكم " * (إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم) *) بالقتل " * (فكف إيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنين) *).
نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نخل في الغزوة السابعة فإذا بنو ثعلبة، وبنو
34

محارب أرادوا أن يمسكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة، قالوا: إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم فإذا سجدوا فيها أوقعنا بهم، فأطلع الله نبيه على ذلك، وهي صلاة الخوف.
وقال الحسن: كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصرا بطن نخلة. فقال رجل من المشركين: هل لكم في أن أقتل محمدا، قالوا: فكيف تقتله؟ قال أمسك به، قالوا: وددنا إنك فعلت ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متقلد سيفه، فقال: يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرة إلى السيف ومرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: الله، فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأغلظوا له فشام السيف ومضى. فأنزل الله هذه
الآية.
الزهري عن ابن سلام عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاة يستظلون تحتها فعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله، قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا: من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم بخبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه.
وقال مجاهد وعبد الله بن كثير وعكرمة والكلبي، وابن يسار عن رجاله: بعث النبي صلى الله عليه وسلم المنذر ابن عمرو الأنصاري الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة وهي من مياه بني عامر، فاغتسلوا فقتل المنذر بن عمرو الأنصاري الساعدي وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم: عمرو بن أمية الصيمري، فلم يرعهم إلا والطير تحوم في السماء تسقط من بين خراطيمها علق الدم، فقال أحد النفر: قتل أصحابنا، ثم تولى يشتد حتى لقي رجلا فاختلفا ضربتين فلما خالطت الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال: الله أكبر الحمد لله رب العالمين. ورجع صاحباه، فلقيا رجلين من بني سليم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النظير فاستعانهم في عقلهما، فقال: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة. إجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيرتحل عنا. فقال عمرو بن جحش بن كعب: أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله أيديهم وجاء جبرئيل (عليه السلام) وأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعا عليا فقال: لا تبرح من مكة، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل توجه إلى المدينة، ففعل ذلك علي (عليه السلام) حتى قاموا إليه ثم لقوه فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
35

قال الثعلبي: وهذا القول أولى بالصواب لأن الله تعالى عقب هذه الآية بذم اليهود، وذكر قبح أفعالهم وأعمالهم فقال عز من قائل " * (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم) *) الآية، وذلك أن الله تعالى وعد موسى أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون، ووعده أن يهلكهم ويجعل أرض الشام مساكن بني إسرائيل، فلما تركت بني إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى المسير إلى أريحا أرض الشام وهي الأرض المقدسة.
وقال: يا موسى إني قد كتبتها لكم دارا قرارا فأخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا، به فاختار موسى (عليه السلام) النقباء وهذه أسماؤهم: من سبط روبيل: شامل بن ران، ومن سبط شمعون: شاقاط بن (حوري)، ومن سبط يهودا: كالب بن يوقنا، ومن سبط آبين: مقايل بن يوسف، ومن سبط يوسف، وهو سبط إفراهيم ويوشع بن نون، ومن سبط بيامين: قنطم بن أرقون ومن سبط ريالون: مدي بن عدي، ومن سبط يوسف وهو ميشا بن يوسف: جدي بن قامن، ومن سبط آهر: بيانون بن ملكيا ومن سبط تفتال: نفتا لي محر بن وقسي، ومن سبط دان: حملائل بن حمل، ومن سبط أشار: سابور بن ملكيا.
فسار موسى ببني إسرائيل حتى إذا قربوا من أرض كنعان وهي أريحا. بعث هؤلاء النقباء إليها يتجسسون له الأخبار ويعلمونه فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع.
قال ابن عمر: كان عوج يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من أقرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله.
ويروى له أنه رأى نوحا يوم الطوفان فقال: إحملني معك في سفينتك، فقال له: أخرج يا عدو الله فإني لم أؤمر بك وطبق الماء ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وعاش عوج ثلاثة ألاف سنة ثم أهلكه الله على يد موسى، وكان لموسى (عليه السلام) عسكر فرسخا في فرسخ، فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم جاء فنحت الجبل فأخذ منه بصخرة على قدر العسكر ثم حملها ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى إليه الهدهد ومعه المص يعني منقاره حتى نقر الصخرة فانثقبت فوقعت في عنق عوج فطوقته وأقبل موسى (عليه السلام) وطوله عشرة أذرع وطول عصاه عشرة أذرع وتراقي السماء عشرة أذرع فما أصاب إلا كعبه وهو مصروع بالأرض فقتله.
قالوا: فأقبلت جماعة كثيرة ومعهم الخناجر فجهدوا حتى جزوا رأسه فلما قتل وقع في نيل مصر
36

فجسرهم سنة وكانت أمه عنق ويقال عناق إحدى بنات آدم، ويقال: إنها كانت أول من بغت على وجه الأرض وكان كل إصبع من أصابعها ثلاثة أذرع وذراعين، وفي كل إصبع ظفران حديدان مثل المنجلين. وكان موضع مجلسها جريبا من الأرض. فلما بغت بعث الله عز وجل عليها أسدا كالفيلة وذئبا كالإبل ونسورا كالحمر وسلطهم عليها فقتلوها وأكلوها.
قالوا: فلما لقيهم عوج وعلى رأسه حزمة حطب أخذ الاثني عشر فجعلهم في حجزته وحجزة الإزار معقد السراويل التي فيها التكة فانطلق بهم إلى امرأته وقال: أنظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها.
وقال: ألا أطحنهم برجلي، فقالت امرأته: لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك فجعلوا يتعرفون أحوالهم، وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة، فلما خرجوا قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم
إرتدوا عن نبي الله ولكن اكتموا وأخبروا موسى (عليه السلام) وهارون فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك. ثم انصرفوا إلى موسى وحاول بحبة من عنبهم وفر رجل منهم، ثم إنهم نكثوا العهد، وكل واحد منهم نهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى، إلا رجلان منهم يوشع وكالب، فذلك قوله تعالى " * (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) *).
وقال الله لبني إسرائيل " * (إني معكم) *) ناصركم على عدوكم.
ثم ابتدأ الكلام فقال عز من قائل: " * (لئن أقمتم) *) يا معشر بني إسرائيل " * (الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم) *) أي ونصرتموهم ووقرتموهم.
وأشعر أبو عبيدة:
وكم من ماجد منهم كريم
ومن ليث يعزر في الندي
ويروى: وكم من سيد يحصى نداه ومن ليث.
" * (وأقرضتم الله قرضا حسنا) *) ولم يقل أقراضا، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله " * (فتقبلها ربها بقبول حسن) *) * * (لأكفرن) *) لأستبرءن ولأمحون " * (عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) *) أي أخطأ قصد
37

السبيل وهو لكل شيء وسطه، ومنه قيل للظهر: سواء " * (فبما نقضهم ميثاقهم) *) أي فبنقضهم وما فيه ما المصدر، وكل ما ورد عليك من هذا الباب فهو سبيله.
قال قتادة: نقضوه من وجوه: كذبوا الرسل الذين جاؤوا بعد موسى فقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيعوا فرائضه.
قال سلمان: إنما هلكت هذه الأمة بنكثها عهودها.
" * (لعناهم) *) قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية. الحسن ومقاتل: بالمسخ عطاء أبعدناهم من رحمتنا " * (وجعلنا قلوبهم قاسية) *).
قرأ يحيى بن رئاب وحمزة والكسائي قسية بتشديد الياء من غير ألف. وهي قراءة النخعي، وقرأ الأخفش: قسية بتخفيف الياء على وزن فعلية نحو عمية وشجية من قسى يقسي لا من قسى يقسو، وقرأ الباقون: قاسية على وزن فاعلة، وهو اختيار أبو عبيدة، وهما لغتان مثل العلية والعالية والزكية والزاكية.
قال ابن عباس: قاسية يائسة، وقيل: غليظة لا تلين، وقيل: متكبرة لا تقبل الوعظ، وقيل: ردية فاسدة، من الدراهم القسية وهي الودية المغشوشة " * (يحرفون الكلم عن مواضعه) *) قرأه العامة بغير ألف، وقرأ السلمي والنخعي: الكلام بالألف " * (ونسوا حضا مما ذكروا به) *) وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعمته " * (ولا تزال) *) يا محمد " * (تطلع على خائنة منهم) *).
واختلفوا في الخائنة:
قال المبرد: هي مصدر، كالكاذبة، واللاغية، وقيل: هي اسم كالعاقبة والمعاقبة، وقيل: هي بمعنى المبالغة، والهاء هنا للمبالغة مثل: راوية وعلامة ونسابة.
قال الشاعر:
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن
للغدر خائنة مغل الإصبع
ويجوز أن يكون جمع الخائن كقولك فرقة كافرة وطائفة خارجة.
قال ابن عباس: خائنة أي معصية، وقيل: كذب وفجور، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمه ونحوها من عمالتهم وخيانتهم التي أخبرت " * (إلا قيلا منهم) *) لم يخونوا أو لم ينقضوا العهد، (من) أهل الكتاب " * (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) *) وهذا منسوخ بآية السيف.
38

2 (* (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون * ياأهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم * لقد كفر الذين قآلوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الارض جميعا ولله ملك السماوات والارض وما بينهما يخلق ما يشآء والله على كل شىء قدير) *) 2
" * (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم) *) في التوحيد والنبوة " * (فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا) *) بالعهد " * (بينهم العدواة والبغضاء إلى يوم القيامة) *) ألا وهو الخصومات والجدال في الدين.
قال معاوية بن قرة: الخصومات في الدين تحبط الأعمال واختلفوا في المعنى بالهاء والميم في قوله " * (بينهم) *).
فقال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: يعني بين اليهود والنصارى.
وقال ابن زيد: كما تغري بين البهائم. وقال الربيع: هم النصارى وحدها، وذلك راجع إلى فرق النصارى النسطورية واليعقوبية والملكية، * (بعضهم لبعض عدو) * * (وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) *) في الآخرة ويجازيهم به وهذا وعيد من الله تعالى " * (يا أهل الكتاب لقد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون
من الكتاب) *) التوراة والإنجيل مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم " * (ويعفوا عن كثير) *) ويترك أخذكم بكثير مما تخفون " * (قد جاءكم من الله نور) *) يعني محمد صلى الله عليه وسلم " * (وكتاب مبين) *) بين، وقيل: مبين وهو القرآن " * (يهدي به الله) *) مجاهد وعبيد بن عمير ومسلم بن جندب: يهدي به الله بضم الهاء على الأصل لأن أصل الهاء الضمة، وقرأ الآخرون بكسر الهاء إتباعا. " * (من اتبع رضوانه) *) رضاه ومعنى رضاه بالشيء قبوله ومدحه له فأثابه عليه وهو خلاف السخط والغضب " * (وسبل السلام) *) لطرف السلم وهو الله تعالى وسبيله دينه الذي شرع لعباده وبعث به رسله " * (ويخرجهم من الظلمات إلى النور) *) أي من ظلام الكفر إلى نور الإيمان " * (بإذنه) *) بتوفيقه وهدايته وإرادته ومشيئته " * (ويهديهم إلى صراط مستقيم) *)، " * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئا) *) أي من يطيق أن يدفع من أمر الله شيئا فيرده إذا قضاء، وهو من قول القائل: ملكت على فلان أمره إذا ضل لا يقدر أن ينفذ أمرا
39

الآية " * (إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما) *) ولم يقل: وما بينهن لأن المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء " * (يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير) *).
2 (* (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء ولله ملك السماوات والارض وما بينهما وإليه المصير * يأهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شىء قدير) *) 2
" * (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) *).
قال السدي: قالت اليهود: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدا من ولدك أدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهركم وتأكل خطاياهم ثم ينادي أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فأخرجهم فذلك قولهم " * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *)، وأما النصارى، فإن فرقة منهم قالت: المسيح ابن الله.
فأخرجهم الخبر عن الجماعة " * (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) *) كان لأمر ما زعمتم أنكم أحباؤه وأولياؤه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم مقرون إنه معذبكم " * (بل أنتم بشر ممن خلق) *) كسائر بني آدم، ثم قال بالإحسان والإيتاء " * (يغفر لمن يشاء) *) فضلا " * (ويعذب من يشاء) *) عدلا.
وقال السدي: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فعذبه " * (ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا) *) محمد " * (يبين لكم) *) أعلام الهدى وشرائع الدين " * (على فترة) *) انقطاع " * (من الرسل) *) واختلفوا في قدر مدة تلك الفترة.
وروى عبيد بن سلمان عن الضحاك قال: الفترة فيما بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) ستمائة سنة.
معمر عن قتادة قال: كان بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) خمسمائة وستون سنة.
قال معمر وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة " * (إن تقولوا ما جاءنا من بشير ونذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير) *).
حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسل
40

(أربعة (كلهم) يدلي على الله يوم القيامة بحجة وعذر، رجل مات في الفترة ورجل أدرك (الفترة الأخيرة)، ورجل أصم أبكم ورجل معتوه، فيبعث الله عز وجل إليهم ملكا رسولا فيقول أطيعوه فيأتهم الرسول فيؤجج لهم نارا فيقول: إقتحموها فمن اقتحمها كانت عليهم بردا وسلاما ومن قال لا حقت عليه كلمة العذاب).
2 (* (وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين * ياقوم ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا ياموسىإنا لن ندخلهآ أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلاإنا هاهنا قاعدون * قال رب إنى لاأملك إلا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الارض فلا تأس على القوم الفاسقين) *) 2
" * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا) *) اختلفوا في معنى الملوك.
فروى أبو الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا).
وقال ابن عباس ومجاهد والحسن والحكم: من كان له بيت وخادم وامرأة فهو ملك.
وقال أبو عبد الرحمن: قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقداء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: إن لي خادما ومالا. قال: فأنت من الملوك.
وروى أبو عبلة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، يا ابن جعشم يكفيك منها ما يسد جوعك ويواري عورتك فإن كان بيت يواريك فذاك، وإن كان دابة تركبها فبخ، فلق الخبز وماء البحر وما فوق ذلك حساب عليك)
41

وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك.
وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم وأول من سخر لهم الخدم من بني آدم.
قال السدي: يعني وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد أن كنتم في أيدي القبط بمنزلة أهل الجزية فينا فأخرجكم الله من الذل " * (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) *) يعني عالمي من غيركم.
وقال مجاهد: يعني المن والسلوى والحجر والغمام " * (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة) *) اختلفوا في الأرض المقدسة ما هي.
فقال مجاهد: هي الطور وما حوله. وقال الضحاك: هي إيليا وبيت المقدس الحرام محرم مقداره، السماوات والأرض بيت المقدس مقدس مقداره من السماوات والأرض.
عكرمة والسدي وابن زيد: هي أريحا.
الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن.
قتادة: هي الشام كلها.
قال زيد بن ثابت: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤلف القرآن من الرقاع إذ قال: (طوبى للشام) قيل: يا رسول الله ولم ذاك؟ قال: (إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم).
نصير بن علقمة الحمصي عن جبير بن نقير عن عبد الله بن حواله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (والله لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح الله أرض فارس والروم وأرض حمير وحتى تكونوا أجنادا ثلاثة، جندا بالشام، وجندا بالعراق وجندا باليمن).
فقال ابن حوالة: يا رسول الله أن أدركني ذلك، قال: (اختار لك الشام فإنها صفوة الله من بلادكم وإليها (يجتبي) صفوته من عباده، يا أهل الإسلام فعليكم بالشام فإن صفوة الله من الأرض الشام فمن أبى فليلحق بيمينه وليستق من غدره إن الله قد تكفل لي بالشام وأهله).
روى الأعمش عن عبد الله بن صبار عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: قسم الخير عشرة أعشار فجعل منه تسعة بالشام وواحد بالعراق. وقسم الشر عشرة أعشار فجعل منه تسعة بالعراق وواحد بالشام. ودخل الشام عشرة ألف عين رأت النبي صلى الله عليه وسلم ونزل خمس وسبعمائة من
42

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سبعون (صحابيا) * * (التي كتب الله لكم) *) يعني كتبه في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن.
وقال ابن إسحاق: ذهب الله لكم. السدي: أمركم به يدعو لها، وقتادة: أمروا بها كما أمروا بالصلاة " * (ولا ترتدوا على أدباركم) *) أعقابكم بخلاف الله " * (فتنقلبوا) *).
قال الكلبي: صعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام جبل لبنان فقيل له: أنظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك من بعدك، قالوا: يعني بني إسرائيل، يا موسى إكتموا أمرهم لا تخبروا به أحدا من أهل العسكر فيفشيانه فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابن عمه إلا رجلين وفيا. فقال لهم موسى: وهما يوشع بن نون بن أفراثيتم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا ختن موسى على أخته مريم ابنت عمران وهما من إيليا فعلمت جماعة بني إسرائيل ذلك، ورفعوا أصواتهم بالبكاء، وقالوا: يا ويلتنا متنا في أرض مصر، وليتنا نموت في هذه البرية ولا يدخلنا الله لدينهم فيكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم، وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر وذلك قوله عز وجل إخبارا عنهم: " * (قالوا: يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها) *).
وقال قتادة: كانت لهم أجسام وخلق عجيب ليست لغيرهم " * (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) *) فلما قالوا ذلك وهموا بالانصراف إلى مصر خر موسى وهارون (عليهم السلام) ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر الله عز وجل عنهما في قوله " * (قال رجلان من الذين يخافون) *) أي يخافون الله.
قرأ سعيد بن جبير يخافون بضم الياء وقال: كانا من الجبارين فأسلما واتبعا موسى
" * (أنعم الله عليهما) *) بالتوفيق والعصمة " * (أدخلوا عليهم الباب) *) يعني قرية الجبارين " * (فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) *) لأن الله منجز وعده ولا ينساهم فكانت أجسامهم عظيمة قوية، وقلوبهم ضعيفة فلا يخشونهم " * (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) *) فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوهما " * (قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) *).
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية حين صد عن البيت: إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت. فقال المقداد بن الأسود: أما والله لا نقول لك ما قال قوم موسى إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ومن خلفك فلو خضت البحر لخضناه معك، ولو تسنمت جبلا لعلوناه معك فسر بنا على بركة الله، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعوه على ذلك وأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وسره
43

قال ابن مسعود: لأن أكون صاحب هذا المسجد أحب إلي مما عدل بي.
فلما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من معصيتهم بينهم ومخالفتهم أمر ربهم وهممتم بيوشع وكالب، غضب موسى ودعا عليهم " * (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق) *) أي فأفصل واقض.
وقرأ عبيد بن عمير: فافرق بخفض الراء " * (بيننا وبين القوم الفاسقين) *) العاصين. وكانت عجلة عجلها موسى وظهر الغمام على باب قبة الزمر موضع مناجاته وأوحى الله تعالى إلى موسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب وإلى متى لا يصدقون بالآيات لأهلكنهم جميعا ولاجعلن لك شعبا أشد وأكثر منهم، فقال موسى (عليه السلام): إلهي لو إنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد لقالت الأمم الذين سمعوا: إنما قتل هذا الشعب لأنه لم يستطع أن يدخلهم الأرض المقدسة فقتلهم في البرية، وإنك طويل صبرك كثير نعمك وإنك تغفر الذنوب وتحفظ الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء، فاغفر لهم توبتهم، فقال الله لموسى: قد غفرت لهم بكلمتك ولكن بعد ما سميتهم فاسقين ودعوت عليهم لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ولأتيهنهم في هذه البرية أربعين سنة فكان كل يوم من الأيام الذي يحتسبوا فيها سنة وليلقين حتفهم في هذه القفار وأما بنوهم الذين لم يعلموا الخير والشر فإنهم يدخلون الأرض المقدسة فذلك قوله تعالى " * (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) *) يتحيرون في الأرض فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيروا في كل يوم جادين حتى إذا أمسوا وباتوا فإذا هم في الموضع الذي ارتحلوا عليه، وكانوا ستمائة الف مقاتل ومئات من النقباء العشرة الذين أفشوا الخبر بغتة فكل من دخل التيه ممن جاوز عشرين سنة مات في التيه غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا أحد ممن قالوا " * (إنا لن ندخلها أبدا) *) فلما هلكوا وانقضت أربعون سنة ونشأت النواشي من ذرياتهم ساروا إلى حرب الجبارين.
واختلف العلماء في من تولي ذلك الحرب وعلى يد من كان الفتح، فقال القوم: إنما فتح أريحا موسى (عليه السلام) وكان يوشع على مقدمته فسار موسى إليهم بمن بقي من بني إسرائيل فدخل بهم يوشع وقاتل الجبابرة التي كانوا بها ثم دخلها موسى (عليه السلام) بني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم فيه ثم قبضه الله إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق، وهذا أصح الأقاويل، لإجماع العلماء أن عوج ابن عناق قتله موسى، والله أعلم.
وقال الآخرون: إنما قاتل الجبارين يوشع ولم يسر إليهم إلا بعد موت موسى، وهلاك جميع من أبى المسير إليها فقالوا: مات موسى وهارون في التيه.
44

قصة وفاة هارون (عليه السلام)
قال السدي: أوحى الله عز وجل إلى موسى: أني متوفي هارون، فأت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو الجبل، فإذا هما بشجر لم ير شجر مثلها وإذا بيت مبني فيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك بجنبه أعجبه وقال: يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال: فنم عليه، فقال: إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي، قال له موسى: لا، أنا أكفيك رب هذا البيت فنم، قال: يا موسى بل نم معي فإن جاء رب البيت غضب علي وعليك جميعا، فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد حتفه قال: يا موسى خذ عيني فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون، قالوا: إن موسى قتل هارون وحسده حب بني إسرائيل له، فقال موسى: ويحكم فإن أخي أمر ولن أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه.
وقال عمرو بن ميمون: كان وفاة موسى وهارون في التيه، ومات هارون قبل موسى. فكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف، فمات هارون ودفنه موسى، وانصرف إلى بني إسرائيل، فقالوا: ما فعل هارون؟ قال: مات، قالوا: كذبت ولكنك قتلته لمحبتنا إياه، وكان محببا في بني إسرائيل.
فتضرع موسى إلى ربه وشكى ما لقي من بني إسرائيل فأوحى الله عز وجل إليه أن انطلق بهم إلى قبر هارون حتى تخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله، وانطلق بهم إلى قبر هارون فنادى: يا هارون فخرج من قبره ينفض من رأسه فقال: أنا قتلتك؟ قال: لا والله ولكني مت قال: فعد إلى مضجعك، وانصرفوا.
وأما وفاة موسى (عليه السلام)
فقال ابن إسحاق: كان صفي الله موسى قد كره الموت وأعظمة فلما كرهه أراد الله أن يحبب إليه الموت ويكره إليه الحياة فالتقى يوشع بن نون وكان يغدو ويروح عليه فيقول له موسى: يا نبي الله ما أحدث الله؟ فيقول له يوشع: يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة وهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تهتدي به وتذكره ولا تذكر له شيئا؟ فلما رأى ذلك موسى كره الحياة وأحب الموت، ثم اختلفوا في صفة موته.
فروى همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (جاء ملك الموت إلى موسى (عليه السلام) فقال له: أجب ربك، قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فرد
45

الله عينه وقال: إرجع إلى عبدي، فقل له: الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بعدد كل شعرة من ذلك سنة قال: ثم ماذا، قال: ثم تموت، قال: فألان من قريب قال: يارب أدنني من الأرض المقدسة قدر رمية حجر)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله لو إني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطور الطريق عند الكثيب الأحمر).
قال الثعلبي: سمعت أبا سعيد بن حمدون قال: سمعت أبا حامد المقري قال: سمعت محمد ابن يحيى يقول: قد صح هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى قصة ملك الموت وموسى لا يردها إلا ضال. وفي حديث آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى ليقبضه فلطمه ففقأ عينه فرجع ملك الموت، فجاء بعد ذلك خفية).
وقال السدي: في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان موسى (عليه السلام) يمشي وفتاه يوشع إذ أقبلت ريح سوداء فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة فالتزم موسى. فقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم لموسى نبي الله فأستل موسى من تحت القميص وترك القميص في يدي يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص أخذته بنو إسرائيل. وقالوا: أقتلت نبي الله؟ قال: لا والله ما قتلته ولكن استل مني، فلم يصدقوه وأرادوا قتله، قال: فإذا لم تصدقوني فأخروني ثلاثة
أيام فدعا الله عز وجل فأتى كل رجل ممن كان يحرسه في المنام فأخبر أن يوشع لم يقتل وإنا قد رفعناه إلينا فتركوه).
وقال وهب: خرج موسى (عليه السلام) لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا فعرفهم فأقبل إليهم حتى وقف عليهم فإذا هم يحفرون قبرا لم ير شبيها قط أحسن منه ولم ير مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ قالوا: نحفره والله لعبد كريم على ربه، قال: إن لهذا العبد من الله لمنزلة فإني ما رأيت كاليوم مضجعا، فقالت الملائكة: يا صفي الله أتحب أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل فاضطجع فيه وتوجه إلى ربك ثم تنفس أسهل تنفس تنفسته قط، فنزل فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس فقبض الله روحه ثم سوت عليه الملائكة.
وقيل: إن ملك الموت أتاه فقال له: يا موسى أشربت الخمر؟ قال: لا، فاستكرهه فقبض روحه. وقيل: بل أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه.
46

ويروى أن يوشع بن نون رآه بعد موته في المنام فقال: كيف وجدت الموت. قال كشاة تسلخ وهي حية، وكان عمر موسى (عليه السلام) مائة وعشرون سنة، عشرين سنة منها في ملك إفريدون ومائة في ملك منوهر فلما انقضت الأربعون سنة مات.
ولما مات موسى بعث الله تعالى إليهم يوشع نبيا فأخبرهم إنه نبي الله وأن الله أمرهم بقتال الجبارين فصدقوه وبايعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحا ومعه تابوت الميثاق فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان في السابع نفخ في القرون وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فدخلوا وقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت الغلبة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب ودخل ليلة السبت فخشي أن يعجزوا فقال: اللهم أردد الشمس علي فقال للشمس: إنك في طاعة الله فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقم حتى ينتقم من ادعائه دخول السبت فردت عليه الشمس وزيد له في النهار ساعة حتى قطعهم أجمعين ثم أرسل ملوك الأرمانيين بعضهم إلى بعض فكانوا خمسة فجمعوا كلمتهم على يوشع وقومه وهزمت بنو إسرائيل الملوك حتى أهبطوهم إلى هبطة خوران ورماهم الله تعالى بأحجار مبرد وكان من قبله البرد أكثر مما قبله بنو إسرائيل بالسيف، وهرب الخمسة الملوك فاختفوا في غار فأمرهم يوشع فأخرجوا فقتلهم وصلبهم ثم أنزلهم فطرحهم في ذلك الغار وتتبع سائر ملوك الشام فاستباح منهم واحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشام وصارت الشام كلها لبني إسرائيل، وفرق عماله في نواحيها ثم جمع الغنائم فلم ينزل النار.
فأوحى الله تعالى إلى يوشع أن فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت. فدخل بينهم بيده، فقال صلى الله عليه وسلم هلم لما عندك فأتاه برأس الثور مكلل بالياقوت والجوهر كان قد غله فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأحنث الرجل والقربان.
معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (غزا نبي من الأنبياء فقال: لقومه لا يتبعني رجل قد ناكح امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما بنى ولا آخر قد بنى بناءا له ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها. قال: فغزا فدنا للدير حين صلى العصر أو قريبا من ذلك. فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي ساعة فحبست له ساعة حتى فتح الله عليه. قال من علمي أنها لم تحبس لأحد قبله ولا بعده ثم وضعت الغنيمة فجمعوا فجاءت النار ولم تأكلها فقال: إن فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة منكم رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده. فقال: فيكم الغلول أنتم غللتم، قال: فأخرجوا مثل
47

رأس بقرة من ذهب فألقوه في الغنيمة وهو بالصعيد فأقبلت النار فأكلتها) قال النبي صلى الله عليه وسلم (فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا وذلك لأن الله تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا).
قالوا: ثم مات يوشع (عليه السلام) ودفن في جبل أفرايم وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة. وتدبر أمر بني إسرائيل بعد وفاة موسى سبعا وعشرين سنة.
2 (* (واتل عليهم نبأ ابنى ءادم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى مآ أنا بباسط يدى إليك لاقتلك إنىأخاف الله رب العالمين * إنىأريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزآء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابا يبحث فى الارض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هاذا الغراب فأواري سوءة أخى فأصبح من النادمين * من أجل ذالك كتبنا على بنىإسراءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جآءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذالك فى الارض لمسرفون) *) 2
" * (واتل عليهم نبأ) *) خبر " * (ابني آدم) *) وهما هابيل وقابيل، فهابيل في اسمه ثلاث لغات: هابيل وهابل وهابن. وقابيل في اسمه خمس لغات: قابيل وقابين وقابل وقبن وقابن " * (إذ قربا قربانا) *) وكان سبب تقربهما القربان على ما ذكره أهل العلم بالقرآن. أن حواء كانت تلد لآدم (عليه السلام) توأما في كل بطن غلاما وجارية إلا شيثا فإنها ولدته مفردا وكان جميع ما ولدته حواء أربعين من ذكر وأنثى في عشرين بطنا أولهم قابيل وتوأمته أقليما وآخرهم عبد المغيث مغيت وتوأمته أمة المغيث ثم بارك الله في نسل آدم (عليه السلام).
قال ابن عباس: لم يمت آدم (عليه السلام) حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا بنوذ. ورأى آدم (عليه السلام) فيهم الزنا وشرب الخمر والفساد.
واختلف العلماء في وقت مولد قابيل وهابيل، وموضع اختلافهما. فقال بعضهم: غشى آدم حواء بعد هبوطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وتوأمته أقليما في بطن، ثم هابيل وتوأمته في بطن.
وقال محمد بن إسحاق: عن بعض أهل الكتاب، العلم الأول إن آدم كان يغشى حواء في
48

الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت له فيها بقابيل وتوأمته فلم يجد عليها وحما ولا وصبا ولا يجد عليها طلقا حين ولدتهما ولم تر معهما دما، لطهر الجنة فلما هبط إلى
الأرض واطمأنا بها تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوصب والوحم والطلق والدم.
وكان آدم إذا شب أولاده تزوج غلام هذا البطن جارية البطن الآخر وتزوج بجارية هذا البطن غلام البطن الآخر وكان الرجل منهم يتزوج أي أخواته يشاء إلا توأمته التي ولدت معه فإنها لا تحل له، وذلك أنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم وأمهم حواء، فلما ولد قابيل وأقليما، ثم هابيل وتوأمته ليوذا في بطن، وكان بينهما سنتين في قول الكلبي وأدركوا أمر الله عز وجل آدم (عليه السلام) أن ينكح قابيل ليوذا أخت هابيل. ونكح هابيل أقليما أخت قابيل، وكانت أخت قابيل من أحسن الناس. فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل، وقال: هي أختي ولدت معي في بطن. وهي أحسن من أخت هابيل وأنا أحق بها منه، لأنها من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض. وأنا أحق بأختي فقال له أبوه: إنها لا تحل لك، فأبى أن يقبل ذلك منه وقال إن الله لم يأمر بهذا وإنما هو من رأيه. فقال لهما آدم: فقربا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها.
وقال معاوية بن عمار: سألت الصادق عليه سلام الله عن آدم (عليه السلام) أكان زوج ابنته من ابنه، فقال: معاذ الله والله لو فعل ذلك آدم ما رغب عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان دين آدم إلا دين رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك تعالى لما نزل آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حواء بنتا وسماها ليوذا فبغت وهي أول من بغت على وجه الأرض فسلط الله عليها من قتلها فولدت لآدم على أثرها قابيل، ثم ولد له هابيل، فلما أدرك قابيل أظهر الله جنية من ولد الجان يقال لها جهانة في صورة إنسية وأوحى الله تعالى إلى آدم (عليه السلام) أن زوجها من قابيل فزوجها منه فلما أدرك هابيل أهبط الله تعالى حوراء إلى آدم (عليه السلام) في صورة إنسية وخلق لها رحما وكان اسمها نزلة، فلما نظر إليها قابيل ومقها، وأوحى الله تعالى إلى آدم (عليه السلام) أن زوج نزلة من هابيل، ففعل ذلك، فقال قابيل له: ألست أكبر من أخي وأحق بما فعلت به منه. فقال له آدم: يا بني إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. فقال: لا ولكنك آثرته علي بهواك. فقال له آدم: إن كنت تريد أن تعلم ذلك فقربا قربانا فأيكما تقبل قربانه فهو أولى بالفضل من صاحبه.
قالوا: وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء فأكلتها. وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلتها الطير والسباع، فخرجا ليقربا وكان قابيل صاحب زرع وقرب حبرة من طعام من أردى زرع وأضمر في نفسه: ما أبالي أيقبل مني أم لا لأتزوج أختي أبدا، وكان هابيل راعيا
49

صاحب ماشية فقرب حملا سمينا من بين غنمه ولبنا وزبدا وأضمر في نفسه الرضا لله عز وجل.
وقال إسماعيل بن رافع: بلغني أن هابيل أمنح له غنمه وكان في حملتها حمل فأحبه حتى لم يكن له مال أعظم له منه وكان يحمله على ظهره فلما أمر بالقربان قربه، قال: فوضعا قربانيهما على الجبل، ثم دعا آدم (عليه السلام) فنزلت نار من السماء وأكلت الحمل والزبد واللبن، ولم تأكل من قربان قابيل حبا، لأنه لم يكن زاكي القلب. وقبل قربان هابيل لأنه كان زاكي القلب.
فما زال يرتع في الجنة حتى فدى به ابن إبراهيم فذلك قوله عز وجل " * (فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر) *) فنزلوا عن الجبل وعرفوا وغضب قابيل لما رد الله قربانه وظهر فيه الحسد والبغي وكان يضمر ذلك من نفسه، إلى أن أتى آدم مكة ليزور البيت فلما أراد أن يأتي مكة قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال ذلك للأرض فأبت، وللجبال فأبت، فقال: ذلك لقابيل فقبل منه وقال: نعم ترجع وترى ولدك كما يسرك، فرجع آدم وقد قتل قابيل أخاه وفي ذلك قوله " * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) *) يعني قابيل " * (إنه كان ظلوما جهولا) *) حين حمل أمانة أبيه ثم خانه. قالوا: فلما غاب آدم أتى قابيل وهابيل وهو في غزة قال: لأقتلك. قال: ولم؟ قال: لأن الله قبل قربانك، ورد علي قرباني وتنكح أختي الحسناء، وأنكح أختك الدميمة وتحدث الناس إنك خير مني وأفضل ويفتخر ولدك على ولدي، فقال له هابيل: وما ذنبي " * (قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) *).
قال عبد الله بن عمر: أيم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه يده.
وقال مجاهد: كتب عليهم في ذلك الوقت، إذا أراد رجل قتل رجل أن يتركه ولا يمتنع منه " * (إني أريد أن تبوء بأثمي وإثمك) *) يعني بإثم قتلي إلى إثمك الذي عملته قبل قتلي، هذا قول عامة المفسرين.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعا " * (فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) *) وفي هذا دليل على إنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد " * (فطوعت له نفسه) *) أي طاوعته وبايعته في " * (قتل أخيه) *).
وقال مجاهد: شجعت. قتادة: زينت. " * (فقتله) *))
.
50

قال السدي: فلما أراد قتل هابيل راغ الغلام في رؤوس الجبال. ثم أتاه يوما من الأيام (وهو يرعى غنما له وهو نائم) فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات.
وقال ابن جريح: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل، فتمثل له إبليس وأخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر فعلمه القتل، فوضع قابيل رأس أخيه بين حجرين. وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة فاختلفوا في مصرعه وموضع قتله.
قال ابن عباس: على جبل نود، وقال بعضهم: عند عقبة حرا.
حكى محمد بن جرير، وقال جعفر الصادق: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.
فلما قتله بالعراء لم يدر ما يصنع به، لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم فقصده السباع، فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعلقت به الطير والسباع تنظر متى يرمي به فتأكله. " * (فبعث الله) *) غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله عليه حتى مكن له ثم ألقاه في الحفيرة وواراه. وقابيل ينظر إليه فلما رأى ذلك " * (قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي) *) أي جيفته وفيه دليل على أن الميت كله عورة " * (فأصبح من النادمين) *) على حمله لا على قتله، وقيل: على موت أخيه لا على ركوب الذنب.
يدل عليه ما أخبر الأوزاعي عن المطلب بن عبد الله المخزومي قال: لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء، فناداه الله: أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبا، فقال الله عز وجل: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض فلم قتلت أخاك؟ فأين دمه إن كنت قتلته؟ ومنع الله عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعدها أبدا.
مقاتل بن الضحاك عن ابن عباس قال: لما قتل قابيل هابيل وآدم بمكة أشتال الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه: وأمر الماء واغبرت الأرض.
فقال آدم (عليه السلام): قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا بقابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول، وهو أول من قال الشعر:
تغيرت البلاد ومن عليها
ووجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم
وقل بشاشة الوجه الصبيح
وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: من قال إن آدم قال شعرا فقد كذب على الله
51

ورسوله ورمى آدم بالمآثم، إن محمدا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم صلوات الله عليهم في النهي عن الشعر سواء، قال الله تعالى " * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) *) ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، وإنما يقول الشعر من تكلم بالعربية فلما قال آدم مرثية في ابنه هابيل، وهو أول شهيد كان على وجه الأرض. قال آدم لابنه شيث: وهو أكبر ولده ووصيه: يا بني إنك وصيي، إحفظ هذا الكلام ليتوارث فلم يزل يقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية، وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فإذا هو سجع، فقال إن هذا ليقوم شعرا فرد المقدم إلى آخره والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعرا وما زاد فيه ولا نقص حرفا من ذلك قال:
تغيرت البلاد ومن عليها
ووجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون
وقل بشاشة الوجه الصبيح
وقابيل أذاق الموت هابي
ل فواحزني لقد فقد المليح
ومالي لا أجود بسكب دمع
وهابيل تضمنه الضريح
بقتل ابن النبي بغير جرم
قلبي عند قلبه جريح
أرى طول الحياة علي غما
وهل أنا من حياتي مستريح
فجاورنا عدوا ليس يفنى
عدوما يموت فنستريح
دع الشكوى فقد هلكا جميعا
بهالك ليس بالثمن الربيح
وما يغني البكاء عن البواكي
إذا ما المرء غيب في الضريح
فبك النفس منك ودع هواها
فلست مخلدا بعد الذبيح
فأجابه إبليس في جوف الليل شامتا:
تنح عن البلاد وساكنيها
فتى في الخلد ضاق بك الفسيح
فكنت بها وزوجك في رخاء
وقلبك من أذى الدنيا مريح
فما انفكت مكايدي ومكري
إلى أن فاتك الخلد الربيح
فلولا رحمة الجبار أضحى
بكفك من جنان الخلدريح
وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل هابيل مكث آدم (عليه السلام) مائة سنة لا أكثر. ثم أتى فقيل: حياك الله وبياك أي ضحكك، ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيثا وتفسيره: هبة الله، يعني إنه خلف من هابيل
52

وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه هبة الله وصار وصي آدم عليهما السلام وولي عهده، وأما قابيل فقيل له: إذهب طريدا شريدا فزعا مرهوبا لا يأمن من يراه فأخذ بيد أخته هبة الله ذهب بها إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس، فقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النار ويخدمها فانصب أنت نارا يكون لك ولعقبك فنصب نارا وهو أول من نصب نارا وعبدها.
قالوا: كان لا يمر به أحدا من ولده إلا رماه، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له فقال الأعمى: إن هذا أبوك قابيل فرمى الأعمى ابن قابيل فقتله. فقال ابن الأعمى: قتلت أباك. فرفع يده فلطم ابنه فمات قال الأعمى: ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي.
قال مجاهد: فعلقت إحدى رجل قابيل إلى فخذه وساقه وعلقت يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيث أدارت عليه بالصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج، قالوا: واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطنبور، والمزامير، والعيدان، والطنابر، وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى طوفهم الله عز وجل بالطوفان أيام نوح (عليه السلام) وبقي نسل شيث.
قال عبد الله بن عمر: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار العذاب قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم.
الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقتل نفس مسلمة ظلما إلا كان على ابن آدم (الأول) كفل من دمه، لأنه أول من سن القتل).
مسلم بن عبد الله عن سعيد بن صور عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال: (يوم دم) قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: (فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخوه).
وعن يحيى بن زهدم قال: حدثني أبي عن أبيه عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (امتن الله عز وجل على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث، بالريح بعد الروح فلولا إن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما، وبالدودة في الحبة فلولا أن الدودة تقع في الحبة لأكنزها الملوك وكانت حبا من الدنانير والدراهم. وبالموت بعد الكبر، فإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويمله أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أيسر له).
" * (من أجل ذلك) *))
53

يعني من جراء ذلك القاتل ووحشيته، يقال: أجل فلان يأجل أجلا، مثل أخذ يأخذ أخذا.
قال الشاعر:
وأهل خباء صالح ذات بينهم
قد احتربوا في عاجل أنا آجله
" * (كتبنا على بني إسرائيل إنه من قتل نفسا بغير نفس) *) قتله فسادا منه " * (أو فساد في الأرض) *) يعني قوله إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية " * (فكأنما قتل الناس جميعا) *).
مجاهد: اختلف الناس بينهما فقال ابن عباس: في رواية عكرمة وعطية: من قتل نبيا وإماما عادلا فكأنما قتل الناس جميعا ومن عمل على عضد نبي أو إمام عادل " * (فكأنما أحيا الناس جميعا) *).
مجاهد: من قتل نفسا محرمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها لو قتل الناس جميعا، ومن أحياها من سلم من قتلها فقد سلم من الناس جميعا.
السدي: من قتل فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول في الإثم ومن أحياها واستنقذها من هلكة من غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ
.
الحسن وابن زيد: فكأنما قتل الناس جميعا يعني إنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي نوى بقلبه لو كان قتل الناس جميعا ومن أحياها من عفا عمن وجب له القصاص منه فلم يقتله فكأنما أحيا الناس جميعا.
قتادة والضحاك، عظم الله قتلها أو عظم وزرها فمعناها من أستحل قتل مسلم بغير حقه فكأنما قتل الناس جميعا لأنهم لا يسلمون منه. ومن أحياها فحرمها وتورع من قتلها فكأنما أحيا الناس جميعا لسلامتهم منه.
وقال سليمان بن علي الربعي: قلت للحسن: يا أبا سعيد هي لنا كما كانت لبني إسرائيل، قال: إي و الذي لا إله غيره لأن دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.
" * (ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون) *).
روى محمد بن الفضل عن الزيات بن عمرو عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من
54

سقى مؤمنا ماء على (ظمأ) فكأنما أعتق سبعين رقبة، ومن سقى في غير موطنها فكأنما أحيا نفسا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).
2 (* (إنما جزآء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذالك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الاخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم * يئأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا فى سبيله لعلكم تفلحون * إن الذين كفروا لو أن لهم ما فى الارض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم * يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم * والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم * فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم * ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والارض يعذب من يشآء ويغفر لمن يشآء والله على كل شىء قدير) *) 2
" * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) *) الآية.
قال الضحاك: نزلت في قوم من أهل الكتاب، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض.
الكلبي: نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين لم يهج.
قال: فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام. بناس من قوم هلال ولم يكن هلال يومئذ شاهدا فانهدوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبرئيل (عليه السلام) بالقضية فيهم.
وقال سعيد بن جبير: نزلت في ناس من عرينة وغطفان أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة لأن أجوافنا انتفخت، والواننا قد اصفرت فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أخرجوا إلى لقاحنا واشربوا أبوالها وألبانها) فذهبوا وقتلوا الرعاة واستاقوا الإبل. وارتدوا عن الإسلام فنودي في الناس: يا خيل الله اركبي فركبوا لا ينتظر فارس فارسا فخرجوا في طلبهم فجيء بهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أيديهم
55

وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحر حتى ماتوا، ثم اختلفوا في حكم الآيتين. فقال بعضهم: هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز وشرب بول الإبل لا يجوز.
وقال آخرون: حكمه ثابت إلا السمل والمثلة. قال الليث بن سعد: نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليما منه إياه عقوبتهم فقال: (إنما جزاؤهم هذا) أي المثلة.
ولذلك ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا إلا نهى عن المثلة، واختلفوا في المحارب الذي يستحق هذا الحد.
فقال بعضهم: واللص الذي يقطع الطريق والمكابر في الأمصار والذي يحمل السلاح على المسلمين ويقصدهم في أي موضع كان حتى كان بالغيلة. وهو الرجل يخدع الرجل والمرأة والصبي فيدخله بيتا ويخونوا به فيقتله ويأخذ أمواله وهذا قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة والشافعي. وقال بعضهم: فهو قاطع الطريق، وأما المكابر فليس بالمحارب وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه " * (ويسعون في الأ رض فسادا) *) بالفساد أي بالزنا والقتل إهلاك الحرث والنسل " * (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا) *) اختلفوا في حكم الآية.
فقال قوم: الإمام فيهم بالخيار فأي شيء من هذه الأشياء شاء فعل. وهو قول الحسن وسعد بن المسيب والنخعي ومجاهد ورواية الوالبي عن ابن عباس.
واحتجوا بقوله تعالى " * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) *) وبقوله تعالى في كفارة اليمين " * (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم) *) الآية.
وقال آخرون: هذا حكم مختلف باختلاف الجناية، فإن قتل قتل، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع، وإن أخاف السبيل ولم يقتل وأخذ المال نفي. وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، والسدي، والنخعي والربيع. ورواية العوفي عن ابن عباس.
فاختلف العلماء في معنى النفي، فقال ابن عباس: هو حكم من أعجز فإذا أعجزك أن تدركه وخرج من لقيه، قتله.
وقال آخرون: والمقبوض عليه ثم اختلفوا في معناه، فقال طائفة: هو أن ينفى من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها وهو قول سعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز. وإليه ذهب الشافعي.
وقال الآخرون والحسن، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال محمد بن الحسن: هو نفيه من
56

بلده إلى غيره وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه حتى يظهر توبته وهو المختار يدل عليه ما روى ابن وهب عن أبي صيعة عن يزيد بن أبي حبيب، أن حبان بن شريح كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إن ناسا من القبط قامت عليهم البينة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا وأن الله يقول " * (إنما جزاء الذين يحاربون الله) *) إلى قوله " * (من خلاف) *). وسكت عن النفي فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء الله فيهم فليكتب بذلك فلما قرأ عمر كتابه، قال: لقد إجترأ حبان، ثم كتب: إنه بلغني كتابك وفهمت ولقد اجترأت حين كتبت بأول الآية وسكت عن آخرها تريد أن تجترىء للقتل والصلب فإنك عبد بني عقيل يعني الحجاج فإن الله يقول " * (أو ينفوا) *) آخر الآية، فإن كانت قامت عليهم البينة فاعقد في أعناقهم حديدا فأنفهم إلى شعب وبدا وأصل النفي الطرد.
وقال أوس بن حجر:
ينفون عن طرق الكرام كما
ينفى المطارق ما يلي القردا
أي ما يليه القرد وهو الصوف الرديء. ومنه قيل: الدراهم الرديئة نفاية ولما تطاير من الماء عن الدلو نفي.
قال الراجز:
كأن متنيه من النفي
مواقع الطير على الصفي
" * (ذلك) *) الذي ذكرتم من الحد لهم " * (خزي) *) عذاب وهوان " * (في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) *) ثم قال " * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) *).
قال أكثر العلماء: إلا الذين تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم وآمنوا وأصلحوا من قبل القدرة عليهم فإنه لا سبيل عليهم بشيء من الحدود التي ذكرها الله في هذه والآية لأحد قبله فيما أصاب في حال كفره لا في مال ولا في دم ولا حرمة، هذا حكم المشركين والمحاربين.
فأما المسلمون المحاربون فاختلفوا فيهم.
فقال بعضهم: سقط عنه بتوبته من قبل أن يقدر عليه حد الله ولا يسقط عنه بها حقوق بني آدم وهو قول الشافعي.
وقال بعضهم: يسقط عنهم جميع ذلك ولا يؤخذ شيء من أمواله الا أن يوجد عنده مال بعينه فيرده إلى صاحبه ويطلبه ولي دم بدم يقوم عليه البينة فيه فيقاد به، وأما الدماء والأموال التي
57

أصابها ولم يطلبها أولياؤه فلا يتبعه الإمام، على هذا قول مالك، والأوازعي والليث بن سعد.
وقال بعضهم: إذا استأمن من وصايانا من قبل أن يقدم عليه قبل الله توبته ولا يؤخذ بشيء من جناياته التي سلفت فلا يكون لأحد قبله معه في دم ولا مال.
وهذا قول السدي يدل عليه. وروى الشعبي أن حارثة بن يزيد خرج محاربا في عهد علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) فأخاف السبل وسفك الدماء وأخذ الأموال ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه فأتى الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فطلب إليه أن يستأمن له فأتى ابن جعفر فأتى عليه فأتى سعيد بن قيس الهمدالي فقبله وضمه إليه فلما صلى علي (رضي الله عنه) الغداة أتاه سعيد بن قيس. فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض قال: ما تقول فيمن تاب قبل أن تقدر عليه فقال أقول: كما قال الله عز وجل " * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) *) الآية.
فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر، قال: نعم فجاء إليه فبايعه وآمنه وكتب له أمانا منشورا.
فقال حارثة:
ألا أبلغا همدان إما لقيتها
على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقي الا
له ويقضي بالكتاب خطيبها
قال الشعبي: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في أمارة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) بعد ما صلى المكتوبة فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك أنا فلان بن فلان المهدي وأني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض وإني تبت من قبل أن يقدر علي، فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان وإنه كان يحارب الله ورسوله وسعى في الأرض بفساد فإنه تاب من قبل أن يقدر عليه فمن لقيه فلا يعرضن إلا بخير فإن يك صادقا فسبيله سبيل من صدق. وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه، فأقام الرجل فاستأذن وإنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله.
وروى الليث بن سعيد عن محمد بن إسحاق أن عليا الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبته الأئمة والعامة فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائبا وذلك أنه
سمع رجلا يقرأ هذه الآية " * (قل يا عبادي الذين أسرفوا) *) الآية فوقف عليه، فقال: يا عبد الله أعد فأعادها عليه فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر ثم اغتسل وأتى مسجد رسول
58

الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ثم مضى إلى أبي هريرة وهو في غمار أصحابه فلما استغفر عرفه الناس فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم علي جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي.
فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه فترك، وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر فلقوا الروم فقربوا سفينة إلى سفينته من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا إلى شقها الآخر فمالت ثم أوقعهم فغرقوا جميعا.
" * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) *) واطلبوا إليه القربة وهي (في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، يقال: وسل إليه وسيلة وتوسل)، وجمعها وسائل.
قال الشاعر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا
وعاد التصافي بيننا والوسائل
قال عطاء: الوسيلة أفضل درجات الجنة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الوسيلة أفضل درجات الجنة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سلوا الله لي الوسيلة فإنها أفضل درجة في الجنة لا ينالها إلا عبد واحد وأرجوا أن أكون أنا هو).
وروى سعيد بن طريف عن الأصمعي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (في الجنة لؤلؤتان إلى بطنان العرش إحداهما بيضاء والأخرى صفراء في كل واحد منهما سبعون ألف غرفة أبوابها وأكوابها من عرق واحد فالبيضاء واسمها الوسيلة لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته والصفراء لإبراهيم (عليه السلام) وأهل بيته).
" * (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم) *) روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهب تفتدى به فيقول: نعم، فيقال: قد سألت أيسر من ذلك).
59

" * (يريدون أن يخرجوا من النار) *) قرأه العامة بفتح الياء كقوله " * (وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) *) قائم.
وقرأ أبو واقدة، والجراح يخرجوا بضم الياء كقوله " * (ربنا أخرجنا منها وما هم بمخرجين) *) * * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *) الآية. نزلت في طعمة بن الأبرق سارق الدرع وقد مرت قصته في سورة النساء.
والسبب في وجه رفعهما. فقال بعضهم: هو رفع بالابتداء، وخبره فيما بعد. وقال بعضهم: هو على معنى الجزاء، تقديره من سرق فاقطعوا أيديهما الآية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. ولو أراد سارقا وزانيا بعينهما لكان وجه الكلام النصب.
وقال الأخفش: هو الرفع على الخبر وابتداء مضمر كأنه قال: مما يقص عليك ويوحى إليك والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.
وقال أبو عبيدة: هو رفع على لغة (....) من رفع (....) فيقول: الصيد (غارمه)، والهلال فانظر إليه، يعني أمكنك الصيد غارمه، وطلع الهلال فانظر إليه.
وقرأ عيسى بن عمرو: والسارق والسارقة منصوبين على إضمار إقطعوا السارق والسارقة. ودليل الرفع قراءة عبد الله، والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ومستثنا في هذا السارق الذي عناه الله عز وجل بقطع يده وفي القدر الذي يقطع به يد السارق.
فقال قوم: يقطع إذا سرق عشر دراهم فصاعدا، ولا يقطع فيما دون ذلك.
وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه واحتجوا بما روى عطاء ومجاهد عن أيمن بن أم أيمن قال: يقطع السارق في ثمن المجن وكان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا أو عشرة دراهم.
وروى أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم.
وروى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: أدنى قيمة عن المجن هو ثمن المجن عشرة دراهم.
قال سليمان بن يسار: لا يقطع الخمس إلا بالخمس.
واستدل بما روى سفيان عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في قيمة خمسة دراهم.
وروى سفيان عن عيسى عن الشعبي عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في خمسة دراهم.
60

وروى شعبة عن داود بن (فراهج) قال: سمعت أبا هريرة وأبا سعيد الخدري قالا: تقطع الكف في أربعة دراهم فصاعدا، ولا تقطع في ثلاثة دراهم فصاعدا.
واحتج بما روى عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن ثمنه ثلاثة دراهم فقال: بعضهم يقطع في ربع دينار فصاعدا، وهو قول الأوزاعي، والشافعي وإسحاق الحنظلي وأبو ثور. واحتجوابما روى سفيان عن الزهري عن حمزة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع في ربع
دينار فصاعدا).
وروى أبو بكر بن محمد عن عمر عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا).
وقال بعضهم: يقطع سارق القليل والكثير، ولو سرق دانق، وهو قول ابن عباس، قال: لأن الآية عامة ليس خاصة.
وقول الزبير: يروى أنه يقطع في درهم وحجة هذا المذهب ما روى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده).
وروى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة قال: أسرقت؟ ما أخالك سرقت؟ قال: نعم. قال: إذهبوا به فاقطعوه. ثم اتوني به، ففعل فقال: (ويحك تب إلى الله).
فقال: اللهم تب عليه، ثم اختلفوا في كيفية القطع: فقال عمرو بن دينار: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع اليد من الكوع وكان يقطع من المفصل وكان علي يقطع الكف من الأصابع والرجل من شطر القدم.
فإذا قطع ثم عاد إلى السرقة فهل يقطع أم لا؟ قال أهل الكوفة: لا تقطع واحتجوا بحديث عبد خير، قال: أتى علي سارق فقطع يده ثم أتى وقطع رجله ثم أتى فضربه وحبسه وقال: إني لأستحي أن لا أدع له يدا يستنجي بها ولا رجلا يمشي بها. وقال أهل الحجاز: يقطع، وكان قد احتجوا في ذلك بقوله تعالى " * (فاقطعوا أيديهما) *) على الإجماع.
ويروي حماد بن سلمة عن يوسف بن سعد عن الحرث بن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص فقال: (أقتلوه) فقال: يا رسول الله إنما سرق، قال: (أقتلوه) قالوا: يا رسول الله إنما
61

سرق، قال: (إقطعوا يده). قال: ثم سرق فقطعت رجله ثم سرق على عهد أبي بكر حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق أيضا الخامسة فقال أبو بكر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال اقتلوه، ثم دفعوه إلى قبيلة من قريش ليقتلوه في عهد عبد الله بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال: أمروني عليكم فأمروا عليه فكان إذا ضرب ضربوا حتى قتلوه، ثم إذا قطع السارق فهل يغرم السرقة أم لا؟ فقال سفيان وأهل الكوفة: إذا قطع السارق فلا يغرم عليه إلا أن يعيد المسروق فيعيدها إلى صاحبها.
وروى المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يغرم صاحب السرقة إذا أقيم عليه الحد) قيل: هذا حديث مرسل أنس بن ثابت، وقال الزهري ومالك: إذا كان السارق موسرا غرم.
وقال الشافعي: ثم يغرم قيمة السرقة معسرا كان أو موسرا.
" * (جزاء بما كسبا) *). نصب جزاء على الحال والقطع قاله الكسائي. وقال قطرب: على المصدر ومثله " * (نكالا) *) أي عقوبة " * (من الله والله عزيز حكيم) *).
عن جعفر بن محمد قال: سمعت أبي يقول: ما سرق سارق سرقة إلا نقص من رزقه المكتوب له " * (فمن تاب من بعد ظلمه) *) أي سرقته، نظيره في سورة يوسف " * (كذلك نجزي الظالمين) *) أي السارقين " * (وأصلح فإن الله يتوب عليه) *) هذا ما بينه وبين الله تعالى فأما القطع فواجب. يدل عليه ما روى يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن عبد الله بن عمرو: إن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها الذين سرقتهم. فقالوا: يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها بخمس مائة دينار، فقال رسول الله: (إقطعوا يدها) فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة هل لي من توبة؟.
قال: (نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك). فأنزل الله في سورة المائدة " * (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح) *) الآية.
معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلمته وكلم أسامة النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقال له النبي: (يا أسامة لا أزال تكلمني في حد من حدود الله) ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: (إنما هلك من
62

كان قبلكم بأنه إذا سرق فيه الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
قال: فقطع يد المخزومية، وكان الشعبي وعطاء يقولان: إذا رد السرقة قبل أن يقدر عليه لم يقطع لقوله " * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) *) الآية " * (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء) *).
قال السدي والكلبي: يعذب من يشاء منهم من مات على كفره ويغفر لمن يشاء من تاب من كفره.
وقال الضحاك: يعذب من يشاء على الصغير إذا قام عليه ويغفر لمن يشاء على الكبير إذا نزع عنه " * (والله على كل شيء قدير) *))
.
* (ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم ءاخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هاذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولائك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الاخرة عذاب عظيم * سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت
فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) *) 2
" * (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) *) وقرأ السلمي يسارعون في الكفر أي في هؤلاء الكفار ومظاهرتهم فلم يعجزوا الله " * (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) *) وهم المنافقون نظيره، قوله " * (لما يدخل الإيمان في قلوبكم) *) * * (ومن الذين هادوا سماعون للكذب) *) يعني قوالين به يعني بني قريضة " * (سماعون لقوم آخرين) *) يعني يهود خيبر وذلك عين ما قاله أهل التفسير وذلك أن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، واسم المرأة بسرة وكانت خيبر حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الزانيان محصنين، وكان حدهما الرجم في التوراة فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فقالوا: إن هذا الرجل النبي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريضة فإنهم صلح له وجيرانه، فليسألوه، فبعثوا رهطا منهم مستخفين. فقالوا لهم: سلوا محمدا عن الزانيين إذا أحصنا أحدهما فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه
63

وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه وأرسلوا الزانين معهم فقدم الرهط حتى نزلوا على قريظة والنضير. فقال لهم: إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده، وقد حدث فينا حدث زنيا وقد أحصنا فيجب أن تسألوا لنا محمدا عن قضائه، فقال لهم بنو قريظة والنضير: إذا والله يأمركم بما تكرهون من ذلك ثم انطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد وسعد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وعباس بن قيس وأبو نافع وأبو يوسف وعازار وسلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما وكيف تجد في كتابك؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهل ترضون قضائي في ذلك؟).
قالوا: نعم، فنزل جبرئيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبرئيل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا) قال: فأي رجل فيكم؟
قالوا: هو أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله تعالى على موسى في التوراة، قال: أرسلوا إليه، ففعلوا فأتاهم عبد الله بن صوريا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنت ابن صوريا؟) قال: نعم، قال: (فأنت أعلم اليهود؟)، قال: كذلك يزعمون، قال: (أتجعلونه بيني وبينكم؟) قالوا: نعم قد رضينا به إذ رضيت به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإني أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو القوي إله بني إسرائيل الذي أنزل التوراة على موسى الذي أخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي ضلل الغمام فأنزل عليكم المن والسلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه فهل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن).
قال ابن صوريا: نعم والذي ذكرني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك ولكن كيف هو في كتابك يا محمد؟ قال: (إذا شهد أربعة رهط عدول إنه قد أدخله فيهاكما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم). قال ابن صوريا: والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (فماذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله)؟
قال: كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا للضعيف أقمنا عليه الحد وكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنا رجل آخر في أسوة من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه، فقال: والله لا ترجمون حتى يرجم فلانا ابن عم الملك. فقال: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسود وجوههما ثم يحملان على حمارين فحول وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم. قال اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به وما كنت لما اتهمتنا عليك بأهل، ولكنك
64

كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك فقال لهم: نشد في التوراة لولا ضنيت التوراة أن تهلكني لما أخبرته به، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده، وقال: (أنا أول من أحيا أمره إذ أماتوه).
قال عبد الله بن عمر: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر برجم (اليهوديين فرأيته حنا عليهما ليقيهما بالحجارة) ونزلت " * (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير) *) فلا يخبركم به فوضع ابن صوريا يده على ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أنشدك بالله وأعيذك بالله أن تخبرنا بالكثير الذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال له ابن صوريا: أخبرني عن ثلاث خصال أسألك عنهن، قال: ما هي؟ قال: أخبرني عن نومك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (تنام عيناي وقلبي يقظان) قال له: صدقت، فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبهه أمه شيء أو شبهه أمه فيه ليس فيه من شبهه أبيه شيء، قال: (أيهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له) قال له: صدقت، فأخبرني ماللرجل من الولد وما للمرأة منه؟ قال: فأغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم خلي عنه محمرا وجهه يفيض عرقا فقال صلى الله عليه وسلم (اللحم والدم والظفر والشعر للمرأة والعظم والعصاب والعروق للرجل) قال له: صدقت أمرك أمر نبي فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال: يا محمد من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبرئيل.
قال: صفه لي، فوصفه له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد إنه في التوراة كما قلت وإنك رسول الله حقا فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير، فقالوا: يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد إذا قتلوا منا قتيلا لم يفدونا وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر وإن كان القتيل امرأة. يفدوا بها الرجل، وبالرجل منهم الرجلين منا، وبالعبد منهم الحر منا، وجراحتنا بالنصف من جراحتهم فأمعن بيننا وبينهم، فأنزل الله تعالى في الرجم والقصاص " * (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من
الذين قالواآمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون) *) رفع الخبر بحرف الصفة يعني ومن الذين هادوا فهم سماعون، وإن شئت جعلته خبر ابتداء مضمر أي فهم سماعون للكذب، وقيل: اللام بمعنى إلى.
65

كان أبو حاتم يقول: اللام في الكذب لام كي يسمعون لكي يكذبوا عليك. واللام في قوله لام أجل من أجل قوم آخرين " * (لم يأتوك) *) وهم أهل خيبر " * (يحرفون الكلم) *) جمع الكلمة " * (من بعد مواضعه) *) أي من بعد وضعه مواضعه كقوله " * (ولكن البر من اتقى الله) *). وإنما ذكر الكتابة ردا إلى اللفظ وهو الكلم. وقرأ علي: يحرفون الكلام من بعد مواضعه " * (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه) *) أي إن أفتاكم محمد بالجلد والرجم فاقبلوه " * (وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته) *) كفره وضلالته.
قال مجاهد: دليله قوله " * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) *) الآية.
وقال الضحاك: هلاكه، قتادة: عذابه نظيره ولم يأمرهم على من يؤمنون " * (فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) *) أي بالهداية على القدرة " * (لهم في الدنيا خزي) *) للمنافقين الفضيحة وهتك الستر وخوف القتل، ولليهود الجزية والقتل والسبي، (...........) عن محمد (عليه السلام) وأصحابه وفيهم ما يكرهون " * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) *) الخلود في النار.
" * (سماعون للكذب أكالون للسحت) *) فيه أربع لغات: السحت بضم السين والحاء وهي قراءة أهل الحجاز والبصرة، واختار الكسائي: سحت مخففة وهي قراءة أهل الشام وعاصم وحمزة وخلف. والسحت بفتح السين وجزم الحاء وهي رواية العباس عن نافع، والسحت بضم السين وجزم الحاء وهي قراءة عبيد بن عمير وهو الحرام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به) وأصله ما أشد أشده، وقال الله تعالى " * (فيسحتكم بعذاب) *).
قال الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلف
قال: من تخلف إذا استأصل الشجر سحت.
وقال الفراء: أصله كلب الجوع، فيقال: رجل سحوت المعدة إذا كان أكولا لا يلقى أبدا إلا جائعا، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم. ونزلت هذه الآية في حكام اليهود، كعب بن الأشرف وأمثاله كانوا يرتشون ويفضلون لمن رشاهم.
66

وروى أبو عقيل عن الحسن: في قوله: " * (سماعون للكذب أكالون للسحت) *) قال: تلك الحكام تسمع كذبه وتأكل رشوة.
وعنه في غير هذه الرواية. قال: كان الحاكم منهما إذا أتى أحد برشوته جعلها (بين يديه فينظر إلى صاحبها ويتكلم معه) ويسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيأكل الرشوة ويسمع الكذب، وعنه أيضا قال: إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلا أو يبطل عنك حقا فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه شيئا ليدرأ به عن نفسه فلا بأس.
والسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن. ومقاتل وقتادة والضحاك والسدي.
وقال ابن مسعود: هو الرشوة في كل شيء.
قال مسلم بن صبيح: صنع مسروق لرجل في حاجة فأهدى له جارية فغضب غضبا شديدا، وقال: لو علمت إنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك، ولا أكلم لما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول: من يشفع شفاعة ليرد بها حقا أو ليدفع بها ظلما فأهدي له فقيل فهو سحت، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم، قال: الأخذ على الحكم كفر. قال الله عز وجل " * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *).
وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم إنعزل في الوقت وإن لم يعزل.
وقال عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم: السحت خمسة عشر: الرشوة في الحكم ومهر البغي وحلوان الكاهن، وثمن الكلب والقرد والخمر والخنزير والميتة والدم وعسيب الفحل وأجر النائحة والمغنية والقايدة والساحر وأجر صور التماثيل وهدية الشفاعة.
وعن جعفر بن كيسان قال: سمعت الحسن يقول: إذا كان لك على رجل دين فما أكلت في بيته فهو سحت. وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعنة الله على الراشي والمرتشي).
قال الأخفش: السحت كل كسب لا يحل.
ثم قال " * (فإن جاؤوك) *) يا محمد " * (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) *). خير الله سحته بقوله في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك.
واختلفوا في حكم هذه الآية هل هو ثابت وهل للحكام اليوم من الخيار في الحكم من أهل الذمة إذا اختلفوا إليهم، مثل ما جعل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أم هو منسوخ؟
67

فقال أكثر العلماء: هو حكم ثابت لم ينسخه شيء وحكام الإسلام بالخيار وذلك إن شاؤوا بين أهل الكتاب وجميع أهل الذمة، فإن شاؤوا أعرضوا ولم يحكموا بينهم وإن حكموا يحكموا بحكم أهل الإسلام. هو قوله: " * (ليظهره على الدين كله) *) هو جريان حكمنا عليهم. وهذا قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة. وقال آخرون هو
منسوخ نسخه قوله تعالى " * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) *) وإليه ذهب الحسن ومجاهد وعكرمة والسدي. وروى ذلك ابن عباس قال: لم ينسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان وقوله تعالى " * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) *) نسختها " * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *) وقوله " * (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) *) نسختها " * (أن احكم بينهم بما أنزل الله) *).
فأما إقامة الحدود عليهم فأهل العراق يرون إقامة الحدود عليهم إلا إنهم لا يرون الرجم وقالوا: لأنهم غير محصنين وتأولوا رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين أنه رجمهما بكتابهم التوراة لما اتفقوا على رضاهم بحكم التوراة ثم أنكروا الرجم، فكان في التوراة فأخفوا وأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما كتموه. وأهل الحجاز لا يرون إقامة الحدود عليهم ويظهرون إلى أنهم صولحوا على شركهم. وهو أعظم من الحدود التي يأتون وتأولوا رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين أن ذلك قبل أن يؤخذ عنهم الجزية إلا أن على الإمام أن يمنعهم من المظالم والفساد فأما إذا كان أحد الطرفين مسلما مثل أن يزني رجل من أهل الذمة بمسلمة أو سرق من مسلم أقيم عليه الحد وحكم عليه بحكم الإسلام " * (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) *) أي بالعدل " * (إن الله يحب المقسطين) *) العاملين.
2 (* (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذالك ومآ أولائك بالمؤمنين * إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهدآء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بئاياتى ثمنا قليلا ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الكافرون * وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الظالمون * وقفينا علىءاثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين) *) 2
68

" * (وكيف يحكمونك) *) تعجب وفيه اختصار إلى وكيف يجعلونك حاكما ويرضون بمحمد " * (وعندهم التوراة فيها حكم الله) *) وهو الرجم فلا يرضون بذلك.
" * (ثم يتولون من بعد ذلك) *) إلى قوله " * (للذين هادوا) *) فإن قيل: وهل فينا غير مسلم؟ فالجواب أن هؤلاء نبيوا الإسلام لا على أن غيرهم من النبيين لم يتولوا المسلمين وهذا كقوله * (محمد رسول الله) * * (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته) *) لا يريد أن غيره من الأنبياء لم يؤمنوا بالله وكلماته. وقيل: لم يرد به الإسلام الذي هو ضد الكفر. وإنما المراد به الذين انقادوا لحكم الله فلم يكتموه كما كتم هؤلاء، يعرض بأهل الكتاب.
وهذا كقوله " * (وله أسلم من في السماوات والأرض) *).
وقال يزيد بن عمرو بن نفيل: أسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا، وأسلمت وجهي لمن أسلمت له العيون تحمل عذبا زلالا. وقيل: معناه الذين أسلموا أنفسهم إلى الله. كما روي إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أوى إلى فراشه: (أسلمت نفسي إليك).
وقيل: معناه: يحكم بها النبيون الذين أسلموا بما في التوراة من الشرائع ولم يعمل به كمثل عيسى (عليه السلام) وهو قوله تعالى " * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) *) وهو معنى قول ابن حيان يحكم بما في التوراة من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام.
وقال الحسن والسدي أراد محمدا صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كما قال تعالى " * (إن إبراهيم كان أمة) *) وقال: أم تحسدون الناس في الحياة " * (والربانيون والأحبار) *) يعني العلماء وهم ولد هارون (عليه السلام) وأحدهم محبر وحبر وهو العالم المحكم للشيء ومنه الكعب بن قانع كعب الأحبار وكعب الحبر.
قال الفراء: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار بكسر الحاء واختلفوا في اشتقاق هذا الاسم.
فقال الكسائي وأبو عبيدة: هو من الحبر الذي يكتب به. وقال النضر بن شميل: سألت الخليل عنه، فقال: هو من الحبار وهو الأثر الحسن. فأنشد:
69

لا تملأ الدلو وعرق فيها
ألا ترى حبار من يسقيها
قال قطرب: هو من الحبر وهو الجمال والهيئة يدل عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم (يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره) (أي جماله وبهاؤه).
وقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن أخ فيم الجمال؟ قال: (في اللسان).
وقال مصعب بن الزبير لابنه: يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان جمالا وإن لم يكن عندك علم كان لك مالا، " * (بما استحفضوا) *) استودعوا من كتاب الله " * (وكانوا عليه شهداء) *) إنه كذلك " * (فلا تخشوا الناس واخشون) *) إلى قوله " * (الكافرون) *) واختلف العلماء في معنى الآية وحكمها.
فقال الضحاك وأبو إسحاق وأبو صالح وقتادة: نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود وليس في أهل الإسلام منها شيء فأما هذه الأمة فمن أساء منهم وهو يعلم إنه قد أساء وليس بدين.
يدل على صحة هذا التأويل. ما روى الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *) والظالمون والفاسقون. قال: كلها في الكافرين.
وقال النخعي والحسن: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضى لهذه الآية بها فهي على الناس كلهم واجبة.
عن ابن عباس وطاووس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعل ذلك وهو به كفر، وليس كمن يكفر بالله واليوم (الآخر).
عطاء: هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
عكرمة: معناه ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فقد كفر. ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وهذه رواية الوالبي عن ابن عباس قال: وسمعت أبا القاسم الحبيبي، قال: سمعت أبا زكريا العنبري، يحكي عن عبد العزيز بن يحيى الكناني إنه سأل عن هذه الآيات، قال: إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق.
فأما من يحكم ببعض ما أنزل الله من التوحيد (وترك) الشرك ثم لم يحكم بهما (فبين) ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات
70

قالت الحكماء: هذا إذا رد بنص حكم الله عيانا عمدا، فأما من جهله أو أخفي عليه أو أخطأ في تأويل ابتدعه أو دليل اتجه له فلا، وأجراها بعضهم على الظاهر.
وقال ابن مسعود، والسدي: من ارتشى في الحكم وحكم فيه بغير حكم الله فهو كافر " * (وكتبنا عليهم فيها) *) أي وأوحينا في بني إسرائيل في التوراة " * (أن النفس بالنفس) *) يعني النفس القاتلة بالنفس المقتولة (ظلما) * * (والعين بالعين) *) بقلعهما " * (والأنف بالأنف) *) يجدع به " * (والأذن بالأذن) *) يقطع به أذنيه.
نافع: في جميع الفقهاء (وقرأ) الباقون " * (والسن بالسن) *) يقلع به وسائر الجوارح قياس على العين والأنف والأذن " * (والجروح قصاص) *) وهذا مخصوص فيما يمكن القصاص فيه، فأما ما كان من هيضة لحم أو هيضة عظم ويعده ركن لا يحيط العلم به وقياس أو حكومة.
واختلف الفقهاء في هذه الآية، فقرأ الكسائي: " * (والعين) *) رفعا إلى آخره. واختار أبو عبيد لما روى ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأه " * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) *) نصبا، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، كله رفع.
وأما أبو جعفر وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو فكانوا يرفعون الجروح وينصبون سائرها. وقتادة، أبو حاتم قالوا: لأن لهما نظائر في القرآن قوله " * (إن الله بريء من المشركين ورسوله) *) * * (وإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) *) * * (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة) *).
وقرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة ويعقوب (بالعطف) كلها نصبا ودليلهم قوله تعالى: " * (إن النفس بالنفس) *) وأن العين بالعين وأن الأنف بالأنف وأن الأذن بالأذن فإن الجروح قصاص.
" * (فمن تصدق به) *) اختلفوا في الهاء في قوله (به)، فقال قوم: هي كناية عن المجروح وولي القتيل، ومعناه فمن تصدق به فهو كفارة له، للمتصدق يعدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق.
وهو قول عبد الله بن عباس والحسن والشعبي وقتادة وجابر بن زيد، دليل هذا القول لحجة ما روى الشعبي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من تصدق عن جسده بشيء كفر الله عنه بقدر ذلك من ذنوبه).
71

وروى وكيع عن يوسف بن أبي إسحاق عن أبي السهر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية، فقال القريشي: إن هذا داق سني.
قال معاوية: كلا أما تسترضيه، فلما ألح عليه الأنصاري، قال معاوية: شأنك بصاحبك، وأبو الدرداء جالس.
فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يصاب بشيء عن جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط به عن خطيئة).
فقال الأنصاري: أأنت سمعت بهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم سمعته أذناي ووعاه قلبي فعفى عنه.
وروى عوف عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: جيء بالقاتل الذي قتل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء به ولي المقتول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتعفو؟ قال: لا، قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: القتل، قال: نعم (قال إذهب فذهب) فدعاه فقال: أتعفو؟ قال: لا، قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: القتل، قال: نعم، قال: إذهب، فلما ذهب قال: أما لك أن عفوت فإنه يبوء بإثمك، وإثم صاحبك. قال: فعفى عنه فأرسله ورأيته وهو يجر شسعيه.
وروى عمران عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: طعن رجل رجلا على عهد معاوية، فأعطوه ديتين على أن يرضى. فلم يرض وأعطوه ثلاث ديات فلم يرض.
وحدث رجل عن المسلمين عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: (من تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق).
وعن عمر بن نبهان عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة من أي أبواب الجنة شاء وتزوج من الحور العين حيث شاء من أدى دينا (خفيا) وعفا عن قاتل وقرأ دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات قل هو الله أحد).
قال أبو بكر: وإحداهن يا رسول الله؟ قال: وإحداهن.
وقال آخرون: عني بذلك الجارح والقاتل، يعني إذا عفا المجنى عليه عن الجاني فعفوه عن الجاني كفارة لذنب الجاني لا يوآخذ به في الآخرة كما أن القصاص كفارة له كما إن العافي المتصدق فعلى الله تعالى، قال الله تعالى " * (من عفا وأصلح فأجره على الله) *) وهذا قول إبراهيم
72

ومجاهد وزيد بن أسلم، وروي ذلك عن ابن عباس. والقول الأول أجود لأنه ربما تصدق من عليه ولم يتب الخارج من فعله فإنه كفارة له والدليل عليه قراءة أبي: فمن تصدق به فهو كفارة له. * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) * * (وقفينا على آثرهم) *) على آثار النبيين المسلمين للتوراة العالمين به " * (بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتينه الإنجيل فيه هدى ونور مصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين) *))
.
* (وليحكم أهل الإنجيل بمآ أنزل الله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الفاسقون * وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولاكن ليبلوكم فى مآ ءاتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون * وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) *) 2
" * (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) *) قرأه العامة مجزوم اللام والميم على الأمر، وحمزة: بكسر اللام وفتح الميم أي ولكي يحكم أهل الإنجيل.
مقاتل بن حيان: أمر الله تعالى الأحبار والربانيين أن يحكموا بما في التوراة وأمر القسيسين والرهبانيين أن يحكموا بما في الإنجيل فكفروا وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله " * (ومن لم يحكم بم أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) *) الخارجون من أمر الله، وقال ابن زيد: الكاذبون. نظيره قوله " * (إن جاءكم فاسق بنبأ) *) * * (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب) *) أي الكتب " * (ومهيمنا عليه) *) أي شاهدا. قاله السدي والكسائي: وهي رواية الوالبي عن ابن عباس، قال حسان:
إن الكتاب مهيمن لنبينا
والحق يعرفه ذووالألباب
أي مصدق.
وقال سعيد بن جبير وأبو عبيدة: مؤمنا وهي رواية أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس، الحسن: أمينا وهي رواية العوفي عن ابن عباس ومعنى أمانة القرآن ما قال ابن جريح: القرآن أمين على ما قبله من الكتب فيما أخبر أهل الكتاب في كتابهم بأمر فإن كان في القرآن فصدقوا
73

وإلا فكذبوا، المبرد: أصله مؤيمن فقلبت الهمزة هاء كما قيل: أرقت الماء وهرقت، ولما ينثر عن الرأس عند الدلك أبرية وهبرية ونهاة وهيهات. وأتاك وهياك فهو مبني آمن أمين كما بيطر ومبيطر من بيطار.
قال النابغة:
شك المبيطر إذ شفا من العضد
وقال الضحاك: ماضيا، عكرمة: دالا عليه، ابن زيد مصدقا، الخليل: رقيبا وحافظا، يقال: هيمن فلان على كذا إذا شاهده وحفظه.
قلت: سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت المنصور بن محمد بن أحمد بن منصور البستي يقول: سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد اللغوي يقول: تقول العرب: الطائر إذا جعل يطير حول وكره وخاف على فرخه صيانة له، هيمن الطائر مهيمن. وكذلك يقول للطائر إذا أرخى جناحيه فألبسهما بيضه وفرخه مهيمن. وكذلك جعل اختباؤه ومنه قيل: الله تعالى المهيمن كان معناه الرقيب الرحيم. قال: ورأيت في بعض الكتب إنها بلغة العجمانية فعربت، وقرأ عكرمة: هيمن ومهيمن. بقولهم الملوك " * (فاحكم) *) يا محمد " * (بينهم) *) بين أهل الكتاب، إذا ترافعوا إليك " * (بما أنزل الله) *) بالقرآن " * (ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) *)، أي سبيلا وسنة وجمع الشرعة الشرع وكل ما شرعه فيه فهو شرعة وشريعة، ومنه شريعة الماء ومشرعته، ومنه شرائع الإسلام شروع أهلها فيها، ويقال: من شرع شرعا إذا دخلوا في أمر وساروا به. والمنهاج والمنهج والنهج الطريق البين الواضح.
قال الراجز:
من يك في شك فهلا ولج
في طريق المهج
قال المفسرون: عنى بذلك جميع أهل الملل المختلفة جعل الله لكل أهل ملة شريعة ومنهاجا، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإنجيل شريعة، ولأهل القرآن شريعة، يحل فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، والدين واحد والشرائع مختلفة " * (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) *) كلكم ملة واحدة " * (ولكن ليبلوكم) *) ليخبركم وهو أعلم وقد مضى معنى الابتلاء " * (فيما آتاكم) *) من الكتب وبين لكم من (السنن) فبين المطيع من العاصي والمواظب من المخالف " * (فاستبقوا الخيرات) *) فبادروا بالطيبات والأعمال الصالحات " * (إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) *))
.
74

قال ابن عباس: قال كعب بن لبيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قبيص بعضهم لبعض: إذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أعيان اليهود وأشرافهم وإنا إن إتبعناك إتبعنا اليهود ولم يخالفونا وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فنقضي إما عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيهم هذه الآية " * (فإن تولوا) *) أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن " * (فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم بعض ذنوبهم) *) أي فاعلم إن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم أي شؤم عصيانهم.
" * (وإن كثيرا من الناس) *) يعني اليهود " * (لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون) *) قرأ ابن عامر بالتاء، وفي الباقون بالياء.
" * (ومن أحسن من الله حكما) *) الآية.
(* (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين * فترى الذين فى قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دآئرة فعسى الله أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على مآ أسروا فىأنفسهم نادمين * ويقول الذين ءامنوا أهاؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * ياأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذالك فضل الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) *) اختلفوا في نزول هذه الآية، فإن كان حكمها عاما لجميع المؤمنين.
فقال العوفي والزهري: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود أهربوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر. فقال مالك بن الصيف: أغركم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقتلونا.
فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم، قوية أنفسهم، شديدة شوكتهم كثيرا سلاحهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم وولاية اليهود، ولا مولا لي إلا الله ورسوله، قال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أبا الحباب ما نفست
75

من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه) قال: قد قبلت فأنزل الله عز وجل هذه الآية. قال السدي: لما كانت وقعة أحد اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدل عليهم الكفار.
فقال رجل من المسلمين: أما أنا فألحق بدهلك اليهودي وأخذ منه أمانا فإني أخاف أن يدل علينا اليهود.
وقال رجل آخر: أما أنا فالحق بفلان النصراني ببعض أهل الشام فأخذ منه أمانا وأنزل الله هذه الآية ينهاهما.
وقال عكرمة: نزلت في أبي لبانة بن عبد المنذر حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم إذا رضوا بحكم سعد إنه الذبح " * (بعضهم أولياء بعض) *) في العون والنصرة، ويدهم واحدة على المسلمين.
" * (ومن يتولهم منكم) *) فيوافقهم على دينهم ويعينهم " * (فإنه منهم) *) يقول ابن سيرين: عن رجل بيع داره من النصارى، يتخذونها بيعة فتلا هذه الآية " * (فترى الذين في قلوبهم مرض) *) الآية، يعني عبد الله بن أبي وصحبه من المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود ويصانعونهم ويناصحونهم " * (يسارعون فيهم) *) أي في موالاتهم " * (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) *) دولة يعني أن يدور الدهر فنحتاج إلى نصرهم أيانا فنحن نواليهم بذلك.
قال الراجز:
يرد عنك القدر المقدورا
ودائرات الدهر أن تدورا
" * (فعسى الله أن يأتي بالفتح) *) أي القضاء وقيل: النصر. وقال السدي: فتح مكة.
" * (أو أمر من عنده فيصبحوا) *) يعني هؤلاء المنافقين " * (على ما أسروا في أنفسهم نادمين) *) وحينئذ " * (ويقول الذين آمنوا) *) اختلف القراء فيه:
فقرأ أهل الكوفة: (ويقول) بالواو والرفع على الاستئناف وقرأ أهل البصرة: (ويقول) نصبا والواو عطفا على (أن يأتي) وقرأ الباقون: رفع اللام وحذف الواو، وكذلك هو في مصاحف أهل الشام " * (أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم) *) الآية " * (يا أيها الذين آمنوا من يرتد) *) وقرأ أهل المدينة والشام يرتدد بدالين على إظهار التخفيف " * (منكم عن دينه) *) فيرجع إلى الكفر وهذا المجاز للقرآن وللمصطفى صلى الله عليه وسلم إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده
76

وكان عهده وكان على ما أخبره بعد مدة، وأهل الردة كانوا أحد عشر قوما ثلاثة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره وسبعة على عهد أبي بكر وواحد في عهد عمر.
فأما الثلاثة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم بنو مذحج ورئيسهم ذو الخمار عيهلة بن كعب القيسي فلقب بالأسود وكان كاهنا مشعبذا فتنبأ باليمن وكان (عليه السلام) ولى بأذان اليمن بجميع نواحيها وكان أول من أسلم من ملوك العجم وأول أمير لبلاد اليمن في الإسلام فمات، وولي رسول الله مكانه شهرا فقتل الأسود الكذاب شهر بن بأذان وتزوج امرأته لباد واستولى على بلاد اليمن وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وكتب عليه إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين، وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم والنهوض إلى حرب الأسود إما غيلة وإما مصادمة، وكتب (عليه السلام) بمثل ذلك إلى حمير من سادات اليمن عامر ابن سهو، وذي رود وذي مران وذي الكلاع وذي ظلم ففعلوا ما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاموا بحرب الأسود حتى أهلك الله الأسود على يدي فيروز الديلمي، وذلك أنه رماه وقتله على رأسه.
قال ابن عمر: أتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي.
فقال (عليه السلام): قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك، قيل: ومن هو؟ قال: فيروز: فاز فيروز فبشر أصحابه اليوم بهلاك الأسود وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعد مخرج أسامة وكان ذلك أول فتح أتى أبا بكر، والفرقة الثانية: بنو حنيفة واليمامة، ونبيهم مسيلمة الكذاب، وكان تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر ستة عشر وزعم أنه أشرك مع محمد في النبوة.
فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، وبعث بذلك رجلين من أصحابه الرجال بن شهب والحكم بن الطفيل وكان من سادات أهل اليمامة، فقال لهما رسول الله: (أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ قالا: نعم، فقال: (لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما). ثم أجاب: (من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)).
ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي، وجعل مسيلمة يعلو أمره باليمامة يوما بعد يوم، فبعث أبو
77

