الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٦
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (سل بنى إسراءيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جآءته فإن الله شديد العقاب) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: * (سل) * كان في الأصل اسأل فتركت الهمزة التي هي عين الفعل لكثرة الدور في الكلام تخفيفا، ونقلت حركتها إلى الساكن الذي قبلها، وعند هذا التصريف استغنى عن ألف الوصل، وقال قطرب: يقال سأل يسأل مثل زأر الأسد يزأر، وسأل يسأل، مثل خاف يخاف، والأمر فيه: سل مثل خف، وبهذا التقدير قرأ نافع وابن عامر * (سأل سائل) * على وزن قال، وكال، وقوله: * (كم) * هو اسم مبني على السكون موضوع للعدد، يقال إنه من تأليف كاف التشبيه مع * (ما) * ثم قصرت (ما) وسكنت الميم، وبنيت على السكون لتضمنها حرف الاستفهام، وهي تارة تستعمل في الخبر وتارة في الاستفهام وأكثر لغة العرب الجر به عند الخبر، والنصب عند الاستفهام، ومن العرب ينصب به في الخبر، ويجر به في الاستفهام، وهي ههنا يحتمل أن تكون استفهامية، وأن تكون خبرية.
المسألة الثانية: اعلم أنه ليس المقصود: سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عالما بتلك الأحوال بإعلام الله تعالى إياه، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى، وبيان هذا الكلام أنه تعالى قال: * (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان) * (البقرة: 208) فأمر بالإسلام ونهى عن الكفر، ثم قال: * (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات) * أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف
2

صرتم مستحقين للتهديد بقوله: * (فاعلموا أن الله عزيز حكيم) * (البقرة: 209) ثم بين ذلك التهديد بقوله: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) * (البقرة: 210) ثم ثلث ذلك التهديد بقوله: * (سل بني إسرائيل) * يعني سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها، لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه، والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم، كما قال تعالى: * (فاعتبروا يا أولى الأبصار) * (الحشر: 2) وقال: * (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) * (يوسف: 111) فهذا بيان وجه النظم.
المسألة الثالثة: فرق أبو عمرو في * (سل) * بين الاتصال بواو وفاء وبين الاستئناف، فقرأ * (سلهم) * و * (سل بني إسرائيل) * بغير همزة * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) فاسأل الذين يقرؤن الكتاب، * (واسألوا الله من فضله) * (النساء: 32) بالهمز، وسوى الكسائي بين الكل، وقرأ الكل بغير همز وجه الفرق أن التخفيف في الاستئناف وصلة إلى أسقاط الهمزة المبتدأة وهي مستقلة وليس كذلك في الاتصال والكسائي اتبع المصحف، لأن الألف ساقطة فيها أجمع.
المسألة الرابعة: قوله: * (من آية بينة) * فيه قولان أحدها: المراد به معجزات موسى عليه السلام، نحو فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ونتق الجبل، وتكليم الله تعالى لموسى عليه السلام من السحاب، وإنزال التوراة عليهم، وتبيين الهدى من الكفر لهم، فكل ذلك آيات بينات.
والقول الثاني: أن المعنى؛ كم آتيناهم من حجة بينة لمحمد عليه الصلاة والسلام، يعلم بها صدقه وصحة شريعته.
أما قوله تعالى: * (ومن يبدل نعمة الله) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء * (ومن يبدل) * بالتخفيف.
المسألة الثانية: قال أبو مسلم: في الآية حذف، والتقدير: كم آتيناهم من آية بينة وكفروا بها لكن لا يدل على هذا الإضمار قوله: * (ومن يبدل نعمة الله) *.
المسألة الثالثة: في نعمة الله ههنا قولان أحدهما: أن المراد آياته ودلائله وهي من أجل أقسام نعم الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة، ثم على هذا القول في تبديلهم إياها وجهان فمن قال المراد بالآية البينة معجزات موسى عليه السلام، قال: المراد بتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالاتهم كقوله: * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * (التوبة: 125)
3

ومن قال: المراد بالآية البينة ما في التوراة والإنجيل من دلائل نبوة محمد عليه السلام، قال: المراد من تبديلها تحريفها وإدخال الشبهة فيها.
والقول الثاني: المراد بنعمة الله ما آتاهم الله من أسباب الصحة والأمن والكفاية والله تعالى هو الذي أبدل النعمة بالنقمة لما كفروا، ولكن أضاف التبديل إليهم لأنه سبب من جهتهم وهو ترك القيام بما وجب عليهم من العمل بتلك الآيات البينات.
أما قوله تعالى: * (من بعد ما جاءته) * فإن فسرنا النعمة بإيتاء الآيات والدلائل كان المراد من قوله: * (من بعد ما جاءته) * أي من بعد ما تمكن من معرفتها، أو من بعد ما عرفها كقوله تعالى: * (ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) * (البقرة: 75) لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها، فكأنها غائبة عنه، وإن فسرنا النعمة بما يتعلق بالدنيا من الصحة والأمن والكفاية، فلا شك أن عند حصول هذه الأسباب يكون الشكر أوجب فكان الكفر أقبح، فلهذا قال: * (فإن الله شديد العقاب) * قال الواحدي رحمه الله تعالى: وفيه إضمار، والمعنى شديد العقاب له، وأقول: بين عبد القاهر النحوي في كتاب " دلائل الإعجاز " أن ترك هذا الإضمار أولى، وذلك لأن المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفا بأنه شديد العقاب، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب لهذا أو لذلك، ثم قال الواحدي رحمه الله: والعقاب عذاب يعقب الجرم.
* (زين للذين كفروا الحيوة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشآء بغير حساب) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يبدل نعمة الله من بعدما جاءته وهم الكفار الذين كذبوا بالدلالة والأنبياء وعدلوا عنها أتبعه الله تعالى بذكر السبب الذي لأجله كانت هذه طريقتهم فقال: * (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) * ومحصول هذا الكلام تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار والمشركين في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على
الباقي من درجات الآخرة.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: إنما لم يقال: زينت لوجوه أحدها: وهو قول الفراء: أن الحياة والإحياء
4

واحد، فإن أنث فعلى اللفظ، وإن ذكر فعلى المعنى كقوله: * (فمن جاءه موعظة من ربه) * (البقرة: 275)، * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) * (هود: 67) وثانيها: وهو قول الزجاج أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، لأنه ليس حيوانا بإزائه ذكر، مثل امرأة ورجل، وناقة وجمل، بل معنى الحياة والعيش والبقاء واحد فكأنه قال: زين للذين كفروا الحياة الدنيا والبقاء وثالثها: وهو قول ابن الأنباري: إنما لم يقل: زينت، لأنه فصل بين زين وبين الحياة الدنيا، بقوله: * (للذين كفروا) * وإذا فصل بين فعل المؤنث وبين الاسم بفاصل، حسن تذكير الفعل، لأن الفاصل يغني عن تاء التأنيث.
المسألة الثانية: ذكروا في سبب النزول وجوها:
فالرواية الأولى: قال ابن عباس: نزلت في أبي جهل ورؤساء قريش، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين، كعبد الله بن مسعود، وعمار، وخباب، وسالم مولى أبي حذيفة، وعامر بن فهيرة وأبي عبيدة بن الجراح بسبب ما كانوا فيه من الفقر والضرر والصبر على أنواع البلاء مع أن الكفار كانوا في التنعم والراحة.
والرواية الثانية: نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم من بني قريظة والنضير وبني قينقاع، سخروا من فقراء المسلمين المهاجرين، حيث أخرجوا من ديارهم وأموالهم.
والرواية الثالثة: قال مقاتل: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، كانوا يسخرون من ضعفاء المسلمين وفقراء المهاجرين، واعلم أنه لا مانع من نزولها في جميعهم.
والمسألة الثالثة: اختلفوا في كيفية هذا التزيين، أما المعتزلة فذكروا وجوها أحدها: قال الجبائي: المزين هو غواة الجن والإنس، زينوا للكفار الحرص على الدنيا، وقبحوا أمر الآخرة في أعينهم، وأوهموا أن لا صحة لما يقال من أمر الآخرة، فلا تنغصوا عيشتكم في الدنيا قال: وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فهو باطل، لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فإن كان المزين هو الله تعالى، فأما أن يكون صادقا في ذلك التزين، وإما أن يكون كاذبا، فإن كان صادقا وجب أن يكون ما زينه حسنا، فيكون فاعله المستحسن له مصيبا وذلك يوجب أن الكافر مصيب في كفره ومعصيته، وهذا القول كفر، وإن كان كاذبا في ذلك التزيين أدى ذلك إلى أن لا يوثق منه تعالى بقول ولا خبر، وهذا أيضا كفر، قال: فصح أن المراد من الآية أن المزين هو الشيطان، هذا تمام كلام أبي علي الجبائي في " تفسيره ".
وأقول هذا ضعيف لأن قوله تعالى: * (زين للذين كفروا) * يتناول جميع الكفار، فهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مزين، والمزين لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايرا لهم، إلا أن يقال:
5