بكر (رضي الله عنه) خالد بن الوليد إليه في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب صعب شديد وكان وحشي: يقول قتلت خير الناس في الجاهلية وقتلت شر الناس في الإسلام.
والفرقة الثالثة: بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة آخر من ارتد فادعى النبوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من قتل بعد وفاته (عليه السلام) من أهل الردة، فعسكر واستكشف أمره فبعث إليه أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) خالد بن الوليد فهزموهم بخالد بعد قتال شديد وأفلت طليحة ومر على امرأته هاربا نحو الشام فلجأ إلى بني جفنة فأجاروه ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فهذه الثلاث الذين ارتدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما السبعة الذين ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر (رضي الله عنه)، لما مات رسول الله (عليه السلام) شمتت اليهود والنصارى وأظهر النفاق من كان يخفيه وماج الناس وكثر القيل والقال. وارتدت العرب على أعقابها، فارتدت فزار ورأسوا عليهم عيينة بن عين بن بدر، وارتدت غطفان، وأمروا عليهم قرة بن سلمة القسري، وارتدت بنو سليم ورأسوا عليهم النجاخ ابن عبد ياليل، وارتدت بنو يربوع ورأسوا عليهم مالك بن نويرة. وارتدت طائفة أخرى من بني تميم ورأسوا امرأة منهم يقال لها: سجاح بنت المنذر وادعت النبوة ثم إنها زوجت نفسها من مسيلمة الكذاب.
وارتدت كندة ورأسوا على أنفسهم الأشعث بن قيس. وارتدت بنو بكر بن وائل بأرض البحرين ورأسوا عليهم الحطم بن زيد فلقى الله أمر هؤلاء المرتدين ونصر دينه على يدي أبي بكر (رضي الله عنه) وأما الذي كان على عهد عمر (رضي الله عنه) رأسهم الغاني وأصحابه، وأخبار أهل الردة مشهورة في التواريخ مسطورة يطول بذكرها الكتاب.
" * (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) *) قال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة: هم أبو بكر وأصحابه، مجاهد: هم أهل اليمن، وقال غياض بن غنم الأشعري: لما نزلت هذه الآية أومى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري فقال: هم قوم هذا.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أتاكم أهل اليمن، هم ألين قلوبا وأرق أفئدة الإيمان يماني والحكمة يمانية).
الكلبي: هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة ألآف من كندة وبجيلة وثلاث آلاف من سائر الناس فجاهدوا في سبيل الله بالقادسية
78

السدي: هم الأنصار، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي فقال: هذا وذووه، ثم قال: (لو كان الدين معلقا بالثريا لناله من أبناء فارس).
" * (أذلة على المؤمنين) *) يعني أرقاء رحماء، كقوله " * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) *) وقيل: هو من الذل، من قولهم دابة ذلول بينة الذل يعني إنهم متواضعون كقوله * (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) * * (أعزة على الكافرين) *) أي أشداء غلظاء من قول العرب عز جانبه عزا.
وقرأ ابن مسعود: أذلة على المؤمنين غلظا على الكفار بالنصب على الحال.
وقال عطاء: أذلة على المؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده. أعزة على الكافرين كالسبع على فريسته، ونظير الآية * (أشداء على الكفار رحماء بينهم) * * (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم) *).
عبد الله بن حمدون نا أحمد بن محمد بن الحسين نا محمد بن يحيى نا أحمد بن شبيب، عن يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول رب أصحابي أصحابي فيقال لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم إرتدوا على أدبارهم القهقرى).
" * (إنما وليكم الله ورسوله) *) الآية.
أبو عبد الله الحسين عن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان عن شبر بن موسى الأسدي عن إسماعيل بن خليل الكوفي عن سلمة بن رجاء عن سلمة بن سابور قال: سمعت عطية العوفي يقول: قال ابن عباس: أسلم عبد الله بن أبي بن سلول، ثم قال: بيني وبين قريظة والنضير حلف وأنا أخاف الدوائر، فارتد كافرا. وقال عبادة بن الصامت: أبرأ إلى الله عز وجل من حلف قريظة والنضير، وأتولى الله والرسول والذين آمنوا فأنزل الله تعالى.
(* (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أوليآء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين * وإذا ناديتم إلى الصلواة اتخذوها هزوا ولعبا ذالك بأنهم قوم لا يعقلون * قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منآ إلا أن ءامنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون * قل هل أنبئكم بشر
من ذالك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولائك شر مكانا وأضل
79

عن سوآء السبيل * وإذا جآءوكم قالوا ءامنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون * وترى كثيرا منهم يسارعون فى الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون * لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) *) إلى قوله: " * (فترى الذين في قلوبهم مرض) *)، يعني عبد الله بن أبي بن سلول إلى قوله: " * (إنما وليكم الله وسوله والذين آمنوا) *) يعني عبادة بن الصامت، وأصحاب رسول الله ثم قال: ولو كانوا يؤمنون بالله ورسوله وما أنزل إليه، ما اتخذوه أولياء، وقال بعض المفسرين: لما أراد رسول الله أن يقتل يهود بني قينقاع حين نقضوا العهد، وكانوا حلفا لعبد الله بن أبي سلول وسعد بن عبادة بن الصامت، فأما عبد الله بن أبي فعظم ذلك عليه، وقال: ثلاثمائة دارع وأربعمائة منعوني من الأسود والأحمر أفأدعك تجدهم في غداة واحدة، وأما سعد وعبادة فقالا: إنا برآء إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وعهدهم فأنزل الله هذه الآية.
وقال جابر بن عبد الله: جاء عبد الله بن سلام إلى النبي (عليه السلام) فقال: يا رسول الله إن قومنا من قريظة والنضير، قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل وشكى ما يلقى من اليهود من الأذى. فنزلت الآية فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أخوة على هذا التأويل أراد بقوله (راكعون) صلاة التطوع بالليل والنهار.
قال ابن عباس، وقال السدي، وعتبة بن حكيم، وثابت بن عبد الله: إنما يعني بقوله " * (والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة) *) الآية. علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) مر به سائل وهو راكع في المسجد وأعطاه خاتمه.
أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد، أبو محمد عبد الله بن أحمد الشعراني، أبو علي أحمد بن علي بن زرين، المظفر بن الحسن الأنصاري، السدي بن علي العزاق، يحيى بن عبد الحميد الحماني عن قيس بن الربيع عن الأعمش عن عبادة بن الربعي، قال: بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم إذ أقبل رجل متعمم بالعمامة فجعل ابن عباس لا يقول، قال رسول الله: إلا قال الرجل: قال رسول الله؟ فقال ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟ قال: فكشف العمامة عن وجهه، وقال: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري، أبو ذر الغفاري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاتين وإلا صمتا ورأيته بهاتين وإلا فعميتا يقول: علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله أما إني صليت مع رسول الله يوما من الأيام صلاة الظهر فدخل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم اشهد إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد
80

شيئا وكان علي راكعا فأومى إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة فرفع رأسه إلى السماء وقال: (اللهم إن أخي موسى سألك، فقال: " * (رب إشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري) *) الآية، فأنزلت عليه قرآنا ناطقا " * (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا) *) اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري).
قال أبو ذر: فوالله ما استتم رسول الله الكلمة حتى أنزل عليه جبرئيل من عند الله، فقال: يا محمد إقرأ، فقال: وما أقرأ؟ قال: إقرأ " * (إنما وليكم الله ورسوله) *)، إلى " * (راكعون) *).
سمعت أبا منصور الجمشادي، سمعت محمد بن عبد الله الحافظ، سمعت أبا الحسن علي بن الحسن، سمعت أبا حامد محمد بن هارون الحضرمي، سمعت محمد بن منصور الطوسي، سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل مثل ما جاء لعلي بن أبي طالب (عليه السلام).
أبو عبد الله بن فنجويه، عمر بن الخطاب، إبراهيم بن سهلويه، محمد بن رجاء العباداني. حدثني عمر بن أبي إبراهيم، حدثني المبارك بن سعيد وعمار بن محمد عن سفيان عن أبيه عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر " * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) *) الآيتان الخبر.
عن محمد بن عبد الله، أحمد بن محمد بن إسحاق البستي، حامد بن شعيب، شريح بن يونس، هشيم بن عبد الملك قال: سألت أبا جعفر عن قوله " * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) *) قال: هم المؤمنون بعضهم أولياء بعض " * (ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله) *) يعني أنصاري من الله.
قال الراجز:
وكيف أضوي وبلال حزبي
81

أي ناصري.
" * (هم الغالبون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا) *) الآية.
قال الكلبي: كان منادي رسول الله إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها، قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا، ركعوا لا ركعوا، سجدوا لا سجدوا، على طريق الاستهزاء والضحك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال السدي: نزلت في رجل من النصارى كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: أحرق الله الكاذب، فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام فتطاير منها شرارة في البيت فأحرق البيت وأحرق هو وأهله.
وقال الآخرون: إن الكفار لما سمعوا الأذان كذبوا رسول الله والمسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياء قبلك ولو كان في هذا الأمر خير لكان بادئ ما تركه الناس بعد الأنبياء والرسل قبلك فمن أين لك صياح كصياح البعير فما أقبح من صوت ولا أسمج من كفر، فأنزل الله هذه الآية. " * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا) *).
فأما بعد الأذان. قال أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر، أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، زياد بن أيوب وأبو بكر بن أبي النضير الأسدي، حجاج بن محمد قال: قال ابن جريح عن نافع عن ابن عمر أبو الحسين قال: أبو العباس السراج، محمد بن سهيل بن عسكر، أبو سعيد الحداد، خالد بن عبد الله الواسطي، عن عبد الرحمن بن (يحيى) عن الزهري عن سالم عن أبيه، وحديث عن الحسن بن شقيق، إسماعيل بن عبيد الخزاعي، محمد بن سلمة عن محمد ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري عن أبيه قال: كان المسلمون حيث قدموا المدينة يجتمعون فيجيبون الصلاة وليس ينادي بهن فتكلموا في ذلك فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فيما يجيبهم الصلاة. فقال بعضهم: يقلب راية فوق رأس المسجد عند الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك، وقيل: بل نؤجج نارا، وقال بعضهم: بل قرن مثل قرن اليهود فكرهه من أجل اليهود وقيل: الناقوس فكرهه من أجل النصارى ولكن عليه قاموا وأمر بالناقوس حتى يجيب.
82

قال عبد الله بن زيد: فرأيت تلك اللية رجلا في المنام عليه ثوبان أخضران ويحمل ناقوسا فقلت يا عبد الله اتبع الناقوس قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به الناس إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير منه؟ قلت: بلى، قال: قل: الله أكبر، الله أكبر إلى آخر الأذان ثم إستأخر غير بعيد، وقال: إذا قامت الصلاة فقل: الله أكبر، الله أكبر فوصف له الإقامة فرادى، فلما استيقظت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فقال: إنها رؤيا حق إنشاء الله فاتلها على بلال فإنه أندى منك صوتا، قال: فخرجنا إلى المسجد فجعلت ألقيها على بلال وهو يؤذن فسمع عمر في بيته فخرج يجر رداءه فقال: رأيت مثل الذي رأى ففرح النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ذلك أثبت.
وروى أبو الزاهرية عن أبي شجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أول من أذن في السماء فسمعه عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه).
فأما فصل الأذان، فحدثنا أبو الحسن بن محمد بن القاسم الفارسي، عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى، أبو جعفر بن عبد الله بن الصياح، أبو عمر الدوري، أبو إبراهيم البرجماني عن سعيد بن سعيد عن نهشل أبي عبد الله القرشي عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا يكترثون للحساب ولا يفزعهم الصيحة ولا يحزنهم الفزع الأكبر: حامل القرآن يؤديه إلى الله بما فيه يقدم على ربه سيدا شريفا، ومؤذن أذن سبع سنين يأخذ على أذانه طمعا وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ومؤدي حق مولاه).
أحمد بن محمد بن جعفر، أبو الحسن علي بن محمد القاضي، علي بن عبد العزيز أبي عمرو ابن عثمان حدثهم أبو ثميلة عن أبي حمزة عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أذن سبع سنين محتسبا كتب له براءة من النار).
أبو الحسن الفارسي، أبو العلاء أحمد بن محمد بن كثير، (.....) بن محمد، محمد ابن سلمة الواسطي، حميد بن سلمة الواسطي، حميد الطوسي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أذن سنة من نية صادقة لا يطلب عليه أجر دعي يوم القيامة ووقف على باب الجنة وقيل له: إشفع لمن شئت).
أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد التمار، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن دينار محمد ابن الحجاج بن عيسى، إبراهيم بن رستم، حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن ابن سلمة عن
83

أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أذن خمس صلوات إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن أم أصحابه خمس صلوات إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).
أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي، الحسن بن محمد بن جشم أبو الموجة، عبدان، عبد الوارث، ومرة الحنفي، يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: (إذا كان عند الأذان فتحت أبواب السماء فاستجيب الدعاء وإذا كان عند الإقامة لم يرد دعواه).
أبو القاسم طاهر بن المعري، أبو محمد عبد الله بن أحمد المقري بالبصرة، عبد الله ابن أحمد الجصاص، يزيد بن عمر وأبو البر الغنوي، نائل بن نجيح، محمد بن الفضل عن سالم عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤذن المحتسب كالشهيد يتشحط في دمه حتى يفرغ من أذانه ويشهد له كل رطب ويابس فإذا مات لم يدود في قبره).
أبو محمد بن عبد الله بن حامد الصفياني، محمد بن جعفر الطبري قال: حماد بن الحسن، صالح ابن سليمان صاحب القراطيس، عتاب بن عبد الحميد السدوسي عن مطر عن الحسن عن أبي الوقاص أنه قال: سهام المؤذنين عند الله يوم القيامة كسهام المهاجرين.
وقال عبد الله بن مسعود: لو كنت مؤذنا لما باليت ألا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد، قال:
وقال عمر بن الخطاب: لو كنت مؤذنا لكمل أمري وما باليت أن لا أنتسب لقيام ليل ولا لصيام نهار. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اغفر للمؤذنين، اللهم اغفر للمؤذنين، اللهم اغفر للمؤذنين).
فقلت: يا رسول الله لقد تركنا ونحن خيار على الأذان بالسيوف. قال: (كلا يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم وتلك لحوم حرمها الله
على النار لحوم المؤذنين).
" * (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون) *) الآية.
قال ابن عباس: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود، أبو ياسر بن الخطاب ورافع بن أبي رافع وعازار وزيد بن خالد وأزاريل أبي وأشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: (أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم إلى قوله مسلمون)، فلما ذكر عيسى جحدوا
84

نبوته قالوا: والله ما نعلم أهل دين أولى حظا في الدنيا والآخرة دينا ولا دنيا شرار دينكم. فأنزل الله هذه الآية ثم قال: قل يا محمد " * (هل أنبئكم) *) أخبركم " * (بشر من ذلك) *) الذين ذكرت يعني قولهم لم نر أهل دين أولى حظا في الدنيا والآخرة منكم فذكر الجواب بلفظ الابتداء وإن لم يكن الابتداء شرا كقوله تعالى للكفار * (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا) * * (مثوبة عند الله) *) ثوابا وجزاءا وهو نصب على التفسير كقوله أكثر منك مالا وأعز نفرا وأصلها مثووبة على وزن مفعوله وقد جاءت مصادر على وزن المفعول نحو المفعول والميسور فأسقط عين الفعل استثقالا على الواو ونقلت حركتها إلى فاء الفعل وهي الثاء فصار مثوبة مثل معونة ومغوثة ومقولة " * (من لعنه الله) *) ويجوز أن يكون محل من خفضا على البدل ومن قوله بشر أو على معنى لمن يلعنه الله ويجوز أن يكون رفعا على إضمار هو.
ويجوز أن يكون نصبا على إيقاع أنبئكم عليه " * (وغضب الله عليه وجعل منهم القردة والخنازير) *) فالقردة: أصحاب السبت. والخنازير: كفار أهل مائدة عيسى.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إن المسخين كلاهما من أصحاب نقبائهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير، " * (وعبد الطاغوت) *) فيه عشر قراءات، وعبد الطاغوت بفتح الباء والعين والتاء على الفعل وهي قراءة العامة، وجعل منهم من عبد الطاغوت، وتصديقها قراءة ابن مسعود ومن عبد والطاغوت. وقرأ ابن وثاب وحمزة. عبد الطاغوت بفتح العين وضم الباء وكسر الدال آباد العبد وهما لغتان عبد وعبد مثل سبع وسبع وقرد وقرد.
وأنشد حمزة في ذلك: كيف الصقيل القرد، بضم الراء ووجه آخر وهو إنه أراد الجمع أي خدم الطاغوت. فجمع العبد عباد ثم جمع العباد عبدا جمع الجمع مثل ثمار وثمر منهم استقبل الضمتين المتواليتين فعرض من الأولى فتحه ولذلك في قراءة الأعمش وعبد الطاغوت بضم العين والتاء وكسر الدال.
قال الشاعر:
إنسب العبد إلى آبائه
أسود الجلدة من قوم عبد
وذكر عن أبي جعفر القاري: إنه قرأ وعبد الطاغوت على الفعل المجهول، وقرأ الحسن: وعبد الطاغوت على الواحد.
قرأ أبو بردة الأسلمي: وعابد الطاغوت (باختلاف) على الواحد
85

وقرأ ابن عباس: وعبيد الطاغوت بالجمع، وقرأ أبو واقد الليثي: وعباد الطاغوت مثل كافر وكفار، وقرأ عون العقيلي وأبان بن ثعلب: وعبد الطاغوت مثل ركع وسجد. وقرأا بن عمير: واعبد الطاغوت مثل كلب وأكلب " * (أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل) *) فلما نزلت هذه الآية تنذر اليهود وقالوا إخوان القردة والخنازير فسكتوا وأفحموا، وفيهم يقول الشاعر:
فلعنة الله على اليهود
إن اليهود إخوة القرود
" * (وإذا جاؤكم قالوا آمنا) *) الآية، فهؤلاء المنافقون قاله المفسرون.
وقال ابن زيد: هؤلاء الذين قالوا: " * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) *) الآية.
وهذا التأويل أليق بظاهر التنزيل لأن هذه الآيات نزلت في اليهود " * (وترى كثيرا منهم) *) يعني من اليهود " * (يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت) *) إلى قوله " * (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار) *) يعني العلماء وقيل: الربانيون علماء النصارى، والأحبار علماء اليهود.
وقرأ أبو واقد الليثي، وابن الجراح العقيلي: الربيون كقوله * (معه ربيون كثير) * * (عن قولهم الإثم) *) وهذه أشد آية على ما أتى النهي عن المنكر حيث أنزلهم منزلة من يرتكبه وجمع بينهم في التوبيخ.
الحسن بن أحمد بن محمد، وشعيب بن محمد بن شعيب عن إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن عدي، (الأحمسي)، البخاري عن عبد الحميد بن جعفر عن أبي إسحاق عن عبد الله بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من رجل يجاور قوما فيعمل بالمعاصي بين ظهرانيهم فلا يأخذون على يديه إلا وأوشك الله أن يعمهم منه بعقاب).
أبو عبد الله محمد، أحمد بن محمد بن يعقوب، عبد الله بن أسامة، أسيل بن زيد الجمال، يحيى بن سلمى بن مهنا عن أبيه عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل الفاسق في القوم مثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان فيها نصيب، فأخذ رجل منهم فأسا فجعل يضرب في موضعه فقال أصحابه: أي شيء تصنع تريد أن تغرق وتغرقنا؟ فقال: هو مكاني فإن أخذوا على يديه نجوا ونجا وإن تركوه غرقوا وغرق).
86

وقال مالك بن دينار: أوصى الله إلى الملائكة أن عذبوا قرية كذا فصاحت الملائكة إلى ربها: يا رب إن فيهم عبدك العابد. فقال: أسمعوني ضجيجه فإن وجهه لم يتغير
غضبا لمحارمي وأوحى الله إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم وستين ألفا من شرارهم. فقال: يا رب فهؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي وواكلوهم وشاربوهم.
2 (* (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة كلمآ أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون فى الارض فسادا والله لا يحب المفسدين * ولو أن أهل الكتاب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولادخلناهم جنات النعيم * ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم سآء ما يعملون) *) 2
" * (وقالت اليهود يد الله مغلولة) *).
قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة: إن الله كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله في محمد (عليه السلام) وكذبوا به كفى الله عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك قال فنحاص بن عازورا: يد الله مغلولة لم يريدوا إلى عنقه ولكنهم أرادوا إنها مقبوضة بمعنى منه ممسكة عن الرزق فنسبوه إلى البخل.
وقال أهل المعاني: إنما قال هذه المقالة فنحاص فلم ينهوا الآخرون ورضوا بقوله فأشركهم الله فيها وأرادوا باليد العطاء لأن عطاء الناس بذل معروفهم في الغالب بأيديهم واستعمل الناس اليد في وصف الإنسان بالرد والبخل.
قال الشاعر:
يداك يدا مجد فكف مفيد
وكف إذا ما ضن بالمال ينفق
ويقال للبخيل: جعد الأنامل، مقبوض الكف، كز الأصابع، مغلول اليدين، قال الله " * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) *) الآية.
قال الشاعر:
كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها
وكل باب من الخيرات مفتوح
87

فاستبدلت بعده جعدا أنامله
كأنما وجهه يأكل منضوج
وقال الحسن: معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما (يقربه) قيمة قدر ما عبد آباؤنا العجل. وهو سبعة أيام.
وقال مجاهد والسدي: هو أن اليهود قالوا إن الله لما نزع ملكنا منا وضع يده على صدره يحمد إلينا ويقول: يا بني إسرائيل، يا بني أحباري لا أبسطها حتى أرد عليكم الملك. والقول الأول أولى بالصواب لقوله " * (ينفق كيف يشاء) *) وقيل: هو استفهام تقديره: أيد الله مغلولة عنا؟ حيث قتر المعيشة علينا قال الله " * (غلت أيديهم) *) أي مسكت أيديهم عن الخيرات وقبضت عن الانبساط بالعطيات.
وقال يمان بن رئاب: شدد وثقل عليهم الشرائع، بيانه قوله " * (والأغلال التي كانت عليهم) *) وقيل: هو من الغل في النار يوم القيامة كقوله " * (إذ الأغلال في أعناقهم) *) * * (ولعنوا) *) عذبوا " * (بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) *) اختلفوا في معنى يد الله سبحانه، فقال قوم: إن له يدا لا كالأيدي وأشاروا باليد إلى الجارحة ثم قصدوا نفي التشبيه بقوله لا كالأيدي وهذا غير مرضي من القول وفساده لا يخفى.
وقال الآخرون: يده قدرته لقوله " * (أولي الأيدي والأبصار) *).
وقيل: هو ملكه كما يقال لمملوك الرجل، هو ملك يمينه. قال الله تعالى " * (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) *) أي إنه يملك ذلك، وعلى هذين القولين يكون لفظه مشبه ومعناه واحد لقوله " * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *) أراد به جنة واحدة. قاله الفراء: وأنشدني في بعضهم:
ومنهم يدين قدمين مرتين
قطعة بالألم لا بالسمينين
أراد منهما واحدا وسمنة واحدة.
قال وأنشد في آخر:
يمشي مكبدا ولهزمين
قد جعل الأرطا جنتين
أراد لهزما وجنة.
وقيل: أراد بذلك نعمتاه. كما يقال: لفلان عندي يدا نعمة، وعلى هذا القول يكون بعضه
88

تشبيه ومعناه جمع كقوله " * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) *). والعرب تضع الواحد موضع الجمع كقوله " * (وكان الكافر على ربه ظهيرا) *). " * (لقد خلقنا الإنسان في كبد) *) و " * (إن الإنسان لفي خسر) *) ونحوها، ويقول العرب: ما أكثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، ويضع التشبيه أيضا موضع الجمع كقوله " * (ألقيا في جهنم) *) فأراد الجمع. قال امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
يدل عليه:
وقوفا بها صحبي على مطيهم
يقول بأنه أخذ الجمع. قال محمد بن مقاتل الرازي: أراد نعمتان مبسوطتان نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة، وهذه تأويلات مدخولة لأن الله عز وجل ذكر له خلق آدم بيده على طريق التخصيص والتفضيل لآدم على إبليس، ولو كان تأويل اليد ما ذكروا لما كان لهذا التخصيص والتفضيل لآدم معنى لأن إبليس أيضا مخلوق بقدرة الله وفي ملك الله ونعمته.
وقال أهل الحق: إنه صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه، قال الحسن: إن الله سبحانه يداه لا توصف، دليل هذا التأويل إن الله ذكر اليد مرة بلفظ اليد فقال عز من قائل " * (قل إن الفضل بيد الله) *) * (بيدك الخير) * * (يد الله فوق أيديهم) *) * * (تبارك الذي بيده الملك) *).
وقال (عليه السلام): (يمين الله ملأن (لا يعيضن) نفقة فترد به) وقال عز وجل مرة وقال " * (لما خلقت بيدي) *) * * (بل يداه مبسوطتان) *))
.
89

وقال (عز وجل): " * (وكلتا يديه يمين) *) وجمعه مرة فقال " * (مما عملت إيدينا أنعاما) *) قوله " * (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) *) بإنكارهم ومخالفتهم وتركهم الإيمان " * (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء) *) يعني من اليهود والنصارى " * (كلما أوقدوا نارا للحرب) *) يعني اليهود والنصارى أفسدوا وخالفوا حكم التوراة فغضب الله عز وجل فبعث عليهم بخت نصر ثم أفسدوا فبعث الله عليهم وطرس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله تعالى وكلما جمعوا أمرهم على حرب رسول الله وأوقدوا نارا للحرب " * (أطفأها الله) *) وقهرهم ونصر نبيه ودينه " * (ويسعون في الأرض فسادا) *) الآية " * (ولو أن أهل الكتاب آمنوا وأتقوا لكفرنا عنهم) *) الآية " * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل) *) يعني أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما " * (وما أنزل إليهم من ربهم) *) أي القرآن. وقيل: كتب بني إسرائيل " * (لأكلوا من فوقهم) *) يعني المطر " * (ومن تحت أرجلهم) *) يعني النبات.
وقال الفراء: إنما أراد به التوسعة كما يقال: فلان في خير من قرنه إلى قدمه، نظيره * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء) * * (منهم أمة مقتصدة) *) يعني مؤمني أهل الكتاب. ابن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون رجلا من النصارى وهم النجاشي وبحيرا وسلمان الفارسي وخير مولى قريش وأصحابهم.
قال ابن عباس: هم العاملة غير العالية ولا الحافية " * (وكثير منهم) *) كعب بن الأشرف وأصحابه، وأهل الروم. " * (ساء ما يعملون) *).
2 (* (ياأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين) *) 2
" * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) *).
اختلفوا في تنزيل هذه الآية وتأويلها فروى محمد بن كعب القرضي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فينزل تحتها ويقيل، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه إعرابي وأخذ السيف من الشجرة وأخترطه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال: الله. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه وضرب برأسه الشجرة حتى إنفرد ساعة فأنزل الله الآية
90

وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس، قال: وقالت عائشة: فكنت ذات ليلة إلى جنبه فسهر تلك الليلة، فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟ فقال: (ليت رجل صالح يحرسني الليلة) قالت: فبينما نحن في ذلك حتى سمعت صوت السلاح. فقال: من هذا؟ قال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه فنزلت الآية فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أديم وقال: (انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله عز وجل).
وروى الحسن مرسلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما بعثني الله برسالته فضقت بها ذرعا وعرفت إن من الناس من يكذبني) وكان عتابه قريشا واليهود والنصارى فأنزل الله الآية، قلت: ولما نزل قوله " * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) *) سكت النبي (عليه السلام) عن عيب الهتهم فأنزل الله تعالى " * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) *) يعني معايب آلهتهم.
وقيل: نزلت في عيب اليهود وذلك إنه (عليه السلام) دعا اليهود إلى الإسلام وقالوا: أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون: تريد أن نتخذك عيانا كما اتخذت النصارى عيانا عيسى، فلما رأى النبي (عليه السلام) ذلك سكت فحرضه الله على دعائهم إلى الإسلام وأمره أن يقول لهم.
" * (يا أهل الكتاب لستم على شيء) *) الآية.
قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقاويل لأنه ليس بين قوله بلغ ما أنزل إليك وبين قوله لستم على شيء فصل.
فلما نزلت الآية قال (عليه السلام): (لا يأتي من عندي ومن نصرني).
وقيل: نزلت في قصة عيينة بن حصين وفقراء أهل الصفة وقيل: بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص ومر في قصة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من أمر نسائك. وذلك أن رسول الله لما نزلت آية التخيير لم يكن يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدنيا فأنزل الله، وقيل: بلغ ما أنزل إليك في أمر زينب بنت جحش، وقيل: نزلت في الجهاد، وذلك إن المنافقين كرهوه، قال الله " * (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال) *) الآية وكرهه أيضا بعض المؤمنين قال الله " * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) *) الآية، وكان (عليه السلام) يمسك في بعض المسلمين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة القوم فأنزل الله الآية
91

وقال أبو جعفر محمد بن علي: معناه: بلغ ما أنزل إليك في فضل علي بن أبي طالب، فلما نزلت الآية أخذ (عليه السلام) بيد علي، فقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه).
أبو القاسم يعقوب بن أحمد السري، أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن محمد، أبو مسلم إبراهيم ابن عبد الله الكعبي، الحجاج بن منهال، حماد عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء قال: لما نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كنا بغدير خم فنادى إن الصلاة جامعة وكسح رسول الله عليه الصلاة والسلام تحت شجرتين وأخذ بيد علي، فقال: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (ألست أولى بكل مؤمن من نفسه)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).
قال: فلقيه عمر فقال: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
روى أبو محمد عبدالله بن محمد القايني نا أبو الحسن محمد بن عثمان النصيبي نا: أبو بكر محمد ابن الحسن السبيعي نا علي بن محمد الدهان، والحسين بن إبراهيم الجصاص قالانا الحسن بن الحكم نا الحسن بن الحسين بن حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله " * (يا أيها الرسول بلغ) *) قال: نزلت في علي (رضي الله عنه) أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ فيه فأخذ (عليه السلام) بيد علي، وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).
وبلغ ما أنزل إليك في حقوق المسلمين فلما نزلت الآية خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يوم هذا الحديث في خطبة الوداع، ثم قال: هل بلغت؟
" * (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) *) قرأ ابن محيصن وابن قفال وأبو عمرو والأعمش وشبل: رسالته، على واحدة، وهي قراءة أصحاب عبد الله. الباقون جمع.
فإن قيل: فأي فائدة في قوله: " * (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) *) ولا يقال: كل من هذا الطعام وإن لم تأكل فما أكلته.
الجواب فيه ما سمعت فيه أبا القاسم بن جندب سمعت علي بن مهدي الطبري يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تبليغ ما أنزل إليك في الوقت والإتيان فيه. حتى تكثر الشركة والعدة وإن لم يفعل على كل ما أوصى الله إليه واحكم الله أن حرم بعضها لأنه كمن لم يبلغ لأن تركه إبلاغ البعض محيط لإبلاغ ما بلغ. كقوله: " * (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون) *) الآية.
92

فاعلم أن إيمانهم بالبعض إلى بعضهم وأن كفرهم بالبعض يحيط الإيمان بالبعض. وحاشى لرسول الله أن يكتم شيئا مما أوحى الله.
قالت العلماء: الدعوة بقراءة الصلاة إذ البعض ركن من أركانها.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن (الأخدش) يحكي عن الحسن ابن الفضل أنه قال: معنى الآية بلغ ما أنزل إليك في الوقت حتى تكثر الشوكة والعدة، ومن لم يفعل هذا كتب كمن لم يبلغ، وقيل: بلغ مجاهدا محتسبا صابرا غير خائف، وقيل: بلغ ما أنزل إليك من ربك إلى جميع الناس (ولا تخاف).
وهذه من الحدود التي يدل مقام القطع عليه.
" * (والله يعصمك) *) يحفظك ويمنعك " * (من الناس) *) ووجه هذه الآية، وقد شج جبينه وكسرت رباعيته وأوذي في عدة مواطن بضروب من الأذى، فالجواب أن معناها والله يعصمك منهم فلا يصلون إلى مثلك، وقيل: نزلت هذه الآية بعد ما شج جبينه وكسرت رباعيته لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن.
وقيل: معناه والله يعصمك يخصك بالعصمة من بين الناس لأنه كان نبي الوقت والنبي معصوم.
" * (إن الله لا يهدي القوم الكافرين) *) عن عبد الله الحسين بن محمد (الديلمي)، محمد ابن إسحاق السبتي، أبو عروة، عمرو بن هشام، محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن أبي عبد الملك عن القاسم عن أبي أمامة قال: كان رجل من بني هاشم يقال له ركانة وكان من أفتك الناس وأشدهم بأسا وكان مشركا وكان يرعى غنما له ويقال له أقسم فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة ذات يوم متوجها قبل ذلك الوادي فلقيه ركانة وليس مع نبي الله أحد فقام إليه ركانه وقال: يا محمد أنت الذي تشتم الهتنا اللات والعزى وتدعو إلى إلهك العزيز الحكيم؟ ولولا رحم بيني وبينك ما كلمتك حتى أقتلك ولكن أدع الهك العزيز الحكيم يخلصك مني اليوم وسأعرض عليك أمرا هل لك أن أصارعك وتدعو إلهك العزيز الحكيم يعينك علي وأنا أدعو اللات والعزى فإن أنت صرعتني فلك عشرة من غنمي وتختارها فقال (عليه السلام): قم إن شئت واتخذ العهد ودعا النبي صلى الله عليه وسلم إلهه العزيز الحكيم أن يعينه على ركانة، ودعا ركانة إلهه (اللات والعزى) أن أعني اليوم على محمد فأخذه النبي (عليه السلام) فصرعه وجلس على صدره.
فقال ركانة: يا محمد قم فلست الذي فعلت هذا بي إنما إلهك العزيز الحكيم وخذله
93

اللات والعزى وما وضع أحد جنبي قبلك، فقال ركانة: عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى ومن خيارها. فقام النبي (عليه السلام) ودعا كل واحد منهما إلهه كما فعلا أول مرة فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم وجلس على كبده، فقال له ركانة: فلست أنت الذي فعلت في هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى
وما وضع جنبي أحد قبلك، فقال له ركانة: عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى تختارها فأخذ مني الله ودعا كل واحد منهما إلهه فصرعه نبي الله الثالثة، فقال له ركانة: لست أنت الذي فعلت بي هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى فدونك ثلاثين شاة من غنمي فأخسرها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا أريد ذلك ولكن أدعوك إلى الإسلام وأركانه وأنفس بك أن تصير إلى النار، إنك إن تسلم تسلم فقال له ركانة: ألا تريني آية، فقال له نبي الله (عليه السلام) الله شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل لهذا لتجيبني إلى ما دعوتك إليه؟ قال: نعم، وقريب منهما شجرة ذات فروع وقضبان فأشار نبي الله (عليه السلام)، فقال لها: أقبلي بإذن الله فانشقت اثنتين وأتت على نصف شقها وقضبانها وفروعها حتى كانت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبين ركانة فقال له ركانة: أريتني عظيما، فمرها فلترجع، فقال (عليه السلام) الله شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل فأمرها فرجعت لتجيبني إلى ما دعوتك إليه؟
قال: نعم، فأمرها النبي (عليه السلام) فرجعت بقضبانها وفروعها حتى إلتأمت فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم أسلم تسلم، فقال له ركانة: فما لي ألا أكون أما أنا فقد رأيت عظيما، ولكني أكره أن يتحدث فينا أهل المدينة وفتيانهم في إنما أجيبك لرعب دخل قلبي منك، ولكن قد علمت في أهل المدينة وصبيانهم إنه لم يوضع جنبي قط ولم يدخل قلبي رعب ساعة قط ليلا ولا نهارا فلك دونك فاختر غنمك، فقال (عليه السلام): ليس في حاجة إلى غنمك إذ أبيت أن تسلم، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا فأقبل أبو بكر وعمر يسألانه في بيت عائشة فأخبرتهما إنه قد توجه قبل وادي أضم وقد عرفا إنه وادي ركانة لا يخطيه، فخرجا في طلبه وأشفقا أن يلقاه ركانة فيقتله، فجعلا يصعدان على كل شرفة ونظرا فإذا هما كذلك إذ نظر نبي الله (عليه السلام) مقبلا، فقالا: يا نبي الله كيف تخرج إلى هذا الوادي وحدك وقد عرفت إنه جهة ركانة وإنه من أفتك الناس وأشدهم تكذيبا لك، فضحك إليهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أليس الله يقول: " * (والله يعصمك من الناس) *) إنه لم يكن يصل إلي والله معي) وأنشأ يحدثهما حديث ركانة والذي فعله به والذي أراه فعجبا من ذلك وقالا: يا رسول الله عرفت ركانة فلا والذي بعثك بالحق ما نعلم إنه وضع جنبيه إنسان قط، فقال (عليه السلام): (إني دعوت ربي عز وجل فأعانني عليه، وإن ربي قال خذ عشرة لك وبقوة عشرة).
(* (قل ياأهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم من ربكم
94

وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين * إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * لقد أخذنا ميثاق بنىإسراءيل وأرسلنآ إليهم رسلا كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون * وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون * لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسراءيل اعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إلاه إلا إلاه واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم * ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الايات ثم انظر أنى يؤفكون * قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم * قل ياأهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل) *) 2
" * (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء) *) من الدين " * (حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك) *) يا محمد " * (من ربك طغيانا وكفرا) *) حيث أمرهم بالقرآن مع قيام الدلالة والحجة عليهم " * (فلا تأس) *) فلا تحزن " * (على القوم الكافرين إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى) *) كان حقه والصابئين وإنما رفعه عطفا على الذين قبل دخول أن فلا يحدث معنى كما تقول: زيد قائم، وأن زيدا قائم معناها واحد، وقرأ الحسن إن الله وملائكته برفع التاء " * (والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا) *) الآية.
" * (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل) *) في التوحيد والنبوة " * (وأرسلنا إليهم رسلا) *) إلى قوله " * (وحسبوا أن لا تكون فتنة) *) وظنوا أن لا يكون ابتلاء واختبار. ورفع نونه بعض قراء العراق فمن نصب فعلى ترك المبالاة بلا ومن رفع فعلى معنى لا يكون " * (فعموا) *)، عن الحسن: فلم يبصروه " * (وصموا) *) عنه فلم يسمعونه وكان ذلك عقوبتهم " * (ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا) *) بعد ذلك بخذلانهم أيا منهم في قتال " * (كثير منهم) *) وهم كفار أهل الكتاب " * (والله بصير بما يعملون لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) *) يعني الملكانية " * (وقال المسيح يا بني إسرائيل) *) الآية.
" * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) *) هي النسطورية وذلك إنهم قالوا أبا وإبنا وروحا قدسيا " * (وما من إله إلا إله واحد) *) إلى قوله " * (ليمسن) *) لتصيبن " * (الذين كفروا منهم) *) خص الكفر
95

لعلمه أن بعضهم (لهم) * * (عذاب أليم أفلا يتوبون) *) الآية.
" * (ما المسيح ابن مريم) *) إلى قوله " * (وأمه صديقة) *) الآية، تصدق، وقال مقاتل: إنما سميت صديقة لأنها لما أتاها جبرئيل، وهي في منجم وقال لها: إنما أنا رسول ربك صدقته " * (كانا يأكلان الطعام) *) في هذا المعنى هذا عبارة عن الحدث ومن أكل وأحدث لا يستحق أن يكون إلها " * (أنظر) *) يا محمد " * (كيف نبين) *) إلى قوله " * (أنى يؤفكون) *) (يرتدون) عن الحق " * (قل أتعبدون) *) الآية " * (قل يا أهل الكتاب) *) يعني النصارى " * (لا تغلوا في دينكم غير الحق) *) لا تجاوزوا الحق إلى غيره " * (ولا تتبعوا) *) الآية.
(* (لعن الذين كفروا من بنىإسراءيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذالك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أوليآء
ولاكن كثيرا منهم فاسقون) *) 2
" * (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) *) أي عذبوا بالمسيح فقال " * (على لسان داود) *).
يعني أهل أيلة لما اعتدوا في السبت، قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة " * (وعيسى ابن مريم) *) يعني كفار أصحاب المائدة لما لم يؤمنوا، قال عيسى: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير " * (ذلك بما عصوا) *) الآية " * (كانوا لا يتناهون) *) أي لا ينهي بعضهم بعضا " * (عن منكر فعلوه) *) الآية.
الحسن بن محمد بن الحسين، موسى بن محمد بن علي بن عبد الله، عبد الله بن سنان، عبد العزيز بن الخطاب، خالد بن عبد الله، العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، الحسن بن محمد، أحمد بن محمد بن إسحاق، أبو علي الموصلي، وهب بن منبه، خالد عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطيئة نهاه الناهي تعذيرا فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه وكأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض وجعل منهم القردة والخنازير ولعنه على لسان داود وعيسى ابن مريم، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
(والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يد المسئ
96

ولتأطرنه على الحق إطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم).
" * (ترى كثيرا منهم) *) أي من اليهود، كعب بن الأشرف وأصحابه " * (يتولون الذين كفروا) *) منكر في منكر حين خرجوا إليها يعينون على محمد (عليه السلام) * * (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله) *) عذاب الله " * (عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي) *) محمد " * (وما أنزل إليه) *) من القرآن " * (وما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون) *) يعني من لم يسلم.
2 (* (لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى ذالك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترىأعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنآ ءامنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جآءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين * فأثابهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذالك جزآء المحسنين * والذين كفروا وكذبوا بئاياتنآ أولائك أصحاب الجحيم * ياأيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذىأنتم به مؤمنون * لا يؤاخذكم الله باللغو فىأيمانكم ولاكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذالك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذالك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تشكرون) *) 2
" * (لتجدن) *) يا محمد " * (أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود) *) يهود أهل المدينة.
أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسين، أبو جعفر علي بن محمد بن أحمد الصفار الهمداني، أبو علي عبد الله بن علي بن الزبير النخعي، إسماعيل بن بهرام الأشجعي، عباد ابن العوام عن يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله).
" * (والذين أشركوا) *) مشركي العرب " * (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) *) لم يرد به جميع النصارى مع ما فيهم من عداوة المسلمين وتخريب بلادهم وهدم
97

مساجدهم وقتلهم وأسرهم وإحراق مصاحفهم لا ولا كرامة لهم وإنما نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه.
قال المفسرون: أئتمرت قريش بأن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على محمد فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فأفتن ما أفتن وعصم الله منهم من شاء ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: (إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد).
فأخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا وأراد به النجاشي واسمه أصحمة وهو الحبشة عطية فإنما النجاشي اسم الملك كقوله قيصر وكسرى فخرج إليها سرا عشرون رجلا وأربع نسوة وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير بن العوام وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية وعثمان بن مضعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة وحاطب بن عمرو وسهيل بن البيضاء فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الهجرة الأولى، ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردهم إليه فيعصمهم الله وقد ذكرت هذه القصة في سورة آل عمران، فلما انصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرته إلى المدينة وذلك في سنة ستة من الهجرة كتب رسول الله (عليه السلام) إلى النجاشي على يدي عمرو بن أمية الضمري يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت هاجرت مع زوجها فمات زوجها وبعث إليه من عنده من المسلمين.
فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية لها يقال لها أبرهة فزوجها حطيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها وأعطتها أوضاحا لها سرورا بذلك وأمر بها أن يوكل من زوجها فوكلت خالد بن الوليد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول الله النجاشي فدعا النجاشي بأربعمائة دينار وأخذها إلى أم حبيبة على يدي أبرهة فلما جاءتها بها أعطتها منها خمسين دينارا فقالت أبرهة: قد أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئا فإن أرد الذي أخذت منك وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرأه مني السلام قالت: نعم، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر
98

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكره، فقالت: أم حبيب: فخرجنا في سفينتين وبعث النجاشي معنا الملاحين حتى قدمنا الجار ثم ركبنا الظهر إلى المدينة فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي وقرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (لا أدري أنا بفتح خيبر أشد أم بقدوم جعفر) وأنزل الله تعالى " * (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة) *) يعني أبا سفيان مودة بتزويج أم حبيبة (فقيل لأبي سفيان وهو يومئذ مشرك يحارب النبي صلى الله عليه وسلم إن محمدا قد نكح ابنتك قال: ذاك الفحل لا يقرع أنفه).
وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه أرها بن أصحمة مع ستين رجلا من الحبشة، وكتب إليه: يا رسول الله أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك أرها وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليكم يا رسول الله.
فركبوا سفينة مع جعفر وأصحابه، حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ورأى جعفر وأصحابه رسول الله في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم خيرة الحبشة الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وتمام ومريد وأيمن فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا. حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: جئتنا بما كان ينزل على عيسى (عليه السلام) فأنزل الله تعالى فيهم " * (لتجدن أشد الناس عداوة) *) إلى قوله " * (النصارى) *) يعني وفد النجاشي الذين غرقوا مع جعفر بن أبي طالب وهم السبعون وكانوا أصحاب الصوامع.
وقال مقاتل والكلبي: كانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون في الحبشة وثمانية من أهل الشام.
عطاء: كانوا ثمانين رجلا أربعون رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام.
وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من أهل الحق وكانوا لعيسى يؤمنون به وينتهون إليه فلما بعث الله محمدا صدقوه وآمنوا به فأثنى الله عليهم ذلك " * (بأن منهم قسيسين) *)، أي علماء.
قال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم.
وقال ورقة:
99

بما خبرتنا من قول قس
من الرهبان أكره أن يعوجا
وقال عروة بن الزبير حرفت النصارى الإنجيل فأدخلوا فيه ما ليس منه وكان الذي غير ذلك أربعة نفر لوقاس ومرقوس ويحنس ومتيوس، وبقي قيس على الحق وعلى الإستقامة والاقتصاد فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس.
عبد الله بن يوسف بن أحمد، محمد بن حامد بن محمد التميمي الحسن بن الهيثم السمري، عبد الله بن محمد، يحيى بن الحمامي، نصير عن زياد الطائي عن الصلت الدهان عن (حامية) بن رئاب عن سلمان قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا فاقرأ في ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا والرهبان العباد وهم أصحاب الصوامع وأخذهم راهب مثل فارس وفرسان، وراكب وركبان، وقد يكون واحدا وجمعه رهابين، مثل قربان وقرابين، وجردان وجرادين، وأنشد في الواحد:
لو كلمت رهبان دير في القلل
لانحدر الرهبان يسعى فنزل
وأنشد في الجمع:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا
العصم من شعف العقول الغادر
وهو من قول القائل: رهب الله أي خافه، يرهبه رهبة ورهبا ورهبانا " * (وأنهم لا يستكبرون) *) لا يتكبرون عن الإيمان والإذعان للحق " * (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول) *) محمد صلى الله عليه وسلم " * (ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) *).
أبو عثمان بن أبي بكر الزعفراني، شيخي، أبو جعفر بن أبي خالد عبد الرحمن بن عمر ابن يزيد، ابن أبي عدي، سعيد عن عمرو بن مرة قال: قدم على أبي بكر الصديق وفد من اليمن. فقالوا: إقرأ علينا القرآن، فقرأ عليهم القرآن فجعلوا يبكون فقال أبو بكر: كذا كنا حتى قست القلوب، وكان أبو بكر لا يملك دمعة حين يقرأ القرآن " * (يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) *) يعني أمة محمد (عليه السلام) دليله قوله * (لتكونوا شهداء على الناس) * * (وما لنا لا نؤمن بالله) *)
إلى قوله " * (الصالحين) *) أي في أمة محمد (عليه السلام) دليله قوله " * (يرثها عبادي الصالحون) *) * * (فأثابهم الله) *) جازاهم الله " * (بما قالوا) *) إلى قوله " * (خالدين فيها أبدا) *) على قولهم بالإخلاص بدليل قوله " * (وذلك جزاء المحسنين والذين كفروا.) *..) *) الآية
100

" * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا) *) الآية.
قال المفسرون: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر الناس يوم القيامة ولم يزدهم على التخويف فرق الناس وبكوا فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم: أبو بكر وعلي، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويصوموا الليل ولا يناموا على فرشهم، ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسموح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض فيذهبوا ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان بن مظعون، فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكم بنت أبي أمية: أين الحولاء وكانت عطارة: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله وكرهت أن تبدي على زوجها، فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل عثمان أخبرته بذلك، فأتى رسول الله هو وأصحابه.
فقال لهم: (ألم أنبأ إنكم إتفقتم على كذا وكذا)، قالوا: بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير، فقال (عليه السلام): إني لم أؤمر بذلك ثم قال: (إن لأنفسكم عليكم حقا صوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ومن رغب عن سنتي فليس مني).
ثم جمع الناس وخاطبهم ثم قال: (ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء واتخاد الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقيم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم باطلا بإقدامهم في الديرات والصوامع فأنزل الله تعالى هذه الآية).
وروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: ضاف عبد الله بن رواحة ضيفا فانقلب ابن رواحة ولم يتعش فقال لزوجته: ما عشيتيه؟ فقالت: كان الطعام قليلا فانتظرتك، فقال: جست ضيفي من أجلي؟ طعامك علي حرام فقالت: وهو علي حرام إن لم تأكله. وقال الضيف: وهو حرام إن ذقته إن لم تأكلوه، فلما رأى ذلك ابن رواحة، قال: قربي طعامك كلوا بسم الله وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال (عليه السلام): أحسنت ونزلت هذه الآية.
روى عكرمة عن ابن عباس: إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني
101

صمت من اللحم فأشريت، وأخذتني شهوة فحرمت اللحم، فأنزل الله " * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) *) يعني اللذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب، وما أحل الله لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة " * (ولا تعتدوا) *) ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام.
وقيل: هو جب المذاكير وقطع آلة التناسل " * (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) *) قال عبد الله بن المبارك: الحلال ماأخذته من وجهه والطيب ما غذا ونما فأما الجوامد والطين والتراب، وما لا يغذي فمتروك إلا على جهة للتداوي " * (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) *).
روي عن عائشة وأبي موسى الأشعري أن النبي (عليه السلام) كان يأكل الفالوذج والدجاج وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال: (إن المؤمن حلو يحب الحلاوة). وقال: (في بطن المؤمن زاوية لا يملأها إلا الحلواء).
وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السبخي فقال: يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال فرقد: لا آكله فلا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال: يا هذا أتحب لباب البر مع سمن البقر؟ هل يعيبه مسلم.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: إن لي جار لا يأكل الفالوذ، قال: ولم؟ قال: يقول: لا يروي شكره. قال الحسن: ويشرب الماء البارد؟ قال: نعم، قال: جارك جاهل إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ.
قال ابن عباس: لما نزلت " * (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) *) الآيتين، قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا فأنزل الله تعالى " * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) *) قرأ أهل الحجاز والبصرة " * (عقدتم) *) مشددا بمعنى وكدتم، واختار أبو حاتم فقرأها أهل الكوفة بالتخفيف واختاره أبو عبيدة. (والتشديد التكرير مرة بعد مرة،......) أمن أن يلزم من قرائتك. (الفراء): أن لا يوجب الكفارة عليه في اليمين الواحدة متى يرددها مرارا وهذا خلاف الإجماع. وقرأ أهل الشام: عاقدتم بالألف، يكون من واحد مثل: جاياك الله ونحوها.
وقرأ الأعمش بما " * (عقدت الأيمان) *) جعل الفعل الإتيان.
ومعنى الآية ما قصدتم وتعمدتم وأردتم ونويتم كقوله " * (بما كسبت قلوبكم) *))
.
102

" * (فكفارته) *) أي كفارة ما عقدتم من الأيمان إذا حلفتم " * (إطعام عشرة مساكين) *) واختلفوا في قدرها.
فقال الشافعي: مد وضوء النبي (عليه السلام) والمد رطل وثلث، وكذلك في جميع الكفارات، وهو قول ثابت وابن عباس وابن عمر وابن المسيب والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء والحسن واحتجوا بها.
أبو بكر الجورقي، أبو العباس بن منصور الفيروزآبادي، أحمد بن حفص حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن منصور بن المعتمر عن الزهري عن حمد بن عبد
الرحمن عن أبي هريرة قال: رجل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني وقعت على أهلي وذلك في رمضان، فأمره أن يعتق رقبة، قال: ماأجدها، قال: (فصم شهرين متتابعين) قال: ما أطيقه، قال: (فأطعم ستين مسكينا)، قال: ما أجد، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيل فيه خمسة عشر صاعا من تمر، قال: (خذ هذا فأطعمه)، قال: والذي بعثك بالحق ما بين) لا بتيها أدل شيء هو منها (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خذه في أطعمة أهلك) (.........) وخمسة عشر صاعا إذا قسم على ستين مسكينا خص كل مسكين له مد.
وقال أبو حنيفة: إن أطعم من الحنطة نصف صاع وإن أطعم من الشعير والتمر والزيت ونحوها فإنه يعطى صاعا كاملا لا يجزي أقل من ذلك، وقول عمر بن الخطاب وابنه والنخعي والشعبي وابن جبير ومجاهد والحكم والضحاك واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتي بوسق صاعا فأعطى رجلا وجبت عليه كفارة، وقال: (أعطه لستين مسكينا).
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومحمد بن كعب: غداء وعشاء، وعند الشافعي لا يجوز أحد القيم في الزكوات والكفارات، وأجاز أبو حنيفة فاعتبر الشافعي النص. وأبو حنيفة المنفعة والمصلحة، وعند الشافعي لا يجوز أن يعطى أقل من عشرة مساكين وأبو حنيفة إن أعطى مسكينا في عشرة أيام جاز، وقال الشافعي: لا يجوز أن يعطي الكفارة إلا حرا مسلما محتاجا ولا يجوز أن يعطى العبيد والكفار ولا الأغنياء.
فقال أبو حنيفة: إن أعطى الكفارة أهل الذمة جاز فأما الزكاة فلا يجوز أن يعطى أهل الذمة بلا خلاف، ودليل الشافعي قوله " * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) *) والكافر من أسفه السفهاء قال الله " * (ألا إنهم هم السفهاء) *) وحجة أبي حنيفة قوله " * (ويطعمون الطعام على
103

حبه) *) الآية. (والأسير) لا يكون إلا من الكافرين " * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) *) أي من خير قوت عيالكم فلو إنه يقتات الحنطة لم يخوله أن يعطى الشعير.
وقرأ الصادق: أهاليكم " * (وكسوتهم) *) قرأه العامة: بكسر الكاف، وقرأ السلمي نصبه. وهما لغتان مثل إسوة وأسوة، ورشوة ورشوة.
وقرأ ابن جبير أو كاسوتهم يعني كاسوة أهلك في الطعام والأسوة الميل والتمايل أي يطعمون المساكين كما يطعمون أهليكم، واختلف العلماء في الكسوة التي تجري في الكفارات وقال قوم: هي ثوب واحد مما يقع عليه اسم الكسوة أزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو كساء أو عمامة ونحوها. وهو قول ابن عباس والحكم والحسن ومجاهد وعطاء والباقر وإليه ذهب الشافعي. وقال آخرون: ثوب جامع لا تجزي فيها العمامة، وهو مذهب النخعي وأبي حنيفة وقال (مالك كل) ما يجوز فيه الصلاة.
وقال ابن المسيب والضحاك: لكل مسكين ثوبان، واحتجا بأن أبا موسى الأشعري كان بذمته كفارة فكسا عشرة مساكين لكل واحد ثوبين ظهرانيا ومعقدا من معقد البحرين.
وقال شهر بن حوشب: ثوب ثمنه خمسة دراهم " * (أو تحرير رقبة) *).
قال الشافعي: لا يجوز في كفارة واجبة إلا رقبة مؤمنة، مثل كفارة القتل واليمين والظهار والجماع في نهار رمضان.
والسدي (والوصيفة) ووافقه أبو حنيفة في كفارة القتل وأجاز في غيرها الرقبة الكافرة، ودليل الشافعي أن الله عز وجل قاله في كفارة القتل " * (فتحرير رقبة مؤمنة) *) فقيد وأطلق في سائرها والمطلق محمول على المقيد واحتج أيضا بما روى: إن رجلا جاء إلى النبي (عليه السلام) فقال: أوجبت يا رسول الله، فقال: إعتق رقبة فجاء برقبة أعجمية إلى النبي (عليه السلام)، فقال لها رسول الله: من ربك؟ ففهمها الله فأشارت إنه واحد، فقال: من أنا؟ فأشارت إلى السماء أي إنك رسول الله، فقال (عليه السلام): (اعتقها فإنها مؤمنة) وأوجبت لفظة مطلقة (يحتمله).
وروى أبو سلمة عن الشديد أن أمه أوصت أن يعتق عنها رقبة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أمي أوصت أن يعتق عنها رقبة وعندي جارية نوبية سوداء أفأعتقها؟ قال: أدع بها فجيء بها، فقال: من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا، قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة، واتبع أبو حنيفة ظاهر الآية
104

ويجوز في الكفارة من الرقاب الصغير والكبير والذكر والأنثى، وأما إذا كان معيوبا فاعلم أن العيب عيبان عيب يمنعه من العمل. فلا يجوز مثل الأعمى، والأشل والمقعد والمجنون المطبق والأخرس. فإن كان عيبا خفيفا لا يمنعه من العمل فيجوز مثل الأجدع والمقطوع الخنصر ونحوها وهذا كما يقول في الكسوة. فإن كان الثوب لبيسا قد بلي وانقطع منه جل المنفعة لم يجز وإن لبس خفيفا لم ينقطع منه جل المنفعة. والمكفر بالخيار، مخير بين هذه الأشياء لأن الله ذكره بلفظ التخيير وهو أو " * (فمن لم يجد) *) واختلف الفقهاء في صفة من لم يجد متى يجوز له الصيام.
فقال أبو حنيفة: إذا كان عندهم (مائتا) درهم وعشرون مثقالا أو أقل ما يجب فيه الزكاة لم يجز له الصيام، فإن كان أقل من ذلك فهو غير واجد وجاز له الصوم.
وقال متأخرو الفقهاء: إذا كان له كفاية من المال يتصرف فيها لمعاشه. فإن فضل عن رأس ماله مقدار ما يكفر منه بالإطعام فليس له أن يصوم وإن لم يفضل عن رأس ماله مقدار ما يطعم فله أن يصوم.
وقال الشافعي: إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالطعام وإن لم يكن عنده هذا القدر فله الصيام.
وقال بعضهم: إذا ملك ما يمكنه الإطعام فليس له الصيام وإن لم يفضل له من الكفاية شيء. وهو قول ابن جبير والحسن قالا: إذا كان عنده درهمان وثلاثة فهو واحد وإن لم يجد شيئا من هذا " * (فصيام) *) أي فعليه أي فكفارته صيام " * (ثلاثة أيام) *) واختلفوا في كيفية الصيام.
فللشافعي فيه قولان، أحدهما: إنها متتابعة وإن فرده لم يجز، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري واختيار المزني قياسا على الصوم في كفارة الظهار واعتبارا بقراءة عبد
الله وأبي، فصيام ثلاثة أيام متتابعان وهذا قول ابن عباس وقتادة. والقول الثاني: إنه بالخيار إن شاء تابع وإن يشأ فرق والمتابعة أحسن وأفضل وهو مذهب مالك.
" * (ذلك) *) الذي ذكرت " * (كفارة أيمانكم إذا حلفتم) *) قسمتم كقوله " * (فعدة من أيام أخر) *) وقوله " * (ففدية من صيام) *) يعني) فأقصر وأحلق * (* (واحفظواأيمانكم) *) فلا تحلفوا فإذا حلفتم فلا تحزنون " * (كذلك يبين الله لكم آيته لعلكم تشكرون) *))
.
105

2 (* (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلواة فهل أنتم منتهون * وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين * ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين * ياأيها الذين ءامنوا ليبلونكم الله بشىء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذالك فله عذاب أليم * ياأيها الذين ءامنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذالك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام * أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذىإليه تحشرون) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر) *) وقد مر تفسيره، فإن جمعه تحريمها وسنذكر أخبارا في الوعيد الوارد في شربها واتخاذها وبيعها وبالله التوفيق.
عن الشيخ أبو عمرو أحمد بن أبي الفراني، الحاكم أبو الفضل محمد بن أحمد بن عبد الله المروزي حدثني عبد الله بن يحيى حدثني الحسين بن المبارك حدثني عتبة بن الوليد عن عبد الله ابن حبيب عن الزهري عن ابن المسيب عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله لا يجمع الخمر والإيمان في إمرىء أبدا).
أحمد بن أبي، عمران بن موسى، ومارود بن بطن، عثمان بن أبي شيبة، محمد بن أبي سلمى الأصفهاني عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مدمن الخمر كعابد الوثن).
أحمد بن أبي، محمد بن يعقوب، الربيع بن سليمان، الشافعي مالك عن نافع عن ابن عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة).
أحمد بن أبي، أبو عبد الله بن محمد بن موسى الرازي، الحرث بن أبي أسامة البغدادي، داود ابن المحسن الواسطي، ميسر بن عبد ربه عن أبي عائشة السعدي عن يزيد بن عمر بن عبد
106

العزيز عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وابن عباس جميعا قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من شرب الخمر في الدنيا سقاه الله من سم الأساود وسم العقارب، من شربها تساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها فإذا شربها (تفسخ لحمه) ينادي به أهل الجمع ثم يؤمر به إلى النار إلا وشاربها وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومبتاعها وحاملها والمحمول إليه وكل فيها سواء في إثمها وحاد بها، ولا يقبل الله منه صلاة ولا صياما ولا حجا ولا عمرة حتى يتوب فإن مات قبل أن يتوب منها كان حقا على الله يعاقبه فيه بكل جرعة شربها في الدنيا شربة من صديد جهنم ألا وكل مسكر خمر وكل خمر حرام).
أحمد بن أبي، أبو العباس الأصم، أحمد بن إسحاق الصنعاني، أبو نعيم، عبد العزيز بن محمد ابن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من أهل مصر عن ابن عمر أنه قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه وأكل ثمنها).
أحمد بن أبي، أبو العباس الأصم، محمد بن إسحاق بن جعفر الصنعاني، نعيم بن ماد، عبد العزيز بن محمد عن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر ولا يموتن أحدكم وعليه دين فإنه ليس هناك دينار ولا درهم وإنما يقتسمون هناك الحسنات والسيئات واحد بيمينه وواحد بشماله).
أبو بكر أحمد بن محمد القطان، محمد بن الحسين بن محمد الدهقان، عثمان بن سعيد الدارمي، الربيع بن الروح أبو توبة الحلبي، محمد بن الحرمي عن حكم بن عيينة عن محمد بن (المنكدر) عن علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من شرب الخمر بعد أن حرمها الله على لساني فليس له أن يزوج إذا خطب ولا يصدق إذا حدث ولا يشفع إذا شفع ولا يؤتمن على أمانة فمن أئتمنه على أمانة فاستهلكها فحق على الله عز وجل أن لا يخلف عليه).
أنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا أبو العباس عبد الله بن محمد الجبائي، أنشدنا رضوان ابن أحمد الصيدلاني شعرا:
107

تركت النبيذ لأهل النبيذ
وصرت حليفا لما عابه
شرابا يدنس عرض الفتى
ويفتح للشر أبوابه
" * (والميسر والأنصاب) *) أي الأوثان، سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها، واحدها: نصب بفتح النون وجزم الصاد، ونصب منهم النون مثقلا ومخففا " * (
والأزلام) *) يعني القداح التي كانوا يقتسمون بها " * (رجس من عمل الشيطان) *) تزينه " * (فاجتنبوه) *) رد الكناية إلى الرجس " * (لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع) *) يلقي " * (بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) *) كما فعل الأنصاري الذي (شج) سعد بن أبي وقاص (بلحي) الجمل " * (ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) *) كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف " * (فهل أنتم منتهون) *) أي إنتهوا لفظه استفهام ومعناه أمر كقوله * (فهل أنتم شاكرون) * * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا) *) المحارم والملاهي " * (فإن توليتم) *). عن ذلك " * (فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين) *) فإما التوفيق والخذلان، والثواب والعقاب فإلى الله سبحانه، فلما نزل تحريم الخمر والميسر، قالت الصحابة: يا رسول الله ما تقول في إخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فأنزل الله " * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) *) شربوا الخمر نظيره قوله " * (ومن لم يطعمه فإنه مني) *) وفيما أكلوا من الميسر ذلك ذكر المنعم لأنه لفظ جامع " * (إذا ما اتقوا) *) الشهوات " * (وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا) *) الخمر والميسر بعد تحريمهما " * (ثم اتقوا) *) حرم الله عليهم كله " * (وأحسنوا والله يحب المحسنين) *).
الحسين بن محمد بن فنجويه، عمر بن الخطاب، محمد بن إسحاق الممسوحي، أبو بكر ابن أبي شيبة، محمد بن بكر عن سعد بن عوف عن محمد بن حاطب قال: ذكر عثمان قال الحسن بن علي: هذا أمير المؤمنين يأتيكم خبركم فجاء علي فقال: إن عثمان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين " * (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد) *) الآية، نزلت عام الحديبية ابتلاهم الله بالصيد فكان الوحش يغشى رجالهم كثير وهم محرمون فبينما هم يسيرون بين مكة والمدينة إذ عرض إليهم حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر بن عمرو فطعنه برمحه فقتله فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت حرم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فأنزل الله " * (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله) *) ليختبرنكم الله " * (بشيء من الصيد) *) وإنما بعض فقال بشيء لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصة " * (تناله أيديكم) *) وهي الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر من الصيد الوحش " * (ورماحكم) *) وهي الوحش وكبار الصيد " * (ليعلم الله) *) ليرى الله من يخافه بالغيب ولم يره " * (من يخافه بالغيب) *) فلا يصطاد في حال الإحرام " * (فمن اعتدى بعد ذلك) *) أي صاده بعد تحريمه فاستحله " * (فله عذاب أليم يا أيها
108

الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *) أي محرمون بالحج والعمرة وهو جمع إحرام يقال رجل حرام وامرأة حرام " * (ومن قتله منكم متعمدا) *) اختلفوا في صيغة العمد الموجب للجزاء والكفارة في قتل الصيد، قال: حرموا العمد في قتل الصيد مع نسيانه لإحرامه في حال قتله فأما إذا قتله عمدا وهو ذاكرا لإحرامه فلا حكم عليه وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة.
قرأ مجاهد والحسن وقال آخرون: هو العمد من يحرم بقتل الصيد ذاكر الحرمة فيحكم عليه في العمد والخطأ وهو إختيار الشافعي وأكثر الفقهاء.
وقال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ.
وقال ابن عباس: إن قتله متعمدا مختارا سئل: هل قتلت قبله شيئا من الصيد؟ فإن قال: نعم لم يحكم عليه وقيل له: إذهب فينتقم الله منك. وإن قال: لم أقتل قبله شيئا حكم عليه فإن عاد وقتل الصيد محرما بعد ما حكم عليه لم يحكم عليه ولكن يملأ ظهره وصدره ضربا وجيعا، وكذلك حكم رسول الله (عليه السلام) في وج وهو وادي بالطائف، وعندنا إذا عاد يحكم عليه وعليه الجمهور بذلك.
قوله: " * (فجزاء مثل ما قتل من النعم) *) نونها يعقوب وأهل الكوفة ورفعوا المثل على البدل من الجزاء، كأنه فسر الجزاء فقال: مثل ما قيل من النعم وأضافها الآخرون لاختلاف الإسمين " * (يحكم به) *) أي بالجزاء " * (ذوا عدل منكم) *) أي فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به حتى يفديه ويهديه إلى الكعبة فإن قتل نعامة فعليه بدنة فإن قتل بقرة أو إبلا أو حمارا فعليه بقرة وإن قتل بقرة وحشية فعليه عجل إنسي وفي الضبع كبش لأنه صيد وأكله حلال.
وأما السباع فلا شيء فيها وإن قتل ضبيا فعليه شاة، وفي الغزال والأرنب جمل، وفي الضب واليربوع سخلة، وفي الحمام والفواخت والقمري والدبسي وذوات الأطواق وكل ما عبث وهدر شاة، واختلفوا في الجراد وروي عن عمر أنه قال لكعب وقد قتل جرادتين: ما جعلت على نفسك، قال: درهما قال: بخ، قال: درهم خير من مائة جرادة.
وروي عن عمر أيضا في الجرادة تمرة.
قال ابن عباس: قبضة من طعام فإن أصاب فرخا أو بيضا أو شيئا لا يبلغ بهيمة فعليه قيمته طعاما، وهو قول عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر وإليه ذهب الشافعي، وعليه جمهور أهل العلم، قال النخعي: يقوم الصيد المقتول قيمته من الدراهم فيشتري بثمنه فداء من النعم ويهديه إلى الكعبة
109

وروى عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجا وكنا إذا صلينا الغداة أفسدنا رواحلنا نتماشى ونتحدث، فبينا نحن ذات غداة إذ سنح لنا ضبي) فابتدرناه (فابتدرته ورميته بحجر فأصاب حشاه فركب ردعه فمات فلما قدمنا مكة سألنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وكان حاجا وكان جالسا وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف فسألته عن ذلك، فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ فقال: عليه شاة قال: وأنا أرى ذلك. قال: إذهب فأهد شاة فخرجت إلى صاحبي فقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال: فلم (يفجأنا) إلا وعمر معه درة فعلاني بالدرة فقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم، قال الله " * (يحكم به ذوا عدل منكم) *) فأنا عمر وهذا عبد الرحمن.
محمد بن عبدوس عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن القاسم بن علام عن أبي أمية عن أبي (صوليه) عن عبد الملك بن عمير: أو كفارة طعام مساكين إذا
لم يكن واجدا للفدية أو لم يكن للمقتول مثل من النعم فكفارته حينئذ الإطعام. يقوم الصيد المقتول دراهم ثم يقوم الدراهم طعاما فتصدق على مساكين الحرم فإن لم يجد فصيام لكل نصف صاع يوما عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: لكل مد وعنده إنه يخير من هذه الأشياء الثلاثة فإنه ذكرها تلفظا وهو قول مجاهد وعطاء، واختلفوا في تقويم الطعام.
فقال الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء: يقوم الصيد قيمة الأرض التي أصابه بها.
وقال الشعبي: يقوم بسعر الأرض التي يكفر بها. قال جابر: سأل الشعبي عن محرم أصاب صيدا بخراسان. قال: يكفر بمكة بثمن مكة.
واختلفوا في الإطعام أين يطعم؟.
فقال قوم: يطعم بمكة فلا يجزي إلا بها، وهذا قول عطاء وإليه ذهب الشافعي.
فأما الهدي فلا يجوز إلا بمكة بلا خلاف. فأما الصوم فيجوز بأي موضع صام بلا خلاف فلو أكل من لحم صيد فلا جزاء عليه إلا في قتله أو جرحه ولو دل على صيد كان مسيئا جزاء عليه كما لو أمر بقتل مسلم لا قصاص عليه وكان مسيئا.
واعلم أن الصيد الذي لا يجوز قتله في الحرم وفي حال الإحرام هو ما حل أكله.
أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري، أبو بكر البستي، أبو عبد الرحمن البستي، قتيبة ابن سعد عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خمس ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة والكلب العقور
110

.
وبه عن عبد الرحمن عمرو بن علي عن يحيى عن شعبة عن قتادة عن ابن المسيب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس يقتلهن المحرم: الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور).
" * (ليذوق وبال أمره) *) جزاء معصيته " * (عفا الله عما سلف) *) في الجاهلية " * (ومن عاد) *) في الإسلام " * (فينتقم الله منه) *) في الآخرة.
وقال ابن عباس: يملأ ظهره سوطا حتى يموت.
السدي: عاد رجل بعد ما حكم عليه بالتحريم وأحرقه الله بالنار.
* (والله عزيز ذو انتقام) * * (أحل لكم صيد البحر) *) على المحرم والحلال. وهو على ثلاثة أوجه: الحيتان وأجناسها وكلها حلال، والثاني: الضفادع وأجناسها وكلها حرام. والثاني فيه قولان، أحدهما: حلال، والثاني: حرام، وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال بعضهم: كل ما كان مثاله في البر فهو حلال في البحر وما كان مثاله) جزاء ما (في البر فهو حرام في البحر.
فأراد بالبحر جميع المياه لقوله * (ظهر الفساد في البر والبحر) * * (وطعامه) *) قال بعضهم: هو ما مات في الماء فقذفه الماء إلى الساحل ميتا وهو قول أبي بكر وعمر وابنه وأبي هريرة وابن عباس، وقال بعضهم: هو المليح منه، وهو قول ابن جبير وعكرمة والنخعي وابن المسيب وقتادة " * (متاعا لكم وللسيارة) *) يعني المارة.
" * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) *) لا يجوز للمحرم أكل الصيد إذا صاد هو وصيد له بأمره فأما إذا صاده حلال بغير أمره ولا له فيجوز له بلا خلاف.
فأما إذا قتله المحرم فهل يجوز أكله أم لا؟.
قال الشافعي: يجوز لأنه ذكاة مسلم، وعند أبي حنيفة لا يجوز فأحله محل ذكاة المجوس، ودليل الشافعي، أبو عبد الله (الفنجوي)، أبو بكر السني، النامي، محمود بن عبد الله، أبو داود، سعيد عن عثمان بن عبد الله موهب سمعت عبد الله بن أبي قتادة حدث عن أبيه إنهم كانوا في مسير لهم في بعضهم ليس بمحرم، قال: فرأيت حمارا وحشيا، فركبت فرسي وأخذت الرمح واستعنتهم فأبوا أن يعينوني فاختلست سوطا من بعضهم فشددت على الحمار وأخذته فأكلوا منه فأشفقوا فسئل عن ذلك النبي (عليه السلام) فقال: هل محرم عنيتم؟ قالوا: لا، قال: فكلوا.
111

وبإسناده عن النسائي قال: (حدثنا)، قتيبة بن سعيد عن يعقوب وهو ابن عبد الرحمن بن عمرو عن المطلب عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو صيد لكم).
" * (واتقوا الله الذي إليه تحشرون) *))
.
* (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ذالك لتعلموا أن الله يعلم ما فى السماوات وما فى الارض وأن الله بكل شىء عليم * اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم * ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون * قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله ياأولى الالباب لعلكم تفلحون * ياأيها الذين ءامنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرءان تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين * ما جعل الله من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام ولاكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون * وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنآ أولو كان ءاباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) *) 2
" * (جعل الله الكعبة البيت الحرام) *). الآية.
قال ابن عباس: كانوا يتغادرون ويتقاتلون فأنزل الله " * (جعل الله الكعبة) *).
قال مجاهد: سميت كعبة مربع والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة.
وقال مقاتل: سميت كعبة لانفرادها من البنيان.
قال أهل اللغة: أصلها من الخروج والإرتفاع وسمي الكعب كعبا لخروجه من جانبي القدم، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرجت ثدياها: قد تكعبت، فسميت الكعبة كعبة لارتفاعها من الأرض، وثباتها على الموضع الرفيع، وسميت البيت الحرام لأن الله حرمه وعظم حرمته.
وفي الحديث: (مكتوب في أسفل المقام: إني أنا الله ذو بكة حرمتها يوم خلقت السماوات والأرض. ويوم وضعت هذين الجبلين وحففتهما بسبعة أملاك حفا من جاءني زائرا لهذا البيت عارفا بحقه مذعنا لي بالربوبية حرمت جسده على النار).
" * (قياما للناس) *) أي قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم وصلاحا لمعاشهم ومعادهم لما
112

يحصل لهم من الحج والعمرة والزيارة والتجارة وما يجبى إليه من الثمرات ويظهر فيه من أنواع البركات.
فقال ابن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه " * (والشهر الحرام) *) أراد به الأشهر الحرم يأمن فيها الناس " * (والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم) *) الآية.
إعترض على هذه الآية وقيل: كيف يليق أول الآية بآخرها؟ فالجواب أن مجاز الآية إن الله يعلم صلاح الناس كما يعلم " * (ما في السماوات وما في الأرض) *) الآية " * (إعلموا أن الله شديد العقاب) *) الآيتين " * (قل لا يستوي الخبيث والطيب) *) يعني الحلال والحرام.
" * (ولو أعجبك كثرة الخبيث) *) نزلت في شرح بن صبيعة وحجاج بكر بن وائل " * (فاتقوا الله) *) ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين.
وقد مضت القصة في أول السورة " * (يا أولي الألباب) *) الآية " * (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء) *) الآية، اختلفوا في نزولها، فروى الزهري وقتادة عن أنس وأبو صالح عن أبي هريرة قالا: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ألحوا بالمسألة فقام مغضبا خطيبا وقال: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء في مقامي هذا لآتيته لكم، فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد مضى، قال أنس: فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلا وجدت رجلا لافا رأسه في ثوبه يبكي، فقام إليه رجل من قريش من بني تميم يقال له عبد الله بن حذافة: وكان يطعن في نسبه وكان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: أبو حذافة بن قيس).
قال الزهري: فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدا بأعق منك قط أكنت تأمن أن تكون أمك قد فارقت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤس الناس.
فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته، فقام إليه رجل آخر فقال: يا رسول الله أين أنا؟ قال: في النار.
فقام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وقبل رجل رسول الله وقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما، إنا يا رسول الله حديثو عهد بالجاهلية والشرك فاعف عنا عفى الله عنك فسكن غضبه وقال: (أما والذي نفسي بيده لقد صورت لي الجنة والنار أنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر).
وقال ابن عباس: كانوا قوم يسألون رسول الله (عليه السلام) إمتحانا بأمره، واستهزاء به، فيقول له بعضهم من أبي؟ ويقول الآخر: أين أنا؟ ويقول الآخر إذا خلت ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية
113

وقال علي وأبو أمامة الباهلي: خطب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إن الله كتب عليكم الحج). فقام رجل من بني أسد يقال له عكاشة بن محسن فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا، فقال (عليه السلام): (ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلت نعم لوجبت، ولو أوجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني كما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية حين قالوا لرسول الله عن البحيرة والسائبة ألا ترى يقول بعد ذلك ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة الآية " * (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) *) تسؤكم لأن القرآن إنما ينزل بإلزام فرض فيشق عليكم أو شيء كان حلالا لكم " * (عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم) *) كما سألت ثمود صالحا الناقة، وقوم عيسى المائدة " * (ثم أصبحوا بها كافرين) *) فأهلكوا.
روى مكحول الشامي عن أبي ثعلبة الخشني قال: إن الله فرض فرائض فلا تسبقوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها.
" * (ما جعل الله) *) ما أنزل الله ولا من الله ولا أمر به نظيره قوله " * (إنا جعلناه قرآنا عربيا) *) أي أنزلناه، " * (من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) *).
وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التميمي عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكتم بن الجون: يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا بك منه، وذلك إنه أول من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان،
ونحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، ولقد رأيت في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه) فقال أكثم: تخش أن يضرني شبهه يا رسول الله، قال: (لا أنت مؤمن وهو كافر).
قال: وذلك أن الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة إناثا سيبت فلم يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم يخلى سبيلها مع إنها في الإبل يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها وهي البحيرة بنت السائبة.
وقال ابن عباس: على إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس،
114

فإن كان ذكرا نحروه، فأكله الرجال والنساء جميعا وإن كانت أنثى شقوا أذنها فتلك البحيرة ولا يجز لها وبر، ولا يذكر عليها اسم الله إن ذكيت ولا يحمل عليها وحرمت على النساء لا يذقن من ألبانها ولا ينتفعن بها وكانت لبنها ومنافعها خاصة للرجال دون النساء حتى تموت، وإذا ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها.
وقيل: هو إنهم كانوا إذا ولد السقب بحروا أذنها وقالوا: اللهم إن عاش ففتي وإن مات فذكي، فإذا مات أكلوه.
وأما السائبة فكان الرجل يسيب من ماله فيجيء به إلى السدنة فيدفعه إليهم فيطعمون منه أبناء السبيل من ألبانها ولحمانها إلا النساء فإنهم كانوا لا يعطونهن منها شيئا حتى يموت فإذا مات أكلها الرجال والنساة جميعا.
وقال علقمة: هي العبد (يسيب) على أن لا يكون له ولاء ولا عقل، وله ميراث. فقال (عليه السلام): (إنما الولاء لمن أعتق). وإنما أخرجها بلفظ الفاعلة وهي بمعنى المفعولة وهي المسيبة والمخلاة على مذهب قوله (ماء دافق وعيشة) راضية، وأما الوصيلة فهي الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان البطن السابع ذكرا ذبحوه وأهدوه للآلهة، وإن كانت أنثى إستحيوها، فإن كانت ذكرا أو أنثى إستحيوا الذكر من أجل الأنثى.
وقالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوه، وأما الحامي فهو الفحل إذا ركب ولد فيلده قبل حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا رعي إلا أن يموت فيأكله الرجال والنساء قال الله " * (ولكن الذين يفترون) *) يختلقون " * (على الله الكذب) *) في قولهم: والله أمرنا بها " * (وأكثرهم لا يعقلون وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول) *) في تحليل الحرث والأنعام وبيان الشرائع والأحكام " * (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا من الذين) *) قال الله تعالى " * (أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) *) نظيرها في سورة البقرة ولقمن.
(* (ياأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون * ياأيها الذين ءامنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو ءاخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الارض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلواة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنآ إذا لمن الاثمين * فإن عثر على أنهما استحقآ إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينآ إنا إذا لمن الظالمين * ذالك أدنى أن يأتوا
115

بالشهادة على وجههآ أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين * يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذآ أجبتم قالوا لا علم لنآ إنك أنت علام الغيوب) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) *) الآية، اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فأجراها بعضهم على الظاهر.
وقال ضمرة بن ربيعة: تلا الحسن هذه الآية، وقال: الحمد لله لها والحمد لله عليها ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله.
وقال بعضهم: معناها عليكم أنفسكم فاعملوا بطاعة الله " * (لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) *) فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر.
أبو البحتري عن حذيفة في هذه الآية: إذا أمرتم ونهيتم.
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي ظبيان عن قيس بن أبي حازم قال: قال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) على المنبر: إنكم تقرؤن هذه الآية " * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) *) الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه عمهم الله بعقاب، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول الله " * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) *) فيقول أحدكم: علي نفسي، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو (ليستعملن) عليكم شراركم فليس منكم هو في العذاب، ثم ليدعن الله خياركم فلا يستجيب لهم). يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول الله إن لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر حتى لا يبقى من المعروف شيء إلا عملنا به ولا من المنكر شيء إلا انتهينا عنه ولا نأمره ولا ننهي أبدا.
فقال (عليه السلام): (فمروا بالمعروف فإن لم (يقبلوا به) كله ما نهوا عن المنكر وإن لم ينتهوا عنه كله). وقيل: معنى الآية: عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم.
قال شقيق بن عقد: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله قال " * (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) *).
فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا فليبلغ الشاهد الغائب) فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم تقبل منهم.
116

وروى سهل بن الأشهب عن الحسين والربيع عن أبي العالية إن هذه الآية قرأت على ابن مسعود " * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) *)، فقال ابن مسعود: ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم، ثم قال: إن القرآن نزل حين نزل فمنه آي قد مضى تأويلهن ومنه آي وقع تأويلهن على عهد رسول الله
ومنه آي يقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يسير ومنه من يقع آي لا ينهض بعد اليوم ومنه آي يقع في آخر الزمن ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية.
قال أبو أمية السمعاني: سمعت أبا ثعلبة (الخشني) عن هذه الآية " * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) *).
فقال أبو ثعلبة: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ائمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت دينا موثرا وشحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم فإن وراءكم أياما أيام الصبر فإذا عمل العبد بطاعة الله لم يضره من ضل بعده وهلك وأجر العامل يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عامل).
قالوا: يا رسول الله كأجر خمسين عاملا منهم؟ قال: (لا بل كأجر خمسين عاملا منكم).
وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في أهل الأهواء.
وقال أبو جعفر الرازي: دخل على صفوان بن حرث شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئا من أمره، فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة الله التي تخص بها أولياءه، " * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) *) الآية.
وقال الضحاك: عليكم أنفسكم إذا اختلفت الأهواء ما لم يكن سيف أو سوط.
وقال ابن جبير: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل هجر وعليهم المنذر ابن ساوي التميمي يدعوهم إلى الإسلام فإن أبو فليؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب عرضه على من
117

عنده من اليهود والعرب والنصارى والمجوس فأقروا بالجزية وكرهوا الإسلام، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية). فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله عليه السلام أسلمت العرب وأما أهل الكتاب والمجوس أعطوا الجزية، فقال في ذلك: منافقو أهل مكة وقالوا: عجبا من محمد يزعم أن الله تعالى بعثه ليقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية، هلا أكرههم على الإسلام وقد ردها على إخواننا من العرب؟ فشق ذلك على المسلمين مشقة شديدة فأنزل الله تعالى " * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) *) يعني بعد أن بلغ محمد فأحذر، وأنزل بعد ما أسلم العرب " * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) *).
وقال ابن عباس: نزلت في جميع الكفار وذلك أن الرجل كان إذا أسلم قالوا: سفهت أباك، وضللت، وفعلت وفعلت فأنزل الله " * (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من آبائكم إذا اهتديتم) *) وهذه لفظة إغراء، والعرب تغري من الصفات بعليك عليك ولبيك وإليك وعندك ودونك.
ثم قال " * (إلى الله مرجعكم جميعا) *) الضال والمهتدي * (فينبئكم بما كنتم تعملون) * * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) *) الآية نزلت في ثلاثة نفر خرجوا تجارا من المدينة إلى الشام، عدي بن فدي، وتميم بن أوس الداري وهما نصرانيان وبديل مولى عمرو بن العاص السهمي وكان مسلما مهاجرا واختلفوا في كنية أبيه.
فقال الكلبي: بديل بن أبي مازنة. وقال قتادة وابن سيرين وعكرمة: هو ابن أبي مارية، ومحمد بن إسحاق بن يسار وابن أبي مريم، فلما قدموا إلى الشام مرض بديل وكتب كتابا فيه جميع ما معه وطرحها في متاعه ولم يخبر صاحبه بذلك، فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل ففتشا متاعه فأخذا منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة مموهة بالذهب فغيباه ثم قضيا حاجتهما وانصرفا وقدما المدينة فدفعا المتاع إلى أهل الميت ففتشوا (فوجدوا) الصحيفة فيها تسمية ما كان معه وما فيها الإناء فجاءوا تميما وعديا. فقالوا: هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؟ قالا: لا، قالوا: فهل خسر تجارة؟ قالا: لا، قالوا: فهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا: لا. قالوا: فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا فقدنا فيها إناء من فضة مموهة بالذهب فها ثلاثمائة مثقال فضة. قالا: لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم ودفعناه وما لنا إلا من حكم،
118

فرفعوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى " * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان) *).
قال أهل الكوفة: معناه ليشهد اثنان لفظ الآية خبر ومعناها أمر. قال أهل البصرة: معناه شهادة بينكم شهادة اثنين فألقيت الشهادة وأقيمت الاثنان مقامهما كقوله " * (وسئل القرية) *) أي أهل القرية ما (بقي) أهل وأقام القرية مقامه فنصبها.
وقال بعضهم: معناه شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت أن يشهد اثنان " * (ذوا عدل) *) أمانة وعقل " * (منكم) *) يا معشر المؤمنين من أهل دينكم وملتكم.
قاله جميع المفسرين إلا عكرمة وعبيد فإنهما قالا: معناه من حي الموصي.
واختلفوا في صفة الاثنين، فقال قوم: هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي.
وقال آخرون: هما الوصيان أراد الله تأكيد الأمر فجعل الوصي اثنين دليل هذا التأويل أنه عقبه بقوله: " * (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان) *) ولا يلزم الشاهد يمين، ولأن الآية نزلت في الوصيين، وعلى هذا القول تكون الشهادة بمعنى الحضور، كقولك: شهدت فلان أي حضرت، قال الله تعالى " * (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) *) الآية، فقال: " * (وليشهد عذابهما طائفة من المسلمين) *).
" * (أو آخران من غيركم) *) ملتكم وهو قول ابن المسيب والنخعي وابن جبير ومجاهد وعبيدة ويحيى بن يعمر وأبي محجن قالوا: إذا لم يجد مسلمين فليشهد كافرين.
قال شريح إذا كان الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلما يشهده على وصيته فليشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو عابد وثن وأي كافر كان فشهادته جائزة ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلا في سفرة ولا يجوز في سفر إلا في وصية فإن جاء رجلان مسلمان وشهدا بخلاف شهادتهما أجيزت شهادة المسلمين فأبطلت شهادة الكافرين.
وعن الشعبي: إن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة فأوصى ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد، الذي كان في عهد رسول الله فأحلفهما وأمضى شهادتهما.
قال آخرون: معناه من غير حيكم وعشيرتكم. وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة قالوا: لا يجوز شهادة كافر في سفر ولا حضر.
119