إن كل واحد منهم كان يزين للآخر، وحينئذ يصير دورا فثبت أن الذين يزين الكفر لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايرا لهم، فبطل قوله: إن المزين هم غواة الجن والإنس، وذلك لأن هؤلاء الغواة داخلون في الكفار أيضا، وقد بينا أن المزين لا بد وأن يكون غيرهم، فثبت أن هذا التأويل ضعيف، وأما قوله: المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فهذا ممنوع، بل المزين من يجعل الشيء موصوفا بالزينة، وهي صفات قائمة بالشيء باعتبارها يكون الشيء مزينا، وعلى هذا التقدير سقط كلامه، ثم إن سلمنا أن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه، فلم لا يجوز أن يقال: الله تعالى أخبر عن حسنه، والمراد أنه تعالى أخبر عما فيها من اللذات والطيبات والرحات، والإخبار عن ذلك لس بكذب، والتصديق بها ليس بكفر، فسقط كلام أبي علي في هذا الباب بالكلية.
التأويل الثاني: قال أبو مسلم: يحتمل في * (زين للذين كفروا) * أنهم زينوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم: أين يذهب بك لا يريدون أن ذاهبا ذهب به وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة: * (أنى يؤفكون) * (المائدة: 75، التوبة: 30، المنافقون: 4)، * (أنى يصرفون) * (غافر: 69) إلى غير ذلك، وأكده بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) * (المنافقون: 9) فأضاف ذلك إليهما لما كانا كالسبب، ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهرا فالإنسان في الحقيقة هو الذي زين لنفسه، واعلم أن هذا ضعيف، وذلك لأن قوله: * (زين) * يقضي أن مزينا زينه، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن.
التأويل الثالث: أن هذا المزين هو الله تعالى ويدل على صحة هذا التأويل وجهان أحدهما: قراءة من قرأ * (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) * على البناء للفاعل الثاني: قوله تعالى: * (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) * (الكهف: 7) ثم القائلون بهذا التأويل ذكروا وجوها الأول: يمتنع أن يكون تعالى هو المزين بما أظهره في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب واللذة، وإنما فعل ذلك ابتلاء لعباده، ونظيره قوله تعالى: * (زين للناس حب الشهوات) * (آل عمران: 14) إلى قوله: * (قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات) * (آل عمران: 15) وقال أيضا: * (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) * (الكهف: 46) وقالوا: فهذه الآيات متوافقة، والمعنى في الكل أن الله جل جلاله جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، فركب في الطباع الميل إلى اللذات وحب الشهوات لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردها عنه ليتم بذلك الإمتحان، وليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام الثاني: أن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها، والحرص الشديد
6

في طلبها، فهذا الإمهال هو المسمى بالتزيين.
واعلم أن جملة هذه الوجوه التي نقلناها عن المعتزلة يتوجه عليها سؤال واحد وهو أن حصول هذه الزينة في قلوب الكفار لا بد له من محدث وإلا فقد وقع المحدث لا عن مؤثر وهذا محال ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار هل رجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة أو ما رجح فإن لم يرجح البتة بل الإنسان مع حصول هذه الزينة في قلبه كهو لا مع حصولها في قلبه فهذا يمنع كونه تزيينا في قلبه، والنص دل على أنه حصل هذا التزيين، وإن قلنا بأن حصول هذا التزيين في قلبه يرجح جانب الكفر والمعصية، على جانب الإيمان والطاعة، فقد زال الاختيار لأن حال الاستواء لما امتنع حصول الرجحان، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحا كان أولى بامتناع الوقوع، وإذا صار المرجح ممتنع الوقوع صار الراجح واجب الوقوع، ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فهذا هو توجيه السؤال ومعلوم أنه لا يندفع بالوجوه التي ذكرها هؤلاء المعتزلة. الوجه الثالث: في تقرير هذا التأويل أن المراد: أن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات، وعلى هذا الوجه سقط الإشكال، وهذا أيضا ضعيف، وذلك لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار، وتزيين المباحات لا يختص به الكافر، فيمتنع أن يكون المراد بهذا التزيين تزيين المباحات، وأيضا فإن المؤمن إذا تمتع بالمباحات من طيبات الدنيا يكون تمتعه بها مع الخوف والوجل من الحساب في الآخرة فهو وإن كثر ماله وجاهه فعيشه مكدر منغص، وأكثر غرضه أجر الآخرة وإنما يعد الدنيا كالوسيلة إليها، وليس كذلك الكافر، فإنه وإن قلت ذات يده فسروره بها يكون غالبا على ظنه، لاعتقاده أنها كمال المقصود دون غيرها، وإذا كان هذا حاله صح أنه ليس المراد من الآية تزيين المباحات، وأيضا أنه تعالى أتبع تلك الآية بقوله: * (ويسخرون من الذين آمنوا) * وذلك مشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في تركهم اللذات المحظورة، وتحملهم المشاق الواجبة، فدل على أن ذلك التزيين ما وقع في المباحات بل وقع في المحظورات.
وأما أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنه تعالى خلق في قلبه إرادة الأشياء والقدرة على تلك الأشياء، بل خلق تلك الأفعال والأحوال، وهذا بناء على أن الخالق لأفعال العباد ليس إلا الله سبحانه، وعلى هذا الوجه ظهر المراد من الآية.
أما قوله تعالى: * (ويسخرون من الذين آمنوا) * فقد روينا في كيفية تلك السخرية وجوها من الروايات، قال الواحدي: قوله: * (ويسخرون) * مستأنف غير معطوف على زين، ولا يبعد
7

استئناف المستقبل بعد الماضي، وذلك لأن الله أخبر عنهم بزين وهو ماض، ثم أخبر عنهم بفعل يديمونه فقال: * (ويسخرون من الذين آمنوا) * ومعنى هذه السخرية أنهم كانوا يقولون هؤلاء المساكين تركوا لذات الدنيا وطيباتها وشهواتها ويتحملون المشاق والمتاعب لطلب الآخرة مع أن القول بالآخرة قول باطل، ولا شك أنه لو بطل القول بالمعاد لكانت هذه السخرية لازمة أما لو ثبت القول بصحة المعاد كانت السخرية منقلبة عليهم لأن من أعرض عن الملك الأبدي بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة لم يوجد في الخلق أحد أولى بالسخرية منه، بل قال بعض المحققين الإعراض عن الدنيا، والإقبال على الآخرة هو الحزم على جميع التقديرات فإنه إن بطل القول بالآخرة لم يكن الفائت إلا لذات حقيرة وأنفاسا معدودة وإن صح القول بالآخرة كان الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة أمرا متعينا فثبت أن تلك السخرية كانت باطلة وأن عود السخرية عليهم أولى.
أما قوله تعالى: * (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: لم قال: * (من الذين آمنوا) * ثم قال: * (والذين اتقوا) *؟.
الجواب: ليظهر به أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن التقي، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى.
السؤال الثاني: ما المراد بهذه الفوقية؟.
الجواب: فيه وجوه أحدها: أن يكون المراد بالفوقية الفوقية بالمكان، لأن المؤمنين يكونون في عليين من السماء والكافرين يكونون في سجين من الأرض وثانيها: يحتمل أن يكون المراد بالفوقية الفوقية في الكرامة والدرجة.
فإن قيل: إنما يقال: فلان فوق فلان في الكرامة، إذا كان كل واحد منهما في الكرامة ثم يكون أحدهما أزيد حالا من الآخر في تلك الكرامة، والكافر ليس له شيء من الكرامة فكيف يقال: المؤمن فوقه في الكرامة.
قلنا: المراد أنهم كانوا فوقهم في سعادات الدنيا ثم في الآخرة ينقلب الأمر، فالله تعالى يعطي المؤمن من سعادات الآخرة ما يكون فوق السعادات الدنيوية التي كانت حاصلة للكافرين، وثالثها: أن يكون المراد: أنهم فوقهم في الحجة يوم القيامة، وذلك لأن شبهات الكفار ربما كانت تقع في قلوب المؤمنين، ثم إنهم كانوا يردونها عن قلوبهم بمدد توفيق الله تعالى، وأما يوم القيامة فلا يبقى شيء من ذلك، بل تزول الشبهات، ولا تؤثر وساوس الشيطان، كما قال تعالى: * (إن
8

الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون - إلى قوله - فاليوم الذين آمنوا) * (المطففين: 29 - 34) الآية ورابعها: أن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لأن سخرية الكافر بالمؤمن باطلة، وهي مع بطلانها منقضية، وسخرية المؤمن بالكافر في الآخرة حقة ومع حقيتها هي دائمة باقية.
السؤال الثالث: هل تدل الآية على القطع بوعيد الفساد فإن لقائل أن يقول: إنه تعالى خص الذين اتقوا بهذه الفوقية فالذين لا يكونون موصوفين بالتقوى وجب أن لا تحصل لهم هذه الفوقية وإن لم تحصل هذه الفوقية كانوا من أهل النار.
الجواب: هذا تمسك بالمفهوم، فلا يكون أقوى في الدلالة من العمومات التي بينا أنها مخصوصة بدلائل العفو.
أما قوله تعالى: * (والله يرزق من يشاء بغير حساب) * فيحتمل أن يكون المراد منه ما يعطي الله المتقين في الآخرة من الثواب، ويحتمل أن يكون المراد ما يعطي في
الدنيا أصناف عبيده من المؤمنين والكافرين فإذا حملناه على رزق الآخرة احتمل وجوها أحدها: أنه يرزق من يشاء في الآخرة، وهم المؤمنون بغير حساب، أي رزقا واسعا رغدا لا فناء له، ولا انقطاع، وهو كقوله: * (فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) * (غافر: 40) فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه، فما لا يكون متناهيا كان لا محالة خارجا عن الحساب وثانيها: أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال: * (فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) * (النساء: 173) فالفضل منه بلا حساب وثالثها: أنه لا يخاف نفادها عنده، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه، لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم لمقدار ما يعطي وما يبقي، فلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به، والله لا يحتاج إلى الحساب، لأنه عالم غني لا نهاية لمقدوراته ورابعها: أنه أراد بهذا رزق أهل الجنة، وذلك لأن الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئا انتقص قدر الواجب عما كان، والثواب ليس كذلك فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقيا، فعلى هذا لا يتطرق الحساب البتة إلى الثواب وخامسها: أراد أن الذي يعطي لا نسبة له إلى ما في الخزانة لأن الذي يعطي في كل وقت يكون متناهيا لا محالة، والذي في خزانة قدرة الله غير متناه والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي فهذا هو المراد من قوله: * (بغير حساب) * وهو إشارة إلى أنه لا نهاية لمقدورات الله تعالى وسادسها: * (بغير حساب) * أي بغير استحقاق يقال لفلان على فلان حساب إذا كان له عليه حق، وهذا يدل على أنه لا يستحق عليه أحد شيئا، وليس لأحد معه حساب بل
9