" * (إن أنتم ضربتم في الأرض) *) سرتم وسافرتم في الأرض " * (فأصابتكم مصيبة الموت) *) فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما فلم (يأمنان الإرتياب بحق) الورثة فاتهموهما في ذلك فادعوا عليهما خيانة، فإن الحكم حينئذ أن تحبسونهما، أي تستوقفونهما " * (من بعد الصلاة) *) وقال ابن عباس: هذا من صلة قوله " * (أو آخران من غيركم) *) من الكفار فأما إذا كانا مسلمين، فلا يمين عليهما، واختلفوا في هذه الصلاة ما هي.
فقال النخعي والشعبي وابن جبير وقتادة: من بعد صلاة العصر. وقال السدي: من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنهما لا يباليان صلاة العصر " * (فيقسمان بالله) *) فيحلفان " * (إن إرتبتم) *) شككتم " * (لا نشتري به ثمنا) *) يقول لا نحلف بالله كاذبين على عرض نأخذ عليه (لو أن يكن يذهب إليه في ويجحده) * * (ولو كان ذا قربى) *) ولو كان الذي يقسم له به ذا قربى ذا قرابة معنا " * (ولا نكتم شهادة الله) *) قرأ الشعبي لا نكتم شهادة الله بالتنوين، الله بخفض الهاء على الاتصال أراد الله على القسم.
وروي عن أبي جعفر (شهادة الله) بقطع الألف وكسر أولها على معنى ولا نكتم شهادة ثم إبتدأ يمينا فقال: الله أي والله (..........) (يعقب) بتنوين الشهادة، (الله) بالألف واللام وكسر الهاء وجعل الاستفهام حرفا من حروف القسم، فروي عن بعضهم شهادة منونة، الله بنصب الهاء يعني ولا نكتم شهادة الله أما إن فعلنا ذلك " * (إنا إذا لمن الآثمين) *) فلما نزلت الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعدي وتميم، فاستحلفا عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما فحلف على ذلك وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما حين حلفا فكتما الإناء ما شاء الله أن يكتما ثم ظهر واختلفوا في كيفية ظهور الإناء.
فروى ابن جبير عن ابن عباس إن الإناء وجد بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم.
قال الآخرون: لما طالت المدة اظهر الإناء وبلغ ذلك بني تميم فأتوهما في ذلك. فقالا: إنا كنا قد اشترينا منهم هذا وقالوا: ألم تزعما بأن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه؟ قالا: لم يكن عندنا ثمنه فكرهنا أن نقر لكم به (فكتمناكموه) لذلك فرفعوهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله " * (فإن عثر) *) أي أطلع وظهر وأصل العثر الوقوع والسقوط على الشيء ومنه قوله: عثرت بكذا إذا أصبته وصدمته ووقعت عليه.
قال الأعمش:
بذات لوث عفرناة إذا عثرت
فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
120

يعنى بقوله: عثرت أصاب ميم خفها مجر أو غيره، ثم يستعمل في كل واقع على شيء كان عنه خفيا كقولهم في أمثالهم: عثرت على الغزل بأخرة فلم تدع بنجد قردة.
" * (على إنهما) *) يعني الوصيين " * (إستحقا إثما) *) أي استوجبا إثما بأيمانهما الكاذبة وخيانتهما " * (فآخران) *) من أولياء الميت " * (يقومان مقامهما) *) يعني مقام الوصيين " * (من الذين استحق) *).
قرأ الحسن وحفص بفتح التاء وهي قراءة علي وأبي بن كعب أي وجب عليهم الإثم يقال حق واستحق بمعنى وقال: " * (الأوليان) *) رجع إلى قوله: فآخران الأوليان ولم يرتفع بالاستحقاق.
وقرأ الباقون: بضم التاء على المجهول يعني الذين استحق فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت، استحق الحالفان بسببهم وفيهم الإثم على المعنى في كقوله: " * (على ملك سليمان) *).
وقال صخر الغي:
متى ما تنكروها تعرفوها
على أقطارها علق نفيث
" * (الأوليان) *) بالجمع قرأه أكثر أهل الكوفة واختيار يعقوب أي من الذين الأولين.
وقرأ الحسن: الأولون، وقرأ الآخرون الأوليان على لغت الآخرين وإنما جاز ذلك، الأولان معرفة والآخران بكثرة لأنه حين قال من الذين وحدهما ووصفهما صار كالمعرفة في المعنى.
" * (فيقسمان بالله لشهادتنا) *) أي والله لشهادتنا " * (أحق من شهادتهما) *) يعني يميننا أحق من يمينهما. نظيره قوله " * (فشهادة أحدهم أربع شهادات) *) في قصة اللعان أراد الأيمان، وهذا كقول القائل: أشهد بالله وله أقسم " * (وما اعتدينا) *) في يميننا " * (إنا إذا لمن الظالمين) *) فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة السهميان حلفا بالله بعد العصر مرة فدفع الجام إليهما وإلى أولياء الميت، وكان تميم الداري بعد ما أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: صدق الله عز قوله أنا أخذت الجام فأتوب إلى الله وأستغفره.
وإنما انتقل اليمين إلى الأوليان، لأن الوصيين صح عليهما الإناء ثم ادعيا أنهما ابتاعاه، وكذلك إذا ادعى الوصي أن الموصي أوصى له بشيء ولم يكن ثم بينة، وكذلك إذا ادعى رجل قبل رجل مالا فأقر المدعي عليه بذلك ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي أو وهبها له المدعي، فإن في هذه المسائل واشتباهها يحكم برد اليمين على المدعي.
روى محمد بن إسحاق عن أبي النضير عن باذان مولى أم هاني عن ابن عباس عن تميم
121

الداري، قال: بعنا الجام بألف درهم فقسمناه أنا وعدي فلما أسلمت تأثمت من ذلك بعد ما حلفت كاذبا وأتيت موالي الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا إليه فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا. فأمر الموالي أن يحلفوا فحلف عمرو والمطلب فنزعت الخمسمائة من عدي ورددت أنا الخمسمائة فذلك قوله " * (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها) *) أي ذلك أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم إذا خافوا رد اليمين وإلزامهم الحق.
" * (واتقوا الله واسمعوا) *) الآية. واختلفوا في حكم الآية. فقال بعضهم: هي منسوخة وروى ذلك ابن عباس. وقال الآخرون: هي محكمة وهي الصواب " * (يوم) *) أي إذكروا واحذروا يوم " * (يجمع الله الرسل) *) وهو يوم القيامة " * (فيقول) *) لهم " * (ماذا أجبتم) *) أي ما الذي أجابتكم أمتكم وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي " * (قالوا) *) أي فيقولون " * (لا علم لنا) *) قال ابن عباس: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا.
وقال ابن جريح: معنى قوله " * (ماذا أجبتم) *) أي ما حملوا ويصدقوا بعدكم فيقولوا: لا علم لنا.
الحسن ومجاهد، السدي ممن يقول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يحتسبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أمتهم.
(* (إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس فى المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى وتبرىء الاكمه والابرص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى وإذ كففت بنىإسراءيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هاذا إلا سحر مبين * وإذ أوحيت إلى الحواريين أن ءامنوا بى وبرسولى قالوا ءامنا واشهد بأننا مسلمون * إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السمآء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء تكون لنا عيدا لاولنا وءاخرنا وءاية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين * وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أءنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلاهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لىأن أقول ما ليس لى بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم
122

ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا مآ أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شىء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم * قال الله هاذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيهآ أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذالك الفوز العظيم * لله ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شىء قدير) *) 2
قوله " * (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم) *) يعني حين قال الله يا عيسى بن مريم، محل عيسى نصب لأنه نداء المنصوب إذا جعلته نداء واحدا، فإن شئت جعلته ندائين فيكون عيسى في محل الرفع لأنه نداء مفرد وابن في موضع النصب لأنه نداء مضاف، وتقدير الكلام يا عيسى يا بن مريم. نظيره قوله:
يا حكم بن المنذر بن الجارود
أنت الجواد ابن الجواد ابن الجود
ذلك في حكم الرفع والنصب، وليس بن المنذر عن النصب " * (أذكر نعمتي) *) قال الحسن: ذكر النعمة شكرها وأراد بقوله نعمتي نعمي لفظه واحد ومعناه الجمع كقوله تعالى " * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) *) أراد نعم الله لأن العدد لا ينفع على الواحد " * (عليك) *) يا عيسى " * (وعلى والدتك) *) مريم، ثم ذكر النعم " * (إذ أيدتك) *) قويتك وأعنتك " * (بروح القدس) *) يعني جبرئيل " * (تكلم الناس في المهد) *) صبيا " * (وكهلا) *) نبيا " * (وإذ علمتك الكتاب) *) قال ابن عباس: أرسله الله وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله إليه.
" * (وإذا علمتك الكتاب) *) يعني الخط " * (والحكمة) *) يعني العلم والقيم " * (والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين) *) وتجعل وتصور وتقدر إلى قوله " * (فتبارك الله أحسن الخالقين) *) أي المصورين من الطين " * (كهيئة الطير) *) كصورة الطير.
" * (بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني) *) حيا يطير بإذني " * (وتبرىء) *) تصح وتشفي " * (الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى) *) من قبورهم أحياء " * (بإذني) *) فأحيا سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية " * (وإذ كففت) *) منعت وصرفت " * (بني إسرائيل) *) يعني اليهود " * (عنك) *) حين
هموا بقتلك " * (إذ جئتهم بالبينات) *) يعني الدلالات والمعجزات التي ذكرتها " * (فقال الذين كفروا منهم إن هذا) *) ما هذا " * (إلا سحر مبين) *) يعني ما جاءتهم من البينات ومن قال ساحر بالألف فإنه راجع إلى عيسى (عليه السلام).
123

محمد بن عبد الله بن حمدون، مكي بن عبدان، أبو الأزهر عن أسباط عن مجاهد بن عبد الله ابن عمير قال: لما قال الله لعيسى " * (إذكر نعمتي عليك) *) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد ولم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت أينما أدركه الليل بات.
" * (وإذ أوحيت إلى الحواريين) *) أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم الوحي. والوحي على أقسام، وحي بمعنى إرسال جبرئيل إلى الرسول، ووحي بمعنى الإلهام كالإيحاء إلى أم موسى والنحل ووحي بمعنى الأحلام في حال اليقضة في المنام.
قال أبو عبيدة: أوحى لها: أي إليها، وقال الشاعر:
ومن لها القرار فاستقرت
وشدها بالراسيات الثبت
يعني أمرت (وإلى) صلة يقال: أوحى ووحى. قال الله " * (بأن ربك أوحى لها) *).
قال العجاج: أوحى لها القرار فاستقرت.
أي أمرها بالقرار فقرت. والحواريون خواص أصحاب عيسى.
قال الحسن: كانوا قصارين. وقال مجاهد: كانوا صيادين.
وقال السدي: كانوا ملاحين.
وقال قتادة: الحواريون الوزراء.
وقال عكرمة: هم الأصفياء. وكانوا اثني عشر رجلا، بطرس ويعقوب ويحنس واندرواسى وخيلبس وأبرثلما ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلقيا، وتداوسيس، وفتاتيا، وتودوس، " * (أن آمنوا بي وبرسولي) *) عيسى " * (قالوا) *) حين لقيتهم ورفقتهم " * (آمنا واشهد بأننا مسلمون إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل) *).
قرأ علي وعائشة وابن عباس وابن جبير ومجاهد: هل تستطيع بالتاء، ربك بنصب الباء، وهو اختيار الكسائي وأبي عبيد على معنى هل تستطيع أن تدعو ربك كقوله " * (واسأل القرية) *) وقالوا: لأن الحواريين لم يكونوا شاكين في قدرة الله تعالى. وقرأ الباقون بالياء قيل: يستطيع ربك برفع الباء فقالوا: إنهم لم يشكوا في قدرة الله تعالى وإنما معناه هل ينزل أم لا كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنه يستطيع وإنما يريد هل يفعل أم لا
124

وأجراه بعضهم على الظاهر، فقالوا: غلط قوم وكانوا مشوا، فقال لهم عيسى عند الغلط استعظاما لقولهم: هل يستطيع ربك " * (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) *) أي أن تشكوا في قدرة الله تعالى أو تنسبوه إلى عجز أو نقصان ولستم بمؤمنين والمائدة هي الخوان الذي عليه الطعام وهي فاعلة إذا أعطاه وأطعمه، كقولهم: ماد يميد، وغار يغير، وامتاد إفتعل ومنه قول روبة:
تهدى رؤس المترفين الأنداد
إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي المستعطي.
قال رؤبة: والمائدة هي المطعمة المعطية الآكلين الطعام وسمي الطعام أيضا مائدة على الخوان لأنه يؤكل على المائدة كقولهم للمطر سماء، وللشحم ثرى.
وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لأنها تميد الآكلون أي تميل ومنه قوله " * (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) *).
قال الشاعر:
وأقلقني قتل الكناني بعده
وكادت بي الأرض الفضاء تميد
فقال أهل البصرة: هي فاعلة بمعنى المفعول أي تميد بالآكلين إليها، كقوله عيشة راضية أي مرضية، قال عيسى مجيبا لهم " * (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) *) فلا تشكوا في قدرته. وقيل: اتقوا الله أن تسألوه شيئا لم يسأله الأمم قبلكم " * (قالوا) *) إنما سألنا لأنا " * (نريد أن نأكل منها) *) نستيقن قدرته " * (وتطمئن) *) تسكن " * (قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا) *) بإنك رسول الله.
" * (ونكون عليها من الشاهدين) *) لله بالوحدانية والقدرة ولك بالنبوة والرسالة، وقيل: ونكون عليها من الشاهدين لك عند بني إسرائيل، إذا رجعنا إليهم، قال عيسى عند ذلك " * (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون) *) حال رد إلى الاستقبال أي كائنة وذلك كقوله " * (فهب لي من لدنك وليا يرثني) *) يعني يصدقني في قراءة من رفع.
وقرأ عبد الله والأعمش: تكن لنا بالجزم على جواب الدعاء.
" * (عيدا لأولنا وآخرنا) *) أي عائدا من علينا وحجة وبرهانا والعيد اسم لما أعتد به وعاد إليك من كل شيء ومنه قيل: أيام الفطر والأضحى عيد لأنهما يعودان كل سنة.
ويقال: لطيف الخيال عيد
125

قال الشاعر:
يا عيد مالك من شوق وإيراق
ومر طيف على الأهوال طراق
فقال آخر:
إعتاد قلبك من جبينك عود
شق عناك فأنت عنه تذود
وأنشد الفراء:
فوا كبدي من لاعج الحب والهوى
إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها
وأصله عود بالواو ولأنه من عاد يعود إذا رجع فقلبت الواو بالكسرة ما قبلها مثل النيران والميقات والميعاد.
قال السدي: معناه نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا.
وقال سفيان: نصلي فيه.
وقال الخليل بن أحمد: العيد كل يوم مجمع كأنهم عادوا إليه.
وقال ابن الأنصاري: سمي العيد عيدا للعود من الترح إلى الفرح فهو يوم سرور للخلق كلهم ألا ترى أن المسجونين لا يطالبون ولا يعاقبون ولا تصطاد فيه الوحوش والطيور ولا ينفذ الصبيان إلى المكتب، وقيل: سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إختلاف ملابسهم وأحوالهم وأفعالهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يظلم ومنهم من يرحم، وقيل: سمي بذلك لأنه يوم شريف فاضل تشبيها بالعيد وهو فحل نجيب كريم ومشهور في العرب وينسبون إليه فيقال: إبل عيدية. قال الراعي:
عيد به طويت على زفراتها
طي القناطر قد نزلن نزولا
وقوله " * (لأولنا وآخرنا) *) يعني قبل زماننا ولمن يجيء بعدنا.
وقرأ زيد بن ثابت: لأولنا وآخرنا على الجميع.
وقال ابن عباس: يعني نأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم
126

" * (وآية منك) *) دلالة وحجة " * (وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله) *) مجيبا لعيسى " * (إني منزلها عليكم) *) يعني المائدة.
وقرأ أهل الشام والمدينة، وقتادة وعاصم: منزلها في التشديد لأنها نزلت وقرأت والتفعل يدل في الكثير مرة بعد مرة لقوله ونزلناه تنزيلا.
وقرأ الباقون بالتخفيف لقوله: أنزل علينا " * (فمن يكفر بعد منكم) *) أي بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير.
وقال عبد الله بن عمران: أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون.
واختلف العلماء في المائدة هل نزلت عليهم أم لا؟
فقال مجاهد: ما نزلت المائدة وهذا مثل ضربه الله.
وقال الحسن: والله ما نزلت مائدة إن القوم لما سمعوا الشرط وقيل لهم " * (فمن يكفر بعد منكم) *) الآية إستغفروا وقالوا: لا نريدها ولا حاجة فيها فلم ينزل، والصواب إنها نزلت لقوله: " * (إني منزلها عليكم) *) ولا يقع في خبره الخلف، وتواترت. الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وغيرهم من علماء الدين في نزولها، قال كعب: نزلت يوم الأحد، لذلك اتخذه النصارى عيدا.
واختلفوا في صفتها وكيف نزولها وما عليها.
فروى قتادة عن جلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نزلت المائدة خبزا ولحما وذلك أنهم سألوا عيسى طعاما يأكلون منه لا ينفد، قال، فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا أو تخبوا أو ترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتكم، قال: فما مضى يومهم حتى خبوا ورفعوا وخانوا).
وقال إسحاق بن عبد الله: إن بعضهم سرق منها، وقال لعلها لا تنزل أبدا فرفعت ومسخوا قردة وخنازير.
وقال ابن عباس: إن عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه فصاموا ثلاثين يوما فلما فرغوا قالوا: يا عيسى إنا لو عملنا
لأحد فقضينا عمله لأطعمنا طعاما ولأصبحنا من وجعنا، فادع لنا الله أن ينزل علينا مائدة من السماء فنزل الملائكة بمائدة يحملونها، عليه سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم وأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم: / /
وروى عطاء بن سائب عن باذان وميسرة قالا: كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي من السماء بكل طعام إلا اللحم.
127

وقال ابن جبير عن ابن عباس: أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم.
قال عطاء: نزل عليها كل شيء إلا السمك واللحم.
قال العوفي: نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء.
وقال عمار وقتادة: كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمر من ثمار الجنة.
وقال وهب بن منبه: أنزل الله أقرصة من شعير وحيتانا، فقيل لوهب: ما كان ذلك يغني عنهم، قال: لا شيء ولكن الله أضعف لهم البركة، فكان لهم يأكلون ثم يخرجون فيجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوها جميعهم وفضل.
وقال الكلبي ومقاتل: إستجاب الله لعيسى (عليه السلام) فقال إني منزلها عليكم كما سألتم فمن أكل من ذلك الطعام ثم لا يؤمن جعلته مثلا، ولعنة لمن بعدهم، قالوا: قد رضينا فدعا شمعون وكان أفضل الحواريين، فقال: هل لكم طعام؟ قال: نعم معي سمكتان صغيرتان وستة أرغفة، فقال: علي بها فقطعهن عيسى قطعا صغارا، ثم قال: اقعدوا في روضة فترفقوا رفاقا كل رفقة عشرة، ثم قام عيسى ودعا الله فاستجاب الله له ونزل فيها البركة فصار خبزا صحاحا وسمكا صحاحا، ثم قام عيسى فجعل يلقي في كل رفقة ما عملت أصابعه ثم قال: كلوا بسم الله فجعل الطعام يكثر حتى بلغ ركبهم فأكلوا ما شاء الله وفضل خمس الذيل، والناس خمسة آلاف ونيف.
وقال الناس جميعا: نشهد إنك عبده ورسوله ثم سألوا مرة أخرى فدعا عيسى (عليه السلام) فأنزل الله خبزا وسمكا وخمسة أرغفة وسمكتين فصنع بها ما صنع في المرة الأولى فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا هذا الحديث ضحك منهم من لم يشهدوا وقالوا لهم: ويحكم إنما سحر أعينكم. فمن أراد به الخير بثته على بصيرته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، فمسخوا خنازير ليس فيهم صبي ولا امرأة فمكثوا بذلك أيام ثم هلكوا ولم تبق ولم يأكلوا ولم يشربوا فكذلك كل ممسوخ.
وقال كعب الأحبار: نزلت مائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلا اللحم.
وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشية حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل.
فقال يمان بن رئاب: كانوا يأكلون منها ما شاؤوا.
وروى عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي إنه قال: والله ما اتبع عيسى (عليه السلام) شيئا من المآذي قط ولا انتهر شيئا ولا قهقه ضحكا ولا ذب ذبابا عن وجهه ولا أخلف على أنفه من أي شيء قط ولا عتب إليه. ولما سأله الحواريون أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفا وبكى،
128

وقال: اللهم أنزل علينا مائدة من السماء الآية وارزقنا عليها طعاما نأكله وأنت خير الرازقين فنزل الله سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها (وهي تجيء مرتفعة) حتى سقطت من أيديهم فبكى عيسى فقال: اللهم إجعلني من الشاكرين، اللهم إجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة.
واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه، فقال عيسى: أيكم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله ويأكل منها؟
فقال شمعون رئيس الحواريين: أنت بذلك أولى منا، فقام عيسى وتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيرا ثم كشف المنديل عنها وقال: بسم الله خير الرازقين، فإذا هو بسمكة مشوية ليس عليها ضلوعها ولا شوك فيها سيل سيلا من الدسم وعند رأسها ملح ويمتد ذنبها خل وجهها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد.
فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال عيسى: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء فعله الله بالقدرة العالية فكلوا مما سألتم مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منكم في الآخرة.
وقال محمد بن كعب: تعلم ما أريد فلا أعلم ما تريد.
وقال عبد العزيز بن يحيى: تعلم سري ولا أعلم سرك لأن السر هو موضعه الأنفس.
قال الزجاج: يعلم جميع ما أعلم ولا أعلم ما يعلم من النفس عبارة عن حملة الشيء وحقيقته وذاته ولا أنه " * (إنك أنت علام الغيوب) *) ما كان وما يكون " * (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله) *) وحدوه وأطيعوه ولا تشركوا به شيئا " * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) *) أقمت فيهم " * (فلما توفيتني) *) قبضتني إليك.
قال الحسن: الوفاة في كتاب الله على ثلاثة أوجه، وفاة الموت وذلك قوله " * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) *) يعني وجعل نقصان أجلها وفاة النوم، وذلك قوله " * (وهو الذي يتوفاكم بالليل) *) يعني ينيمكم، ووفاة بالرفع كقوله * (إني متوفيك ورافعك) * * (إن تعذبهم فإنهم عبادك) *) وقرأ الحسن: فإنهم عبيدك وإن يتوبوا فيغفر لهم " * (فإنك أنت العزيز الحكيم) *))
.
129

وقال السدي: إن تعذبهم وتميتهم بنصرانيتهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فإنك الرب العزيز الحكيم في الملك والنقمة، الحكيم
في قضائك.
قال الله " * (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) *) في الآخرة.
قال قتادة: متكلمان خطها يوم القيامة وهو ما قص الله عليكم وعدو الله إبليس وهو قوله " * (وقال الشيطان لما قضي) *) الأمر فصدهم عن ذلك يومئذ وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه صدقه يومئذ، وأما عيسى فكان صادقا في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه.
وقال عطاء: هذا يوم من أيام الدنيا لأن الآخرة ليس فيها عمل إنما فيها الثواب والجزاء، ويوم رفع على خبر هذا، ونصبه نافع على الحرف يعني إنما تكون هذه الأشياء في يوم ينفع الصادقين صدقهم، وقرأ الحسن: هذا يوم بالتنوين، ثم بين لهم ثوابها فقال " * (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) *) فازوا بالجنة ونجوا مما خافوا، ثم عظم نفسه عما قالت النصارى من بهتان بأن معه إلها فقال " * (لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير) *).
130

((سورة الأنعام))
مكية كلها غير ست آيات منها نزلت في المدينة " * (وما قدروا الله حق قدره) *) إلى آخر ثلاث آيات وقوله " * (قل تعالوا أتل عليكم نبأكم) *) إلى قوله " * (لعلكم تتقون) *) فهذه الست مدنيات وباقي السورة كلها نزلت بمكة مجملة واحدة ليلا ومعها سبعون ألف ملك وقد سدوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (سبحان الله العظيم) وخر ساجدا ثم دعا الكتاب فكتبوها من ليلتهم. وهي مائة وخمس وستون آية وكلها حجاج على المشركين، كلماتها ثلاثة آلاف واثنان وخمسون كلمة وحروفها إثنا عشر ألفا وأربعمائة وعشرون حرفا.
روى ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوما وليلة) (126).
مسلم عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله " * (ويعلم ما تكسبون) *) وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له ويوحي في قلبه شيئا ضربه بها ضربة كان بينه وبينه سبعون حجابا فإذا وكل يوم القيامة يقول للرب تبارك وتعالى أبشر في ظلي وكل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السبيل وأنت عبدي فأنا ربك) (127).
قال سعيد بن جبير: لم ينزل من الوحي شيء إلا ومع جبرئيل أربعة من الملائكة يحفظونه
131

من بين يديه ومن خلفه وهو قوله تعالى " * (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) *) إلا الأنعام فإنها تنزل ومعها سبعون ألف ملك.
وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة قال: قال عمر (رضي الله عنه): الأنعام من نواجب القرآن.
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (الحمد لله الذى خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون * هو الذى خلقكم من طين ثم قضىأجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون * وهو الله فى السماوات وفى الارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون * وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين * فقد كذبوا بالحق لما جآءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون * ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الارض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السمآء عليهم مدرارا وجعلنا الانهار تجرى من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين * ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هاذآ إلا سحر مبين * وقالوا لولاأنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون * ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون * قل سيروا فى الارض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين * قل لمن ما فى السماوات والارض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) *) 2
" * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) *) الآية.
قال مقاتل: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم من ربك؟ قال: الذي خلق السماوات والأرض فكذبوه فأنزل الله عز وجل حامدا نفسه دالا بصفته على وجوده وتوحيده. " * (الحمد لله الذي خلق السماوات في يومين) *) يوم الأحد ويوم الاثنين " * (الأرض في يومين) *) يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء " * (وجعل الظلمات والنور) *) قال السدي: يعني ظلمة الليل ونور النهار.
وقال الواقدي: كل ما في القرآن من الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان.
وقال قتادة: يعني الجنة والنار وإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور يتعدى والظلمة لا تتعدى
132

وقال أهل المعاني: جعل هاهنا صلة والعرب تريد جعل في الكلام.
وقال أبو عبيدة: وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبر مجاز الآية: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، وقيل: معناه خلق السماوات والأرض وقد جعل الظلمات والنور لأنه خلق الظلمة والنور قبل خلق السماوات والأرض.
وقال قتادة: خلق الله السماوات قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار.
وقال وهب: أول ما خلق الله مكانا مظلما ثم خلق جوهرة فصارت ذلك المكان، ثم نظر إلى الجوهرة نظر الهيئة فصارت دما فارتفع بخارها وزبدها، فخلق من البخار السماوات ومن الزبد الأرضين.
وروى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل) * * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) *).
قال قطرب: هو مختصر يعني الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون الأوثان أي يشركون وأصله من مساواة الشيء بالشيء يقال: عدلت هذا بهذا إذا ساويته به.
وقال النضر بن شميل: الباء في قوله: " * (بربهم) *) بمعنى عن، وقوله: " * (يعدلون) *) من العدول. أي يكون ويعرفون.
وأنشد:
وسائلة بثعلبة بن سير
وقد علقت بثعلبة العلوق
وأنشد:
شرين بماء البحر ثم ترفعت
متى لجج خضر لهن نئيج
أي من البحر قال الله تعالى: " * (عينا يشرب بها عباد الله) *) أي منها.
محمد بن المعافى عن أبي صالح عن ابن عباس قال: فتح أول الخلق بالحمد لله، فقال: " * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) *) وختم بالحمد، فقال: " * (وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) *).
133

حماد عن عبد الله بن الحرث عن وهب قال: فتح الله التوراة بالحمد فقال: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وختمها بالحمد فقال: " * (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) *) الآية. قوله تعالى: " * (هو الذي خلقكم من طين) *) يعني آدم (عليه السلام) فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده.
وقال السدي: بعث الله جبرئيل إلى الأرض ليأتيه بطينة منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني فرجع ولم يأخذ، وقال: يا رب إنها عاذت بك، فبعث ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله فقال: أنا أعوذ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط التربة الحمر والسودا والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والمالح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم فقال الله عز وجل لملك الموت رحم جبرئيل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم من تراب جعله طينا ثم تركه حتى كان حمأ مسنونا خلقه وصوره ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار (فكان إبليس يمر به فيقول) خلقت لأمر عظيم ثم نفخ الله فيه روحه) * * (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) *).
قال الحسن وقتادة والضحاك: الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والأجل الثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو البرزخ.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: ثم قضى أجلا يعني أجل الدنيا وأجل مسمى عنده وهو الآخرة.
عطية عن ابن عباس: ثم قضى أجلا هو النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة. " * (أجل مسمى عنده) *) هو أجل موت الإنسان. ثم قضى أجلا يعني جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها لا تجاوزونها، وأجل مسمى يعني وهو أجل مسمى عنده لا يعلمه غيره، الأجل المسمى هو الأجل الآجل.
" * (ثم أنتم تمترون) *) تشكون في البعث " * (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) *) يعني وهو إله السماوات وإله الأرض.
134

مقاتل: يعلم سر أعمالكم وجهرها، قال: وسمعنا أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد، محمد بن أحمد البلخي يقول: هو من مقاديم الكلام وتقديره وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض فلا يخفى عليه شيء " * (ويعلم ما تكسبون) *) تعملون من الخير والشر " * (وما تأتيهم) *) يعنى كفار أهل مكة " * (من آية من آيات ربهم) *) مثل انشقاق القمر وغيره " * (إلا كانوا عنها معرضين) *) لها تاركين وبها مكذبين " * (فقد كذبوا بالحق) *) يعني القرآن وقيل: محمد عليه الصلاة والسلام " * (لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون) *) أي أخبار استهزائهم وجزاؤه فهذا وعيد لهم فحاق بهم هذا الوعيد يوم يرونه " * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) *) يعني الأمم الماضية والقرن الجماعة من الناس وجمعه قرون، وقيل: القرن مدة من الزمان، يقال ثمانون سنة، ويقال: مائة سنة، ويكون معناه على هذا القول من أهل قرن " * (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) *) يعني أعطيناهم ما لم نعطكم.
قال ابن عباس: أمهلناهم في العمر والأجسام والأولاد مثل قوم نوح وعاد وثمود، ويقال: مكنته ومكنت له فجاء (......) جميعا " * (وأرسلنا السماء) *) يعني المطر " * (عليهم مدرارا) *).
تقول العرب: ما زلنا نطأ السماء حتى آتيناكم مدرارا أي غزيرة كثيرة دائمة، وهي مفعال من الدر، مفعال من أسماء المبالغة، ويستوي فيه المذكر والمؤنث.
قال الشاعر:
وسقاك من نوء الثريا مزنة
سعرا تحلب وابلا مدرارا
وقوله: " * (ما لم نمكن لكم) *) من خطاب التنوين كقوله تعالى: " * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) *).
وقال أهل البصرة: أخبر عنهم بقوله: " * (ألم يروا) *) وفيهم محمد وأصحابه ثم خاطبهم، والعرب تقول: قلت لعبد الله ما أكرمه وقلت لعبد الله أكرمك " * (وجعلنا الأنهار التي تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا) *) وخلقنا وابتدأنا " * (من بعدهم قرنا آخرين ولو نزلنا عليك كتابا) *) الآية.
وقال الكلبي ومقاتل: أنزلت في النضر بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسول فأنزل الله عز وجل فلو نزلنا عليك كتابا " * (في قرطاس) *) في
135

صحيفة مكتوبا من عند الله " * (فلمسوه بأيديهم) *) عاينوه معاينة ومسوه بأيديهم " * (لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) *) لما سبق فيهم من علمي " * (وقالوا لولا أنزل عليه) *) على محمد " * (ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر) *) أي لوجب العذاب وفرغ من هلاكهم لأن الملائكة لا ينزلون إلا بالوحي (والحلال) * * (ثم لا ينظرون) *) الكافرون ولا يمهلون.
قال مجاهد: لقضي الأمر أي لقامت الساعة.
وقال الضحاك: لو أتاهم ملك في صورته لماتوا.
وقال قتادة: لو أنزلنا المكارم ولم يؤمنوا لعجل لهم العذاب ولم يؤخروا طرفة عين " * (ولو جعلناه ملكا) *) يعني ولو أرسلنا إليهم ملكا " * (لجعلناه رجلا) *) يعني في صورة رجل آدمي لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة " * (وللبسنا) *) ولشبهنا وخلطنا " * (عليهم ما يلبسون) *) يخلطون ويشبهون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرى أملك هو أم آدمي.
وقال الضحاك وعطية عن ابن عباس: هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وكذبوا رسلهم وهو تحريف الكلام عن مواضعه فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم.
وقال قتادة: ما لبس قوم على أنفسهم إلا لبس الله عليهم.
وقرأ الأزهري: وللبسنا بالتشديد على التكرير يقال: ألبست العرب ألبسه لبسا وإلتبس عليهم الأمر ألبسه لبسا " * (ولقد استهزىء برسل من قبلك) *) كما استهزىء بك يا محمد يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم " * (فحاق) *).
قال الربيع بن أنس: ترك. عطاء: أحل.
مقاتل: دار. الضحاك: إحاطة.
قال الزجاج: الحيق في اللغة ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ومنه: يحيق المكر السيىء.
وقيل: وجب. والحيق والحيوق الوجوب.
" * (بالذين سخروا) *) هزئوا " * (منهم ما كانوا به يستهزئون) *). فحاق بالذين سخروا من المرسلين العذاب وتعجيل النقمة " * (قل) *) يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين " * (سيروا) *) سافروا في الأرض معتبرين " * (ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) *) أي آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والكذب الهلاك والعذاب، يخوف كفار أهل مكة عذاب الأمم الماضية " * (قل لمن ما في السماوات والأرض) *) فإن أجابوك وإلا " * (قل لله) *) يقول يفتنكم بعدد الأيام لا (.....) والأصنام ثم قال " * (كتب ربكم) *) أي قضى وأوجب فضلا وكرما " * (على نفسه الرحمة) *).
وذكر النفس ها هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وحد وارتفاع الوسائط دونه وهذا استعطاف
136

منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وإخبار بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة.
هشام بن منبه قال: حدثنا أبو عروة عن محمد رسول صلى الله عليه وسلم قال: لما قضى الله الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش (إن رحمتي سبقت غضبي).
وقال عمر لكعب الأحبار: ما أول شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد ولكنه كتب بإصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت: إني أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي.
وقال سلمان وعبد الله بن عمر: إن لله تعالى مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فاهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا فيها يتراحم الإنس والجان وطير السماء وحيتان الماء وما بين الهواء والحيوان وذوات الأرض وعنده مائة وسبعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة أضاف تلك الرحمة إلى ما عنده.
ثم قال " * (ليجمعنكم) *) اللام فهي لام القسم والنون نون التأكيد، مجازه: والله ليجمعنكم " * (إلى يوم القيامة) *) يعني في يوم القيامة إلي يعني في، وقيل: معناه ليجمعنكم في (غيركم) إلى يوم القيامة " * (لا ريب فيه الذين خسروا) *) غلبوا على أنفسهم والتنوين في موضع نصب مردود على الكاف والنون من قوله " * (ليجمعنكم) *) ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء وخبره فهم لا يؤمنون، فأخبر الله تعالى أن الجاحد للآخرة هالك خاسر.
2 (* (وله ما سكن فى اليل والنهار وهو السميع العليم * قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والارض وهو يطعم ولا يطعم قل إنىأمرت أن أكون أول من أسلم ولا
تكونن من المشركين * قل إنىأخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم * من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين * وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير * وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير) *) 2
" * (وله ما سكن في الليل والنهار) *) الآية.
قال الكلبي: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إنا قد علمنا أنه ما يحملك على ما تدعونا إليه إلا الحاجة، فنحن نجمع ذلك من أموالنا ما نغنيك حتى تكون من أغنانا فأنزل الله تعالى قوله " * (وله ما سكن) *) أي استقر " * (في الليل والنهار) *) من خلق
137

قال أبو روحي: إن من الخلق ما يستقر نهارا وينتشر ليلا ومنها ما يستقر ليلا وينتشر نهارا.
وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن جرير: كل ما طلعت عليه الشمس وغيبت فهو من ساكن الليل والنهار والمراد جميع ما في الأرض لأنه لا شيء من خلق الله عز وجل إلا هو ساكن في الليل والنهار، وقيل: معناه وله ما يمر عليه الليل والنهار.
وقال أهل المعاني: في الآية لغتان واختصار مجازها: وله ما سكن وشرك في الليل والنهار كقوله " * (سرابيل تقيكم الحر والبرد) *) وأراد في كل شيء " * (وهو السميع) *) لأصواتهم " * (العليم) *) بأسرارهم.
وقال الكلبي: يعني هو السميع لمقالة قريش العليم بمن يكسب رزقهم " * (قل) *) يا محمد " * (أغير الله أتخذ وليا) *) ربا معبودا وناصرا ومعينا " * (فاطر السماوات والأرض) *) أي خالقها ومبدعها ومبدئها وأصل الفطر الشق ومنه فطر ناب الجمل إذا شقق وابتدأ بالخروج.
قال مجاهد: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بعير. فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أنا أحدثتها " * (وهو يطعم ولا يطعم) *) أي وهو يرزق ولا يرزق وإليه قوله عز وجل " * (ما أريد منهم من رزق وما أريد منهم أن يطعمون) *).
وقرأ عكرمة والأعمش: ولا يطعم بفتح الياء أي وهو يرزق ولا يأكل.
وقرأ أشهب العقيلي: وهو يطعم ولا يطعم كلاهما بضم الياء، وكسر العين.
قال الحسن بن الفضل: معناه هو القادر على الإطعام وترك الإطعام كقوله " * (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) *).
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا منصور الأزهري بهراة يقول: معناه وهو يطعم ولا يستطعم، يقول العرب: أطعمت غيري بمعنى استطعمت.
وأنشد:
إنا لنطعم من في الصيف مطعما
وفي الشتاء إذا لم يؤنس القرع
أي استطعمنا وقيل: معناه وهو يطعم يعني الله ولا يطعم يعني الولي " * (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) *) أخلص " * (ولا تكونن) *) يعني وقيل لي: ولا تكونن " * (من المشركين) *) * * (قل إني أخاف إن عصيت ربي) *) تعبدت غيره " * (عذاب يوم عظيم) *) وهو يوم القيامة.
" * (من يصرف عنه يومئذ) *) يعني من يصرف الغضب عنه.
وقرأ أهل الكوفة: يصرف بفتح الياء وكسر الراء على معنى من صرف الله عنه العذاب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقوله " * (من الله) *) بأن قبل فيما قبله: " * (قل لمن ما في السماوات
138

والأرض قل لله) *)، ولقوله فيما بعده " * (رحمة) *) ولم يقل: فقد رحم، على الفعل المجهول. (ولقراءة أبي: من يصرفه الله عنه). يعني يوم القيامة، وهو ظرف مبني على الخبر لإضافة الوقت إلى إذ كقولك: حينئذ (وساعتئذ) * * (فقد رحمه وذلك الفوز المبين) *) يعني نجاة البينة " * (وإن يمسسك الله بضر) *) بشدة وبلية وفقر ومرض " * (فلا كاشف) *) دافع وصارف " * (له إلا هو وإن يمسسك بخير) *) عافية ورخاء ونعمة " * (فهو على كل شيء) *) من الخير والشر " * (قدير) *).
روى شهاب بن حرش عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها جهل بن شعر ثم أردفني خلفه وسار بي مليا ثم احتنا لي وقال لي: يا غلام، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (إحفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد مضى القلم بما هو كائن فلو عمل الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض الله لك لما قدروا عليه ولو جهدوا أن ينصروك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطيع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر فإن مع الكرب الفرج وإن مع العسر يسرا).
" * (وهو القاهر) *) القادر الغالب " * (فوق عباده) *) وفي القهر معنى زائد على القدرة وهو منع غيره عن بلوغ المراد.
" * (وهو الحكيم) *) في أمره " * (الخبير) *) بما جاء من عباده.
2 (* (قل أى شىء أكبر شهادة قل الله شهيد بينى وبينكم وأوحى إلى هاذا القرءان لانذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله ءالهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إلاه واحد وإننى برىء مما تشركون * الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون * ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب
بئاياته إنه لا يفلح الظالمون * ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركآؤكم الذين كنتم تزعمون * ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين * انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون * ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها حتى إذا جآءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هاذآ إلا أساطير الاولين * وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون * ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بئايات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) *) 2
139

" * (قل أي شيء أكبر شهادة) *) الآية.
قال الكلبي: أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما وجد الله رسولا غيرك وما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ولو سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم، فأنزل الله " * (قل أي شيء أكبر شهادة) *) فإن أجابوك وإلا فقل " * (قل الله شهيد بيني وبينكم) *) على ما أقول " * (وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم) *) وخوفكم يا أهل مكة " * (به ومن بلغ) *) يعني ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم.
قال الفراء: والعرب تضمر الهاء في مصطلحات التشديد (من) و (ما) فيها وإن الذي أخذت مالك، ومالي أخذته، ومن أكرمت (أبر به) بمعنى أكرمته.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية من كتاب الله فإن من بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذه أو تركه).
وقال الحسن بن صالح: سألت ليثا: هل بقي أحد لم يبلغه الدعوة.
قال: كان مجاهد يقول حيثما يأتي القرآن فهو داع وهو نذير، ثم قرأ هذه الآية.
فقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له.
وقال محمد بن كعب القرضي: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا (عليه السلام) وسمع منه " * (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) *) ولم يقل آخر والآلهة جمع لأن الجمع يلحق التأنيث كقوله تعالى * (فما بال القرون الأولى) * * (قل) *) يا محمد إن أشهدوكم أنتم " * (ولا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب) *) يعني التوراة والإنجيل " * (يعرفونه) *) يعني محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته " * (كما يعرفون أبناءهم) *) أي من الصبيان.
قال الكلبي: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لعبيد الله بن سلام: إن الله قد أنزل على نبيه " * (إن الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) *) فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله: يا عمر قد عرفته فيكم حين رأيته بنعته وصفته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب ولأنا أشد معرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم مني بإبني، قال: وكيف؟ قال: نعته الله عز وجل في كتابنا، فلا أدري ما أحدث النساء، فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام " * (الذين خسروا) *) غبنوا " * (أنفسهم فهم لا يؤمنون) *) وذلك إن لكل عبد منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله لأهل الجنة منازل أهل النار في الجنة وجعل لأهل النار منازل أهل الجنة في النار " * (ومن أظلم) *) أكفر
140

قال الحسن: فلا أحد أظلم " * (ممن افترى) *) اختلق " * (على الله كذبا) *) فأشرك به غيره " * (أو كذب بآياته) *) يعني القرآن.
قال الحسن: كل ما في القرآن بآياتنا وآياته يعني به الدين بما فيه " * (لا يفلح الظالمون) *) الكافرون " * (ويوم نحشرهم) *) العابدين والمعبودين " * (جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) *) إنما يشفع لكم عند ربكم " * (ثم لم تكن فتنتهم) *) يعني قولهم وجوابهم، وقيل: معذرتهم، والفتنة: الاختبار، ولما كان سؤالهم يخبر به لإظهار ما في قلوبهم قيل: فتنة.
" * (إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) *) وذلك إنهم يوم القيامة إذا رأوا مغفرة الله عز وجل وتجاوزه عن أهل التوحيد. قال بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد " * (ويقولون والله ربنا ما كنا مشركين) *) فيقول الله تعالى لهم: " * (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) *) وتدعون أنهم شركائي ثم نختم على أفواههم وتشهد جوارحهم عليهم بالكفر وذلك قوله " * (أنظركيف كذبوا على أنفسهم وضل) *) زال وبطل " * (عنهم ما كانوا يفترون) *) من الأصنام " * (ومنهم من يستمع إليك) *) الآية، قال: اجتمع أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحرث بن عامر استمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: للنضر يا أبا فتيلة ما يقول محمد، قال: والذي جعلها بيته يعني الكعبة قال: ما أدري ما يقول إلا إنه يحرك لسانه ويقول: " * (أساطير الأولين) *)، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كتب الحديث عن القرون وأخبارها.
فقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول خفيا، فقال أبو جهل: كلا فأنزل الله تعالى: " * (ومنهم من يستمع إليك) *) وإلى كلامك " * (وجعلنا على قلوبهم أكنة) *) غشاوة وغطاء " * (أن يفقهوه) *) يعلموه " * (وفي آذانهم وقرا) *) ثقلا وصما " * (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) *) يعني حكاياتهم إسطورة وإسطارة.
وقال بعض أهل اللغة: هي الترهات والأباطيل والبسابس وأصلها من سطرت أي كتبت " * (وهم ينهون عنه ويناؤن عنه) *).
قال مقاتل: نزلت في أبي طالب واسمه عبد مناف وذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب يدعو إلى الإسلام فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون سوءا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وأبشر بذلك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت إنك ناصحي
ولقد صدقت وكنت ثم سببا
وفرضت دينا لا محالة إنه
من خير أديان البرية دينا
141

لولا الملامة أو حذاري سبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فأنزل الله تعالى " * (وهم ينهون عنه وينؤن عنه) *) أي يمنعون الناس عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويناؤن عنه أي يبتعدون عما جاء له من الهدي فلا يصدقونه وهذا قول القاسم بن محمد وعطاء ابن دينار وإحدى الروايتين عن ابن عباس وعن محمد بن الحنفية والسدي والضحاك قالوا: نزلت في جملة كفار مكة يعني وهم ينهون الناس عن اتباع محمد والإيمان به ويتباعدون بأنفسهم عنه.
قال مجاهد: وهم ينهون عنه قريشا ينهون عن الذكر ويتباعدون عنه.
وقال قتادة: وينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عنه " * (وإن يهلكون إلا أنفسهم) *) لأن أوزار الذين يصدونهم عليهم " * (وما يشعرون) *) إنما كذلك " * (ولو ترى) *) يا محمد " * (إذ وقفوا) *) حبسوا " * (على النار) *) يعني في النار كقوله: " * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) *) يعني في ملك سليمان.
وقرأ السميقع " * (إذ وقفوا) *) بفتح الواو والقاف من الوقوف والقراءة الأولى على الوقف. فقال: وقفت بنفسي وقوفا ووقفتم وقفا، وجواب لو محذوف معناه لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا " * (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) *) قرأه العامة ويكون بالرفع على معنى يا ليتنا نرد ونحو لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين أردنا أم لم نرد.
وقرأ ابن أبي إسحاق وحمزة: ولا نكذب وتكون نصبا على جواب التمني، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصبه بالفاء.
وقرأ ابن عامر: نرد ولا نكذب: بالرفع، ونكون: بالنصب قال: لأنهم تمنوا الرد وأن يكونوا من المؤمنين وأخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا " * (بل بدا) *) ظهر " * (لهم ما كانوا يخفون) *) يسترون في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم.
وقال السدي إنهم قالوا: " * (والله ربنا ما كنا مشركين) *) فذلك إخفاؤهم " * (من قبل) *) فأنطق الله عز وجل جوارحهم فشهدت عليهم بما كتموا فذلك قوله عز وجل " * (بل بدا لهم) *) وهذا أعجب إلي من القول الأول لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا إلا أن تجعل الآية في المنافقين.
قال المبرد: بدا لهم (جزاء ما كانوا يخفون من قبل).
142

وقال النضر بن شميل: معناه بل بدا (لعنهم)، ثم قال " * (ولو ردوا) *) إلى الدنيا " * (لعادوا لما نهوا عنه) *) من الكفر " * (وإنهم لكاذبون) *) في قولهم: لو ردونا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين.
(* (وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين * ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هاذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا سآء ما يزرون * وما الحيواة الدنيآ إلا لعب ولهو وللدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون * قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولاكن الظالمين بئايات الله يجحدون * ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جآءك من نبإ المرسلين * وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الارض أو سلما فى السمآء فتأتيهم بئاية ولو شآء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) *) 2
" * (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا) *) فيه تقديم وتأخير، وكان عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: هذا من قولهم: لو ردوا لقالوا " * (وما نحن بمبعوثين) *) بعد الموت " * (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) *) قيل: على حكم الله (......) فهم (وتكلمنا اليدين) بأمر الله " * (قال أليس هذا) *) العذاب " * (بالحق قالوا بلى وربنا) *) إنه حق " * (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *).
أي بكفركم " * (قد خسر) *) وكس وهلك " * (الذين كذبوا بلقاء الله) *) بالبعث بعد الموت " * (حتى إذا جاءتهم الساعة) *) القيامة، " * (بغتة) *) فجأة " * (قالوا يا حسرتنا) *) ندامتنا " * (على ما فرطنا) *) قصرنا " * (فيها) *) في الطامة، وقيل: تركنا في الدنيامن عمل الآخرة.
وقال محمد بن جرير: الهاء راجعة إلى الصفقة، وذلك إنه لما تبين لهم خسران صفقتهم بيعهم الإيمان بالكفر والدنيا بالآخرة، قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها، أي في الصفقة فترك ذكر الصفقة كما يقول " * (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) *) لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع.
قال السدي: يعني على ما ضيعنا من عمل الجنة، يدل عليه ما روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: (يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا) * * (وهم يحملون أوزارهم) *) آثامهم وأفعالهم.
143

قال أبو عبيد: يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع: إحمل وزرك ووزرتك واشتقاقه من الوزر الذي يعتصم به ولهذا قيل: وزر لأنه كأنه الذي يعتصم به الملك أو النبي ومنه قوله تعالى * (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي) * * (على ظهورهم) *).
قال السدي وعمرو بن قيس الملائي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيب ريحا، يقول: هل تعرفني؟ يقول: لا، إلا أن الله عز وجل قد طيب ريحك وحسن صورتك، فيقول: كذلك كتب في الدنيا أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني اليوم أنت.
وقرأ " * (يوم يحشر المتقين إلى الرحمان وفدا) *) أي ركبانا، فإن الكافر تستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله عز وجل قد قبح صورتك وأنتن ريحك، فيقول: لما كان عملك في الدنيا، أنا عملك السيء طالما ركبتني في المساء فأنا أركبك اليوم وذلك قوله " * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون) *).
قال الزجاج: لا يزر إليهم أوزارهم، كما يقول الضحاك: نصب عيني وذكرك محيي قلبي " * (ألا ساء ما يزرون) *) أي يحملون ويعملون " * (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) *) باطل وغرور لا يبقى، وهذا تكذيب من الله للكفار في قولهم " * (ما هي إلا حياتنا الدنيا) *) الآية " * (وللدار الآخرة) *) قرأتها العامة رفعا على نعت الواو، وإضافة أهل الشام لاختلاف اللفظين كقوله: ربيع الأول، ومسجد الجامع " * (وحب الحصيد) *) سميت الدنيا لدنوها، وقيل: لدناءتها وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا " * (خير للذين يتقون) *) من الشرك " * (أفلا تعقلون) *) أي الآخرة أفضل من الدنيا " * (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) *) الآية.
قال السدي: التقى الأخفش بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال الأخفش لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس ها هنا أحد يسمع. كلامك غيري؟ فقال له أبو جهل: والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال أبو يزيد المدني: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل فصافحه فلقيه بعض شياطينه فقال له: يأتيك تصافحه؟ قال: والله إني أعلم إنه لصادق ولكنا متى كنا تبعا لعبد مناف، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
144

وقال ناجية بن كعب: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم ما نتهمك ولا نكذبك ولكن نتهم الذي جئت به ونكذبه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي كان يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب فلا أحسبه إلا صادقا، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لنعلم إن الذي له حق وإنه لا يمنعنا أن نتبع الهدى معك إلا مخافة أن يتخلفنا البأس من أرضنا يعني العرب فإنا (ثمن) أكلة رأس ولا طاقة لنا بهم فأنزل الله عز وجل هذه الآية " * (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) *) بأنك كاذب وساحر ومجنون " * (فإنهم لا يكذبونك) *) أي لا ينسبونك إلى الكذب ولا يقولون لك: كذبت.
وقرأ نافع والكسائي: يكذبونك بالتخفيف وهي قراءة علي رضي الله عنه يعني: ولا يجدونك كاذبا، يقول العرب: أجدبت الأرض وأخصبتها وأحييتها وأهجتها إذا وجدتها جدبة وخصبة ويعيدوا ناتجة للنبات.
قال رؤبة:
وأهيج الخلصاء من ذات البرق
أي وجدتها ناتجة للنبات.
قال الكسائي: يقول العرب: أكذبت الرسل إذا أخبرت إنه قول الكذب فرواه وكذبته إذا أجزت إنه كاذب " * (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك) *) [تسلية نبيه) يقولون: كذبهم قومهم كما كذبتك قريش " * (فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله) *) قال الكلبي: يعني القرآن.
وقال عكرمة: يعني قوله " * (ولقد سبقت كلمتنا ولا مبدل لكلمات الله) *) إلى قوله: " * (الغالبون) *) وقوله: " * (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا) *) وقوله تعالى " * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) *) العدل يعني لأخلفهما لعذابه " * (ولقد جاءك من نبأ المرسلين) *) من قبل كما يقول: أصابنا من مطر أي مطر.
" * (وإن كان كبر عليك إعراضهم) *) قال الكلبي: قال الحرث بن عامر: يا محمد إئتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي بها فإن أتيت بها آمنا بك وصدقناك، فأبى الله أن يأتيهم بها فأعرضوا عنه
145

وكبر عليه صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل " * (وإن كان كبر) *) عظم وضاق " * (عليك إعراضهم) *) عنك " * (فإن استطعت أن تبتغي) *) تطلب وتتخذ " * (نفقا) *) سربا " * (في الأرض) *) مثل نافقا اليربوع وهو أحد حجرته فيذهب فيه " * (أو سلما) *) درجا ومصعدا إلي " * (في السماء) *) يصعد فيه.
قال الزجاج: السلم من السلامة وهو الذي يسلمك إلى مصعدك " * (فتأتيهم بآية) *) فافعل " * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) *) فآمنوا كلهم " * (فلا تكونن من الجاهلين) *) أن يؤمن بك بعضهم دون بعض وإن الله لو شاء لجمعهم على الهدى، وإن من يكفر إنما يكفر بسائر علمه فيه.
2 (* (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون * وقالوا لولا نزل عليه ءاية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل ءاية ولاكن أكثرهم لا يعلمون * وما من دآبة فى الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا فى الكتاب من شىء ثم إلى ربهم يحشرون * والذين كذبوا بئاياتنا صم وبكم فى الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم * قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شآء وتنسون ما تشركون * ولقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأسآء والضرآء لعلهم يتضرعون * فلولاإذ جآءهم بأسنا تضرعوا ولاكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون * فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) *) 2
" * (إنما يستجيب الذين يسمعون) *) يعني المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمعه فلا يصغي إلى الحق " * (والموتى) *) يعني الكفار " * (يبعثهم الله) *) مع الموتى " * (ثم إليه يرجعون وقالوا) *) يعني الحرث بن عامر وأصحابه. " * (لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون) *) حالهم في نزولها " * (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) *) على التأكيد، كما يقال: أخذت بيدي، مشيت برجلي ونظرت بعيني.
" * (إلا أمم أمثالكم) *) يعني بعضهم من بعض والناس أمة والطير أمة والسباع أمة والدواب أمة، وقيل: إلا أمم أمثالكم جماعات أمثالكم.
وقال عطاء: أمثالكم في التوحيد (ومعرفة الله) وقيل: إلا أمم أمثالكم في التصور والتشخيص " * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) *) يعني في اللوح المحفوظ " * (ثم إلى ربهم يحشرون) *).
قال ابن عباس، والضحاك: حشرها: موتها
146

وقال أبو هريرة: في هذه الآية يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطيور وكل شيء فيبلغ من عذاب الله يومئذ أن يأخذ الجماء من القرناء ثم يقول: كوني ترابا فعند ذلك " * (يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) *).
وقال عطاء: فإذا رأوا بني آدم وما فيه من الجزية، قلت الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم فلا جنة نرجو ولا نارا نخاف، فيقول الله عز وجل لهم كونوا ترابا فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون ترابا.
وعن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انتطحت عنزان فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أتدرون فيما إنتطحا) قالوا: لا ندري، قال: لكن الله يدري ويقضي بينهما " * (والذين كذبوا بآياتنا) *) محمد والقرآن " * (صم) *) لا يسمعون الخبر " * (وبكم) *) لا يتكلمون، الخبر " * (في الظلمات) *) في ظلالات الكفر " * (من يشأ الله يضلله) *) يموتون على كفرهم " * (ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) *) قائم وهو الإسلام " * (قل أرءيتكم) *) أي هل رأيتم والكاف فيه للتأكيد، " * (إن أتاكم عذاب الله) *) يوم بدر وأحد والأحزاب وحنين، " * (أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون) *) في صرف العذاب، " * (إن كنتم صادقين) *) ثم قال " * (بل إياه تدعون) *) تخلصون " * (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون) *) تتركون " * (ما تشركون ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) *) فكفروا " * (فأخذناهم بالبأساء) *) الفقر والجوع " * (والضراء) *) المرض والزمانة " * (لعلهم يتضرعون) *) يؤمنون ويتوبون ويخضعون ويخشعون.
" * (فلولا إذا جاءهم بأسنا) *) عذابنا " * (تضرعوا) *) فآمنوا فكشف عنهم " * (ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) *) من الكفر والمعصية " * (فلما نسوا ما ذكروا به) *) أي أنكروا ما عظوا وأمروا به " * (فتحنا عليهم أبواب كل شيء) *) أي بدلناهم مكان البلاء والشدة بالرخاء في العيش والصحة في الأبدان " * (حتى إذا فرحوا) *) أعجبوا " * (بما أوتوا أخذناهم بغتة) *) فجأة امن ما كانوا بالعجب ما كانت الدنيا لهم، " * (فإذا هم مبلسون) *) يئسون من كل خير.
قال السدي: هالكون، ابن كيسان: خاضعون، وقال الحسن: منصتون.
وقرأ عبد الرحمن السلمي: مبلسون بفتح اللام مفعولا بهم أي مؤيسون. وأصل الإبلاس الإطراق من الحزن والندم.
وقال مجاهد: الإبلاس الفضيحة. وقال: ابن زيد المبلس الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه
147

قال جعفر الصادق: فلما نسوا ما ذكروا به من التعظيم فتحنا عليهم أبواب كل شيء من النعم حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الترفيه والتنعيم جاءتهم بغتة إلى سوء الجحيم " * (فقطع دابر القوم) *) قال السدي: أصل القوم.
قال قطرب: أخذهم يعني استؤصلوا وأهلكوا " * (الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) *) على إهلاكهم.
روى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله أعطى العباد ما يشاؤن على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم). ثم تلا هذه الآية " * (فلما نسوا ما ذكروا به) *) الآية.
(* (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إلاه غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الايات ثم هم يصدفون * قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون * وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن ءامن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بئاياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون * قل لا أقول لكم عندى خزآئن الله ولاأعلم الغيب ولاأقول لكم إنى ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلى قل هل يستوى الاعمى والبصير أفلا تتفكرون * وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع لعلهم يتقون * ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شىء وما من حسابك عليهم من شىء فتطردهم فتكون من الظالمين * وكذالك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهاؤلاء من الله عليهم من بيننآ أليس الله بأعلم بالشاكرين * وإذا جآءك الذين يؤمنون بئاياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم * وكذلك نفصل الايات ولتستبين سبيل المجرمين * قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهوآءكم قد ضللت إذا ومآ أنا من المهتدين * قل إنى على بينة من ربى وكذبتم به ما عندى ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين * قل لو أن عندى ما تستعجلون به لقضى الامر بينى وبينكم والله أعلم بالظالمين) *) 2
" * (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم) *) فذهب بها " * (وختم على قلوبكم) *) وطبع عليها يعني لا يفقهوا قولا ولا يبصروا حجة " * (من إله غير الله يأتيكم به) *) يعني بما أخذ منكم " * (أنظر كيف نصرف) *) نبين " * (لهم الآيات ثم هم يصدفون) *) يعرضون عنها مكذبين بها " * (قل أرأيتكم إن
148

أتاكم عذاب الله بغتة) *) فجأة " * (أو جهرة) *) معاينة ورؤية (على ما أشركوا) * * (هل يهلك) *) بالعذاب " * (إلا القوم الظالمون) *) المشركون " * (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح) *) العمل " * (فلا خوف عليهم) *) حين يخاف أهل النار " * (ولا هم يحزنون) *) إذا حزنوا " * (والذين كذبوا بآياتنا) *) بمحمد والقرآن " * (يمسهم) *) يصيبهم " * (العذاب بما كانوا يفسقون) *) يرتكبون " * (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) *) يعني رزق الله " * (ولا أعلم الغيب) *) ما يخفى عن الناس " * (ولا أقول لكم إني ملك) *) فتنكرون قولي وتجحدون أمري " * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) *) وذلك غير منكر ولا مستحيل في العقل مع وجود الدلائل والحجة البالغة " * (قل هل يستوي الأعمى والبصير) *) الكافر والمؤمن والضال والمهتدي " * (أفلا تتفكرون) *) لا يستويان " * (وأنذر) *) خوف " * (به) *) بالقرآن.
قال الضحاك: به أي بالله " * (الذين يخافون أن يحشروا) *) يبعثوا ويحيوا " * (إلى ربهم) *) وقيل: يعلمون أن يحشروا لأن خوفهم بما كان من عملهم " * (ليس لهم من دونه) *) من دون الله " * (ولي) *) يعني قريب ينفعهم " * (ولا شفيع) *) يشفع لهم * (لعلهم يتقون) * * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) *) الآية، قال سليمان، وخباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية.
جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصين الفزاري وهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المسلمين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ويغيب عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكانت عليهم جباب من صوف لم يكن عليهم غيرها لجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أنا بطارد المؤمنين) قالوا: فأنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم وإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: نعم، قالوا: أكتب لنا بذلك كتابا، قال: فدعانا لصحيفة ودعا عليا ليكتب.
قال: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل (عليه السلام) بقوله " * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) *) إلا بشيء فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: سلام عليكم " * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) *) فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله عز وجل هذه الآية " * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) *) الآية، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعمد وندنوا منه حتى كادت ركبنا تمس ركبه فإذا بلغ الساعة التي يقوم قمنا وتركناه حتى يقوم وقال: (الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي (معكم المحيا ومعكم) الممات).
149

وقال الكلبي: قالوا له: اجعل لنا يوما ولهم يوم، قال: لا أفعل، قالوا: فاجعل المجلس واحدا وأقبل إلينا وول ظهرك عليهم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى الأشعث بن سواد عن إدريس عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعا لهؤلاء أهؤلاء الذين قال: من الله عليهم من بيننا، أطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم إتبعناك، فأنزل الله تعالى " * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) *) الآية، قال: بها قد قالت قريش: لولا بلال وابن أم عبد لتابعنا محمدا فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال عكرمة: جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن أمية ومطعم بن عدي والحرث بن نوفل وقرظة ابن عبد وعمرو بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنهم عبيدنا كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه. وتصديقنا له فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كتموه، فقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون فنزلت من قولهم هذه الآية فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب واعتذر من مقالته.
وقال جبير بن نفيل: إن قريشا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أرسلت إلينا فاطرد هؤلاء السقاط عنك فنكون أصحابك فأنزل الله تعالى " * (ولا تطرد) *) الآية.
قال ابن عباس: يدعون ربهم يعني يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة بالغداة والعشي يعني صلاة الصبح وصلاة العصر، وذلك إن ناسا من الفقراء كانوا مع النبي صلى الله
عليه وسلم فقال قوم من الأشراف: إذا صلينا فأخر هؤلاء وليصلوا خلفنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية " * (ولا تطرد الذين) *) الآية.
وقال حمزة بن عيسى: دخلت على الحسن فقلت له: يا أبا سعيد أرأيت قول الله تعالى " * (ولاتطرد الذين آمنوا) *)، قال: لا ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة.
وقال مجاهد: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب (رضي الله عنه) فلما سلم الإمام، ابتدر الناس القاص، فقال سعيد ما أسرع الناس إلى هذا المجلس.
فقال مجاهد: فقلت: يتأولون قول الله عز وجل ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، فأراد في هذا هو إنما ذلك في الصلاة التي انصرفا عنها الآن، وقلنا إنهم يذكرون ربهم.
وقال أبو جعفر: يعني يقرأون القرآن " * (يريدون وجهه) *) جواب لقوله " * (ما عليك من حسابهم
150

من شيء) *) وقوله " * (فتكون) *) جواب لقوله ولا تطرد لا أحد هو جواب نفي والله جواب النهي " * (من الظالمين) *) من الضارين لنفسك بالمعصية والنفس الطرد في غير موضعه " * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) *) التعريف الوضيع والعرفي بالمولى والغني الآية " * (ليقولوا) *) يعني الأشراف الأغنياء " * (أهؤلاء) *) يعني الفقراء والضعفاء " * (من الله عليهم من بيننا) *) قال الكلبي: كان الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد آمن قبله حمى أنفا أن يسلم ويقول: سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم " * (أليس الله بأعلم بالشاكرين) *) يعني المؤمنين وهذا جواب لقوله " * (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) *) وقيل: أليس الله أعلم بالشاكرين، من يشكر على الإسلام إذا هديته له.
العلاء بن بشير عن أبي بكر الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في عصابة فيها ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم يستر بعضا من العري وقارىء يقرأ علينا ونحن نستمع إلى قراءته فقال النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام علينا فلما رأى القارئ سكت، فسلم وقال: ما كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول الله كان قارىء يقرأ علينا ونحن نستمع إلى قراءته، فقال النبي صلى الله عليه وسل
151

الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال هكذا بيده هكذا، فحلق القوم وبرزت وجوههم فلم يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحدا وكانوا ضعفاء المهاجرين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أبشروا صعاليك المهاجرين بالفوز التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء المؤمنين بنصف يوم مقداره خمس مائة سنة).
هشام بن سليمان عن أبي يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (يا معشر الفقراء إن الله رضي لي أن أتأسى بمجالسكم وأن الله معنا فقال: " * (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) *) فإنها مجالس الأنبياء قبلكم والصالحين).
معاوية بن مرة عن عائذ بن عمرو: أن سلمانا وصهيبا وبلالا كانوا قعدوا فمر بهم أبو سفيان فقالوا له: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها بعد. فقال لهم أبو بكر (رضي الله عنه): تقولون هذا لشيخ قريش وسيدها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك) فوقع أبو بكر فيهم فقال: لعلي أغضبتكم؟ قالوا: لا يا أبا بكر يغفر الله لك.
" * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا) *) اختلفوا فيما نزلت هذه الآية. فقال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: (الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام).
وقال الكلبي: لما نزلت هذه الآية " * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) *) جاء عمر (رضي الله عنه) للنبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر إليه من مقالته واستغفر الله تعالى منها، وقال: يا رسول الله ما أردت بهذا إلا الخير فنزل في عمر (رضي الله عنه) * * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) *) الآية.
وقال عطاء: نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة وصهيب بن عمير وعمر وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر، والأرقم بن الأرقم وأبي سلمة بن الأسد رضي الله عنهم أجمعين.
وقال أنس بن مالك (رضي الله عنه) عنه: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا كثيرة عظيمة فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله على الرجال الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم " * (كتب ربكم على نفسه الرحمة إنه من عمل منكم سوءا بجهالة) *) قال مجاهد: لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ركب الأمر وكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل، وقيل: جاهل بما يورثه ذلك الذنب، يقال: جهل حين آثر المعصية على الطاعة " * (ثم تاب من بعده) *) فرجع عن دينه " * (وأصلح) *) عمله، وقيل: أخلص توبته " * (فإنه غفور رحيم) *) واختلف القراء في قوله تعالى " * (إنه) *) (الكوفيون) بفتح الألف منهما جميعا. ابن كثير والأعمش وابن عمر وحمزة والكسائي على الاستئناف، ونصبها الحسن وعاصم ويعقوب بدلا من رحمة، وفتح أهل المدينة الأولى على معنى وكتب إنه وكسروا الثانية على الاستئناف لأن ما بعدها لا يخبر أبدا " * (وكذلك) *) أي هكذا، وقيل: معناه وفصلنا لك في هذه السورة والآية.
وجاء في أعلى المشروح في المنكرين من كذلك " * (نفصل الآيات) *) أي نميز ونبين لك حجتنا وأدلتنا في كل من ينكر أهل الباطل " * (ولتستبين سبيل المجرمين) *) مر رفع السبيل ومعناه وليظهر وليتضح طريق المجرمين. يقال بأن الشيء وأبان وتبيان وتبين إذا ظهر ووضح والسبيل يذكر ويؤنث، فتميم تذكر، وأهل الحجاز يؤنثه، ودليل المذكر قوله عز وجل * (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) * * (وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا) *) ودليل التأنيث قوله تعالى " * (لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا) *) وقوله عز وجل " * (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة) *) ولذلك قرأ ولتستبين بالياء والتاء، وقرأ أهل
المدينة ولتستبين بالتاء، سبيل بالنصب على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم عناه ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين، يقال واستبين الشيء وتبينته إذا عرفته " * (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم) *) في عبادة الأوثان وطرد بلال وسلمان " * (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) *) يعني إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير الهدى.
152

وقرأ يحيى بن وثاب (وأبو رجاء): قد ضللت، بكسر اللام وهما لغتان ضل يضل مثل قل يقل. وضل يضل مثل مل يمل، والأولى هي الأصح والأفصح لأنها لغة أهل الحجاز " * (قل إني على بينة) *) بيان وبرهان وبصيرة وحجة " * (من ربي وكذبتم به) *) أي بربي " * (ما عندي ما تستعجلون به) *) يعني العذاب، نزلت في النضر بن الحرث " * (إن الحكم) *) ما القضاء " * (إلا لله يقص الحق) *) قرأ أهل الحجاز، وعاصم يقص الحق بالصاد المشددة أي يقول الحق قالوا: لأنه مكتوب في جميع المصاحف بغير ياء ولأنه قال الحق فإنما يقال قضيت بالحق. وقرأ الباقون: بالضاد أي يحكم بالحق دليله قوله " * (وهو خير الفاصلين) *) والفصل جلب القضاء، والقراء إنما حذفوا الياء للإستثقال ثم (...) كقوله " * (صال الجحيم) *) وقوله " * (يمحو الله ما يشاء) *) و * (فما تغن النذر) * * (سندع الزبانية) *) ونحوها وحذفوا الباء من الحق لأنه صفة المصدر فكأنه يقضي القضاء الحق.
" * (قل لو أن عندي) *) بيدي " * (ما تستعجلون به) *) هو العذاب " * (لقضي الأمر بيني وبينكم) *) أي فرغ من العذاب وأهلكتم " * (والله أعلم بالظالمين) *).
2 (* (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو ويعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين * وهو الذى يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون * وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جآء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين * قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هاذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون * قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الايات لعلهم يفقهون * وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل * لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون) *) 2
" * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) *) المفاتح جمع المفتح.
وقرأ ابن السميقع: بمفاتيح على جمع المفتاح، يعني ومن عنده معرفة الغيب وهو يفتح ذلك بلطفه، واختلفوافي مفاتيح الغيب
153

فروى عبد الله بن عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفاتح الغيب خمس....... إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير).
وقال السدي: مفاتح الغيب خزائن الغيب. مقاتل، والضحاك: يعني خزائن الأرض. وعلم نزول العذاب متى ينزل بكم.
عطاء: يعني ما غاب عنكم من الثواب والعقاب وما يصير إليه أمري وأمركم، وقيل: هي الآجال ووقت انقضائها، وقيل: أحوال العباد من السعادة والشقاوة، وقيل: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال، وقيل: هي ما لم يكن بعد إنه يكون أم لا يكون وما يكون كيف يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون.
وقال ابن مسعود: أوتي نبيكم علم كل شيء إلا مفاتيح الغيب " * (ويعلم ما في البر والبحر) *).
قال مجاهد: البر القفار والبحر كل قرية فيها ماء " * (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) *)
قال ابن عباس: ما شجرة في بر ولا بحر إلا وبها ملك وكل يعلم من يأكل وما يسقط من ورقها وقل منكم عندما بقي من الورق على الشجر وما سقط منها.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عبدوس يقول: معناه يعلم كما تقلبت ظهرا لبطن إلى أن سقطت على الأرض " * (ولا حبة في ظلمات الأرض) *) أي في بطون الأرض، وقيل: تحت الصخرة في أسفل الأرضين " * (ولا رطب ولا يابس) *) قال ابن عباس: الرطب الماء، واليابس البادية. وقال عطاء: يريد ما ينبت وما لا ينبت.
وقال الحسن: يكتبه الله رطبا ويكتبه يابسا لتعلم يا بن آدم إن عملك أولى بها (من إصلاح) تلك الجنة.
وقال: الرطب لسان المؤمن رطب بذكر الله، واليابس لسان الكافر لا يتحرك بذكر الله. وبما يرضي الله عز وجل. وقيل: هي الأشجار والنبات.
وروى الأعمش عن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث، فقال: ما في الأرض من شجرة ولا كمغرز إبرة إلا عليهاملك وكل يأتي الله بعلمها ويبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت.
محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما من زرع على الأرض ولا ثمار
154

على أشجار (ولا حبة في ظلمات الأرض) إلا عليها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، رزق فلان ابن فلان وذلك قوله تعالى في محكم كتابه " * (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس) *)).
" * (إلا في كتاب مبين وهو الذي يتوفاكم بالليل) *) أي يقبض أرواحكم في منامكم " * (ويعلم ما جرحتم بالنهار) *) وأصله من (جارحة) اليد.
ثم قيل لكل عليك جارح أي عضو من أعضائه عمل ومنه (الزرع الجيد)، ويقال لا ترك الله له جارحا أي عبدا ولا أمة يكسب له " * (ثم يبعثكم) *) أي ينشركم
ويوقظكم " * (فيه) *) في النار " * (ليقضي أجل مسمى) *) يعني أجل الحياة إلى الممات حتى ينقضي أثرها ورزقها.
فقرأ أبو طلحة وأبو رجاء " * (لنقضي) *) بالنون المفتوحة أجلا نصب، وفي هذا إقامة الحجة على منكري البعث يعني كما قدرت على هذا فكذلك أقدر على بعثكم بعد الموت.
وقال: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم كما تنام كذلك تموت وكما توقظ كذلك تبعث " * (ثم إليه مرجعكم) *) في الآخرة " * (ثم ينبئكم) *) يخبركم ويجازيكم " * (بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة) *) يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم وهو جمع حافظ، ونظيره قوله " * (وإن عليكم لحافظين) *) قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): ومن الناس من يعيش شقيا جاهل القلب، غافل اليقظة، فإذا كان ذا وفاء ورأى حذر الموت واتقى الحفظة، إنما الناس راحل ومقيم الذي راح للمقيم عظة " * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) *) يعني أعوان ملك الموت يقبضونه ثم يدفعونه إلى ملك الموت " * (وهم لا يفرطون) *) لا يعصون ولا يضيعون.
وقرأ عبيد بن عمر: لا يفرطون بالتخفيف معنى لا يجاوزون الحد " * (ثم ردوا إلى الله) *) يعني الملائكة وقيل: يعني العباد " * (مولاهم الحق ألا له الحكم) *) القضاء في خلقه " * (وهو أسرع الحاسبين) *) يعني لا يحتاج إلى روية ولا تقدير " * (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر) *) إذا ضللتم الطريق وخفتم الهلاك " * (تدعونه تضرعا وخفية) *) وقرأ عاصم: وخفية وهما لغتان. وقرأ الأعمش وخفية من الخوف كالذي في الأعراف " * (لئن أنجانا الله من هذه) *) أي ويقولون لئن أنجيتنا من هذه يعني الظلمات " * (لنكونن من الشاكرين) *) من المؤمنين " * (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب) *) حزن " * (ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) *) يعني
155

الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح " * (أو من تحت أرجلكم) *) يعني الخسف كما فعل بقارون.
وقال مجاهد: عذابا من فوقكم السلاطين، الذين من تحت أرجلكم العبيد السوء.
الضحاك: عذابا من فوقكم من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم من أسفل منكم " * (أو يلبسكم شيعا) *) أو يخلقكم ويفرق ويبث فيكم الأهواء المختلفة " * (ويذيق بعضكم بأس بعض) *) يعني السيوف المختلفة بقتل بعضكم بعضا كما فعل ببني إسرائيل، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا جبرئيل ما بقاء أمتي على ذلك؟ فقال له جبرائيل: إنما أنا عبد مثلك) فسل ربك؟ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ وصلى وسأل ربه فأعطى آيتين ومنع واحدة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سألته أن يبعد على أمتي عذابا من فوقهم ومن تحت أرجلهم فأعطاني ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، وأخبرني جبرئيل (عليه السلام) أن فناء أمتي بالسيف).
وقال الزهري: راقب خباب بن الإرث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يصلي فلما فرغ، قال: وقت الصباح لقد رأيتك تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها، قال: أجل إنها صلاة رغبة ورهبة سألت ربي فيها ثلاثا وأعطاني اثنتين، وزوى عني واحدة، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فأعطاني، وسألته أن لا يرسل عليهم سنة فتهلكهم فأعطاني، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فزواها عني).
" * (أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وكذب) *) قرأ إبراهيم بن عبلة وكذبت بالتاء " * (به) *) أي بالقرآن وقيل: بالعذاب " * (قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل) *) أي حفيظ ورقيب وقيل: مسلط * (إنما أنا رسول) * * (لكل نبأ مستقر) *) موضع قوله وحقيقة ومنتهى ينتهي إليه فيتبين صدقه من كذبه وحقه من باطله.
قال مقاتل: لكل خبر يخبره الله تعالى وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير.
قال الكلبي: لكل قول أو فعل حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه. وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لهم " * (وسوف تعلمون) *) ذلك.
وقال الحسن: لكل عمل جزاء فمن عمل عملا من الخير جوزي به الجنة، ومن عمل عمل سوء جوزي به النار، وسوف تعلمون يا أهل مكة.
وقال السدي: لكل نبأ مستقر أي ميعاد وحد تكتموه، فسيأتيكم حتى تعرفوه
156

وقال عطاء: لكل نبأ مستقر يؤخر عقوبته ليعمل ذنبه فإذا عمل ذنبه عاقبه.
قال الثعلبي: ورأيت في بعض التفاسير إن هذه الآية نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع عليه السن.
2 (* (وإذا رأيت الذين يخوضون فىءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا فى حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين * وما على الذين يتقون من حسابهم من شىء ولاكن ذكرى لعلهم يتقون * وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيواة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ أولائك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون * قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذى استهوته الشياطين فى الارض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين * وأن أقيموا الصلواة واتقوه وهو الذىإليه تحشرون * وهو الذى خلق السماوات والارض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ فى الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير) *) 2
" * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) *) يعني القرآن الاستهزاء والكذب " * (فأعرض عنهم) *) فاتركهم ولا تجالسهم " * (حتى يخوضوا) *) يدخلوا " *
(في حديث غيره) *) غير القرآن، وذلك إن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوا واستهزؤا بالقرآن، فنهى الله المؤمنين عن مجالستهم " * (وإما ينسينك) *).
قرأ ابن عباس وابن عامر: ينسونك بالتشديد " * (الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *) فقم من عندهم بعد ما ذكرت ثم قال " * (وما على الذين يتقون) *) الخوض " * (من حسابهم) *) من أيام الخائضين " * (من شيء) *).
قال ابن عباس: قال المسلمون: فإنا نخاف الإثم حين نتركهم فلا ننهاهم فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال ابن عباس في رواية أخرى: قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ المشركون في القرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزل " * (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء) *) * * (ولكن ذكرى) *) أي ذكروهم وعظوهم وهي في محل النصب على المصدر أي ذكروهم ذكرى والذكر والذكرى واحد ويجوز أن يكون في موضع الرفع أي هو ذكرى " * (لعلهم يتقون) *) الخوض إذا وعظتموهم، وقيل: وإذا قمتم يسعهم في ذلك من الاستهزاء والخوض. وقيل: لعلهم يستحيون " * (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) *) باطلا
157

وفرحا " * (وغرتهم الحياة الدنيا) *) وذلك أن الله تعالى جعل لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه فكان قوم اتخذوا عيدهم لهوا ولعبا إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة لله.
وذكرا مثل الجمعة والفطر والنحر " * (وذكر به) *) وعظ بالقرآن " * (أن تبسل نفس بما كسبت) *) يعني أن لا تبسل كقوله تعالى بين الله لكم أن تضلوا. ومعنى الآية ذكرهم ليؤمنوا فلا تبسل نفس بما كسبت.
قال ابن عباس: تهلك، قتادة: تحيس.
الحسن، ومجاهد، وعكرمة، والسدي: تسلم للهلكة. علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: تفضح.
الضحاك: تفضح وتحرق. المؤرخ، وابن زيد: تؤخذ.
قال الشاعر:
وإبسالي بني بغير جرم
بعونها ولا بدم مراق
العوف بن الأحوض: وكان رهن بيته وحمل عن غنى لبني قشير دم السحقية. فقالوا: لا نرضى بك، فدفعهم رهنا، وقوله بعونا أي جنينا، والبعو الجناية.
وقال الأخفش: تبسل أي تجزى. وقال الفراء: ترتهن.
وأنشد النابغة الجعدي:
ونحن رهنا بالأفاقة عامرا
بما كان في الدرداء رهنا فأبسلا
وقال عطية العوفي: يسلم في خزية جهنم.
وقال أهل اللغة: أصل الإبسال التحريم، يقال: أبسلت الشيء إذا حرمته، والبسل الحرام.
قال الشاعر:
بكرت تلومك بعد وهن في الندى
بسل عليك ملامتي وعتابي
فقال: أنشدنا بسل أي شجاع لا يقدر موته كأنه قد حرم نفسه ثم جعل ذلك نعتا لكل شديد. يترك، ويبقى. ويقال: شراب بسل أي متروك.
قال الشنفرى
158

هنالك لا أرجو حياة تسرني
سمير الليالي مبسلا بالجرائر
وقوله تعالى " * (ليس لها) *) أي لتلك الأنفس " * (من دون الله ولي) *) حميم وصديق " * (ولا شفيع) *) يشفع لهم في الآخرة " * (وإن تعدل كل عدل) *) تفد كل فداء، " * (لا يؤخذ منها) *).
قال أبو عبيدة: وإن يقسطه كل قسط لا يقبل منها لأن التوبة في الحياة " * (أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون قل أندعوا من دون الله) *) نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر حين دعا أباه إلى الكفر فأنزل الله تعالى قل أندعوا من دون الله " * (ما لا ينفعنا) *) إن عبدناه " * (ولا يضرنا) *) إن تركناه " * (ونرد على أعقابنا) *) إلى الشرك " * (بعد إذ هدانا الله) *).
وتقول العرب لكل راجع خائب لم يظفر بحاجته: رد على عقبيه ونكص على عقبيه فيكون مثله " * (كالذي استهوته الشياطين) *) أي أضلته.
وقال ابن عباس (رضي الله عنه): كالذي استغوته الغيلان في المهامة وأضلوه وهو حائر بائر " * (في الأرض حيران) *) وحيران نصب على الحال.
وقرأ الأعمش، وحمزة: كالذي إستهوا به، بالباء. وقرأ طلحة: إستهواه بالألف.
وقرأ الحسن: إستهوته الشياطون وفي مصحف عبد الله وأبي إستهواه الشيطان على الواحد
" * (له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا) *) يعني أتوا به، وقيل: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " * (قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم) *) أي لأن نسلم " * (لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون) *) إلى قوله " * (ينفخ في الصور) *).
قال أبو عبيدة: هو جمع صورة مثل سورة وسور.
قال العجاج:
ورب ذي سرادق محجور
سرت إليه في أعالي السور
وقال آخرون: هو فرن ينفخ فيه بلغة أهل اليمن.
وأنشد العجاج:
نطحناهم غداة الجمعين
بالضابحات في غبار النقعين
نطحا شديدا لا كنطح الصورين
159

يدل على هذا الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم كيف أنعم صاحب القرن قد أكتم القرن (وحنى حنينه) وأصغى سمعه فنظر متى يؤمر فنفخ، ثم قال " * (عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير) *))
.
* (وإذ قال إبراهيم لابيه ءازر أتتخذ أصناما ءالهة إنىأراك وقومك فى ضلال مبين * وكذلك نرىإبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه اليل رأى كوكبا قال هاذا ربى فلمآ أفل قال لاأحب الافلين * فلمآ رأى القمر بازغا قال هاذا ربى فلمآ أفل قال لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضآلين * فلما رأى الشمس بازغة قال هاذا ربى هاذآ أكبر فلمآ أفلت قال ياقوم إنى برىء مما تشركون * إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والارض حنيفا ومآ أنا من المشركين * وحآجه قومه قال أتحاجونى فى الله وقد هدانى ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشآء ربى شيئا وسع ربى كل شىء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف مآ أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأى الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون * الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولائك لهم الامن وهم مهتدون * وتلك حجتنآ ءاتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء إن ربك حكيم عليم) *) 2
" * (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) *).
قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي: وآزر أبو إبراهيم وهو تارخ مثل إسرائيل
ويعقوب وكان من أهل كوثى قرية من سواد الكوفة.
وقال مقاتل بن حيان: لأب إبراهيم.
وقال سليمان (التيمي): هو سب وعيب. ومعناه في كلامهم المعوج وقيل: معناه الشيخ (الهنم) بالفارسية وهو على هذه الأقاويل في محل الخفض على البدل أو الصفحة ولكنه نصب لأنه لا ينصرف.
وقال سعيد بن المسيب، ومجاهد، ويمان: آزر اسم صنم وهو على هذا التأويل في محل نصب.
وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره أتتخذ آزر أصناما ألهة.
وقرأ الحسن وأبو يزيد المدني ويعقوب الحضرمي: آزر بالرفع على النداء بالمفرد يعني يا آزر " * (أتتخذ أصناما ألهة) *) من دون الله إلى قوله " * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) *) يعني كما أريناه البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه نريه ملكوت السماوات
160

والأرض أي ملكهما والملكوت الملك وبدت فيه وجدت التاء للتأنيث في الجبروت والرهبوت والرحموت.
وحكي عن العرب سراعا له مليكوت اليمن والعراق.
وقال الكسائي: زيدت فيه التاء للمبالغة. وأنشد:
وشر الرجال الخالب الخلبوت
وقال عكرمة: هو الملك غير إنها بالنبطية ملكوتا. وقرأها بالياء المعجمة مليا.
وقال ابن عباس: يعني خلق السماوات والأرض.
مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السماوات والأرض، وذلك إنه أقيم على صخرة وكشفت له عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرض ونظر إلى مكانه في الجنة. وذلك قوله " * (وآتيناه أجره في الدنيا) *) يعني أريناه مكانه في الجنة.
قال قتادة: إن إبراهيم (عليه السلام) حدث نفسه إنه أرحم الخلق. فرفعه الله عز وجل حتى أشرف على أهل الأرض وأبصر أعمالهم فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال لله: دمر عليهم، وجعل يلعنهم. فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك، إهبط فلعلهم يتوبوا.
قيس بن أبي حازم عن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما أرى الله تعالى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي الله فدعا الله عليه فهلك، ثم أشرف على آخر فدعا الله عليه فهلك، ثم أشرف على آخر فلما أراد أن يدعو عليه أوحى الله عز وجل إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدعون على عبادي فإنهم مني على ثلاث خصال: إما أن يتوب إلي فأتوب عليه، وإما أن أخرج منه نسمة تسبح، وإما أن (يعود) إلي فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته).
وقال الضحاك: ملكوت السماوات والأرض الشمس والقمر والنجوم. وقال قتادة: خبيء إبراهيم (عليه السلام) من جبار من الجبابرة فحول له رزق في أصابعه فإذا مص إصبعا من أصابعه وجد فيها رزقا فلما خرج أراه الله ملكوت السماوات والأرض وكان ملكوت السماوات الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار.
" * (وليكن من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) *) إلى آخر الآية.
قال المفسرون: إن إبراهيم (عليه السلام) ولد في زمن نمرود بن كيفان وكان نمرود أول
161

من وضع التاج على رأسه وقلد التاج عليه ودعاء الناس (....) وكان له كهان ومنجمون. وقالوا: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه. ويقال إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام.
وقال السدي: رأى نمرود في منامه كأن كوكبا اطلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعا شديدا ودعا السحرة والكهنة والجازة والقافة فسألهم عن ذلك فقالوا: مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاك ملكك وأهل بيتك على يديه. قالوا: فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشر رجلا، فإذا حاضت امرأة خليت بينها وبينه، فإذا طهرت عزل بينها، فرجع آزر أبو إبراهيم فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فوقع عليها في طهرها فلقفت فحملت إبراهيم (عليه السلام).
قال محمد بن إسحاق: بعث النمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده، إلا ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها وذلك إنها كانت جارية حديثة السن لم تعرف الحمل في بطنها.
قال السدي: خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء خوفا من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحدا من قومه إلا أزر فبعث إليه ودعاه. فقال: إن لي إليك حاجة أحب أن أوصيك بها ولا أبعثك إلا لثقتي بك بما أقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ولا تواقعها، فقال آزر: أنا أشح على ديني من ذلك، فأوصاه بحاجته ثم بعثه فدخل المدينة وقضى حاجته، ثم قال: قد دخلت على أهلي ونظرت إليه فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يتمالك حتى وقع عليها فحملت بإبراهيم.
قال ابن عباس: لما حملت أم إبراهيم، قالت الكهان لنمرود: إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادت أم إبراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته في نهر يابس، ثم لفته في خرقة فوضعته في حلفاء فرجعت فأخبرت بأنها ولدت وإن الولد في موضع كذا فانطلق أزر يأخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه.
وقال السدي: لما أعظم بطن أم إبراهيم خشي آزر أن يذبح فانطلق بها إلى أرض بين الكوفة والبصرة يقال لها أورمة فأنزلها في سرب من الأرض وجعل عندها ماء يصلهما وجعل يتعمدها ويكتم ذلك من أصحابه فولدت في ذلك السرب وشب وكان وهو ابن سنة كابن ثلاث سنين وصار من الشباب مخافة أن (يسقط في) طمع الذباحين ثم ذكر آزر لأصحابه أن لي إبنا كبيرا فانطلق به إليهم.
162

وقال ابن إسحاق: لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبا منها فولدت فيها إبراهيم فأصلحت من شأنه ما يصنع من المولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل فتجده حيا يمص إبهامه.
وقال أبو روق: كانت أم إبراهيم كلما دخلت على إبراهيم وجدته يمص أصابعه، فقالت ذات يوم: لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع عسلا ومن إصبع لبنا ومن إصبع تمرا ومن إصبع سمنا.
قال محمد بن إسحاق: وكان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل. فقالت: ولدت غلاما فمات، فصدقها فسكت عنها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرا ثم رجع إلى أبيه آزر فأخبره إنه ابنه و. خبرته أم إبراهيم إنه ابنه وأخبرته بما كانت صنعت في غيابه فسر بذلك آزر وفرح فرحا شديدا، قالوا: فإنما شب إبراهيم وهو في السرب بعد ما قال لأمه: من ربي؟
قالت: أنا، قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك، قال: فمن رب أبي؟ قالت له: أسكت، فسكت، فلما رجعت إلى زوجها قالت: أرأيت الغلام الذي كنا نتحدث إنه بغير
دين أهل الأرض فإنه ابنك ثم أخبرته بما قال لها، فأتاه أبوه آزر فقال له إبراهيم: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: من ربك أنت؟ قال نمرود، قال: فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال: أسكت وقم، قال لأبويه: أخرجاني، فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل، والخيل، والغنم، فقال: أباه ما هذه؟ قال: إبل وخيل وغنم، فقال: ما لهذه بد من أن يكون لها رب وخالق ثم نظر وتفكر في خلق السماوات والأرض. فقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني ربي مالي إله غيره. ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ويقال الزهرة وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فرأى الكوكب قبل القمر. فقال: هذا ربي فذلك قوله عز وجل: " * (فلما جن عليه الليل) *) أي دخل يقال: جن الليل وأجن وجنه الليل وأجنه وجن عليه الليل يجن جنونا وجنانا إذا أظلم ومضى كل شيء، وإنما سميت الجن لاجتنانها فلا ترى.
قال أبو عبيدة: جنون الليل سواده، وأنشد:
فلولا جنان الليل أدرك ركضنا
بذي الرمث والأرطي عياض بن ناشب
ورأى كوكبا " * (فقال هذا ربي) *) اختلفا فيه فأجراه بعضهم على الظاهر. وقالوا: ما كان
163

إبراهيم (عليه السلام) مسترشدا متحيرا طالبا من التوفيق حتى وفقه الله تعالى، وآتاه رشده، فإنما كان هذا منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجة عليه وفي تلك يقول: لا يكون كفر ولا إيمان.
يدل عليه ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فعبده حتى غاب فلما غاب " * (قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي) *) فعبده حتى غاب فلما غاب " * (فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الظالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) *) فعبدها حتى غابت الشمس فلما غابت " * (قال: يا قوم إني بريء مما تشركون) *).
وأنكر الآخرون هذا القول، وقالوا: غير جائز أن يكون لله عز وجل رسول يأتي عليه وقت من الأوقات وهو غير موحد وعارف ومن كل معبود سواه بريء.
قالوا: وكيف قومهم هذا على عصمة الله وطهره في مستقره ومستودعه وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته فقال: " * (إذ جاء ربه بقلب سليم) *) وقال " * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) *) رأى كوكبا فقال " * (هذا ربي) *) على الاعتقاد والحقيقة هذا ما لا يكون أبدا.
ثم قيل فيه أربعة أوجه من التأويل: الوجه الأول: أن إبراهيم (عليه السلام) أراد أن يستدرجهم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموا ويقيم عليهم الحجة ويريهم أنه معظم ما يعظموه ويلتمس الهدى من حيث التمسوا فلما أفل رأيهم النقص الداخل في النجوم ليتبينوا خطأ ما يدعون وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمونها.
قالوا: ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون بدا لهم وهو الصنم وأظهر فعظمه فأراهم الإجتهاد (...) كرموا وصدوا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن ذمهم عدو لهم خافه الملك على ملكه فشاور الحواري في أمره.
فقالوا الرأي: أن تدعوا إلهنا حتى يكشف ما قد أضلنا فإنا لمثل هذا اليوم مجتمعون فاجتمعوا حوله يجأرون ويتضرعون وأمر عدوهم يستعجل ويتوكل فلما تبين لهم أن ربهم لا ينفع ولا يرفع فقال لهم على جهة الاستفهام والتوبيخ لفعلهم " * (هذا ربي) *) ومثل هذا يكون ربا؟ أي ليس هذا ربي كقول الله تعالى " * (تكونا من الخالدين) *) يعني أنهم الخالدون.
164

وكقول موسى (عليه السلام) لفرعون: " * (وتلك نعمة تمنها علي) *) يعني أو تلك نعمة نعمتها.
قال الهذلي:
رفعوني وقالوا يا خويلد لا ترع
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وقال آخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا
شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
والوجه الثالث: أن إبراهيم (عليه السلام) قال هذا على وجه الاحتجاج على قومه لا على معنى الشك في ربه كأنه قال: هذا ربي عندكم فلما أفل قال: وكان الهلال قال: هذا أكبر منه فنظر إلى الذي عكفت عليه ها هنا يعني عندك وقوله: " * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) *) بقوله حزنه في النار لأبي جهل يعني إنك كذا عند نفسك وأما عندنا فلا عزيزا ولا كريما، في الآية اختصار وإضمار ومعناها قال: يقولون هذا ربي كقوله " * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا) *) أي يقولون ربنا تقبل منا. فلما أفل غاب وزال قال: لا أحب الآفلين ربا، لا يدوم، فلما رأى القمر بازغا طالعا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين عن الهدى فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي.
قال محمد بن مقاتل الرازي: إنما قال هذا ولم يقل هذه لأنه رأى ضوء الشمس ولم ير عين الشمس. فرده إلى الشعاع.
وقال الأخفش: أراد هذا الطالع ربي أو هذا الآتي أراه ربي هذا أكبر لأنه رآه أضوأ وأعظم فلما غربت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون " * (إني وجهت وجهي) *) الآية. وكان آزر يصنع الأصنام فلما ضم إبراهيم إلى نفسه جعل يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليصرفها فيذهب بها إبراهيم فينادي: من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد، فإذا زادت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب فيها رؤسها وقال: إشربي إستهزاء بقومه وبما هم عليه من الضلالة حتى فشى عيبه إياها واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته " * (وحاجه) *) أي خاصمه " * (قومه) *) في دينه * (قال لهم) * * (أتحاجوني في الله وقد هداني) *) عرفني التوحيد والحق " * (ولا أخاف ما تشركون به) *) وذلك إنهم قالوا له: أما تخاف أن تمسك آلهتنا بسوء من برص أو خبل لعيبك إياها؟ فقال لهم: ولا
165

أخاف ما تشركون به من الأصنام " * (إلا أن يشاء ربي) *) سواء فيكون بما شاء " * (وسع ربي كل شيء علما) *) يعني أحاط علمه بكل شيء " * (أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم) *) يعني الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع " * (ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا) *) حجة وبرهانا وهو القاهر القادر على كل شيء ثم قال " * (فأي الفريقين أحق بالأمن) *) أولى بالأمن (أنحن ومن اتبع ديني) * * (إن كنتم تعلمون) *) فقال الله عز وجل قاضيا وحاكما بينهما " * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم) *) ولم يخلطوا إيمانهم بشرك " * (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) *).
قال عبد الله بن مسعود: لما نزلت هذه الآية طبق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إننا لم نظلم نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه) * * (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) *)). (إنما هو الشرك).
" * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) *) يعني خصمهم وغلبهم بالحجة قال هي قوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم. قال بعبادة الأوثان " * (نرفع درجات من نشاء) *) بالعلم.
وقرأ أهل الكوفة ويحيى بن يعمر وابن (محيصن): درجات بالتنوين يعني نرفع من نشاء درجات، مثله سورة يوسف " * (إن ربك حكيم عليم) *).
2 (* (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن ءابائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذالك هدى الله يهدى به من يشآء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون * أولائك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هاؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين * أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين * وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا مآ أنزل الله على بشر من شىء قل من أنزل الكتاب الذى جآء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءاباؤكم قل الله ثم ذرهم فى خوضهم يلعبون) *) 2
" * (ووهبنا له) *) لإبراهيم " * (إسحاق ويعقوب كلا هدينا) *) وفقنا وأرشدنا " * (ونوحا هدينا من قبل) *) إبراهيم وولده " * (ومن ذريته) *) يعني ومن داود ونوح لأن داود لم يكن من ذرية إبراهيم وهو داود بن أيشا " * (داود وسليمان) *) يعني ابنه " * (وأيوب) *) وهو أيوب بن (أموص بن رانزخ بن) روح ابن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم " * (ويوسف) *) وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الذي قال رسول
166

الله صلى الله عليه وسلم (إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) * * (وموسى) *) وهو موسى بن عمران بن (صهر بن فاعث بن لادي) بن يعقوب.
وهارون وهو أخو موسى أكبر منه بسنة " * (وكذلك) *) أي كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء " * (نجزي المحسنين) *) على إحسانهم " * (وزكريا) *) وهو زكريا بن أزن بن بركيا " * (ويحيى) *) وهو ابنه " * (وعيسى) *) وهو ابن مريم بنت عمران بن أشيم بن أمون بن حزقيا " * (وإلياس) *).
واختلفوا فيه، فقال عبد الله بن مسعود: هو إدريس مثل يعقوب وإسرائيل.
وقال غيره: هو إلياس بن بستي بن فنخاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبي الله (عليه السلام) وهو (النصيح) لأن الله تعالى نسب في هذه الآية الناس إلى نوح وجعله من ذريته ونوح هو ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس ومحال أن يكون جد أبيه منسوبا إلى أنه من ذريته " * (وكل من الصالحين) *) يعني الأنبياء والمؤمنين " * (وإسماعيل) *) وهو ابن إبراهيم " * (واليسع) *) وهو اليسع بن إخطوب بن العجون " * (ويونس) *) وهو يونس بن متى " * (ولوطا) *) وهو لوط بن هارون أو ابن أخي إبراهيم (عليه السلام) * * (وكلا فضلنا على العالمين) *) يعني عالمي زمانهم " * (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم) *) اختبرناهم واصطفيناهم " * (وهديناهم) *) سددناهم وأرشدناهم، " * (إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا) *) يعني ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم بربهم تعالى ذكره فعبدوا معه غيره " * (لحبط عنهم) *) بطل عنهم وذهب عنهم " * (ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب) *) يعني تلك الكتب " * (والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء) *) يعني قريشا " * (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) *) يعني الأنصار وأهل المدينة.
وقال قتادة: يعني الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله عز وجل " * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) *) بسنتهم وسيرتهم اقتده الهاء فيه هاء الوقف " * (قل لا أسئلكم عليه أجرا) *) جعلا ورزقا " * (إن هو) *) ما هو يعني محمد صلى الله عليه وسلم " * (إلا ذكرى) *) عظة " * (للعالمين وما قدروا الله حق قدره) *) أي ما عظموا الله حق عظمته. وما وصفوا الله حق صفته " * (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) *).
167

قال سعيد بن جبير: جاء رجل من يهود الأنصار يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي: أتشرك بالله الذي أنزل التوراة على موسى؟ ما تجد في التوراة إن الله يبغض الحبر السمين وكان حبرا سمينا فغضب وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال لأصحابه الذين معه ويحك ولا موسى؟ فقال: (والله) ما أنزل الله على بشر من شيء. فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال السدي: إنها نزلت في فحاص بن عازورا، وهو قائل بهذه المقالة.
محمد بن كعب القرضي: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب وقالوا: يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى (عليه السلام) ألواحا يحملها من عند الله؟ فأنزل الله عز وجل " * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) *) الآية.
فجاء رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا. فأنزل الله هذه الآية.
وقال ابن عباس: قالت اليهود: يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم. قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا فأنزل الله " * (وما قدروا الله حق قدره) *).
معلى بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت في الكفار أنكروا قدرة الله تعالى عليهم فمن أقر أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره.
وقال مجاهد: نزلت في بشر من قريش. قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء.
وقوله " * (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) *) إلى قوله " * (وتخفون كثيرا) *) قال: هم اليهود.
وقوله " * (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) *) قال هذه المسلمين وهكذا.
روى أيوب عنه إنه قرأ " * (وعلمتم) *) معشر العرب " * (ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) *) وقوله " * (يجعلونه قراطيس) *) أي دفاتر كتبنا جمع قرطاس أي تفرقونها وتكتبونها في دفاتر مقطعة حتى لا تكون مجموعة لتخفوا منها ما شئتم ولا يشعر بها العوام، تبدونها وتخفون كثيرا من ذكر محمد وآية الرجم ونحوها مما كتبوها.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بن العلاء: يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا كلها بالياء على الإخبار عنهم.
168

وقرأها الباقون: بالتاء على الخطاب، ودليلهم قوله تعالى مما قبله من الخطاب. قل من أنزل الكتاب.
وقرأ بعده " * (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) *) فإن أجابوك وقالوا: الله، وإلا ف " * (قل الله) *) فعل ذلك " * (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) *) حال وليس بجواب تقديره ذرهم في خوضهم لاعبين.
(* (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذى بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالاخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون * ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شىء ومن قال سأنزل مثل مآ أنزل الله ولو ترىإذ الظالمون فى غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءاياته تستكبرون * ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعآءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركآء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) *) 2
" * (وهذا كتاب) *) يعني القرآن " * (أنزلناه مبارك) *) أي وهذا كتاب مبارك أنزلناه " * (مصدق الذي بين يديه ولتنذر) *) تخبر.
وقرأ عاصم: بالياء أي ولينذر الكتاب " * (أم القرى) *) يعني مكة سماها أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها " * (ومن حولها) *) تحمل الأرض كلها شرقا وغربا " * (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به) *) بالكتاب " * (وهم على صلاتهم) *) يعني الصلوات الخمس " * (يحافظون) *) يداومون " * (ومن أظلم) *) أي أخطأ قولا وأجهل فعلا " * (ممن افترى) *) اختلق " * (على الله كذبا) *) فزعم إنه بعثه نبيا " * (وقال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) *) نزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي وكان يستمع ويتكهن ويدعي النبوة ويزعم إن الله أوحى إليه وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم (أتشهدان أن مسيلمة نبي؟ فقالا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رأيت فيما يرى النائم كأن في يدي سوارين من ذهب فكبرا علي وأهماني فأوحى الله إلي أن أنفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة، وكذاب صنعاء الأسود العبسي).
" * (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) *) نزلت في عبد الله بن سعيد بن أبي سرح القرشي،
169

وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا قال سميعا عليما كتب هو عليما حكيما، وإذا قال عليما حكيما كتب غفورا رحيما، وأشباه ذلك فلما نزلت " * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) *) الآية. أملاها رسول الله عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكتبها فهكذا نزلت) فشك عبد الله وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت (كما كتب) فارتد عن المسلمين ولحق بالمشركين، وقال لهما: عليكم بمحمد لقد كان يملي علي فأغيره وأكتب كما أريد.
ووشى بعمار وجبير عبد لبني الحضرمي يأخذوهما وعذبوهما حتى أعطياهما الكفر وجذع أذن عمار يومئذ فأخبر عمار النبي صلى الله عليه وسلم بما لقي وبما أعطاهم من الكفر فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاه هؤلاء فأنزل الله عز وجل فيه، وفي خبر: وابن أبي سرح " * (من كفر بالله من بعد إيمانه) *) إلى قوله " * (
بالكفر) *).
يعني عبد الله بن سعيد بن أبي سرح ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم (بمرط هران) * * (ولو ترى إذ الظالمون) *) وهم الذين ذكرهم الله ووصفهم قبل " * (في غمرات الموت) *) سكراته وهي جمع غمرة وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه وأضل الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ومنه غمرة الماء ثم استعملت في معنى الشدائد والمكاره " * (والملائكة باسطوا أيديهم) *) بالعذاب والضرب وجوههم وأدبارهم كما يقال بسط يده بالمكروه " * (أخرجوا) *) أي يقولون أخرجوا " * (أنفسكم) *) أرواحكم كرها لأن نفس المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه، والجواب محذوف يعني ولو تراهم في هذا الحال لرأيت عجبا.
" * (اليوم تجزون) *) تثابون " * (عذاب الهون) *) أي الهوان " * (بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته) *) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن " * (تستكبرون) *) تتعظمون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (من سجد لله سجدة فقد برئ من الكبر) * * (ولقد جئتمونا فرادى) *) هذا خبر من الله تعالى أنه يقول للكفار يوم القيامة: ولقد جئتمونا فرادى وجدانا لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم ولا حشم.
قال الحسن: ولقد جئتمونا فرادى كل واحدة على حدة.
وقال ابن كيسان: مفردين من المعبودين، وفرادى جمع فردان مثل سكران وسكارى
170

وكسلان وكسالى. ويقال أيضا في واحد فرد بجزم الراء وفرد بكسرها وفرد بالفتح وأفرد وجمعها أفراد مثل أحاد وفريد وفردان مثل قضيب وقضبان وكثيب وكثبان.
وقرأ الأعرج: فردى بغير ألف مثل كسرى (وكسلى) * * (كما خلقناكم أول مرة) *) عراة حفاة غرلا بهم " * (وتركتم) *) وخلفتم " * (ما خولناكم) *) أعطيناكم ومكناكم من الأموال والأولاد والخدم " * (وراء ظهوركم) *) خلف ظهوركم في الدنيا.
روى محمد بن كعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملئت ما بين السماء والأرض فيقول الجبار جل جلاله: (وعزتي) وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأجساد وإنما يدخل في الخياشم كما يدخل السم في اللديغ ثم يشق عليكم الأرض وأنا أول من يشق عنه الأرض فينسلون عنهم سراعا إلى ربكم على سن ثلاثين مهطعين إلى الداعي فيوقفون في موقف منه سبعين عاما حفاة عراة غرلا بهم لا يناظر إليكم فلا يقضي بينكم فتبكي الخلائق حتى ينقطع الدمع ويجف العرق).
وقال القرضي: قرأت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل " * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) *)، فقالت: يا رسول الله وأسوتاه إن الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لكل إمرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض).
" * (وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء) *) وذلك إن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده " * (لقد تقطع بينكم) *).
قرأ أهل المدينة، والحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، والكسائي: بينكم نصبا.
وقرأ أهل المدينة، والحسن، ومجاهد: وهي قراءة أبي موسى الأشعري على معنى لقد تقطع ما بينكم وكذلك هو في قراءة عبد الله وقرأ الباقون: بالرفع على معنى لقد تقطع وصلكم فالبين من الأضداد يكفي وصلا وهجرا وأنشد:
لعمرك لولا البين لا يقطع الهوى
ولولا الهوى ما حن للبين آلف
" * (وضل عنكم ما كنتم تزعمون) *).
171

2 (* (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى ذالكم الله فأنى تؤفكون * فالق الإصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذالك تقدير العزيز العليم * وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر قد فصلنا الايات لقوم يعلمون * وهو الذىأنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الايات لقوم يفقهون * وهو الذىأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به نبات كل شىء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه إن فى ذالكم لايات لقوم يؤمنون) *) 2
" * (إن الله فالق الحب) *) أي فلق الحب عن النبات، ومخرج منها الزرع وشاق النوى عن الشجر والنخل ومخرجها منها.
وقال مجاهد: يعني الشقين الذين عناهما.
وقال الضحاك: فالق الحب والنوى، الحب جمع الحبة وهي كل ما لم يكن لها نواة مثل البر والشعير والذرة والحبوب كلها.
" * (والنوى) *) جمع النواة وهي كل ما يكون له حب مثل الخوخ والمشمش والتمر والإجاص ونحوها.
" * (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون) *) تصدون عن الحق " * (فالق الإصباح) *) شاق عمود الصبح من ظلمة الليل وكاشفه.
وقال الضحاك: خالق النهار، والأصباح مصدر كالإقبال والإدبار وهي الإضاءة.
وقرأ الحسن والقيسي: فالق الأصباح بفتح الهمزة جعله جمع مثل قرص وأقراص.
" * (وجاعل الليل سكنا) *) سكن فيه خلقه. وقرأ النخعي: فلق الأصباح وجعل الليل سكنا.
وقرأ أهل الكوفة: فالق الأصباح وجعل الليل سكنا على الفعل إتباعا للمصحف.
وقرأ الباقون: كلاهما بالألف على الاسم.
" * (والشمس والقمر حسبانا) *) أي جعل الشمس والقمر بحساب لا يجاوزاه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما.
وقرأ (يزيد بن قعنب): والشمس والقمر بالخفض عطفا على اللفظ، والحسبان مصدر كالنقصان والرحمان وقد يكون جمع حساب مثل شهاب وشهبان، وركاب وركبان.
" * (ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم) *) أي خلقها " * (لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم) *) خلقكم وابتدأكم " * (من نفس واحدة) *) يعني آدم (عليه السلام)
172

" * (فمستقر) *) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: فمستقر بكسر القاف على الفاعل يعني فلكم مستقر.
وقرأ الباقون: بفتح على معنى فلكم مستقر.
واختلف المفسرون في المستقر والمستودع. فقال عبد الله بن مسعود: فمستقر في الرحم إلى أن يوادع مستودع في القبر إلى أن يبعث.
وقال مقسم: مستقر حيث يأوي إليه، ومستودع حيث يموت.
وقال سعيد بن جبير: فمستقر في بطون الأمهات، ومستودع في أصلاب الآباء.
وقال: قال لي ابن عباس (رضي الله عنه) أتزوجت يا بن جبير؟ فقلت: لا وما أريد ذلك بوجه. قال: فضرب ظهري وقال: إنه مع ذلك ما كان مستودع في ظهرك فسيخرج.
عكرمة عن ابن عباس: المستقر الذي قد خلق واستقر في الرحم، والمستودع الذي قد استودع في الصلب مما لم يخلق بعد وهو خالقه.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المستقر في الرحم، والمستودع ما استودع في أصلاب الرجال والدواب.
مجاهد: فمستقر على ظهر الأرض في الدنيا. ومستودع عند الله تعالى في الآخرة.
وقال أبو العالية: مستقرها أيام حياتها، ومستودعها حيث تموت وحيث يبعث.
وقال كرب: دعاني ابن عباس (رضي الله عنه) فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عباس إلى فلان حبر تيماء، أما بعد فحدثني عن مستقر ومستودع. قال: ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي فأعطيته إياه، فقال: مرحبا بكتاب خليلي من المسلمين فذهب إلى بيته ففتح أسفاطا له كثيرة فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها. قال: قلت له: ما شأنك؟ قال: هذه أشياء كتبها اليهود، حتى أخرج سفر موسى فنظر إليه مرتين فقال: مستقر في الرحم ومستقر فوق الأرض ومستقر تحت الأرض ومستقر حيث يصير إلى الجنة أو إلى النار، ثم قرأ: " * (ونقر في الأرحام ما نشاء) *). وقرأ: " * (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) *).
فقرأ الحسن: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وكان يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك يوشك أن تلحق، بصاحبك وأنشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا وديعة
ولا بد يوما أن ترد الودائع
173

وقال سليمان بن يزيد العدوي في هذا المعنى:
فجع الأحبة بالأحبة قبلنا
فالناس مفجوع به ومفجع
ومستودع أو مستقر مدخلا
فالمستقر يزوره المستودع
" * (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون. وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به) *) بالماء " * (نبات كل شيء فأخرجنا منه) *) من الماء، وقيل: من النبات " * (خضرا) *) يعني أخضر، وهو رطب البقول، يقول: هو لك خضرا مظرا أي هنيئا مريئا.
وقال نخلة: خضيرة: إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج، وقد اختضر الرجل واغتضر إذا مات شابا مصححا " * (ومن النخل من طلعها) *) أي ثمرها (وكثيرا منها) وما يطلع منها " * (قنوان) *) جمع قنو وهو العذق مثل صنو وصنوان.
قال أبو عبيدة: (ولا ظير بهذا الكلام).
وقرأ الأعرج: قنوان بضم القاف، وهي لغة قيس، مثل قضبان. ولغة تميم: قنيان. وجمعه القليل أقنا مثل حنو وأحنا، " * (دانية) *) قريبة ينالها القائم والقاعد.
وقال مجاهد: متدلية.
وقال قتادة: متهدلة.
وقال الضحاك قصار ملتزقة بالأرض. ومعنى الآية ومن النخل قنوانها دانية ومنها ما هي بعيدة فاكتفى بالقريبة عن البعيدة كقوله تعالى " * (سرابيل تقيكم الحر) *) والبرد " * (وجنات) *) يعني وأخرجنا منه جنات.
وقرأ يحيى بن يعمر والأعمش وعاصم: وجنات رفعا نسقيا على قنوان لفظا وإن لم يكن في المعنى من جنسها " * (من أعناب والزيتون والرمان) *) يعني وشجر الزيتون والرمان، فاكتفى بالتمر عن الشجر كقوله " * (واسأل القرية) *) * * (مشتبها وغير متشابه) *) قتادة: متشابه ورقه يختلف بثمره، وقيل: مشتبها في المنظر غير متشابه في المطعم. وقال الحسن: الفعل منها ما يشبه بعضه بعضا ومنها ما يخالف، وقيل: مشتبها في الخلقة من منشأه من الحكمة " * (أنظروا إلى ثمره) *).
قرأ أهل الكوفة: بضم الثاء والميم على جمع الثمار. وقرأ الباقون بفتحهما على جمع الثمرة مثل بعر ووبر " * (إذا أثمر وينعه) *) نضجه وإدراكه
174

وقرأ أبو رجاء ومحمد بن السميقع: ويانعه بالألف على الاسم " * (إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) *))
.
* (وجعلوا لله شركآء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شىء وهو بكل شىء عليم * ذالكم الله ربكم لاإلاه إلا هو خالق كل شىء فاعبدوه وهو على كل شىء وكيل * لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير * قد جآءكم بصآئر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها ومآ أنا عليكم بحفيظ * وكذالك نصرف الايات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون * اتبع مآ أوحى إليك من ربك لاإلاه إلا هو وأعرض عن المشركين * ولو شآء الله مآ أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا ومآ أنت عليهم بوكيل) *) 2
" * (وجعلوا) *) يعني الكافرين " * (لله شركاء الجن) *) يعني وجعلوا لله الجن شركاء، وإن شئت نصبته على التفسير " * (وخلقهم) *) يعني وهو خلقهم وخلق الجن.
وقرأ يحيى بن معمر: وخلقهم بسكون اللام وفتح القاف أراد إفكهم وادعاءهم ما يعبدون من الأصنام حيث جعلوها شركاء لله عز وجل يعني وجعلوا له خلقهم.
وقرأيحيى بن وثاب: وخلقهم بسكون اللام وكسر القاف، يعني جعلوا لله شركاء ولخلقهم أشركوهم مع الله في خلقه إياهم.
وقال الكلبي: نزلت في الزنادقة قالوا: إن الله وإبليس شريكان، والله خالق النور والناس والدواب والأنعام. وإبليس خالق الظلمة والسباع والعقارب والحيات، وهذا كقوله " * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) *) يعني في الجنة، وهم صنف من الملائكة خزان الجنان أشق لهم منهم صنف من الجن " * (وخرقوا) *) أي اختلفوا وخرصوا.
وقرأ أهل المدينة: بكثرته وخرقوا على التكثير " * (له بنين وبنات بغير علم) *) وهم كفار مكة، قالوا: الملائكة والأصنام بنات الله. واليهود قالوا: عزير ابن الله. والنصارى قالوا: المسيح ابن الله ثم نزه نفسه. وقال تعالى " * (سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) *) زوجة " * (وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) *) إلى قوله تعالى " * (لا تدركه الأبصار) *) أجراه بعضهم على العموم فقال: معناه لا تحيط به الأبصار بل تراه وهو يحيط بها.
175

قال الله عز وجل " * (ولا يحيطون به علما) *) فكما تعرفه في الدنيا لا كالمعروفين فكذلك تراه في العقبى لا كالمرئيين.
قالوا: وقد ترى الشيء ولا تدركه كما أخبر الله تعالى عن قول أصحاب موسى (عليه السلام) حين قرب منهم فرعون " * (إنا لمدركون) *) وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم لأن الله تعالى قد وعد نبيه موسى (عليه السلام) إنهم لا يدركون بقوله " * (لا تخاف دركا ولا تخشى) *).
وكذلك قال سعيد بن المسيب: لا تحيط به الأبصار. وقال عطاء: كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به.
وقال الحسن: لا تقع عليه الأبصار ولا تدل عليه العقول ولا يدركه الإذعان.
يدل عليه ما روى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) *). قال: لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا.
وأجراه بعضهم على النصوص. قال ابن عباس ومقاتل: معناه لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة " * (وهو يدرك الأبصار) *) لا يخفى عليه شيء ولا يفوته.
وقيل: معناه لا تدركه أبصار الكافرين، فأما المؤمنون فيرونه، والله أعلم " * (وهو اللطيف الخبير) *).
قال أبو العالية: لطيف باستخراج الأشياء خبير بها.
وقال أكثر العلماء في معنى اللطيف. فقال الجنيد: اللطيف: من نور قلبك بالهدى وربي جسمك بالغدا، وجعل لك الولاية في البلوى ويحرسك من لظى ويدخلك جنة المأوى.
وقيل: اللطيف الذي أنسى العباد ذنوبهم لئلا يخجلوا. وقيل: الذي ركب من النطفة من ماء مهين وقيل: هو الذي يستقل الكثير من نعمه ويستكثر القليل من طاعة عباده.
قتادة: وقيل: اللطيف الذي يغير ولا يغير. وقيل: اللطيف الذي إن رجوته لباك وأن قصدته آواك، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافاك، وإن عصيته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك، وإن أقبلت إليه عداك.
وقيل: اللطيف: الذي لا يطلب من الأحباب الأحساب والأنساب. وقيل: اللطيف: الذي يغني المفتقر إليه ويعز المفتخر به. وقيل: اللطيف: من يكافي الوافي ويعفو عن الباقي. وقيل: اللطيف: من أمره تقريب ونهيه تأريب.
176

وقيل: اللطيف: الذي يكون عطاؤه خير ومنعه ذخيرة. وأصل اللطيف دقة النظر في جميع الأشياء " * (قد جاءكم بصائر من ربكم) *) يعني الحجج البينة التي يبصرون بها الهدى من الضلال والحق من الباطل.
قال الكلبي: يعني بينات القرآن.
" * (فمن أبصر) *) يعني عرفها وآمن بها " * (فلنفسه) *) عمل وحظه أصاب وإياها بغى الخير " * (ومن عمي فعليها) *) عنها فلم يعرفها ولم يصدقها.
وقرأ طلحة بن مصرف: ومن عمي بضم العين وتشديد الميم على المفعول التي تدل عليها، يقول: فنفسه ضر وإليها أساء لا إلى غيره " * (وما أنا عليكم بحفيظ) *) رقيب أحصي إليكم أعمالكم وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أفعالكم " * (وكذلك نصرف الآيات) *) نبينها في كل وجه لندعوكم بها " * (وليقولوا) *) وليلا يقولوا إذا قرأت عليهم القرآن " * (درست) *) أي تلوت وقرأت يا محمد بغير ألف قرأه جماعة منهم أبي رجاء وأبي وائل والأعرج ومعظم أهل العراق وأهل الحجاز، وكان عبد الله بن الزبير يقول: إن صبيانا يقرأونها دارست بالألف وإنما هي درست.
وقرأ علي ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: دارست بالألف يعني قارأت أهل الكتاب وتعلمت منهم تقرأ عليهم يقرأوا عليك.
وقال ابن عباس: يعني جادلت وخاصمت، وكذلك كان يقرأها، وقرأ قتادة: درست بمعنى قرئت وتليت.
وقرأ الحسن وابن عامر ويعقوب: درست بفتح الدال والراء وجزم التاء بمعنى تقادمت وانمحت وقرأ ابن مسعود وأبي طلحة والأعمش: درس بفتحها يعنون النبي درس الآيات " * (ولنبينه) *) يعني القول والتحريف والقرآن " * (لقوم يعلمون اتبع) *) يا محمد " * (ما أوحي إليك من ربك) *) يعني القرآن إعمل به " * (لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين) *) فلا تجادلهم ولا تعاقبهم " * (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا) *) رقيبا. ويقال ربا.
قال عطاء: وما جعلناك عليهم حفيظا تمنعهم مني " * (وما أنت عليهم بوكيل) *) والإعراض منسوخ بآية السيف. وهذه الآية نزلت حين قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائك.
2 (* (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم
177

ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءتهم ءاية ليؤمنن بها قل إنما الايات عند الله وما يشعركم أنهآ إذا جآءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم فى طغيانهم يعمهون * ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شىء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشآء الله ولاكن أكثرهم يجهلون * وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شآء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالاخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) *) 2
" * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) *).
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية " * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) *). قال المشركون: يا محمد لتنتهين عن سب الهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم.
قال قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهاهم الله عن ذلك كيلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة.
وقال السدي: لما حضرت أبا طالب الوفاة، قالت قريش: إنطلقوا فلندخل على هذا الرجل ولنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فيقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحرث، وأمية وأبي بن أخلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البحتري، إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى الهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر الهتنا ولندعه وإلهه، فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما يريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك).
قال: قد أنصف قومك، فاقبل منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم).
قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشرا أمثالها فما هي؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله، فأبوا واشمأزوا
178

وقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي، فإن قومك قد فزعوا منها. فقال: (يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها).
فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمن من يأمرك. فأنزل الله تعالى " * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) *) من الأوثان " * (فيسبوا الله عدوا) *).
وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة ويعقوب: عدوا بضم العين والدال وتشديد الواو أي أعداء الله.
" * (بغير علم) *) فلما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه (لا تسبوا ربهم) فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم.
" * (كذلك زينا لكل أمة عملهم) *) يعني كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان، الحرمان والخذلان كذلك زينا لكل أمة عملهم من الخير والشر والطاعة والمعصية " * (ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم) *) يخبرهم ويجازيهم " * (بما كانوا يعملون. وأقسموا بالله جهد أيمانهم) *).
قال محمد بن كعب القرضي والكلبي: قالت قريش: يا محمد تخبرنا بأن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي شيء تحبون أن آتيكم به؟).
قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل، وأرنا الملائكة يشهدون لك أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لئن فعلت بعض ما تقولون تصدقوني) قالوا: نعم والله لئن فعلت نتبعك أجمعين.
وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهبا، فجاء جبرئيل عليه السلام فقال له: إن شئت أصبح ذهبا ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم فإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بل يتوب تائبهم) فأنزل الله تعالى " * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) *) يعني أوكد ما قدروا عليه من الايمان وحدها.
قال الكلبي ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله سبحانه فهو جهد بيمينه. " * (لئن جاءتهم آية) *) كما جاء من قبلهم من أمم " * (ليؤمنن بها قل) *) يا محمد " * (إنما الآيات عند الله) *) وهو القادر على
179

إتيانها دوني ودون كل من خلقه. ثم قال " * (وما يشعركم) *) وما يدريكم فحذف المفعول وما أدريكم، واختلفوا في المخاطبين، بقوله " * (وما يشعركم) *) حسب اختلافهم في قراءة قوله " * (إنها) *). فقال بعضهم: إن الخطاب للمشركين الذين أقسموا وتم الكلام عند قوله وما يشعركم، ثم استأنف، فقال: إنها يعني الآيات " * (إذا جاءت لا يؤمنون) *) حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون.
وقرؤا: " * (إنها) *) بالكسر على الابتداء، وهو في قراءة مجاهد وقتادة وابن محيصن وابن كثير وشبل وأبي عمر والجحدري.
وقال آخرون: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقرؤا: أنها بالفتح وجعلوا (لا) صلة يعني وما يدريكم يا معشر المؤمنين أنها إذا جاءت المشركين لا يؤمنون كقوله " * (ما منعك أن لا تسجد) *) يعني: أن تسجد، وقوله " * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) *) يعني إنهم يرجعون. وقيل: معنى إنها: لعلها وكذلك هي قراءة أبي، تقول العرب: إذهب إلى السوق إنك تشتري شيئا بمعنى لعلك تمر.
وقال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي
إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
يعنى: لعل منيتي.
وقال دريد بن الصمة:
ذرينى أطوف في البلاد لأنني
أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
يعني: لعلني.
وقال أبو النجم:
قلت لسينان أدن من لقائه
إنا نغدي القوم من سرائه
أي ثعلبا تغدي.
وقرأ ابن عامر والسدي وحمزة: " * (لا يؤمنون) *) بالتاء على (حساب) الكفار وما يشعركم، واعتبر بقراءة أبي: لعلكم إذا جاءكم لا يؤمنون.
180

وقرأ الباقون: بالياء على الخبر وتصديقها قراءة الأعمش إنها إذا جاءتهم لا يؤمنون " * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) *).
قال ابن عباس وابن زيد: يعني نحول بينه وبين الإيمان. ولو جئناهم بالآيات التي سألوا ما آمنوا بها كما لم يؤمنوا بالتي قبلها مثل انشقاق القمر وغيره عقوبة لهم على ذلك.
وقيل: كما لم يؤمنوا به في الدنيا قبل مماتهم. نظيره قوله تعالى " * (ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه) *) * * (ونذرهم) *) قرأ أبو رجاء: ويذرهم بالياء. وقرأ النخعي: ويقلب ويذرهم كلاهما بالياء " * (في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) *) فرأوهم عيانا " * (وكلمهم الموتى) *) بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا " * (وحشرنا) *) وجمعنا " * (عليهم كل شيء قبلا) *) بكسر القاف وفتح الباء أي معاينة وهي قراءة أكثر القراء، قرأ أبو جعفر: التي في الأنعام قبلا بالكسر والتي في الكهف قبلا عيانا بالضم. أبو عمرو بالنصب وكذلك اختار أبو عبيد وأبو حاتم لأنها في قراءة أبي قبيلا بجمعها القبل. والتي في الكهف قبلا يعني عيانا.
وقرأ أهل الكوفة: بضم القاف والباء، ولها ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون جمع قبيل وهو الكفيل أي ضمنا وكفلا. والقبالة الكفالة، يقال: قبيل وقبل مثل رغيف ورغف، وقضيب وقضب.
والثاني: جمع قبيل هو القبيلة يعني فوجا فوجا وصنفا صنفا.
والثالث: أن يكون بمعنى المقابلة والمواجهة من قول القائل: أتيتك قبلا لا دبرا إذا أتاه من قبل وجهه " * (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) *) ذلك لهم. وقيل: الاستثناء لأهل السعادة الذين سبق لهم في علم الله الإيمان " * (ولكن أكثرهم يجهلون) *) إن ذلك كذلك " * (وكذلك جعلنا) *) يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم يعني كما أتيناك بهؤلاء القوم وكذلك جعلنا " * (لكل نبي) *) قبلك " * (عدوا) *) أعداء وفسرهم فقال " * (شياطين الإنس والجن) *).
عكرمة والضحاك والسدي والكلبي: معناه: شياطين الإنس التي مع الإنس وشياطين الجن التي مع الجن وليس للإنس شياطين.
وذلك أن إبليس قسم جنده فريقين، بعث منهم فريقا إلى الإنس وفريقا إلى الجن، شياطين الإنس والجن فهم ملتقون في كل حين، فيقول شيطان الإنس لشيطان الجن أضللت صاحبي بكذا فاضل صاحبك بمثله، ويقول شيطان الجن لشيطان الإنس كذلك فذلك يوحي بعضهم إلى بعض.
وقال آخرون: إن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين، والشيطان: العاتي المتمرد من كل شيء
181

قالوا: إن الشيطان إذا أغوى المؤمن وعجز عن إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان من الإنس فأغراه المؤمن.
قال أبو طلحة ما روى عوف بن مالك عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن) قال: يا رسول الله فهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم هو شر من شياطين الجن.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد إلا وقد وكل قرينه من الجن) قيل: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: (ولا أنا إلا أن الله قد أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير).
وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد من شيطان الجن وذلك إني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يحبني فيجرني إلى المعاصي عيانا " * (يوحي بعضهم إلى بعض) *) أي يلقي " * (زخرف القول غرورا) *) وهو القول المموه والمزين بالباطل، وكل شيء حسنته وزينته فقد زخرفته ثم " * (ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى) *) أي ولكي تميل.
وقال ابن عباس: ترجع يقال: صغى يصغى صغا وصغى يصغى ويصغو صغوا وصغوا إذا مال.
قال الفطامي:
أصغت إليه هجائن بنحدودها
آذانهن تلى الحداة السوق
ترى عينها صغواء في جنب ماقها
تراقب كفي والقطيع المحرما
" * (إليه) *) يعني إلى الزخرف والغرور، ويقال: صغو فلان معك، وصغاه معك أي ميله وهواه.
وقرأ النجعي: ولتصغي بضم التاء وكسر الغين أي تميل، والإصغاء الإمالة. ومنه الحديث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصغي الإناء للهرة.
" * (أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) *) الأفئدة جمع الفؤاد مثل غراب وأغربة " * (وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) *) أي وليكتسبوا ما هم مكتسبون.
182

وقال ابن زيد: وليعملوا ما هم عاملون. يقال: إقترف فلان مالا أي اكتسبه، وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله، قال الله تعالى " * (ومن يقترف حسنة) *).
قال لبيد:
وإني لآتي ما أتيت وإنني
لما اقترفت نفسي علي لراهب
وقيل: هو من التهمة يقال: قرفه بسوء إذا اتهمه به.
قال رؤبة:
أعيا اقتراف الكذب المقروف
تقوى التقي وعفة العفيف
(* (أفغير الله أبتغى حكما وهو الذىأنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم * وإن تطع أكثر من فى الارض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون * إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين * فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين * وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين) *) 2
قوله تعالى " * (أفغير الله) *) فيه إضمار أي قل لهم يا محمد أفغير الله " * (أبتغي حكما) *) قاضيا بيني وبينكم، " * (وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) *) مبينا يعني " * (والذين آتيناهم الكتاب) *) يعني التوراة والإنجيل وهم مؤمنو أهل الكتاب.
قال عطاء: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر وعثمان وعلي وأتباعهم رضي الله عنهم والكتاب هو القرآن.
" * (يعلمون أنه) *) يعني القرآن " * (منزل) *).
قرأ الحسن والأعمش وأبي عامر: وخص بالتشديد من التنزيل لأنه أنزل نجوما مرة بعد مرة.
وقرأ الباقون: بالتخفيف من الإنزال لقوله عز وجل يعني أنزل إليكم الكتاب " * (من ربك
183

بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك) *) قرأ أهل الكوفة كلمة: على الواحد والباقون: كلمات على الجمع، واختلفوا في الكلمات.
فقال قتادة: هي القرآن لا مبدل له لا يزيد المفترون ولا ينقصون.
وقال بعضهم: هي أقضيته وعدالته " * (لا مبدل لكلماته) *) لا مغير لها " * (وهو السميع العليم وإن تطع أكثر من في الأرض) *) يعني الكفار " * (يضلوك عن سبيل الله) *) عن دين الله ثم قال " * (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) *) يكذبون " * (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله) *).
قال بعضهم: موضع من نصب لأنه ينزع الخافض وهو حرف الصفة أي بمن.
وقيل: موضعه رفع لأنه بمعنى أي والرافع ليضل.
وقيل: محله نصب لوقوع العلم عليه وأعلم بمعنى يعلم كقول حاتم الطائي:
فحالفت طيء من دوننا حلفا
والله أعلم ما كنا لهم خذلا
وقالت الخنساء:
القوم أعلم أن جفنته
تغدو غداة الريح أو تسري
" * (وهو أعلم بالمهتدين فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) *).
قال ابن عباس: قال المشركون للمؤمنين: أنكم تعبدون الله فما قبل الله لكم الحق الحق أن تأكلوا مما قتلتم بسكاكينكم فنزل الله " * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) *) وقت الذبح يعني المذكاة بسم الله " * (إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا) *) وما يمنعكم أن لا تأكلوا " * (مما ذكر اسم الله عليه) *) من الذبائح " * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) *).
قرأ الحسن وأبو رجاء (الأعرج) وقتادة والجبائي وطلحة ومجاهد وحميد وأهل المدينة: بالفتح فهما على معنى فصل الله ما حرمه عليكم لقوله اسم الله جرى ذكره تعالى.
وقرأ محمد بن عامر وأبو عمرو: بضمهما على غير تسمية الفاعل لقوله ذكر.
وقرأ أصحاب عبد الله وأهل الكوفة: فصل بالفتح يحرم بالضم.
وقرأ عطية العوفي فصل مفتوحا خفيفا بمعنى قطع الحكم فيما حرم عليكم وهو ما ذكر في سورة المائدة قوله تعالى " * (حرمت عليكم الميتة والدم) *) الآية " * (إلا ما اضطررتم إليه) *) من هذه الأشياء فإنه حلال لكم عند الاضطرار ثم قال " * (وإن كثيرا ليضلون) *) قرأ الحسن وأهل الكوفة: بضم الياء كقوله: يضلوك.
184

وقرأ الباقون: بالفتح كقوله: من يضل ومن ضل " * (بأهوائهم) *) بمرادهم " * (بغير علم) *) حين دعوا إلى أكل الميتة " * (إن ربك هو أعلم بالمعتدين) *) المتجاوزين من الحلال إلى الحرام.
(* (وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون * ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلىا أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون * أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به فى الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون * وكذالك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون * وإذا جآءتهم ءاية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتى رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون * فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد فى السمآء كذالك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون * وهاذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) *) 2
" * (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) *) يعني الذنوب كلها لا يخلو من هذين الوجهين.
واختلفوا فيها فقال قتادة: سره وعلانيته، عطاء: قليله وكثيره. ومجاهد: ما ينوي وما هو عامله. الكلبي: ظاهر الإثم الزنا وباطنه المخالة.
السدي: الزواني الذي في الحوانيت وهو بيت أصحاب الرايات وباطنه الصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرا. وقال مرة الهمذاني: كانت العرب تجوز الزنا وكان الشريف إن يزني يستر ذلك وغيره لا يبالي إذا زنا ومتى زنا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الضحاك: كان أهل الجاهلية يسترون الزنا ويرون ذلك حلالا ما كان سرا، فحرم الله تعالى لهذه الأمة السر منه والعلانية.
وروى حيان عن الكلبي: ظاهر الإثم طواف الرجال بالنهار عراة وباطنه طواف النساء بالليل عراة.
وقال سعيد بن جبير: الظاهر ما حرم الله تعالى بقوله " * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) *) وقوله " * (حرمت عليكم أمهاتكم) *) الآية والباطن منه الزنا.
وقال ابن زيد: ظاهر الإثم التعري والتجرد من الثياب في الطواف والباطن الزنا.
185

" * (إن الذين يكسبون الإثم سيجزون) *) في الآخرة " * (بما كانوا يقترفون) *) بما يكسبون في الآخرة " * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *) فاقد) التسمية (ولم يدرك ذكاته أو ذبح لغير الله " * (وإنه) *) يعني الأكل " * (لفسق وإن الشياطين ليوحون) *) ليوسوسون " * (إلى أوليائهم) *) من المشركين " * (يجادلوكم) *). وذلك إن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ قال: الله قتلها. قالوا: فتزعم إن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر والكلب حلال وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال عكرمة: معناه ولي الشياطين يعني مردة المجوس ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وذلك أن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانت بينهم مكاتبة إن محمدا وأصحابه يزعمون إنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون إن ما ذبحوا فهو حلال، وما ذبحه الله فهو حرام ولا يأكلونه، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية " * (وإن أطعتموهم) *) في أكل الميتة " * (إنكم لمشركون) *) قوله تعالى " * (أومن كان ميتا فأحييناه) *) هو ألف الاستفهام والتقدير دخلت على واو النسق فبقيت على فتحها يعني أومن كان كافرا ميتا بالضلالة فهديناه واجتبيناه بالإيمان " * (وجعلنا له نورا) *) يستضيء به " * (ويمشي به في الناس) *) على قصد السبيل ومنهج الطريق.
قال ابن زيد: يعني بهذا النور الإسلام نيابة قوله " * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) *).
وقال قتادة: هذا المؤمن معه من الله نورا وبينة يعمل بها ويأخذ وإليها ينتهي كتاب الله " * (كمن مثله في الظلمات) *).
قال بعضهم: المثل زائد تقديره كمن في الظلمات.
وقال بعضهم: معناه كن أو شبه بشيء كان يشبهه من في الظلمات من ظلمة الكفر والجهل والضلالة والمسير.
" * (ليس بخارج منها) *) لا يبصر شيئا ولا يعرف طريقا كالذي ضل طريقه في ظلمة الليل فهو لا يجد مخرجا ولا يهتدي طريقا.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في رجلين بأعيانهما، ثم اختلفوا فيهما.
فقال ابن عباس: أومن كان (ميتا) فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس. يريد حمزة بن عبد المطلب كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها. أبو جهل، وذلك إن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بالحجارة وحمزة لم يؤمن بعد فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع كعبد مسكين يقول: يابا يعلى أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف أبانا
186

فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الضحاك (ويمان): نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل.
قال عكرمة والكلبي: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل.
" * (كذلك زينا للكافرين ما كانوا يعملون) *) من الكفر والمعصية " * (وكذلك) *) أي وكما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا.
وقيل: وكما جعلنا فساق مكة أكابرها كذلك " * (جعلنا في كل قرية أكابر) *) يعني عظماء، جمع أكبر مثل أفضل وأحمر وأحامر وأسود وأساود " * (مجرميها) *) إن شئت نصبته على التقديم تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، كما تقول: جعلت زيدا رئيسها وإن شئت خفضته على الإضافة " * (ليمكروا فيهاوما يمكرون إلا بأنفسهم) *) لأن وبال مكرهم وجزاءه راجع إليهم " * (وما يشعرون) *) إنه كذلك " * (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) *) من النبوة، وذلك إن الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال: زاحمنا عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه وأنزل الله تعالى " * (وإذا جاءتهم) *) آية حجة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحت نبوته. " * (قالوا) *): يعني أبو جهل. قالوا: " * (لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) *) يعني محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال " * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) *) فخص بها محمدا صلى الله عليه وسلم " * (سيصيب الذين أجرموا صغار) *) ذل وهوان " * (عند الله) *) أي من عند الله نصب بنزع حرف الصفة.
قال النحاس: سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله على التقديم والتأخير " * (وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) *).
وقال أبو روق: صغار في الدنيا وهذا العذاب في الآخرة.
" * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) *) أي يوسع عقله أو ينوره ليقبل الإسلام فأنزل الله تعالى هذه الآية.
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر ما هو؟ قال: (نور يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن فينشرح له صدره وينفسح) قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت
187

" * (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) *) قرأ ابن كثير: ضيقا بالتخفيف. والباقون: بالتشديد وهي لغتان مثل هين وهين، ولين ولين، حرجا كسر أهل المدينة، راءه وفتحها الباقون وهما لغتان مثل الأنف والأنف، والفرد والفرد، والوعد والوعد.
وقال سيبويه: الحرج بالفتح المصدر كالصلب والحلب ومعناه ذا حرج، والحرج بالكسر الاسم وهو أشد الضيق، يعني قلبه ضيقا لا يدخله الإيمان.
وقيل: أثيما لقول العرب: حرج عليك ضلمي أي ضيق وأثم. وقال السدي: حرجها شاكا. وقال قتادة: ملتبسا.
وقال النضر بن شميل: ملقا. وقال ليس للخير فيه منفذ.
وقال عبيد بن عمير. قرأ ابن عباس: هذه الآية، فقال: هل هاهنا أحد من بني بكر؟ فقال رجل: نعم، قال: ما الحرج فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المتمسك الذي لا طريق فيه. قال ابن عباس: كذلك قلب الكافر.
وقال أبو الصلت الثقفي وعمر بن الخطاب (رضي الله عنه): هذه الآية ضيقا حرجا بنصب الراء. وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرجا بالكسر. فقال عمر: ابعثوا إلى رجل من كنانة وجعلوه راعيا فأتوه به فقال له عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة التي تكون بين الأشجار التي لا يصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء.
فقال عمر (رضي الله عنه): كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير " * (كأنما يصعد في السماء) *) يعني يشق عليه الإيمان، ويمتنع ويعجز عنه كما يشق عليه صعود السماء.
واختلف القراء في ذلك، فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وحمزة والكسائي: يصعد بتشديد الصاد والعين بغير ألف أي يصعد فأدغمت التاء في الصاد.
فاختاره أبو حاتم وأبو عبيد (إعتزازا) بقراءة عبد الله كأنما يتصعد في السماء.
وقرأ طلحة وعاصم وأبو عبيد والنخعي ومجاهد: بالألف مشددا بمعنى تصاعد.
وقرأ ابن كيسان وابن (محيصن)، والأعرج وأبو رجاء: يصعد حقيقة.
" * (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) *) قال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه.
ابن زيد: الرجس العذاب مثل الرجز. وقال ابن عباس: هو الشيطان الذي يسلطه عليه.
وقال الكلبي: هو المأثم، وقيل: هو النجس. ويقال: رجس رجاسة ونجس نجاسة
188

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من نجس منجس الخبث المخبث الشيطان الرجيم).
" * (وهذا صراط ربك مستقيما) *) أي هذا الذي بينا طريق ربك والذي ارتضاه لنفسه دينا وجعله مستقيما لا عوج فيه وهو الإسلام.
وقال ابن مسعود: هو القرآن. وقال: إن الصراط محتضر يحضره الشياطين ينادون: يا عبد الله هلم هذا الطريق ليصدوا عن سبيل الله فاعتصموا بحبل الله وهو كتاب الله " * (قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) *).
2 (* (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون * ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أوليآؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنآ أجلنا الذىأجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شآء الله إن ربك حكيم عليم * وكذالك نولى بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون * يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم هاذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحيواة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين * ذالك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون * ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون) *) 2
" * (لهم دار السلم عند ربهم) *) يعني الجنة في الآخرة.
قال أكثر المفسرين: السلام هو الله عز وجل وداره الجنة. وقيل: سميت الجنة دار السلام لسلامتها من الآفات والعاهات.
وقيل: لأن من دخلها سلم من البلايا والرزايا أجمع.
وقيل: لأنها سلمت من دخول أعداء الله كيلا ينتغص أولياء الله فيها كما ينغص مجاورتهم في الدنيا.
وقيل: سميت بذلك لأن كل حالة من حالات أهلها مقرونة بالسلام فاما ابتداء دخولها فقوله " * (أدخلوها بسلام آمنين) *) وبعد ذلك قوله " * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب) *) الآية. وبعده قوله " * (وتحيتهم فيها سلام) *) وبعده قوله " * (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) *) وقوله " * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) *) وبعده قوله " * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) *))
189

وبعد ذلك " * (سلام قولا من رب رحيم) *). فلما كان حالات أهل الجنة مقرونة بالسلام إما من الخلق وإما من الحق سماها الله دار السلام " * (وهو وليهم) *) ناصرهم ومعينهم " * (بما كانوا يعملون) *).
قال الحسن بن الفضل: يعني يتولاهم في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء. " * (ويوم يحشرهم جميعا) *) الجن والإنس يجمعهم في يوم القيامة فيقول: " * (يا معشر الجن والإنس قد استكثرتم من الإنس) *) أي من إضلال الناس وإغوائهم " * (وقال أولياؤهم من الإنس) *) الذين أطاعوهم " * (ربنا استمتع بعضنا ببعض) *).
قال الكلبي: استمتاع الإنس بالجن. هو أن الرجل إذا سافر أو خرج فمشى بأرض قفر أو أصاب صيدا من صيدهم فخاف على نفسه منهم. فقال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فيثبت جواز منهم، واستمتاع الجن بالإنس هو أن قالوا: قد سدنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في قومهم وعظما في قومهم وهذا معنى قوله تعالى " * (وإنه كان رجال من الإنس) *). الآية.
وقال محمد بن كعب وعبد العزيز بن يحيى: هو طاعة بعضهم بعضا وموافقة بعضهم بعضا وقيل: استمتاع الإنس بالجن بما كانوا يأتون إليهم. من الأراجيف والسحر والكهانة، فاستمتاع الجن بالإنس إغراء الجن الإنس واتباع الإنس إياهم " * (وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) *) يعني الموت والبعث. قال الله تعالى " * (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله) *) يعني قدر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم.
قال ابن عباس: هذا الاستثناء هو أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا يولهم جنة ولا نارا.
وقال الكلبي: إلا ما شاء الله وكان ما شاء الله أبدا.
وقيل: معناه النار مثواكم خالدين فيها سوى ما شاء الله من أنواع العذاب وقيل: إلا ما شاء الله من إخراج أهل التوحيد من النار.
وقيل: إلا ما شاء الله أن يزيدهم من العذاب فيها.
وقيل: إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب.
وقال عطاء: إلا ما شاء الله من الحق في عمله أن يؤمن فمنهم من آمن من قبل الفتح ومنهم من آمن من بعد الفتح.
190

" * (إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) *).
روي عن قتادة: يجعل بعضهم أولياء بعض. والمؤمن ولي المؤمن والكافر ولي الكافر حيث كان.
وروى معمر عن قتادة: تبع بعضهم بعضا في النار من الموالاة.
وقيل: معناه نولي ظلمة الإنس ظلمة الجن ونولي ظلمة الجن ظلمة الإنس، يعني نكل بعضهم إلى بعض كقوله " * (نوله ما تولى) *).
قال ابن زيد: نسلط بعضهم على بعض. يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (من أعان ظالما سلطه الله عليه).
وقال مالك بن دينار: قرأت في كتب الله المنزلة: إن الله تعالى قال: أفني أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي.
وروى حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: تفسيرها: هو أن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم.
وفي الخبر: يقول الله: إني أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك قلوبهم ونواصيهم فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إلى الله تعالى بعطفهم عليكم.
" * (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) *).
قال الأعرج وابن أبي إسحاق: تأتكم بالتاء كقوله: " * (لقد بعث رسل ربنا بالحق) *).
قرأ الباقون: بالياء كقوله تعالى * (مثل ما أوتي رسل الله) * * (يقصون) *) يقرأون " * (عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا) *) وهو يوم القيامة.
واختلف العلماء في الجن هل أرسل إليهم رسول أم لا؟ فقال عبيد بن سليمان: سئل الضحاك عن الجن هل كان فيهم مؤمن قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى: " * (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) *) يعني بذلك رسلا من الإنس ورسلا من الجن.
قال الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الجن والإنس جميعا.
قال مجاهد: الرسل من الإنس. والنذير من الجن ثم قرأ " * (ولوا إلى قومهم منذرين) *).
قال ابن عباس: هم الذين استمعوا القرآن وأبلغوه قومهم
191

وقال أهل المعاني: لم يكن من الجن رسول وإنما الرسل من الإنس خاصة وهذا كقوله تعالى " * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *) وإنما يخرج من المالح دون العذب.
وقوله " * (يذكروا اسم الله في أيام معلومات) *) وهي أيام العشر وإنما الذبح في يوم واحد من العشر فهو يوم النحر. وقوله " * (وجعل القمر فيهن نورا) *) وإنما هو في سماء واحدة " * (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا) *) أقروا " * (على أنفسهم إنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) *) أي بشرك من أشرك " * (وأهلها غافلون) *) حتى يبعث إليهم رسلا ينذرونهم. وقيل: معناه: لم يكن ليهلكهم دون البينة والتذكير بالرسل والآيات فيكون قد ظلمهم " * (ولكل درجات مما عملوا) *) يعني بالثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا منهم من هو أشد عذابا ومنهم من هو أجزل ثوابا " * (وما ربك بغافل عما يعملون) *).
2 (* (وربك الغنى ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشآء كمآ أنشأكم من ذرية قوم ءاخرين * إن ما توعدون لأت ومآ أنتم بمعجزين * قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون * وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هاذا لله بزعمهم وهاذا لشركآئنا فما كان لشركآئهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركآئهم سآء ما يحكمون * وكذالك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركآؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم
دينهم ولو شآء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون * وقالوا هاذه أنعام وحرث حجر لا يطعمهآ إلا من نشآء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افترآء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون * وقالوا ما فى بطون هاذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركآء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم * قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افترآء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) *) 2
" * (وربك الغني) *) بعلمه " * (ذو الرحمة) *) بهم " * (إن يشأ يذهبكم) *) ثم يميتكم ويهلككم " * (ويستخلف) *) يخلق " * (من بعدكم ما يشاء) *) خلقا غيركم أمثل وأطوع منكم.
وقال عطاء: يريد الصحابة والتابعين " * (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) *) قرنا بعد قرن، وقال مقاتل: يعني أهل سفينة نوح. وقرأ زيد بن ثابت: ذرية بكسر الذال مشددة.
192

وقال أبان بن عثمان: ذرية بفتح الذال وكسر الراء خفيفة على قدر فعله، الباقون: بضم الذال مشددة، وهي لغات صحيحة. وقال ثعلب: الذرية بالكسر الأصل، والذرية بالضم الولد " * (إن ما توعدون لآت) *) لجائي كائن " * (وما أنتم بمعجزين) *) بفائتين سابقين أي حيث كنتم يدرككم. والإعجاز أن يأتي بالشيء يعجز عنه خصمه ويقصر دونه فيكون قد قهره وجعله عاجزا عنه " * (قل) *) يا محمد لهم " * (يا قوم أعملوا على مكانتكم) *).
قال ابن عباس: على ناحيتكم. قال ابن زيد: على حيالكم. يمان: على مذاهبكم. عطاء: على حالتكم التي أنتم عليها. مقاتل: على جديلتكم. مجاهد: على وتيرتكم. الكلبي: على منازلكم. وقيل: اعملوا ما أمكنكم.
قرأ السلمي وعاصم: مكانا لكم على الجمع في كل القرآن.
" * (إني عامل) *) يقول اعملوا ما أنتم عاملون فإني عامل ما أمرني ربي، وهذا أمر وعيد وتهديد لا أمر إباحة وإطلاق كقوله " * (اعملوا ما شئتم) *).
وقال الكلبي: معناه اعملوا ما أمكنكم من أمري فإني عامل في أموركم بإهلاك.
" * (فسوف تعلمون من تكون) *) قرأ مجاهد وأهل الكوفة: يكون بالياء، الباقون: بالتاء، " * (له عاقبة الدار) *) يعني الجنة " * (إنه لا يفلح الظالمون) *) أي لا يأمن الكافرون.
قال عطاء: لا يبعد. وقال الضحاك: لا يفوز. وقال عكرمة: لا يبقى في الثواب.
" * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) *).
قال المفسرون: كانوا يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيبا وللأوثان نصيبا فما كان للصنم أنفق عليه، وما كان لله أطعم الضيفان والمساكين ولا يأكلون من ذلك كله شيئا فما سقط مما جعلوا لله في نصيب الأوثان تركوه. وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله التقطوه فردوه إلى نصيب الصنم وقالوا: إنه فقير. وكانوا إذا بذروا ما وقع من بذر الله في حصة الصنم تركوه، وما وقع من حصة الصنم في حصة الله تعالى ردوه وان انفجر من سقي ماء جعلوه للشيطان في نصيب الله، شدوه، وإن انفجر من سقي ماء جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه. فإذا هلك الذي سموا لشركائهم أو أجدب وكثر الذي لله، قالوا: ليس لآلهتنا بد من نفقة فأخذوا الذي لله وأنفقوا على الهتهم فإذا أجدب الذي لله وكثر الذي لآلهتهم قالوا: لو شاء الله لأزكى الذي له فلا يردون عليه شيئا مما للآلهة فإذا أصابتهم السنة استعانوا بما جزوا منه ووفروا ما يجزون لشركائهم وذلك قوله تعالى مما " * (ذرأ من
193

الحرث والأنعام نصيبا) *) أي مما خلف من الحرث والأنعام نصيبا، وفيه إضمار واختصار مجازه: وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا " * (فقالوا هذا لله بزعمهم) *).
يحيى بن رئاب والسلمي والأعمش والكسائي: بالضم.
وقرأ الباقون: بالفتح. وهما لغتان وهوالقول من غير حقيقة.
سمعت الحسين يقول: سمعت العنبري عن أبي العباس الأزهري عن أبي حاتم إنه قال: قال شريح القاضي: إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا، والزعم أيضا في الطمع " * (وهذا لشركائنا) *) يعني الأوثان " * (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون) *) أي بئس ما كانوا يقضون " * (وكذلك زين) *) أي كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين " * (لكثير من المشركين قتل أولادهم) *) (ساء) موضع فرفع والمعنى: ساء الحكم حكمهم " * (شركاؤهم) *) يعني شياطينهم زينوا وحسنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة.
وقال الكلبي: شركاؤهم سدنة الهتهم هم الذين كانوا يزينون للكفار قتل أولادهم. وكان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله.
وقرأ أهل الشام: " * (زين) *) بالضم، " * (قتل) *): رفع، " * (أولادهم) *) نصب، " * (شركائهم) *) بالخفض على التقديم، كأنه قال: زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم. ففرقوا بين الفعل وفاعله.
يقول الشاعر:
يمر على ما يستمر وقد شقت
غلائل غير نفس صدورها
يريد شقت.
عبد القيس: غلايل صدورها.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: زين بضم الزاي قتل رفعا، أولادهم خفضا، شركاؤهم رفعا على (التوضيم) والتكرير.
كأنه لما قال: زين لكثير من المشركين قتل أولادهم. تم الكلام. ثم قال: من زينه؟ فقال: شركاؤهم أي زينه شركاؤهم فارتفع الشركاء بفعل ضمير دل عليه زين، كما تقول: أكل اللحم زيد: كأنه قيل: من الآكل فتقول زيد.
قال الشاعر
194

ليبك لزيد ضارع لخصومة
ومختبط مما تطيح الطوائح
فزيد مفعول مستقل بنفسه غير مسمى فاعله، ثم بين فقال: ضارع.
أي ليبكيه ضارع، وقوله تعالى " * (ليردوهم) *) ليهلكوهم " * (وليلبسوا) *) أي ليخلطوا ويشبهوا " * (عليهم دينهم) *) وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه " * (ولو شاء الله) *) هداهم ووفقهم وعصمهم عن " * (ما فعلوه) *) ذلك من تحريم الأنعام والحرث، وقيل: الأولاد " * (فذرهم) *) يا محمد " * (وما يفترون) *) يختلقون على الله الكذب فإن الله لهم بالمرصاد ولا يخلف الميعاد " * (وقالوا) *) يعني المشركين " * (هذه أنعام وحرث حجر) *) يعني ما كانوا جعلوه لله ولآلهتهم التي قد مضى ذكرها.
وقال مجاهد: يعني بالأنعام، البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، والحجر: الحرام. قال الله تعالى ويقولون " * (حجرا محجورا) *) أي حراما حرما.
قال الليث:
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها
حجر حرام ألا تلك الدهاريس
وأصله من الحجر وهو المنع والحظر، ومنه: حجر القاضي على المفسد.
وقرأ الحسن وقتادة: وحرث حجر بضم الحاء وهما لغتان. وقرأ أبي بن كعب وابن عباس وابن الزبير وأبي طلحة والأعمش: وحرث حرج بكسر الحاء والراء قبل الجيم وهي لغة أيضا مثل جذب وجبذ.
وأنشد أبو عمرو:
ألم تقتلوا الحرجين إذ أعرضا لكم
يمران بالأيدي اللحاء المضفرا
" * (لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم) *) يعنون الرجال دون النساء " * (وأنعام حرمت ظهورها) *) يعني الحامي إذا ركب ولد ولده. قالوا: حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه " * (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) *).
قال مجاهد: كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها لا أن ركبوا ولا أن حلبوا ولا أن نتجوا ولا أن باعوا ولا أن حملوا
195

وقال أبو عاصم: قال لي أبو وائل: أتدري ما أنعام حرمت ظهورها؟ قلت: لا. قال: لا يحجون عليها.
وقال الضحاك: هي التي إذا ذكوها أهلوا عليها بأصنامهم ولا يذكرون اسم الله عليها " * (إفتراء عليه) *) يعني إنهم كانوا يفعلون ذلك ويزعمون إن الله أمرهم به " * (سيجزيهم بما كانوا يفترون وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا) *).
قال ابن عباس والشعبي وقتادة: يعني ألبان النحائر كانت للذكور دون النساء فإذا ماتت اشترك في لحمها ذكورهم وإناثهم.
وقال السدي: يعني أخذ النحائر ما ولد منها أخذ خالص للرجل دون النساء (وأما ما ولد ميت فيأكله) الرجال والنساء، ودخل الهاء في (خالصة) على التأكيد والمبالغة، كما فعل ذلك بالراوية والنسابة والعلامة.
قال الفراء: أهلت الهاء لتأنيث الأنعام، لأن ما في بطنها مثلها، فأنث لتأنيثها قال: وقد يكون الخالصة كالعاقبة ومنه قوله " * (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) *)، وقرأ عبد الله والأعمش: خالص لذكورنا بغير الهاء ردا إلى ما، وقرأ ابن عباس: خالصة بالإضافة (ويخلص) والخالصة والخليصة والخلصان واحد. قال الشاعر:
كنت أميني وكنت خالصتي
وليس كل إمرىء بمؤتمن
" * (ومحرم على أزواجنا) *) يعني النساء " * (وإن يكن ميتة) *) قرأ أهل المدينة: تكن بالتاء، ميتة بالرفع على معنى: وإن تقع الأنعام ميتة، وقرأ أهل مكة:
يكن بالياء، ميتة بالرفع على معنى: وإن يقع ما في بطون الأنعام ميتة، وقرأ الأعمش: تكن بالتاء، ميتة نصبا على معنى: وإن يكن (ما في بطون الأنعام ميتة) وقرأ الباقون: يكن بالياء، ميتة بالنصب، ردوه إلى ما يؤيد ذلك قوله: " * (فهم فيه شركاء) *) ولم يقل: فيها. " * (سيجزيهم وصفهم) *) أي بوصفهم وعلى وصفهم الكذب على الله كقوله " * (وتصف ألسنتهم الكذب) *) والوصف والصفة واحد كالوزن والزنة والوعد والعدة، " * (إنه حكيم عليم قد خسروا الذين قتلوا أولادهم سفها) *) الآية نزلت في ربيعة ومضر وفي العرب الذين يدفنون بناتهم أحياء مخافة السبي والفقر، إلا ما كان من بني كنانة فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك
196

وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وأهل مكة والشام: قتلوا، مشددا على التكثير والباقون بالتخفيف " * (بغير علم وحرموا ما رزقهم الله) *) يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام افتراء على الله حين قالوا: إن الله أمرهم بها " * (وقد ضلوا وما كانوا مهتدين وهو الذي أنشأ) *) اخترع وابتدع " * (جنات) *) بساتين.
(* (وهو الذىأنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين * ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين * ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهدآء إذ وصاكم الله بهاذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *) 2
" * (معروشات وغير معروشات) *) مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات قال ابن عباس: معروشات ما انبسط على وجه الأرض وأنتثر مما يعرش مثل الكرم والقرع والبطيخ وغيرها، وغير معروشات ما كان على ساق مثل النخيل وسائر الأشجار وما كان على نسق، ومثل (البروج)، وقال الضحاك: معروشات وغير معروشات الكرم خاصة منها ما عرش ومنها ما لم يعرش.
وروي عن ابن عباس إيضا أن المعروشات ما عرش الناس، وغير معروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار.
يدل عليه قراءة علي (معروشات وغير معروشات) بالغين والسين. (والنخل) يعني وأنشأ " * (النخل والزرع مختلفا أكله) *) ثمره وطعمه الحامض والمر والحلو والجيد والرديء وارتفع معنى الأكل (ومختلفا نعته) إلا أنه لما تقدم النعت على الاسم وولي منصوبا نصب، كما تقول: عندي طباخا غلام وأنشد:
الشر منتشر لقاك (من مرض)
والصالحات عليها مغلقا باب
" * (والزيتون والرمان متشابها) *) في المنظر " * (وغير متشابه) *) في الطعم مثل الرمانتين لونهما
197

واحد وطعمهما مختلف، إحداهما حلوة والأخرى حامضة وقد مر القول فيه " * (كلوا من ثمره إذا أثمر) *) ولا تحرموه كفعل أهل الجاهلية " * (وآتو حقه يوم حصاده) *) قرأ أهل مكة والمدينة والكوفة حصاده بكسر الحاء والباقون بالفتح، وهما واحدة كالجداد والجداد (والصرام والصرام) واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال ابن عباس وطاووس والحسن وجابر بن زيد ومحمد ابن الحنفية وسعيد بن المسيب والضحاك وابن زيد:) هي الزكاة (المفروضة العشر ونصف العشر.
وقال علي بن الحسين وعطاء وحماد والحكم: هو حق في المال سوى الزكاة.
قال مجاهد: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، وإذا جذذت فألف لهم من الشماريخ، وإذا درسته ودسته وذريته فاطرح لهم منه، وإذا كدسته ونقيته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته.
وقال إبراهيم: هو الضغث، قال الربيع: لقاط السنبل. قال مجاهد: كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه الضيف (ومن مر به).
قال زيد بن الأصم: كان أهل (الجاهلية) إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه ويأخذه.
وقال سعيد بن جبير وعطية: كان هذا قبل الزكاة فلما فرض الزكاة نسخ هذا.
وقال سفيان والسدي: سألت عن هذه الآية فقال: نسخها العشر ونصف العشر، قلت: ممن؟ فقال: من العلماء مقسم عن ابن عباس: نسخت الزكاة كل (صدقة) في القرآن.
" * (ولا تسرفوا أنه لا يحب المسرفين) *) كان رجال (ينفقونها بالحرام) فيقول الرجل لا أمنع سائلا حتى (أمسي) فعمد ثابت بن قيس بن شماس إلى خمس مائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحدولم يترك لأهله شيئا فنزلت (ولا تسرفوا) أي لا تعطوا كله، وقال السدي: لا تسرفوا لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء، وقال سعيد بن المسيب: لا تمنعوا الصدقة، وقال (يمان بن رئاب): ولا تبذروا تبذيرا، مجاهد وعطية العوفي: ولا تتركوا الأصنام في الحرث والأنعام.
وقال الزهري: (فوقعوا في) المعصية، وقال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله (كان) مسرفا، وفي هذا المعنى قيل لحاتم الطائي: لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير.
وقال محمد بن كعب: السرف أن لا يعطي في حق، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
198

الإسراف ما لا يقدر على رده إلى الصلاح، والفساد ما يقدر على رده إلى الصلاح.
قال النضر بن شميل: الإسراف التبذير والإفراط، والسرف الغفلة والجهل. قال الشاعر:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية
ما في عطائهم من ولا سرف
قال إياس بن معاوية: ما تجاوز أمر الله فهو سرف، وروى ابن وهب عن ابن زيد قال: الخطاب (للمساكين) يقول: لا تأخذوا فوق حقكم.
" * (ومن الأنعام) *) يعني أنشأ من الأنعام " * (حمولة) *) بمعنى كل ما محمل عليها ويركب مثل كبار الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، سميت بذلك لأنها تحمل أثقالهم، قال عنترة:
ما دعاني إلا حمولة أهلها
وسط الديار (تسف) حب الخمخم
والحمولة الأحمال.
وقال أهل اللغة: الفعولة بفتح الفاء إذا كانت (يعني) الفاعل استوى فيه المذكر والمؤنث نحو قولك: رجل فروقة وامرأة فروقة للجبان والخائف، ورجل صرورة وامرأة صرورة إذا لم يحجا، وإذا كانت بمعنى المفعول فرق بين الذكر والأنثى بالهاء كالخلوية والزكوية " * (وفرشا) *) والفرش ما يؤكل ويجلب ولا يحمل عليه مثل الغنم والفصلان والعجاجيل، سميت فرشا للطافة أجسامها وقربها من الفرش. هي الأرض المستوية، وأصل الفرش الخفة واللطافة ومنه فراشة العقل وفراش العظام، والفرش أيضا نبت ملتصق بالأرض (تأكله) الإبل قال الراجز:
كمفشر الناب تلوك الفرشا
والفرش: صغار الأولاد من الأنعام
وقال الراجز:
أورثني حمولة وفرشا
أمشها في كل يوم مشا
" * (كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان) *) ما حرم الحرث الأنعام " * (إنه لكم عدو مبين) *) ثم بين الحمولة والفرش فقال: " * (ثمانية أزواج) *) نصبها على البدل من الحمولة (بالفرض) يعني (واحد من) الأنعام ثمانية أزواج أي أصناف " * (من الضأن اثنين) *) فالذكر زوج والأنثى زوج والضأن والنعاج جمعه، واحده: ضائن، والأنثى: ضائنة، والجمع: ضوائن.
قرأ الحسن وطلحة بن مصرف: الضأن مفتوحة الهمزة، والباقون ساكنة الهمزة، تميم بهمزة وسائر لا بهمزة " * (ومن المعز اثنين) *) والمعز المعزى لا واحد له من لفظه، وأما الماعز
199

فجمعه معيزة وجمع الماعزة مواعز، وقرأ أهل المدينة والكوفة: من المعز ساكنة العين والباقون بالفتح، وفي مصحف أبي: من المعزى، وقرأ أبان بن عثمان: من الضأن اثنان ومن المعز اثنين، قل يا محمد: " * (الذكرين) *) حرم الله عليكم؟ ذكر الضأن " * (حرم أم الأنثيين) *) والمعز؟ أم أنثييهما (والنصب) قوله " * (ألذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) *) منهما " * (نبئوني بعلم إن كنتم صادقين) *) * * (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) *).
وذلك أنهم كانوا يقولون هذه أنعام (وحرث حجر)، وقالوا: أما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، فحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وكان خطيبهم يومئذ مالك بن عوف وأبو النضر (النصري) فقال: يا محمد (رأينا) أنك تحرم ما كان أباؤنا يفعلونه؟
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم قد حرمتم أصنافا من النعم على (غير........) إن الله خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين حرمت ذكران هذه النعم على نسائكم دون رجالكم؟
فإن زعمتم أن تحريمه من أجل الذكران وجب أن تحرموا كل ذكر، لأن للذكر فيها حظا، وإن زعمتم أن تحريمه من جهة الأنثى وجب أن تحرموا كل أنثى لأن للأناث فيها حظا، وإن زعمتم أن تحريمه لاجتماع الذكر والأنثى فيه وما اشتمل الرحم عليه وجب أن تحرموا الذكر والأنثى والحي والميت، لأنه لا يكون ولد إلا من ذكر وأنثى ولا يشتمل الرحم إلا على ذكر وأنثى، فلم تحرمون بعضا وتحلون بعضا؟ فسكت.
فلما لزمته الحجة أخذ بالافتراء على الله فقال: كذا أمرنا الله فقال الله تعالى " * (أم كنتم شهداء) *) (حضورا) * (إذ وصاكم الله بهذا) * * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *).
2 (* (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم * وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهمآ أو الحوايآ أو ما اختلط بعظم ذالك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون * فإن
200

كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين * سيقول الذين أشركوا لو شآء الله مآ أشركنا ولا ىابآؤنا ولا حرمنا من شىء كذالك كذب الذين من
قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون * قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين * قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون أن الله حرم هاذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهوآء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالاخرة وهم بربهم يعدلون) *) 2
(ثم بين) المحرمات فقال " * (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما) *) أي شيئا محرما " * (على طاعم يطعمه) *) آكل يأكله. وقرأ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يطعمه مثقلة بالطاء أراد يتطعمه فأدغم، وقرأت عائشة على طاعم طعمه " * (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) *) (مهراقا) سائلا. قال عمران بن جرير: سألت أبا مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم وعن القدر تعلوها حمرة الدم. قال: لا بأس به إنما نهى الله سبحانه عن الدم المسفوح.
وقال إبراهيم: لا بأس الدم في عروق أو مخ إلا المسفوح الذي تعمد ذلك، قال عكرمة: لولا هذه الآية لأتبع المسلمون من العروق ما تتبع اليهود " * (أو لحم خنزير فإنه رجس) *) خبيث " * (أو فسقا) *) معصية " * (أهل) *) ذبح * (لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) * * (وعلى الذين هادوا) *) يعني اليهود " * (حرمنا كل ذي ظفر) *)، وهو مالم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير. مثل الإبل والنعام والأوزة والبط.
قال ابن زيد: هو الإبل فقط. وقال القتيبي: هو كل ذي مخلب من الطيور وكل ذي حافر من الدواب، وقد حكاه عن بعض المفسرين، وقيل: سمي الحافر ظفرا على الاستعارة وأنشد قول طرفة:
فما رقد الولدان حتى رأيته
على البكر يمريه بساق وحافر
فجعل الحافر موضع القدم.
وقرأ الحسن كل ذي ظفر مكسورة الظاء مسكنة الفاء. وقرأ (أبو سماك) ظفر بكسر الظاء والفاء وهي لغة.
201

" * (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها) *) يعني (الشروب) وشحم الكليتين " * (إلا ما حملت ظهورهما) *) أي ما علق بالظهر والجانب إلا من داخل بطونها " * (أو الحوايا) *) يعني الماعز " * (أو ما اختلط بعظم) *) مثل لحم الإلية " * (ذلك) *) التحريم " * (جزيناهم ببغيهم) *) بظلمهم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل " * (وإنا لصادقون) *) في أخبارنا عن هؤلاء اليهود وعما حرمنا عليهم من اللحوم والشحوم.
" * (سيقول الذين أشركوا) *) (لما الزمنا بينهم) الحجة وتبينوا وتيقنوا باطل ما كانوا عليه " * (لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا من قبل ولا حرمنا) *) ما حرمنا من التغاير والسوايب وغير ذلك لأنه قادر على أن يحمل بيننا وبين ذلك حتى لا نفعله ولكنه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأصنام وتحريم الحرث والأنعام وأراد منا وأمرنا به فلم يحل بيننا وبين ذلك فقال الله تعالى تكذيبا لهم وردا عليهم " * (كذلك كذب الذين من قبلهم) *) ولو كان كذلك خيرا من الله تعالى عن من كذبهم في قولهم " * (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) *) لقال كذلك (كذب الذين من قبلهم) بتخفيف الذال وكان نسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب.
وقال الحسن بن الفضل: (لما خبروا بهذه المقالة) تعظيما وإجلالا لله سبحانه وتعالى وصفة منهم به لما عابهم ذلك، لأن الله قال " * (ولو شاء الله ما أشركوا) *) وقال سبحانه: " * (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) *) وقال " * (ولو شاء لهداكم أجمعين) *) والمؤمنون يقولون هذا ولكنهم قالوا ذلك تكذيبا وتخرصا وبدلا من غير معرفة بالله تعالى وبما (يقولون) نظيره قوله " * (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) *)، قال الله تعالى " * (مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) *) بقولهم هذا من غير علم بينهم بآية " * (والمؤمنون) *) وبقوله و " * (علم) *) منهم بالله عز وجل ثم قال " * (هل عندكم من علم) *) من حظ وحجة على ما يقولون من غير علم ويقين " * (وإن أنتم إلا تخرصون) *) تكذبون " * (قل فلله الحجة البالغة) *) التامة الكافية على خلقه " * (فلو شاء لهداكم أجمعين) *) * * (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا) *) أي احضروهم وأتوا بهم فقالوا: نحن نشهد، فقال الله تعالى: " * (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) *) إلى قوله " * (يعدلون) *) يشركون.
(* (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ذالكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها
202

وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذالكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هاذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون * ثم ءاتينا موسى الكتاب تماما على الذىأحسن وتفصيلا لكل شىء وهدى ورحمة لعلهم بلقآء ربهم يؤمنون * وهاذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) *) 2
ثم قال " * (قل يا محمد تعالوا أتل) *) أقرأ " * (ما حرم ربكم عليكم) *) حقا يقينا كما أوحى إلي ربي وأمرني به لاظنا ولا تكذيبا كما يزعمون " * (لا تشركوا به شيئا) *) اختلفوا في محل أن فقال بعضهم: (محله) نصب، ثم اختلفوا في وجه انتصابه فقيل معناه: حرم أن تشركوا ولا صلة كقولهم: (ما منعك ألا تسجد).
وقيل: إنك ألا تشركوا، وقيل: أوحى ألا تشركوا، وقيل: (ما) بدل (من) ما حرم، وقيل: الكلام عند قوله " * (حرم ربكم) *) ثم قال: عليكم أن لا تشركوا على الكفر، وقال بعضهم: موضع (من) معناه: وهو أن لا تشركوا جهرا بكفركم، وأما بعده فيجوز أن يكون في محل النصب عطفا على قوله أن لا تشركوا) وأن (
.......) لأنه يجوز أن يكون جزم على الأقوى كقوله * (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) * * (ولا تكونن من المشركين) *) عطف بالنهي على الخبر قال الشاعر:
حج وأوصي بسليمى إلا عبدا
أن لا ترى ولا تكلم أحدا
ولا يزال شرابها مبردا
" * (وبالوالدين إحسانا فلا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) *) ولاتئدوا بناتكم خشية العيش فإني أرزقكم وإياهم والإملاق الفقر ونفاد الزاد.
" * (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها) *) يعني علانية " * (وما بطن) *) يعني السر قال المفسرون: كانوا في الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسا في السر فحرم الله تعالى الزنا في العلانية والسر وقال الضحاك: ما ظهر الخمر وما بطن " * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) *) (نهى وهي) نفس مؤمن أو معاهد " * (إلا بالحق) *) يعني بما أباح قبلها وهي الارتداد والقصاص والرجم.
وروى مطر الوراق عن نافع بن عمر عن عثمان رضي الله عنه أشرف على أصحابه وقال: علام يقتلونني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل دم أمرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث:
203