كل ما أعطاه فقد أعطاه بمجرد الفضل والإحسان، لا بسبب الاستحقاق وسابعها: * (بغير حساب) * أي يزيد على قدر الكفاية، يقال: فلان ينفق بالحساب إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية، فأما إذا زاد عليه فإنه يقال: ينفق بغير حساب وثامنها: * (بغير حساب) * أي يعطي كثيرا لأن ما دخله الحساب فهو قليل.
واعلم أن هذه الوجوه كلها محتملة وعطايا الله لها منتظمة فيجوز أن يكون المراد كلها والله أعلم.
أما إذا حملنا الآية على ما يعطي في الدنيا أصناف عباده من المؤمنين والكافرين ففيه وجوه:
أحدها: وهو أليق بنظم الآية أن الكفار إنما كانوا يسخرون من فقراء المسلمين لأنهم كانوا يستدلون بحصول السعادات الدنيوية على أنهم على الحق ويحرمون فقراء المسلمين من تلك السعادات على أنهم على الباطل، فالله تعالى أبطل هذه المقدمة بقوله: * (والله يرزق من يشاء بغير حساب) * يعني أنه يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئا عن كون المعطي محقا أو مبطلا أو محسنا أو مسيئا وذلك متعلق بمحض المشيئة، فقد وسع الدنيا على قارون، وضيقها على أيوب عليه السلام، فلا يجوز لكم أيها الكفار أن تستدلوا بحصول متاع الدنيا لكم وعدم حصولها لفقراء المسلمين على كونكم محقين وكونهم مبطلين، بل الكافر قد يوسع عليه زيادة في الاستدراج، والمؤمن قد يضيق عليه زيادة في الابتلاء والامتحان، ولهذا قال تعالى: * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) * (الزخرف: 33) وثانيها: أن المعنى: أن الله يرزق من يشاء في الدنيا من كافر ومؤمن بغير حساب يكون لأحد عليه، ولا مطالبة، ولا تبعة، ولا سؤال سائل، والمقصود منه أن لا يقول الكافر: لو كان المؤمن على الحق فلم لم يوسع عليه في الدنيا؟ وأن لا يقول المؤمن إن كان الكافر مبطلا فلم وسع عليه في الدنيا؟ بل الإعتراض ساقط، والأمر أمره، والحكم حكمه * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * (الأنبياء: 23) وثالثها: قوله: * (بغير حساب) * أي من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل إذا جاءه ما لم يكن في تقديره: لم يكن هذا في حسابي، فعلى هذا الوجه يكون معنى الآية: أن هؤلاء الكفار وإن كانوا يسخرون من الذين آمنوا لفقرهم، فالله تعالى قد يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب، ولعله يفعل ذلك بالمؤمنين، قال القفال رحمه الله: وقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود، وبما فتح على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أيدي أصحابه حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر.
فإن قيل: قد قال تعالى في صفة المتقين وما يصل إليهم * (عطاء حسابا) * (النبأ: 36) أليس ذلك كالمناقض لما في هذه الآية.
10

قلنا: أما من حمل قوله: * (بغير حساب) * على التفضل، وحمل قوله: * (عطاء حسابا) * على المستحق بحسب الوعد على ما هو قولنا، أو بحسب الاستحقاق على ما هو قول المعتزلة، فالسؤال ساقط، وأما من حمل قوله: * (بغير حساب) * على سائر الوجوه، فله أن يقول: إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقات ويتماثل، صح من هذا الوجه أن يوصف بكونه عطاء حسابا، ولا ينقضه ما ذكرناه في معنى قوله: * (بغير حساب) *.
* (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جآءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في هذه الآية المتقدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا، بين في هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان، بل كان حاصلا في الأزمنة المتقادمة، لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق، ثم اختلفوا وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا فهذا هو الكلام في ترتيب النظم.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال القفال: الأمة القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدي بعضهم ببعض، وهو مأخوذ من الإئتمام.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن الناس كانوا أمة واحدة، ولكنها ما دلت على أنهم كانوا أمة واحدة في الحق أم في الباطل، واختلف المفسرون فيه على ثلاثة أقوال:
11

القول الأول: أنهم كانوا على دين واحد وهو الإيمان والحق، وهذا قول أكثر المحققين، ويدل عليه وجوه الأول: ما ذكره القفال فقال: الدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: * (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) * فهذا يدل على أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا حين
الإختلاف، ويتأكد هذا بقوله تعالى: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) * (يونس: 19) ويتأكد أيضا بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ: * (كان الناس أمة وحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين - إلى قوله - ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) *.
إذا عرفت هذا فنقول: الفاء في قوله: * (فبعث الله النبيين) * تقتضي أن يكون بعثهم بعد الإختلاف ولو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر، لكانت بعثة الرسل قبل هذا الإختلاف أولى، لأنهم لما بعثوا عندما كان بعضهم محقا وبعضهم مبطلا، فلأن يبعثوا حين ما كانوا كلهم مبطلين مصرين على الكفر كان أولى، وهذا الوجه الذي ذكره القفال رحمه الله حسن في هذا الموضوع وثانيها: أنه تعالى حكم بأنه كان الناس أمة واحدة، ثم أدرجنا فيه فاختلفوا بحسب دلالة الدليل عليه، وبحسب قراءة ابن مسعود، ثم قال: * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) * والظاهر أن المراد من هذا الإختلاف هو الإختلاف الحاصل بعد ذلك الإتفاق المشار إليه، بقوله: * (كان الناس أمة واحدة) * ثم حكم على هذا الإختلاف بأنه إنما حصل بسبب البغي، وهذا الوصف لا يليق إلا بالمذاهب الباطلة، فدلت الآية على أن المذاهب الباطلة إنما حصلت بسبب البغي، وهذا يدل على أن الاتفاق الذي كان حاصلا قبل حصول هذا الإختلاف إنما كان في الحق لا في الباطل، فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الحق لا في الدين الباطل وثالثها: أن آدم عليه السلام لما بعثه الله رسولا إلى أولاده، فالكل كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى، ولم يحدث فيما بينهم اختلاف في الدين، إلى أن قتل قابيل هابيل بسبب الحسد والبغي، وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر، والآية منطبقة عليه، لأن الناس هم آدم وأولاده من الذكور والإناث، كانوا أمة واحدة على الحق، ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد، كما حكى الله عن ابني آدم * (إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر) * (المائدة: 27) فلم يكن ذلك القتل والكفر بالله إلا بسبب البغي والحسد، وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر والآية منطبقة عليه ورابعها: أنه لما غرقت الأرض بالطوفان لم يبق إلا أهل السفينة، وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح، ثم اختلفوا بعد ذلك، وهذه القصة مما عرف ثبوتها بالدلائل القاطعة والنقل المتواتر، إلا أنهم اختلفوا بعد ذلك، فثبت
12

أن الناس كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بعد ذلك ولم يثبت البتة بشيء من الدلائل أنهم كانوا مطبقين على الباطل والكفر، وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على ما ثبت بالدليل وأن لا يحمل على ما لم يثبت بشيء من الدلائل.
وخامسها: وهو أن الدين الحق لا سبيل إليه إلا بالنظر والنظر لا معنى له إلا ترتيب المقدمات لتوصل بها إلى النتائج، وتلك المقدمات إن كانت نظرية افتقرت إلى مقدمات أخر ولزم الدور أو التسلسل وهما باطلان فوجب انتهاء النظريات بالآخرة إلى الضروريات، وكما أن المقدمات يجب إنتهاؤها إلى الضروريات فترتيب المقدمات يجب انتهاؤه أيضا إلى ترتيب تعلم صحته بضرورة العقل وإذا كانت النظريات مستندة إلى مقامات تعلم صحتها بضرورة العقل، وإلى ترتيبات تعلم صحتها بضرورة العقل، وجب القطع بأن العقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج، فأما إذا عرض له سبب خارجي، فهناك يحصل الغلط فثبت أن ما بالذات هو الصواب وما بالعرض هو الخطأ، وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الاستحقاق وبحسب الزمان أيضا، هذا هو الأظهر فثبت أن الأولى أن يقال: كان الناس أمة واحدة في الدين الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب خارجية وهي البغي والحسد، فهذا دليل معقول ولفظ القرآن مطابق له فوجب المصير إليه.
فإن قيل: فما المراد من قوله: * (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) * (هود: 188، 119).
قلنا: المعنى ولأجل أن يرحمهم خلقهم.
وسادسها: قوله عليه السلام: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " دل الحديث على أن المولود لو ترك مع فطرته الأصلية لما كان على شيء من الأديان الباطلة، وأنه إنما يقدم على الدين الباطل لأسباب خارجية، وهي سعي الأبوين في ذلك وحصول الأغراض الفاسدة من البغي والحسد وسابعها: أن الله تعالى لما قال: * (ألست بربكم قالوا بلى) * (الأعراف: 172) فذلك اليوم كانوا أمة واحدة على الدين الحق، وهذا القول مروي عن أبي بن كعب وجماعة من المفسرين، إلا أن للمتكلمين في هذه القصة أبحاثا كثيرة، ولا حاجة بنا في نصرة هذا القول بعد تلك الوجوه الستة التي ذكرناها إلى هذا الوجه، فهذا جملة الكلام في تقرير هذا القول.
أما الوجه الثاني: هو أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الباطل، فهذا قول طائفة من المفسرين كالحسن وعطاء وابن عباس، واحتجوا بالآية والخبر أما الآية فقوله: * (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) * وهو لا يليق إلا بذلك، وأما الخبر فما روي عن النبي عليه السلام: " أن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فبعثهم إلا بقايا من أهل الكتاب ".
13