رجل زنا بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عامدا فعليه القود، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا قتلت أحدا فاقيد نفسي، ولا ارتدت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله)
" * (ذلكم) *) النبي الذي ذكرت " * (وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) *) يعني بما فيه صلاحه وتثميره، وقال مجاهد: هو التجارة فيه، وقال الضحاك: أموال يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئا.
وقال ابن زيد: وأن يأكل بالمعروف إن افتقر، وإن استغنى لم يأكل، وقال الشعبي: من خالط مال اليتيم حتى يفصل عليه فليخالطه، ومن خالطه ليأكل منه وليدعه حتى يبلغ أشده.
وقال يحيى بن يعمر: بلوغ الحلم، وقال الشعبي: الأشد الحلم حيث يكتب له الحسنات وعليه السيئات، وقال أبو العالية: حتى يعقل ويجتمع قوته.
وقال الكلبي: الأشد ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة. وقال السدي: هو ثلاثون سنة ثم جاء بعدها حتى بلغوا النكاح.
والأشد جمع شد، مثل قد وأقد، وهو استحكام قوما لفتى وشبابه وسنه، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه، يقال: أتيته شد النهار ومد النهار وقال الفضل بن محمد في شد بيت عنترة:
(عهدي به) شد النهار كأنما
خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وقال آخر:
تطيف به شد النهار ضعينة
طويلة أنقاء اليدين سحوق
وليس بلوغ الأشد ممايدع قرب ماله بغير الأحسن وقد تم الكلام.
" * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) *) (على الأبد) * * (حتى يبلغ أشده) *) فادفعوا إليه ماله إن كان رشيدا " * (وأفوا الكيل والميزان بالقسط) *) بالعدل " * (لا نكلف نفسا إلا وسعها) *) أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن، وقال أهل المعاني: معناه: إلا يسعها ويحل لها ولا يخرج عليه ولا يضيق عنه وذلك أن لله تعالى من عباده أن كثيرا منهم ضيق نفسه عن أن يطيب لغيره بما لا يجب عليها له فأمر المعطي بإيفاء الحق ربه الذي هو له ويكلفه الزيادة لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها، وأمر صاحب الحق بأخذ حقه ولم يكلفه الرضا بأقل منه لما فيه في النقصان عليه من ضيق نفسه، فلم يكلف نفسا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا يضيق عليه.
204

قال ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم فقد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان " * (وإذا قلتم فاعدلوا) *) أي فاصدقوا في الحكم والشهادة " * (ولو كان ذا قربى) *) محذوف الاسم يعني ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قربة " * (وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) *) يتعظون.
قال ابن عباس: هذا الآيات محكمات لم ينسخهن شيء في جميع الكتب وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار.
قال كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إن هذا لأول شيء في التوراة " * (بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) *) الآيات.
وقال الربيع بن خيثم لأصحابه: ألا أقرأ عليكم صحيفة عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم لم يفك فقرأ هذه الآية * (قل تعالوا أتل) * * (وإن هذا) *) يعني وصاكم به في هاتين الآيتين " * (صراطي) *) طريقي وديني " * (مستقيما) *) مستويا قويما " * (فاتبعوه ولا تتبعوا السبل) *) يعني الطرق المختلفة التي عداها مثل اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات " * (فتفرق) *) فيمتد وتخالف (وتشتت) * * (بكم عن سبيله) *) عن طريقه ودين النبي الذي
ارتضى وبها وصى " * (ذلكم الذي) *) ذكرت * (وصاكم به لعلكم تتقون) * * (ثم آتينا موسى الكتاب) *) يعني ثم قل يا محمد لهم آتينا موسى الكتاب، لأن موسى أوتي الكتاب قبل محمد عليهما الصلاة والسلام. وقيل: ثم بمعنى الواو لأنهما حرفا عطف قال الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبوه
ثم قد ساد قبل ذلك جده
" * (تماما) *) نصب على القطع، وقيل: على التفسير " * (على الذي أحسن) *) قال بعضهم: معناه تماما على المحسنين. ويكون (الذي) بمعنى (من) وتقديره على الذين أحسنوا، لفظه واحد ومعناه جمع كما تقول: أوصي بمالي للذي غزا وحج يريد الغازين والحاجين.
وقال الشاعر:
شبوا علي المجد وشابوا واكتهل
يريد: واكتهلوا.
يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود (على الذين أحسنوا).
وقال أبو عبيد: معناه على كل من أحسن، ومعنى هذا القول أتممنا (طلب) موسى بهذا الكتاب، على المحسنين يعني أظهرنا فضله عليهم، والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون. وقيل:
205

معناه: ثم آتينا موسى الكتاب متما للمحسنين يعني تتميما منا للأنبياء والمؤمنين الكتب " * (على) *) بمعنى (اللام) كما تقول أتم الله عليه فأتم له. قال الشاعر:
رعته أشهرا وخلا عليها
فطار التي فيها واستعارا
أراد: وخلا لها.
وقيل: (الذي) بمعنى (ما)، يعني آتينا موسى الكتاب تماما على ما أحسن موسى من العلم والحكمة أي زيادة على ذلك.
وقال عبد الله بن بريدة: معناه تماما مني على مني وإحساني إلى موسى، وقال ابن زيد: معناه تماما على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم، وقال الحسن: فمنهم المحسن ومنهم المسئ فنزل الكتاب تماما على المحسنين، وقرأ يحيى بن يعمر: على الذي أحسن، بالرفع أي على " * (الذي أحسن وتفصيلا) *) بيانا " * (لكل شيء) *) يحتاج إليه من شرائع الدين " * (وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) *) هذا يعني وهذا القرآن " * (كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه) *) واعملوا بما فيه " * (واتقوا) *) وأطيعوا " * (لعلكم ترحمون) *) فلا تعذبون.
(* (أن تقولوا إنمآ أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنآ أنزل علينا الكتاب لكنآ أهدى منهم فقد جآءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزى الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون * هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى ربك أو يأتى بعض ءايات ربك يوم يأتى بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت فىإيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون * إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شىء إنمآ أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون * من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جآء بالسيئة فلا يجزىإلا مثلها وهم لا يظلمون * قل إننى هدانى ربىإلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين * لا شريك له وبذالك أمرت وأنا أول المسلمين * قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شىء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون * وهو الذى جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فى مآ آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم) *) 2
" * (أن تقولوا) *) يعني (لئلا) تقولوا كقوله " * (يبين الله لكم أن تضلوا) *) وقوله: " * (قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا) *) يعني أي لا تقولوا يعني لئلا تقولوا.
206

وقيل: معناه أنزلناه كراهة أن يقول، وقال الكسائي: معناه: اتقوا أن تقولوا: يا أهل مكة، وقرأ ابن محيصن والأعمش كلاهما والقراءة بالياء بقوله تعالى فقد جاءكم " * (إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) *) يعني اليهود والنصارى " * (وإن كنا) *) وقد كنا " * (عن دراستهم) *) قرأتهم " * (لغافلين) *) لا نعلم ما هي وإنما قال: دراستهم، ولم يقل: دراستهما، لأن كل طائفة جماعة، كقوله تعالى " * (هذان خصمان اختصموا) *) وأن ما يقال من المؤمنين اقتتلوا. " * (أو تقولوا لو أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) *) يعني أصوب من اليهود والنصارى دينا " * (فقد جاءكم بينة من ربكم) *) حجة واضحة لمن يعرفونها " * (وهدى) *) وبيان " * (ورحمة) *) ونعمة لمن اتبعه وعمل به " * (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدق) *) وأعرض عنها " * (سنجزي الذين يصدون عن آياتنا سوء العذاب) *) شدة العذاب " * (بما كانوا يصدفون) *) يعرضون " * (هل ينظرون) *) وينتظرون " * (إلا أن تأتيهم الملائكة) *) لقبض أرواحهم " * (أو يأتي ربك) *) بلا كيف لفصل القضاء من خلقه في موقف القيامة، وقال الضحاك: يأتي أمره وقضاؤه " * (أو يأتي بعض آيات ربك) *) يعني طلوع الشمس من مغربها " * (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها) *) وقرأ ابن عمر وابن الزبير: يوم تأتي بعض آيات ربك بالتاء، قال المبرد: على التأنيث على المجاورة لا على الأصل، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه. قال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت
سور المدينة والجبال الخشع
فأتت فعل السور، وهو مذكر لاتصاله بمؤنث.
روى عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورأها الناس آمنوا أجمعين وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها " * (لم تكن آمنت من قبل) *)) الآية.
وروى مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا غربت الشمس رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع إلى مغربها أو من مطلعها (فكسى) ضوؤها، وإن كان القمر منور على مقادير ساعات الليل والنهار ثم ينطلق بها ما بين السماء السابعة العليا وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر (جبال) المشرق من سماء إلى سماء، فإذا ما وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح ويضيء النهار فلا يظل الشمس والقمر، كذلك حتى يأتي الوقت الذي وقت الله التوبة لعباد وتكثر المعاصي في الأرض، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد ويفشو المنكر فلا ينهى عنه أحد، فإذا فعلوا ذلك حبست الشمس مقدار ليلة تحت العرش كلما
207

سجدت وأستأذنت من أن تطلع لم يجئ لها جواب حتى يراقبها القمر (فيجيء معها) ويستأذن من أن تطلع فلا يجاب لهما بجواب حتى تحبسا مقدار ثلاث ليالي للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف طول تلك الليالي إلا المتهجدون في الأرض، وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين في هوان من الناس وذلة من أنفسهم، فينام أحدهم تلك الليلة قدر ما كان ينام قبلها من الليالي، ثم يقوم ويتوضأ ويدخل مصلاه فيصلي ورده، فلا يصبح نحو ما كان يصبح كل ليلة فينكر ذلك فيخرج فينظر إلى السماء فإذا هو بالليل فكأنه والنجوم قد استدارت مع السماء فصارت إلى أماكنها من أول الليل، فينكر ذلك ويظن فيها الظنون فيقول: قد خففت قراءتي وقصرت صلواتي أم قمت قبل حيني.
قال: ثم يقوم فيعود إلى مصلاة فيصلي نحو صلاته الليلة الثانية ثم ينظر فلا يرى الصبح فيخرج أيضا فإذا بالليل مكانه فيزيده ذلك إنكارا ويخالطه الخوف ويظن في ذلك الظنون من السوء، ثم يقول فلعلي قصرت صلواتي ثم خففت قراءتي (أم قمت) في أول الليل ثم يعود وهو وجل مشتت خائف لما توقع من هول تلك الليلة فيقوم فيصلي أيضا مثل (ورده) كل ليلة قبل ذلك، ثم ينظر فلا يرى الصبح فيخرج الثالثة فينظر إلى السماء فإذا بالنجوم قد استدارت مع السماء فصارت في أماكنها عند أول الليل فيشفقه عند ذلك شفقة المؤمن العارف لما كان يحذر فيستحييه الخفة ويستخفه الندامة، ثم ينادي بعضهم بعضا وهم كانوا قبل ذلك يتعارفون ويتواصلون فيجتمع المتهجدون من كل بلدة في تلك الليلة في مسجد من مساجدهم ويجأرون إلى الله تعالى بالبكاء ويصلوا بقية تلك الليلة.
فإذا ما تم لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله إليهما جبرائيل فيقول: إن الرب تبارك وتعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه وإنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور فيبكيان عند ذلك وجلا من الله عز وجل وخوف يوم القيامة بكاء يسمعه أهل سبع سماوات ومن دونها وأهل سرادقات العرش وحملته ومن فوقهما، فيبكون جميعا لبكائهما من خوف الموت والقيامة، فيرجع الشمس والقمر فيطلعان من مغربهما فبينما المتهجدون يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، والغافلون في غفلاتهم إذ نادى مناد: ألا إن الشمس والقمر قد طلعا من المغرب فينظر الناس فإذا هم بهما أسودان لا ضوء للشمس ولا نور للقمر مثلهما في كسوفهما قبل ذلك. فذلك قوله " * (وجمع الشمس والقمر) *) وقوله " * (إذا الشمس كورت) *) فيرتفعان كذلك مثل البعيرين القرنين ينازع كل واحد منهما صاحبه اشتياقا، ويتصايح أهل الدنيا وتدخل الأمهات على أولادها والأحبة عن غمرات قلوبها، فتشتغل كل نفس بما ألمها، فأما الصالحون والأبرار فإنه ينفعهم بكاؤهم يومئذ فيكتب لهم ذلك عبادة، وأما الفاسقون والفجار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب
208

ذلك حسرة عليهم فإذا ما بلغ الشمس والقمر سرت السماء وهي منصفها جاءهما جبرائيل (عليه السلام) فأخذ بقرونهما فردهما إلى المغرب فلا يغربهما من مغاربهما ولكن يغربهما من باب التوبة).
فقال له عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): بأبي أنت وأمي يا رسول الله وما باب التوبة؟
فقال صلى الله عليه وسلم (يا عمر خلق الله تعالى بابا للتوبة خلف المغرب له مصراعان من ذهب مكللان بالدر والجوهر ما بين المصراع إلى المصراع الآخر أربعون سنة للراكب المسرع فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحا منذ خلق الله آدم إلى ذلك اليوم إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب. لم يرفع إلى الله تعالى).
فقال له معاذ بن جبل: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وما التوبة النصوح؟
قال: (أن يندم المذنب على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله عز وجل ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
قال: فيغربهما جبريل في ذلك الباب ثم يرد المصراعين ثم يلتئم ما بينهما فيصير كأنه لم يكن بينهما صدع قط، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل من العبد بعد ذلك توبة ولم ينفعه حسنة يعملها في الإسلام، إلا من كان قبل ذلك محسنا فإنه يجري عليه ما كان يجري عليه قبل ذلك اليوم فذلك قوله عز وجل " * (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) *).
فقال أبي بن كعب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله فكيف بالشمس والقمر يومئذ بعد ذلك وكيف بالناس والدنيا.
فقال: (يا أبي إن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثم يطلعان على الناس ويغربان، كما كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان، فإن الناس رأوا ما رأوا في فظاعة تلك الآية يلحون على الدنيا حتى يجروا فيها الأنهار ويغرسوا فيها الأشجار ويبنوا البنيان. وأما الدنيا فلو نتج لرجل مهرا لم يركبه حتى تقوم الساعة من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى أن ينفخ في الصور).
قال حذيفة بن أسيد والبراء بن عازب: كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما تذاكرون؟
209

(قلنا:) نتذاكر الساعة.
قال: (إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، ودابة الأرض، وخسفا بالمشرق، وخسفا بالمغرب، وخسفا بجزيرة العرب، ويأجوج ومأجوج، ونارا تخرج من قعر عدن، ونزول عيسى، وطلوع الشمس من مغربها).
ويقال: إن الآيات تتابع كالنظم في الخيط عاما فعاما.
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: والحكمة في طلوع الشمس من مغربها إن إبراهيم (عليه السلام) قال لنمرود: " * (ربي الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر) *).
وأن الملحدة والمنجمة عن آخرهم ينكرون ذلك ويقولون هو غير (كائن) فيطلعها الله تعالى يوما من المغرب ليري المنكرين قدرته فإن الشمس من ملكه إن شاء أطلعها من المطلع وإن شاء من المغرب.
وقال عبد الله بن عمر: يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة حتى يغرسوا النخل.
قال الله: " * (قال انتظروا إنا منتظرون) *) العذاب " * (إن الذين فرقوا دينهم) *) قرأ حمزة والكسائي: فارقوا بالألف أي خرجوا من دينهم وتركوه وهي قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ الباقون مشددا بغير ألف وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب أي جعلوا دين الله وهو واحد دين الحنيفية أديانا مختلفة فتهود قوم وتنصر آخرون يدل عليه قوله " * (وكانوا شيعا) *) أي صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك.
وروى ليث عن طاوس عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن) هذه الآية " * (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وليسوا منك) *)، هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل من هذه الأمة لست منهم في شيء)، أي (نفر) منهم ورسول الله.
قالوا: وهذه اللفظة منسوخة بآية القتال.
وقال زادان أبو عمر قال لي علي (عليه السلام): (يا أبا عمر أتدري كم افترقت اليهود
210

قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: (افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية. أتدري على كم افترقت النصارى)؟
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: (افترقت على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة هي (الناجية).
أتدري على كم تفترق هذه الأمة)؟
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: (تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة فهي الناجية.
ثم قال علي رضي الله عنه أتدري على كم تفترق في؟
قلت: وإنه لتفترق فيك يا أمير المؤمنين؟
قال: نعم تفترق في اثنا عشر فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية وأنت منهم يا أبا عمر).
(ومنهم فرق الروافض والخوارج).
" * (من جاء بالحسنة فله) *) يعني التوحيد: لا إله إلا أنت " * (فله عشر أمثالها) *) قرأ الحسن وسعيد بن جبير. ويعقوب عشر (منون) أمثالها رفع على معنى فله حسنات عشر أمثالها، وقرأ الباقون بالإضافة على معنى: فله عشر حسنات أمثالها، وإنما لم يقل عشرة والمثل مذكر فأنث العدد لأنه مضاف إلى مؤنث فرده إلى الحسنة و الدرجة " * (ومن جاء بالسيئة) *) في الشرك " * (فلا يجزى إلا مثلها) *) النار " * (وهم لا يظلمون) *) وقيل: هو عام في جميع الحسنات والسيئات.
روى (المقدوس) بن يزيد عن أبي ذر: قال: حدثني الصادق المصدق أن الله عز وجل قال: (الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفرها فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة ثم لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة).
قال ابن عمر وابن عباس: هذه الآية في الأحزاب وأهل البدو، قيل: فما لأهل القرى قال: " * (وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *) وأقلها
سبعمائة ضعف، وقال قتادة: في هذه الآية ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الأعمال ستة فموجبة وموجبة مضاعفة ومثل وبمثل فأما الموجبتان فمن لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقى الله يشرك به
211

دخل النار، فأما المضاعفتان فنفقة الرجل على أهله عشر بعشر أمثالها ونفقة الرجل في سبيل الله سبعمائة ضعف، وأما مثل بمثل فإن العبد إذا هم بحسنة ثم لم يعملها كتبت واحدة وإذا عملها كتبت (عشرة)).
وعن سفيان الثوري لما نزلت " * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) *) قال النبي صلى الله عليه وسلم (ربي زدني) فنزلت " * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله مثل حبة) *) الآية قال: يا رب زدني فنزلت " * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة، قال: رب زدني؟ فنزلت: إنما يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب) *).
" * (قل) *) يا محمد " * (إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما) *)) قرأ أهل الكوفة والشام: قيما بكسر القاف وفتح الياء مخففا. وقرأ الباقون: قيما بفتح القاف وكسر الياء مشددا وهما لغتان وتصديق التشديد قوله تعالى " * (ذلك الدين القيم) *). و " * (دينا قيما) *) معناهما: ذلك الدين القويم المستقيم.
واختلف النحاة في وجه انتصابه فقال الأخفش: معناه هداني دينا قيما، وقيل: عرفت دينا قيما، وقيل: أعني دينا قيما، وقيل: نصب على الآخر يعني ابتغوا دينا قيما.
وقال قطرب: نصب على الحال (وضع) * * (ملة إبراهيم) *) بدل من الدين " * (حنيفا) *) نصب على الحال " * (وما كان من المشركين) *) * * (قل إن صلاتي ونسكي) *) قال أهل التفسير يعني ذبيحتي في الحج والعمرة.
وقيل: ديني " * (ومحياي ومماتي) *) يعني حياتي ووفاتي قال: يمان: محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان. وقرأ أهل المدينة ومحياي بسكون الياء.
وقرأت العامة بفتح الياء لئلا يجتمع ساكنان. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى: ومحيي بتشديد الياء الثانية من غير ألف وهي (لغة عليا مضر) يقولون: (قفي وعصي) وقرأ السلمي نسكي بجزم السين والباقون بضمتين " * (لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) *) قال قتادة أول المسلمين من هذه الأمة، قال الكلبي: أول من أطاع الله من أهل زمانه.
وروى سعيد بن جبير عن عمران بن (حصين) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا فاطمة قومي واشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك في أول قطرة من دمها كل ذنب عملته ثم قولي: إن صلاتي ونسكي إلى قوله المسلمين)
212

قال عمران: يا رسول الله هذه الآية لأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة؟
قال: (بل للمسلمين عامة).
" * (قل أغير الله أبغي ربا) *) سوى الله أطلب سيدا " * (وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها) *) لا تؤخذ مما أتت من المعصية وارتكبت من الذنوب سواها.
" * (ولا تزروا وازرة وزر أخرى) *) يعني ولا تحمل نفس حمل طبق محل اخرى ما عليها من الذنوب ولاتأثم نفس آثمة بأثم أخرى، بل كل نفس مأخوذ بجرمها ومعاقبة بإثمها " * (ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) *) يعني أهل القرون الماضية والأمم الخالية وأورثكم الأرض من بعدهم ثم جعلكم خلايف منهم فيما يخلفونهم فيها ويعمرونها بعدهم والخلاف جمع خليفة، كالوصيف يجمع وصيفة فكل من جاء من بعد من مضى فهو خليفة يقال: خلف فلان فلانا في داره يخلفه خلافة فهو خليفة كما قال الشماخ:
تصيبهم وتخطئني المنايا
وأخلف في ربوع عن ربوع
" * (ورفع بعضكم فوق بعض درجات) *) يعني وخالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والقوة والبسطة والعلم والفضل والمعاش والمعاد " * (ليبلوكم فيما أتاكم) *) يعني الغنى والفقر والشريف والوضيع والحر والعبد " * (إن ربك سريع العقاب) *) يعني ما هو آت قريب، وقيل: الهلاك في الدنيا.
وقال الكلبي: إذا عاقب فعقابه سريع، وقال عطاء: سريع العقاب لأعدائه " * (وإنه لغفور رحيم) *) لأوليائه.
213

((سورة الأعراف))
وهي مائتان وست آيات
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين إبليس سترا وكان آدم له شفيعا يوم القيامة).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون * وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون * فما كان دعواهم إذ جآءهم بأسنآ إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين * فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غآئبين * والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولائك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون * ولقد مكناكم فى الارض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون) *) 2
" * (المص) *) روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: " * (المص) *) قسم أقسم الله عز وجل، وقال عطاء بن أبي رباح: هو من ثناء الله سبحانه على نفسه، أبو صالح عن ابن عباس: اسم من أسماء الله تعالى، أبو الضحى عن ابن عباس: أنا الله أفصل وقال وهي هجاء موضوع، قتادة: اسم من أسماء القرآن. وقيل: اسم السورة، مجاهد: فواتح افتتح الله بها كتابه، الشعبي: فواتح السور من أسماء الله تعالى إذا وصلها كانت اسما.
وقال أبو روق: أنا الله الصادق، سعيد بن جبير: أنا الله أصدق، محمد بن كعب: إلا أن افتتاح اسمه أحد أول آخر، واللام افتتاح اسمه لطيف، والميم افتتاح اسمه مجيد وملك، والصاد افتتاح اسمه صمد وصادق أحد وصانع المصنوعات.
ورأيت في بعض التفاسير معنى * (المص) * * (ألم نشرح لك صدرك) *) وقيل: هي حروف هجاء مقطعة، وقيل: هي حساب الجمل، وقيل: هي حروف اسم الله الأعظم، وقيل: هي
214

حروف تحوي معاني كثيرة، وقيل: الله بها خلقه على مراده كله من ذلك، وموضعه رفع بالابتداء وكتاب خبره كأنه قال: (المص) حروف " * (كتاب أنزل إليك) *)، وقيل: كتاب خبر ابتدأ في هذا كتاب.
وقيل رفع على التقديم والتأخير، يعني أنزل كتاب إليك وهو القرآن " * (فلا يكن في صدرك حرج منه) *) قال أبو العالية: ضيق، وقال مجاهد: تنك، وقال الضحاك: إثم، وقال مقاتل: فلا يكن في قلبك شك في القرآن. إنه من الله، وقيل: معناه لا أطبق قلبك بإنذار من أرسلتك بإنذاره وإبلاغ من أمرتك بإبلاغه إياه " * (وذكرى للمؤمنين) *) أي عظة لهم وموعظة، وموضعه رفع مردود على الكتاب.
وقيل: هو نصب على المصدر تقديره ويذكر ذكرى. ويجوز أن يكون في موضع الخفض على معنى لتنذر في موضع خفض، والمعنى الإنذار والذكرى، وأما ذكرى فمصدر فيه ألف التأنيث (بمنزلة) دعوت دعوى ورجعت رجعي إلا أنه اسم في موضع المصدر.
" * (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) *) أي قل لهم: اتبعوا ولا تتبعوا من دونه أولياء.
قرأ العامة بالعين من الاتباع، وروى عاصم الجحدري عن أبي (الشيخ) ومالك بن دينار (ولا تبتغوا) بالغين المعجمة أي لا تطلبوا * (قليلا ما تذكرون) * * (وكم من قرية أهلكناها) *) بالعذاب وموضع (كم) الرفع بالابتداء وخبره في (أهكلناها) وإن شئت نصبته برجوع الهاء، " * (فجاءها بأسنا) *) عذابنا " * (بياتا) *) ليلا (كما يأت بالعساكر) * * (أوهم قائلون) *) يعني نهارا في وقت (القائلة) وقائلون نائمون ظهيرة، ومعنى الآية: (أو هم قائلون) يعني: إن من هذه القرى ما أهلكت ليلا ومنها ما أهلكت نهارا وإنما حذفوها (لاستثقالهم) نسقا على نسق، هذا قول الفراء، وجعل (الزجاج) بمعنى أو (التحير) والإباحة تقديره: جاءهم بأسنا مرة ليلا ومرة نهارا " * (فما كان دعواهم) *) أي قولهم ودعاؤهم مثل قوله تعالى " * (فما زالت تلك دعواهم) *) قال الشاعر:
وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي
بدعواك من مذل بها فتهون
مذل رجله إذا خدرت " * (إذ جاءهم بأسنا) *) عذابنا إلا أن قالوا " * (إنا كنا ظالمين) *) مسيئين آثمين ولأمره مخالفين أقروا على أنفسهم.
روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم. قال: قلت: كيف يكون ذلك؟
فقرأ هذه الآية: " * (ما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا) *) الآية.
215

" * (فلنسئلن الذين أرسل إليهم) *) يعني الأمم عن إجابتهم الرسل " * (ولنسئلن المرسلين) *) عن تبليغ الأمم " * (فلنقصن عليهم بعلم) *) قال ابن عباس: ينطق لهم كتاب أعمالهم يدل عليه قوله " * (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) *) الآية.
" * (وما كنا غائبين) *) عن الرسل فيما يلقون وعن الأمم فيما أجابوا " * (والوزن يومئذ) *) يعني (السؤال) * * (الحق) *) قال مجاهد: والقضاء يومئذ العدل، وقال آخرون: أراد به دون (وزن الأعمال) وذلك أن الله عز وجل ينصب الميزان له (يدان وكفان) يوم القيامة يوزن أعمال العباد خيرها وشرها فيثقل مرة ميزان الحسنات لنجاة من يريد نجاته. ويخفف مرة ميزان الحسنات علامة هلاك من يريد هلاكه.
فإن قيل: ما الحكمة في وزن أعمال العباد والله هو العالم بمقدار كل شيء قبل خلقه إياه وبعده قلنا أربعة أشياء: أحدهما: امتحان الله تعالى عباده بالإيمان به في الدنيا، والثاني: جعل ذلك علامة لأهل السعادة والشقاوة في العقبى.
والثالث: تعريف الله عز وجل للعباد ما عند الله من جزاء على خير وشر، والرابع: إلقائه الحجة عليه.
ونظيره قوله " * (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) *) الآية فأخبر ما تأتي الأعمال ونسخها مع علمه بها ما ذكرناه من المعاني والله أعلم.
" * (فمن ثقلت موازينه) *) قال مجاهد: حسناته " * (فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه) *) إلى قوله تعالى " * (يظلمون) *) يجحدون قال حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبرائيل يقول الله تعالى (يا جبرائيل زن بينهم فرد بعضهم على بعض) قال: وليس ثم ذهب ولا فضة وإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فيرد على المظلوم وإن لم يكن له حسنات يحمل عليه من سيئات صاحبه، يرجع الرجل وعليه مثل الجبال.
قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان لسان وكفتان فأما المؤمن فيؤتي بعمله في أحسن صورة فيرتفع في كفة الميزان وهو الحق فينقل حسناته على سيئاته فيوضع عمله في الجنة يعرفها بعمله فذلك قوله: " * (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون) *) الناجون ولهم غرف بمنازلهم في الجنة إذا انصرفوا إليها من أهل (
الجنة) إذا انصرفوا إلى منازلهم.
وأما الكفار فيؤتى بأعمالهم في أقبح صورة فيوضع في كفة الميزان وهي الباطل فيخف وزنه حتى يقع في النار ثم يقال للكافر: إلحق بعملك.
216

فإن قيل: كيف تصح وزن الأعمال وهي غراض وليست بأجسام فيجوز وزنها ووصفها بالثقل والخفة وإنما توزن الاعمال التي فيها أعمال العباد مكتوبة.
يدل عليه حديث عبد الله بن عمر، وقال: يؤتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان ثم خرج له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مثل مدى البصر فيها خطاياه وذنوبه فيوضع في الكفة ثم يخرج له كتاب مثل الأنملة فيها شهادت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم يوضع في الكفة الأخرى فيرجح خطاياه وذنوبه، ونظير هذه الآية قوله " * (ونضع الموازين بالقسط ليوم القيامة) *).
فإن قيل: لما جمعه وهو ميزان واحد.
قيل: يجوز أن يكون (أعظم) جميعا ومعناه واحد كقوله " * (الذين قال لهم الناس) *) * * (ويا أيها الرسل) *) وقال الأعشي:
ووجه نقي اللون صاف يزينه
مع الجيد لبات لها ومعاصم
أراد لبة ومعصما.
وقيل: أراد به الأعمال الموزونة.
وقيل: الأصل ميزان عظيم ولكل عبد فيه ميزان معلق به.
وقيل: جمعه لأن الميزان ما اشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يحصل الوزن إلا باجتماعهما.
وقيل: الموازين أصله: ميزان يفرق به بين الحق والباطل وهو العقل، وميزان يفرق بين الحلال والحرام وهو العلم، وميزان يفرق به بين السعادة والشقاوة هو عدم سهو الإرادة، وبالله التوفيق.
" * (ولقد مكناكم في الأرض) *) ملكناكم في الأرض ووطأنا لكم وجعلناها لكم قرارا " * (وجعلنا لكم فيه معايش) *) يعيشون بها أيام حياتكم من المأكل والمشرب والمعايش جمع المعيشة الياء من الأصل فلذلك لا تهمز " * (قليلا ما تشكرون) *) فيما صنعت إليكم.
2 (* (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال
217

فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال أنظرنى إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبمآ أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمآئلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) *) 2
" * (ولقد خلقناكم) *) قال ابن عباس: خلقنا أصلكم وأباكم آدم " * (ثم صورناكم) *) في أرحام أمهاتكم قال قتادة والربيع والضحاك والسدي: أما خلقناكم فآدم وأما صورناكم فذريته. قال مجاهد: خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهر آدم.
وقال عكرمة: خلقناكم في أصلاب الرجال وصورناكم في أرحام النساء قال عطاء: خلقوا في ظهر آدم ثم صوروا في الأرحام.
وقال يمان: خلق الإنسان في الرحم ثم صوره ففتق سمعه وبصره وأصابعه، فإن قيل: ما وجه قوله " * (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) *) وإنما خلقنا بعد ذلك وثم يوجب الترتيب والتراخي. كقول القائل: قمت ثم قعدت لا يكون القعود إلا بعد القيام.
قلنا: قال قوم: على التقديم والتأخير، قال يونس: الخلق والتصوير واحد (......) إلينا، كما نقول: قد ضربناكم وإنما ضربت سيدهم، قال الأخفش: ثم بمعنى الواو ومجازه: قلنا، كقول الشاعر:
سألت ربيعة من خيرها
أبا ثم آما فقالت لمه
أراد أبا وأما.
" * (فسجدوا) *) يعني الملائكة " * (إلا إبليس لم يكن من الساجدين) *) لآدم فقال الله لإبليس حين امتنع من السجود لآدم " * (قال ما منعك ألا تسجد) *) قال بعضهم: لا زائدة (وإن صلة) تقدير الكلام: ما منعك السجود لآدم، لأن المنع يتعدى إلى مفعولين قال الله عز وجل: " * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) *).
قال الشاعر:
ويلحينني في اللهو أن لا أحبه
وللهو داع دائب غير غافل
218

أراد: أن أحبة.
وقال آخر:
فما ألوم البيض أن لا تسخروا
لما رأيتي الشمط القفندرا
وقال آخر:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به
نعم الفتى لا يمنع الجود قاتله
أراد: أبى جوده البخل.
سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الهيثم الجهني يحكي عن أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان بعضهم يكره القالا، وتناول في المنع بمعنى القول، لأن القول والفعل يمنعان، وتقديره: من قال لك لا تسجد. قال بعضهم: معنى المنع الحول بين المرء وما يريد. والممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه فكأنه قال: أي شيء اضطرك إلى أن لا تسجد.
" * (إذ أمرتك) *) قال إبليس مجيبا له " * (قال أنا خير منه) *) لأنك " * (خلقتني من نار) *) والنار خير وأفضل واصفى وأنور من الطين قال ابن عباس: أول من قاس إبليس. فأخطأ القياس فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه مع إبليس.
وقال ابن سيرين: أول من (قاس) إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
وقالت الحكماء: أخطأ عدو الله حين فضل النار على الطين، لأن الطين أفضل من النار من وجوه:
أحدها: إن من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة والحلم والحياء والصبر، وذلك هو الداعي لآدم في السعادة التي (سبقت) له إلى التوبة والتواضع والتضرع وأدرته المغفرة والاجتباء والهداية والتوبة ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع والاضطراب، وذلك الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سيقت له إلى الاستكبار والاصرار فأدركه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاق.
والثاني: إن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها.
والثالث: إن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وفي النار ترابا
219

والرابع: إن النار سبب العذاب وهي عذاب الله لإعدائه وليس التراب سببا للعذاب.
والخامس: إن الطين (يسقى) من النار والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.
فقال الله له: " * (قال فاهبط منها) *) أي من الجنة، وقيل: من السماء إلى الأرض فألحقه بجزائر البحور وإنما سلطانه وعظمته في خزائن البحور وعرشه في البحر الأخضر فلا يدخل في الأرض إلا لهبة السارق عليه أطمار تروع فيها (من يخرج) منها " * (فما يكون لك) *) فليس لك أن " * (تتكبر فيها) *) في الجنة، وليس ينبغي أن يسكن الجنة ولا السماء (متكبر) ولا بخلاف أمر الله عز وجل " * (فأخرج إنك من الصاغرين) *) الأذلاء والصغر الذل والمهانة قال إبليس عند ذلك " * (قال أنظرني) *) أخرني واجلني وأمهلني ولا تمتني " * (إلى يوم يبعثون) *) من قبورهم وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت، " * (قال إنك من المنظرين) *) المؤخرين.
ثم بين مدة النظر والمهلة في موضع آخر، فقال " * (إلى يوم الوقت المعلوم) *) وهي النفخة الأولى حين ثبوت الخلق كلهم " * (قال فبما أغويتني) *). اختلفوا في ما قال: فبعضهم قال: هو استفهام يعني فبأي شيء أغويتني ثم ابتدأ فقال " * (لأقعدن لهم) *) فقيل: هو ما الجزاء يعني فإنك أغويتني لأجل أنك أغويتني لأقعدن، وقيل: هو ما المصدر في موضع القسم تقديره: بإغوائك إياي لأقعدن كقوله " * (بما غفر لي) *) يعني بغفران ربي.
وقوله أغويتني أضللتني عن الهدى. وقيل: أهلكتني، من قول العرب غوى الفصيل (يعني) غوي وذلك إذا فقد اللبن فمات. قال الشاعر:
معطفة الأثناء ليس فصيلها
برازئها درا ولا ميت غوى
وحكى عن بعض قبائل طي أنها تقول: أصبح فلان غاويا أي مريضا غارا، وقال محمد بن جرير: أصل الإغواء في كلام العرب تزيين الرجل للرجل الشيء حتى يحسنه عنده غارا له.
قال الثعلبي: وأخبرنا أبو بكر محمد بن محمد الحسين بن هاني قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن محمد (الراوساني) قال: حدثنا علي بن سلمة قال: حدثنا أبو معاوية الضرير عن رجل لم يسم قال: كنت (عند) طاووس في المسجد الحرام فجاء رجل ممن يرمي القدر من كبار الفقهاء فجلس إليه فقال طاووس: (يقوم أو يقام) فقام الرجل فقال لطاووس: تقول هذا الرجل فقيه، فقال إبليس: أفقه منه بقول إبليس رب بما أغويتني ويقول: هذا أنا أغوي نفسي
220

" * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) *) يعني لأجلسن (لبني آدم) على طريقك القويم وهو الإسلام كما قال أوعجلتم أمر ربكم يعني عن أمر ربكم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (إن الشيطان قعد لبني آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال له: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك، فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك فإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول. فعصاه وهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهد النفس والمال فقال: أتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصا له وجاهد).
وعن عون بن عبد الله " * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) *) قال: طريق مكة " * (ثم لأتينهم من بين أيديهم) *) الآية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ثم لآتينهم) من بين أيديهم يقول (أشككهم) في آخرتهم " * (ومن خلفهم) *) (أن يقيم في كتابهم) * * (وعن أيمانهم) *) اشتبه عليهم أمر دينهم " * (وعن شمائلهم) *) (أشهي) لهم المعاصي.
روى عطية عن ابن عباس قال: أما بين أيديهم فمن قبل دنياهم وأما من خلفهم (فإنه) آخرتهم وأما من إيمانهم فمن قبل حسناتهم وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم.
وقال قتادة: أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا يعذب ولا جنة ولا نار، ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها، وعن شمائلهم يزين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها، إياك يا بن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة الله.
وقال الحكم والسدي " * (لآتينهم من بين أيديهم) *): يعني الدنيا أدعوهم إليها وأرغبهم فيها وأزينها لهم. " * (ومن خلفهم) *) من قبل الآخرة أشككهم و (أثبطهم) فيها. " * (وعن أيمانهم) *) من قبل الحق أصدهم عنه (أبتلكم) فيه، وعن شمائلهم من قبل الباطل أخففه عليهم وأزينه لهم وأرغبهم فيه.
وقال مجاهد: من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون، قال ابن جريج: معنى قوله: من حيث يبصرون أي يخطئون حيث يعلمون أنهم يخطئون وحيث لا يبصرون لا يعلمون أنهم يخطئون.
وقال الكلبي: " * (ثم لأتينهم من بين أيديهم) *) من قبل آخرتهم أخبرهم أنه لا جنة ولا نار ولا نشور. " * (ومن خلفهم) *) من قبل دنياهم فأمرهم بجمع الأموال لا يعطون لها حقا (وأخوفهم الضيعة) على ذريتهم
221

" * (وعن أيمانهم) *) من قبل دينهم (فأبين) لكل قوم ما كانوا (يعبدون) وإن كانوا على هدى شبهته عليهم حتى أخرجتهم منه " * (وعن شمائلهم) *) من قبل الشهوات واللذات فأزينها لهم.
وقال شقيق بن إبراهيم: ما من صباح إلا وقعد لي الشيطان على أربعة مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، أما من بين يدي فأقول: لا تحزن فإن الله غفور رحيم، ويقول " * (ذلك لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) *).
وأما من خلفي فتخوفني الضيعة على عيالي ومحللي فأقول " * (وما من دابة على الأرض إلا على الله رزقها) *).
وأما من قبل يميني فيأتيني من قبل (الثناء) فأقول والعاقبة للمتقين.
وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات واللذات فأقول * (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) * * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) *) قال الله عز وجل لإبليس " * (قال أخرج منها مذءوما مدحورا) *) أي معيبا والذيم والذأم أشد العيب، وهو أبلغ من الذم، يقال: ذمه يذمه ذما فهو مذموم (وذائمه يذائمه) ذأما (فهو مذؤوم وذامه) بذمة ذيما، مثل سار يسير، فهو مذيم والمدحور (المقصي) يقال: دحره يدحره دحرا إذا أبعده وطرده.
قال ابن عباس: مذؤوم عنه " * (مذؤوما مدحورا) *) يعني غير مطرودا إذ قال الربيع ومجاهد: مذؤوما (ممقوتا) وروى عطية: مذؤوما مقوتا، أبو العالية: مذؤوما (مزريا) به.
وقال الكلبي: مذؤوما ملوما مدحورا مقصيا من الجنة ومن كل خير، وقال عطاء: مذؤوما ملعونا.
وقال الكسائي: المذؤوم المقبوح. وقال النضير بن شميل: المذؤوم (المحبوس) وقال أبان عن ثعلب والمبرد: المذؤوم المعيب.
قال الأعشى:
وقد قالت قبيلة إذ رأتني
وإذ لا تعدم الحسناء ذأما
222

وقال أمية بن أبي الصلب:
قال لإبليس رب العباد
أخرج (رجس الدنيا) مذؤما
" * (لمن تبعك منهم) *) من بني آدم " * (لأملأن جهنم منكم) *) منك ومن ذريتك وكفار ذرية آدم " * (أجمعين) *))
.
* (ويائادم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هاذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هاذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكمآ إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا
لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الارض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) *) 2
" * (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا منها حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس) *) يعني إليهما ومعناه فحدث إليهما " * (الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما) *) يعني ليظهر لهما ما غطى وستر عنهما من عوراتهما، وقال وهب: كان عليهما نور لا يرى سوءاتهما ثم بين الوسوسة " * (وقال مانهاكما) *) يا آدم وحواء " * (ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين) *) يعني إلا أن تكونا وكراهية أن يكونا من الملائكة يعملان الخير والشر.
وقرأ ابن عباس والضحاك ويحيى بن أبي معين: ملكين بكسر اللام من الملك أخذوها من قوله " * (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) *).
" * (أو تكونا من الخالدين) *) من الباقين الذين لا يموتون " * (وقاسمهما) *) أي أقسم وحلف لهما، وقاسم من المفاعلة أي يختص الواحد مثل المعافاة المعاقبة والمناولة.
قال خالد بن زهير:
وقاسمهما بالله جهدا لأنتم
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
قال قتادة: حلف لهما بالله عز وجل حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله فقال: إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما، وكان بعض أهل العلم يقول: من خادعنا بالله خدعنا.
223

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم.
(وحدثنا) أبو القاسم الحبيبي في بعضها. قال: أنشدنا أبو الحسن المظفر بن محمد بن غالب قال: أنشدنا نفطويه:
إن الكريم إذا تشاء خدعته
وترى اللئيم مجربا لا يخدع
" * (إني لكما من الناصحين فدلهما بغرور) *) يعني فخدعهما يقال: ما زال فلان يدلي لفلان يعرفة، يعني ما زال يخطئه ويكلمه بزخرف القول الباطل، وقال مقاتل: فزين لهما الباطل.
وقال الحسن بن الفضل: يعني تعلقهما بغرور، يقال: تدلي بنفسه ودلى غيره. ولا يكون التدلي إلا من علو إلى أسفل، وقيل أصله دللهما فأبدل من إحدى اللامات ياء، كقوله: (تمطى) و (دساها)، وقال أبو عبيدة: دليهما أخذ لهما وكلاهما من تدلين الدلو إذا أرسلتها في البئر لتملأها " * (فلما ذاقا الشجرة) *) أكلا منها ووصل إلى بطنيهما " * (بدت) *) ظهرت " * (لهما سوءاتهما) *) عوراتهما وتهافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ورى عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك.
قال قتادة: كان لباس آدم وحواء في الجنة ظفر أكله فلما واقعا الذنب كشط عنهما وبدت سوءاتهما فأستحيا " * (وطفقا يخصفان) *) (يوقعان) ويشدان (ويمزقان ويصلان) * * (عليهما من ورق الجنة) *) وهو ورق التين حتى صار بهيئة الثوب ومنه خصف النعل.
وروى أبي بن كعب: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان آدم رجلا (طوالا) كأنه نخلة (سحوق) كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوءاته وكان لا يراها فانطلق هاربا في الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحسبه بشر. فقال: أرسلني، قالت: لست بمرسلتك، فناداه ربه يا آدم أمني تفر، قال: لا يا رب ولكني أستحيي منك).
وقال ابن عباس وقتادة: قال الله عز وجل لآدم: ألم يكن لك فيما أبحته ومنحته لك من الجنة (مندوحة) من الشجرة، قال: على عهدي ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا، قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش (إلا نكدا) فاهبطا من الجنة، فكانا يأكلان رغدا إلى غير رغد من طعام وشراب، تعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكل ثم بلعه حتى بلغ منه ما شاء الله أن بلغ " * (وناداهما ربهما ألم أنهكما) *) الآية، قال محمد بن قيس: ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد
224

نهيتك قال: يا رب أطعمتني حواء، قال: لحواء لم أطعمتيه قالت: أخبرتني الحية، قال للحية: لم أمرتيها؟ قالت: أمرني (إبليس) فقال الله عز وجل: أما إنك ياحواء فكما أدميت الشجرة (فسأدميك)، وأما أنت ياحية فاقطع قوائمك فتمشين جهتي الماء على وجهك وسيندفع رأسك من لقيك، وأما أنت يا إبليس فملعون مدحور.
" * (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) *) ضررناها بالمعصية " * (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) *) الهالكين * (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) * * (قال فيها تحيون) *) يعني في الأرض " * (وفيها تموتون ومنها تخرجون) *))
.
* (يابنىآدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذالك خير ذالك من آيات الله لعلهم يذكرون * يابنىآدم لا يفتننكم الشيطان كمآ أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أوليآء للذين لا يؤمنون * وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ ءاباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشآء أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم
تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) *) 2
" * (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم) *) أي خلقنا لكم، وقيل: نزلنا أسبابه وآلاته لأنه (المثبت) بما يقول.
وقيل: (على الحكم) كبقية صنعته وذلك أن قريشا كانوا يطوفون بالبيت عراة وقوله " * (لباسا) *) وهو ما يلبس من الثياب " * (يواري) *) يستر " * (سوءاتكم) *) عوراتكم واحدها سوءة، وهي فعلة من السوء سميت سوأة لأنه يسوء صاحبها إنكشافها من جسده " * (وريشا) *) يعني مالا في قول ابن عباس والضحاك والسدي، فقال: الريش: الرجل إذا (تموك) وقال ابن زيد: الريش الجمال.
وقيل: هو اللباس. وحكي أبو عمرو أن العرب تقول: أعطاني فلان ريشة أي كسوة وجهازة.
وقرأ عثمان بن عفان والحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء وقتادة: ورياشا بالألف وهو جمع ريش مثل ذئب وذياب وبير وبيار وقدح وقداح.
225

قال قطرب: الريش والرياش واحد، كقولك دبغ ودباغ ولبس ولباس وحل وحلال وحرم وحرام، ويجوز أن يكون مصدرا من قول القائل: راشه إليه بريشه رياشا.
والرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من المتاع والثياب و الفراش وغيرها. وقال ابن عباس: الرياش اللباس والعيش والنعيم. وقال الأخفش: الرياش الخصبة والمعايش.
" * (ولباس التقوى خير) *) قرأ أهل المدينة والشام. والكسائي ولباس التقوى بالنصب عطفا على الريش. وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء وخبره (خير).
وجعلوا ذلك صلة في الكلام، وكذلك قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب: ولباس التقوى خير. واختلفوا في لباس التقوى ما هو (هل) يدل على لباس التقوى (الدرع) والساعدان. والساقان. والآلات التي يتقى بها في الحرب مع العدو.
وقال قتادة والسدي وابن جريج: لباس التقوى هو الإيمان. وقال معبد الجهني: هو الحياة. وأنشدني أبو القاسم (السدوسي) قال: أنشدني أبو عرابة الدوسي في معناه
إني كأني أرى من لا حيالة
ولا أمانة وسط الناس عريانا.
عطية عن ابن عباس: هو العمل الصالح وروى الذبال بن عمرو عن ابن عباس قال: هو السمت الحسن في الوجه.
وقال الحسن: رأيت عثمان بن عفان (رضي الله عنه) على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قوهي محلول الزر وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهى عن اللعب بالحمام، ثم قال: أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفس محمد بيده ما عمل أحد قط سرا إلا ألبسه الله رداءه علانية إن خيرا فخير وإن شرا فشر) ثم تلا هذه الآية " * (وريشا ولباس التقوى ذلك خير) *) قال: السمت الحسن.
وقال عروة بن الزبير: لباس التقوى خشية الله، ابن زيد: ستر للعورة يتقي الله فيواري عورته " * (ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون) *) قال وهب بن منبه: الإيمان عريان لباسه التقوى وزينته الحياء وفاله (الفقه) وجماله العفة، وثمره العمل الصالح. " * (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان) *) لا يعلمنكم ولا يستزلنكم فتبدي برأيكم للناس في الطواف بطاعتكم. " * (كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما) *) * * (إنه) *) يعني الشيطان " * (يراكم) *) يا بني آدم " * (هو وقبيله) *) خيله وجنوده وهم الجن والشياطين.
226

قال ابن زيد: نسله " * (من حيث لا ترونهم) *) قال مجاهد: قال إبليس: جعل لنا أربعا: نرى ولا يرى ونخرج من تحت الثرى. ويعود شيخنا فتى.
قال مالك بن دينار: إن عدوا (يراك) ولا تراه لشديد (المؤنة) إلا من عصم الله.
وسمعت أبا القاسم (الحبيبي) قال: سمعت أبي قال: سمعت علي بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: الشيطان قديم وأنت حديث والشيطان لين وأنت ناعم الناحية والشيطان يراك وأنت لا تراه والشيطان لا ينساك وأنت لا تزال تنساه ومن نفسك له عون وليس لك منه عون.
وقيل: صدر ابن آدم مسكن له ويجري من ابن آدم مجرى الدم، وأنه لا يقاومه إلا بعون الله. ومنه يقول: ولا أراه من حيث يراني. وعندما أنساه لا ينساني فسيدي إن لم (تغث) يسبيني كما سبا آدم من جنانك.
قال ذو النون المصري: إن كان هو يراك من حيث لا تراه فإن الله يراه من حيث لا يرى الله فاستعن بالله عليه فإن كيد الشيطان كان ضعيفا.
" * (إنا جعلنا الشياطين أولياء) *) أعوانا وقرناء " * (للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة) *) وفاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال (بالنهار والنساء بالليل). ويقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا ولا نطوف في الثياب التي اقترفنا فيها الذنوب.
وكانت المرأة تضع على قبلها النسعة أو الشيء وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدى منه فلا أحله
وفي الآية إضمار ومعناه " * (وإذا فعلوا فاحشة) *) ونهوا عنها " * (قالوا وجدنا عليه آباءنا) *) قيل: من أين أخذوا آباؤكم قالوا: " * (الله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) *) * * (قل أمر ربي بالقسط) *) قال ابن عباس: بلا إله إلا الله، وقال الضحاك: التوحيد، وقال مجاهد والسدي: بالعدل " * (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) *) قال مجاهد والسدي وابن زيد: يعني وجهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة.
وقال الضحاك: إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلوا فيه ولا تقولن: أحب أن أصلي في مسجدي، وإذا لم يكن عند مسجد (فليأت) أي مسجد فليصل فيه.
وقال الربيع: معناه واجعلوا سجودكم لله سبحانه وتعالى خالصا دون ما سواه من الآلهة
227

والأنداد " * (وادعوه) *) واعبدوه " * (مخلصين له الدين) *) الطاعة والعبادة " * (كما بدأكم تعودون) *) قال النبي صلى الله عليه وسلم (تبعث كل نفس على ما كانت عليه).
قال ابن عباس: إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا كما قال " * (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) *) ثم يعيده يوم القيامة كما بدأ خلقهم كافرا ومؤمنا، فيبعث المؤمن مؤمنا والكافر كافرا.
وقال جابر: يبعثون على ما ماتوا عليه المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه. وقال أبو العالية: عادوا إلى علمه فيهم.
قال محمد بن كعب: من ابتدأ خلقه على الشقوة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه وإن عمل بإعمال أهل السعادة، كما أن إبليس عمل أعمال أهل السعادة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه وإن عمل أهل الشقاوة، كما أن السحرة عملت أعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدأ عليه خلقهم.
وقال سعيد بن جبير: معناه كما كتب عليكم يكونون نضير قوله " * (كما بدأنا أول خلق نعيده) *).
قال قتادة: خلقكم من التراب وإلى التراب تعودون نضير قوله " * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم) *).
وقال الربيع ابن أنس: كما بدأكم عريانا تعودون لهم عريانا. نضيره قوله: " * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) *).
وقال السدي: كما خلقكم فريق مهتدون وفريق ضلال، كذلك تعودون تخرجون من بطون أمهاتكم، قال الحسن ومجاهد: كما بدأكم فخلقكم فريق مهتدون وفريق ضلال. كذلك تعودون يوم القيامة، نضيره قوله " * (كما بدأنا أول خلق نعيده) *).
روي سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يحشر الناس حفاة عراة وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام) ثم قرأ " * (كما بدأنا أول خلق نعيده) *))
.
228

" * (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء أربابا من دون الله يحسبون أنهم مهتدون) *))
.
* (يابنىءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين * قل من حرم زينة الله التىأخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون * قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون * ولكل أمة أجل فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون * يابنىآدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم ءاياتى فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بئاياتنا واستكبروا عنهآ أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) *) 2
" * (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) *) قال المفسرون: كانت بنو عامر في الجاهلية يطوفون في البيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكانوا إذا قدموا مسجد منى طرح أحدهم ثيابه في رحله وإن طاف وهي عليه ضرب) وانبزعت (منه فأنزل الله تعالى: " * (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) *) يعني الثياب.
وقال مجاهد: ما تواري به عورتك (للصلاة والطواف) وقال عطية وأبو روق وأبو رزين: المشط.
وسمعت أبو القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الهيثم (الجهني) يحكي عن السنوخي القاضي: " * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) *) يعني: رفع الأيدي في مواقيت الصلاة.
وروى علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر، قول جبرائيل (عليه السلام) للنبي صلى الله عليه وسلم (إن لكل شيء زينة وإن زينة الصلاة برفع الأيدي فيها في ثلاث مواضع إذا تحرمت (للصلاة): إذا كبرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع).
" * (وكلوا واشربوا) *) قال الكلبي: كانت بنو عامر لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: يا رسول الله نحن أحق أن نفعل ذلك، فأنزل الله تعالى " * (وكلوا) *) يعني اللحم والدسم " * (واشربوا ولا تسرفوا) *) يعني الحرام.
قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك سرف ومخيلة، وقال مجاهد: الإسراف ما قصرت به عن حق الله. وقال: لو أنفقت مثل أحد في طاعة الله لم يكن سرفا ولو أنفقت درهما أو مدا في معصية الله كان إسرافا
229

وقال الكلبي: ولا تسرفوا يعني لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " * (إنه لا يحب المسرفين) *) المتجاوزين من فعل الحرام في الطعام والشراب، وبلغني أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان، قال علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى " * (كلوا واشربو ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) *) فقال النصراني: ولا يؤثر (عن رسولكم) شيء في الطب؟
فقال علي: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في (ألفاظ يسيرة) قال: وما هي؟ قال: قوله: (المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما
عودته).
فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.
" * (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) *) يعني الثياب " * (والطيبات من الرزق) *) قال ابن زيد: كان قوم إذا حجوا أو اعتمروا حرموا الشاة عليهم وما يخرج منها لبنها وسمنها ولحمها وشحمها، فأنزل الله تعالى: " * (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) *) الآية.
قال ابن عباس وقتادة: يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصايا والحوامي. " * (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) *) قال ابن عباس: إن المؤمنين يشاركون المشركين في الطيبات من الدنيا فأكلوا من طيبات طعامهم وألبسوا من جياد ثيابهم وانكحن الزوج الخ... كما هم، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء ومجاز الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الحياة الدنيا وخاصة في يوم القيامة.
وقراءة ابن عباس وقتادة ونافع: خالصة بالرفع يعنون قل هي خالصة.
وقرأ الباقون: بالنصب على القطع لأن الكلام قد تم دونه * (كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) * * (قل إنما حرم ربي الفواحش) *) يعني الطواف عراة " * (ما ظهر منها) *) طواف الرجال بالنهار " * (وما بطن) *) طواف النساء بالليل.
وقيل: هي الزنا و (المخالة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ليس أحد أحب إليه من المدح من الله سبحانه من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، وليس أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل.
230

" * (والإثم) *) يعني الذنب والمعصية. وقال الحسن: الإثم الخمر. وقال الشاعر:
شربت الإثم ظل عقلي كذلك
الأثم يذهب بالعقول
وقال الآخر:
نشرب الإثم بالصواع جهارا
ونرى السكر بيننا مستعارا
" * (والبغي) *) وهو الظلم " * (بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) *) حجة وبرهانا " * (وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) *) تحريم الملابس والمأكل " * (ولكل أمة أجل) *) مدة وأجل، وقيل: وقت حلول العقاب وأول العذاب. " * (فإذا جاء أجلهم) *) وإذا أنقطع أجلهم، وقرأ ابن سيرين آجالهم " * (لا يستأخرون ساعة) *) لا يتأخرون " * (ولا يستقدمون) *) لا يتقدمون " * (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم) *) شرط معناه: إن أتاكم (عجزا به) فمن بقي، وقيل فأطيعوه وقال: مقاتل: أراد بقوله يا بني آدم لا تشركوا بالرب، وبالرسل محمدصلى الله عليه وسلم وحده. " * (يقصون عليكم آياتي فمن اتقى الله وأصلح) *) عمله " * (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها) *) عن الإيمان بمحمد والقرآن " * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *).
2 (* (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بئاياته أولائك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جآءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين * قال ادخلوا فىأمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس فى النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لاولاهم ربنا هاؤلاء أضلونا فئاتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولاكن لا تعلمون * وقالت أولاهم لاخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون * إن الذين كذبوا بئاياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السمآء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل فى سم الخياط وكذالك نجزى المجرمين * لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذالك نجزى الظالمين * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * ونزعنا ما فى صدورهم من غل تجرى من تحتهم الانهار وقالوا الحمد لله الذى هدانا لهاذا وما كنا لنهتدى لولاأن هدانا الله لقد جآءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) *) 2
" * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) *) حظهم بما كتبوا لهم في اللوح المحفوظ. وقال الحسن والسدي وأبو صلاح: ما كسب لهم من العذاب.
وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطية: ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة. وروى بكر الطويل عن مجاهد في هذه الآية قال: قوم يعملون أعمالا لابد من أن يعملوها ولم يعملوها
231

بعد. قال ابن عباس وقتادة والضحاك: يعني أعمالهم وما كتب عليهم من خير أو شر، فمن عمل خيرا أجزي به ومن عمل شرا أجزي به. مجاهد عن ابن عباس قال: هو ما وعدو من خير وشر. عطية عن ابن عباس أنه قال: ينالهم ما كتب لهم وقد كتب لمن يفتري على الله أن وجهه مسود، يدل عليه (قوله تعالى)، " * (وجوههم يومئذ مسودة) *).
قال الربيع والقرظي وابن زيد: يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار فإذا فنيت و (تم خرابها) * * (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم) *) يقبضون
أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه " * (قالوا أين ما كنتم تدعون) *) تعبدون من دون الله " * (قالوا ضلوا عنا) *) أنشغلوا بأنفسهم " * (وشهدوا على أنفسهم) *) أقروا " * (إنهم كانوا كافرين) *) قالوا: (شهدنا) على أنفسنا (بتبليغ الرسل) وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا وأقروا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين " * (قل أدخلوا) *) يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة ادخلوا " * (في أمم) *) يعني مع جماعات " * (قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار) *) يعني كفار الأمم الماضية " * (كلما دخلت أمة لعنت أختها) *) في الدين والملة ولم يقل أخاها لأنه عنى بها الأمة فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود، وكذلك النصارى النصارى والمجوس المجوس ويلعن الأتباع القادة يقولون: لعنكم الله أنتم غررتمونا يقول الله عز وجل " * (حتى إذا أدركوا فيها) *) أي تلاحقوا " * (جميعا) *) قرأ الأعمش: حتى إذا تداركوا، على الأصل، وقرأ النخعي: حتى إذا أدركوا، مثقلة الدال من غير ألف أراد فنقلوا من الدرك.
" * (قالت آخراهم) *) قال مقاتل: يعني أخراهم دخولا للنار وهم الأتباع، " * (لأولاهم) *) دخولا وهم القادة.
قال ابن عباس: (أخراهم) يعني آخر الأمم، (لأولاهم) يعني أول الأمم، وقال السدي: أخراهم يعني الذين كانوا في آخر الزمان. (لأولاهم) يعني الذين شرعوا لهم ذلك الدين " * (ربنا هؤلاء أضلونا) *) عن الهدى. يعني الفساد " * (فآتهم) *) أي فأعطاهم " * (عذابا ضعفا في النار) *) أي مضعفا من النار " * (قال لكل ضعف) *) من العذاب " * (ولكن لا تعلمون) *) حتى يحل بكم " * (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل) *) لأنكم كفرتم كما كفر به ونحن وأنتم في الكفر شرع سواء وفي العذاب أيضا " * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح) *) قرئ بالياء والياء والتشديد والتخفيف جميعا " * (لهم أبواب السماء) *) يعني لا أرواحهم وأعمالهم لأنها خبيثة فلا يصعد بل تهوى بها إلى (سجن) تحت الصخرة التي تحت الأرضين.
روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت ليحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب أخرجي حميدة، وأبشري
232

بروح من الله وريحان ورب غير غضبان فيقولون ذلك حتى تخرج ثم تعرج بها إلى السماء فينفتح لها فيقال: من هذا (فيقال: فلان) فيقولون: مرحبا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فيقال: ذلك لها حتى يعرج بها إلى السماء السابعة.
وإذ كان الرجل السوء قالوا: أخرجي أيتها النفس الخبيثة من الجسد الخبيث أخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فيقولون ذلك حتى يخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فتفتح لها فيقال: من هذا فيقولون فلان، فيقولون: لا مرحبا بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث أرجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء فيرسل من السماء والأرض فيصير إلى القبر.
" * (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) *) يعني يدخل البعير في ثقب الإبرة (وهذا مثل والسم) وهو الإبرة.
وقرأ عكرمة و سعيد بن جبير: الجمل بضم الجيم وبتشديد الميم. وهو حبل السفينة ويقال لها الفلس قال عكرمة: هو الحبل الذي يصعد به إلى النخل " * (وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد) *) فراش من نار " * (ومن فوقهم غواش) *) وهي جمع غاشية وذلك ما غشاهم وغطاهم وقال القرظي ومجاهد: هي اللحف " * (وكذلك نجزي الظالمين) *) قال البراء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يكسي الكافر لوحين من نار في قبره)، فذلك قوله * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) * * (والذين آمنوا وعموا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها) *) أي طاقتها ومايسعها ويحل لها فلا تخرج منه ولا تضيق عليه " * (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا) *) وأخرجنا وأذهبنا " * (ما في صدورهم) *) قلوبهم " * (من غل) *) وحقد وعداوة كان من بعضهم على بعض في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين لا (يحسد) بعضهم بعض على شيء خص الله به بعضهم وفضلهم به، روى الحسن بن علي (رضي الله عنه) قال: فينا والله أهل البيت نزلت " * (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على مسرر متقابلين) *).
وقال علي كرم الله وجهه أيضا: (إني لا أرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله " * (ونزعنا ما في صدورهم) *) الآية
233

وقال السدي: في هذه الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يتسخوا بعدها أبدا.
وروى الجزائري عن أبي نضرة قال: تحتبس أهل الجنة حتى تقتص بعضهم من بعض حتى يدخلوا الجنة حين يدخلونها، ولا يطلب أحد منهم أحدا علاقة ظفر ظلمها إياه وتحبس أهل النار دون النار حتى تقتص لبعضهم من بعض يدخلون النار حين يدخلونها، ولا يطلب أحد منهم أحدا بعلاقة ظفر ظلمها إياه " * (تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا) *) وفقنا وأرشدنا إلى هذا يعني طريق الجنة وقال سفيان الثوري: معناه الحمد لله الذي هدانا لعمل هذا ثوابه " * (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) *) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أهل النار يرى منزلة من بالجنة فيقولون: لو هدانا الله نكون (من المؤمنين) وكل أهل الجنة ترى منزلة من بالنار ويقولون: لولا أنه هدانا الله فهذا شكرهم قال: وليس (هناك) من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة أو النار منزل (فإذا) دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فدخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله، ثم يقال: يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم، ونودوا أن صحوا ولا تسقموا وأخلدوا فلا تموتوا وأنعموا ولا تيأسوا وشبوا فلا تهرموا.
2 (* (ونادىأصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون * وبينهما حجاب وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها
وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقآء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين * ونادى أصحاب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهاؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون * ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين * الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحيواة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقآء يومهم هاذا وما كانوا بئاياتنا يجحدون) *) 2
" * (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا) *) من الثواب " * (حقا) *) صدقا " * (فهل وجدتم ما وعدكم ربكم) *) من العذاب " * (حقا) *) (هذا قول محمد بن جرير) * * (قالوا
234

نعم) *) قال الكسائي (نعم) بكسر العين وتجوز بإسكانها وهما لغتان " * (فأذن مؤذن بينهم) *) فنادى مناد منهم " * (أن لعنة الله على الظالمين) *) الكافرين " * (الذين يصدون) *) يصرفون " * (عن سبيل الله) *) دين الله " * (ويبتغونها عوجا) *) يطلبونها زيغا وميلا " * (وهم بالآخرة كافرون وبينهما حجاب) *) يعني بين الجنة والنار حجاب حاجز وهو السور الذي ذكر الله عز وجل في قوله * (فضرب بينهم بسور) * * (وعلى الأعراف) *) يعني على ذلك الحجاب. والأعراف سور بين الجنة والنار وهي جمع عرف وهو كل تل مرتفع ومنه عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من جسده.
وقال الشماخ:
وظلت بأعراف تعالى كأنها
رماح نحاها وجهة الريح راكز
ويروى: بأعراف قفالا، أي قفالى أي قفلى بعضهم بعضا، بمشغرة نصف حمير، وشبه (قوامها) بالرماح نحاها قصد بها وجهة الريح، أي جهة الريح، وقوله: بأعراف أي نشوز من الأرض.
وقال آخر:
كل كناز لحمها نياف
كالعلم الموفي على الأعراف
يعني كل كناز نياف لحمها والكناز الصلب.
قال السدي: سمي أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس. وقال الحسين بن الفضل: هو الصراط، واختلفوا في الرجال الذين أخبر الله عنهم أنهم على الأعراف من هم وما السبب الذي من أجله صاروا هناك؟ فقال حذيفة وابن عباس: أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم في سيئاتهم وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته وهم آخر من يدخل الجنة قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا أراد الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه من الذهب مكللا باللؤلؤ ترابه المسك فالقوا فيه حتى يصلح ألوانهم ويبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بهم فأتى بهم فقال الله لهم: تمنوا ما شئتم فيتمنون متى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم: لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها يسمون مساكين أهل الجنة.
قال ابن مسعود: يحاسب الله عز وجل الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من
235

سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ: " * (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفحلون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) *)، ثم قال: الميزان يخفف بمثقال حبة (فيرجح).
ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ولم ينزع منهم النور الذي كان في أيديهم. وروى يحيى بن (شبل) أن رجلا من بني النضير أخبره عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: (هم رجال غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا فاعفوا من النار لقتلهم في سبيل الله وحبسوا عن الجنة بمعصية أبائهم فهم آخر من (يدخل) الجنة).
قال شرحبيل بن سعيد: هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم، وقال مجاهد: هم قوم صالحون فقهاء علماء، وقال (التميمي) وأبو مجلن: هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار فقيل لأبي مجلن يقول الله: " * (وعلى الأعراف رجال) *) وتزعم أنت أنهم ملائكة، فقال: إنهم ذكور ليسوا بإناث، قال ابن عباس: هم رجال كانت لهم ذنوب كثيرة، وكان حبسهم أمر الله يقومون على الأعراف " * (يعرفون كلا بسيماهم) *)
وروى (صالح مولى الكوفة) أن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف أولاد الزنا. وقال أبو العالية: هم قوم يطمعون أن يدخلوا الجنة وما جعل (الله) ذلك الطمع فيهم إلا كرامة يريدها بهم.
وقال عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه قال: هم قوم رضي عنهم آبائهم دون أمهاتهم أو أمهاتهم دون آبائهم فلم يدخلهم الله الجنة، لأن آباءهم وأمهاتهم غير راضين عنهم ولم يدخلهم النار لرضا آبائهم أو أمهاتهم عنهم فيحبسون على الأعراف إلى أن يقضي الله عز وجل بين الخلق ثم يدخلهم الجنة، وقال عبد العزيز بن يحيى (الكناني): هم الذين ماتوا (بالفقر) ولم يبدلوا دينهم، وفي تفسير المنجوني: إنهم أولاد المشركين.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت محمد بن محمد بن الأشعب يحكي عن بعضهم أنهم أناس عملوا لله عز وجل ولكنهم راؤوا في أعمالهم فلا يدخلون النار لأنهم عملوا أعمالهم لله ولا يدخلون الجنة لأنهم طلبوا الثواب من غير الله فيوقفون على الأعراف إلى أن يقضي الله بين الخلق قوله: " * (يعرفون كلا بسيماهم) *).
وروى جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله عز وجل " * (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) *) قال: (الأعراف موضع عال (من) الصراط عليه العباس وحمزة، وعلي بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين يعرفون محبيهم بياض الوجوه ومبغظيهم سواد الوجوه)
236

وقوله: (يعرفون كلا بسيماهم) يعني يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم ونظرة النعيم عليهم ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وزرقة عيونهم.
" * (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهو يطمعون) *) يعني أهل الأعراف.
قال سعيد بن جبير: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم لأن الله تعالى (.....)، ويود المنافقون وهم على الصراط لو بقي أحدهم ولم (.........).
" * (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء) *) (وجوه) أهل النار " * (أصحاب النار) *) وحيالهم تعوذوا بالله " * (قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) *) الكافرين في النار " * (ونادى أصحاب الأعراف رجالا) *) كانوا عظماء أهل النار جبارين " * (يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم) *) في الدنيا من المال و (الأولاد) * * (وما كنتم تستكبرون) *) عن الإيمان.
وقال الكلبي: إنهم ينادون وهم على السور يا وليد بن المغيرة ويا أبا جهل بن هشام ويا فلان. ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الضعفاء والفقراء والمساكين ممن كانوا يستهزؤن بهم مثل سلمان وصهيب ووخباب وأتباعهم فينادون " * (أهؤلاء الذين أقسمتم) *) حلفتم وأنتم في الدنيا " * (لا ينالهم الله برحمته) *) يعني الجنة ثم يقال لأصحاب الأعراف " * (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) *).
وقال مقاتل أقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة بل يدخلون النار معهم.
فقالت الملائكة الذين حبسوا أصحاب الصراط هؤلاء الذين يعني أصحاب الأعراف الذين أقسمتم يا أهل النار لا (يكلمهم) الله برحمة، ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة.
" * (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا) *) ([صبوا) وأوسعوا " * (علينا من الماء أو مما رزقكم الله) *) من طعام الجنة " * (قالوا إن الله حرمهما) *) يعني الماء والطعام " * (على الكافرين) *) قال أبو الجوزاء: سألت ابن عباس: أي الصدقة أفضل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفضل الصدقة الماء ألا رأيت أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا أفيضوا علينا من الماء).
" * (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا) *) وهو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة
237

والوصيلة والحام والمكاء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الرديئة الدنيئة التي كانوا يفعلونها في جاهليتهم، والدين كل ما أطيع به والتزم من حق أو باطل، وقال أبو روق: دينهم أو عقيدتهم " * (وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم) *) نتركهم في النار " * (كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون) *).
2 (* (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون * إن ربكم الله الذى خلق السماوات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى اليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين * ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا فى الارض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين * وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به المآء فأخرجنا به من كل الثمرات كذالك نخرج الموتى لعلكم تذكرون * والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا كذالك نصرف الآيات لقوم يشكرون) *) 2
" * (ولقد جئناهم بكتاب) *) من القرآن " * (فصلناه) *) بيناه " * (على علم) *) منا بذلك " * (هدى ورحمة) *) نصبها على القطع " * (لقوم يؤمنون هل ينظرون) *) ينتظرون " * (إلا تأويله) *) أي ما يؤول إليه أمرهم من العذاب وورود النار.
قال قتادة: تأويله ثوابه. وقال مجاهد: جزاؤه. وقال السدي: عاقبة. وقال ابن زيد: حقيقته " * (يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا) *) اليوم " * (من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد) *) إلى الدنيا " * (فنعمل غير الذي كنا نعمل) *) قال الله تعالى " * (قد خسروا أنفسهم وضل) *) زال وبطل " * (عنهم ما كانوا يفترون إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) *) قال سعيد بن جبير: قدر الله على من في السماوات والأرض في لمحة ولحظة وإنما خلقهن في ستة أيام تتنظيما لخلقه بالرفق والتثبيت في الاسم " * (ثم استوى على العرش) *) قال الكلبي ومقاتل: يعني استقر وقال أبو عبيد (فصعد) وقال بعضهم: استولى وغلب.
وقيل: ملك وغلب، وكلها تأويلات مدخولة لا يخفى (بعدها) وأما الصحيح والصواب فهو ما قاله الفراء وجماعة من أهل المعاني (إن أول ما) خلق العرش وعهد إلى خلقه يدل عليه قوله تعالى " * (ثم استوى إلى السماء) *) أي إلى خلق السماء
238

وقال أهل الحق من المتكلمين: أحدث الله فعلا سماه استواء، وهو كالإتيان والمجيء والنزول (وهي) صفات أفعاله.
روى الحسن عن أم سلمة في قوله تعالى " * (الرحمان على العرش استوى) *) قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والنزول به إيمان والجحود به كفر.
عن محمد بن شجاع البلخي قال: سئل مالك بن أنس عن قول الله تعالى " * (الرحمن على العرش استوى) *) كيف استوى؟ قال: الكيف مجهول والاستواء غير معقول والإيمان واجب فالسؤال عنه بدعة.
وروى محمد بن شعيب بن شابور عن أبيه أن رجلا سأل (الأوزاعي) في قوله تعالى " * (الرحمان على العرش استوى) *) فقال: هو على العرش كما وصف نفسه، وإني لأراك رجلا ضالا.
وبلغني أن رجلا سأل إسحاق بن الهيثم الحنظلي فقال: كيف استوى على العرش أقائم هو أم قاعد؟
فقال: يا هذا إنما يقعد من يمل القيام ويقوم من يمل القعود وغير هذا أولى لك ألا تسأل عنه.
والعرش في اللغة السرير.
وقال آخرون: هو ما علا وأظل، ومنه عرش الكرم، وقيل: العرش الملك.
قال زهير:
تداركتما الاحلاف قد ثل عرشها
وذبيان قد زلت بأقدامها النعل
" * (يغشى) *) (يطمس) * * (الليل النهار يطلبه حثيثا) *) مسرعا " * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) *) أي مذللات " * (بأمره) *) وقرأ أهل الشام بالرفع على الابتداء والخبر " * (ألا له الخلق والأمر) *) سمعت أبا القاسم (الحبيبي) يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع التاجر بهرات الشجري يقول: سمعت أبا زيد حاتم بن محبوب السامي يقول: سمعت عبد الجبار ابن العلاء العطار يقول: سألت سفيان بن عيينة عن قوله " * (ألا له الخلق والأمر) *) فقال: فرق الله بين الخلق والأمر ومن جمع بينهما فقد كفر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يحمد الله على (ما عمل من) عمل صالح وحمد نفسه فقد
239

قل شكره وحبط عمله، ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله تعالى " * (ألا له الخلق والأمر) *)).
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي، أنشدنا أبو المثنى معاذ بن المثنى العنبري عن أبيه محمود بن الحسن الوراق قال: إن لله كل الأمر في كل خلقه ليس إلى المخلوق شي من الأمر " * (تبارك الله) *) قال الضحاك: تبارك تعظم، الخليل ابن أحمد: تبارك تمجد، القتيبي: تفاعل من البركة، الحسين بن الفضيل: تبارك في ذاته وبارك فيمن شاء من خلقه " * (رب العالمين أدعوا ربكم تضرعا) *) تذللا واستكانة " * (وخفية) *) سرا.
وروى عاصم الأحول عن ابن عثمان الهندي عن أبي موسى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزاء فأ شرفوا على واد فجعل (ناس) يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا (غائبا) إنكم تدعون سميعا قريبا إنه معكم).
وقال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ثم قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وماشعر به جاره فالرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيت وعنده الدور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدورن أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا.
ولقد كان المسلمون (يجتهدون) في الدعاء ولا يسمع لهم صوتا كأن كان إلا همسا بينهم وبين دينهم، وذلك أن الله تعالى يقول: (أدعوا ربكم تضرعا وخفية) وإن الله ذكر عبدا صالحا ورضى فعله فقال عز من قائل: (فنادى ربه نداءا خفيا).
" * (إنه لا يحب المعتدين) *) في الدعاء، قال أبو مجلن: هم الذين يسألون منازل الأنبياء، وقال عطية العوفي: هم الذين يدعونه فيما لا يحل على المؤمنين فيقولون: اللهم أخزهم اللهم ألعنهم، قال ابن جريج: من (الاعتداء) رفع الصوت والنداء بالدعاء والصفح وكانوا يؤمرون بالتضرع والاستكانة " * (ولا تفسدوا في الأرض) *) بالشرك والمعصية والدعاء إلى غير عبادة الله " * (بعد إصلاحها) *) بعد (اصلاح) الله إياها يبعث الرسل، والأمر بالحلال والنهي عن المنكر والحرام وكل أرض قبل أن يبعث لها نبي فاسدة حتى يبعث الرسل إليها فيصلح الأرض بالطاعة.
وقال عطية: معناه لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم " * (وادعوه خوفا وطمعا) *) قال الكلبي: خوفا منه ومن عذابه وطمعا فيما عنده من مغفرته وثوابه،
240

الربيع بن أنس: " * (خوفا وطمعا) *) كقوله " * (رغبا ورهبا) *). وقيل: خوف العاقبة وطمع الرحمة، ابن جريج: خوف العدل وطمع الفضل. عطاء: خوفا من النيران وطمعا في الجنان. ذو النون المصري: خوفا من الفراق وطمعا في التلاق " * (إن رحمت الله قريب من المحسنين) *) وكان حقه قربته. واختلف النحاة فيه وأكثروا وأنا ذاكر نصوص ما قالوا.
قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب. وقال الأخفش: هي المطر فيكون القريب نعتا للمعنى دون اللفظ كقوله تعالى " * (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) *) ولم يقل: منها، لأنه أراد بالقسمة الميراث والمال. وقال " * (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه) *)
والصواع مذكر لأنه أراد به القسمة، والميراث (كالمنشرية) والسقاية.
وقال الخليل بن أحمد: القريب والبعيد يستوي فيهما المذكر والمؤنث والجمع (يذكر ويؤنث) يقول الشاعر:
كفى حزنا أني مقيم ببلدة
أخلائي عنها نازحون بعيد
وقال آخر:
كانوا بعيدا فكنت آملهم
حتى إذا ما تقربواهجروا
وقال آخر:
فالدار مني غير نازحة
لكن نفسي ما كادت مواتاتي
(وقال سيبويه): لما أضاف المؤنث إلى المذكر. أخرجه على مخرج المذكر، وقال الكسائي: إن رحمة الله قريب مكانها قريب كقوله: " * (وما يدريك لعل الساعة قريب) *) أي أتيانها قريب.
قال النضر بن شميل: الرحمة مصدر وحق المصادر التذكير كقوله: " * (فمن جاءه موعظة من ربه) *) وقال الشاعر:
إن السماحة والمرؤة ضيمنا
قبرا بمرو على الطريق الواضح
241

ولم يقل: ضمنتا لأنها مصدر. وقال أبو عمر بن العلاء: القريب في اللغة على ضربين قريب قرب (مقربه أبوابه) كقول العرب: هذه المرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة وهذه المرأة قريب منك إذا كانت بمعنى المسافة والمكان. قال أمرؤ القيس:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
قريب ولا البسباسة ابنة يشكر
وقال أبو عبيدة: القريب والبعيد يكونان للتأنيث والتذكير واحتج بقول عروة بن الورد:
خشيته لا عفراء منك قريبة
فتدنوه ولا عفراء منك بعيد
وقال أبو عبيدة: القريب والبعيد إذا كانا اسمين استوى فيهما المذكر والمؤنث وان بنيتهما على قربت وبعدت فهي قريبة وبعيدة.
" * (وهو الذي يرسل الرياح بشرا) *) قرأ عاصم بشرا بالباء المضمومة والشين المجزومة يعني أنها تبشر بالمطر يدل عليه قوله: " * (الرياح مبشرات) *).
وروى عنه بشرا بضم الباء والشين على جمع البشير مثل نذير و (نذار).
وهي قراءة ابن عباس. وقرأ غيره من أهل الكوفة نشرا بفتح النون وجزم الشين وهو الريح الطيبة اللينة.
قال أمرؤ القيس:
كان المدام وصوب الغمام
وريح الخزامي ونشر القطر
وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وزر بن حبيش، واختاره أبو عبيد لقوله: " * (والناشرات نشرا) *) وقرأ أهل الحجاز والبصرة نشرا بضم النون والشين واختاره أبو حاتم فقال: هي جمع نشور مثل صبور وصابر، وشكور وشاكر. وهي الرياح التي تهب من كل ناحية وتجيء من كل (وجه) وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وابن عامر نشرا بضم النون وجزم الشين على التخفيف.
وقرأ مسروق (نشرا) بفتحتين أراد منشورا (كالمقبض) والقبض " * (بين يدي رحمته) *) يعني قدام المطر " * (حتى إذا أقلت) *) حملت " * (سحابا ثقالا) *) المطر " * (سقناه) *) رد الكناية إلى لفظ السحاب " * (لبلد ميت) *) يعني إلى بلد.
وقيل: معناه (لأجل) بلد لا نبات له " * (فأنزلنا فيها) *) أي السحاب وقيل: بالبلد " * (الماء) *) يعني المطر، وقال أبو بكر بن عياش: لا تقطر من السماء قطرة حتى يعمل فيها أربع: رياح
242

الصبا تهيجه والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقة " * (كذلك نخرج الموتى) *) أحياء قال أبو هريرة وابن عباس: إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أمطر عليهم أربعين عاما (يسقى) الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان فينبتون في قبورهم بذلك المطر كما ينبتون في بطون أمهاتهم، وكما ينبت الزرع من الماء حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم نومة فينامون في قبورهم، فإذا نفخ في الصور الثانية عاشوا وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم
كما يجد النائم إذا استيقظ من نومه فعند ذلك يقولون " * (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) *) فيناديهم المنادي * (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) * * (والبلد الطيب يخرج نباتة بإذن ربه) *) هذا مثل ضربه الله المؤمن والكافر فمثل المؤمن مثل البلد الطيب الزاكي يخرج نباته ريعة بإذن الله، فمثل الكافر كمثل الأرض الصبخة الخبيثة التي لا يخرج نباتها) وغلتها * (* (إلا نكدا) *) (أي عسيرا قليلا بعناء) ومشقة وقرأ أبو جعفر: (نكدا) بفتح الكاف أي النكد " * (كذلك نصرف الآيات) *) بينهما " * (لقوم يشكرون) *))
.
* (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إنىأخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملا من قومه إنا لنراك في ضلال مبين * قال ياقوم ليس بى ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون * أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون * فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بئاياتنآ إنهم كانوا قوما عمين * وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال ياقوم ليس بى سفاهة ولكنى رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح أمين * أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح وزادكم فى الخلق بسطة فاذكروا ءالآء الله لعلكم تفلحون) *) 2
" * (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه) *) وهو نوح بن ملك بن متوشلح بن أخنوخ، وهو إدريس بن
243

مهلائيل بن يزد بن قيثان ابن انوش بن شيث بن آدم عليهم السلام، وهو أول نبي بعد إدريس وكان نجارا بعثه الله عز وجل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة فقال لهم: " * (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره) *) قرأ محمد بن السميقع (غيره) بالنصب.
قال الفراء: بعض بني (أسد وقضاعة أجاز نصب (غير) في كل موضع يحسن فيه (إلا)) تم الكلام قبلها أو لم يتم فيقولون: ما جاءني مشرك وما أتاني أحد غيرك. فأنشد الفضل:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت
حمامة في ذات أو قال
وقال الزجاج: قد يكون النصب من وجهين: أحدهما الاستثناء من غير (جنسه).
والثاني الحال من قوله " * (اعبدوا الله) *) لأن (غيره) نكرة، وإن أضيف إلى المعارف. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب والأعمش والكسائي: " * (مالكم من إله غيره) *) بكسر الراء على نعت الإله، واختاره أبو عبيد ليكون كلاما واحدا.
وقرأ الباقون (غيره) بالرفع على وجهين: أحدهما: التقديم وإن كان مؤخرا في اللفظ تقديره: مالكم غيره من إله غيره.
والثاني أن يجعله نعت التأويل الاله لأن المعنى مالكم إله غيره " * (إني أخاف عليكم) *) إن لم تؤمنوا " * (عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه) *) يعني الأشراف والسادة، وقال الفراء: هم الرجال ليست فيهم امرأة " * (إنا لنراك في ضلال) *) خطال وزوال عن الحق " * (مبين) *) يعني ظاهر " * (قال نوح يا قوم ليس بي ضلالة) *) ولم يقل: ليست لأن معنى الضلالة الضال، وقد يكون على معنى تقديم الفعل " * (ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم) *) قرأ أبو عمرو: وأبلغكم خفيفة في جميع القرآن لقوله: (لقد أبلغتكم رسالات ربي)، وليعلموا أن قد أبلغوا رسالات ربهم. ولأن جميع كتب الأنبياء نزلت دفعة واحدة (منها) القرآن، وقرأ الباقون: أبلغكم بالتشديد واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لأنها أجزل اللغتين، قال الله: " * (بلغ ما أنزل إليك من ربك) *).
" * (وأنصح لكم) *) يقال (بتخفيفه) ونصحت له وشكرته وشكرت له " * (وأعلم من الله مالا تعلمون) *) من عقابه لا يرد عن القوم المجرمين " * (أوعجبتم) *) الألف للاستفهام دخلت على واو العطف كأنه قال: إن أضعتم كذا وكذا " * (أن جاءكم ذكر من ربكم) *) يعني نبوة الرسالة، وقيل: (معجزة وبيان).
" * (على رجل منكم لينذركم) *) عذاب الله إن لم يؤمنوا " * (ولتتقوا) *) (ولكي يتقوا) الله
244