وجوابه: ما بينا أن هذا لا يليق إلا بضده، وذلك لأن عند الإختلاف لما وجبت البعثة. فلو كان الإتفاق السابق اتفاقا على الكفر لكانت البعثة في ذلك الوقت أولى، وحيث لم تحصل البعثة هناك علمنا أن ذلك الإتفاق كان اتفاقا على الحق لا على الباطل، ثم اختلف القائلون بهذا القول أنه متى كان الناس متفقين على الكفر فقيل من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام كانوا كفارا، ثم سألوا أنفسهم سؤالا وقالوا: أليس فيهم من كان مسلما نحو هابيل وشيث وإدريس، وأجابوا بأن الغالب كان هو الكفر والحكم للغالب، ولا يعتد بالقليل في الكثير كما لا يعتد بالشعير القليل في البر الكثير، وقد يقال: دار الإسلام وإن كان فيها غير المسلمين ودار الحرب وإن كان فيها مسلمون.
القول الثالث: وهو اختيار أبي مسلم والقاضي: أن الناس كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية، وهي الإعتراف بوجود الصانع وصفاته، والاشتغال بخدمته وشكر نعمته، والاجتناب عن القبائح العقلية، كالظلم، والكذب، والجهل، والعبث وأمثالها.
واحتج القاضي على صحة قوله بأن لفظ النبيين يفيد العموم والاستغراق، وحرف الفاء يفيد التراخي، فقوله: * (فبعث الله النبيين) * يفيد أن بعثه جميع الأنبياء كانت
متأخرة عن كون الناس أمة واحدة، فتلك الوحدة المتقدمة على بعثة جميع الشرائع لا بد وأن تكون وحدة في شرعه غير مستفادة من الأنبياء، فوجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بيناه، وأيضا فالعلم بحسن شكر المنعم، وطاعة الخالق والإحسان إلى الخلق، والعدل، مشترك فيه بين الكل، والعلم بقبح الكذب والظلم والجهل والعبث مشترك فيه بين الكل، فالأظهر أن الناس كانوا في أول الأمر على ذلك، ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب منفصلة، ثم سأل نفسه، فقال: أليس أول الناس آدم عليه السلام وأنه كان نبيا، فكيف يصح إثبات الناس مكلفين قبل بعثة الرسل، وأجاب بأنه يحتمل أنه عليه السلام مع أولاده كانوا مجتمعين على التمسك بالشرائع العقلية أولا، ثم إن الله تعالى بعد ذلك بعثه إلى أولاده، ويحتمل أن بعد ذلك صار شرعه مندرسا، فالناس رجعوا إلى التمسك بالشرائع العقلية، واعلم أن هذا القول لا يصح إلا مع إثبات تحسين العقل وتقبيحه، والكلام فيه مشهور في الأصول.
القول الرابع: أن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة، وليس فيها أنهم كانوا على الإيمان أو على الكفر، فهو موقوف على الدليل.
القول الخامس: أن المراد من الناس ههنا أهل الكتاب ممن آمن بموسى عليه السلام،
14

وذلك لأنا بينا أن هذه الآية متعلقة بما تقدم من قوله: * (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) * (البقرة: 208) وذكرنا أن كثيرا من المفسرين زعموا أن تلك الآية نزلت في اليهود، فقوله تعالى: * (كان الناس أمة واحدة) * أي كان الذين آمنوا بموسى أمة واحدة، على دين واحد، ومذهب واحد، ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد، فبعث الله النبيين، وهم الذين جاؤوا بعد موسى عليه السلام وأنزل معهم الكتاب، كما بعث الزبور إلى داود، والتوراة إلى موسى، والإنجيل إلى عيسى، والفرقان إلى محمد عليه السلام لتكون تلك الكتب حاكمة عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها، وهذا القول مطابق لنظم الآية وموافق لما قبلها ولما بعدها، وليس فيها إشكال إلا أن تخصيص لفظ الناس في قوله: * (كان الناس) * بقوم معينين خلاف الظاهر إلا أنك تعلم أن الألف واللام كما تكون للاستغراق فقد تكون أيضا للعهد فهذا ما يتعلق بهذه الآية.
أما قوله تعالى: * (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) * فاعلم أنا ذكرنا أنه لا بد ههنا من الإضمار، والتقدير * (كان الناس أمة واحدة - فاختلفوا - فبعث الله النبيين) * واعلم أنه الله تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث:
الصفة الأولى: كونهم مبشرين.
الصفة الثانية: كونهم منذرين ونظيره قوله تعالى: * (رسلا مبشرين ومنذرين) * (النساء: 165) وإنما قدم البشارة على الإنذار، لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض، ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني فلا جرم وجب تقديمه في الذكر. الصفة الثالثة: قوله: * (وأنزل معهم الكتاب بالحق) * فإن قيل: إنزال الكتاب يكون قبل وصول الأمر والنهي إلى المكلفين، ووصول الأمر والنهي إليهم يكون قبل التبشير والإنذار فلم قدم ذكر التبشير والإنذار على إنزال الكتب؟ أجاب القاضي عنه فقال: لأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما وعندي فيه وجه آخر وهو أن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق وفي الفرق بين المعجز إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقا للعقاب، والخوف إنما يقوى ويكمل عند التبشير والإنذار فلا جرم وجب تقديم البشارة والنذارة على إنزال الكتاب في الذكر ثم قال القاضي: ظاهر هذه الآية يدل على أنه لا نبي إلا معه كتاب منزل فيه بيان الحق طال ذلك الكتاب أم قصر ودون ذلك الكتاب أو لم يدون وكان ذلك الكتاب معجزا أو لم يكن كذلك، لأن كون الكتاب منزلا معهم لا يقتضي شيئا من ذلك.
15

أما قوله تعالى: * (ليحكم بين الناس) * فاعلم أنه قوله: * (ليحكم) * فعل فلا بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره، وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة، فأقربها إلى هذا اللفظ: الكتاب، ثم النبيون، ثم الله فلا جرم كان إضمار كل واحد منها صحيحا، فيكون المعنى: ليحكم الله، أو النبي المنزل عليه، أو الكتاب، ثم إن كل واحد من هذه الإحتمالات يختص بوجه ترجيح، أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات، وأما الله فلأنه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب، وأما النبي فلأنه هو المظهر فلا يبعد أن يقال: حمله على الكتاب أولى، أقصى ما في الباب أن يقال: الحاكم هو الله، فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلا أن نقول: هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين الأول: أنه مجاز مشهور يقال: حكم الكتاب بكذا، وقضى كتاب الله بكذا، ورضينا بكتاب الله، وإذا جاز أن يكون هدي وشفاء، جاز أن يكون حاكما قال تعالى: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين) * (الإسراء: 9) والثاني: أنه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله.
أما قوله تعالى: * (فيما اختلفوا فيه) * فاعلم أن الهاء في قوله: * (فيما اختلفوا فيه) * يجب أن يكون راجعا، إما إلى الكتاب، وإما إلى الحق، لأن ذكرهما جميعا قد تقدم، لكن رجوعه إلى الحق أولى، لأن الآية دلت على أنه تعالى إنما أنزل الكتاب ليكون حاكما فيما اختلفوا فيه فالكتاب حاكم، والمختلف فيه محكوم عليه، والحاكم يجب أن يكون مغايرا للمحكوم عليه.
أما قوله تعالى: * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه) * فالهاء الأولى راجعة إلى الحق والثانية: إلى الكتاب والتقدير: وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب، ثم قال أكثر المفسرين: المراد بهؤلاء: اليهود والنصارى والله تعالى كثيرا ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ كقوله: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * (المائدة: 5) * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * (آل عمران: 64) ثم المراد باختلافهم يحتمل أن يكون هو تكفير بعضهم بعضا كقوله تعالى: * (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب) * (البقرة: 113) ويحتمل أن يكون اختلافهم تحريفهم وتبديلهم، فقوله: * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه) * أي وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب مع أنه كان المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في
الدين واعلم أن هذا يدل على أن الإختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء وإنزال الكتب وذلك يوجب أن قبل بعثهم ما كان الإختلاف في الحق حاصلا، بل كان الإتفاق في الحق حاصلا وهو يدل على أن قوله تعالى: * (كان الناس أمة واحدة) * معناه أمة واحدة في دين الحق.
أما قوله تعالى: * (من بعد ما جاءتهم البينات) * فهو يقتضي أن يكون إيتاء الله تعالى إياهم الكتاب
16

كان بعد مجيء البينات فتكون هذه البينات مغايرة لا محالة لإيتاء الكتاب وهذه البينات لا يمكن حملها على شيء سوى الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها، وذلك لأن المتكلمين يقولون كل ما لا يصح إثبات النبوة إلا بعد ثبوته، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية وإلا وقع الدور، بل لا بد من إثباتها بالدلائل العقلية فهذه الدلائل هي البينات المتقدمة على إيتاء الله الكتب إياهم.
أما قوله تعالى: * (بغيا بينهم) * فالمعنى أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية. أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب، وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فعند ذلك قد تمت البينات ولم يبق في العدول عذر ولا علة، فلو حصل الإعراض والعدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والبغي والحرص على طلب الدنيا، ونظيره هذه الآية قوله تعالى: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) * (البينة: 4).
أما قوله تعالى: * (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) * فاعلم أنه تعالى لما وصف حال أهل الكتاب وأنهم بعد كمال البينات أصروا على الكفر والجهل بسبب البغي والحسد بين أن حال هذه الأمة بخلاف حال أولئك فإن الله عصمهم عن الزلل وهداهم إلى الحق في الأشياء التي اختلف فيا أهل الكتاب، يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، ونحن أولى الناس دخولا الجنة يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا لله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي هدانا له، والناس له فيه تبع وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى " قال ابن زيد: اختلفوا في القبلة فصلت اليهود إلي بيت المقدس والنصارى إلى المشرق، فهدانا الله للكعبة واختلفوا في الصيام، فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديا وقالت النصارى: كان نصرانيا، فقلنا: أنه كان حنيفا مسلما واختلفوا في عيسى، فاليهود فرطوا، والنصارى أفرطوا، وقلنا القول العدل، وبقي في الآية مسائل:
المسألة الأولى: من الأصحاب من تمسك بهذه الآية على أن الإيمان مخلوق لله تعالى قال: لأن الهداية هي العلم والمعرفة، وقوله: * (فهدى الله) * نص في أن الهداية حصلت بفعل الله تعالى، فدل ذلك على أن الإيمان مخلوق لله تعالى.
واعلم أن هذا الوجه ضعيف لأنا بينا أن الهداية غير، والاهتداء غير، والذي يدل ههنا على أن الهداية لا يمكن أن تكون عبارة عن الإيمان وجهان الأول: أن الهداية إلى الإيمان غير
17

الإيمان كما أن التوفيق للإيمان غير الإيمان والثاني: أنه تعالى قال في آخر الآية: * (بإذنه) * ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله: * (فهدى الله) * إذ لا جائز أن يأذن لنفسه فلا بد ههنا من إضمار ليصرف هذا الإذن إليه، والتقدير: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق فاهتدوا بإذنه، وإذا كان كذلك كانت الهداية مغايرة للاهتداء.
المسألة الثانية: احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الله تعالى قد يخص المؤمن بهدايات لا يفعلها في حق الكافر، والمعتزلة أجابوا عنه من وجوه أحدها: أنهم اختصوا بالاهتداء فجعل هداية لهم خاصة كقوله: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) ثم قال: * (هدى للناس) * وثانيها: أن المراد به: الهداية إلى الثواب وطريقة الجنة وثالثها: هداهم إلى الحق بالألطاف.
المسألة الثالثة: قوله: * (لما اختلفوا فيه) * (المجادلة: 3) أي إلى ما اختلفوا فيه كقوله تعالى: * (يعودون لما قالوا) * أي إلى ما قالوا ويقال: هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق.
فإن قيل: لم قال فهداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، ولم يقل: هداهم للحق فيما اختلفوا وقدم الإختلاف؟
والجواب من وجهين الأول: أنه لما كانت العناية بذكر الإختلاف لهم بدأ به، ثم فسره بمن هداه الثاني: قال الفراء: هذا من المقلوب، أي فهداهم لما اختلفوا فيه.
المسألة الرابعة: قوله: * (بإذنه) * فيه وجهان أحدها: قال الزجاج بعلمه الثاني: هداهم بأمره أي حصلت الهداية بسبب الأمر كما يقال: قطعت بالسكين، وذلك لأن الحق لم يكن متميزا عن الباطل وبالأمر حصل التمييز فجعلت الهداية بسبب إذنه الثالث: قال بعضهم: لا بد فيه من إضمار والتقدير: هداهم فاهتدوا بإذنه.
أما قوله: * (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * فاستدلال الأصحاب به معلوم، والمعتزلة أجابوا من ثلاثة أوجه أحدها: المراد بالهداية البيان، فالله تعالى خص المكلفين بذلك والثاني: المراد بالهداية الطريق إلى الجنة الثالث: المراد به اللطف فيكون خاصا لمن يعلم أنه يصلح له وهو قول أبي بكر الرازي.
قوله تعالى
* (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأسآء
18

والضرآء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) *.
في النظم وجهان الأول: أنه تعالى قال في الآية السالفة: * (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) *: والمراد أنه يهدي من يشاء إلى الحق وطلب الجنة فبين في هذه الآية أن ذلك الطلب لا يتم ولا يكمل إلا باحتمال الشدائد في التكليف فقال: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) * الآية الثاني: أنه في الآية السالفة ما بين أنه هداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه بين في هذه الآية أنهم بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق وصبروا على البلوى، فكذا أنتم يا
أصحاب محمد لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: استقصينا الكلام في لفظ * (أم) * في تفسير قوله تعالى: * (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) * (البقرة: 133) والذي نريده ههنا أن نقول * (أم) * استفهام متوسط كما أن * (هل) * استفهام سابق، فيجوز أن يقول: هل عندك رجل، أعندك رجل؟ ابتداء، ولا يجوز أن يقال: أم عندك رجل، فأما إذا كان متوسطا جاز سواء كان مسبوقا باستفهام آخر أو لا يكون، أما إذا كان مسبوقا باستفهام آخر فهو كقولك: أنت رجل لا تنصف، أفعن جهل تفعل هذا أم لك سلطان؟ وأما الذي لا يكون مسبوقا بالاستفهام فهو كقوله: * (ألم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه) * (السجدة: 1 - 3) وهذا القسم يكون في تقدير القسم الأول، والتقدير: أفيؤمنون بهذا أم يقولون أفتراه؟ فكذا تقدير هذه الآية: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فصبروا على استهزاء قومهم بهم، أفتسلكون سبيلهم، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم؟ هذا ما لخصه القفال رحمه الله، والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) * أي ولم يأتكم مثل الذين خلوا وذكر الكوفيون من أهل النحو أن * (لما) * إنما هي * (لم) * و * (ما) * زائدة وقال سيبويه: * (ما) * ليست زائدة لأن * (لما) * تقع في مواضع لا تقع فيها * (لم) * يقول الرجل لصاحبه: أقدم فلان؟ فيقول: * (لما) * ولا يقول: * (لم) * مفردة، قال المبرد: إذا قال القائل: لم يأتني زيد، فهو نفي لقولك
19

أتاك زيد وإذا قال: لما يأتني فمعناه أنه لم يأتني بعد وأنا أتوقعه قال النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا * لما تزل برحالنا وكأن قد
فعلى هذا قوله: * (ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) * يدل على أن إتيان ذلك متوقع منتظر.
المسألة الثالثة: قال ابن عباس: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، اشتد الضرر عليهم، لأنهم خرجوا بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم * (أم حسبتم) * وقال قتادة والسدي: نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن، وكان كما قال سبحانه وتعالى: * (وبلغت القلوب الحناجر) * (الأحزاب: 10) وقيل نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله بن أبي لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: إلى متى تقتلون أنفسكم وترجون الباطل ولو كان محمد نبيا لما سلط الله عليكم الأسر والقتل، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
واعلم أن تقدير الآية: أم حسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي، دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به، وابتلاكم بالصبر عليه، وأن ينالكم من أذى الكفار، ومن احتمال الفقر والفاقة، ومكابدة الضر والبؤس في المعيشة، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدو، كما كان كذلك من قبلكم من المؤمنين، وهو المراد من قوله: * (ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) * والمثل هو المثل وهو الشبه، وهما لغتان: مثل ومثل كشبه وشبه، إلا أن المثل مستعار لحالة غريبة أو قصة عجيبة لها شأن ومنه قوله تعالى: * (ولله المثل الأعلى) * (النحل: 60) أي الصفة التي لها شأن عظيم.
واعلم أن في الكلام حذفا تقديره: مثل محنة الذين من قبلكم، وقوله: * (مستهم) * بيان للمثل، وهو استئناف كأن قائلا قال: فكيف كان ذلك المثل؟ فقال: * (مستهم البأساء والضراء وزلزلوا) * (البقرة: 214).
أما * (البأساء) * فهو اسم من البؤس بمعنى الشدة وهو الفقر والمسكنة ومنه يقال فلان في بؤس وشدة.
وأما * (الضراء) * فالأقرب فيه أنه ورود المضار عليه من الآلام والأوجاع وضروب الخوف، وعندي أن البأساء عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه، والضراء عبارة عن انفتاح جهات الشر والآفة والألم عليه.
وأما قوله: * (وزلزلوا) * أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا قال الزجاج: أصل الزلزلة في اللغة من أزال الشيء عن مكانه فإذا قلت: زلزلته فتأويله أنك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه، وكل ما كان فيه تكرير كررت فيه فاء الفعل، نحو صر، وصرصر، وصل
20

وصلصل، وكف، وكفكف، وأقل الشيء، أي رفعه من موضعه، فإذا كرر قيل: قلقل، وفسر بعضهم * (زلزلوا) * ههنا بخوفوا، وحقيقته غير ما ذكرنا، وذلك لأن الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه، ولذلك لا يقال ذلك إلا في الخوف المقيم المقعد، لأنه يذهب السكون، فيجب أن يكون زلزلوا ههنا مجازا، والمراد: خوفوا، ويجوز أن يكونوا مضطربين لا يستقرون لما في قلوبهم من الجزع والخوف، ثم أنه تعالى بعد ذكر هذه الأشياء ذكر شيئا آخر وهو النهاية في الدلالة على كمال الضر والبؤس والمحنة، فقال: * (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) * وذلك لأن الرسل عليهم السلام يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النفس عند نزول البلاء، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا، كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة، فلما بلغت بهم الشدة إلى هذه الدرجة العظيمة قيل لهم: * (ألا إن نصر الله قريب) * إجابة لهم إلى طلبهم، فتقدير الآية هكذا: كانت حالهم إلى أن أتاهم نصر الله ولم يغيرهم طول البلاء عن دينهم، وأنتم يا معشر المسلمين كونوا على ذلك وتحملوا الأذى والمشقة في طلب الحق، فإن نصر الله قريب، لأنه آت، وكل ما هو آت قريب، وهذه الآية مثل قوله: * (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله) * (العنكبوت: 1 - 3) وقال: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * (آل عمران: 142) والمقصود من هذه الآية ما ذكرنا أن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينالهم الأمر العظيم من البأساء والضراء من المشركين
والمنافقين واليهود، ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والنفوس ما لا يخفى، فعزاهم الله في ذلك وبين أن حال من قبلهم في طلب الدين كان كذلك، والمصيبة إذا عمت طابت، وذكر الله من قصة إبراهيم عليه السلام وإلقائه في النار، ومن أمر أيوب عليه السلام وما ابتلاه الله به، ومن أمر سائر الأنبياء عليهم السلام في مصابرتهم على أنواع البلاء ما صار ذلك في سلوة المؤمنين.
روى قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نلقى من المشركين، فقال: " إن من كان قبلكم من الأمم كانوا يعذبون بأنواع البلاء فلم يصرفهم ذلك عن دينهم، حتى إن الرجل يوضع على رأسه المنشار فيشق فلقتين، ويمشط الرجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من لحم وعصب وما يصرفه ذلك عن دينه، وأيم الله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ".
المسألة الرابعة: قرأ نافع * (حتى يقول) * برفع اللام والباقون بالنصب، ووجهه أن * (حتى) * إذا نصبت المضارع تكون على ضربين أحدهما: أن تكون بمعنى: إلى، وفي هذا الضرب يكون
21