" * (ولعلكم ترحمون) *) لكي ترحموا " * (فكذبوه) *) يعني نوحا " * (فأنجيناه) *) من الطوفان " * (والذين معه) *) قال ابن إسحاق: يعني بنيه الثلاثة، سام وحام ويافث وأزواجهم وستة أناس ممن كان آمن به وحملهم في الفلك وهو السفينة.
وقال الكلبي: كانوا ثمانين إنسانا أربعون ذكورا وأربعون امرأة " * (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين) *) عن الحق جاهلين بأمر الله، وقال الضحاك: (عمين) كفارا.
وقال الحسين بن الفضل: (عمين) في البصائر يقال: رجل عم عن الحق وأعمى في البصر. وقيل: العمي والأعمى واحد كالخضر والأخضر. وقال مقاتل: عموا عن نزول العذاب بهم وهو الحرث.
(* (وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال ياقوم ليس بى سفاهة ولكنى رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح أمين * أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح وزادكم فى الخلق بسطة فاذكروا ءالآء الله لعلكم تفلحون * قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد ءاباؤنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من
الصادقين * قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني فىأسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إنى معكم من المنتظرين * فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بئاياتنا وما كانوا مؤمنين) *) 2
" * (وإلى عاد) *) يعني وأرسلنا إلى عاد فلذلك نصب " * (أخاهم) *) وهو علاء بن عوص بن آدم ابن سام بن نوح وهو عاد الأولى " * (أخاهم) *) في النسب لا في الدين " * (هود) *) وهو هود بن عبد الله بن رياح بن الخلود بن عاد بن عوص بن آدم بن سام بن نوح وقال ابن إسحاق: هود بن (شالخ) بن أرفخشد بن سام بن نوح " * (قال) *) لهم " * (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون) *) الله فتوحدونه وتعبدونه " * (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة) *) جهالة وضلالة (بتركك ديننا) * * (وإنا لنظنك من الكاذبين) *) إنك رسول الله إلينا وأن العذاب نازل بنا " * (قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح) *) أدعوكم إلى التوبة " * (أمين) *) قال الضحاك: أمين على الرسالة، وقال الكلبي: قد كنت فيكم قبل ذلك (اليوم أمينا) * * (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم) *) يعني نفسه
245

" * (لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) *) يعني أهلكهم (بشركاء منهم) * * (وزادكم في الخلق بسطة) *) أي طولا وشدة وقوة.
قال مقاتل: طول كل رجل اثنا عشر ذراعا، ابن عباس: تمثل ذراعا وقال الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا. أبو حمزة الثمالي سبعون ذراعا. ابن عباس: ثمانون، وهب: كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم " * (فاذكروا آلاء الله) *) نعم الله واحدها (إل وإلي وإلو وإلى كالآناء واحدها إني وإني وإنو وأني) * * (لعلكم تفلحون قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا) *) وندع ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام " * (فآتنا بما تعدنا) *) يعني العذاب " * (إن كنت من الصادقين) *) قال: قد وقع وجب ونزل " * (عليكم من ربكم رجس) *) أي عذاب (والسين مبدأ من الزاي) وغضب " * (أتجادلونني في أسماء سميتموها) *) وضعتموها على الأصنام (.....) يعبد نارا " * (أنتم وآباؤكم) *) قبلكم " * (ما أنزل الله بها من سلطان) *) حجة وبيان وبرهان فانتظروا نزول العذاب.
" * (إني معكم من المنتظرين فأنجيناه) *) يعني هودا عند نزول العذاب.
" * (والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا) *) أي استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم " * (وما كانوا مؤمنين) *) وكانت قصة عاد وهلاكهم على ما ذكره محمد بن إسحاق والسدي وغيرهما من الرواة والمفسرين: إن عادا كانوا ينزلون اليمن وكان مساكنهم منها بالشجرة والأحقاف، وهي رمال يقال لها رمل عالج (ودمما وبيرين) ما بين عمان إلى حضرموت، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض فكلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عز وجل وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله صنم يقال له: صنا، وصنم يقال له: صمود، وصنم يقال لها: الهبار.
فبعث الله عز وجل إليهم هودا نبيا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وأمرهم أن يوحدوا الله ولا يشركوا معه إلها غيره، وأن يكفوا عن ظلم الناس (ولم) يأمرهم فيما تذكر بغير ذلك.
فأبوا عليه وكذبوه وقالوا: من أشد منا قوة، وبنو المصانع وبطشوا بطشة الجبارين كما ذكر الله تعالى فلما فعلوا ذلك أمسك الله المطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك
246

وكانت الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو حرب دعوا إلى الله الفرج وطلبتهم إلى الله عند البيت الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم فتجتمع بمكة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم وكلهم معظم لمكة عارف بحرمتها ومكانها من الله عز وجل. وأهل مكة يومئذ العماليق وإنما سموا العماليق لأن أباهم عمليق بن لاود بن سام بن نوح وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له: معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت (الخبيري) رجل من عاد الأكبر فلما قحط المطر عن عاد (وجمدوا) قال: جهزوا وفدا إلى (أن يستسقوا) لكم فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عقير.
وكان مسلما يكتم إسلامه وجهلمة بن الخيبري، قال معاوية بن بكرة: ثم بعثوا لقمان ابن عاد بن صد بن عاد الأكبر، فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه رهط من قومه حتى بلغ (عدة فعدهم) سبعين رجلا فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم. فأنزلهم وأكرمهم وكانوا إخوانه وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر، وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون من البلاء الذي أصابهم أشفق ذلك عليه وقال: هلك إخواني وأصهاري وهؤلاء يقيمون عندي وهم ضيفي والله ما أدري كيف أصنع بهم إني لأستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنون أنه ضيق مني ببقائهم عندي، وقد هلك من ورائهم من قومهم (جدبا) وعطشا، فشكى ذلك من أمرهم إلى قينيتيه الجرادتين فقالتا: اصنع شعرا نغني به لا يدرون من قاله لعل ذلك (يحركهم).
فقال معاوية بن بكر:
لعل الله يسقينا غماما
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
قد أمسوا لا يبينون كلاما
فيسقي أرض عاد ان عادا
به الشيخ الكبير ولا الغلاما
من العطش الشديد فليس نرجو
فقد أمست نساؤهم عيامى
وقد كانت نسائهم بخير
ولا يخشى لعادي سهاما
وإن الوحش يأتيهم جهارا
نهاركم وليلكم إلتماما
وأنتم ههنا فيما أشتهيتم
قوم ولا لقوا التحية والسلاما
فقبح وفدكم من وفد
فلما قال الشعر غنتهم به الجرادتان فلما سمع القوم قال بعضهم لبعض: إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أطلتم عليهم فأدخلوا هذا الحرم واستسقوا
247

لقومكم، وقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله ما تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إليه سقيتم، فأظهر إسلامة عند ذلك فقال جلهمة بن (الخيبري) خال معاوية حين سمع قوله وعرف أنه اتبع دين هود (عليه السلام):
ذوي كرم وأمك من ثمود
أبا سعد فإنك من قبيل
ولسنا فاعلين لما تريد.
فإنا لا نطيعك ما بقينا
ورمل والصداء مع الصمود.
أتأمرنا لنترك دين رفد
ذوي رأي ونتبع دين هود
ونترك دين آباء كرام
ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر وكان شيخا كبيرا: (احبسا) عنا مرثدا بن سعد فلا يدخل معنا مكة فإنه اتبع دين هود وترك ديننا.
ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتى أدركهم بها فقال: لا أدعو الله عز وجل بشيء مما خرجوا له، فلما انتهى إليهم قام يدعو الله وهم قد اجتمعوا يدعون الله ويقول: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولاتدخلني في شيء مما يدعونك، وكان قيل بن عنز على رأس وفد عاد، وقال وفد عاد: اللهم أعطه ما سألك واجعل سؤالنا مع سؤاله، وكان (قد تخلف) عن وفد عاد حين دعا لقمان بن عاد وكان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل الله عز وجل طول العمر. فعمر عمر سبعة أنسر. وقال: قيل بن عنز: (يا إلهنا) إن كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا.
وقال: اللهم إني لم (أجىء) لمريض فأداويه ولا لأسير فأناديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه فأنشأ الله عز وجل له (سحائب) ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم نادى مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب ما شئت، فقال قيل: اخترت السحابة السوداء فإنها أكبر السحب، فناداه مناد قد اخترت رمادا رمددا، لا تبقى من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا، إلا جعلتهم همدا، إلا بني اللوذية المهدا.
وبنو اللوذية هم بنو لقيم بن هزال بن هزيلة بن بكر فكانوا سكان بمكة مع أخوالهم ولم يكونوا مع عاد بأرضهم وعاد الآخر كان من نسل الذي بقوا من عاد.
ونادى الله عز وجل السحابة السوداء التي اختارها قيل: (فيها من النقمة) من عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا بها وقالوا " * (هذا عارض ممطر) *) يقول الله تعالى: " * (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها) *).
248

وكان أول من أبصر ما فيها وعرف إنها ريح امرأة من عاد يقال لها: مهدر، فلما أتت عليهم صاحت وصعقت. فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحها فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها " * (سخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) *) أي دائمة فلم يدع من عاد أحدا إلا هلك.
فاعتزل هود (عليه السلام) ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبها ومن ريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلتذ الأنفس. وإنها لترتفع بعاد والظعن إلى ما بين السماء والأرض وتدفعهم بالحجارة.
وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر. فقالوا له: فأين فارقت هود وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر وكأنهم شكوا فيما حدثهم به فقالت هذيلة بنت بكر: صدق ورب مكة.
وذكروا أن مراد بن سعد ولقمان بن عاد، وقيل: بن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم قد أعطيتهم مناكم فاختاروا لأنفسكم إلا أنه لا سبيل إلى الخلود ولابد من الموت فقال مهد: اللهم أعطني (برا وصدقا) فأعطي ذلك. وقال لقمان: أعطني يا رب عمرا، فقيل له: اختر لنفسك بقاء سبع بعراتسمر من أظب عفر في جبل وعر لا يمسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر إذا مضى نسر خلف بعده نسر واختار سبعة أنسر فعمر لقمان عمر سبعة أنسر يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضة ويأخذ الذكر منها لقوته حتى إذا مات أخذ غيره، ولم يزل يفعل ذلك حتى على السابع، وكان كل نسر يعيش مئتي سنة وكان آخرها لبد، فلما مات لبد مات لقمان معه.
وأما قيل: فإنه اختار أن يصيبه ما أصاب قومه فقيل له: أنه الهلاك فقال: لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم فأصابه الذي أصاب عادا من العذاب فهلك.
عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أوحى الله إلى الريح العقيم أن تخرج على قوم عاد فتنتقم له منهم، فخرجت بغير كيل على قدر منخر ثور حتى رجفت الأرض ما بين المشرق والمغرب فقال (الخزان) يا رب لن نطيقها، ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها فأوحى الله إليها أن ارجعي فأخرجي على قدر خرق الخاتم (فرجعت) فخرجت على قدر خرق الخاتم وهي الخلقة
249

عن عاصم بن عمرو والبجلي عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يبيت قوم من هذه الأمة على طعام وشراب ولهو فيصبحون قردة وخنازير وليصيبنهم خسف وقذف فيقولون: لقد خسف الليلة (ببني) فلان وخسف الليلة بدار فلان وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادا بشربهم الخمور وأكلهم الربا واتخاذهم القينات ولبسهم الحرير وقطعهم الأرحام).
وفي الخبر: أنه أرسل عليهم من الريح قدر ما تجري في خاتم، قال السدي: بعث الله إلى عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى (الإبل) والرجال تطير بهم الريح من السماء والأرض فلما رأوها (بادروا) إلى البيوت فلما دخلوا البيوت دخلت عليهم وأهلكتهم فيها ثم أخرجتهم من البيوت، فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سودا فلقطتهم إلى البحر وألقتهم فيه ولم تخرج ريح قط إلا مكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فقلبتهم فلم يعلموا كم مكيالها.
وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة: سمعت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثبا أحمر يخالطه مدرة حمراء وسدر كثير بناحية كذا وكذا من حضرموت، قال: نعم يا أمير المؤمنين، والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه، وقال: ولكني قد حدثت عنه، فقال الحضرمي: (وما شأنه) يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبر هود صلوات الله عليه.
عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أنه قال: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك البقعة.
وفي رواية أخرى: وكان النبي من الأنبياء إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون معه إلى مكة بمن معه فيعبدون الله فيها حتى يموتوا.
2 (* (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره قد جآءتكم بينة من ربكم هاذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فىأرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم * واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد وبوأكم فى الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا ءالآء الله ولا تعثوا فى الارض مفسدين * قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن ءامن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بمآ أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذي ءامنتم به كافرون
250

فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصاح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) *) 2
" * (وإلى ثمود) *) قرأ يحيى بن وثاب: إلى هود بالصرف والتنوين. والباقون بغير الصرف وإنما يعني: وإلى بني ثمود، وهو ثمود بن (عاد) بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو (جديس) وأراد ههنا القبيلة.
قال أبو عمرو بن العلا: سميت ثمود لقلة مائها والثمد الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى " * (أخاهم صالحا) *) وهو صالح بن (عبيد) بن أسف ابن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود " * (قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم) *) حجة ودلالة من ربكم على صدقي " * (هذه ناقة الله لكم) *) أضافها إليه على التفضيل والتخصيص كما يقال: بيت الله.
وقيل: أضيفت إلى الله لأنها كانت بالتكوين من غير اجتماع ذكر وأنثى ولم يكن في صلب ولا رحم ولم يكن للخلق فيها سعي " * (آية) *) نصب على الحال أي انظروا إلى هذه الناقة " * (فذروها تأكل) *) العشب " * (في أرض الله ولا تمسوها بسوء) *) ولا تصيبوها (بعقر) * * (فيأخذكم عذاب أليم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم) *) أسكنكم وأنزلكم " * (في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون) *) قرأ الحسن (وتنحتون) بفتح الحاء وهي لغة " * (من الجبال بيوتا) *) وكانوا ينقبون في الجبال البيوت " * (فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين قال الملأ الذين استكبروا من قومه) *) يعني الأشراف والقادة الذين تعظموا عن الإيمان بصالح عليه السلام " * (للذين استضعفوا) *) يعني الأتباع " * (لمن أمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين أستكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) *) جاحدون " * (فعقروا الناقة) *) نحروها " * (وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا) *) يعني العذاب " * (إن كنت من المرسلين) *) أي من الصادقين " * (فأخذتهم الرجفة) *) يعني الصيحة والزلزلة وأصلها الحركة مع الصوت. قال الله: " * (يوم ترجف الراجفة) *).
قال الشاعر:
وظلت جمال القوم بالقوم ترجف
ولما رأيت الحج قد آن وقته
وقال الأخطل
251

كبر كالنسر أرجف الإنسان مهدود فيه
أما تريني (حناتي) الشيب من
" * (فأصبحوا في دارهم) *) أي في أرضهم وبلدتهم ولذلك وحد الدار. وقيل: أراد به الديار فوحد كقوله تعالى: " * (إن الإنسان لفي خسر) *) ومعنى " * (جاثمين) *) جامدين (مبتلين) صرعى هلكوا، وأصل الجاثم البارك على الركبة.
قال جرير:
مطايا القدر كالحدأ الجثوم
عرفت المنتأى وعرفت منها
" * (فتولى) *) أعرض صالح عنهم وقال: " * (يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) *) وكانت قصة صالح وثمود وعقرهم الناقة سبب هلاكهم على ما ذكره ابن إسحاق والسدي ووهب وكعب وغيرهم من أهل الكتب قالوا: إن عادا لما هلكت وانتهى أمرها عمرت أعمارهم واستخلفوا في الأرض فربوا فيها وعمروا، حتى جعل أحدهم يبني المسكن من (المدر) فينهدم والرجل منهم حي. فلما رأوا ذلك اتخذوا الجبال بيوتا فنحتوهاوجابوها وخرقوها وكانوا في سعة من معائشهم فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله، فبعث الله إليهم صالحا وكانوا فيها عربا كان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم موضعا.
فبعثه الله تعالى إليهم شابا فدعاهم إلى الله عز وجل حتى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لقوله، قال: أي آية تريدون؟ قالوا: نريد أن تخرج معنا إلى عيدنا هذا وكان اسم عيد يخرجون إليه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو وإن أستجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا.
فقال لهم صالح: نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به. ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود: يا صالح اخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها: الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء فالمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل، فإن فعلت صدقناك وآمنا بك، فأخذ صالح عليهم مواثيقهم إن فعلت لتصدقنني ولتومنن به، قالوا: نعم.
فصلى صالح ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشرا وجوفاء وبراء كما سألوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله عز وجل عظما
252

وهم ينظرون ثم (نتجت) ثقبا مثلها في العظم. فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه فنهاهم ذوءاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمعر وكانوا من أشراف ثمود. وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد فأراد أن يسلم فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم فقال رجل من آل ثمود:
إلى دين النبي دعوا شهابا
وكانت عصبة من آل عمرو
فهم بأن يجيب ولو (أجابا)
عزيز ثمود كلهم جميعا
وما عدلوا بصاحبهم ذوءابا
لأصبح صالح فينا عزيزا
تولوا بعد رشدهم ذئابا
ولكن الغواة من آل حجر
فلما خرجت الناقة قال صالح (عليه السلام): " * (هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) *)، فمكثت الناقة ومعها سقيها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء سبتا فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر من الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفعها حتى تشرب كل ما فيها لا تدع قطرة ماء فيها ثم ترفع رأسها (فتفسح) يعني تفجج لهم فيحتلبون ما شاؤوا من لبن فيشربون ويدخرون حتى يملأوا أوانيهم كلهم ثم تصدر من (غير) الفج الذي وردت لا تقدر على أن تصدر من حيث وردت لضيقه عنها فلا يرجع منه ثم ترفع رأسها.
قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعا، حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاؤوا من الماء ويدخرون ماشاؤوا ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة ودعة (وكانت) الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها أغنامهم وأبقارهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه.
والمواشي تنفر منها إذا رأتها (تشتو) في بطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب. فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار وكانت مراتعها في ما يزعمون (الجناب) وحسمى، كل ذلك ترعى مع واد الحجر.
فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها.
وكانت امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز تكنى أم غنم وهي من بني عبيد ابن المهل، وكانت امرأة ذوءاب بن عمر، وكانت عجوزا مسنة وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم، وامرأة أخرى يقال لها: صدوف بنت المحيا بن زهير ابن المحيا سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال له: وادي المحيا
253

الأكبر جد المحيا الأصغر أبي صدوف، وكانت صدوف من أحسن الناس وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح (عليه السلام) وأعظمهم به كفرا، وكانتا تحبان أن يعقرا الناقة مع كفرهما به لما أضرت به من مواشيهما وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له: صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف من بني هليل فأسلم وحسن إسلامه، وكانت صدوف قد فوضت إليه مالها فأنفقه على من أسلم له من أصحاب صالح حتى رق المال فاطلعت على ذلك (من) إسلام صدوف وحاسبته على ذلك. فأظهر لها دينه فدعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وأخذت بنيها وبناتها منه فغيبتهم في عبيد بطنها الذي (هي) منه وكان صنتم زوجها من بني هليل، وكان ابن خالها فقال لها: ردي علي ولدي، فقالت: حتى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني (جندع) بن عبيد، فقال لها صنيم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد. وذلك أن بني مرداس كانوا مسلمين.
فقالت: لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه. فقالت بنو مرداس: والله لتعطينه ولده كارهة أو طائعة فلما رأت ذلك أعطته إياهم.
ثم إن صدوف وعنيزة تحيلا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل بهم فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له (الحباب) لعقر الناقة وعرضت نفسها إن هو فعل ذلك (فأبى) عليها فدعت ابن عم لها يقال له: مصدح بن مهرج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن الناس وجها وأكثرهم مالا فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم قدار ابن سالف بن جندع رجلا من أهل قرح وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعه) واسم أمه قدير. وكان رجلا أحمرا أزرقا قصيرا يزعمون أنه كان لزنية من رجل يقال له: صبيان ولم يكن لسالف الذي يدعى السر، ولكنه قد ولد على فراش سالف فقالت: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة، وكان قدار عزيزا منيعا في قومه فانطلق قدار بن سالف هو ومصدع بن مهرج فاستنفرا غواة من ثمود فاتبعهما سبعة نفر، وكانوا تسعة رهط أحدهم هويل بن مسطح خال عزير من أهل حجر (ودعيت) بن غنم بن ذاغر ذؤاب بن مهرج بن مصدع وخمسة لم يذكر لنا أسماءهم فاجمعوا على عقر الناقة.
وقال السدي وغيره: أوحى الله تعالى إلى صالح (عليه السلام) أن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم ذلك.
فقالوا: ماكنا لنفعل ذلك. فقال صالح: إنه يولد في قومكم غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه، فقالوا: لا يولد لنا ابن في هذا الشهر إلا قتلناه.
254

قال: فولد لهم تسعة في ذلك الشهر. فدعوا أبناءهم ثم ولد العاشر فأبى أن يذبح أبنه وكان لم يولد له قبل ذلك ابن وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا، وكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح، لأنه كان سبب قتلهم أبنائهم فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله قالوا: نخرج فنري الناس أنا قد خرجنا إلى (سفرنا) فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه ثم رجعنا فقلنا مهلك أهله وإنا لصادقون يصدقوننا يعلمون إنا قد خرجنا إلى سفرنا، وكان صالح صلى الله عليه وسلم لا ينام معهم في القرية. وكان في مسجد يقال له مسجد صالح فيه يبيت الليل. فإذا أصبح أتاهم فوعظهم ويذكرهم، وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فلما دخلوا الغار وأرادوا أن يخرجوا من (الجبل) سقط عليهم الغار فقتلهم فانطلق رجل ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رطخ فرجعوا وجعلوا يصيحون في القرية أي عباد الله أما رضي صالح (بأن) أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة.
وقال ابن إسحاق: إنما كان تقاسم التسعة على قتل صالح صلى الله عليه وسلم بعد عقرهم الناقة وإنذار صالح إياهم بالعذاب. ذلك أن التسعة الذين عقروا الناقة قالوا: هلم فلنقتل صالحا وإن كان صادقا عجلنا قتله، وإن كان كاذبا قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدفعتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم مشتدخين قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، ثم هموا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح. وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدا وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم إلا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك.
قال السدي وغيره: فكان شر مولود يعني قدار وكان يشب في اليوم شباب غيره في الجمعة. ويشب في الشهر شباب غيره في السنة فلما كبر جلس مع أناس يصيبون من الشراب فأرادوا ما يمزجون به شرابهم وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة. فاشتد ذلك عليهم وقالوا في شأن الناقة وشدتها عليهم ونحن ما نصنع باللبن لو كنا نأخذ من هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة نسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا، فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم؟
قالوا: نعم.
وقال كعب: كان سبب عقرهم الناقة أن امرأة يقال لها ملكا كانت قد ملكت ثمود فلما أقبل الناس على صالح وصارت الرئاسة إليه حسدته فقالت لامرأة يقال لها قطام وكانت معشوقة قدار بن سالف ولامرأة أخرى يقال لها قبال كانت معشوقة مصدح بن وعد ويقال ابن مهرج، وكان قدار ومصدع يجتمعان كل ليلة معهما ويشربون الخمر
فقالت لهما ملكا: إن أتاكم الليلة قدار ومصدع فلا تطيعاهما وقولا لهما: إن الملكة حزينة لأجل الناقة و لأجل صالح فنحن لا
255

نطيعكما حتى تعقرا الناقة فإن عقرتماها أطعناكما، فلما أتياهما قالتا لهما هذه المقالة فقالا: يكون من وراء عقرهما.
وقال ابن إسحاق وغيره: فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما السبعة فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل حفرة على طريقها، وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم وعنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس فاستقرت لقدار ثم دمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فحدر سقبها ثم طعن في لبتها فنحرها.
وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلما رأى سقبها ذلك انطلق حتى أتى جبلا منيعا يقال له صور، وقيل: اسمه قارة، وأتى صالح فقال له: أدرك الناقة قد عقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان وفلان ولا ذنب لنا. فقال صالح (عليه السلام): أنظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله عز وجل إلى الجبل فتطاول في السماء حتى لا تناله الطير. وجاء صالح (عليه السلام) فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم استقبل صالحا فرغا رغوة ثم رغا أخرى ثم رغا أخرى.
فقال صالح (عليه السلام): لكل رغاة أجل يومكم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب.
وقال ابن إسحاق: أتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع ابن مهرج وأخوه دأب بن مهرج فرمى مصدع بسهم فانتظم قلبه ثم جر برجله وأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه. فقال لهم صالح: انتهكتم حرمة الله تعالى فأبشروا بعذاب الله ونقمته، فقالوا له وهم يهزأون به: ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك؟ وكان يسمون الأيام فيهم الأحد الأول والأثنين أميون والثلاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنس والجمعة غروبة والسبت شيار. وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح (عليه السلام) حين قالوا ذلك: تصبحون غداء يوم مؤنس ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم غروبة ووجوهكم محمرة ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وإناثهم، فأيقنوا العذاب وعرفوا أن صالحا قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه، وخرج صالح هاربا حتى لجأ إلى بطن من ثمود، يقال له: بنو غنم، فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له: نفيل ويكنى أبا هدب وهو مشرك فغيبه فلم يقدروا عليه، وقعدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه.
256

فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم: يا نبي الله إنهم ليعذبونا لندلهم عليك أفندلهم؟ قال: نعم، فدلهم عليه ميدع فأتوا أبا هدب وكلموه في ذلك، فقال: نعم عندي صالح وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله عز وجل فيهم من عذابه فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم فلما أصبحوا صاحوا بأجمعهم: ألا قد مضى يوم من الأجل، فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدماء فصاحوا وضجوا وبكوا وعرفوا آية العذاب، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل و حضركم العذاب. فلما كان اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالنار فصاحوا جميعا ألا قد حضركم العذاب.
فلما كان ليلة الأحد خرج صالح (عليه السلام) من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام فنزلوا رملة فلسطين فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا وكان حنوطهم الصبر والمقر وكانت أكفانهم (الإنطاع) ثم ألقوا أنفسهم بالأرض فجعلوا يقلبون به أبصارهم فينظرون إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب.
فلما اشتد الضحى يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل (شيء) له صوت في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك كما قال الله تعالى: " * (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) *) إلا جارية منهم مقعدة يقال لها: ذريعة بنت سلق وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح (عليه السلام) فأطلق الله عز وجل لها رجلها بعدما عاينت العذاب أجمع، فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتى أنت قزح وهي وادي القرى فأخبرتهم بما (عاينت) من العذاب وما أصاب ثمود ثم أستسقت من الماء فسقيت فلما شربت ماتت.
وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: (لا يدخلن أحدكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين خائفين فإن لم تكونوا فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم).
ثم قال: (أما بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية فبعث الله عز وجل لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فتشرب ماءهم يوما فيردها وراءهم مرتقى الفصيل حين ارتقى في الغار فعتوا عن أمر ربهم وعقروها فأهلك الله من (تحت) أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله).
قيل: من هو؟ قال: (أبو رغال)
257

فلما خرج أصابه ما أصاب قومه (فدفن ههنا) ودفن معه غصن من ذهب وأراهم قبر أبي رغال فول القوم فابتدروه بأسيافهم وبحثوا عليه فاستخرجوا ذلك الغصن، ثم قبع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وأسرع السير حتى جاز الوادي.
قال أهل العلم: توفي صالح (عليه السلام) بمكة وهو ابن ثمان وخمسين (سنة فلبث) في قومه عشرين سنة.
عن الضحاك بن مزاحم قال: قال رسول الله (عليه السلام): (يا علي أتدري من أشقى الأولين؟)
قال: قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: (عاقر الناقة).
قال: (أتدري من أشقى الآخرين؟)
قال: الله ورسوله أعلم.
قال: (قاتلك).
2 (* (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء بل أنتم قوم مسرفون * وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) *) 2
" * (ولوطا) *) يعني وأرسلنا لوطا وقيل معناه: واذكر لوطا. وهو لوط بن (هاران) بن تارخ أخي إبراهيم (عليه السلام) * * (إذ قال لقومه) *) وهم أهل سدوم، وذلك أن لوطا شخص من أرض بابل مع عمه إبراهيم (عليه السلام) مؤمنا به مهاجرا معه إلى الشام فنزل إبراهيم (عليه السلام) فلسطين وأنزل ابن أخيه لوطا الأردن فأرسل الله إلى أهل سدوم فقال لهم: " * (أتأتون الفاحشة) *) يعني إتيان الذكران " * (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) *) قال عمرو بن دينار: ما كان يزني ذكر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط " * (إنكم لتأتون الرجال) *) (في أدبارهم) * * (شهوة من دون النساء) *) يعني أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء " * (بل أنتم قوم مسرفون) *) مشركون (تبدلون) الحلال إلى الحرام
258

قال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ قال: إن (عضلتم) بهم كلهم أنجوتكم منهم فأبوا، فلما ألح الناس عليهم فعبدوهم فأصابوا غلمانا صباحا فأخبثوا وأستحكم فيهم ذلك.
وقال الحسن: كانوا لا ينكحون (إلا الرجال) وقال الكلبي: أول من عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس في صورة شاب ثم دعا (في) دبره فنكح في دبره ثم عتوا بذلك العمل فأكثر فيهم ذلك فعجت الأرض إلى ربها فسمعت السماء فعجت إلى ربها فسمع العرش فعج إلى ربه فأمر الله السماء أن تحصبهم وأمر الأرض أن تخسف بهم " * (وما كان جواب قومه) *) إذا قال لهم ذلك " * (إلا أن قالوا) *) قال بعضهم لبعض " * (أخرجوهم) *) لوطا وأهل دينه " * (من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) *) يتنزهون ويتحرجون عن إتيان أدبار الرجال وأدبار النساء " * (وأنجيناه) *) يعني لوطا " * (وأهله) *) المؤمنين به، وقيل: وأهله بنتاه: نعوذا وديثا.
" * (إلا امرأته) *) فاعلة فإنها " * (كانت من الغابرين) *) يعني الباقين في العذاب وقيل: معناه: كانت من الباقين والمعمرين قبل الهلاك الذين قد أتى عليهم عمرت دهرا طويلا فهرمت فيمن هرم من الناس. فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين أتاهم العذاب. وإنما قال: (الغابرين) ولم يقل: الغابرات لأنه أراد أنها ممن بقي مع الرجال فلما ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قيل: الغابرين. وقيل: له غبر يغبر غبورا، وغبر إذا بقي. قال الشاعر:
وأبي الذي فتح البلادبسيفه
فأذلها لبني أبان الغابر
يعني الباقي.
وقال أبو ذؤيب:
وغبرت بعدهم بعيش ناصب
وإدخال أني لاحق مستتبع
" * (فأمطرنا عليهم مطرا) *) يعني حجارة من سجيل " * (فانطر كيف كان عاقبة المجرمين) *) وسنذكر القصة بتمامها في موضعها إن شاء الله.
وروى أبو اليمان بن الحكم بن نافع الحمصي عن صفوان بن عمر قال: كتب عبد الملك ابن مروان إلى ابن حبيب قاضي حمص سأله كم (عقوبة) اللوطي فكتب أن عليه أن يرمى بالحجارة كما رجم قوم لوط فإن الله تعالى قال: " * (وأمطرنا عليهم مطرا) *) وقال: " * (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) *) فقبل عبد الملك ذلك منه وأستحسنه.
259

وروى عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به).
وقال محمد بن المنكدر: كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر أنه وجد رجلا في بعض قوافل العرب ينكح كما تنكح المرأة فشاور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشهدهم في ذلك عليه، فاجتمع عليهم على أن يحرقوه فأحرقوه.
2 (* (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره قد جآءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا فى الارض بعد إصلاحها ذالكم خير لكم إن كنتم مؤمنين * ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من ءامن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين * وإن كان طآئفة منكم ءامنوا بالذي أرسلت به وطآئفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين * قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين ءامنوا معك من قريتنآ أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا فى ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنآ أن نعود فيهآ إلا أن يشآء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين * وقال الملا الذين كفروا
من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين * فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كافرين) *) 2
" * (وإلى مدين) *) يعني وأرسلنا إلى بني مدين بن إبراهيم خليل الله وهم أصحاب الأيكة.
وقال قتادة: أرسل مرتين إلى مدين وإلى أصحاب الأيكة " * (أخاهم شعيبا) *) قال قتادة: هو شعيب بن (نويب) وقال عطاء: هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم، وقال ابن إسحاق: هو شعيب بن ميكيل بن إسحاق بن مدين بن إبراهيم واسمه بالسريانية يثروب وأمه ميكيل بنت لوط وكان شعيب أعمى.
ويقال: إنه خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه أهل كفر يكفرون بالله وبخس المكيال والميزان فقال لهم " * (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم) *) (يعني يجي) شعيب " * (فأوفوا) *) فأتموا " * (الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم) *) ولا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوها (إياهم) * * (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) *) كانت الأرض قبل أن يبعث إليها شعيبا رسولا يعمل فيها بالمعاصي ويستحل فيها المحارم ويسفك فيها الدماء بغير
260

حقها فذلك فسادها، فلما بعث إليها شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض وكل نبي بعث إلى قومه فهو يدعوهم لإصلاحهم الذي ذكرت لكم وأمرتكم به.
" * (خير لكم إن كنتم مؤمنين) *) مصدقين بما أقول " * (ولا تقعدوا بكل صراط) *) (يعني) في هذا الطريق كقوله: * (إن ربك لبالمرصاد) * * (توعدون) *) تهددون " * (وتصدون عن سبيل الله) *) دين الله " * (من آمن به وتبغونها عوجا) *) زيغا وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرق فيخبرون من قصد شعيبا ليؤمن به إن شعيبا كذاب. فلا يفتننك عن (ذلك) وكانوا يتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوفونهم.
قال السدي وأبو روق: كانوا (جبارين). قال عبد الرحمن بن زيد: كانوا يقطعون الطريق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبرائيل؟
قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا: * (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) * * (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) *) (فكثر بينكم) * * (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) *) يعني آخر قوم لوط " * (وإن كان طائفة منكم) *) إلى قوله تعالى " * (قال الملأ الذين استكبروا من قومه) *) يعني الروءساء الذين تعالوا عن الإيمان به " * (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) *) لترجعن إلى ديننا الذي نحن عليه وتدعون دينكم.
قال شعيب: " * (قال أولو كنا كارهين) *) لذلك يعني ولو كنا كارهين لذلك تجبروننا عليه فأدخلت الف الاستفهام على ولو " * (قد أفترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها) *) نرجع إليها بعد إذ أنقذنا الله منها " * (إلا أن يشاء الله ربنا) *) تقول إلا أن يكون سبق لنا في علم الله ومشيئته أن نعود فيها فيمضي حينئذ قضاء الله فينا (وينفذ) حكمه وعلمه علينا " * (وسع ربنا كل شيء علما) *) أحاط علمه بكل شيء فلا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن " * (على الله توكلنا) *) فيما تتوعدوننا به.
واختلف العلماء في معنى قوله " * (أو لتعودن في ملتنا) *) وقوله " * (وما يكون لنا أن نعود فيها) *) فقال بعضهم: معناه أو لتدخلن فيها ولن تدخل (إلا) إن يشاء الله ربنا فيضلنا بعد إذ هدانا.
وسمعت أبا القاسم الحسين بن محمد الحبيبي يقول: سمعت علي بن مهدي الطبري بها يقول: إن عدنا في ملتكم أي صرنا، لا أن نعود، يكون ابتداء ورجوعا.
قال أمية بن أبي الصلت
261

تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
أي صار الآن اللبن، كأن لم تكن قط بولا.
وسمعت (الحسين بن الحبيبي) قال: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: معناه: إذ نجانا الله منها في سابق علمه وعند اللوح والقلم.
وقال بعضهم: كان شعيب ومن آمن معه في بدء أمرهم مستخفين ثم أظهروا أمرهم وإنما قال لهم قومهم " * (أو لتعودن في ملتنا) *) حسبوا أنهم على ملتهم (قيل: من هو معه) على أصحاب شعيب دون شعيب لأنهم كانوا كفارا ثم آمنوا بالخطاب لهم وجواب شعيب عنهم لا عن نفسه، لأن شعيبا لم يكن كافرا قط وإنما ناوله الخطاب في أصناف من فارق دينهم إليه.
ورأيت في بعض التفاسير أن الملة هاهنا الشريعة وكان عليه قبل نبوته فلما (نبئ) فارقهم.
ثم دعا شعيب على قومه إذ لمس ما فيهم فقال " * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) *) أي اقض.
وقال (المؤرخ): افصل.
وقال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله " * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) *) حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أقاضيك.
وقال الفراء: أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح. وذكر غيره أنه لغة مهاد. فأنشد لبعضهم:
ألا أبلغ بني عصم رسولا
بأني عن فتاحتكم غني
أي حكمكم. " * (وأنت خير الفاتحين) *) يعني الحاكمين " * (وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا) *) وتركتم دينكم " * (إنكم إذا لخاسرون) *) قال ابن عباس: مغبونون. قال عطاء: جاهلون. قال الضحاك: فجرة. " * (فأخذتهم الرجفة) *) قال الكلبي: الزلزلة.
قال ابن عباس: وغيره من المفسرين: فتح الله عليهم بابا من أبواب جهنم فأرسل عليهم ريحا وحرا شديدا، فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر فبعث الله عز وجل سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح بطيبها وظل السحابة فتنادوا
262

عليكم بها فخرجوا إلى البرية فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المعلى وصاروا رمادا وهو عذاب يوم الظلة، وذلك قوله: " * (فأصبحوا في دارهم جاثمين) *) ميتين قال أبو العالية: ديارهم منازلهم، وقال محمد بن مروان: كل شيء في القرآن (دارهم) فهو (مرغمهم) وكل شيء (درياهم) فهو عساكرهم.
قال ابن إسحاق: بلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له عمر بن (جلهاء) لما رأى الظلة فيها الغضب. قال: يا قوم إن شعيبا مرسل فذروا عنكم سميرا أو عمران بن شداد إني أرى غيمة يا قوم طلعت دعو بصوت على صمانة الوادي، فإنكم إن تروا فيها ضحاة غد إلا الرقيم يمشي بين أنجاد وسميرا وعمران: كاهناهم راعيين، والرقيم كلبا لهما.
قال أبو عبد الله البجلي: أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت: أسماء ملوك وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب. فقالت أخت كلمون تبكيه:
كلمون هد ركني هلكه وسط المحله سيد القوم أتاه الحتف نارا وسط ظلة.
جعلت نار عليهم دارهم كالمضمحلة.
" * (الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها) *) أي لم يعيشوا ولم ينزلوا ولم يقيموا ولم ينعموا، وأصله من قولهم غنية بالمكان إذا أقمت به والمغاني المنازل وأحدها مغنى قال لبيد:
وغنيت ستا قبل مجرى داهس
لو كان للنفس اللجوج خلود
وقال حاتم:
غنينا زمانا للتصعلك والغنى
فكلا سقانا بكأسيهما الدهر
" * (الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) *) لا المؤمنون كما زعموا " * (فتولى) *) أعرض " * (عنهم) *) شعيب (بن شامخ) من أظهرهم حين أتاهم العذاب " * (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى) *) (أحزن) * * (على قوم كافرين) *) حين يعذبون، يقال: آسيتم آسي أسى. قال الشاعر:
آسيت على زيد ولم أدر ما فعل
والأسى الحزن (والأسى) الصبر.
263

2 (* (ومآ أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأسآء والضرآء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضرآء والسرآء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون * ولو أن أهل القرىءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء والارض ولاكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون * أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون * أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلهآ أن لو نشآء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون * تلك القرى نقص عليك من أنبآئها ولقد جآءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين * وما وجدنا لاكثرهم من عهد وإن وجدنآ أكثرهم لفاسقين) *) 2
" * (وما أرسلنا في قرية من نبي) *) فيه اضمار واختصار يعني فكذبوه " * (إلا أخذنا) *) عاقبنا " * (أهلها) *) حين لم يؤمنوا " * (بالبأساء) *) يعني بالبؤس الشدة وضيق العيش " * (والضراء) *) تعني أضر وهو الحال. وقيل: المرض والزمناء قال: السدي البأساء يعني الفقر والجوع " * (لعلهم يضرعون) *) لكي يتضرعوا (فينيبوا) ويتوبوا " * (ثم بدلنا مكان السيئة) *) وهي البأساء والجواب والجوع " * (الحسنة) *) يعني النعمة والسعة والرخاء والخصب " * (حتى عفوا) *) أي كثروا وأثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، قال ابن عباس: (عفوا) يعني (جهدوا)، وقال ابن زيد: يعني كثروا كما يكثر النبات والريش.
قال قتادة: (حتى عفوا): سروا بذلك، وقال مقاتل بن حيان: (عفوا) حتى كثروا وتركوا ولم يستكثروا وأصله من الكثرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى).
وقال الشاعر:
يقول من بعد أولاك أولات
أتوا زمانا ليس عندهم بعيد
وقال آخر:
ولكنا نعض السيف منها
بأسوق عافيات الشحم كوم
" * (وقالوا) *) من جهلهم وغفلتهم " * (قد مس آباءنا الضراء والسراء) *) فنحن مثلنا فقال الله تعالى " * (فأخذناهم بغتة) *) (فجأة عبرة لمن بعدهم). " * (وهم لا يشعرون) *) بنزول العذاب " * (ولو
264

أن أهل القرى آمنوا واتقوا) *) يعني وحدوا الله وأطاعوه " * (لفتحنا عليهم بركات من السماء) *) يعني المطر " * (والأرض) *) يعني النبات، وأصل البركة المواضبة على الشيء تقول: برك فلان على فلان إذا (أجابه، وبركات الأرض أي) تابعنا عليهم بالمطر والنبات والخصب ورفعنا الحرث والقحط " * (ولكن كذبوا فأخذناهم) *) فجعلنا لهم العقوبات " * (بما كانوا يكسبون) *) من الكفر والمعصية والأعمال الخبيثة.
" * (أفأمن أهل القرى) *) الذين كفروا وكذبوا " * (أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون) *) آمنون.
" * (أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى) *) نهارا " * (وهم يلعبون) *) لاهون.
" * (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) *) ومعني (مكر) استدراج القوم بما أراهم في دنياهم.
قال قتادة: مكر الله استدراجه بطول الصحة وتظاهر النعم، وقال عطية: يعني أخذه وعذابه، وحكى (الشبلي) أنه سئل عن مكر الله فأجاب بقول
محبتك لا ببعضي بل بكلي
وإن لم يبق حبك لي حراكا
ومقبح من موالد ليفع
ل سنتي ويفعله فيحسن
فقال السائل: اسأله عن آية من كتاب الله ويجيبني من الشعر فعلم الشبلي أنه لم يفطن لما قال، فقال: يا هذا (....) إياهم على ما هم فيه.
" * (أولم يهد) *) قرأ أبو عبد الرحمن وقتادة ويعقوب في رواية زيد (نهد) بالنون على التعظيم والباقون بالياء على (التفريد) * * (للذين يرثون) *) يستخلفون في " * (الأرض) *) بعد هلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها فساروا بسيرتهم (....) ربهم " * (أن لو نشاء أصبناهم) *) أهلكناهم " * (بذنوبهم) *) بما أهلكنا من قبلهم " * (ونطبع) *) نختم " * (على قلوبهم فهم لا يسمعون) *) الهدى ولا يقبلون الموعظة " * (تلك القرى) *) هذه القرى التي ذكرت لك وأهلكناهم وهي قرى نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب " * (نقص عليك من أنبائها) *) نخبرك أخبارها " * (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات) *) (بالآيات والعلامات والدلالات) * * (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) *) اختلف في تأويله.
قال أبي بن كعب: معناه فما كانوا ليؤمنوا عند مجئ الرسل بما سبق في علم الله أنهم يكذبون به يوم أقروا له بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم.
وقال ابن عباس والسدي: يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم حتى أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرها وأقروا باللسان وأظهروا التكذيب
265

وقال مجاهد: معناه فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ورددناهم إلى الدنيا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم كقوله " * (ولو ردوا لعادوا لم نهو عنه) *) وقال يمان بن رئاب: هذا معنى أن كل نبي أخذ قومه بالعذاب ما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الكفار بل كذبوا كما كذب نظير قوله " * (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به) *).
وقيل: معناه: " * (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات) *) يعني بالمعجزات والعجائب التي سألوهم فما كانوا ليؤمنوا بعد ما رأوا الآيات والعجائب بما كذبوا به من قبل رؤيتهم تلك العجائب نظيره قوله " * (قد سألها قوم من قبلكم فأصبحوا بها كافرين) *) * (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون) * * (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) *) الذين كتب عليهم أن لا يؤمنون من قومك " * (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) *) يعني وفاء بالعهد، والعهد الوصية " * (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) *) أي ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين ناقضين العهد.
2 (* (ثم بعثنا من بعدهم موسى بئاياتنآ إلى فرعون وملإيه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين * وقال موسى يافرعون إنى رسول من رب العالمين * حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معى بنىإسراءيل * قال إن كنت جئت بئاية فأت بهآ إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هى بيضآء للناظرين * قال الملا من قوم فرعون إن هاذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدآئن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم * وجآء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين * قالوا ياموسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجآءو بسحر عظيم) *) 2
" * (ثم بعثنا من بعدهم) *) أي من بعد قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب " * (موسى بآياتنا) *) بحجتنا وأدلتنا " * (إلى فرعون وملئه فظلموا) *) فجحدوا
وكفروا " * (بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) *) وكيف فعلنا بهم " * (وقال موسى) *) لما دخل على فرعون واسمه قابوس في قول أهل الكتاب
266

قال وهب: كان اسمه الوليد بن مصعب بن الربان وكان من القبط وعمر أكثر من أربعمائة عام وقال موسى: " * (يا فرعون إني رسول من رب العالمين) *) إليك فقال فرعون كذبت فقال موسى: " * (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق) *) يعني أنا (خليق) بأن لا أقول على الله إلا الحق، فعلى بمعنى الباء، كما يقال: رميت بالقوس على القوس وجاءني على حال حسنة وبحالة حسنة يدل عليه، (قول الفراء) والأعمش: حقيق بأن لا أقول. وقال أبو عبيدة: معناه حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق، وقرأ شيبة ونافع: حقيق على تشديد الياء يعني حق واجب علي ترك القول على الله عز وجل إلا الحق.
" * (قد جئتكم ببينة من ربكم) *) يعني العصا وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت علي بن مهدي الطبري يقول: إنه تعريض يقول: لحقيق مصرف الخطاب " * (وحقيق) *) (فعيل) من الحق يكون بمعنى القائل " * (فأرسل معي بني إسرائيل) *) أي اطلق عنهم وخلهم يرجعون إلى الأرض المقدسة.
قال وهب: وكان سبب استعباد فرعون بني إسرائيل أن فرعون حاج (موسى) وكان (أشد من) فرعون يوسف (........) في يوسف (وانقرضت) الأسباط عليهم فرعون فاستعبدهم فأنقذهم الله بموسى.
قال: وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخل موسى رسولا أربعمائة عام " * (قال) *) فرعون مجيبا لموسى " * (إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه) *) من يده " * (فإذا هي ثعبان مبين) *).
قال ابن عباس والسدي: كانت (عظيمة ذكرا) من الحيات، إذا فتحت فاها صار شدقها ثمانين وقد ملأت ما بين سماطي فرعون واضعة لحييها ذراعا واضع لحية الأسفل في الأرض الأعلى على سور القصر، حتى رأى بعض من كان خارج مدينة مصر رأسها.
ثم توجهت نحو فرعون لتبتلعه فوثب فرعون من سريره وهرب منها فأحدث ولم يكن حدث قبل ذلك وهرب الناس وصاحوا وحملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا، ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى خذها وأنا مؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت.
ثم قال له فرعون: هل معك آية أخرى، قال: نعم، فأدخل يده في جيبه ثم نزعها فأخرجهابيضاء مثل الثلج لها شعاع غلب على نور الشمس، وكان موسى أدم ثم أدخلها جيبه فصارت يدا كما كانت.
267

" * (قال الملأ من قوم فرعون ان هذا لساحر عظيم) *) يعنون أنه يأخذ بأعين الناس بخداعه إياهم حتى تخيل إليهم العصا حية والأدم أبيض (يري الشيء) بخلاف ما هو به، كما قيل سحر المطر الأرض إذا جاءها فقطع نباتها من أصلها وقلب الأرض على البطن فهو يسحرها سحرا والأرض مسحورة فشبه سحر الساحر به لتخيله إلى من سحره أنه يري الشيء بخلاف ما هو به، ومنه قول بني الرمة في صفة السراب
وساحرة العيون من الموامي
ترقص في نواشزها الأروم
" * (يريد أن يخرجكم) *) (من القبط) * * (من أرضكم) *) مصر " * (فماذا تأمرون) *) هذا من قول فرعون للملأ ولم يذكر فرعون فيه كقوله " * (الآن حصص الحق) *) * * (أنا راودته عن نفسه وإنه من الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) *) هذا من كلام يوسف ولم يذكر " * (قالوا أرجه) *) أحبسه " * (وأخاه) *) هارون ولا تقتلهما ولا يؤمن بهما، وقال عطاء: احبسه وهذا أعجب إلي لأنه قد علم أنه لا يقدر على حبسه بعد ما رأى الآيات من العصا واليد.
" * (وأرسل في المدائن حاشرين) *) يعني الشرطة وكانت له مدائن فيها السحرة عدة للأشياء إذا (حز به أمر) أرسل.
" * (يأتوك بكل ساحر عليم) *) قرأها أهل الكوفة على التكثير وقرأ العامة كل ساحر. والفرق بين الساحر والسحار أن الساحر الذي لا يعلم والسحار الذي يعلم ولا يعلم. وقال المؤرخ: الساحر من سحره في وقت دون وقت، والسحار من قديم السحر.
قال: فإن غلبهم موسى صدقناه على ذلك وعلمت أنه ساحر.
قال ابن عباس وابن إسحاق والسدي: قال فرعون لما رأى من سلطان الله في العصا ما رأى: إنا لا نغالب موسى إلا بمن هو مثله فأخذ غلمان بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الفرقاء يعلمونهم السحر كما يعلم الصبيان الكتابة في المكتب فعلموهم سحرا كثيرا وواعد فرعون موسى موعدا، فبعث فرعون إلى السحرة فجاء بهم ومعهم معلمهم فقال له ماذا صنعت؟ قال: قد علمتهم سحر لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمر من السماء فإنه لا طاقة لهم به، ثم بعث فرعون الشرطي في (مملكته) فلم يترك في سلطانه ساحرا إلا أتى به واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون.
فقال مقاتل: كان السحرة اثنين وسبعين ساحرا اثنان فيهم من القبط وهما رئيسا القوم وسبعون من بني إسرائيل.
268

وقال الكلبي: كانوا سبعين ساحرا غير رئيسهم وكان الذين يعلمونهم السحر رجلين مجوسيين من أهل نينوى، وقال كعب: كانوا اثني عشر ألفا. قال السدي: كانوا بضعة وثلاثين. عكرمة: سبعين ألفا، ابن المنكدر: ثمانين ألفا فاختار منهم سبعة آلاف ليس منهم إلا ساحر ماهر ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختار منهم سبعين من كبرائهم وعلمائهم، وقاله ابن جريج، فلما أجتمع السحرة * (قالوا لفرعون) * * (إن لنا لأجرا) *) أي جعلا وثوابا.
" * (إن كنا نحن الغالبين قال) *) فرعون " * (نعم وإنكم لمن المقربين) *) في المنزلة عندي.
قال الكلبي: أول من يدخل علي وآخر من يخرج " * (قالوا) *) يعني السحرة.
" * (يا موسى إما أن تلقي وأما أن نكون نحن الملقين) *) بعصينا (وحبالنا).
* (قال موسى) * * (ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم) *) أي أرعبوهم وأفزعوهم " * (وجاءوا بسحر عظيم) *) وذلك أنهم ألقوا حبالا وعظاما وخشبا طوالا فإذا هي حيات كالجبال قد ملأت الوادي (يأكل) بعضهم بعضا.
(* (وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقى السحرة ساجدين * قالوا ءامنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال فرعون ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم إن هاذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منهآ أهلها فسوف تعلمون * لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم أجمعين * قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون * وما تنقم منآ إلا أن ءامنا بئايات ربنا لما جآءتنا ربنآ أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين * وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الارض ويذرك وءالهتك قال سنقتل أبنآءهم ونستحيى نسآءهم وإنا فوقهم قاهرون * قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشآء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الارض فينظر كيف تعملون * ولقد أخذنآ ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون * فإذا جآءتهم الحسنة قالوا لنا هاذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولاكن أكثرهم لا يعلمون * وقالوا مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنىإسراءيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون * فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بئاياتنا وكانوا عنها غافلين) *
269

" * (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك) *) فألقاها " * (فإذا هي تلقف) *) تبتلع، ومن قرأ تلقف ساكنة اللام خفيفة القاف فهو من لقف يلقف، ودليله قراءة سعيد بن جبير: تلقم من لقم يلقم.
" * (ما يأفكون) *) يكذبون، وقيل: يقلبون ويزورون على الناس فأكلت سحرهم كله فقالت السحرة: لو كان هذا سحرا لبقت حبالنا وعصينا. فذلك قوله: " * (فوقع الحق) *) أي ظهر.
قال النضير بن شميل: فوقع الحق أي فزعهم وصدعهم (كوقع الميقعة) * * (وبطل ما كانوا يعملون) *) من السحر " * (فغلبوا هنالك) *) وبطل ما كانوا يعملون " * (وانقلبوا صاغرين) *) ذليلين ومقهورين.
" * (وألقي السحرة ساجدين) *) لله حيث عرفوا أن ذلك أمر سماوي وليس سحرا، وقيل: ألهمهم الله ذلك، وقال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا " * (قالوا آمنا برب العالمين) *) فقال فرعون: إياي تعنون فقالوا " * (رب موسى وهارون) *).
قال عطاء: فكان رئيس السحرة بأقصى مدائن مصر وكانا أخوين فلما جاءهما رسول فرعون قالا لأمهما (دلينا) على قبر أبينا فدلتهما عليه فأتياه فصاحا باسمه فأجابهما فقالا: إن الملك وجه إلينا رسولا أن نقدم عليه، لأنه أتاه رجلان ليس معهما رجال ولا سلاح ولهما (عز ومنعة) وقد ضاق الملك ذرعا من عزهما، ومعهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لهما (شيء) تبلغ الحديد والحجر والخشب. فأجابهما أبوهما: انظرا إذا هما ناما فإن قدرتما أن تسلا العصا فسلاها فإن الساحر لا يعمل سحره إذا نام، وإن عملت العصا وهما نائمان فذلك أمر رب العالمين، ولا طاقة لكما به ولا الملك ولا جميع أهل الدنيا، فأتاهما في خفية وهما نائمان ليأخذا العصا فقصدتهما العصا قاله مقاتل.
قال موسى للساحر الأكبر: تؤمن بي إن غلبتك فقال لآتين بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأؤمنن بك وفرعون ينظر " * (قال) *) لهم فرعون حين آمنوا " * (آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر) *) صنيع وخديعة " * (مكرتموه) *) صنعتموه أنتم وموسى " * (في المدينة) *) في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع.
" * (لتخرجوا منها أهلها) *) بسحركم " * (فسوف تعلمون) *) ما أفعل بكم.
" * (لأقطعن أيديكم من خلاف) *) وهو أن يقطع من شق طرفا قال سعيد بن جبير: أول من قطع من خلاف فرعون " * (ثم لأصلبنكم أجمعين) *) على شاطئ نهر مصر " * (قالوا) *) يعني السحرة لفرعون " * (إنا إلى ربنا منقلبون) *) راجعون في الآخرة " * (وما تنقم منا) *) قرأ العامة بكسر القاف.
وقرأ الحسن وابن (المحيصن) بفتح القاف وهما لغتان نقم ينقم ونقم ينقم.
قال الشاعر
270

وما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون إن غضبوا
وقال الضحاك وغيره: يعني وما يطعن علينا. قال عطاء: ما لنا عندك من ذنب وما ارتكبنا منك مكروها تعذبنا عليه " * (إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) *) ثم (فزعوا) إلى الله عز وجل فقالوا " * (ربنا أفرغ) *) اصبب " * (علينا صبرا) *) أصبب علينا الصبر عند القطع والصلب حتى لا نرجع كفارا " * (وتوفنا مسلمين) *) واقبضنا إليك على دين موسى، فكانوا أول النهار كفارا سحرة وآخره شهداء بررة.
" * (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر) *) أتدع " * (موسى وقومه ليفسدوا) *) كي يفسدوا عليك ملكك عبيدك " * (في الأرض) *) في أرض مصر " * (ويذرك) *) يعني وليذرك.
وروى سليمان التيمي عن أنس بن مالك أنه قرأ ويذرك بالرفع والنون، (أخبروا) عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حيا فيصرفهم عنا.
وقرأ الحسن (ويذرك) بالرفع على تقدير المبتدأ، أي وهو يذرك، " * (آلهتك) *) فلا نعبدك ولا نعبدها. قال ابن عباس: كان لفرعون بقرة يعبدها وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، ولذلك أخرج السامري لهم عجلا.
وروى عمرو عن الحسين قال: كان لفرعون حنانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد عليها كأنه صنم كان عابده يحن إليه.
وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: كان فرعون يصنع لقومه أصناما صغارا ويأمرهم بعبادتها ويقول لهم: أنا رب هذه الأصنام، وذلك قوله " * (أنا ربكم الأعلى) *).
قال أبو عبيد: وبلغني عن الحسن أنه قيل له: هل كان فرعون يعبد شيئا؟ قال: نعم كان يعبد تيسا.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس وبكر بن عبد الله (الشعبي) والضحاك وابن أبي إسحاق: إلهتك بكسر الألف أي (إلهك) فلا يعبدك كما تعبد. قالوا: لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد.
وقيل أراد بالآلهة الشمس وكانوا يعبدونها.
قال (عيينة) بن (شهاب):
تروحنا من الأعيان عصرا
فأمحلنا الآلهة أن تؤوبا
271

بمعنى الشمس " * (قال) *) يعني فرعون سنقتل أبنائهم بالتشديد على التكثير. وقرأ أهل الحجاز بالتخفيف " * (ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) *) غالبون.
قال ابن عباس: كان فرعون يقتل بني إسرائيل في العام الذي قيل له إنه يولد مولود يذهب بملكك فلم يزل يقتلهم حتى أتاهم موسى (عليه السلام) بالرسالة فلما كان من أمر موسى ما كان أمر بإعادة عليهم القتل فشكت بنو إسرائيل إلى موسى (عليه السلام) فعند ذلك " * (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله) *) يعني أرض مصر " * (يورثها) *) يعطيها " * (من يشاء من عباده) *) وقرأ الحسن يورثها بالتشديد والاختيار والتخفيف لقوله تعالى وأورثنا الأرض " * (والعاقبة للمتقين) *) يعني النصر والظفر، وقيل: السعادة والشهادة، وقيل: الجنة.
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: لما آمنت السحرة اتبع موسى ست مائة ألف من بني إسرائيل " * (قالوا) *) يعني قوم موسى " * (أوذينا) *) بقتل الأبناء واستخدام النساء والتسخير. " * (من قبل أن تأتينا) *) بالرسالة " * (ومن بعد ما جئتنا) *) بالرسالة وإعادة القتل والتعذيب وأخذ الأموال والأتعاب في العمل.
قال وهب: كانوا أصنافا في أعمال فرعون فأما ذوو القوة منهم فيسلخون السوابي من الجبال وقد (.......) أعناقهم وعواتقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطع ذلك وقتله.
وطائفة أخرى قد (قرحوا) من ثقل الحجارة وسير (الليل) له، وطائفة يلبنون اللبن ويطنبون الأجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفاء بينهم عليهم الخراج ضريبة يودون كانت ضربت عليه الشمس، قيل: وإن يردى ضريبته غلت يده إلى عنقه شهرا، وأما النساء فيقرن أختان وينسجنه فقال موسى (عليه السلام) لهم " * (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) *) فرعون " * (ويستخلفكم في الأرض) *) ويسكنكم مصر من بعدهم بالتسخير والاستعباد وهم بنو إسرائيل " * (مشارق الأرض ومغاربها) *) يعني مصر والشام " * (التي باركنا فيها) *) بالماء والأشجار والثمار وإنما ذكر بلفظ (.....).
2 (* (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التى باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بنىإسرءيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون * وجاوزنا ببنىإسرءيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا ياموسى اجعل لنآ إلاها كما لهم ءالهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هاؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلاها وهو فضلكم على العالمين * وإذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفي ذالكم بلاء من ربكم عظيم) *) 2
272

(.......) فأورثهم ذلك بمهلك أهلها من العمالقة والفراعنة. " * (وتمت كلمة ربك الحسنى) *) يعني تمت كلمة الله وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين في الأرض. وذلك قوله عز وعلى " * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) *) إلى قوله " * (ما كانوا يخلدون) *).
وقيل: معناه (رحبت) نعمة ربك الحسنى " * (على بني إسرائيل) *) يعني أنهم مجزون الحسنى يوم القيامة " * (بما صبروا) *) على دينهم " * (ودمرنا) *) أهلكنا (فدمرنا) * * (ما كان يصنع فرعون وقومه) *) في أرض مصر من المغارات " * (وما كانوا يعرشون) *).
قال الحسن: وما كانوا يعرشون من الثمار والأعشاب.
وقال مجاهد: يعني يبنون البيوت، والقصور ومساكن وكان (غنيهم) غير معروش.
وقرأ ابن عامر وابن عباس: بضم الراء وهما لغتان فصيحتان عرش يعرش.
وقرأ إبراهيم بن أبي علية: يعرشون بالتشديد على الكسرة " * (وجاوزنا) *) قطعنا " * (ببني إسرائيل البحر) *) بعد الآيات التي رأوها والعير التي عاينوها.
قال الكلبي: عبر بهم موسى يوم عاشوا بعد هلاك فرعون وقومه وصام يومئذ شكرا لله عز وجل " * (فأتوا) *) فمروا " * (على قوم يعكفون) *) يصلون، قرأ
حمزة والكسائي يعكفون بكسر الكاف والباقون بالضم وهما لغتان " * (على أصنام) *) أوثان " * (لهم) *) أوثان لهم كانوا يعبدونها من دون الله عز وجل.
قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر وذلك أول (شأن) العجل.
قال قتادة: كانوا أولئك القوم من لخم وكانوا هؤلاء بالرمة، وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم فقالت بنو إسرائيل له عندما رأوا ذلك " * (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها) *) تمثالا نعبده " * (كما لهم آلهة قال) *) موسى " * (إنكم قوم تجهلون) *) عظمة الله ونعمته وحرمته.
وروى معمر عن الزهري عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بشجرة خضراء عظيمة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى (عليه السلام) اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده (لتركبن سنن) من كان قبلكم).
وروي عنه (عليه السلام) أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي أخذ الامم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع كما قالت فارس والروم)
273

" * (إن هؤلاء متبر) *) مهلك ومفسد ومخسر " * (ما هم فيه وباطل) *) مضمحل زائل " * (ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم) *) أطلب وأبغي لكم فحذف حرف الصفة لقوله (واختار موسى قومه) * * (إلها وهو فضلكم على العالمين) *) على أهل زمانكم " * (وإذ نجيناكم) *) قرأ أهل المدينة أنجيناكم، وقرأ أهل الشام وإذ أنجاكم وكذلك في مصاحفهم بغير نون.
" * (من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم) *).
قرأ نافع: (يقتلون) خفيفة من القتل على القليل، وقرأ الباقون التشديد على الكثير من القتل " * (ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) *))
.
* (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لاخيه هارون اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين * ولما جآء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرنىأنظر إليك قال لن ترانى ولاكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترانى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلمآ أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين * قال ياموسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ مآ ءاتيتك وكن من الشاكرين * وكتبنا له فى الالواح من كل شىء موعظة وتفصيلا لكل شىء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين * سأصرف عن ءاياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذالك بأنهم كذبوا بئاياتنا وكانوا عنها غافلين * والذين كذبوا بئاياتنا ولقآء الاخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) *) 2
" * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) *) ذا القعدة " * (وأتممناها بعشر) *) من ذي الحجة " * (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) *) وقال عند انطلاقه لأخيه هارون " * (اخلفني) *) كن خليفتي " * (في قومي وأصلح) *) وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله " * (ولا تتبع سبيل المفسدين) *) ولا تسلك طريق العاصين ولا تكن مرنا للظالمين، وذلك أن موسى وعد بني إسرائيل وهم بمصر إذا أهلك الله عدوهم واستنقذهم من أيديهم أتاهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون، فلما فعل الله ذلك بهم سأل موسى ربه الكتاب فأمره الله عز وجل صوم ثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة فلما تمت ثلاثون ليلة أنكر خلوق فمه فتسوك بعود (ضرنوب) فقالت له الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك
274

وقال أبو العالية: إنه أكل من لحاء الشجرة فأمره الله عز وجل بصوم عشرة أيام من ذي الحجة. وقال: أما علمت أن خلوق فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فكان فتنتهم في العشر التي زادها الله عز وجل " * (ولما جاء موسى لميقاتنا) *) أي الوقت سأله أن يكلمه فيه والميقات مفعال من الوقت كالميعاد والبلاد انقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.
قال المفسرون: إن موسى (عليه السلام) تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه فلما أتى بطور سيناء " * (وكلمه ربه) *) وناجاه وأدناه حتى سمع حروف القلم فاستجلى كلامه واشتاق (إلى رؤيته) وطمع فيها " * (قال ربي أرني أنظر إليك) *) قال ابن عباس: أعطني أنظر إليك " * (قال) *) الله تعالى " * (لن تراني) *) وليس بشرا (لا) يطيق النظر إلي في الدنيا، من نظر إلي مات، فقال له: سمعت كلامك واشتقت إلى النظر إليك (فلئن) أنظر إليك وأموت أحب إلي من أن أعيش ولا أراك فقال الله تعالى " * (ولكن انظر إلى الجبل) *) فهو أعظم جبل بمدين يقال له: زبير فلما سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلى منها الله لها وجعل زبير يتواضع من تبيان فلما رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينهما وخصه بالتجلي.
قال السدي: لما كلم الله موسى خاض الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج بين قدمي موسى فوسوس إليه وقال: إن مكلمك الشيطان فعند ذلك سأل الرؤية فقال الله تعالى: لن تراني (......) تعلقت (......) الرؤية بهذه الآية، ولا دليل لهم فيها لأن (لن) ههنا لا توجب التأبيد وإنما هي للتوقيت لقوله تعالى حكاية عن اليهود " * (لن يتمنوه أبدا بما قدمت) *) يعني الموت ثم حكى عنهم أنهم يقولون لمالك " * (يا مالك ليقض علينا ربك) *). و " * (ياليتها كانت القاضية) *) يعني الموت، وقال سبحانه " * (لن تنالوا البر) *) يعني الجنة " * (حتى تنفقوا مما تحبون) *) وقد يدخل الجنة من لا ينفق مما (علمت) فمعنى الآية لن تراني في الدنيا وإنما تراني في العقبى.
قال عبد العزيز بن يحيى: قوله " * (لن تراني) *) جواب قول موسى (أرني أنظر إليك) ولا تقع على الآخرة، لأن موسى لم يقل أرني أنظر إليك في الآخرة إنما
سأله الرؤية في الدنيا فأجيب عما سأل ولا حجة فيه لمن أنكر الرؤية.
وقيل: معنى " * (لن تراني) *) أي لا تقدر أن تراني، وقيل: معناه لن تراني بعين فانية وإنما تراني بعين باقية، وقيل: لن تراني قبل محمد وأمته وإنما تراني بعد محمد وأمته، وقيل: معناه
275

لن تراني بالسؤال والدعاء وإنما تراني بالنوال والعطاء إنه لو أعطاه إياه بسؤاله لكانت الرؤية مكافأة السؤال، ويجوز أن يكون فعله مكافأة فعل عبده ولا يجوز أن يكون هو مكافأة فعل عبده.
وقيل: معناه لن تراني بالعين التي رأيت بها عدوي وذلك أن الشيطان تراءى له فوسوس إليه، فقال الله تعالى: يا موسى أما تعلم أن رؤية الخبيث والله لا يجتمعان في حال واحد ومكان واحد وزمان واحد.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت علي بن مهدي الطبري يقول: لو كان سؤال موسى مستحيلا لما أقدم عليه نبي الله موسى (عليه السلام) مع علمه ومعرفته بالله عن اسمه كما لم تجز أن يسأله لنفسه صاحبة ولا ولدا.
وقال الله عز وجل: " * (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) *) واستقراره بكونه وثباته.
قال المتكلمون من أهل الشام: لما علق الله (الرؤية باستقراره) دل على جواز الرؤية لأن استقراره غير محال فدل على أن ما (علق) عليه من كون الرؤية غير محال أيضا ألا ترى أن دخول الكفار الجنة لما كان مستحيلا علقه بشيء مستحيل. وهو قوله " * (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) *).
وقال أهل الحكمة والإشارة: إن الكليم لما أراد الخروج إلى الميقات جعل بين قومه وبين ربه واسطة يقول لأخيه هارون: " * (اخلفني في قومي) *) فلما سأل الرؤية جعل الله تعالى بينه وبينها واسطة وهو الجبل لقوله تعالى " * (لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل) *) فقال: وكأنه يقول إن لم أصلح لخلافتك دون أخيك فأنت أيضا لأنه لم ترونني دون استقرار الجبل " * (فلما تجلى ربه للجبل) *).
قال وهب: لما سأل موسى الرؤية أرسل إليه الضباب والصواعق والظلمة والرعد والبرق فأحاطت بالجبل الذي عليه موسى فأمر الله ملائكة السماوات أن يعترضوا على موسى أربعة فراسخ من كل ناحية فمرت به ملائكة سماء الدنيا كثير، إن البقر تتبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كأصوات الرعد الشديد، ثم أمر الله ملائكة سماء الثانية أن اهبطوا على موسى فهبطوا عليه مثل الأسد لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى وسمع واقشعر كل شعرة في رأسه وجسده.
ثم قال: ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه؟
فقال له حبر الملائكة ورأسهم: يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم
276

هبطت ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تتبع بالتسبيح بالتقديس كجلب الجيش العظيم ولهب النار.
ثم هبطت عليه ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به من قبلهم.
ثم هبطت عليهم ملائكة السماء الخامسة سبعة ألوان فلم يستطيع أن يتبعهم طرفه ولم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفا واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له حبر الملائكة ورأسهم: يا بن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدي أراد أن يراني فاعترفوا عليه فهبطوا عليه في يد كل ملك مثل النخلة العظيمة الطويلة نار أشد ضوءا من الشمس ولباسهم كلهيب النار، إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم يقولون بشدة أصواتهم: سبوح قدوس رب العزة أبدا لا يموت، في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا وهو يبكي ويقول: رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أنقلب مما أنا فيه أم لا؟ إن خرجت أحرقت وإن مكثت مت، فقال له رأس الملائكة ورئيسهم: قد أوشكت يا ابن عمران أن يمتلئ جوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي جلست.
ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة وقال: أروه، فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب ورفعت ملائكة السماوات أصواتهم جميعا فارتج الجبل واندكت كل شجرة كانت فيه " * (وخر) *) العبد الضعيف " * (موسى صعقا) *) على وجهه ليس معه روحه فقلب الله الحجر الذي كان عليه موسى وجعله كالمعدة كهيئة القبة لئلا يحترق موسى، فأرسل الله تعالى إليه روح الحياة فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول: آمنت بأنك ربي وصدقت بأنه لا يراك أحد فيحيا. ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، لا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد لله لا شريك لك رب العالمين.
وقال السدي: حفت حول الجبل بالملائكة وحفت حول الملائكة بنار وحف حول النار بالملائكة وحف حول الملائكة بنار ثم تجلى ربك للجبل.
وقال ابن عباس: ظهر نور ربه للجبل جبل زبير، وقال الضحاك (أخرج) الله تعالى له من نور الحجب مثل منخر الثور.
277

وقال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار: ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط، يعني صار دكا.
وقال السدي: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر. يدل عليه ما روى عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية فقال: هكذا، ووضع الإبهام على
المفصل الأعلى من الخنصر، فساخ الجبل.
وقال سفيان: ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب معه.
وقال أبو بكر الهذلي: انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة.
وقال عطية العوفي: جعله دكا أي رملا هائلا، وقال الكلبي: جعله دكا أي كسرا جبالا صغيرا. قال الحسن: جعله دكا أي ذاهبا أصلا. وقال مسروق: صار صغيرا (كالرابية).
الحسن: أوحى الله تعالى إلى الجبل هل تطيق رؤيتي فغار الجبل وساخ في الأرض وموسى ينظر حتى ذهب أجمع.
وقال قطرب: فلما تجلى ربه أي: أمر ربه للجبل كقوله. " * (وأسأل القرية التي كنا فيها) *).
وقال المبرد: معناه فلما تجلى ربه آية للجبل جعله فعلا متعديا (كالتخلص والتبدل والتوعد).
وقال أبو بكر محمد بن عمر الوراق: حكي لي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من (وراء) سبعين ألف حجاب ضوءا قدر الدرهم فجعل الجبل دكا.
وقال أبو بكر: فعذب إذ ذاك كل ماء وأفاق كل مجنون وبرأ كل مريض. وزالت الأشواك عن الأشجار وخصبت الأرض وأزهرت وخمدت نيران المجوس. وخرت الأصنام لوجهها " * (جعله دكا) *) مستويا بالأرض. وقال ابن عباس: جعله ترابا.
عن معونة بن قرة عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " * (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) *): (طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة: أحد وورقان، ورضوى. ووقع ثلاثة بمكة ثور وثبيرة وحراء).
واختلفت القراءة في هذا الحرف، وقرأ عاصم " * (دكا) *) بالقصر والتنوين. والتي في الكهف بالمد، وقرأ غيره من أهل الكوفة وحمير (دكاء) ممدودة غير مجراه في التنوين.
278

وقرأ الباقون مقصورة الرفع منونة. وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، فمن قصره فمعناه جعله مدكوكا. والدك والدق بمعنى واحد لأن الكاف والقاف يتعاقبات، لقولهم: كلام رقيق وركيك، ويجوز أن يكون معناه: دكه الله دكا أي فته الله أغبارا لقوله " * (إذا دكت الأرض دكا) *) وقوله " * (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) *).
قال حميد:
يدك أركان الجبال هزمه
تخطر بالبيض الرقاق بهمه
ومن مده فهو من قول العرب ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام. وحينئذ يكون معناه: جعله أيضا دكاء، أي مستوية لا شيء فيها، لأن الجبل مذكر، هذا قول أهل الكوفة.
وقال نحاة البصرة: معناه فجعله مثل دكا وحذف مثل فأجرى مجرى " * (واسأل القرية) *) قال الأخفش: من مد قال في الجمع: دكاوات، وذلك مثل حمراوات وحمرة، ومن قال: أرض دك، قال في الجمع: دكوك، " * (وخر) *) أي وقع " * (موسى صعقا) *) قال ابن عباس: فغشي عليه، وقال قتادة: ميتا.
وقال الكلبي: خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة وأعطى التوراة يوم الجمعة (يوم النحر).
وقال الواقدي: لما خر موسى صعقا قالت ملائكة السماوات: ما لابن عمران وسؤاله الرؤية؟
وفي بعض الكتب أن ملائكة السماوات أتوا موسى وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون: يا بن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة.
" * (فلما أفاق) *) من صعقته وعقله عرف أنه قد فعل أمرا لا (ينبغي فعله) * * (قال سبحانك تبت إليك) *) من سؤالي الرؤية " * (وأنا أول المؤمنين) *) بأنك لا ترى في الدنيا (قال السدي) ومجاهد: وأنا أول من آمن بك من بني إسرائيل.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي قال: سمعت أبا القاسم النصر آبادي يحكي عن الجنيد (أنه قال:) جئت إليك من الأسباط في شيء لا تعقله نيتي، فأنا أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا لأن أول من سألك الرؤية (......).
279

قال ابن عباس: لما سار موسى إلى طور سيناء للميقات قال له ربه: ما تبتغي؟ قال: جئت أبتغي الهدي. قال قد وجدته يا موسى، فقال موسى: يا رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: أي عبادك أقصى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه فيسمع الكلمة تهديه إلى الهدى ويرد سنن ردئ.
وقال عبد الله بن مسعود: لما قرب الله موسى بطور سيناء رأى عبدا في ظل العرش جالسا فقال: (ما هذا)، قال: هذا عبد لا يحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله وبر بوالديه ولا يمشي بالنميمة.
فقال موسى: يا رب اغفر لي ما مضى من ذنبي وما مضى وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني، أعوذ بك من وسوسة نفسي وأعوذ بك من شر عملي. فقال: قد كفيت ذلك يا موسى، قال: يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمل به؟ قال: تذكرني ولا تنساني، قال: أي عبادك خير عملا؟ قال: من لا يكذب لسانه ولا يفجر قلبه ولا يزني فرجه (وهو ذو خلق حسن)، قال: فأي عبادك شر عملا؟ قال: فاجر في خلق سئ (جيفة ليل) بطال النهار. " * (اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي
فخذ ما آتيتك) *) أعطيتك " * (وكن من الشاكرين) *) لله سبحانه على نعمه.
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أحمد بن حمدون الفراتي. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن بكير الرازي، حدثنا الحسن بن علي بن يحيى بن سلام الإمام، حدثنا أحمد بن حسان بن موسى البلخي. حدثنا أبو عاصم إسماعيل بن عطاء بن قيس (الأموي) عن أبي حازم المدني عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما أعطى الله تعالى موسى الألواح فنظر فيه قال: يا رب لقد أكرمتني بكرامة لم تكرمها أحدا قبلي قال: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، بجد ومحافظة وموت على حب محمد صلى الله عليه وسلم
قال موسى: يا رب ومن محمد؟ قال: أحمد النبي الذي أثبت اسمه على عرشي من قبل أن أخلق السماوات بألفي عام، إنه نبيي وصفيي وحبيبي وخيرتي من خلقي وهو أحب إلي من جميع خلقي وجميع ملائكتي.
قال موسى: يا رب إن كان محمد أحب إليك من جميع خلقك فهل خلقت أمته أكرم عليك من أمتي؟ قال: يا موسى إن فضل أمة محمد على سائر الخلق كفضلي على جميع خلقي. قال: يا رب ليتني رأيتهم، قال: يا موسى إنك لن تراهم، لو أردت أن تسمع كلامهم أسمعتك، قال: يا رب فإني أريد أن أسمع كلامهم، قال الله تعالى: يا أمة أحمد، فأجبنا كلنا من أصلاب آبائنا
280

وأرحام أمهاتنا لبيك اللهم لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك. قال الله تعالى: يا أمة أحمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق حسابي قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم قبل أن تعصوني. من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي دخل الجنة ولو كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر. وهذا قوله عز وجل).
" * (وما كنت بجانب الطور إذ ناديناه وما كنت بجانب الغربي) *) إلى قوله " * (الشاهدين) *).
قال الثعلبي: وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن نصير المزكى، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا رشد بن سعيد عن سعيد بن عبد الرحمن المعافري عن أبيه أن كعب الأحبار رأى حبر اليهود يبكي قال: ما يبكيك؟
قال: ذكرت بعض الأمور.
فقال له كعب: أنشدك الله لئن أخبرتك ما أبكاك تصدقني؟
قال: نعم.
قال: أنشدك الله تجد في (الكتاب) المنزل أن موسى (عليه السلام) نظر في التوراة فقال: إني أجد أمة خير أمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله والرسول والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال، فقال موسى: رب اجعلهم أمتي، قال: هم أمة محمد يا موسى، قال الحبر: نعم.
قال: أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: رب إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم، وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار غير أن موسى كان يجمع صدقات بني إسرائيل فلا يجد عبدا مملوكا ولا أمة إلا اشتراه ثم أعتقه من تلك الصدقات فما فضل حفر له بئر عميقة القعر فألقاه فيها ثم دفنه كيلا يرجعوا فيه، وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون والمشفوع لهم.
قال موسى: اجعلهم أمتي؟ قال: هي أمة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم.
قال كعب: أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أن موسى (عليه السلام) نظر في التوراة، فقال: إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على نشر كبر الله وإذا هبط واديا حمد الله، الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا، يتطهرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، غير محجلون من آثار الوضوء، فاجعلهم أمتي؟ قال: هي أمة أحمد يا موسى، قال الحبر: نعم.
قال كعب: أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: رب
281

إني أجد أمة إذا هم أحدهم بحسنة لم يعملها كتبت له حسنة مثلها، وإن عملها ضعف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فإذا هم بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه وإن عملها كتبت سيئة مثلها.
قال: اجعلهم أمتي؟ قال: هي أمة أحمد يا موسى، قال الحبر: نعم.
قال كعب: أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة وقال: رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفيناهم، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد منهم أحدا إلا مرحوما. اجعلهم أمتي؟ قال: هي أمة أحمد يا موسى، قال الحبر: نعم.
قال كعب: أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة قال: رب إني أجد في التوراة أمة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة، يصفون في صلواتهم صفوف الملائكة أصواتهم (في مساجدهم) كدوي النحل، لا يدخل النار منهم أحدا أبد إلا من يرى الحساب مثل ما يرى الحجر من وراء الشجر، قال موسى: فاجعلهم أمتي؟ قال: هي أمة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم.
فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم قال: يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى الله عز وجل ثلاث آيات يرضيه بها هي "
* (يا موسى إني اصطفيتك على الناس) *) إلى قوله " * (دار الفاسقين) *) * * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) *) قال: فرضى موسى كل الرضا.
قوله تعالى " * (وكتبنا له) *) يعني لموسى " * (في الألواح) *).
قال الربيع بن أنس: كانت ألواح موسى (عليه السلام) من برد، وقال ابن جريج: كانت من زمرد أمر الله تعالى جبرئيل حتى جاء بها من عدن يكتبها بالقلم الذي كتب به (الذكر فاستمد) من بحر النور فكتب له الألواح.
وقال الكلبي: كانت الألواح زبرجدا خضراء وياقوتة حمراء كتب الله فيها ثماني عشرة آية من بني إسرائيل وهي عشر آيات في التوراة. قال وهب: أمره الله تعالى بقطع الألواح من صخرة صماء لينها الله له فقطعها بيده ثم شقها بإصابعه وسمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر، وكان ذلك أول يوم من ذي القعدة وكانت الألواح عشرة على طول موسى (عليه السلام).
وقال مقاتل وكعب " * (وكتبنا له في الألواح) *) كنقش الخاتم وكتب فيها: إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئا من أهل السماء ولا من أهل الأرض فإن كل ذلك خلقي ولا تقطعوا
282

السبل ولا تحلفوا باسمي كاذبا فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين.
وقال الربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى يوشع وعزير وعيسى (عليهم السلام)، وقال: هذه الآية ألف آية يعني قوله " * (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا) *) وتبيانا " * (لكل شيء) *) من الأمر والنهي الحلال والحرام والحدود والأحكام.
" * (فخذها بقوة) *) قال مقاتل: بجد ومواظبة. قال الضحاك: بطاعة " * (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) *) قال ابن عباس في رواية الكلبي: بأحسن ما أمروا (في) الأرض فيحلوا حلالها ويحرموا حرامها، وكان موسى أشد عداوة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به. وقال ابن كيسان وابن جرير: أحسنها الفرائض لأنه قد كان فيها أمر ونهي، فأمرهم الله تعالى أن يعملوا بما أمرهم به ويتركوا ما نهاهم عنه فالعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمنهي عنه.
وقيل: معناه أخذوا بها وأحسن عمله. وقال قطرب: يأخذوا بأحسنها أي بحسنها و (كلها حسن) كقوله " * (ولذكر الله أكبر) *) وقال الحسين بن الفضل: معنى قوله (أحسنها) أن يتخيل للكلمة معنيين أو ثلاثة فيصرفوا إلى الشبهة بالحق. وقيل: كان فيها فرائض لا مبرك لها وفضائل مندوبا إليها والأفضل أن يجمع بين الفرائض و (الفضائل).
" * (سأريكم دار الفاسقين) *) قال أهل المعاني: هذا كقول القائل لمن يخاطبه سأريك غدا إلى بصير (فيه قال) من يخالف أمري على وجه الوعيد والتهديد.
وقال مجاهد: " * (سأريكم دار الفاسقين) *) قال: مصيرهم في الآخرة. قال الحسن: جهنم، وقال قتادة وغيره: سأدخلكم النار فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة.
وقال عطية العوفي: معناه سأريكم دار فرعون وقومه وهي مصر يدل عليه.
قرأ ابن عباس وقسامة بن زهير: سأورثكم دار الفاسقين. وقال الكلبي: دار الفاسقين ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا. وقال ابن كيسان: سأريكم دار الفاسقين ما يصير قرارهم في (الأرض).
وقال ابن زيد: يعني سنن الأولين، وقيل: الدار الهلاك وجمعه أدوار. وذلك أن الله تعالى لما أغرق فرعون أوحى إلى البحر أن يقذف أجسادهم إلى الساحل ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم هلاك الفاسقين
283

وقال يمان: يعني مسكن فرعون.
" * (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) *) قال قوم: حكم الآية لأهل مصر خاصة يعني بقوله " * (آياتي) *) يعني الآيات التسع التي أعطاها الله سبحانه موسى (عليه السلام).
وقال آخرون: هي عامة، وقال ابن جريج وابن زيد: يعني عن خلق السماوات والأرض وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والبحور والشجر والنبات وغيرها أصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها، وقال الفراء أي الغرباني: إني أمنع قلوبهم عن التفكر في أمري.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي قال: سمعت أبا سعيد محمد بن نافع السجزي بهراة يقول: سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي قال: سمعت عبد الجبار بن العلاء العطار قال: سمعت سفيان بن عيينة وسئل عن هذه الآية: أحرمهم فهم القرآن.
سمعت أبا القاسم الحبيبي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي قال: سمعت العباس بن حمزة قال: سمعت ذا النون المصري يقول: أبى الله أن يكرم قلوب الظالمين مكتوب حكمة القرآن " * (وإن يروا) *) يعني هؤلاء المتكبرين.
قرأ مالك بن دينار فإن يروا بضم الياء أي يفعل بهم " * (سبيل الرشد) *) طريق الهدي والسداد " * (لا يتخذوه) *) لأنفسهم " * (سبيلا وإن يروا سبيل الغي) *) يعني الضلال والهلاك " * (يتخذوه سبيلا) *) وقرأ مجاهد وحميد وطلحة والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي: الرشد، بفتح الراء والشين وهما لغتان كالسقم والسقم
والحزن والحزن والبخل البخل، وكان أبو عمرو يفرق بينهما فيقول: الرشد بالضم والصلاح في الأمر كقوله: " * (فإن آنستم منهم رشدا) *) والرشد بفتح بفتحتين الاستقامة في الدين، وقرأ أبو عبد الرحمن الرشاد بالألف وهو مصدر كالعفاف والصلاح.
" * (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) *) لاهين ساهين لا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها " * (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة) *) ورؤية القيامة، وقيل: العالية في الآخرة " * (حبطت أعمالهم هل يجزون) *) في العقبى " * (إلا ما كانوا) *) أي جزاء ما كانوا " * (يعملون) *) في الدنيا.
(* (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين * ولما سقط فىأيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين * ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتمونى من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم
284