الفعل الذي حصل قبل * (حتى) * والذي حصل بعدها قد وجدا ومضيا، تقول: سرت حتى أدخلها، أي إلى أن أدخلها، فالسير والدخول قد وجدا مضيا، وعليه النصب في هذه الآية، لأن التقدير: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول، والزلزلة والقول قد وجدا والثاني: أن تكون بمعنى: كي، كقوله: أطعت الله حتى أدخل الجنة، أي كي أدخل الجنة، والطاعة قد وجدت والدخول لم يوجد، ونصب الآية لا يمكن أن يكون على هذا الوجه، وأما الرفع فاعلم أن الفعل الواقع بعد * (حتى) * لا بد وأن يكون على سبيل الحال المحكية التي وجدت، كما حكيت الحال في قوله: * (هذا من شيعته وهذا من عدوه) * (القصص: 15) وفي قوله: * (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) * (الكهف: 18) لأن هذا لا يصح إلا على سبيل أن في ذلك الوقت كان يقال هذا الكلام، ويقال: شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنة، والمعنى شربت حتى إن من حضر هناك يقال: يجيء البعير يجر بطنه، ثم هذا قد يصدق عند انقضاء السبب وحده دون المسبب، كقولك: سرت حتى أدخل البلد. فيحتمل أن السير والدخول قد وجدا وحصلا، ويحتمل أن يكون قد وجد السير والدخول بعد لم يوجد، فهذا هو الكلام في تقرير وجه النصب ووجه الرفع، واعلم أن الأكثرين اختاروا النصب لأن قراءة الرفع لا تصح إلا إذا جعلنا الكلام حكاية عمن يخبر عنها حال وقوعها، وقراءة النصب لا تحتاج إلى هذا الفرض فلا جرم كانت قراءة النصب أولى. المسألة الخامسة: في الآية إشكال، وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد * (متى نصر الله) *.
والجواب عنه من وجوه أحدها: أن كونه رسولا لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء، قال تعالى: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) * (الحجر: 97) وقال تعالى: * (لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين) * (الشعراء: 3) وقال تعالى: * (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي) * (يوسف: 110) وعلى هذا فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته، وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له الوقت في ذلك، قال عند ضيق قلبه: * (متى نصر الله) * حتى إنه إن علم قرب الوقت زال همه وغمه وطالب قلبه، والذي يدل على صحة ذلك أنه قال في الجواب: * (ألا إن نصر الله قريب) * فلما كان الجواب بذكر القرب دل على أن السؤال كان واقعا عن القرب، ولو كان السؤال وقع عن أنه هل يوجد النصر أم لا؟ لما كان هذا الجواب مطابقا لذلك السؤال، وهذا هو الجواب المعتمد.
والجواب الثاني: أنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولا ثم ذكر كلامين أحدهما: * (متى نصر الله) * والثاني: * (ألا إن نصر الله قريب) * فوجب إسناد كل واحد من هذين الكلامين
22

إلى واحد من ذينك المذكورين: فالذين آمنوا قالوا: * (متى نصر الله) * والرسول صلى الله عليه وسلم قال: * (إلا إن نصر الله قريب) * قالوا ولهذا نظير من القرآن والشعر، أما القرآن فقوله: * (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) * والمعنى: لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، وأما من الشعر فقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدي وكرها العناب والحشف البالي
فالتشبيه بالعناب للرطب وبالحشف البالي لليابس، فهذا جواب ذكره قوم وهو متكلف جدا.
المسألة السادسة: * (إلا إن نصر الله قريب) * يحتمل أن يكون جوابا من الله تعالى لهم، إذ قالوا: * (متى نصر الله) * فيكون كلامهم قد انتهى عند قوله: * (متى نصر الله) * ثم قال الله عند ذلك * (إلا إن نصر الله قريب) * ويحتمل أن يكون ذلك قولا لقوم منهم، كأنهم لما قالوا: * (متى نصر الله) * رجعوا إلى أنفسكم فعلموا أن الله لا يعلي عدوهم عليهم، فقالوا: * (ألا إن نصر الله قريب) * فنحن قد صبرنا يا ربنا ثقة بوعدك.
فإن قيل: قوله: * (ألا إن نصر الله قريب) * يوجب في حق كل من لحقه شدة أن يعلم أن سيظفر بزوالها، وذلك غير ثابت.
قلنا: لا يمتنع أن يكون هذا من خواص الأنبياء عليهم السلام، ويمكن أن يكون ذلك عاما في حق الكل، إذ كل من كان في بلاء فإنه لا بد له من أحد أمرين، إما أن يتخلص عنه، وإما أن يموت وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه، وذلك من أعظم النصر، وإنما جعله قريبا لأن الموت قريب.
قوله تعالى
* (يسألونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بالغ في بيان أنه يجب على كل مكلف أن يكون معرضا عن طرب العاجل، وأن يكون مشتغلا بطلب الآجل، وأن يكون بحيث يبذل النفس والمال في ذلك شرع بعد ذلك في بيان الأحكام وهو من هذه الآية إلى قوله: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) * (البقرة: 243)
23

لأن من عادة القرآن أن يكون بيان التوحيد وبيان الوعظ والنصيحة وبيان الأحكام مختلطا بعضها بالبعض، ليكون كل واحد منها مقويا للآخر ومؤكدا له. الحكم الأول فيما يتعلق بالنفقة هو هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى: قال عطاء: عن ابن عباس نزلت هذه الآية في رجل أتى للنبي عليه الصلاة والسلام فقال إن لي دينارا فقال: أنفقه على نفسك قال: إن لي دينارين قال: أنفقهما على أهلك قال: إن لي ثلاثة قال: أنفقها على خادمك قال: إن لي أربعة قال: أنفقها على والديك قال: إن لي خمسه قال: أنفقها على قرابتك قال إن لي ستة قال: أنفقها في سبيل الله وهو أحسنها: وروى الكلبي عن ابن عباس أن الآية نزلت عن عمرو بن الجموح وكان شيخا كبيرا هرما، وهو الذي قتل يوم أحد وعنده مال عظيم، فقال: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية: للنحويين في * (ماذا) * قولان أحدهما: أن يجعل * (ما) * مع * (ذا) * بمنزلة اسم واحد ويكون الموضع نصبا بينفقون، والدليل عليه أن العرب يقولون: عماذا تسأل؟ بإثبات الألف في * (ما) * فلولا أن * (ما) * مع * (ذا) * بمنزلة اسم واحد لقالوا: عماذا تسأل؟ بحذف الألف كما حذفوها من قوله تعالى: * (عم يتساءلون) * (النبأ: 1) وقوله: * (فيم أنت من ذكراها) * (النازعات: 43) فلما لم يحذفوا الألف من آخر * (ما) * علمت أنه مع * (ذا) * بمنزلة اسم واحد ولم يحذفوا الألف منه لما لم يكن آخر الاسم والحذف يلحقها إذا كان آخرا إلا أن يكون في شعر كقوله:
غلاما قام يشتمني لئيم * كخنزير تمرغ في رماد
والقول الثاني: أن يجعل * (ذا) * بمعنى الذي ويكون * (ما) * رفعا بالابتداء خبرها * (ذا) * والعرب قد يستعملون * (ذا) * بمعنى الذي، فيقولون: من ذا يقول ذاك؟ أي من ذا الذي يقول ذاك، فعلى هذ يكون تقدير الآية: يسألونك ما الذي ينفقون.
المسألة الثالثة: في الآية سؤال، وهو أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم، فكيف أجابهم بهذا؟.
والجواب عنه من وجوه أحدها: أنه حصل في الآية ما يكون جوابا عن السؤال وضم إليه زيادة بها يكمل ذلك المقصود، وذلك لأن قوله: * (ما أنفقتم من خير) * جواب عن السؤال، ثم إن ذلك الإنفاق لا يكمل إلا إذا كان مصروفا إلى جهة الاستحقاق، فلهذا لما ذكر الله تعالى الجواب أردفه بذكر المصرف تكميلا للبيان وثانيها: قال القفال: إنه وإن كان السؤال واردا
24

بلفظ * (ما) * إلا أن المقصود: السؤال عن الكيفية لأنهم كانوا عالمين أن الذين أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى، وإذا كان هذا معلوما لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مرادا تعين أن المطلوب بالسؤال أن مصرفه أي شيء هو؟ وحينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال، ونظيره قوله تعالى: * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا... قال إنه يقول أنها بقرة لا ذلول) * (البقرة: 70، 71) وإنما كان هذا الجواب موافقا لذلك السؤال، لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا، فقوله: * (ما هي) * لا يمكن حمله على طلب الماهية، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها، فبهذا الطريق قلنا: إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال، فكذا ههنا لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو، وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم: * (ماذا ينفقون) * ليس هو طلب الماهية، بل طلب المصرف فلهذا حسن الجواب وثالثها: يحتمل أن يكون المراد أنهم سألوا هذا السؤال فكأنهم قيل لهم: هذا السؤال فاسد أنفق أي شيء كان ولكن بشرط أن يكون مالا حلالا وبشرط أن يكون مصروفا إلى المصرف وهذا مثل ما إذا كان الإنسان صحيح المزاج لا يضره أكل أي طعام كان، فقال للطبيب: ماذا آكل؟ فيقول الطبيب: كل في اليوم مرتين، كان المعنى: كل ما شئت لكن بهذا الشرط كذا ههنا المعنى: أنفق أي شيء أردت بشرط أن يكون المصرف ذلك.
المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى راعى الترتيب في الإنفاق، فقدم الوالدين، وذلك لأنهما كالمخرج له من العدم إلى الوجود في عالم الأسباب، ثم ربياه في الحال الذي كان في غاية الضعف، فكان إنعامهما على الابن أعظم من إنعام غيرهما عليه، ولذلك قال تعالى: * (وقضى ربك ألا تبعدوا إلا إياه وبالوالدين) * (الإسراء: 23) وفيه إشارة إلى أنه ليس بعد رعاية حق الله تعالى شيء أوجب من رعاية حق الوالدين، لأن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود في الحقيقة، والوالدان هما اللذان أخرجاه إلى عالم الوجود في عالم الأسباب الظاهرة، فثبت أن حقهما أعظم من حق غيرهما فلهذا أوجب تقديمهما على غيرهما في رعاية الحقوق، ثم ذكر تعالى بعد الوالدين الأقربين، والسبب فيه أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء، بل لا بد وأن يرجح البعض على البعض، والترجيح لا بد له من مرجح، والقرابة تصلح أن تكون سببا للترجيح من وجوه أحدها: أن القرابة مظنة المخالطة، والمخالطة سبب لاطلاع كل واحد منهم على حال الآخر، فإذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا كان اطلاع الفقير على الغني أتم، واطلاع الغني على الفقير أتم، وذلك من أقوى الحوامل على الإنفاق وثانيها: أنه لو لم يراع جانب الفقير، احتاج الفقير للرجوع إلى غيره وذلك عار وسيئة في حقه فالأولى أن يتكفل بمصالحهم دفعا للضرر عن النفس وثالثها:
25

أن قريب الإنسان جار مجرى الجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير، فلهذا السبب كان الإنفاق على القريب أولى من الإنفاق على البعيد، ثم إن الله تعالى ذكر بعد الأقربين اليتامى، وذلك لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ولكونهم يتامى ليس لهم أحد يكتسب لهم، فالطفل الذي مات أبوه قد عدم الكسب والكاسب. وأشرب على الضياع، ثم ذكر تعالى بعدهم المساكين وحاجة هؤلاء أقل من حاجة اليتامى لأن قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى ثم ذكر تعالى بعدهم ابن
السبيل فإنه بسبب انقطاعه عن بلده، قد يقع في الاحتياج والفقر، فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله تعالى في كيفية الإنفاق، ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال: * (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) * أي وكل ما فعلتموه من خير إما من هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلبا لجزيل ثوابه وهربا من أليم عقابه فإن الله به عليم، والعليم مبالغة في كونه عالما يعني لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه كما قال: * (إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) * (آل عمران: 19) وقال: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * (الزلزلة: 7).
المسألة الخامسة: المراد من الخير هو المال لقوله عز وجل: * (وإنه لحب الخير لشديد) * (العاديات: 8) وقال: * (إن ترك خيرا الوصية) * (البقرة: 180) فالمعنى وما تفعلوا من إنفاق شيء من المال قل أو كثر، وفيه قول آخر وهو أن يكون قوله: * (وما تفعلوا من خير) * يتناول هذا الإنفاق وسائر وجوه البر والطاعة، وهذا أولى.
المسألة السادسة: قال بعضهم: هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وهذا ضعيف لأنه يحتمل حمل هذه الآية على وجوه لا يتطرق النسخ إليها أحدها: قال أبو مسلم الإنفاق على الوالدين واجب عند قصورهما عن الكسب والملك، والمراد بالأقربين الولد وولد الولد وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك، وإذا حملنا الآية على هذا الوجه فقول من قال أنها منسوخة بآية المواريث، لا وجه له لأن هذه النفقة تلزم في حال الحياة والميراث يصل بعد الموت، وأيضا فما يصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقة وثانيها: أن يكون المراد من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات فيقدم الأولى فالأولى فيكون المراد به التطوع وثالثها: أن يكون المراد الوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية وفيما يتصل باليتامى والمساكين مما يكون زكاة ورابعها: يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثا على صلة الرحم وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة فظاهر الآية محتمل لكل هذه الوجوه من غير نسخ. الحكم الثاني فيما يتعلق بالقتال
26

الحكم الثاني
قوله تعالى
* (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه عليه الصلاة والسلام كان غير مأذون في القتال مدة إقامته بمكة فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين، ثم أذن له في قتال المشركين عامة، ثم فرض الله الجهاد واختلف العلماء في هذه الآية فقال قوم: إنها تقتضي وجوب القتال على الكل وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب ونقل عن ابن عمر وعطاء: أن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت فقط حجة الأولين أن قوله: * (كتب) * يقتضي الوجوب وقوله: * (عليكم) * يقتضيه أيضا، والخطاب بالكاف في قوله: * (عليكم) * لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد بعد ذلك كما في قوله: * (كتب عليكم القصاص) * (البقرة: 178)، * (كتب عليكم الصيام) * (البقرة: 183).
فإن قيل: ظاهر الآية هل يقتضي أن يكون واجبا على الأعيان أو على الكفاية.
قلنا: بل يقتضي أن يكون واجبا على الأعيان لأن قوله: * (عليكم) * أي على كل واحد من آحادكم كما في قوله: * (كتب عليكم القصاص، كتب عليكم الصيام) * حجة عطاء أن قوله: * (كتب) * يقتضي الإيجاب، ويكفي في العمل به مرة واحدة وقوله: * (عليكم) * يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت إلا أنا قلنا: إن قوله: * (كتب عليكم القصاص، كتب عليكم الصيام) * حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك، بدلالة منفصلة وهي الإجماع، وتلك الدلالة مفقودة ههنا فوجب أن يبقى على الوضع الأصلي، قالوا: ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى: * (وكلا وعد الله الحسنى) * (النساء: 95) ولو كان القاعد مضيعا فرضا لما كان موعودا بالحسنى، اللهم إلا أن يقال: الفرض كان ثابتا ثم نسخ، إلا أن التزام القوم بالنسخ من غير أن يدل عليه دليل غير جائز، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * (التوبة: 122) والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه، والإجماع اليوم منعقد على أنه
27

من فروض الكفايات، إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (وهو كره لكم) * فيه إشكال وهو أن الظاهر من قوله: * (كتب عليكم) * أن هذا الخطاب مع المؤمنين، والعقل يدل عليه أيضا لأن الكافر لا يؤمر بقتال الكافر، وإذا كان كذلك فكيف قال: * (وهو كره لكم) * فإن هذا يشعر بكون المؤمن كارها لحكم الله وتكليفه وذلك غير جائز، لأن المؤمن لا يكون ساخطا لأوامر الله تعالى وتكاليفه، بل يرضى بذلك ويحبه ويتمسك به ويعلم أنه صلاحه وفي تركه فساده.
والجواب من وجهين: الأول: أن المراد من الكره، كونه شاقا على النفس، والمكلف وإن علم أن ما أمره الله به فهو صلاحه، لكن لا يخرج بذلك عن كونه ثقيلا شاقا على النفس، لأن التكليف عبارة عن إلزام ما في فعله كلفة ومشقة، ومن المعلوم أن أعظم ما يميل إليه الطبع الحياة، فلذلك أشق الأشياء على النفس القتال الثاني: أن يكون المراد كراهتهم للقتال قبل أن يفرض لما فيه من الخوف، ولكثرة الأعداء فبين الله تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه لئلا تكرهونه بعد أن فرض عليكم.
المسألة الثالثة: الكره بضم الكاف هو الكراهة بدليل قوله: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) * ثم فيه وجهان أحدهما: أن يكون المعنى وضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقول الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار (c)
كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له والثاني: أن يكون فعلا بمعنى مفعول، كالخبر بمعنى المخبور أي وهو مكروه لكم وقرأ السلمي بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز، كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له، ومشقته عليهم، ومنه قوله تعالى: * (حملته أمه كرها ووضعته كرها) * (الأحقاف: 15) والله أعلم وقال بعضهم: الكره، بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه، وإذا كان بالإكراه فبالفتح.
أما قوله: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: * (عسى) * فعل درج مضارعه وبقي ماضيه فيقال منه، عسيتما وعسيتم قال تعالى: * (فهل عسيتم) * (محمد: 22) ويرتفع الاسم بعده كما يرتفع بعد الفعل فتقول: عسى زيد. كما تقول: قام زيد ومعناه: قرب قال تعالى: * (قل عسى أن يكون ردف لكم) * (النمل: 72) أي قرب، فقولك عسى زيد أن يقوم تقديره عسى قيام زيد
28

أي قرب قيام زيد.
المسألة الثانية: معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقا عليكم في الحال، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل وبالضد، ولأجله حسن شرب الدواء المرء في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتوقع حصول الربح في المستقبل، وحسن تحمل المشاق في طلب العلم للفوز بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى، وههنا كذلك وذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل، وصون المال عن الإنفاق، ولكن فيه أنواع من المضار منها: أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصة بلادكم وحاول قتلكم فأما أن يأخذكم ويستبيح دماءكم وأموالكم، وإما أن تحتاجوا إلى قتالهم من غير إعداد آلة وسلاح، وهذا يكون كترك مداواة المرض في أول ظهوره بسبب نفرة النفس عن تحمل مرارة الدواء، ثم في آخر الأمر يصير المرء مضطرا إلى تحمل أضعاف تلك النفرة والمشقة، والحاصل أن القتال سبب لحصول الأمن، وذلك خير من الانتفاع بسلامة الوقت، ومنها وجدان الغنيمة، ومنها السرور العظيم بالاستيلاء على الأعداء.
أما ما يتعلق بالدين فكثيرة، منها ما يحصل للمجاهد من الثواب العظيم إذا فعل الجهاد تقربا وعبادة وسلك طريقة الاستقامة فلم يفسد ما فعله، ومنها أنه يخشى عدوكم أن يستغنمكم فلا تصبرون على المحنة فترتدون عن الدين، ومنها أن عدوكم إذا رأى جدكم في دينكم وبذلكم أنفسكم وأموالكم في طلبه مال بسبب ذلك إلى دينكم فإذا أسلم على يدكم صرتم بسبب ذلك مستحقين للأجر العظيم عند الله، ومنها أن من أقدم على القتال طلبا لمرضاة الله تعالى كان قد تحمل ألم القتل بسبب طلب رضوان الله، وما لم يصر الرجل متيقنا بفضل الله وبرحمته وأنه لا يضيع أجر المحسنين، وبأن لذات الدنيا أمور باطلة لا يرضى بالقتل ومتى كان كذلك فارق الإنسان الدنيا على حب الله وبغض الدنيا، وذلك من أعظم سعادات الإنسان.
فثبت بما ذكرنا أن الطبع ولو كان يكره القتال من أعداء الله فهو خير كثير وبالضد، ومعلوم أن الأمرين متى تعارضا فالأكثر منفعة هو الراجح وهذا هو المراد من قوله: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) *.
المسألة الثالثة: * (الشر) * السوء وأصله من شررت الشيء إذا بسطته، يقال شررت اللحم والثوب إذا بسطته ليجف، ومنه قوله: وحتى أشرت بالأكف المصاحف
* (والشرر) * اللهب لانبساطه فعلى هذا * (الشر) * انبساط الأشياء الضارة.
29