استضعفونى وكادوا يقتلوننى فلا تشمت بى الأعدآء ولا تجعلنى مع القوم الظالمين * قال رب اغفر لى ولأخى وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين * إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة فى الحيواة الدنيا وكذالك نجزى المفترين) *) 2
" * (واتخذ قوم موسى من بعده) *) أي من بعد انطلاقه إلى الجبل " * (من حليهم) *) التي استعاروها من قوم فرعون.
وكانت بنو إسرائيل في القبط بمنزلة أهل الجزية في الإسلام، وكان لهم يوم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فزامن ذلك عيدهم فاستعادوا الحلي للقبط فلما أخرجهم الله من مصر وغرق فرعون بقيت تلك الحلي في أيديهم فاتخذ السامري منها عجلا وهو ولد البقر " * (عجلا جسدا) *) مجسد لا روح فيه.
وقال وهب: جسدا لحما ودما " * (له خوار) *) وهو صوت البقر خار خورة واحدة ثم لم تعد. وقال وهب: كان يسمع منه الخوار إلا أنه لا يتحرك. وقرأ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: خوار بالجيم والهمز وهو الصوت أيضا واختلفت القراء في قوله (حليهم)، فقرأ يعقوب بفتح الحاء وجزم اللام وتخفيف الياء على الواحد.
وقرأ حمزة والكسائي: حليهم بكسر الحاء وتشديد الياء، الباقون بضم الحاء وهما لغتان مثل (صلى) وجثى وبكى (وعثى) يجوز فيها الكسر والضم " * (ألم يروا) *) يعني الذين عبدوا العجل من دون الله " * (أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا) *) قال الله " * (اتخذوه) *) عبدوه واتخذوه إلها " * (وكانوا ظالمين) *) كافرين " * (ولما سقط في أيديهم) *) أي ندموا على عبادة العجل وهذا من فصيحات القرآن.
والعرب تقول لكل نادم أو عاجز عن شيء: سقط في يديه وأسقط، وهما لغتان وأصله من (الاستئسار) وذلك أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره فيكتفه، والمرمي فيه مسقوط في يد الساقط.
" * (ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا) *) يتب علينا ربنا " * (ويغفر لنا) *) ويتجاوز عنا " * (لنكونن من الخاسرين) *) بالعقوبة " * (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) *) قال أبو الدرداء: الأسف منزلة وراء الغضب أشد منه، وقال ابن عباس والسدي: (رجع حزينا من صنيع قومه) قال الحسن بن غضبان: حزينا " * (قال بئسما خلفتموني من بعدي) *) أي بئس الفعل فعلتم بعد ذهابي، يقال: منه خلفه بخير أو شر إذا ألاه في أهله أو قومه بعد شخوصه عليهم خيرا أو شرا
285

" * (أعجلتم) *) أسبقتم " * (أمر ربكم وألقى الألواح) *) غضبا على قومه حين عبدوا العجل، وقال قتادة: إنما ألقاها حين سمع من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفي الألواح: قال: يا رب اجعلني من أمة محمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يرحم الله أخي موسى ما المخبر كالمعاين لقد أخبره الله بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره الله حق وأنه على ذلك لمتمسك بما في يديه، فرجع إلى قومه ورآهم فغضب وألقى الألواح).
قالت الرواة: كانت التوراة سبعة أسباع فلما ألقى الألواح تكسرت فوقع منها ستة أسباع وبقي سبع وكان فيها رقع موسى وفيما بقي الهدى والرحمة " * (وأخذ برأس أخيه) *) أي لحيته وذقنه " * (يجره إليه) *) وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين وأحب إلى بني إسرائيل من موسى، لأنه كان لين الغضب " * (قال) *) هارون عند ذلك يا " * (ابن أم) *) قرأ (أهل) الكوفة بكسر الميم هاهنا وفي طه أراد يا بن أمي فحذف ياء الإضافة، لأنه مبنى النداء على الحذف وأبقى الكسرة في الميم لتدل على الإضافة كقوله " * (يا عباد) *) يدل عليه، قراءة ابن السميقع: يا بن أمي بإثبات الياء على الأصل، وقرأ الباقون بفتح الميم فهما على معنى يا بن اماه جعل أصله إسما واحدا وبناه على الفتح كقولهم: حضرموت وخمسة عشر ونحوهما.
" * (إن القوم استضعفوني) *) باتخاذهم العجل " * (وكادوا) *) يعني هموا وقاربوا " * (يقتلونني فلا تشمت) *) بضم التاء وكسر الميم ونصب الأعداء قرأه العامة وقرأ مالك بن دينار فلا تشمت " * (بي الأعداء) *) بفتح التاء والميم الأعداء رفع " * (ولا تجعلني) *) في (موعدتك) علي وعقوبتك لي " * (مع القوم الظالمين) *) يعني أصحاب العجل " * (قال) *) موسى لما تبين له عذر أخيه " * (رب اغفر لي) *) ما صنعت إلي " * (ولأخي وادخلنا) *) جميعا أنا وأخي " * (في رحمتك وأنت أرحم الراحمين إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم) *) في الآخرة " * (وذلة في الحياوة الدنيا) *) قال أبو العالية: هو ما أمروا به من قتل أنفسهم.
وقال عطية العوفي: أراد سينالهم أولادهم (الكبير) كابرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب وذلة في الحياة الدنيا، وهو ما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء لتوليتهم متخذي العجل ورضاهم به، وقال ابن عباس: هو الجزية.
" * (وكذلك نجزي المفترين) *) الكاذبين قال أبو قلابة: هي والله جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة، قال يذله الله عز وجل.
وسمعت أبا عمرو الفراتي سمعت أبا سعيد بكر بن أبي عثمان الخيري سمعت السراج
286

سمعت سوار بن عبد الله الغزي سمعت أبي يقول: قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا (وتجد فوق) رأسه ذلة ثم قرأ " * (إن الذين اتخذوا العجل) *) الآية يعني المبتدعين.
(* (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وءامنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم * ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفى نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون * واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهآء منآ إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشآء وتهدى من تشآء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا فى هاذه الدنيا حسنة وفي الاخرة إنا هدنآ إليك قال عذابىأصيب به من أشآء ورحمتى وسعت كل شىء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكواة والذين هم بئاياتنا يؤمنون) *) 2
" * (والذين عملوا السيئات ثم تابوا) *) إلى قوله " * (ولما سكت عن موسى) *) يعني سكن عن موسى " * (الغضب) *) يدل عليه قراءة معاوية بن مغيرة: ولما سكن، بالنون.
قال أبو النجم:
وهمت الأفعى بأن تسيحا
وسكت المكاء أن يصيحا
وأصله الكف عن الشيء، ومنه الساكت عن الكلام.
" * (أخذ الألواح) *) التي ألقاها وذهب منها ستة أسباعها " * (وفي نسختها) *) أي فما نسخ منها.
قال عطاء: يعني فيما بقي منها، ولم يذهب من الحدود و (الأحكام) شيء فقال ابن عباس: وعمرو بن دينار: صام موسى أربعين يوما فلما ألقى الألواح فتكسرت صام مثلها فردت عليه وأعيدت له في لوحين مكان الذي انكسر (ولم يفقد منها شيئا) * * (هدى ورحمة) *).
قال ابن عباس: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب " * (للذين هم لربهم يرهبون) *) (يخلفون) وقال الراجز:
يصنع الجزع فيها أو استحيوا
للماء في أجوافها خريرا أي من أصل الجزع " * (واختار موسى قومه) *) أي من قومه فلما نزع حرف الصفة نصب كقول الفرزدق:
ومنا الذي أختير الرجال سماحة
وبرا إذا هب الرياح (الزعازع
287

وقال آخر:
اخترتك للناس إذ رثت خلائقهم
واعتل من كان يرجى عنده السؤل
أي من الناس، واختلفوا في سبب اختيار موسى السبعين.
وقال السدي: أمر الله أن سيأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعد موعدا، واختار موسى من قومه " * (سبعين رجلا) *) ثم ذهب إليه ليعتذر فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وإنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا.
وقال ابن إسحاق: اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوه ويسألوه التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم.
وقال مجاهد: اختارهم لتمام الموعد.
وقال وهب: قالت بنو إسرائيل لموسى (عليه السلام): إن طائفة يزعمون أن الله لا يكلمك ولو كلمك فأقمت لكلامه ألم تر أن طائفة منا سألوه النظر إليه فماتوا فلا تسأله أن (ينزل) طائفة منا حتى يكلمك فيسمعوا كلامه فيؤمنوا وتذهب التهمة، فأوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) أن اختر من خيارهم سبعين رجلا، ثم ارتق بهم إلى الجبل أنت وهارون. واستخلف على بني إسرائيل يوشع بن نون يقول كما أمر الله تعالى واختار سبعين رجلا.
روى المنهال عن الربيع بن حبيب قال: سمعنا أبا سعيد الرقاشي وقرأ هذه الآية قال: كان السبعون ابنا ما عدا عشرين. ولم يتجاوز الأربعين. وذلك أن ابن عشرين قد ذهب (جماله) وصباه وأن من لم يتجاوز الأربعين لم يعد من عقله شيء. وقال الآخرون: كانوا شيوخا.
قال الكلبي: اختار موسى سبعين رجلا لينطلقوا إلى الجبل فلم يصب إلا ستين شيخا وأوحى الله تعالى إليه أن يختار من الشباب عشرة فاختار وأصبحوا شيوخا فاختار من كل سبط ستة رهط فصاروا اثنين وسبعين.
فقال موسى: إنما أمرت سبعين رجلا فاستخلف منكم رجلان فتشاجروا على ذلك. فقال: إن لمن قعد مثل أجر من خرج، فقعد رجلان أحدهما كالب بن (يوقيا) والآخر يوشع بن نون.
فأمر موسى السبعين أن تصوموا وتطهروا، وتطهروا ثيابكم ثم خرج بهم إلى طورسيناء لميقات ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وذلك قوله تعالى: " * (واختار موسى
قومه سبعين رجلا لميقاتنا) *) * * (فلما أخذتهم الرجفة) *) اختلفوا في كيفية هذه الرجفة وسبب أخذها إياهم.
فقال ابن إسحاق والسدي: إنهم لما أتوا ذلك المكان قالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام
288

ربنا فقال: أفعل، فلما دنا موسى (عليه السلام) من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى يغشي الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل أن ينظر إليه، فضرب دونه الحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وهو عمود فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره فيها: افعل لا تفعل فلما فرغ انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعا.
وقال ابن عباس: إن السبعين الذين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة، وإنما أمر الله موسى أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختارهم وبرزهم ليدعوا ربهم، فكان فيما دعوا أن قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطيه أحدا بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قبل هارون، وذلك أن موسى وهارون وشبر وشبير (عليهم السلام) انطلقوا إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفاه الله فلما مات دفنه موسى فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفاه الله، فقالوا: بل أنت قتلته (عمدا) على خلقه ولينه، قال: فاختاروا من شئتم، فاختاروا سبعين رجلا وذهب بهم، فلما انتهوا إلى القبر قال موسى: يا هارون أقتلت أم توفيت؟
فقال هارون: ما قتلني أحد. ولكن الله توفاني إليه.
فقالوا: يا موسى لن تقص بعد اليوم فأخذتهم الرجفة وصعقوا وماتوا، وقال موسى: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم، يقولون: أنت قتلتهم فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم.
وقال ابن عباس: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يرضوا ولم ينهوا عن العجل، وقال قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب: أخذتهم الرجفة لأنهم لم (يزايلوا) قومهم حين عبدوا العجل ولم يأمروهم بالمعروف ولم ينهوهم عن المنكر.
وقال وهب: لم تكن تلك الرجفة موتا ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرجفة وخلقوا فرجفوا حتى كادت أن تبين مفاصلهم وتنقص ظهورهم فلما رأى ذلك موسى (عليه السلام) رحمهم وخاف عليهم الموت واشتد عليه فقدهم وكانوا له ولدا على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكى وناشد ربه فكشف الله عنهم تلك الرجفة والرعدة فسكنوا واطمأنوا وسمعوا كلام ربهم فذلك قوله " * (قال) *) يعني موسى " * (رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي) *) بقتل القبطي " * (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) *) يعني عبدة العجل. وظن موسى أنه عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل
289

وقال السدي: أوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل وكان موسى لا يعلم ذلك فقال موسى: يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت أخيارهم وليس معي رجل واحد فما الذي يصدقوني به ويأمنونني عليه بعد هذا، فأحياهم الله، وقال (المبرد): قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا استعلام واستعطاف أي لا تهلكنا قد علم موسى أن الله أعدل من أن يؤاخذ بجريرة الجاني غيره ولكنه كقول عيسى: " * (أن تعذبهم فإنهم عبادك) *) الآية.
" * (إن هي إلا فتنتك) *) أي اختيارك.
قال سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع: محنتك، وقال ابن عباس: عذابك تصيب به من تشاء وتصرفه عن من تشاء " * (تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا) *) ناصرنا ومولانا وحافظنا " * (فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا) *) أي حقق (ووفقنا للأعمال الصالحة) يقال: (كتب) الله عليك السلامة " * (في هذه الدنيا حسنة) *) يعني الأعمال الصالحة " * (وفي الآخرة) *) يعني المغفرة والجنة " * (إنا هدنا إليك) *) قرأ أبو رجزة السعدي: وكان مصححا من القراء شاعرا هدنا بكسر الهاء يقال: هاد يهيد ويهود إذا رجع وتحرك (فأدله الميل) قال الشاعر:
قد علمت سلمى (رجلا)
أني من الناس لها هايد
" * (قال) *) الله تعالى: " * (عذابي أصيب به من أشاء) *) من خلقي وقال الحسن وابن السميقع: من أشاء (......) من الإشاءة " * (ورحمتي وسعت) *) عمت " * (كل شيء) *) قال الحسن وقتادة: إن رحمته في الدنيا وسعت البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة.
وقال عطية العوفي: وسعت كل شيء ولكن لا يجيب إلا الذين يتقون، وذلك أن الكافر يرزق ويدفع عنه بالمؤمن لسعة رحمة الله للمؤمن يعيش فيها، فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمسير في كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه، قال أبو روق: ورحمتي وسعت كل شيء يعني الرحمة التي قسمها بين الخلائق يعطفه بها بعضهم على بعض، وقال ابن زيد: (ورحمتي وسعت كل شيء) هو التوبة، وقال آخرون: لفظه عام ومعناه خاص لهذه الأمة.
وقال ابن عباس وقتادة وابن (جرير) وأبو بكر الهذلي: لما نزلت هذه الآية " * (ورحمتي وسعت كل شيء) *) قال إبليس: أنا من ذلك الشيء ونزعها الله من إبليس فقال " * (فسأكتبها للذين
290

يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) *) فقالت اليهود والنصارى نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها الله منهم وجعلها لهذه الأمة.
(* (الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث
ويضع عنهم إصرهم والاغلال التى كانت عليهم فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذىأنزل معه أولائك هم المفلحون * قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا الذى له ملك السماوات والارض لاإلاه إلا هو يحى ويميت فئامنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون * ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) *) 2
" * (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) *) الآية قال نوف البكالي الحميري: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله تعالى لموسى أجعل لكم في الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر وأجعل السكينة في قلوبكم وأجعلكم تقرأون التوراة عن ظهور قلوبكم، يقرأها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير.
فقال ذلك موسى لقومه فقالوا: لا نريد أن نصلي في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، ونريد أن تكون كما كانت في التابوت، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهور قلوبنا، ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا، فقال الله " * (فسأكتبها للذين يتقون) *) إلى قوله " * (المفلحون) *) فجعلها الله لهذه الأمة، فقال موسى: رب اجعلني نبيهم، فقال: نبيهم منهم، قال: رب اجعلني منهم، قال: إنك لن تدركهم، فقال موسى: يا رب أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل الله تعالى " * (ومن قوم موسى أمة يهدون) *) أنفسهم " * (بالحق وبه يعدلون) *) فرضي موسى، قال نوف: إلا تحمدون ربا حفظ غيكم وأجزل لكم سهمكم وجعل وفادة بني إسرائيل لكم.
واختلف العلماء في معنى الأمي.
فقال ابن عباس: هو منكم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحاسب قال الله تعالى " * (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) *) وقال صلى الله عليه وسلم (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحاسب)
291

وقيل: هو منسوب إلى أمته كأن أصله أمتي فسقطت التاء من النسبة كما سقطت من اليكي والمدى.
وقيل: منسوب إلى أم القرى وهي مكة أم القرى " * (الذي يجدونه) *) أي صفته ونبوته ونعته وأمره " * (مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) *) قال عطاء بن يسار: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن. " * (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) *) وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله فيفتح به قلوبا غلفا وآذنا صما وأعينا عميا.
قال عطاء: ثم لقي كعبا فسأله عن ذلك فما اختلفا حرفا إلا أن كعبا قال: بلغته قلوبا غلوفيا وآذانا صمويا وأعينا عموميا.
وروى كعب في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مولده مكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون يحمدون الله على كل حال وفي كل منزلة، يوضئون أطرافهم و (ويتورون) إلى (الجهاد) وفيهم وعاة الشمس ويصلون الصلاة حيث أدركتهم ولو على ظهر الكناسة، صفهم في القول مثل صفهم في الصلاة ثم قرأ " * (إن الذين يقاتلون في سبيله صفا) *).
وقال الواقدي: حدثني عثمان بن الضحاك عن يزيد بن (الهادي) عن ثعلبة بن مالك أن عمر بن الخطاب أنه سأل أبا مالك عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وكان من علماء اليهود، فقال: صفته في كتاب بني هارون الذي لم يغير ولم يبدل أحد من ولد إسماعيل بن إبراهيم ومن آخر الأنبياء وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، يأتزر على وسطه ويغسل أطرافه في (عينيه) حمرة وبين كتفية خاتم النبوة مثل زر الحجلة، ليس بالقصير ولا بالطويل، يلبس الشملة ويجرى بالبلغة ويركب الحمار ويمشي في الأسواق، معه حرب وقتل وسبي سيفه على عاتقه لا يبالي من لقي من الناس، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة.
مولده بمكة ومنشأه بها وبدء نبوته بها ودار هجرته يثرب بين جرة ونخل (وسبخة) وهو أمي لا يكتب بيده، هو بجهاد، يحمد الله على كل شدة ورخاء، سلطانه الشام، صاحبه من الملائكة
292

جبرئيل يلقى من قومه أذى شديدا. ويحبونه حبا شديدا ثم يدال على قومه يحصرهم حصر (الجرين)، يكون له وقعات في يثرب، منها له ومنها عليه، ثم يكون له العاقبة يعد معه أقوام هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم قربانهم دماؤهم ليوث النهار ورهبان بالليل يرعب منه عدوه بمسيرة شهر، يباشر القتال بنفسه حتى يخرج ويكلم لا شرطة معه ولا حرس يحرسه.
" * (يأمرهم بالمعروف) *) أي بالايمان " * (وينهاهم عن المنكر) *) يعني الشرك، وقيل: المعروف والشريعة والسنة والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة.
وقال عطاء: يأمرهم بالمعروف وبخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام ينهاهم عن المنكر عن عبادة الأصنام وقطع الأرحام " * (ويحل لهم الطيبات) *) يعني الحلالات التي كانت أهل الجاهلية تحرمها: البحائر السوائب والوصائل والحوامي " * (ويحرم الخبائث) *) يعني لحم الخنزير والدم والميتة والربا وغيرها من المحرمات. " * (ويضع عنهم إصرهم) *) ابن عباس والحسن والضحاك والسدي ومجاهد يعني: جهدهم الذي كان يأخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة. وقال ابن زيد وقتادة: يعني الشدائد الذي كان عليهم في الدين " * (والأغلال) *) يعني الأثقال " * (التي كانت عليهم) *) (بما أمروا) به من قتل الأنفس في التوراة وقطع الأبهاء، شبه ذلك بالأغلال كما قال الشاعر:
فليس لعهد الدار يا أم مالك
ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل
سوى العدل شيئا واستراح العواذل
فشبه حدود الإسلام وموانعه عن التخطي إلى المحذورات بالسلاسل المحيطات بالرقاب " * (والذين آمنوا به وعزروه) *) أعانوه ووقروه " * (ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه) *) يعني القرآن " * (أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض) *) إلى قوله تعالى: " * (بالله وكلماته) *).
قال قتادة: وآياته. وقال مقاتل والسدي: يعني عيسى ابن مريم " * (واتبعوه لعلكم تهتدون ومن قوم موسى) *) يعني بني إسرائيل " * (أمة) *) جماعة " * (يهدون بالحق) *) أي يرشدون إلى الحق، وقيل: خلفاء يهتدون ويستقيمون عليه ويعملون به " * (وبه يعدلون) *) أي ينصفون من أنفسهم ويحمدون.
وقال السدي: هم قوم بينكم وبينهم (قوم) من سهل
293

وقال ابن جريج: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم (وبينه) ففتح الله عليم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصف حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هناك حقا مسلمون يستقبلون قبلتنا.
قال الكلبي والربيع والضحاك وعطاء: هم قوم من قبل المغرب خلف الصين على نهر من الرمل يسمى نهر أودق وليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويصبحون بالنهار ويزرعون لا يصل إليهم منا أحد ولا منهم إلينا أحد وهم على الحق وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرئيل (ذهب إليهم ليلة) أسري به فكلمهم فقال لهم جبرئيل: هل تعرفون من تكلمون؟
قالوا: لا.
قال: هذا محمد النبي فآمنوا به، وقالوا: يا رسول الله إن موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه مني السلام.
فرد محمد صلى الله عليه وسلم على موسى: فعليه السلام، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم يكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة فأمرهم بالصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا وأن يتركوا السبت.
2 (* (وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطا أمما وأوحينآ إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * وإذ قيل لهم اسكنوا هاذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السمآء بما كانوا يظلمون) *) 2
" * (وقطعناهم) *) يعني بني إسرائيل " * (اثنتي عشرة أسباطا أمما) *) روى أبان بن يزيد العطار عن عاصم: وقطعناهم بالتخفيف وأراد بالأسباط القبائل والفرق ولذلك أنشأ العدد والأسباط جمع مذكر.
قال الشاعر:
وإن قريشا كلها عشر أبطن
وأنت بريء من قبائلها العشر
فذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة فلذلك كان (البطن) مذكر وإنما قال: (أسباطا أمما)
294

بالجمع ولا يقال: أتاني اثنا عشر رجالا، لأنه أراد الأعداد والجموع فأقام كل عدد مقام واحد، وقيل: معناه وقطعناهم أسباطا أمما اثني عشر.
" * (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه) *) في التيه " * (أن اضرب بعصاك الحجر) *) قال عطاء: كان الحجر أربعة وجوه لكل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين لا يخالطهم سواه " * (فانبجست) *) أخصبت وانفجرت.
قال أهل التفسير: انبجست وانفجرت واحد، وكان أبو عمرو بن العلاء يفرق بينهما فيقول انبجست عرفت وانفجرت (سالت).
قال عطاء: كان يظهر على كل موضع من الحجر يضربه موسى (عليه السلام) مثل ثدي المرأة فيعرق أولا ثم يسيل " * (قد علم كل أناس) *) من كل سبط " * (مشربهم) *) لا يدخل سبط على غيره في شربه وكل سبط من أب واحد. " * (وضللنا عليهم الغمام) *) في التيه يقيهم من الشمس " * (وأنزلنا عليهم المن والسلوى) *) إلى قوله: " * (يغفر لكم خطاياكم) *) وقرأ أهل المدينة يغفر (بياء) مضمومة وخطاياكم بالرفع، وقرأ ابن (عامر) بتاء مضمومه.
2 (* (وسئلهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذ يعدون فى السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذالك نبلوهم بما كانوا يفسقون * وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون * فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) *) 2
" * (وسئلهم) *) واسأل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال تقرير وتوبيخ " * (عن القرية التي كانت حاضرة البحر) *) أي بقربه وعلى شاطئه، واختلفوا فيها فروى عكرمة عن ابن عباس قال: هي قرية يقال لها ايلديس مدين والطور.
وروى علي بن أبي طلحة عنه فقال: هي قرية على شاطئ البحر من مصر والمدينة يقال لها: ايله وقال ابن زيد: هي قرية يقال لها: مقنى بين مدين وعينونا، وقيل: هي الطبرية " * (إذ يعدون في السبت) *) أي يتجاوزون أمر الله وقرأ أبو نهيك إذ تعدون بضم الياء وكسر العين بتثقيل الدال من الأعداد يريد (يهيبون) الآلة لأخذها.
وقرأ ابن السميقع: في الاسبات، على جمع السبت " * (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا) *) قرأ ابن عبد العزيز يوم إسباتهم شرعا إلى (شراع) ظاهرة على الماء كثيرة، وقال الضحاك: متتابعة " * (ويوم لا يسبتون) *) أي لا يفعلون السبت. يقال سبت يسبت سبتا وسبوتا إذا أعظم السبت
295

وقرأ الحسن: يسبتون بضم الياء أي يدخلون في السبت كما يقال أجمعنا وأشهرنا أي دخلنا في الجمعة والشهر " * (لا تأتيهم كذلك نبلوهم) *) نختبرهم " * (بما كانوا يفسقون) *) وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن سمعت إبراهيم بن (محارب) بن إبراهيم سمعت أبي يقول: سألت الحسين بن الفضل هل تجد في كتاب الله الحلال لا (يأتيك) إلا قوتا والحرام يأتيك جزفا جزفا؟ قال: نعم، في قصة داود وتأويله: " * (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) *).
قال عكرمة: جئت ابن عباس يوما فإذا هو يبكي ووضع المصحف في حجرة فقلت: مايبكيك جعلني الله فداك. قال: هؤلاء الورقات فإذا هو في سورة الأعراف، فقال: تعرف الآية؟ قلت: نعم، قال: فإنه كان بها حي من اليهود في زمن داود حرم عليهم الحيتان في السبت، وذلك أن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتهم به يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلوا به وحرم عليهم فيه الصيد فأمروا بتعظيمه إن أطاعوا لم يؤجروا وإن عصوا عذبوا، وكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضاء سمانا كأنها الماخض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم حتى لا يرى الماء من كثرتها ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا كذلك برهة من الدهر.
ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فأتخذوا الحياض وكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة) فتسقي (فيها ولا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد.
وقال ابن زيد: كانوا قد قربوا بحب الحيتان وكان في غير يوم السبت لا تأتيهم حوت واحد فأخذ رجل منهم حوتا فربط في ذنبه خيطا فأخذه وشواه فوجد جار له ريح الحوت. فقال له: يا فلان أنا أجد في بيتك ريح نون، قال: لا فتطلع في تنوره فإذا هو فيه فقال: إني أرى الله سيعذبك، فلما لم يره عذب ولم يعجل عليهم بالعذاب أخذ في السبت الأخرى حوتين اثنين.
فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم أكلوا وملحوا وباعوا وأثروا وكثر مالهم، وكانوا نحوا من سبعين ألف، فصارت أهل القرية (ثلاثا): ثلث نهوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا وثلث قالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم، وثلث أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا قال المسلمون: لا (نسألهم) فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود (عليه السلام) فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأنا لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فنظروا فإذا بهم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم وعرفت القردة (أنسابها) من الأنس. ولا تعرف الأنس أنسابهم من القرود. فجعلت القردة تأتي نسيبها من
296

الأنس وتشم ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم؟ فتقول برأسها: نعم.
قال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم.
واختلف العلماء في الفرقة الذين قالوا: (لم تعظون قوما) كانت من الناجية أو من الهالكة؟ فقال بعضهم: كانت من الناجية لأنها كانت من الناهية.
وقال آخرون: كانت من الفرقة الهالكة، لأنهم كانوا من الخاطئة وذلك أنهم لما نهوا وقالوا لهم انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب فإنا قد علمنا أن الله تعالى منزل عليكم بأسه إن لم تنتهوا قالوا لهم " * (لم تعظون قوما الله مهلكهم) *) إذ علمتم أن الله معذبهم " * (أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم) *) أي هذه معذرة، وقرأ حفص: معذرة أي يفعل ذلك معذرة " * (ولعلهم يتقون) *) صيد الحيتان والصواب أنها كانت من الفرقة الناجية وأن هذا الكلام من قول المؤمنين بعضهم لبعض لأنه لو كان الخطاب للمعتدين لقالوا: ولعلكم تتقون يدل عليه قول يمان بن رئاب نحن الطائفتان اللذان قالوا " * (لم تعظون قوما الله مهلكهم) *) والذين قالوا " * (معذرة إلى ربكم) *) فأهلك الله أهل المعصية الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وخنازير.
وقال ابن عباس: ليت شعري ما فعل هؤلاء الذين قالوا: " * (لم تعظون قوما الله مهلكهم) *) قال عكرمة: فقلت له: جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا: " * (لم تعظون قوما الله مهلكهم) *) فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا فكساني حلة.
" * (فلما نسوا ما ذكروا به) *) تركوا ما وعظوا به " * (أنجينا الذين ينهون عن السوء) *) أي المعصية " * (وأخذنا الذين ظلموا) *) أي عاقبنا باعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرم الله " * (بعذاب بئيس) *) شديد وجيع من البأس وهو الشدة والفعل منه بؤس يبئوس، فاختلف القراء فيها فقرأ أهل المدينة بيس بكسر الباء وجزم الياء من غير همزة على وزن فعل، وقرأ ابن عامر كذلك على وزن فعل إلا أنه الهمزة.
وقرأ عاصم: في رواية أبي بكر: بيئس بفتح الباء وجزم الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل ويثرب.
كما قال الشاعر:
كلاهما كان رئيسا بيئسا
يضرب في الهيجاء منه القونسا
297

وقرأ بعضهم: بيئس بفتح الباء وكسر الهمزة على وزن فعل مثل (حذر) كقول ابن قيس الرقيات:
ليتني ألقى رقية في
خلوة من غير ما بيئس
وقرأ الحسن: بكسر الباء وفتح السين على معنى بيئس العذاب.
وقرأ مجاهد: بايئس على وزن فاعل وقرأ أبو أياس بفتح الباء والياء من غير همزة.
وقرأ نصر بن عاصم: بيئس بفتح الباء وكسر الياء مشددا من غير همزة.
وقرأ بعض أهل مكة بئيس بكسر الياء والهمزة كما يقال: بعر للبعير. وقال أهل اللغة: كل فعل ثانية أحد حروف الحلق فإنه يجوز كسر أوله مثل بعير وصغير ورحيم و (حميم) وبخيل، وقرأ الباقون بئيس على وزن فعيل وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن فعيلا أشبهه بصفات (التعريف) كقول ذي الإصبع العدواني:
لقد رأيت بني أبيك
محمجين إليك شوسا
حنقا علي ولن ترى
لي فيهم أثرا بئيسا
وقوله " * (فلما عتوا عما نهوا عنه) *) قال ابن عباس: أبوا أن يرجعوا عن المعصية " * (قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) *) صاغرين. قال سعيد بن جبير: رأى موسى (عليه السلام) رجلا يحمل قصبا يوم السبت فضرب عنقه، أبو روق: الخاسئون الذين لا يتكلمون.
وقال المؤرخ مبعدين كما بعد الكلاب. قال ابن عباس: (مكثوا) ثلاث أيام ينظر إليهم الناس ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يتناسلوا ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيام.
قال مقاتل: عاشوا سبعة أيام يعرف الكبير بكبره والصغير بصغره، ثم ماتوا.
وروى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لم يمسخ شيئا فجعل له نسلا وعاقبه.
2 (* (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم * وقطعناهم في الارض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذالك
298

وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون * فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هاذا الادنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون * والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلواة إنا لا نضيع أجر المصلحين * وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) *) 2
" * (وإذ تأذن ربك) *) أذن وأعلم ربك مثل قولهم تعلم بمعنى أعلم. وأنشد المبرد:
تعلم أن خير الناس حي
ينادي في شعارهم يسار
وقال زهير:
فقلت تعلم أن للصيد غرة
فان لا تضيعها فإنك قاتله
وقال ابن عباس: (تأذن ربك) قال ربك، وقال مجاهد: أمر ربك، وقال عطاء: حتم، وقال أبو عبيد: أخبر، وقال قطرب: وعد.
" * (ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) *) هم اليهود بعث الله عليهم محمدا وأمته يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وقال سعيد بن جبير: هم أهل الكتاب بعث الله عليهم العرب يجبونهم الخراج إلى يوم القيامة فهو سوء العذاب ولم يجب نبي قط الخراج إلا موسى (عليه السلام) فهو أول من وضع الخراج فجباه ثلاث عشرة سنة ثم أمسك " * (فخلف من بعدهم خلف) *) أي حضرت وجاء وتبدل من بعد هؤلاء الذين وصفناهم خلف.
قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد والواحد والجميع فيه سواء والخلف بفتح اللام البدل ولدا كان أو غريبا، وقال الآخرون: هم خلف سوء.
وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح و (بالجزم) الصالح. قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للردئ من الكلام: خلف، ومنه المثل السائر: سكت الفا وبطن خلفا.
وقال النضر بن شميل: الخلف بجزم اللام واسكانها في غير القرآن السوء واحد، فأما في القرآن الصالح (بفتح) اللام لا غير، وأنشد:
299

إنا وجدنا خلفا بئس الخلف
عبدا إذا ما ناء بالحمل خضف
وقال محمد بن جرير الطبري: أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح ومن ذلك قول حسان بن ثابت:
لنا القدم الأولى وإليك وخلفنا
لأولنا في طاعة الله تابع
قال: واحسب أنه إذا وجه إلى الفساد مأخوذ من قولهم: خلف اللبن وحمض من طول تركه في السقاء حتى تفسد، ومن قولهم: خلف فم الصائم إذا تغير ريحه وفسد، فكان الرجل الفاسد مشبه به.
" * (ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى) *) والعرض متاع الدنيا أجمع. والعرض بسكون الراء ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير.
قال المفسرون: (إن) اليهود ورثوا كتاب الله فقرأوه وعلموه وضيعوا العمل به وخالفوا حكمه يرتشون في حكم الله وتبديل كتاب الله وتغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (ويقولون سيغفر لنا) *) ذنوبنا ما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل تمنيا على الله الأباطيل.
" * (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) *). قال سعيد بن جبير: وإن عرض لهم ذنب آخر عملوه.
وقال مجاهد: ما أشرف لهم في اليوم من شيء من الدنيا الحلال أو حرام يشتهونه أخذوه. وكلما وهف لهم شيء من الدنيا أكلوه وأخذوا من الدنيا، ما وهف أي ما سهل، لا يبالون حلالا كان أو حراما ويبتغون في المغفرة فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه.
قال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم. وإن خيارهم اجتمعوا فأخذوا منهم بعض العهود أن لا يفعلوا فجعل الرجل منهم إذا استقضى وارتشى يقال له: مالك ترتشي في الحكم، فيقول: سيغفر لي، فيطعن عليه البقية (عرض) من بني إسرائيل فيما صنع، فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجلا ممن كان يطعن فيرتشي فيقول وأن يأتي الآخرين عرض مثله يأخذوه ومعناه: وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض مثله يأخذوه كما أخذ أسلافهم. والأدنى تذكير الدنيا وعرض هذه الدار الدنيا فلما ترك الاسم المؤنث ذكر النعت لتذكير اللفظ
300

سمعت أبا القاسم الحبيبي قال: سمعت أبا بكر محمد بن عبد (....) يقول فيه تقديم وتأخير أي: يأخذون هذا العرض الأدنى " * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه) *) وقرأوا ما فيه، وقرأ السلمي: ادارسوا أي تدارسوا مثل إذا زكوا أي قارأ بعضهم بعضا.
" * (والدار الآخرة خير للذين يتقون) *) الشرك والحرام " * (أفلا تعقلون) *) بالياء قرأ أكثر القراء على الخبر.
وقرأ الحسن وابن الأشهب بالتاء على الخطاب " * (والذين يمسكون الكتاب) *) قرأ عمر بن الخطاب وأبو العالية وعاصم ورواية أبي بكر بسكون خفيفة. وقرأ الباقون بسكون التشديد.
قال أبو عبيد وأبو حاتم: لأنه يقال تمسكت بالشيء ولا يقال أمسكت بالشيء: إنما يقال أمسكته ويدل عليه قراءة أبي ابن كعب (والذين مسكوا الكتاب) على الماضي وهو جيد لقوله: (وأقاموا الصلاة) إذ قال ما يعطف (من) على مستقبل إلا في المعنى.
وقرأ الأعمش: (والذين استمسكوا بالكتاب) ومعنى الآية: وأن يعملوا بما في كتاب الله قال مجاهد وابن زيد: هم من اليهود والنصارى الذين يمسكون بالكتاب الذي جاء به موسى فلا يحرفونه ولا يكتمونه أحلوا حلاله وحرموا حرامه ولم يتخذوه (ما كله نزل) في عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال عطاء: فيهم أنه محمد صلى الله عليه وسلم * (وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين) * * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم) *) أي قلعنا الجبل.
قال مجاهد: كما ينتق الزبد. وقال المؤرخ: قطعنا.
وقال أبو عبيدة: زعزعنا. وقال الفراء: خلقنا. وقال بعضهم رفعناه. واحتج بقول العجاج:
ينتقن أقتاد الشليل نتقا
يعني يرفعه عن ظهره.
وقال آخر:
ونتقوا أحلامنا الأثاقلا
وقال بعضهم: أصل النتق والنتوق أن يقلع الشيء من موضعه فيرمى. قال أبان بن تغلب:
301

سمعت رجلا من العرب يقول لغلامه: فخذ الحجر ألقه فانتقه أي نكسه وانثره.
ويقال للمرأة الكثيرة الولد: ناتق ومنتاق لأنها ترمي (صدرها) رميا قال النابغة:
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم
حقت عليك بناتق مذكار
وقال بعضهم: هو من التحريك فقال: ينتفي السير أي حركني، يقال: ينتق برجله ويركض إذا حركت رجله على الدابة حين تعدو به. " * (كأنه ظلة) *) الظلة ما
أظلك " * (وظنوا أنه واقع بهم) *) نازل بهم " * (خذوا) *) أي قلنا خذوا " * (ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه) *) فاعملوا به " * (لعلكم تتقون) *) وذلك حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ويعملوا بها لتغليظها وكانت شريعة ثقيلة فرفع الله عز وجل جبلا على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ.
وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها ليقعن عليكم. قال الحسن البصري: فلما نظروا للجبل خر كل رجل ساجدا على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى على الجبل خوفا من أن يسقط عليهم فلذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة.
نشر موسى الألواح فيها كتاب الله كتب بيده لم يبق على وجه الأرض جبل، ولا بحر ولا حجر إلا اهتز فليس اليوم يهودي على الأرض صغير ولا كبير يقرأ عليه التوراة إلا اهتز وتعفر لها رأسه.
(* (وإذ أخذ ربك من بنىءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هاذا غافلين * أو تقولوا إنمآ أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذالك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون * واتل عليهم نبأ الذىءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولاكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذالك مثل القوم الذين كذبوا بثاياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون * سآء مثلا القوم الذين كذبوا بئاياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون * من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولائك هم الخاسرون * ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بهآ أولائك كالأنعام بل هم أضل أولائك هم الغافلون) *) 2
" * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) *).
302

قال المفسرون: لما خلق الله عز وجل آدم مسح ظهره وأخرج منه ذريته كلهم وهي الذرية واختلفوا في موضع الميثاق.
فقال ابن عباس: يسكن نعمان واد إلى جنب عرفة، وروي فيه أيضا أن ذلك (برهبا) أرض بالهند وهو الموضع الذي أهبط الله فيه آدم صلى الله عليه وسلم.
وقال الكلبي: بين مكة والطائف. وقال السدي: أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبط من السماء ثم مسح ظهره وأخرج ذريته. قالوا: فأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء فقال لهم: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. وأصحاب المنامة.
وقال لهم: جميعا أعلموا أن لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئا فإني مرسل إليكم رجالا يذكرونكم بعهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتبا فتكلموا وقالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا ولا رب لنا غيرك، فأقروا يومئذ كلهم طائفة طائعين. وطائفة على وجه التقدير تقية، فأخذوا بذلك مواثيقهم وسميت آجالهم وأرزاقهم وحسابهم فنظر إليهم آدم، ورأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب لولا سويت بينهم، فقال: إني (أحببت أن) أشكر.
قالوا: وفيهم الأنبياء يومئذ أمثال السرج فرأى آدم نورا ساطعا فقال: من هذا؟ فقال: هذا داود نبي من ذريتك قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة قال: رب زده.
قال: جرى القلم بآجال بني آدم، قال: رب زده من عمري أربعين سنة، فأثبت لداود أربعين وكان عمر آدم ألف سنة، فلما استكمل آدم تسعمائة وستين سنة جاء ملك الموت، فلما رآه آدم قال: مالك؟ قال: استوفيت أجلك، قال له آدم: بقي من عمري أربعون سنة، قال: أليس قد وهبتها لداود؟ قال: لا فجحد آدم، فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطأ فخطئت ذريته، فرجع الملك إلى ربه فقال: إن آدم يدعي أنه بقي من عمره أربعون سنة، قال: أخبر آدم أنه وهبها لابنه داود (عليه السلام) والأقلام بطيئة فأثبتت لداود، فلما قررهم بتوحيده وآثر بعضهم على بعض أعادهم إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه ولا يزداد فيهم ولا ينقص عنهم، فذلك قوله تعالى " * (وإذ أخذ ربك من بني آدم) *) ونظم الآية: وإذا أخذ ربك من ظهر بني آدم ذريتهم، ولم يذكر أمر آدم فإنما أعرجوا يوم الميثاق في ظهره، لأن الله عز وجل أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، فاستغنى عن ذكر
303

ظهر آدم بقوله (من بني آدم) فلما علم أنهم كلهم بنوه و (خرجوا) من ظهره ترك ذكر ظهر آدم وذكر ظهور بنيه.
وقوله: " * (ذرياتهم) *) قرأ أهل مكة والكوفة: ذريتهم بغير ألف على الواحد، وقرأ الباقون على الجمع بالألف " * (وأشهدهم على أنفسهم) *) وقال لهم " * (ألست بربكم) *) سؤال تقرير " * (قالوا) *) جميعا " * (بلى) *) أنت ربنا " * (شهدنا أن تقولوا) *) قرأ ابن عباس وابن محيصن وأبو عمرو: (يقولوا) بالباء، والباقون بالتاء كقوله: " * (ألست بربكم) *)، واختلفوا في قوله: (شهدنا) فقال السدي: خبر من قوله تعالى عن نفسه وعن ملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم، وقال الآخرون: بل ذلك على إقرار بني آدم حين أشهد بعضهم على بعض أن يقولوا يعني أن لا يقولوا " * (يوم القيامة إنا كنا عن هذا) *) الميثاق والإقرار " * (غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) *) فاتبعناهم " * (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) *) يعني المشركين وإنما اقتدينا بهم وكنا في غفلة عن التوحيد " * (وكذلك نفصل الآيات) *) لقومك يا محمد " * (ولعلهم يرجعون) *) عن كفرهم " * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) *) اختلفوا فيه.
فقال عبد الله بن مسعود: هو بلعم بن إبرة. وقال ابن عباس: هو بلعم بن باعورة. وقال مجاهد: هو بلعام بن باعر. وقال مقاتل: هو بلعام بن باعور بن ماث بن لوط. عطية عن ابن عباس: هو من بني إسرائيل.
وقال علي بن أبي طلحة: هو من الكنعانيين من مدينة الجبارين، وقال مقاتل: هو من مدينة بلقا، وسميت بلقا لأن ملكها كان رجلا يقال له: بالق وكانت وصيته على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم: إن موسى (عليه السلام) لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتي قوم بلعم إلى بلعم وكان عنده اسم الله الأعظم.
فقالوا: إن موسى رجل شديد ومعه جنود كثيرة وإنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنا قومك وبنو عمك وليس لنا قول وأنت رجل مجاب الدعوة
فأخرج وادع الله تعالى أن يرد عنا موسى وقومه فقال: ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي. وقالوا ما لنا من (نزل) وراجعوه في ذلك قال: حتى أءامر ربي، وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر في المنام فيأمرني الدعاء عليهم.
فقيل له في المنام: لا تدع عليهم، فقال لقومه: إني قد أمرت ربي في الدعاء عليهم وإني قد نهيت، فهدوا له هدية، فقبلها ثم راجعوه وقالوا: أدع عليهم، فقال: حتى أؤمر فلما أمر لم يجيء إليه شيء. فقال: قد أمرت فلم يجيء إلي شيء، فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى. فلم يزالوا به (يروقونه) ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتن فركب (أتانا) له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له جسبان
304

فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها حتى إذا أذاقها قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت، ففعل بها مثل ذلك فقامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت فضربها حتى إذا أذاقها أذن الله لها بالكلام فتكلمت حجة عليه فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا لنذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم، فلم ينزع عنها فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرقت به على جبل جسبان جعل يدعو عليهم فلا يدعو عليهم بشيء إلا صرف به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف مسألته إلى بني إسرائيل.
فقال له قومه: أتدري يابلعم ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك هذا شيء قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم: قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال، اجملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى العسكر يتعدوا فيه ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنا رجل واحد منهم يفتنوهم ففعلوا.
فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة بين الكنعانيين اسمها بشتي بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام) فقام إليها فأخذ بيدها حين أفتنه جمالها ثم أقبل حتى وقف على موسى فقال: إني أظنك ستقول هذه حرام عليك قال: أجل هي حرام عليك لا تقربها قال: فوالله لا نطيعك في هذا ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت.
وكان لفنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى رجل قد أعطى بسطة في الخلق وقوة في البطش وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون (يمجس) في بني إسرائيل وأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل عليه القبة وهما متضاجعان (فاستقبلها) بحربته ثم خرج بهما رافعا بهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته.
وكان (يكره العيزار) وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون. فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجوده قد هلك منهم سبعون ألفا في ساعة من نهار، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص كل ذبيحة ذبحوها الفشة والذراع واللحى، لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وبإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنه كان (بكرا) لعيزار بن هارون وفي بلعم أنزل الله تعالى: " * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) *) الآية
305

وقال مقاتل: إن ملك البلقاء قال لبلعام: أدع على موسى، فقال: إنه من أهل ديني لا أدعو عليه فنصبت خشبة ليصلب فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليهم، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها فقالت: لم تضربني إني مأمورة فلا تظلمني وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع وأخبر الملك، فقال: لتدعون عليه أو لأصلبنك فدعا على موسى بالاسم الأعظم ألا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى: يا رب (بأي) ذنب وقعنا في التيه قال: بدعاء العالم، قال: فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه الله تعالى مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فذلك قوله تعالى " * (فانسلخ منها) *) فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية.
وقال عبد الله بن عمر بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم و أبو روق: نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصته أنه كان في ابتداء (أمره) قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو ذلك الرسول.
فلما أرسل محمد (عليه السلام) حسده وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل قتلهم محمد فقال: لو كان نبيا ما قتل أقرباءه. فلما مات أمية أتت أخته فارعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها فقالت: بينا هو قد (أتانا فنام على سريري فأقبل طائران) ونزلا فقعد أحدهما عند رجله والآخر عند رأسه فقال الذي عند رجله للذي عند رأسه: أدعي؟ قال: دعي، قال: أزكي؟ قال: أبى، قالت: فسألته عن ذلك. قال: خيرا زيدي، فصرف عني ثم غشي عليه فلما أفاق قال:
كل عيش وإن تطاول دهرا
صائر أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما بدا لي
في قلال الحبال أرعى الوعولا
يوم الحساب يوم عظيم
شاب فيه الصغير نوما ثقيلا
ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشديني شعر أخيك. فأنشدته:
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا
ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وهي قصيدة طويلة حتى أتت على آخرها. وأنشدته قصيدته:
وقف الناس للحساب جميعا
فشقي معذب وسعيد
ثم أنشدته قصيدته التي فيها
306

عند ذي العرش يعرضون عليه
يعلم الجهر والسرار الخفيا
يوم يأتي الرحمن وهو رحيم
إنه كان وعده مأتيا
يوم يأتيه مثل ما قال فرد
ثم لابد راشدا أو غويا
أو سعيدا سعادة أنا أرجو
أو مهانا لما اكتسبت شقيا
إن أوءاخذ بما أجرمت فإني
سوف ألقى في العذاب قويا
ورب إن تعفو فالمعافاة ظني
أو تعاقب فلم تعاقب بريا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن شعره وكفر قلبه.
وأنزل الله عز وجل: " * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) *) الآية.
ومنهم من قال: إنها نزلت في البسوس.
وكان رجلا قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات. وكانت له امرأة وكان له منها ولد فقالت له: اجعل منها دعوة واحدة لي. فقال: لك منها واحدة، فما تريدين؟ فقالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا لها فجعلت أجمل امرأة في بني إسرائيل. فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الرجل. ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها فقالوا: ليس لنا على هذا قرار دعوت على أمنا فصارت كلبة نباحة والناس يعيروننا أدعو الله أن يردها على الحال التي كانت عليها، فدعا الله عز وجل فعادت كما كانت فذهبت فيها الدعوات.
وقال سعيد بن المسيب: نزلت في أبي عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق.
وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوخ فقدم المدينة وقال للنبي صلى الله عليه وسلم ما هذا الذي جئت به.
قال: (جئت بالحنفية دين إبراهيم)، فقال: أنا جئتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لست عليها ولكنك أدخلت إبليس فيها)، فقال أبو عامر: أمات الله كاذبا منا طريدا وحيدا فخرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا القوة والسلاح وابنوا إلي مسجدا ثم أتى الراهب قيصر وأتى بجند ليخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة فذلك قوله: " * (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله) *) يعني انتظارا لمجيئه فمات بالشام طريدا وحيدا.
وقال عبادة بن الصامت: نزلت في قريش أتاهم الله الآيات فانسلخوا منها فلم يقبلوها،
307

فقال الحسن وابن كيسان: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم.
وقال عمرو بن دينار: سئل عكرمة عن هذه الآية فقال: هذا وهذا ليست في خاصة.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله فذلك قوله: " * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) *).
وقال ابن عباس والسدي: هي اسم الله الأعظم. وقال ابن زيد: كان لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه.
وقال ابن عباس في رواية أخرى: أعظم أنها كتابا من كتب الله. مجاهد: هو نبي من بني إسرائيل يقال له بلعم أوتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على
ما هم عليه.
" * (فانسلخ) *) (خرج) * * (منها) *) كما تنسلخ الحية من جلدها " * (فأتبعه الشيطان) *) أي لحقه وأدركه " * (فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها) *) أي فضلناه وشرفناه ورفعنا منزلته بالآيات.
وقال ابن عباس: رفعناه بها.
وقال مجاهد وعطاء: يعني لرفعنا عنه الكفر بالآيات وعصمناه.
" * (ولكنه أخلد إلى الأرض) *) قال سعيد بن جبير: ركن إلى الأرض. مجاهد: سكن. مقاتل: رضي بالدنيا. أبو عبيدة: لزمها وأبطأ، والمخلد من الرجال هو الذي يبطئ شيبه ومن الدواب التي تبقى ثناياه حتى تخرج رباعيتاه.
قال الزجاج: خلد وأخلد واحد وأجعله من الخلود وهو الدوام والمقام يقال خلد فلان بالمقام إذا أقام به. ومنه قول زهير
لمن الديار غشيتها بالغرقد
كالوحي في حجر المسيل المخلد يعني: المقيم.
وقال مالك بن نويرة:
فما نبأ حي من قبائل مالك
وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
" * (واتبع هواه) *) قال الكلبي: يتبع (خسيس) الأمور ويترك معاليها
308

وقال أبو روق: اختار الدنيا على الآخرة. وقال ابن زيد: كان هواه مع (القدم) قال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه، وقال يمان: واتبع هواه أي امرأته لأنها حملته على الخيانة.
" * (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) *) قال مجاهد: هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به، وقال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع.
وروى معمر عن بعضهم قال: هو الكافر ضال إن وعظته أو لم تعظه.
قال ابن عباس: معناه إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تتركه لم يهتد بخير كالكلب إن كان (رابضا) لهث وإن طرد لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع وعظ أو لم يوعظ (كالكلب) يلهث طرد أو ترك، قال عطاء: ينبح إن يحمل عليه وإن لم يحمل، وقال القتيبي: كل شيء يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة، وحال الصحة وحال المرض، وحال (الجوع) وحال العطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته.
فقال: إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته لهث ونظيره قوله " * (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم ادعوتموهم أم أنتم صامتون) *) * * (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) *) روى محمد بن إسحاق عن سالم (أبي الخضر) قال: يعني مثل بني إسرائيل أي إن جئتهم بخبر ما كان فيهم ما غاب عنك (لعلهم يتفكرون).
فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلا نبي يأتيهم خبر السماء " * (ساء مثلا) *) أي بئس المثل مثلا حال من المثل المضمر.
كما قال جرير:
فنعم الزاد زاد أبيك زادا
هذا إذا جعلت (ساء) من فعل المثل ورفعت القوم بدلا من الضمير فيه. وإن حولت فعله إلى القوم ورفعتهم به كان (انتهاء) به على التمييز، يريد سأمثل القوم فلما حولته إليهم خرج المثل مفسرا كما يقال: قربه عينا وضاق ذرعا، متى ما سقط التنوين عن المميز (المخفض) بالإضافة دليله قراءة (الجحدري) والأعمش سأمثل القوم بالإضافة، وقال أبو حاتم: يريد بها (مثلا) مثل القوم فحذف مثل.
309

وأقام القوم (به أمة) فرفعهم كقوله: * (واسأل القرية) * * (وأنفسهم كانوا يظلمون) *) إلى قوله تعالى " * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) *) وإنما قال ذلك لنفاد علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربهم ويسمي بعض أهل المعاني هذه اللام لام (الصيرورة) فيه كقوله: " * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) *). وأنشدوا:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
(ودورنا) لخراب الدهر نبنيها
وقال الآخر:
فللموت تغدو الوالدات سخالها
كمالخراب الدهر تبنى المساكن
وروى عبد الله بن عمرو عن النبييصلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: (إن الله تعالى كما ذرأ لجهنم ما ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم)، ثم وصفهم فقال " * (لهم قلوب لا يفقهون بها) *) ولا يعلمون الخير والهدى " * (ولهم أعين لا يبصرون بها) *) طريق الحق والرشاد " * (ولهم آذان لا يسمعون بها) *) مواعظ الله والقرآن فيفكرون ويعتبرون بها فيعرفون بذلك توحيد الله ثم يعملون بتحقيق (النبوة) فآتينا بهم ثم ضرب لهم مثلا في الجهل والاقتصاد على الشرب والأكل وبعدهم من موجبات العمل. وقال عز من قائل " * (أولئك كالأنعام بل هم أضل) *) لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره ويطيعوه والكافرون لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه وفي الخبر: (كل شيء أطوع لله من ابن آدم).
" * (أولئك هم الغافلون) *))
.
* (ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون فىأسمائه سيجزون ما كانوا يعملون * وممن خلقنآ أمة يهدون بالحق وبه يعدلون * والذين كذبوا بئاياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم إن كيدى متين * أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين * أولم ينظروا فى ملكوت السماوات والارض وما خلق الله من شىء وأن عسىا أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون * من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم فى طغيانهم يعمهون) *) 2
" * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) *) قال مقاتل: وذلك أن رجلا دعا الله في صلاته ودعا الرحمن، فقال رجل من مشركي مكة: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا فما
310

بال هذا يدعو ربين اثنين، فأنزل الله " * (ولله الأسماء الحسنى) *) وهو تأنيث الأحسن كالكبرى والأكبر والصغرى والأصغر، والأسماء الحسنى هي الرحمن الرحيم. الملك القدوس السلام ونحوها.
الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما، مائة غير واحدة، من أحصاها كلها دخل الجنة).
" * (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) *). قال ابن عباس: يكذبون، وقال قتادة: يشركون، وقال عطاء: ظامئون، زيد بن أسلم: يميلون عن الحق. ابن عباس ومجاهد: هم المشركون. وإلحادهم في أسماء الله عز وجل أنهم عدلوا بها عما هي عليه فسموا بها أوثانهم وزادوا فيها ونقصوا منها فاشتقوا اللات من الله تعالى والعزى من العزيز ومنات من المنان.
وقال أهل المعاني: الإلحاد في أسماء الله تعالى يسميه بما لم يسم به ولا ينطق به كتاب ولا دعا إليه رسول، وأصل الإلحاد الميل والعدول عن القصد ومنه لحد القبر. فيقال: ألحد يلحد إلحادا ولحد يلحد لحدا ولحودا إذا مال.
وقد قرئ بهما جميعا فقرأ يحيى بن رئاب والأعمش وحمزة: بفتح الياء والحاء هاهنا وفي النحل (رحم). وقرأ الباقون: بضم الياء وكسر الحاء وهما لغتان (صحيحتان).
وأما الكسائي فإنه قرأ التي في النحل بفتح الياء والحاء وفي الأعراف (رحم) بالضم وكل يفرق بين الإلحاد واللحود فيقول: الالحاد العديل عن القصد واللحد واللحود الركون، ويزعم أن التي في النحل يعني الركون " * (سيجزون ما كانوا يعملون) *) في الآخرة " * (وممن خلقنا أمة) *) عصبة " * (يهدون بالحق وبه يعدلون) *) قال قتادة وابن جريج: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: هي أحق بالحق يأخذون ويقضون ويعطون وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون).
قال الربيع بن أنس: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال: (إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى) (عليه السلام).
عن عمير بن هاني قال: سمعت معاوية على هذا المنبر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من غالطهم حتى يأتي أمر الله عز وجل، وهم ظاهرون على الناس)
311

وقال ابن حيان: هم مؤمنو أهل الكتاب. وقال عطاء: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان قد سماهم الله تعالى في سورة براءة. وقال الكلبي: هم من جميع الخلق " * (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) *) قال بعضهم: سنأخذهم بالعذاب، وقال الكلبي: نزين لهم أعمالهم فنهلكهم. وقال الضحاك: كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة، وقال الخليل بن أحمد: سنطوي وإن أعمارهم في اغترار منهم.
وقال أبو عبيدة والمؤرخ: الاستدراج أن يأتيه من حيث لا يعلم.
وقال أهل المعاني: الاستدراج أن ندرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا ولا يباغت ولا يجاهر. يقال: استدرج فلانا حتى تعرف ما صنع أي لا يجاهر ولا يهجم عليه، قال: ولكن استخرج ما عنده قليلا قليلا وأصله من (الدرج) وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة فاستعير (هذا عنه). ومنه الكتاب إذا طوى شيئا بعد شيء، ودرج القوم إذا مات بعضهم في دار بعض، ودرج الصبي إذا قارب من خطاه في المشي " * (وأملي لهم) *) يعني أمهلهم وأطيل من الملاواة وهو الدهر، ومنه مليت أي غشت دهرا " * (إن كيدي متين) *) أي أخذي قوي مديد قلت: في المستهزئين، فقتلهم الله في ليلة واحدة " * (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) *) قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله عز وجل، ووقائعه فقال
قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت حتى الصباح فأنزل الله " * (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) *). ما بمحمد من جنون.
" * (إن هو) *) ما هو " * (إلا نذير مبين) *) مخوف " * (أو لم ينظروا في ملكوت) *) ملك " * (السماوات والأرض وما خلق الله) *) فيهما " * (من شيء وأن عسى) *) وهي أن لعل " * (أن يكون قد اقترب أجلهم) *) فيهلكوا على الكفر ويصبروا إلى العذاب " * (فبأي حديث بعده) *) بعد القرآن " * (يؤمنون) *) ثم بين العلة في إعراضهم عن القرآن وتركهم الإيمان فقال عز من قائل: " * (من يضلل الله فلا هادي) *) فلا مرشد له " * (ويذرهم) *) قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بالياء، لأن ذكر الله سبحانه قد مر من قبل. والباقون بالنون، لأنه كلام (مستأنف) ومن جزم الراء فهو ممدود على يضلل.
(* (يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو ثقلت فى السماوات والارض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفى عنها قل إنما علمها عند الله ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شآء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) *
312

" * (يسألونك عن الساعة) *) قال ابن عباس: قال (وجيل) بن أبي فشير وسمؤال بن زيد: وهما من اليهود: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول فلنعلم متى هي؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال قتادة: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم إن بيننا وبينك قرابة فأشر إلينا متى الساعة فأنزل الله " * (يسألونك عن الساعة) *) يعني القيامة " * (أيان) *) متى، ومنه قول الراجز:
أيان تقضي حاجتي أيانا
أما ترى لنجحها إبانا
" * (مرساها) *) قال ابن عباس: ومنتهاها، وقال قتادة: قيامها. وأصل الكلمة الثبات والحبس " * (قل إنما علمها عند ربى) *) استأثر بعلمها " * (لا يجليها إلا هو) *) لا يجليها لا يكشفها ولا يظهرها.
وقال مجاهد: لا يأتي بها، وقال السدي: (لا يرسلها) لوقتها إلا هو " * (ثقلت في السماوات والأرض) *) يعني ثقل علمها على أهل السماوات والأرض لخفائها فلا يعرفون مجيئها ووقتها فلم يعلم قيامها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وقال الحسن: يقول إذا جاءت ثقلت على السماوات والأرض وأهلها وكبرت وعظمت وذلك أنها إذا جاءت انشقت السماوات وانتثرت النجوم وكورت الشمس وسيرت الجبال. وليس من الخلق شيء إلا ويصيبه ضرر الساعة وثقلها ومشقتها " * (لا تأتيكم إلا بغتة) *) فجأة على غفلة منكم.
سعيد عن قتادة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول (إن الساعة تهيج الناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه).
وعن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال جبرئيل: تقوم الساعة عند ثلاث مواطن: إذا كثر القول وقل العمل وعند قلة المواشي حتى يمضي كل رجل مما عنده، وإذا قال الناس من يذكر الله فيها بدعة).
" * (يسألونك كأنك حفي عنها) *) قال أهل التفسير في الآية تقديم وتأخير تقديرها. يسألونك عنها كأنك حفي أي (بار فيهم) صديق لهم قريب، قاله ابن عباس وقتادة، وقال مجاهد والضحاك: كأنك عالم بها وقد يوضع عن موضع مع الياء " * (قل علمها عند الله) *) إلى قوله (نفعا وضرا).
فقال ابن عباس: إن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا يخبرك بالسعر الرخيص قبل أن يغلا فتشتريه فتربح فيه، والأرض الذي تريد أن تجذب فترتحل منها إلى ما قد أخصبت فأنزل الله
313

تعالى " * (قل) *) يا محمد " * (لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا) *) أي اجتناب نفع ولا دفع " * (إلا ما شاء الله) *) أي أملكه بتمليكه إياي " * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) *) يعني المال وتهيأت لسنة القحط ما يكفيها " * (وما مسني السوء) *) وما مسني الله (بسوء).
وقال ابن جريج: " * (قل لا أملك نفعا ولا ضرا) *) يعني الهدى والضلالة ولو كنت أعلم الغيب متى أموت لاستكثرت من الخير من العمل الصالح وما مسني السوء.
قال ابن زيد: فاجتنبت ما يكون من الشر وأتقيه. قال بعض أهل المعاني: (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من معرفته حتى لا يخفى علي شيء " * (وما مسني السوء) *) يعني التكذيب.
وقال مقاتل: هذا متصل بالكلام الأول معناه: لا أقدر أن (أسوق) لنفسي خيرا أو أدفع عنها شرا حتى ينزل بي فكيف أعلم وأملك علم الساعة؟ وتمام الكلام قوله: لاستكثرت من الخير، ثم ابتدأ فقال: (وما مسني السوء) (يعني الجنون).
وقيل يعني لم يلحقني تكذيب " * (إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) *) يصدقون.
2 (* (هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلمآ أثقلت دعوا الله ربهما لئن ءاتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين * فلمآ ءاتاهما صالحا جعلا له شركآء فيمآ ءاتاهما فتعالى الله عما يشركون * أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون * إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين
* ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم ءاذان يسمعون بها قل ادعوا شركآءكم ثم كيدون فلا تنظرون) *) 2
" * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) *) يعني آدم (عليه السلام) * * (وجعل منها زوجها) *) خلق منها حواء " * (ليسكن إليها) *) يستأنس إليها ويأوي إليها لقضاء حاجته " * (فلما تغشاها) *) واقعها وجامعها " * (حملت حملا خفيفا) *) وهو ماء الرجل خفيف عليها " * (فمرت) *) أي استمرت " * (به) *) وقامت وقعدت ولم تكترث بحملها، يدل عليه قراءة ابن عباس: فاستمرت به.
وقال قتادة: (فمرت به) أي استبان حملها. وقرأ يحيى بن يعمر (فمرت) خفيفة الراء من لمرية أي: شكت أحملت أم لا؟ " * (فلما أثقلت) *) أي كبر الولد في بطنها وتحرك وصارت ذات ثقل بحملها كما يقال: أثمر إذا صار ذا ثمر " * (دعوا الله ربهما) *) يعني آدم وحواء " * (لئن آتيتنا) *) يا ربنا " * (صالحا) *).
قال الحسن: غلاما ذكرا. وقال الآخرون: بشرا سويا مثلنا " * (لنكونن من الشاكرين) *) وذلك أنهما أشفقا أن يكون بهما أو شيئا سوى آدمي أو غير سوي.
314

قال الكلبي: إن إبليس أتى حواء في صورة رجل لما أثقلت في أول ما حملت فقال: ما هذا الذي في بطنك قالت: ما أدري، قال: إني أخاف أن يكون بهيمة، فقالت ذلك لآدم، فلم يزالا في نعم من ذلك ثم عاد إليها فقال: إني من الله (منزل) فإن دعوت الله فولدت انسانا (أتسمينه في) قالت: نعم، قال: فإني أدعو الله فأتاها وقد ولدت فقال: سميه باسمي، فقالت: وما اسمك؟ قال: الحارث، ولو سمى نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث.
وقال سعيد بن جبير: لما هبط آدم وحواء (عليهما السلام) الأرض ألقيت الشهوة في نفس آدم فأصابها فحملت فلما تحرك ولدها في بطنها جاءها إبليس فقال ما هذا (ماترين) في الأرض إلا ناقة أو بقرة أو ضاينة أو (كاجزة) أو نحوها فما يدريك ما في بطنك لعله كلب أو خنزير أو حمار وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك فيقتلك أو أذنك أو عينيك أو فيك أو يشق بطنك فيقتلك، فخافت حواء من ذلك قال: فأطيعيني وسميه عبد الحرث. وكان اسمه في الملائكة الحرث، تلدين شبيهكما مثلكما، فذكرت ذلك لأدم فقال: لعله صاحبنا الذي قد علمت، فعاودها إبليس فلم يزل بهما حتى غرهما فسمياه عبد الحرث.
قال السدي: ولدت حواء غلاما فأتاها إبليس فقال سموه بي وإلا قتلته، قال له آدم: قد أطعتك فأخرجتني من الجنة، فأبى أن يطيعه فمات الغلام، فحملت بآخر فلما ولدته قال لهما مثل ذلك فأبيا أن يطيعاه، فمات الولد، فحملت بآخر فأتاهما وقال لهما: إذ غلبتماني فسمياه عبد الحرث، وكان اسم إبليس الحرث.
ولم يشعروا به فوالله لا أزال أقتلهم حتى تسمياه عبد الحرث. كما قتلت الأول والثاني فسمياه عبد الحرث فعاش.
وقال ابن عباس: كانت حواء تلد لآدم فتسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال: إن (وعدتكما) أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث فولدت ابنا فسمياه عبد الحرث ففيهما أنزل الله عز وجل " * (فلما أتاهما صالحا) *) أي ولدا بشرا سويا حيا آدميا " * (جعلا له شركاء) *).
قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وأبان بن ثعلب وعاصم وعكرمة وأهل المدينة شركاء بكسر الشين والتنوين أي شركه.
قال أبو عبيدة: أي حظا ونصيبا من غيره، وقرأ الباقون شركاء مضمومة الشين ممدودة على جمع شريك أخبر عن الواحد بلفظ الجمع، لقوله تعالى " * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد
315

جمعوا لكم) *) مفردا، تم الكلام هاهنا ثم قال: " * (فتعالى الله عما يشركون) *) يعني أهل مكة.
واختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء فقال المفسرون: كان شركاء في التسمية والصفة لا في العبادة والربوبية.
وقال أهل المعاني: أنهما لم يذهبا إلى أن الحرث ربهما بتسميتهما ولدهما عبد الحرث لكنهما قصدا إلى أن الحرث سبب نجاة الولد وسلامة أمه فسمياه، كما (يسمى) رب المنزل، وكما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له لا على أن الضيف ربه.
كما قال حاتم:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا
وما في إلا تلك من شيمة العبد
وقال قوم من أهل العلم: إن هذا راجع إلى المشركين من ذرية آدم وإن معناه جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كقوله تعالى " * (واسأل القرية) *) وكما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تفريقهم بفعل آبائهم، فقال لليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتخذتم العجل من بعده. وقال " * (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) *). وقال سبحانه: " * (فلم تقتلون أنبياء الله) *) ونحوها، ويدل عليه ما روى معمر عن الحسن قال: عني بهذا من أشرك من ذرية آدم ولم يكن عنى آدم.
وروى قتادة عنه قال: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا.
وقال ابن كيسان: هم الكفار جعلوا لله شركاء عبد العزى وعبد مناة.
وقال عكرمة: لم يخص بها آدم ولكن جعلها عامة لجميع بني آدم من بعد آدم.
قال الحسين بن الفضل: وهذا حجب إلى أهل النظر لما في القول الأول من إلصاق العظائم بنبي الله آدم (عليه السلام) ويدل عليه جمعه في الخطاب حيث قال: " * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) *)، ثم قال: " * (فلما تغشاها) *) انصرف من ذلك الخطاب إلى الخبر يعني فلما تغشى الرجل منكم امرأته.
قال الله عز وجل: " * (أيشركون) *) يعني كفار مكة " * (ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) *) يعني الأصنام.
قال ابن زيد: ولد لآدم ولد فسمياه عبد الله فاتاهما إبليس فقال: ما سميتما ابنكما هذا
316

قال: وكان ولد لهما قبل ذلك ولد سمياه عبد الله فمات فقالا: سميناه عبد الله، فقال إبليس: أتظنان أن الله تارك عبده عندكما لا (والله) ليذهبن كما ذهب الآخر، ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما فسمياه عبد شمس.
فذلك قوله " * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) *). الشمس لا تخلق شيئا حتى يكون لها عبدا إنما هي مخلوقة قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض).
والذي يؤيد القول الأول قراءة السلمي: أتشركون بالتاء.
" * (ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى) *) يعني الأصنام " * (لا يتبعوكم) *) لأنها غير عاقلة " * (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) *) ساكتون " * (إن الذين تدعون من دون الله عباد) *) مخلوقة مملوكة مقدرة مسخرة " * (أمثالكم) *) أشباهكم " * (فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين) *) أنها آلهة.
" * (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها) *) يأخذون بها " * (أم لهم أعين يبصرون بها أم آذان يسمعون بها قل أدعو شركاءكم) *) يا معشر المشركين " * (ثم كيدوني) *) أنتم وهم " * (فلا تنظرون) *))
.
* (إن وليى الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين * والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون * خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم * إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون * وإذا لم تأتهم بئاية قالوا لولا اجتبيتها قل إنمآ أتبع ما يوحى إلى من ربى هاذا بصآئر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون * وإذا قرىء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون * واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغافلين * إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) *) 2
" * (إن ولي الله الذي) *) يعني الذي (يحفاني) ويمنعني منكم الله " * (نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم) *) يا محمد يعني الأصنام " * (ينظرون إليك وهم لا يبصرون) *) وهذا كما يقول العرب: داري ينظر إلى دارك أي يقابلها.
317

ويقول العرب: إذا أتيت مكان كذا فنظر إليك الحمل فخذ يمينا وشمالا أي: استقبلك.
وحدث أبو عبيدة عن الكسائي قال: الحائط ينظر إليك إذا كان قريبا منك حيث تراه. ومنه قول الشاعر:
إذا نظرت بلاد بني تميم
بعين أو بلا بني صباح
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: معناه: وتراهم كأنهم ينظرون إليك كقوله: " * (وترى الناس سكارى) *) أي كأنهم سكارى وإنما أخبر عنهم بالهاء والميم، لأنها مصورة على صورة بني آدم مخبرة عنها بأفعالهم.
" * (خذ العفو) *) قال مجاهد: يعني العفو من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تخميس.
قال ابن الزبير: ما أنزل الله تعالى هذه الآية إلا في أخلاق الناس.
وقال ابن عباس والسدي والضحاك والكلبي: يعني ماعفا لك من أموالهم وهو الفضل من العيال والكل فما أتوك به عفوا فخذه ولا تسألهم ما ذرأ ذلك.
وهذا قبل أن ينزل فريضة الصدقات. ولما نزلت آية الصدقات نسخت هذه الآية وأمر بأخذها منهم طوعا وكرها " * (وأمر بالعرف) *) أي بالمعروف. قرأ عيسى بن عمر: العرف ضمتين مثل الحلم وهما لغتان والعرف المعروف والعارفة كل خلصة حميدة فرضتها العقول وتطمئن إليها النفوس. قال الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
قال عطاء: وأمر بالعرف يعني لا إله إلا الله " * (وأعرض عن الجاهلين) *) أبي جهل وأصحابه نسختها آية السيف. ويقال لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرئيل: (ما هذه؟ قال: لا أدري حتى أسأل، ثم رجع فقال: يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك). فنظم الشاعر فقال:
مكارم الأخلاق في ثلاث
من كملت فيه فذاك الفتى
إعطاء من يحرمه ووصل من
يقطعه والعفو عمن عليه اعتدى
قال جعفر الصادق: (أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية).
318

قال النبي صلى الله عليه وسلم (رحمهما الله).
وقالت عائشة: مكارم الأخلاق عشرة: صدق الحديث. وصدق البأس في طاعة الله. وإعطاء السائل. ومكافأة الصنيع. وصلة الرحم. وأداء الأمانة. والتذمم للصاحب. والتذمم للجار وقرى الضيف ورأسهن الحياء.
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المذكور أنشدنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، أنشدنا ابن أبي (الدنيا) أنشدني أبو جعفر القرشي.
كل الأمور تزول عنك وتنقضي
إلا الثناء فإنه لك باق
9 لو أنني خيرت كل فضيلة
ما اخترت غير مكارم الأخلاق
قال عبد الرحمن بن زيد: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم (كيف يا رب (والغضب)) فنزل " * (وأما ينزغنك من الشيطان) *) يعني يصيبنك ويفتننك ويغرنك ويعرض لك من الشيطان " * (نزغ) *) وأصله الولوع بالفساد والشر.
يقال نزغ عرقه إذا (جن) وهاج، وفيه لغتان: نزغ ونغز، يقال: إياك والنزاغ والنغاز وهم المورشون.
وقال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون من الإنسان ومن الشيطان أدنى وسوسة، وقال سعيد ابن المسيب: شهدت عثمان وعليا وكان بينهما نزغ من الشيطان فما أبقى واحد منهما لصاحبه شيئا ثم لم يبرحا حتى استغفر كل واحد منهما لصاحبه " * (فاستعذ بالله) *) فاستجر بالله " * (إنه سميع عليم إن الذين اتقوا) *) يعني المؤمنين " * (إذا مسهم) *) أصابهم " * (طائف من الشيطان) *) قرأ النخعي وابن كثير وأبو عمرو والأعمش وابن يزيد والجحدري وطلحة: طيف، وقرأ الباقون: طائف، وهما لغتان كالميت والمائت، ومعناهما الشيء الذي (بكم بك) وفرق قوم بينهما.
فقال أبو عمرو: الطائف ما يطوف حول الشيء والطيف اللمة والوسوسة الخطرة. وقال بعض (المكيين): الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان والطيف اللحم والمس. ويجوز أن يكون الطيف مخففا عن طيف مثل هين ولين. يدل عليه قراءة سعيد بن جبير: طيف بالتثقيل.
319

وقال ابن عباس: " * (إذا مسهم طائف من الشيطان) *) أي نزغ من الشيطان.
وقال الكلبي: ذنب. وقال مجاهد: هو الغضب.
" * (تذكروا) *) وتفكروا وعرفوا، وقال أبو روق: ابتهلوا، وفي قراءة عبد الله بن الزبير: إذا مسهم طائف من الشيطان (فأملوا).
قال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله فيكظم الغيظ، ليث عن مجاهد: هو الرجل هم بالذنب فيذكر الله فيدعه. وقال السدي: معناه إذا زلوا تابوا. وقال مقاتل: إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنها معصية فأبصرها ونزغ من مخالفة الله " * (فإذا هم مبصرون) *) ينظرون مواضع خطيئتهم بالتفكر والتدبر (يمرون) فيقصرون، فإن المتقي من يشتهي (.......) ويبصر فيقصر، ثم ذكر الكفار فقال " * (وإخوانهم يمدونهم في الغي) *) يعني إخوان الشيطان وهم الكفار يمدهم الشياطين في الغي حتى يطبلوا لهم ويزيدوهم في الضلالة.
وقرأ أهل المدينة: يمدونهم بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد. وقرأ الجحدري بما دونهم على يفاعلونهم.
" * (ثم لا يقصرون) *) أي لا يشكون ولا ينزغون. وقال ابن زيد: لا يسأمون ولا يفترون.
قال ابن عباس: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا (الجن ممسك) عنهم.
وقرأ عيسى بن عمر: يقصرون بفتح الياء وضم الصاد وقصر وأقصر واحد " * (وإذا لم تأتهم) *) يا محمد يعني المشركين " * (بآية قالوا لولا اجتبيتها) *) أي هلا أقلعتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك، قاله قتادة، وقال مجاهد: لولا اقتضيتها وأخرجتها من نفسك.
وقال ابن زيد: لولا يقبلها (لجئت) بها من عندك.
وقال ابن عباس: لولا تلقيتها من عندك، أيضا لولا حدثتها فأنشأتها. قال العوفي عن ابن عباس: (فنسيتها وقلتها) من ربك.
وقال الضحاك: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء، قال الفراء: تقول العرب: (جئت) الكلام وأخلقته وارتجلته وانتحلته إذا افتعلته من قبل نفسك.
قال ابن زيد: إنما يقول العرب ذلك الكلام بتهدئة الرجل ولم يكن قبل ذلك أعده لنفسه " * (قل) *) يا محمد " * (إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) *) ثم قال " * (هذا) *) يعني القرآن " * (بصائر) *) حجج وبيان وبرهان " * (من ربكم) *) واحدتها بصيره. وقال الزجاج: طرق من ربكم، والبصائر طرق الدم.
320

قال الجعفي:
راحوا بصائرهم على أكتافهم
وبصيرتي يعدو بها عتد وآي
تعدوا عداوي وأصلها ظهور الشيء وقيامه واستحكامه حتى يبصر الانسان فيهتدي إليها وينتفع بها، ومنه قيل: (ما لي في الأمر) من بصيرة " * (وهدى ورحمة لقوم يؤمنون وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا) *) قال عبد الله بن مسعود: كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان فجاء القرآن: " * (وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) *) يعني في الصلاة وقال أبو هريرة: كانوا يتكلمون في الصلاة فأتت هذه الآية وأمروا بالإنصات.
وقال الزهري: نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئا قرأه، فنزلت هذه الآية.
وروى داود بن أبي هند عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود فسمع ناسا يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا، أما آن لكم أن تعقلوا " * (وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وانصتوا) *) كما أمركم الله.
وروى الحريري عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقارئ يقرأ فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوحيان الموعود، قال: فنظرا إلي ثم أقبلا على حديثهما، قال: فأعدت الثانية فنظرا لي فقالا: إنما ذلك في الصلاة: " * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) *).
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
وقال الكلبي: وكانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حتى يسمعون ذكر الجنة والنار فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال قتادة: كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم في أول ما فرضت عليهم، وكان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
321

وقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتومة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية.
وقال سعيد بن المسيب: كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى فيقول بعضهم لبعض بمكة: لا تستمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله جوابا لهم " * (وإذا قرئ القرآن) *).
قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، وزيد بن أسلم، والقاسم بن يسار، وشهر بن حوشب: هذا في الخطبة أمر بالإنصات للإمام يوم الجمعة.
قال عبد الله بن المبارك: والدليل على حكم هذه الآية في (الجمعة) إنك لا ترى خطيبا على المنبر يوم الجمعة يخطب، فأراد أن يقرأ في الخطبة آية من القرآن إلا قرأ هذه الآية قبل (فواة) قراءة القرآن.
قال الحسن: هذا في الصلاة المكتوبة وعند الذكر. وقال مجاهد وعطاء: وجب الإنصات في اثنين عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلي وعند الإمام وهو يخطب.
وقال عمر بن عبد العزيز: الإنصات لقول كل واعظ والإنصات الإصغاء والمراعاة.
قال الشاعر:
قال الإمام عليكم أمر سيدكم
فلم نخالف وأنصتنا كما قالا
وقال سعيد بن جبير: هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام.
قال الزجاج: ويجوز أن يكون معنى قوله " * (استمعوا وانصتوا) *) اعملوا بما فيه لا تجاوزوه، لأن معنى قول القائل: سمع الله: أجاب الله دعاءك.
" * (واذكر ربك في نفسك) *) قال ابن عباس: يعني بالذكر القراءة في الصلاة " * (تضرعا) *) جهرا * (وخفية) * * (ودون الجهر) *) دون رفع القول في خفض وسكوت يسمع من خلفك.
وقال أهل المعاني: واذكر ربك اتعظ بالقرآن وآمن بآياته واذكر ربك بالطاعة في ما يأمرك (تضرعا) تواضعا وتخشعا (وخيفة) خوفا من عقابه، فإذا قرأت دعوت بالله أي دون الجهر: خفاء لا جهار.
322

وقال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور. ويؤمر بالتضرع في الدعاء والاستكانة.
ويكره رفع الصوت (والبداء) بالدعاء وأما قوله " * (بالغدو والآصال) *) فإنه يعني بالبكر والعشيات، واحد الآصال أصيل، مثل أيمان ويمين، وقال أهل اللغة: هو ما بين العصر إلى المغرب " * (ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك) *) يعني الملائكة والمراد هو عند قربهم من الفضل والرحمة لا من حيث المكان والمعاقبة.
وقال الحسين بن الفضل: قد يعبد الله غير الملائكة في المعنى من عند ربك جاءهم التوفيق والعصمة " * (لا يستكبرون) *) لا يتكبرون ولا يتعظمون " * (عن عبادته ويسبحونه) *) وينزهونه ويذكرونه ويقولون سبحان الله " * (وله يسجدون) *) يصلون.
مغيرة عن إبراهيم: إن شاء ركع وإن شاء سجد.
323

((سورة الأنفال))
مدنية، وهي خمسة آلاف ومئتان وأربعة وتسعون حرفا، وألف ومئتان وإحدى وثلاثون كلمة
زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له وشاهد يوم القيامة أنه برئ من
النفاق وأعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان العرش وحملته يصلون عليه أيام حياته في الدنيا).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين * إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلواة ومما رزقناهم ينفقون * أولائك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) *) 2
" * (يسألونك عن الأنفال) *) الآية قال ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: (من أتى مكان كذا وكذا فله من الفضل كذا، ومن قتل قتيلا فله كذا، ومن أسر أسيرا فله كذا)، فلما التقوا سارع إليه الشبان والفتيان وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات، فلما فتح الله على المسلمين جاءوا يطلبون ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم الأشياخ: كنا ردءا لكم ولو انهزمتم فلا تستأثروا علينا، ولا تذهبوا (بالغنائم دوننا).
وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال: يا رسول الله إنك وعدت من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا وإنا قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين، فقام سعد بن معاذ فقال: والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو لكن كرهنا أن يعري مصافك فيعطف عليه خيل من خيل المشركين فيصيبوك، فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسل
324

ثم عاد أبو اليسر بمثل مقالته وقام سعد بمثل كلامه وقال: يا رسول الله إن الناس كثير وإن الغنيمة دون ذلك وإن تعط هؤلاء التي ذكرت لا يبق لأصحابك كثير شيء فنزلت " * (يسألونك عن الأنفال) *) الآية. فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بالسوية.
وروى مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا معاشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في الفعل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين عن سواء على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلاح ذات البين.
وقال سعد بن أبي وقاص: نزلت في هذه الآية ذلك أنه لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أمية وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكثيفة فأعجبني فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال ليس هذا لي ولا لك اذهب فاطرحه في القبض فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله عز وجل من قتل أخي وأخذ بيدي قلت: عسى أن يعطي من لم يبل بلائي فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عز وجل: " * (يسألونك عن الأنفال) *) فخفت أن يكون قد نزل في شيء، فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي فاذهب فخذه فهو لك).
وقال أبو (أمية) مالك بن ربيعة: أصبت سيف ابن زيد يوم بدر وكان السيف يدعى المرزبان فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل فأقبلت به وألقيته في النفل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يسأله فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه.
وقال ابن جريج: نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرا فاختلفوا فكانوا أثلاثا فنزلت هذه الآية وملكها الله رسوله يقسمها كما أراه الله.
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (قال:) كانت المغانم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو ملكا فهو غلول فسألوا رسول الله أن يعطيهم منها فأنزل الله عز وجل يسألونك يا محمد عن الأنفال أي حكم الأنفال وعلمها وقسمها.
325

وقيل: معناه يسألونك من الأنفال " * (عن) *) بمعنى (من).
وقيل: (من) صلة أي يسألونك الأنفال. وهكذا قرأ ابن مسعود بحذف " * (عن) *) وهو قول الضحاك وعكرمة.
والأنفال الغنائم واحدها نفل. قال لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل
وبإذن الله ريثي والعجل
وأصله الزيادة يقال: نفلتك وأنفلتك أي: زدتك.
واختلفوا في معناها:
فقال أكثر المفسرين: معنى الآية يسألونك عن غنائم بدر لمن هي.
وقال علي بن صالح بن حيي: هي أنفال السرايا.
وقال عطاء: فأنشد من المشركين إلى المسلمين بغير قبال من عبد أو أمة أو سلاح فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء.
وقال ابن عباس: هي ما يسقط من المتاع بعدما يقسم من الغنائم فهي نفل لله ولرسوله.
وقال مجاهد: هي الخمس وذلك أن المهاجرين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس وقالوا: لم يرفع منا هذا الخمس، لم يخرج منا فقال الله
تعالى: " * (قل الأنفال لله والرسول) *) يقسمانها كما شاءا أو ينفلان فيها ما شاءا أو يرضخان منها ما شاءا.
واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة أم منسوخة:
فقال مجاهد وعكرمة والسدي: هي منسوخة نسخها قوله " * (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول) *) الآية.
وكانت الغنائم يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة فنسخها الله بالخمس.
وقال عبد الرحمن بن أيد: هي ثابتة وليست منسوخة وإنما معنى ذلك قل الأنفال لله وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيها ثم أنزل حكم الغنائم بعد أربعين آية فإن لله خمسه ولكم أربعة أخماس.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (هذا الخمس مردود على فقرائكم)، وكذلك يقول في تنفيل
326

الأيام بعض القوم واقتفائه إياه ليلا، وعلى هذه يفرق بين الأنفال والغنائم بقوله تعالى: " * (واتقوا الله وأصحلوا ذات بينكم) *) وذلك حين اختلفوا في الغنيمة أمرهم بالطاعة والجماعة ونهاهم عن المفارقة والمخالفة.
قال قتادة وابن جريج: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم ينفل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفار إذا قتله وكان ينفل على قدر عنائه وبلائه حتى إذا كان يوم بدر ملأ الناس أيديهم غنائم، فقال أهل الضعف: ذهب أهل القوة بالغنائم فنزلت " * (قل الأنفال لله وللرسول فاتقوا الله وأصحلوا ذات بينكم) *) ليرد أهل القوة على أهل الضعف فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد بعضهم على بعض فأمرهم الله بالطاعة فيها فقال " * (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) *) واختلفوا في تأنيث ذات البين فقال أهل البصرة أضاف ذات البين وجعله ذات لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم المؤنث وبعضها يذكر نحو الدار والحائط أنث الدار وذكر الحائط.
وقال أهل الكوفة: إنما أراد بقوله " * (ذات بينكم) *) الحال التي للبين فكذلك ذات العشاء يريد الساعة التي فيها العشاء.
قالوا: ولم يضعوا مذكرا لمؤنث ولا مؤنثا لمذكر إلا لمعنى به وقوله " * (إنما المؤمنون) *) الآية يقول الله تعالى ليس المؤمنون من الذي يخالف الله ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم " * (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) *) فرقت به قلوبهم وهكذا هو في مصحف عبد الله.
وقال السدي: هو الرجل يريد أن يهتم بمعصية فينزع عنه " * (وإذا تليت) *) قرئت " * (عليهم آياته زادتهم إيمانا) *) وقال ابن عباس: تصديقا، وقال الضحاك: يقينا. وقال الربيع بن أنس: خشية. وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة: إن للإيمان زيادة ونقصان، قيل: فما زيادته؟
قال: إذا ذكرنا الله وجدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وقصرنا وغفلنا فذلك نقصان.
وقال عدي بن عدي: كتب إلى عمر بن عبد العزيز أن للإيمان سننا وفرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، (قال عمر بن عبد العزيز: فإن أعش فسأبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص).
" * (وعلى ربهم يتوكلون) *) أي يفوضون إليه أمورهم ويتقون به فلا يرجون غيره ولا يخافون سواه والتوكل الفعل من الوكول " * (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا) *) أي حقوا حقا يعني يقينا صدقا. وقال ابن عباس: يقول برأوا من الكفر. وقال مقاتل: حقا لا شك في إيمانهم كشك المنافقين.
327

وقال قتادة: استحقوا الإيمان بحق فأحقه الله لهم. وقال ابن عباس: من لم يكن منافقا فهو مؤمن حقا.
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله الرازي، قال: أخبرنا علي بن محمد بن عمير قال: إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا هشام بن عبيد الله قال: حدثنا عبيد (الله هشام) بن حاتم عن عمرو بن (در) عن إبراهيم قال: إذا قيل لأحدكم أمؤمن أنت حقا، فليقل: إني مؤمن حقا فإن كان صادقا فإن الله لا يعذب على الصدق ولكن يثيب عليه.
فإن كان كاذبا فما فيه من الكفر أشد عليه من قوله له: إني مؤمن حقا. وقال ابن أبي نجيح: سأل رجل الحسن فقال: أمؤمن أنت؟
فقال: الإيمان إيمانان فإن كنت تسأل عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله " * (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) *) إلى قوله تعالى " * (عند ربهم) *) فوالله ما أدري أمنهم أنا أم لا.
وقال علقمة: كنا في سفر فلقينا قوما فقلنا: من القوم؟ فقالوا: نحن المؤمنون حقا، فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا فقال: فما رددتم عليهم؟ قلنا: لم نرد عليهم شيئا.
قال: أفلا قلتم أمن أهل الجنة أنتم؟ إن المؤمنين من أهل الجنة.
وقال سفيان الثوري: من زعم أنه مؤمن حقا أمن عند الله ثم (وجد) أنه في الجنة بعد إيمانه بنصف الآية دون النصف، ووقف بعضهم على قوله: " * (أولئك هم المؤمنون) *).
وقال: تم الكلام هاهنا.
ثم قال: حقا له درجات فجعل قوله حقا تأكيدا لقوله " * (لهم درجات عند ربهم) *) وقال مجاهد: أعمال رفيعة. وقال عطاء: يعني درجات الجنة يرقونها بأعمالهم.
هشام بن عروة: يعني ما أعد لهم في الجنة من لذيذ المأكل والمشارب وهني العيش. وقال ابن محيريز: لهم درجات سبعون درجة كل درجة لحافر الفرس الجواد المغير سبعين عاما " * (ومغفرة) *) لذنوبهم " * (ورزق كريم) *) أي حسن) وعظيم وهو (الجنة.
2 (* (كمآ أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكرهون * يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون * وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون * إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني
328

ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم * إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام * إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين ءامنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان * ذالك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب * ذالكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) *) 2
" * (كما أخرجك ربك من بيتك) *) اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله: كما، فإما الذي شبه بإخراج الله نبيه من بيته " * (بالحق) *) قال عكرمة: معنى ذلك فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن ذلك خير لكم كما كان إخراج الله تعالى محمد من بيته بالحق خيرا لكم وإن كرهه فريق منكم.
وقال مجاهد: كما أخرجك ربك يا محمد من بيتك بالحق على كره فريق من المؤمنين كذلك يكرهون القتال ويجادلونك فيه، أي أنهم يكرهون القتال ويجادلونك فيه كما فعلوا ببدر.
وقال بعضهم: أمر الله تعالى رسوله عليه السلام أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون.
وقيل: معناه يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر فقالوا: أخرجت العير ولم تعلمنا قتالا) فنسخطه).
وقيل: معناه أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق.
وقال بعضهم: الكاف بمعنى (على) تقديره: أمض على الذي أخرجك ربك.
قال ابن حيان: عن الكلبي وقال أبو عبيدة: هي بمعنى القسم مجازها: الذي أخرجك من بيتك بالحق. وقيل: الكاف بمعنى (إذ) تقديره: وإذ أخرجك ربك من بيتك بالمدينة إلى بدر بالحق.
" * (وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) *) لطلب المشركين " * (يجادلونك في الحق) *) أي في القتال وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا (الشوكة) والحرب يوم بدر وعرفوا أنه القتال كرهوا ذلك وقالوا: يا رسول الله إنه لم تعلمنا إنا نلقي العدو فنستعد لقتالهم وإنما خرجنا للعير فذلك جدالهم " * (من بعد ما تبين لهم) *) إنك لا تصنع إلا ما أمر الله به.
329

وقال ابن زيد: هؤلاء المشركون يجادلونه في الحق " * (كما يساقون إلى الموت) *) (يعني) من يدعون للإسلام لكراهتهم إياه.
" * (وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) *) الآية. قال ابن عباس وابن الزبير وابن يسار والسدي: أغار كرز بن جابر القرشي على سرح المدينة حتى بلغ الصفراء فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فركب في أثره فسبقه كرز فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فأقام سنة وكان أبو سفيان أقبل من الشام في عير لقريش فيها عمرو بن العاص وعمرو بن هشام ومخرمة بن نوفل الزهري في أربعين راكبا من كبار قريش وفيها تجارة عظيمة وهي اللطيمة حتى إذا كان قريبا من بدر بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة الجنود فقال: (هذه عير قريش فيها أموالهم فأخرجوا إليها لعل الله عز وجل ينفلكموها) فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب لا يرونها إلا غنيمة لهم وخف بعضهم وثقل بعض.
وذلك أنهم كانوا لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي حربا فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم وأصحابه.
فخرج ضمضم سريعا إلى مكة وخرج الشيطان معه في صورة سراقة بن خعشم فأتى مكة فقال: إن محمدا وأصحابه قد عرضوا لعيركم فلا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فغضب أهل مكة وانتدبوا وتنادوا لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستبحناه، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له: وفران، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم، فخرج رسول الله عليه السلام حتى إذا كانوا بالروحاء أخذ عينا للقوم فأخبره بهم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا عينا له من جهينة حليفا للأنصار يدعى ابن الأريقط فأتاه بخبر القوم، وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبرئيل فقال: إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريش، وكان العير أحب إليهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال: وأحسن وقام عمر وقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله ونحن معك والله ما نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى " * (أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) *)، ولكن إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أشيروا علي أيها الناس).
وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك
330

حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلى دارنا فأنت في ذمامنا فنمنعك مما نمنع عنه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن تكون الأنصار لا ترى عليها نصرته إلا على من داهمه بالمدينة من عدوه فإن ليس عليهم أن يسيرهم إلى عدوهم من بلادهم، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له سعد بن معاذ:
والله كأنك تريدنا يا رسول الله؟
قال صلى الله عليه وسلم (أجل).
قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله ما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضت لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن يلقانا بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء لعل الله عز وجل يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله، ففرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونشطه قول سعد ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم وذلك قوله " * (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) *) أي الفريقين أحدهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير " * (وتودون) *) تريدون " * (أن غير ذات الشوكة تكون لكم) *) يعني العير التي ليس فيها قتال والشوكة الشدة والقوة وأصلها من الشوك " * (ويريد الله أن يحق الحق) *) أي يحققه ويعلنه " * (بكلماته) *) بأمره إياكم بقتال الكفار " * (ويقطع دابر الكافرين) *) فيستأصلهم " * (ليحق الحق) *) الإسلام " * (ويبطل الباطل) *) الكفر.
وقيل: الحق القرآن والباطل الشيطان " * (ولو كره المجرمون) *) أي المشركون.
" * (إذا تستغيثون ربكم) *) أي تستجيرون به من عدوكم وتسألونه النصر عليهم، قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كثرة المشركين وقلة المسلمين دخل العرش هو وأبو بكر واستقبل القبلة وجعل يدعو ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه وأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفا مناشدتك ربك فإن الله سينجز لك ما وعدك " * (فاستجاب لكم أني) *) أي بأني. وقرأ عيسى: إني بكسر الألف وقال إني " * (ممدكم) *) وزائدكم ومرسل إليكم مددا " * (بألف من الملائكة مردفين) *) قرأ أهل المدينة: مردفين بفتح الدال والباقون بكسره، لغتان متتابعين بعضهم في أثر بعض يقال: اردفه وردفته بمعنى تبعته قال الشاعر:
إذا الجوزاء أردفت الثريا
ظننت بآل فاطمة الظنونا
331

أراد ردفت جاءت بعدها، لأن الجوزاء تطلع بعد الثريا ومن فتح فعلى المفعول، أي أردف الله المسلمين وجاءهم به فأمدهم الله بالملائكة ونزل جبرئيل في خمسمائة ملك مجنبة على الميمنة فيها أبو بكر رضي الله عنه ونزل ميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي كرم الله وجهه وهم في صورة الرجال عليهم ثياب بيض، وعمائم بيض أرخوا ما بين أكتافهم، فقاتلت الملائكة يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ولا يوم حنين ولا تقاتل أبدا إنما يكونون حددا أو مددا.
وقال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت لفارس يقول قدم حيزوم ونظر إلى المشرك أمامه خر مسلتقيا، فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فجاء الرجل فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (صدقت ذلك من مدد السماء) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
قال مجاهد: ما مد النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكر الله تعالى غير الألف من الملائكة " * (مردفين) *) التي ذكر الله في الأنفال وأما الثلاثة والخمسة فكانت بشرى " * (وما جعله الله) *) يعني الامداد.
الفراء: يعني الأرداف.
" * (إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم إذ يغشايكم النعاس أمنة) *) قرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو: يغشيكم بفتح الياء النعاس رفع على أن الفعل له واحتجوا بقوله في سورة آل عمران " * (أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم) *) فجعل الفعل له.
وقرأ أهل المدينة يغشيكم بضم الياء مخففة على أن الفعل لله عز وجل ليكون موافقا لقوله (وينزل وليطهركم) واحتجوا بقوله تعالى " * (كأنما أغشيت وجوههم) *).
وقرأ عروة بن الزبير والحسن وأبو رجاء وعكرمة والجحدري وعيسى وأهل الكوفة: يغشيكم بضم الياء مشددا.
فاختاره أبو عبيد وأبو حاتم: لقوله " * (فغشاها ما غشى) *) والنعاس النوم تخفيف. وقال أبو عبيدة: هو ابتداء القوم: أمنة بفتح الميم قراءة العامة، وقرأ أبو حياة وابن محيصن: أمنة بسكون الميم وهو مصدر قولك: أمنت من كذا أمنا وأمنة وأمانة وكلها بمعنى واحد فلذلك نصب.
قال عبد الله بن مسعود: النعاس في القتال أمنة من الله عز وجل وفي الصلاة من الشيطان
332

" * (وينزل عليكم من السماء ماء) *) وذلك أن المسلمين نزلوا كثيبا أخضر ببدر يسوخ فيه الأقدم وحوافر الدواب وسبقهم المشركون إلى ماء بدر العظمى وغلبوهم عليه وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين وأصابهم الظمأ ووسوس لهم الشيطان فقال تزعمون أن فيكم نبي الله وأنكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين ومحدثين فكيف ترجون أن يظفركم عليهم.
قال: فأرسل الله عز وجل مطرا سال منه الوادي فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضأوا وسقوا الركاب وملؤوا الأسقية وأطفى الغبار ولبد الأرض حتى ثبت عليه الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت أنفسهم فذلك قوله " * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) *) من الأحداث والجنابة.
وقرأ سعيد بن المسيب: ليطهركم بطاء ساكنة من أطهره الله " * (ويذهب عنكم رجز الشيطان) *) أي وسوسة الشيطان.
وقرأ ابن محيصن: رجز بضم الراء. وقرأ أبو العالية: رجس بالسين والعرب تعاقب بين السين والزاء فيقول بزق وبسق.
والسراط والزراط والأسد والأزد " * (وليربط على قلوبكم) *) اليقين والصبر " * (ويثبت به الأقدام) *) حتى لا يسرح في الرمل بتلبيد الأرض.
وقيل: بالصبر وقوة القلب " * (إذ يوحي ربك إلى الملائكة) *) للذين أمد بهم المؤمنين " * (أني معكم) *) بالعون والنصر " * (فثبتوا الذين آمنوا) *) أي نوروا قلوبهم وصححوا عزائمهم وثباتهم في الجهاد، فقيل: إن ذلك المثبت بحضورهم الحرب معهم.
وقيل: معونتهم إياهم في قتال عدوهم، وقال أبو روق: هو أن الملك كان يشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: إني قد دنوت من المشركين فسمعتهم يقولون والله لئن حملوا علينا (لنكشفن).
فتحدث بذلك المسلمون بعضهم بعضا فيقوي أنفسهم ويزدادون جرأة، قال ابن إسحاق والمبرد: فثبتوا الذين آمنوا أي وآزروهم " * (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) *) ثم علمهم كيف الضرب والقتل فقال " * (فاضربوا فوق الأعناق) *) قال بعضهم: هذا الأمر متصل بقوله: " * (فثبتوا الذين آمنوا) *).
وقال آخرون: هو أمر من الله عز وجل للمؤمنين واختلفوا في قوله " * (فوق الأعناق) *) فقال عطية والضحاك: معناه: فاضربوا الأعناق لقوله " * (إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) *))
.
333

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق).
وقال بعضهم: معناه: فاضربوا على الأعناق، (فوق) بمعنى على. وقال عكرمة: معناه فاضربوا الرؤوس فوق الأعناق. وقال ابن عباس: معناه واضربوا فوق الأعناق أي على الأعناق، نظيره قوله " * (فإن كن نساء فوق اثنتين) *) أي اثنتين فما فوقهما.
" * (واضربوا منهم كل بنان) *) قال عطية: يعني كل مفصل.
وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك: يعني الأطراف والبنان جمع بنانه، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين واشتقاقه من أبن بالمقام إذا قام به.
قال الشاعر:
ألا ليتني قطعت منه بنانه
ولاقيته في البيت يقظان حاذرا
وقال يمان بن رئاب: " * (فاضربوا فوق الأعناق) *) يعني الصناديد " * (واضربوا منهم كل بنان) *) يعني السفلة، والصحيح: القول الأول. قال أبو داود المازني وكان شهد بدرا: اتبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل سيفي فعرفت أنه قتله غيري.
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لقد رأيت يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وقال ابن عباس: حدثني رجل عن بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في جبل ليشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الواقعة على من يكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب.
قال: فبينما نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل. فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم قال فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات أما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت.
وقال عكرمة: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف
334

عن بدر فقد بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكذلك صنعوا لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا فلما جاء الخبر عما أصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وحزما فكان رجلا ضعيفا قال: وكنت أعمل الأقداح أنحتها في حجرة زمزم فوالله إني لجالس فيها أنحت الأقداح وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاء من الخبر إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة وكان ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب قد قدم، فقال أبو لهب: هلم إلي يا بن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس، قال: لا شيء والله كأن الآن لقينا فمنحناهم أكتافا يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا وأيم الله مع تلك ما لمت الناس:
لقينا رجالا بيضا على خيل (معلق) بين السماء والأرض (ما تليق) شيئا ولا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع: فرفعت طرف الحجرة بيدي ثم قلت: تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة فناورته فاحملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي فضربني وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد البيت فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتله.
ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما يدفناه حتى أنتن في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة كما تتقي الناس الطاعون حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغسلانه فقالا: إنا نخشى هذه القرحة، قال: فانطلقا فإنا معكما فما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يمسونه ثم حملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى
جدار وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه.
وروي مقسم عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة وكان أبو اليسر رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر: يا أبا اليسر كيف أسرت العباس؟
فقال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أعانك عليه ملك كريم.
" * (ذلك بأنهم شاقوا الله) *) خالفوا الله " * (ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد
335

العقاب) *) أي هذا العقاب الذي أعجلته لكم أيها الكفار " * (فذوقوه) *) عاجلا " * (وأن للكافرين) *) في المعاد " * (عذاب النار) *) وفي فتح (أن) وجهان من الإعراب أحدهما الرفع والأخر النصب:
فأما الرفع فعلى تقدير ذلكم تقديره: ذلكم يذوقوه، وذلك أن للكافرين عذاب النار.
وأما النصب فعلى وجهين: أحدهما: بمعنى فعل مضمر: ذلكم فذوقوه وأعلموا وأيقنوا أن للكافرين.
والأخر بمعنى: وما للكافرين فلما حذف الياء نصب.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد بآء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير * فلم تقتلوهم ولاكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولاكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم * ذالكم وأن الله موهن كيد الكافرين * إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين * ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا) *) أي) مخفقين (متزاحفين بعضكم إلى بعض والتزاحف التداني والتقارب.
قال الأعشى:
لمن الضعائن سيرهن زحيف
عرم السفين إذا تقاذف مقذف
والزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم: قوم عدل ورضى " * (فلا تولوهم الأدبار) *) يقول: فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم ولكن اثبتوا لهم " * (ومن يولهم يومئذ دبره) *) ظهره وقرأ الحسن ساكنة " * (إلا متحرفا لقتال) *) أي متعطفا مستطردا لقتال عدوه بطلب عورة له تمكنه إصابتها فيكر عليه.
" * (أو متحيزا) *) منضما صابرا " * (إلى فئة) *) جماعة من المؤمنين يفيئون به بسهم إلى القتال " * (فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) *) واختلف العلماء في حكم قوله " * (ومن يولهم يومئذ دبره) *) الآية هل هو خاص في أهل بدر أم هو في المؤمنين جميعا.
فقال أبو سعيد الخدري: إنما كان ذلك يوم بدر خاصة لم يكن لهم
336

أن ينحازوا ولو انحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ في الأرض مسلم غيرهم ولا للمسلمين فيه غير النبي صلى الله عليه وسلم فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض ممثلة، قاله الحسن والضحاك وقتادة.
قال يزيد ابن أبي حبيب: أوجب الله لمن فر يوم بدر النار.
فقال " * (من يولهم يومئذ دبره) *) الآية. فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: " * (إنما أستزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم) *) ثم كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين. فقال: " * (ثم وليتم مدبرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء) *). وقال عطاء بن أبي رباح: هذه الآية منسوخة بقوله " * (الآن خفف الله عنكم) *) الآية فليس لقوم أن يفروا من مثليهم فنسخت تلك الآية إلا هذه العدة.
وقال الكلبي: من قبل اليوم مقبلا أو مدبرا فهو شهيد ولكن سبق المقبل المدبر إلى الجنة.
وروي جرير عن منصور عن إبراهيم قال: انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر. فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال عمر رضي الله عنه أنا فئتك.
وقال محمد بن سيرين: لما قتل أبو عبيد جاء الخبر إلى عمر رضي الله عنه فقال لو أنحاز إلي فكنت له فئة (فأنا فئة) كل مسلم.
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر قال: كنا في مصيل بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاض الناس خيضة فانهزمنا وكنا نفر، قلنا نهرب في الأرض حياء مما صنعنا فدخلنا البيوت. ثم قلنا: يا رسول الله نحن الفارون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بل أنتم الكرارون وإنا فئة المسلمين).
وقال بعضهم: بل حكمنا عام في كل من ولى عن العدو وفيهم من روى ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أهله: ((إياك والفرار) من الزحف فإن هلكوا فاثبتوا فما (....) إلا على ارتكاب الكبائر وإلا الشرك بالله والفرار من الزحف لأن الله تعالى يقول " * (ومن يولهم يومئذ دبره) *).) الآية.
" * (فلم تقتولهم ولكن الله قتلهم) *) الآية فقال أهل التفسير والمغازي لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم
337

بدرا قال: (هذه مصارع القوم إن شاء الله)، فلما طلعوا عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللهم إني
أسألك ما وعدتني فأتاه جبرئيل وقال: خذ حفنة من تراب فارمهم بها).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما التقى الجمعان لعلي رضي الله عنه: (أعطني قبضة من حصا الوادي) فناوله من حصى عليه تراب فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم به في وجوه القوم وقال: (شاهت الوجوه).
فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب الهزيمة.
وقال حكيم بن حزام: لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا.
وقال قتادة وابن زيد: ذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى حصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم.
وقال: (شاهت الوجوه) فانهزموا.
الزهري عن سعيد بن المسيب قال: نزلت هذه الآية في قتل أبي بن كعب الجمحي. وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل وهو يفته فقال: يا محمد الله يحيي هذا وهو رميم؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم يحيه الله ثم يميتك ثم يدخلك النار فلما كان يوم بدر أسره ثم فدي، فلما افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي فرسا أعلفها كل يوم (فرق) ذرة لكي أقتلك عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلما كان يوم أحد أقبل أبي بن خلف يركض بفرسه ذلك حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (استاخروا)، فاستأخروا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربة في يده فرمى بها أبي بن خلف فكسرت الحربة ضلعا من أضلاعه فرجع أبي إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه وطفقوا يقولون: لا بأس، فقال أبي: والله لو كانت الناس لقتلهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله، فانطلق به أصحابه ينعونه حتى مات ببعض الطريق فدفنوه ففي ذلك أنزل الله هذه الآية " * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) *) الآية.
وروى صفوان بن عمرو عن عبد العزيز بن (جبير) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر دعا بقوس
338

فأتي بقوس طويلة فقال: جيئوني بغيرها، فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبي صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فأنزل الله تعالى: " * (وما رميت إذ رميت) *) فهذا سبب نزول الآية.
فأما معناها فإن الله تعالى أضاف القتل والرمي إلى نفسه لأنه كان منه تعالى التسبيب والتسديد ومن رسوله والمؤمنين الضرب والحذف. وكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة من الله تعالى الإنشاء والايجاد بالقدرة القديمة التامة ومن الخلق الاكتساب بالقوى المحدثة، وفي هذا القول دليل على ثبوت مذهب أهل الحق وبطلان قول القدرية.
وقيل: إنما أضافها إلى نفسه لئلا يعجب القوم.
قال مجاهد: قال هذا: قتلت، وقال هذا: قتلت، فأنزل الله هذه الآية.
وقال الحسن: أراد فلم تميتموهم ولكن الله أماتهم وأنتم جرحتموهم لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره.
قال " * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) *) أي (قتل) يبلغ إلى المشركين بها وملأ عيونهم منها.
وقال ابن إسحاق: ولكن الله رمى أي لم يكن ذلك رميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك وما ألقى في صدور عدوك منها حتى هزمهم.
وقال أبو عبيده: تقول العرب: رمى الله لك، أي نصرك. قال الأعمش: " * (ولكن الله رمى) *) أي وفقك وسدد رميتك.
" * (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) *) أي ولينعم على المؤمنين نعمه عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والثواب.
وقال ابن إسحاق: ليعرف المؤمنين نعمة نصرهم وإظهارهم على عدوهم مع قلة عددهم وكثرة عدوهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا نعمه " * (إن الله سميع) *) لإقوالهم " * (عليم) *) بأفعالهم سميع بأسرارهم عليم بإضمارهم " * (ذلكم) *) يعني: ذكرت من القتل والرمي والأجل الحسن " * (وأن
339

الله) *) أي: وأعلموا أن الله، وفي فتح " * (أن) *) من الوجوه ما في قوله تعالى " * (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) *) (وقد بيناه هناك).
" * (موهن) *) مضعف " * (كيد الكافرين) *) قرأ الحجازي والشامي والبصري: موهن بالتشديد والتنوين (كيد) نصبا وقرأ أكثر أهل الكوفة (موهن) بالتخفيف والتنوين (كيد) نصبا واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن محيصن و) الأعمش (وحفص: موهن كيد، مخففة مضافة بالجر فمن نون معناه: وهن، ومن خفف وأضاف قصر الخفة كقوله " * (مرسلو الناقة) *) و " * (كاشفو العذاب) *) ووهن وأوهن لغتان صحيحتان فصيحتان " * (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) *) وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصرنا عليه، فاستجاب الله دعاءه وجاء بالفتح وضربه ابنا عفراء: عوف ومسعود، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود.
وقال السدي والكلبي: كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصرنا على الحزبين وأهدى القبتين وأكرم الجندين وأفضل الدينين فأنزل الله هذه الآية.
وقال عكرمة: قال المشركون اللهم لا نعرف ما جاء به محمد فأفتح بيننا وبينه بالحق فأنزل الله تعالى " * (وإن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) *) أي أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
وقال أبي بن كعب وعطاء الخراساني: هذا خطاب أصحاب رسول الله قال الله للمسلمين: " * (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) *) أي تستنصروا الله وتسألوه الفتح فقد جاءكم الفتح أي بالنصرة.
وقال حباب بن الأرت: شكونا إلى رسول الله عليه السلام فقلنا: لا تستنصر لنا، فاحمر وجهه وقال: (كان الرجل قبلكم يؤخذ ويحفر له في الأرض، ثم يجاء بالمنشار فيقطع بنصفين ما يصرفه عن دينه شيء، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ولا يخشى إلا الله عز وجل والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون).
340

ثم قال للكفار " * (وإن تنتهوا) *) عن الكفر بالله وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم " * (فهو خير لكم وإن تعودوا) *) لقتاله وحربه " * (نعد) *) بمثل الواقعة التي أوقعت لكم يوم بدر.
وقيل: وإن تعودوا إلى هذا القول وقتال محمد صلى الله عليه وسلم " * (ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) *) (قرأ) أهل المدينة والشام: " * (وأن الله) *) بفتح الألف، والمعنى: ولأن الله، وقيل: هو عطف على قوله " * (وأن الله موهن كيد الكافرين) *).
وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف، واختلفوا فيه وقراءة أبي حاتم (لأن) في قراءة عبد الله: والله مع المؤمنين.
" * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه) *) ولا تدبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (وأنتم تسمعون) *) أمره وليه.
قال ابن عباس: وأنتم تسمعون القرآن ومواعظه " * (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا) *) يعني المنافقين والمشركين الذين سمعوا كتاب الله بآذانهم فقالوا سمعنا " * (وهم لا يسمعون) *) يعني لا يتعظون بالقرآن ولا ينتفعون بسماعهم وكأنهم لم يسمعوا الحقيقة.
2 (* (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون * يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون * واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة واعلموا أن الله شديد العقاب * واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) *) 2
" * (إن شر الدواب) *) يعني أن شر (الدواب) على وجه الأرض من خلق الله " * (عند الله) *) فقال الأخفش: كل محتاج إلى غذا فهو دابة.
" * (الصم البكم) *) عن الحق كأنهم لا يسمعون ولا ينطقون.
قال ابن زيد: هم صم القلوب وبكمها وعميها. وقرأ " * (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) *).
وقال ابن عباس وعكرمة: هم بنو عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صم بكم عمي عن
341

مخاطبة محمد لا نسمعه ولا نجيبه، (فكانوا) جميعا (بأحد)، وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة " * (الذين لا يعقلون) *) أمر الله " * (ولو علم الله فيهم خيرا) *) صدقا وإسلاما " * (لأسمعهم) *) لرزقهم الفهم والعلم بالقرآن " * (ولو أسمعهم لتولوا) *) عن القرآن " * (وهم معرضون) *) عن الإيمان بالقرآن لعلم الله فيهم وحكمه عليهم بالكفر " * (يا أيها الذين آمنوا أستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) *) اختلفوا في قوله (لما يحييكم):
فقال السدي: هو الإيمان يحييهم بعد موتهم أي كفرهم. وقال مجاهد: للحق. وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والفقه والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة.
وقال ابن إسحاق: لما يحييكم يعني الحرب والجهاد التي أعزكم الله بها بعد الذل. وقواكم بها بعد الضعف ومنعكم بها عن عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وقال (القتيبي): لما يحييكم: لما يتقيكم، يعني الشهادة. وقرأ قوله " * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) *) فاللام في قوله (لما) بمعنى إلى ومعنى الاستجابة في هذه الآية الطاعة يدل عليه ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب وهو قائم يصلي فصاح له فقال: (تعال إلي)، فعجل أبي في صلاته ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما منعك يا أبي أن تجيبني إذا دعوتك؟ أليس الله يقول يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
قال: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك وإن كنت مصليا.
قال: (تحب أن أعلمك سورة لم تنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها)؟
قال أبي: نعم يا رسول الله.
قال: (لا تخرج من باب المسجد حتى تعلمها) والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أبي: يا رسول الله، فوقف فقال: (نعم كيف تقرأ في صلاتك) فقرأ أبي أم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن (مثلها) وإنها لهي السبع المثاني التي أتاني الله عز وجل.
" * (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) *) قال سعيد بن جبير: معناه يحول بين الكافر أن يؤمن وبين المؤمن أن يكفر.
342

ابن عباس: بين الكافر وبين طاعته ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
وقال مجاهد: يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يفعل، وروى خصيف عنه قال: يحول بين قلب الكافر وبين أن يعمل خيرا.
وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه.
وقال قتادة: معنى ذلك أنه قريب من قلبه ولا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره. وهي كقوله عز وجل " * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) *).
وقيل: هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في الحال الصعبة جاءت ظنونهم واختلجت صدروهم فقيل (فيهم) * * (قاتلوا في سبيل الله) *) وأعلموا أن الله يحول بين المرء وبين ما في قلبه فيبدل الخوف أمنا والجبن جرأة.
وقيل: يحول بينه وبين مراده، لأن الأجل حال دون الأمل. والتقدير منع من التدبير.
وقرأ الحسن: بين المرء، وبتشديد الراء من غير همزة.
وقرأ الزهري: بضم الميم والهمزة وهي لغات صحيحة.
" * (وانكم إليه تحشرون) *) ويجزيكم بأعمالكم.
قال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قلنا: يا رسول الله أمنا بك فهل تخاف علينا؟
قال: (إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف شاء إن شاء إقامة وإن شاء أزاغة).
والإصبع في اللغة الأثر الحسن، فمعنى قوله: بين إصبعين: بين أثرين من أثار الربوبية وفيها الإزاغة والإقامة.
قال الشاعر:
صلاة وتسبيح والخطأ نائل
وذو رحم تناله منك إصبع
أي أثر حسن.
وقال آخر
343

من يجعل الله عليه اصبعا
في الشر أو في الخير يلقه معا
فالإصبع أيضا في اللغة الإصبع.
فمعنى الحديث بين مملكتين من ممالكه، وبين الإزاغة والإقامة والتوفيق والخذلان.
قال الشاعر:
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن
للغدر خائنة مغل الإصبع
" * (واتقوا فتنة) *) أي اختبار وبلاء يصيبكم.
وقال ابن زيد: الفتنة الضلالة " * (لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) *) واختلفوا في وجه قوله " * (لا تصيبن) *) من الاعراب.
فقال أهل البصرة: قوله (لا تصيبن) ليس بجواب ولكنه نهي بعد أمره، ولو كان جوابا ما دخلت النون.
وقال أهل الكوفة: أمرهم ثم نهاهم وفيه تأويل الجزاء فإن كان نهيا كقوله: " * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لايحطمنكم) *). أمرهم ثم نهاهم، وفيه تأويل الجزاء وتقديره: واتقوا الله إن لم تنتهوا أصابتكم.
وقال الكسائي: وقعت النون في الجر بمكان التحذير، فلو قلت: قم لا أغضب عليك لم يكن فيه النون لأنه جزاء محض.
وقال الفراء: هو جزاء فيه طرف من النهي كما تقول: أنزل عن الدابة لا يطرحك. ولا يطرحنك فهذا (جزاء من) الأمر بلفظ النهي. ومعناه: إن تنزل عنه لا يطرحنك.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب.
وقال الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير قال الزبير بن العوام: يوم الجمل لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها.
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة. فحلفنا حتى أصابتنا خاصة. قال السدي: هذه الآية نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فأقبلوا.
وقال عبد الله بن مسعود ما منكم من أحد إلا هو مشتمل على الفتنة إن الله يقول: " * (إنما
344

أموالكم وأولادكم فتنة) *) فإيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن.
حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يكون من ناس من أصحابي إساءة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي يستن بهم فيها ناس يعذبهم فيدخلهم الله بها
النار).
يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى تأتي فتنة (عمياء مظلمة) المضطجع فيها خير من الجالس والجالس فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي).
فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن أدركتني (وأنا مضطجع) قال: (فامش).
قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا أمشي. قال (ارقد) قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا راقد فأجلس. قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا جالس.
قال: (فقل هكذا بيدك، وضم يديه إلى جسده، حتى تكون عند الله المظلوم ولا تكون عند الله الظالم).
عن زيد بن أبي زياد عن زيد بن الأصم عن حذيفة قال: أتتكم فتن كقطع الليل المظلم يهلك فيها كل شجاع بطل وكل راكب موضع وكل خطيب مشفع " * (واذكروا إذ أنتم قليل) *) في العدد " * (مستضعفون في الأرض) *) أرض مكة في عنفوان الإسلام " * (تخافون أن يتخطفكم) *) يذهب بكم " * (الناس) *) كفار مكة، وقال وهب: فارس والروم " * (فآواكم) *) إلى المدينة " * (وأيدكم بنصره) *) يوم بدر أيدكم بالانتصار وأمدكم بالملائكة " * (ورزقكم من الطيبات) *) يعني الغنائم أجالها لكم ولم يجلها لأحد قبلكم " * (لعلكم تشكرون) *).
قال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا وأشقاهم عيشا وأجوعهم بطنا وأغراهم جلودا وآمنهم ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات منهم ردى في النار مكعوبين على رأس الحجرين الأشدين فارس والروم.
يؤكلون ولا يأكلون وما في بلادهم شيء عليه يحسدون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا شر منزلا منهم حتى جاء الله عز وجل بالاسلام فمكن في البلاد ووسع به في الرزق وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس
345

وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يجب الشكر له (وأجمل) الشكر في مزيد من الله تعالى.
2 (* (يأيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم * ياأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم * وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا قالوا قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل هاذآ إن هاذآ إلا أساطير الأولين) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول) *) قال عطاء ابن أبي رباح: حدثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبرئيل (عليه السلام) النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فأخرجوا إليه واكتموا) قال: فكتب رجلا من المنافقين إليه أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله تعالى الآية.
وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم فيفشونه حتى بلغ المشركين.
وقال الزهري والكلبي: نزلت هذه الآية في أبي لبابة واسم أبي لبابة هارون بن عبد المنذر الأنصاري من بني عوف بن مالك وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النظير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم، لأن عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أنزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى طقه أنه الذبح فلا تفعلوا.
قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أن قد خنت الله والرسول فلما نزلت هذه الآية شد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى خر مغميا عليه ثم تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تبت عليك.
قال: لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاءه فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب. وأن أنخلع من
346

مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يجزيك الثلث إن تصدقت).
فقال المغيرة بن شعبة: نزلت هذه الآية في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال محمد بن إسحاق: معنى الآية لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفونه في السر إلى غيره.
وقال ابن عباس: لا تخونوا الله بترك فرائضه، والرسول بترك سنته، وتخونوا أماناتكم.
قال السدي: إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم.
وعلى هذا التأويل يكون قوله (ويخونوا) نصبا على جواب النهي.
والعرب تنصب جواب النهي وقالوا كما ينصب بالفاء.
وقيل: هو نصب على الصرف كقول الشاعر:
لا تنهى عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال الأخفش: هو عطف على ما قبله من النهي، تقديره: ولا تخونوا أماناتكم.
وقرأ مجاهد: أمانتكم واحدة. واختلفوا في هذه (الآية) فقال ابن عباس: هو ما يخفي عن أعين الناس من فرائض الله عز وجل والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد يقول لا تنقضوها.
وقال ابن زيد: معنى الأمانات هاهنا الدين وهؤلاء المنافقون ائتمنهم الله على دينه فخانوا، إذ أظهروا الإيمان وأسروا الكفر.
قال قتادة: إن دين الله أمانة فأدوا إلى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده. ومن كانت عليه أمانة فليردها إلى من أئتمنه عليها.
" * (وأعلموا أنما أموالكم وأولادكم) *) التي عند بني قريظة " * (فتنة وأن الله عنده أجر عظيم يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله) *) بطاعته وترك معصيته واجتناب خيانته " * (يجعل لكم فرقانا) *) قال مجاهد: مخرجا في الدنيا والآخرة.
وقال مقاتل بن حيان: مخرجا في الدين من الشبهات. وقال عكرمة: نجاة. وقال الضحاك: بيانا. وقال مقاتل: منقذا
347

قال الكلبي: بصرا، وقال ابن إسحاق: فصلا بين الحق والباطل، يظهر الله به حقكم ويطفئ به باطل من خالفكم.
وقال ابن زيد: فرقا يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل حتى يعرفوه ويشهدوا به.
والفرقان مصدر كالرحمان والنقصان.
تقول: فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما فرقا وفروقا وفرقانا، " * (ويكفر عنكم) *) ما سلف من ذنوبكم " * (ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) *) هذه الآية معطوفة على قوله تعالى: " * (فاذكروا إذ أنتم قليل) *). " * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) *). " * (وإذا قالوا اللهم) *) لأن هذه السورة مدنية.
وهذا القول والمكر كان بمكة، ولكن الله تعالى ذكرهم ذلك بالمدينة كقوله " * (إلا تنصروه فقد نصره الله) *) وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من المفسرين أن قريشا لما أسلمت الأنصار فرقوا أن تتفاقم أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاجتمع نفر من مشايخهم وكبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت روؤسائهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبا جهل وأبا سفيان وطعمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام وبنيه ومنبه ابنا الحجاج وأمية بن خلف فاعترض لهم إبليس في صورة شيخ فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا من رأي ونصح، قالوا: ادخل فدخل.
فقال أبو البحتري: أما أنا فأرى أن تأخذوه وتحبسوه في بيته وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت فتتركوه وتقدموا إليه طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، وإنما هو كأحدهم.
فصرخ إبليس الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي رأيتم تعمدون إلى الرجل وتحبسونه فيتم أجره، وقد سمع به من حولكم، (فأوشكوا أن يشبوا فينتزعوه من أيديكم) ويقاتلونكم عنه حتى يأخذوه منكم.
قالوا: صدق الشيخ. فقال هشام بن عمرو وهو من بني عامر بن لؤي: أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير فيخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم (ما ضر من) وقع إذا غاب عنكم
348

واسترحم وكان أمره في غيركم. فقال إبليس بئس الرأي رأيكم تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجوا به إلى غيركم يفسدهم كما أفسدكم، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقه لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه.
والله لئن فعلتم، ثم استعرض العرب لتجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم فيخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم.
قالوا: صدق والله الشيخ.
فقال أبو جهل: لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره: إني أرى أن نأخذ واحدا من كل بطن من قريش غلاما وسبطا ثم يعطى كل رجل منهم سيفا صارما ثم يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدي قريش ديته واسترحنا، فقال إبليس: صدق هذا الفتى و (هذا) أجودكم رأيا، القول ما قاله لا أرى غيره.
فتفرقوا على قول أبي جهل، وهم مجتمعون فأتى جبرئيل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت على مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج إلى المدينة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فنام في مضجعه فقال: اتشح ببردي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه.
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ قبضه من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه وجعل ينثر التراب على رؤسهم وهو يقرأ " * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى
الأذقان فهم مقمحون) *) ومضى إلى الغار من ثور فدخله هو وأبو بكر وخلف عليا رضي الله عنه بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقه وأمانته وكان المشركون يتحرسون عليا رضي الله عنه وهو على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون أنه النبي، فلما أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليا رضي الله عنه.
وقد رد الله مكرهم وما ترك منهم رجلا إلا وضع على رأسه التراب.
فقالوا: أين صاحبك؟
قال: لا أدري فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الجبل، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، وقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث أيام ثم قدم المدينة فذلك قوله تعالى: " * (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) *).
قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي: ليوثقوك. وقال قتادة: ليشدوك وثاقا.
349

وقال عطاء. وعبد الله بن كثير: ليسجنوك. وقال أبان بن ثعلب. وأبو حاتم: ليثخنوك بالجراحات والضرب. وأنشد:
فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم
قالوا ألخليفة امسى مثبتا وجعا
وقيل: معناه ليسخروك.
وروى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عبد المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدري ما أضمر بك قومك؟
قال: (نعم (يريدون) أن يسخروا بي ويقتلوني أو يخرجوني) فقال: من أخبرك بهذا؟
قال: (ربي).
قال: نعم الرب ربك فاستوص ربك خيرا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا استوصي به بل هو يستوصي بي خيرا).
وقرأ إبراهيم النخعي (وليثبتوك) من البيات " * (أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله) *) قال الحسن: فيقولون ويقول الله.
وقال الضحاك: ويصنعون ويصنع الله " * (والله خير الماكرين) *) خير من استنقذك منهم وأهلكهم " * (وإذا تتلى عليهم أياتنا قالوا) *) يعنى النضر بن الحرث " * (قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا) *) وذلك أنه كان (يختلف) تاجرا إلى فارس والحيرة فيسمع سجع أهلها وذكرهم أخبار العجم وغيرهم من الأمم، فمر باليهود والنصارى فرآهم يقرأون التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء مكة فوجد محمدا يقرأ القرآن ويصلي. فقال النضر: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا " * (إن هذا إلا أساطير الأولين) *) أخبار الأمم الماضية وأعمارهم، قال السدي: أساجيع أهل الحيرة.
والأساطير جمع الجمع وأصلها من قوله: سطرت أي كتبت، وواحدها سطر ثم تجمع أسطار أو سطور ثم فيجمعان أساطر وأساطير. وقيل: الأساطير واحدها أسطورة وأسطار. والجمع القليل: أسطر.
(* (وإذ قالوا اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم * وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون * وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أوليآءه إن أوليآؤه
350

إلا المتقون ولاكن أكثرهم لا يعلمون * وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكآء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *) 2
" * (وإذ قالوا اللهم) *) الآية نزلت أيضا في النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة من بني عبد الدار.
قال ابن عباس: لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين في كتبهم.
فقال عثمان بن مظعون: اتق الله فإن محمدا يقول الحق. قال: فأنا أقول الحق. قال: فإن محمدا يقول: لا إله إلا الله. قال: فأنا أقول لا إله إلا الله. ولكن هذه شأن الله يعني الأصنام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين) *) قال النضر: ألا ترون أن محمدا قد صدقني فيما أقول يعني قوله " * (إن كان للرحمان ولد) *).
قال له المغيرة بن الوليد: والله ما صدقك ولكنه يقول ما كان للرحمن ولد.
ففطن لذلك النضر فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك.
" * (إن كان هذا هو الحق من عندك) *) * * (هو) *) عمادا وتوكيد وصلة في الكلام، و " * (الحق) *) نصب بخبر كان " * (فأمطر علينا حجارة من السماء) *) كما أمطرتها على قوم لوط.
قال أبو عبيدة: ما كان من العذاب. يقال: فينا مطر ومن الرحمة مطر " * (أو إئتنا بعذاب أليم) *) أي بنفس ما عذبت به الأمم وفيه نزل: " * (سأل سائل بعذاب واقع) *).
قال عطاء: لقد نزل في النضر بضعة عشرة آية من كتاب الله فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر.
قال سعيد بن جبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (ثلاثة صبروا منكم من قريش المطعم بن عدي. وعقبة بن أبي معيط. والنضر بن الحرث).
وكان النضر أسير المقداد فلما أمر بقتله قال المقداد: أسيري يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول) قال المقداد: أسيري يا رسول الله، قالها ثلاث مرات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثالثة: (اللهم اغن المقداد من فضلك).
فقال المقداد: هذا الذي أردت.
351

" * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) *) اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد بن إسحاق بن يسار: هذه حكاية عن المشركين، إنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأولى، (وقيل): إن المشركين كانوا يقولون: والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أمة ونبيها معهم، وذلك من قولهم ورسول الله بين أظهرهم، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكر له جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم إذ قالوا " * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) *) وقالوا: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * * (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) *) ثم قال ردا عليهم " * (وما لهم ألا يعذبهم الله) *) وإن كنت بين أظهرهم أن كانوا يستغفرون " * (وهم يصدون عن المسجد الحرام) *).
وقال آخرون: هذا كلام مستأنف وهو قول الله تعالى حكاية عن نفسه ثم اختلفوا في وجهها وتأوليها:
فقال ابن أبزي وأبو مالك والضحاك: تأويلها: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم.
قالوا: فأنزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة ثم خرج النبي من بين أظهرهم.
وبقيت منها بقية من المسلمين يستغفرون. فأنزل الله بعد خروجه عليه حين استغفر أولئك بها " * (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) *).
ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم فعذبوا وأذن الله بفتح مكة، فهو العذاب الذي وعدهم.
ابن عباس: لم يعذب أولئك حتى يخرج النبي منها والمؤمنون. قال الله: " * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) *) يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله: " * (وما لهم ألا يعذبهم الله) *) يعذبهم يوم بدر.
وقال بعضهم: هذا الاستغفار راجع إلى المشركين: وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين ما دمت فيهم وما داموا يستغفرون. وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويقولون لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك بملكه لو ما ملك، ويقولون غفرانك غفرانك. هذه رواية أبي زميل عن ابن عباس.
وروى ابن معشر عن يزيد بن روحان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا " * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) *). الآية فلما أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غفرانك اللهم. فأنزل الله عز وجل " * (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) *).
وقال أبو موسى الأشعري: إنه كان فيكم أمانا لقوله تعالى " * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) *).
352

وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى وأما الاستغفار فهو كائن إلى يوم القيامة.
وقال قتادة (وابن عباس) وابن يزيد معنى: " * (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) *): أن لو استغفروا، يقول إن القوم لو كانوا يستغفرون لما عذبوا ولكنهم لم يكونوا استغفروا ولو استغفروا فأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين.
وقال مجاهد وعكرمة: (وهم يستغفرون) أي يسلمون، يقول: لو أسلموا لما عذبوا.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وهم يستغفرون) أي وفيهم من سبق له من الله الدخول في الإيمان.
وروى عن ابن عباس ومجاهد والضحاك: وهم يستغفرون أي يصلون. وقال الحسن: هذه الآية منسوخة بالآية التي تلتها: " * (وما لهم ألا يعذبهم الله) *) إلى قوله: " * (بما كنتم تكفرون) *) فقاتلوا بمكة فأصابوا فيها الجوع والخير.
وروى عبد الوهاب عن مجاهد (وهم يستغفرون) أي في (أصلابهم) من يستغفره.
قال " * (وما لهم ألا يعذبهم الله) *) أي: مايمنعهم من أن يعذبوا. قيل: (إن " * (أن) *) هنا زائدة).
" * (وهم يصدون عن المسجد الحرام) *) * * (وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون) *) المؤمنون من حيث كانوا ومن كانوا، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه.
" * (ولكن أكثرهم لا يعلمون وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) *) والمكاء الصفير. يقال مكاء تمكوا مكا ومكوا. وقال عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلا
تمكوا فريصته كشدق الأعلم
ومنه قيل: مكت اسم الدابة مكأ إذا نفخت بالريح. (وتصدية) يعني التصفيق.
قال جعفر بن ربيعة: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله " * (إلا مكاء وتصديه) *) فجمع كفيه ثم نفخ فيها صفيرا.
وقال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون. و (قال) مجاهد: كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون به فيدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون، يخلطون عليه صلاته وطوافه.
وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى في المسجد قام رجلان من المشركين عن يمنيه
353

فيصفران ويصفقان ورجلان كذلك عن يساره ليخلطوا على النبيصلى الله عليه وسلم صلاته. وهم بنو عبد الدار فقتلهم الله ببدر.
وقال السدي: المكاء الصفير على لحن طائر أبيض يكون بالحجاز يقال له: المكا.
قال الشاعر:
إذا غرد المكاء في غير روضة
قيل لأهل الشاء والحمرات
وقال سعيد بن جبير وابن إسحاق وابن زيد: التصدية صدهم عن بيت الله وعن دين الله، والتصدية على هذا التأويل التصديد فقلبت إحدى الدالين تاء كما يقال تظنيت من الظن.
قال الشاعر:
تقضي البازي إذا البازي كسر
يريد: تظنيت وتفضض.
وقرأ الفضل عن عاصم: وما كان صلاتهم بالنصف إلا مكاء وتصدية بالرفع محل الخبر في الصلاة كما قال القطامي:
قفي قبل التفرق يا ضباعا
ولا يك موقف منك الوداعا
وسمعت من يقول: كان المكاء أذانهم والتصفيق إقامتهم " * (فذوقوا العذاب) *) يوم بدر " * (بما كنتم تكفرون) *).
2 (* (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون * ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله فى جهنم أولائك هم الخاسرون * قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الاولين * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير * وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير) *) 2
" * (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) *) ليصرفوا عن دين الله الناس.
قال سعيد بن جبير: وابن أبزي نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من (الأحابيش) يقاتل بهم النبي صلى الله عليه وسلم (سوى) من أشخاص من العرب. وفيهم يقول كعب بن مالك
354

فجينا إلى موج البحر وسطه
أحابيش منهم حاسر ومقنع
وفينا رسول الله نتبع قوله
إذ قال فينا القول لا ينقطع
ثلاثة الألف ونحن نظنه ثلاث
مئين أن كثرن فأربع
وقال الحكم بن عيينة: نزلت في أبي سفيان بن حرب حيث أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية وكانت أوقيته اثنين وأربعين مثقالا.
وقال ابن إسحاق عن رجاله: لما أصيبت قريش من أصحاب القليب يوم بدر، فرجع فيلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان ببعيره إلى مكة (مشى) عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب أباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم (بدر) فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه أملنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا، ففعلوا فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وقال الضحاك: هم أهل بدر.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا: عتبه وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وبنيه ومنبه ابنا الحجاج البحتري بن هشام والنضر بن حارث وحكم بن حزام وأبي بن خلف، وزمعة بن الأسود والحرث بن عامر ونوفل والعباس بن عبد المطلب كلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم عشر جزر.
قال الله " * (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) *) ولا يظفرون " * (والذين كفروا) *) منهم خص الكفار لأجل من أسلم منهم " * (إلى جهنم يحشرون ليميز الله) *) بذلك الحشر " * (الخبيث من الطيب) *) الكافر من المؤمن فيدخل الله المؤمن الجنان والكافر النيران.
وقال الكلبي: يعني العمل الخبيث من العمل الطيب الصالح فيثيب على الأعمال الصالحة الجنة ويثيب على الأعمال الخبيثة النار.
قرأ أهل الكوفة والحسن وقتادة والأعمش وعيسى: " * (ليميز الله) *) بالتشديد.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
وقال ابن زيد: يعني الإنفاق الطيب في سبيل الله من الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان فجعل نفقاتهم في قعر جهنم ثم يقال لهم: الحقوا بها
355

وقال مرة الهمداني: يعني يميز المؤمن في علمه السابق الذي خلقه حين خلقه طيبا من الخبيث الكافر في علمه السابق الذي خلقه خبيثا، وذلك أنهم كانوا على ملة الكفر فبعث الله الرسول بالكتاب ليميز (الله) الخبيث من الطيب فمن (أطاع) استبان أنه طيب ومن خالفه استبان أنه خبيث " * (ويجعل الخبيث بعضه على بعض) *) بعضه فوق بعض " * (فيركمه جميعا) *) أي يجمعه حتى يصيره مثل السحاب الركام وهو المجتمع الكثيف " * (فيجعله في جهنم) *) فوحد الخبر عنهم لتوحيد قول الله تعالى " * (ليميز الله الخبيث) *) ثم قال " * (أولئك هم الخاسرون) *) فجمع، رده إلى أول الخبر، يعني قوله: " * (الذين كفروا ينفقون أموالهم أولئك هم الخاسرون) *) الذين غنيت صفقتهم وخسرت تجارتهم لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة " * (قل للذين كفروا) *) أبي سفيان وأصحابه " * (إن ينتهوا يغفر لهم) *) ان ينتهوا من الشرك وقال محمد: يغفر لهم " * (ما قد سلف) *) من عملهم قبل الإسلام " * (وإن يعودوا) *) لقتال محمد صلى الله عليه وسلم " * (فقد مضت سنة الأولين) *) في نصر الأنبياء والأولياء وهلاك الكفار والأعداء مثل يوم بدر.
قال الأستاذ الإمام أبو إسحاق: سمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: إني لأرجو أن توحيدا لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي بذلك أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد الزيدي:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف
ثم انتهى عما أتاه واقترف
لقوله سبحانه (في المعترف:) * * (قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *).
" * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) *) أي شرك، وقال أبو العالية: بلاء، وقال الربيع: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه " * (ويكون الدين) *) التوحيد خالصا " * (كله لله) *) عز وجل ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد.
وقال قتادة: حتى يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل نبي الله وإليها دعا.
وقيل: حتى تكون الطاعة والعبادة لله خالصة دون غيره " * (فإن انتهوا) *) عن الكفر والقتال " * (فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا) *) عن الإيمان وعادوا إلي فقال أهله " * (فاعلموا أن الله مولاكم) *) ناصركم ومعينكم " * (نعم المولى ونعم النصير) *) الناصر.
356

2 (* (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شىء قدير * إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولاكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة وإن الله لسميع عليم * إذ يريكهم الله فى منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم فى الامر ولاكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور * وإذ يريكموهم إذ التقيتم فىأعينكم قليلا ويقللكم فىأعينهم ليقضى الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور) *) 2
" * (واعلموا أنما غنمتم من شيء) *) حتى الخيط والمخيط.
واختلف العلماء في معنى الغنيمة والفي، ففرق قوم بينهما:
قال الحسن بن صالح: سألت عطاء بن السائب عن الفي والغنيمة فقال: إذا ظهر المسلمون على المشركين على أرضهم فأخذوه عنوة فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو غنيمة. وأما الأرض فهو في سواد هذا الفيء.
وقال سفيان الثوري: الغنيمة ما أصاب المسلمون عنوة بقتال، والفي ما كان من صلح بغير قتال.
وقال قتادة: هما بمعنى واحد ومصرفهما واحد وهو قوله تعالى " * (فأن لله خمسه) *).
اختلاف أهل التأويل في ذلك فقال بعضهم قوله: " * (فأن لله خمسه) *) مفتاح الكلام. ولله الدنيا والآخرة فإنما معنى الكلام: فأن للرسول خمسه وهو قول الحسن وقتادة وعطاء، فإنهم جعلوا سهم الله وسهم الرسول واحدا، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس. قالوا: كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس فأربعة أخماس لمن قاتل عليها، وقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس: خمس للنبي صلى الله عليه وسلم كان له ويصنع فيه ما شاء وسهم لذوي القربى، وخمس اليتامى وخمس للمساكين وخمس لابن السبيل. فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس.
وقال بعضهم: معنى قوله: (فأن لله) فإن لبيت الله خمسه. وهو قول الربيع وأبي العالية قالا: كان يجاء بالغنيمة فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم، فجعل أربعة لمن شهد القتال ويعزل أسهما (فيضرب يده) في جميع ذلك فما قبض من شيء جعله للكعبة وهو الذي سمي لله ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم: سهم للنبي صلى الله عليه وسلم وسهم لذي القربى، وسهم اليتامى، وسهم للمساكين، وخمس لابن السبيل، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس
357

وقال ابن عباس: سهم الله وسهم رسوله جميعا لذوي القربى وليس لله ولا لرسوله منه شيء.
وكانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس فأربعة منها لمن قاتل عليها وخمس واحد تقسم على أربعة، فربع لله والرسول ولذي القربى. فما كان لله والرسول فهو لقرابة
النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأخذ النبي من الخمس شيئا. والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل.
وأما قوله (ولذي القربى) فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس مكان الصدقة واختلفوا فيهم.
فقال مجاهد وعلي بن الحسين وعبد الله بن الحسن: هم بنو هاشم.
وقال الشافعي: هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب خاصة. واحتج في ذلك بما روى الزهري عن سعيد بن جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم لذوي القربى من خيبر على بني هاشم والمطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك بنو هاشم لا تنكر فضلهم مكانك الذي حملك الله منهم أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال صلى الله عليه وسلم (إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام. إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد) ثم أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى يديه بالأخرى.
وقال بعضهم: هم قريش كلها.
كتب نجدة إلى ابن عباس وسأله عن ذوي القربى فكتب إليه ابن عباس: قد كنا نقول: إنا هم، فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا: قريش كلها ذو قربى.
واختلفوا في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذي القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ابن عباس والحسن يجعلانه في الخيل والسلاح، والعدة في سبيل الله ومعونة الإسلام وأهله.
وروى الأعمش عن إبراهيم. قال: كان أبو بكر رضي الله عنه وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح، فقلت لإبراهيم: ما كان لعلي رضي الله عنه قول فيه. قال: كان أشدهم فيه.
قال الزهري: إن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر الصديق يطلبان ميراثهم من فدك وخيبر.
فقال
358

لهم أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) فانصرفا..
359

وقال قتادة: كان سهم ذي القربى طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيا. فلما توفي جعل لولي الأمر بعده.
360

وقال علي كرم الله وجهه: يعطى كل إنسان نصيبه من الخمس لا يعطى غيره، ويلي الإمام سهم الله ورسوله.
وقال بعضهم: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود بعده في الخمس. والخمس بعده مقسوم على ثلاث أسهم: على اليتامى والمساكين وابن السبيل وهو قول جماعة من أهل العراق.
وقال عمرو عن عيينة: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم فلما فرغ أخد وبره من جسد البعير فقال: (إنه لا يحل لي من هذا المغنم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم).
وقال آخرون: الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال المنهال ابن عمرو: سألت عبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا: هو لنا، فقلت لعلي رضي الله عنه: إن الله تعالى يقول " * (واليتامى والمساكين وابن السبيل) *) فقال: يتامانا ومساكيننا.
وأما اليتامى فهم أطفال المسلمين الذين هلك أباؤهم، والمساكين أهل الفاقة والحاجة من المسلمين، وابن السبيل المسافر المنقطع.
وقال ابن عباس: هو الفتى الضعيف الذي ترك المسلمين " * (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا) *) محمد صلى الله عليه وسلم " * (يوم الفرقان) *) يوم فرق فيه بين الحق والباطل ببدر " * (يوم التقى الجمعان) *) جمع المسلمين وجمع المشركين وهو يوم بدر وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة وكان يوم الجمعة لسبع عشر مضت من شهر رمضان " * (والله على كل شيء قدير إذ أنتم) *) يا معشر المسلمين " * (بالعدوة الدنيا) *) شفير الوادي الأدنى إلى المدينة " * (وهم) *) يعني عدوكم من المشركين " * (بالعدوة القصوى) *) من الوادي الأقصى من المدينة " * (والركب أسفل منكم) *) إلى ساحل البحر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي والمشركين بأسفله والعير قد (انهرم) به أبو سفيان على الساحل حتى قدم مكة.
وفي العدوة قراءتان: كسر العين وهو قراءة أهل مكة والبصرة.
وضم العين وهو قرأ الباقين واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وهما لغتان مشهورتان كالكسوة والكسوة. والرشوة والرشوة. وينشد بيت الراعي:
وعينان حمر مآقيهما
كما نظر العدوة الجؤذر
بكسر العين
361

وينشد بيت أوس بن حجر:
وفارس لو تحل الخيل عدوته
ولوا سراعا وما هموا بإقبال
بالضم.
والدنيا تأنيث الأدنى، والقصوى تأنيث الأقصى.
وكان المسلمون خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها فالتقوا من غير ميعاد قال الله " * (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) *) لقللكم وكثرة عدوكم " * (ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) *) من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه " * (ليهلك) *) هذه اللام مكررة على اللام في قوله " * (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) *) ويهلك " * (من هلك عن بينة) *) أي ليموت من يموت على بينة (ولها وعبرة) عاينها وحجة قامت عليه، وكذلك حياة من يحيى لوعده " * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *).
وقال محمد بن إسحاق: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت معذرته ويؤمن من آمن على (مثواك).
وقال قتادة: ليضل من ضل عن بينة ويهتدي من اهتدى على بينة.
وقال عطاء: ليهلك من هلك عن بينة عن علم بما دخل فيه من الفجور " * (ويحيى من حي عن بينة) *) عن علم ويقين بلا إله إلا الله. وفي (حي) قولان، قرأ أهل المدينة: (حيي) بيائين مثل خشيي على الإيمان، وقرأ الباقون (حي) بياء واحدة مشددة على الإدغام، لأنه في الكتاب بياء واحدة " * (وإن الله لسميع عليم إذ يريكهم الله) *) يا محمد يعني المشركين " * (في منامك) *) أي في نومك، وقيل: في موضع نومك يعني عينك " * (قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم) *) لجبنتم " * (ولتنازعتم) *) اختلفتم " * (في الأمر) *) وذلك أن الله تعالى أراهم إياه في منامه قليلا فأخبر صلى الله عليه وسلم بذلك، فكان تثبيتا لهم ونعمة من الله عليهم شجعهم بها على عدوهم فذلك قوله عز وجل " * (ولكن الله سلم) *) قال ابن عباس: سلم الله أمرهم حين أظهرهم على عدوهم " * (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) *) قال مقاتل: ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل (لقاء) العدو فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما رأى. فقالوا: رؤيا النبي حق، القوم قليل، فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين المؤمنين وأصدق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم
قال عبد الله بن مسعود: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: (نراهم سبعين) قال أراهم مائة فأسرنا رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال: ألفا. ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعينهم.
362

قال السدي: قال أناس من المشركين: إن العير قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل: الآن إذا (ينحدر لكم) محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم ولا تقتلوهم بالسلاح خذوهم أخذا كي لا يعبد الله بعد اليوم، إنما محمد وأصحابه أكلة جزور فاربطوهم بالجبال.
كقوله من القدرة على نفسه.
قال الكلبي: استقل المؤمنون المشركين والمشركون المؤمنين، البحتري: بعضهم على بعض. " * (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) *) كائنا في علمه، نصر الإسلام وأهله وذل الشرك وأهله.
وقال محمد بن إسحاق: ليقضي الله أمرا كان مفعولا بالانتقام من أعدائه والإنعام على أوليائه " * (وإلى الله ترجع الأمور) *).
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين * ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئآء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط * وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برىء منكم إنيأرى ما لا ترون إنيأخاف الله والله شديد العقاب * إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هاؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم * ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق * ذالك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة) *) أي جماعة كافرة (فاثبتوا) لقتالهم ولا تنهزموا " * (واذكروا الله كثيرا) *) أي ادعو الله بالنصر عليهم والظفر بهم، وقال قتادة: أمر الله بذكره (أثقل) ما يكونون عند الضراب بالسيوف " * (لعلكم تفلحون) *) تنجحون بالنصر والظفر " * (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا) *) ولا تختلفوا " * (فتفشلوا) *) أي تخسروا وتضعفوا.
وقال الحسن: فتفشلوا بكسر الشين " * (وتذهب ريحكم) *) قال مجاهد: نصركم وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد.
وقال السدي: جماعتكم وحدتكم، وقال مقاتل: (حياتكم)، وقال عطاء: جلدكم.
وقال يمان: غلبتكم، وقال النضر بن شميل: قوتكم، وقال الأخفش: دولتكم، وقال ابن زيد: هو ريح النصر لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثه الله في وجوه العدو، فإذا كان كذلك لم
363

يكن لهم قوام، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور).
يقال للرجل إذا أقبلت الدنيا عليه بما يهواه: الريح اليوم لفلان.
قال عبيد بن الأبرص:
كما حميناك يوم النعف من شطب
والفضل للقوم من ريح ومن عدد
وقال الشاعر:
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي
إلا عبيد وأم بين أذواد
أتنتظران قليلا ريث غفلتهم
أو تعدوان فإن الريح للعادي
أنشدني أبو القاسم المذكور قال: أنشدني أبا نصر بن منصور الكرجي الكاتب:
إذا هبت رياحك فاغتنمها
فإن لكل خافقة سكون
ولا يغفل عن الإحسان فيها
فما تدري السكون متى يكون
قوله تعالى " * (واصبروا إن الله مع الصابرين ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا) *) فخرا وأشرا " * (وريئاء الناس ويصدون عن سبيل الله) *) معطوف على قوله: (بطرا وريئاء الناس) ومعناه ينظرون ويرون، إذ لا يعطف مستقبل على ماض، " * (والله بما تعملون محيط) *) وهؤلاء أهل مكة خرجوا يوم بدر ولهم بغي وفخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها ليحادك ورسولك).
قال ابن عباس: لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره أرسل إلى قريش أنكم خرجتم لتمنعوا عليكم فقد نجاها الله فارجعوا فوافى الركب الذي فيه أبو سفيان ليأمروا قريشا بالرجعة إلى مكة فقال لهم: انصرفوا، فقال أبو جهل: والله لا ننصرف حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام فنقيم بها ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمور ونعزف عليها القيان وتسمع بها العرب. فلا يزالون يهابوننا أبدا فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان
364

ونهى الله عباده المؤمنين بأن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النية والخشية في نصرة دينه وموأزرة نبي هصلى الله عليه وسلم
" * (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) *) وكانت الزينة لهم على ما قاله ابن عباس وابن إسحاق والسدي والكلبي وغيرهم: إن قريشا لما أجمعت المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحرب التي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فكان ذلك أن يثبتهم، فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته فتبدى في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني، وكان من أشراف كنانة.
قال الشاعر:
يا ظالمي أنى تروم
ظلامتي والله من كل الحوادث خالي
" * (فلما تراءت الفئتان) *) أي التقى الجمعان ورأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء وعلم أنه لا طاقة له بهم " * (نكص على عقبيه) *). قال الضحاك: ولى مدبرا. قال النضر بن شميل: رجع القهقري على قفاه هاربا، وقال قطرب وابان بن ثعلبة: رجع من حيث جاء.
قال الشاعر:
نكصتم على أعقابكم يوم جئتم
وتزجون أنفال الخميس العرمرم
وقال عبد الله بن رواحة: فلما رأيتم رسول الله نكصتم على أعقابكم هاربينا.
قال الكلبي: لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن كنانة آخذا بيد الحرث بن هشام، فنكص على عقبيه وقال له الحرث: يا سراقة أين؟ أتخذلنا على هذه الحالة؟ فقال له " * (إني أرى ما لا ترون) *) فقال: والله ما نرى إلا جواسيس يثرب. فقال: " * (أني أخاف الله) *).
قال الحرث: فهلا كان هذا أمس، فدفع في صدر الحرث فانطلق وانهزم الناس، فلما قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس، فوالله ما شعرت حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا أما أتيتنا في يوم كذا فحلف لهم، فلما تابوا علموا أن ذلك كان الشيطان.
وقال الحسن في قوله: (أني أرى مالا ترون) فأتى إبليس جبرئيل معتجرا بردة يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب.
سمعت أبا القاسم الحبيبي سمعت أبا زكريا العنبري، سمعت أبا عبد الله محمد بن
365

إبراهيم البوشنجي يقول أفخر بيت قيل في الإسلام قوله بغيض الأنصاري يوم بدر:
وببئر بدر إذ نرد وجوههم
جبريل تحت لوائنا ومحمد
وقال قتادة وابن إسحاق. قال إبليس: إني أرى مالا ترون وصدق الله في عدوه، وقال: إني أخاف الله، وكذب عدو الله، والله ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له ولامنعة فأيدهم وأسلمهم، وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم.
قال عطاء إني أخاف الله أن يهلكني فيمن هلك، وقال الكلبي: خاف أن يأخذه جبرئيل ويعرفهم حاله فلا يطيعوه من بعد، وقال معناه: إني أخاف الله، أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه على ثقة من أمره.
قال الأستاذ الإمام أبو إسحاق، رأيت في بعض التفاسير: إني أخاف الله عليكم والله شديد العقاب. قال بعضهم هذا حكاية عن إبليس، وقال أخرون: انقطع الكلام عند قوله: إني أخاف الله قال الله " * (والله شديد العقاب) *).
إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدجر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر)، وذلك أنه رأى جبرائيل وهو يزع الملائكة.
" * (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) *) شك ونفاق " * (غر هؤلاء دينهم) *) يعني المؤمنين هؤلاء قوم بمكة مستضعفين حبسهم آباؤهم وأقرباؤهم من الهجرة، فلما خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم كرها، فلما نظروا إلى حلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا: غر هؤلاء دينهم فقتلوا جميعا منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان والحرث بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج والوليد بن عتبة وعمرو بن بن أمية، فلما قتلوا مع المشركين ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم فذلك قوله تعالى: " * (ولو ترى) *) تعاين يا محمد " * (إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) *) أي يقبضون أرواحهم ببدر " * (يضربون) *) حال أي ضاربين " * (وجوههم وأدبارهم) *) قال سعيد بن جبير، ومجاهد: يريد أستاههم ولكن الله تعالى كريم (يكني).
وقال مرة الهمذاني وابن جريج: وجوههم ما أقبل عنهم، وأدبارهم ما أدبر عنهم
366

وتقديره: يضربون أجسادهم كلها، وقال ابن عباس: كانوا إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم، وقال الحسن: قال رجل: يا رسول الله رأيت بظهراني رجل مثل الشراك، قال: ذلك ضرب الملائكة، وقال الحسين بن الفضل: ضرب الوجه عقوبة كفرهم، وضرب الأدبار عقوبة معاصيهم.
" * (وذوقوا) *) فيه إضمار، أي ويقولون لهم ذوقوا " * (عذاب الحريق) *) في الآخرة، ورأيت في بعض التفاسير: كان مع الملائكة مقامع من حديد كلما ضربوا التهب النار في الجراحات فذلك قوله تعالى: وذوقوا عذاب الحريق، ومعنى قوله ذوقوا: قاسوا واحتملوا. قال الشاعر:
فذوقوا كما ذقنا غداة محجر
من الغيظ في أكبادنا والتحوب
ويجوز ذوقوا بمعنى موضع الابتلاء والاختبار يقول العرب اركب هذا الفرس فذقه، وانظر فلانا وذق ما عنده. قال الشماخ في وصف قوس:
فذاق وأعطاه من اللين جانبا
كفى ولها أن يغرق السهم حاجز
وأصله من الذوق بالفم " * (ذلك بما قدمت) *) كسبت وعملت " * (أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد) *) أخذهم من غير جزم، وفي محل (أن) وجهان من الاعراب: أحدهما النصب عطفا على قوله (بما قدمت) تقديره: وأن الله، والآخر: الرفع عطفا على قوله (ذلك) معناه: وذلك أن الله.
2 (* (كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب * ذالك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم * كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنآ ءال فرعون وكل كانوا ظالمين * إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون * فإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين * ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون * وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شىء فى سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) *) 2
367

" * (كدأب آل فرعون) *) قال ابن عباس: كفعل آل فرعون، وقال الضحاك: كصنيعهم، وقال مجاهد، وعطاء: كسنتهم، وقال يمان: كمثلهم يعني أن أهل بدر فعلوا كفعل آل فرعون من الكفر والذنوب، ففعل الله بهم كما فعل بآل فرعون من الهلاك والعذاب، وقال الكسائي: كما أن آل فرعون جحدوا كما جحدتم وكفروا كما كفرتم. قال الأخفش، والمؤرخ، وأبو عبيدة: كعادة آل فرعون.
" * (والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله) *) فعاقبهم الله " * (بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) *).
قال الكلبي: يعني أهل مكة، أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، وبعث إليهم محمدا (عليه السلام) فغيروا نعم الله، وتغييرها أن كفروا بها وتركوا شكرها، وقال
السدي: نعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم أنعم به على قريش فكذبوه وكفروا به فنقله إلى الأنصار.
" * (وأن الله سميع عليم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم) *) من كفار الأمم " * (كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم) *) بعضا بالرجفة وبعضا بالخسف وبعضا بالمسخ وبعضا بالحصى وبعضا بالماء، فكذلك أهلكنا كفار مكة بالسيف والذل " * (وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين) *) الآية " * (الذين عاهدت منهم) *).
سمعت أبا القاسم بن حبيب، سمعت أبا بكر عبدش يقول: من هاهنا صلة الذين عاهدتهم، وسمعته يقول سمعت المنهل بن محمد بن محمد بن الأشعث يقول: دخلت بين لأن المعنى: الذين أخذت منهم العهد، وقيل: عاهدت منهم أي معهم " * (ثم ينقضون عهدهم في كل مرة) *) وهم بنو قريظة، نقظوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قبال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالوا إلى الكفار على رسول الله يوم الخندق، وكتب كعب بن الأشرف إلى مكة يوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (وهم لا يتقون) *) لا يخافون الله في نقض العهد.
" * (فإما تثقفنهم) *) ترينهم وتجدنهم " * (في الحرب فشرد بهم من خلفهم) *) قال ابن عباس: فنكل بهم من ورائهم، وقال قتادة: عظ بهم من سواهم من الناس، وقال سعيد بن جبير: أنذر بهم من خلفهم، وقال ابن زيد: أخفهم بهم.
وقيل: فرق جمع كل ناقض مما بلغ من هؤلاء، وقال عطاء: أثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم من أهل مكة وأهل اليمن، وقال ابن كيسان: اقتلهم فلا من يهرب عنك من بعدهم.
وقال القتيبي: سمع بهم، وأنشد:
أطوف في الأباطح كل يوم
مخافة أن يشرد بي حكيم
368

وأصل التشريد: التطريد والتفريق والتبديد، وقرأ أبن مسعود (وشرذ) بالذال معجم وهو واحد. قال قطرب التشريذ بالذال التنكيل، وبالدال للتفريق من خلفهم أي من ورائهم، وقيل من يأتي خلفهم، وقرأ الأعمش من (خلفهم) بكسر الميم والفاء تقديره: فشرد بهم من خلفهم من عمل قبل عملهم " * (لعلهم يذكرون) *) يعتبرون العهد فلا ينقضون العهد.
" * (وإما تخافن) *) تعلمن يا محمد " * (من قوم) *) معاهدين لك " * (خيانة) *) نكث عهد ونقض عقد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر والخيانة كما ظهر من قريظة والنضير " * (فانبذ إليهم) *) فاطرح إليهم عهدهم " * (على سواء) *) وهذا من الحان القرآن، ومعناه: فناجزهم الحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك فسخت العهد بينك وبينهم حتى تصير أنت وهم على سواء من العلم بأنك محارب، فيأخذوا للحرب أهبتها وتبرؤوا من الغدر، وقال الوليد بن مسلم: على سواء أي على مهل وذلك قوله * (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) * * (إن الله لا يحب الخائنين ولا يحسبن) *) قرأ أبو جعفر، وابن عامر بالباء على معنى لا تحسبن الذين كفروا انهم أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب " * (الذين كفروا سبقوا إنهم) *) قرأ العامة بالكسر على الابتداء، وقرأ أهل الشام وفارس بالفتح ويكون لا صلة، تقديره: ولا تحسبن الذين كفروا أن سبقوا أنهم يعجزون أي يفوتون.
" * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) *) أي من الآلات يكون قوة له عليهم من الخيل والسلاح والكراع. صالح بن كيسان عن رجل عن عقبة بن مسافرالجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، فقال: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، وروى ضمرة بن ربيعة عن رجاء بن أبي سلمة فقال: لقي رجل مجاهدا بمكة ومع مجاهد جوالق فقال مجاهد هذا من القوة، ومجاهد يتجهز للغزو، وقال عكرمة القوة الحصون.
" * (ومن رباط الخيل) *) (الإناث) * * (ترهبون به) *) تخوفون، ابن عباس: تخزون، وقرأ يعقوب: ترهبون بتشديد الهاء وهما لغتان: أرهبته ورهبته " * (عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) *) قال مجاهد: بنو قريظة. السدي: أهل فارس. ابن زيد: المنافقون لا تعلمونهم لأنهم منكم يقولون: لا إله إلا الله، ويغزون معكم، وقال بعضم: هم كفار الجن، وقال بعضهم: هم كل عدو من المسلمين غير الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرد بهم.
" * (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم) *) يدخر ويوفر لكم أجره " * (وأنتم لا تظلمون) *))
.
369

2 (* (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم * وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذىأيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الارض جميعا مآ ألفت بين قلوبهم ولاكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم * ياأيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين * ياأيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون * الئان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين * ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة والله عزيز حكيم) *) 2
" * (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) *) أي فمل إليها وصالحهم، قالوا: وكانت هذه قبل (براءة) ثم مسخت بقوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وقوله: قاتلوا الذين يؤمنون بالله، الآية " * (وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) *) * * (وإن يريدوا أن يخدعوك) *) يغدروا ويمكروا بك، قال مجاهد: يعني قريظة " * (
فإن حسبك الله) *) كافيك الله " * (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) *) قال السدي: يعني الأنصار " * (وألف بين قلوبهم) *) جمع بين قلوبهم وهم الأوس والخزرج على دينه بعد حرب سنين، فصيرهم جميعا بعد أن كانوا أشتاتا، وأخوانا بعد أن كانوا أعداء " * (لو أنفقت ما في الأرض جميعا) *) إلى قوله تعالى " * (حكيم) *).
روى ابن عفان عن عمير بن إسحاق، قال: كنا نتحدث أن أول مايرفع من الناس الألفة " * (يا أيها النبي حسبك الله) *).
(........) أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، قال: أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، ثم أسلم عمر (رضي الله عنه) فنزلت هذه الآية: يا أيها النبي حسبك الله " * (ومن اتبعك) *) قال أكثر المفسرين: محل من نصب عطفا على الكاف في قوله حسبك، ومعنى الآية: وحسب من أتبعك، وقال بعضهم رفع عطفا على اسم الله تقديره: حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين.
" * (يا أيها النبي حرض المؤمنين) *) حثهم على القتال " * (إن يكن منكم عشرون) *) رجلا صابرون محتسبون " * (يغلبوا مائتين) *) من عدوهم ويقهروهم " * (وإن يكن منكم مائة) *) صابرة محتسبة تثبت عند اللقاء وقتال العدو " * (يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) *) من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير احتساب، ولا طلب ثواب، فهم لا يثبتون إذا صدقتموهم القتال
370

خشية أن يقتلوا، وصورة الآية خبر ومعناه أمر.
وكان هذا يوم بدر قرن على الرجل من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين، فثقلت على المؤمنين وضجوا فخفف الله الكريم عنهم وأنزل " * (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) *) أي في الواحد عن قتال عشرة والمائة عن قتال الألف، وقرأ أبو جعفر ضعفا بفتح الضاد، وقرأ بعضهم: ضعفاء بالمد على جمع ضعيف مثل شركاء.
" * (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من الكفار وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) *) (أي عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد فكسر أول عشرين كما كسر اثنان)، وإذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ (لهم أن يفروا منهم، وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم) القتال وجاز لهم أن (يتحوزوا) عنهم.
" * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) *) روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: لما كان يوم بدر جيء بالأسرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هؤلاء؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم فاستعن بهم، لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية (تكن) لنا قوة على الكفار.
وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم، ومكن عليا من عقيل يضرب عنقه، ومكني من فلان نسيب لعمر أضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا، فقال العباس، قطعتك رحمك، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم. ثم دخل فقال أناس: يأخذ بقول أبو بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، وأن الله يشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فإنك غفور رحيم، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى. قال: إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، ومثلك يا عمر مثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، ومثلك كمثل موسى قال " * (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) *) الآية.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق، قال
371

عبد الله بن مسعود إلا سهيل بن البيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما رأيتني في يوم أخوف أن يقع علي الحجارة من السماء مني ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلا سهيل بن البيضاء).
قال: فلما كان من الغد جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء ما بكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي للذي عرض على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض علي عذابكم، ودنا من هذه الشجرة شجرة، قريبة من نبي الله فأنزل الله تعالى " * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) *) بالتاء بصري الباقون بالياء، أسرى: جمع أسير مثل قتيل وقتلى " * (حتى يثخن في الأرض) *) أي يبالغ في قتل المشركين وأسرهم وقهرهم، أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ، وأثخنته معرفة بمعنى قلته معرفة.
قال قتادة هذا يوم بدر، فاداهم رسول الله بأربعة آلاف بأربعة آلاف، ولعمري ما كان أثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، وكان أول قتال قاتل المشركين.
قال ابن عباس كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم، أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى " * (فإما منا بعد وإما فداء) *) فجعل الله نبيه والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وأن شاءوا فادوهم وإن شاؤوا رفقوا بهم.
" * (تريدون) *) أيها المؤمنون " * (عرض الدنيا) *) بأخذكم الفداء " * (والله يريد) *) ثواب " * (الآخرة) *) بقهركم المشركين ونصركم دين الله " * (والله عزيز حكيم) *).
2 (* (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيمآ أخذتم عذاب عظيم * فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم * ياأيها النبى قل لمن فىأيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا ممآ أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم * وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم * إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولائك بعضهم أوليآء بعض والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير * والذين كفروا بعضهم أوليآء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة فى الارض وفساد كبير * والذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولائك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم * والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولائك منكم وأولوا الأرحام
372

بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شىء عليم) *) 2
" * (لولا كتاب من الله سبق) *) الآية، قال ابن عباس كانت الغنائم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم حرام على الأنبياء والأمم كلهم كانوا إذا أصابوا مغنما جعلوه للنيران وحرم عليه أن يأخذوا منه قليلا أو كثيرا، وكان الله عز وجل كتب في أم الكتاب أن الغنائم والأسارى حلال لمحمد وأمته، فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم، فأنزل الله تعالى " * (لولا كتاب من الله سبق) *) لولا قضاء من الله سبق لكم يا أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله تعالى أحل لكم الغنيمة.
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد: لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحدا شهد بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لولا كتاب سبق أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، وقال ابن جريج: لولا كتاب من الله سبق أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وأنه لا يأخذ قوما فعلوا شيئا بجهالة " * (لمسكم) *) لنالكم وأصابكم " * (فيما أخذتم) *) من الغنيمة والفداء قبل أن يؤمروا به " * (عذاب عظيم) *).
روى محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في أسارى بدر: (إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدتهم)، وكانت الأسارى سبعون. فقالوا: بل نأخذ الفداء ونتمتع به ونقوى على عدونا ويستشهد منا بعدتهم، قال عبيدة طلبوا الخيرتين كليهما فقتل منهم يوم أحد سبعون، قال ابن إسحاق وابن زيد: لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه، وقال لرسول الله: ما لنا والغنائم نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله، وأشار على رسول الله بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال: يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ فقال الله " * (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم) *) همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمدقال: قال صلى الله عليه وسلم (لم تحل الغنائم لمن كان قبلنا) ذلك أن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا.
عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي من الأنبياء وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى بلغ محرابه وأعطيت الرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين شهر فيقذف الله الرعب في قلوبهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى خاصة قومه، وبعثت إلى الجن والإنس، وكان الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله، وأمرت أن أقاسمها في فقراء أمتي ولم يبق نبي إلا قد أعطي سؤله وأخرت
373

شفاعتي لأمتي).
" * (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) *) نزلت في العباس بن عبد المطلب وكان أسيرا يومئذ، وكان العباس أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر فبلغته التوبة يوم بدر، وكان خرج بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الناس، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا قبل ذلك وبقيت العشرون أوقية مع العباس فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرون أوقية من فدائه فأبى، وقال: أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك، وكلفه فداء بني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال العباس: يا محمد تركتني اتكفف قريشا ما بقيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل أول خروجك من مكة، فقلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله ولعبيد الله والفضل وقثم يعني بنيه) فقال له العباس: وما يدريك؟
قال: (أخبرني ربي) فقال العباس: فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله الا الله وأنك عبده ورسوله، ولم يطلع عليه أحد إلا الله فذلك قوله " * (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) *) الذين أخذتم منهم الفداء.
وقرأ أبو محمد وأبو جعفر: من الأسارى وهما لغتان " * (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) *) أي إيمانا " * (يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) *) من الفداء " * (ويغفر لكم) *) ذنوبكم، قال العباس: فأبدلني الله مكانها عشرين عبدا كلهم يضرب بمال كثير، فأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين الأوقية، وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي، وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، وقد توضأ لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذ ساكنا ولا حرم سايلا حتى فرقه، فأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ، فكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا، وأرجو المغفرة.
" * (وإن يريدوا) *) يعني الأسرى " * (خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم إن الذين آمنوا وهاجروا) *) قومهم وعشيرتهم ودورهم يعني المهاجرين " * (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا) *) رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين رضي الله عنهم، أي أسكنوهم منازلهم " * (ونصروا) *) على أعدائهم، وهم الأنصار " * (أولئك بعضهم أولياء بعض) *) دون أقربائهم من الكفار، وقال ابن عباس: هذا في الميراث، كانوا يتوارثون
بالهجرة، وجعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث لأنه لم يهاجر، ولم ينصر، وكانوا يعملون بذلك، حتى أنزل الله عز وجل: " * (وأولوا الأرحام بعضهم
374

أولى ببعض في كتاب الله) *) فنسخت هذا وصار الميراث لذوي الارحام المؤمنين ولا يتوارث أهل ملتين.
" * (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء) *) يعني الميراث " * (حتى يهاجروا) *) وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بكسر الواو، والباقون بالفتح وهما واحد، وقال الكسائي: الولاية بالنصب: الفتح، والولاية بالكسر: الإمارة.
" * (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) *) لأنهم مسلمون " * (إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) *) عهد " * (والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) *) في العون والنصرة.
قال ابن عباس: نزلت في مواريث مشركي أهل العهد وقال السدي: قالوا نورث ذوي أرحامنا من المشركين فنزلت هذه الآية، وقال ابن زيد: كان المهاجر والمؤمن الذي لم يهاجر لا يتوارثان. وإن كانا أخوين مؤمنين، وذلك لأن هذا الدين بهذا البلد كان قليلا، حتى كان يوم الفتح وانقطعت الهجرة توارثوا بالأرحام حيثما كانوا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد الفتح إنما هي الشهادة).
وقال قتادة: كان الرجل ينزل بين المسلمين والمشركين فيقول إن ظهر هؤلاء كنت معهم، وإن ظهر هؤلاء كنت معهم فأبى، الله عليهم ذلك، وأنزل فيه " * (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) *) فلا تراءى نار مسلم و) نار (مشرك إلا صاحب جزية مقرا بالخراج.
" * (إلا تفعلوه) *) قال عبد الرحمن بن زيد: إلا تتركهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون، وقال ابن عباس: إلا تأخذوه في الميراث ما أمرتكم به، وقال ابن جريج: إلا تعاونوا وتناصروا، وقال ابن إسحاق: جعل الله سبحانه المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال: إلا تفعلوه، هو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن.
" * (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) *) إلى قوله تعالى " * (أولئك هم المؤمنون حقا) *) قال ابن كيسان حققوا ايمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في دين الله " * (لهم مغفرة ورزق كريم) *) * * (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) *) الذي عنده وهو اللوح المحفوظ، وقيل: كتاب الله في قسمته التي قسمها وبينها في القرآن في سورة النساء.
" * (إن الله بكل شيء عليم) *)، وقال قتادة: كان الاعرابي لا يرث المهاجر فأنزل الله هذه الآية، وقال ابن الزبير: كان الرجل يعاقد الرجل ويقول: ترثني وأرثك فنزلت هذه الآية.
375