المسألة الرابعة: * (عسى) * توهم الشك مثل * (لعل) * وهي من الله تعالى يقين، ومنهم من قال إنها كلمة مطمعة، فهي لا تدل على حصول الشك للقائل إلا أنها تدل على حصول الشك للمستمع وعلى هذا التقدير لا يحتاج إلى التأويل، أما إن قلنا بأنها بمعنى * (لعل) * فالتأويل فيه هو الوجوه المذكورة في قوله تعالى: * (لعلكم تتقون) * (البقرة: 183) قال الخليل: * (عسى) * من الله واجب في القرآن قال: * (فعسى الله أن يأتي بالفتح) * (المائدة: 52) وقد وجد * (وعسى الله أن يأتيني بهم جميعا) * (يوسف: 83) وقد حصل والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * فالمقصود منه الترغيب العظيم في الجهاد وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد قصور علم نفسه، وكمال علم الله تعالى، ثم علم أنه سبحانه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيرته ومصلحته، علم قطعا أن الذي أمره الله تعالى به وجب عليه امتثاله، سواء كان مكروها للطبع أو لم يكن فكأنه تعالى قال: يا أيها العبد اعلم أن علمي أكمل من علمك فكن مشتغلا بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة * (إني أعلم ما لا تعلمون) *.
قوله تعالى
* (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *.
في الآية مسائل:
30

المسألة الأولى: اختلفوا في أن هذا السائل أكان من المسلمين أو من الكافرين والقائلون بأنه من المسلمين فريقان الأول: الذين قالوا إنه تعالى لما كتب عليهم القتال وقد كان عند القوم الشهر الحرام والمسجد الحرام أعظم الحرمة في المنع من القتال لم يبعد عندهم أن يكون الأمر بالقتال مقيدا بأن يكون في غير هذا الزمان وفي غير هذا المكان فدعاهم ذلك إلى أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أيحل لنا قتالهم في هذا الشهر وفي هذا الموضع؟ فنزلت الآية، فعلى هذا الوجه الظاهر أن هذا
السؤال كان من المسلمين.
الفريق الثاني: وهم أكثر المفسرين: رووا عن ابن عباس أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمته قبل قتال بدر بشهرين، وبعد سبعة عشر شهرا من مقدمة المدينة في ثمانية رهط، وكتب له كتابا وعهدا ودفعه إليه، وأمره أن يفتحه بعد منزلتين، ويقرأه على أصحابه، ويعمل بما فيه، فإذا فيه: أما بعد فسر على بركة الله تعالى بمن اتبعك حتى تنزل بطن نخل، فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منه بخير، فقال عبد الله: سمعا وطاعة لأمره فقال لأصحابه: من أحب منكم الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمره، ومن أحب التخلف فليتخلف فمضى حتى بلغ بطن نخل بين مكة والطائف، فمر عليهم عمرو بن الحضرمي وثلاثة معه، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقوا رأس واحد منهم وأوهموا بذلك أنهم قوم عمار، ثم أتى واقد بن عبد الله الحنظلي وهو أحد من كان مع عبد الله بن جحش ورمى عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا اثنين وساقوا العير بما فيه حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضجت قريش وقالوا: قد استحل محمد الشهر الحرام، شهر يأمن فيه الخائف فيسفك فيه الدماء، والمسلمون أيضا قد استبعدوا ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، وقال عبد الله بن جحش يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى، فنزلت هذه الآية، فأخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام الغنيمة، وعلى هذا التقدير فالأظهر أن هذا السؤال إنما صدر عن المسلمين لوجوه أحدها: أن أكثر الحاضرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين وثانيها: أن ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاب مع المسلمين أما ما قبل هذه الآية فقوله: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) * وهو خطاب مع المسلمين وقوله: * (يسألونك عن الخمر والميسر... ويسألونك عن اليتامى) * (البقرة: 219، 220) وثالثها: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله
31

عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن منها * (يسألونك عن الشهر الحرام) *.
والقول الثاني: أن هذا السؤال كان من الكفار قالوا: سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حلال فتكوا به واستحلوا قتاله فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) * أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام * (قل قتال فيه كبير) * ولكن الصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام والكفر به أكبر من ذلك القتال * (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم) * فبين تعالى أن غرضهم من هذا السؤال أن يقاتلوا المسلمين ثم أنزل الله تعالى بعده قوله: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194) فصرح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائز. المسألة الثانية: قوله تعالى: * (قتال فيه) * خفض على البدل من الشهر الحرام، وهذا يسمى بدل الاشتمال، كقولك: أعجبني زيد علمه ونفعني زيد كلامه وسرق زيد ماله، وسلب زيد ثوابه، قال تعالى: * (قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود) * (البروج: 4، 5) وقال بعضهم الخفض في قتال على تكرير العامل والتقدير: يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه، وهكذا هو في قراءة ابن مسعود والربيع، ونظيره قوله تعالى: * (للذين (الأعراف: 75) استضعفوا لمن آمن منهم) * وقرأ عكرمة * (قتل فيه) *.
أما قوله تعالى: * (قل قتال فيه كبير) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: * (قتال فيه) * مبتدأ و * (كبير) * خبره، وقوله: * (قتال) * وإن كان نكرة إلا أنه تخصص بقوله: * (فيه) * فحسن جعله مبتدأ والمراد من قوله: * (كبير) * أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة قال تعالى: * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) * (الكهف: 5).
فإن قيل: لم نكر القتال في قوله تعالى: * (قتال فيه) * ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجيء باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور الثاني غير الأول كما في قوله تعالى: * (إن مع العسر يسرا) * (الشرح: 6).
قلنا: نعم ما ذكرتم أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني إذن غير الأول والقوم أرادوا بقولهم: * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) * ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش، فقال تعالى: * (قل قتال فيه كبير) * وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيرا ليس هو هذا القتال الذي سألتم عنه، بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الفكر فكيف يكون هذا من الكبائر، إنما القتال الكبير هو الذي يكون
32

الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة إلا أنه تعالى ما صرح بهذا الكلام لئلا تضيق قلوبهم بل أبهم الكلام بحيث يكون ظاهره كالموهم لما أرادوه، وباطنه يكون موافقا للحق، وهذا إنما حصل بأن ذكر هذين اللفظين على سبيل التنكير، ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة الجليلة، فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولوا الألباب.
المسألة الثانية: اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ فنقل عن ابن جريج أنه قال: حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا على سبيل الدفع، روى جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال نعم، قال أبو عبيد: والناس بالثغور اليوم جميعا على هذا القول يرون الغزو مباحا في الشهور كلها، ولم أر أحدا من علماء الشام والعراق ينكره عليهم كذلك حسب قول أهل الحجاز.
والحجة في إباحته قوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * (التوبة: 5) وهذه الآية ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام، والذي عندي أن قوله تعالى: * (قل قتال فيه كبير) * هذا نكرة في سياق الإثبات فيتناول فردا واحدا، ولا يتناول كل الأفراد، فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مطلقا في الشهر الحرام،
فلا حاجة إلى تقدير النسخ فيه.
أما قوله تعالى: * (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: للنحويين في هذه الآية وجوه الأول: قول البصريين وهو الذي اختاره الزجاج، أن قوله: * (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه) * كلها مرفوعة بالابتداء، وخبرها قوله: * (أكبر عند الله) * والمعنى: أن القتال الذي سألتم عنه، وإن كان كبيرا، إلا أن هذه الأشياء أكبر منه، فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام، فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أن له فيه عذرا ظاهرا، فإنه كان يجوز أن يكون ذلك القتل واقعا في جمادى الآخرة، ونظيره قوله تعالى لبني إسرائيل: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفكسم) * (البقرة: 44)، * (لم تقولون ما لا تفعلون) * (الصف: 2) وهذا وجه ظاهر، إلا أنهم اختلفوا في الجر في قوله: * (والمسجد الحرام) * وذكروا فيه وجهين أحدهما: أنه عطف على الهاء في به والثاني: وهو قول الأكثرين: أنه
33

عطف على * (سبيل الله) * قالوا: وهو متأكد بقوله تعالى: * (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) * (الحج: 25).
واعترضوا على الوجه الأول بأنه لا يجوز العطف على الضمير، فإنه لا يقال: مررت به وعمرو، وعلى الثاني بأن على هذا الوجه يكون تقدير الآية: صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، فقوله: * (عن المسجد الحرام) * (المائدة: 2) صلة للصد، والصلة والموصول في حكم الشيء الواحد، فإيقاع الأجنبي بينهما لا يكون جائزا.
أجيب عن الأول: لم لا يجوز إضمار حرف الجر فيه حتى يكون التقدير: وكفر به وبالمسجد الحرام، والإضمار في كلام الله ليس بغريب، ثم يتأكد هذا بقراءة حمزة * (تساءلون به والأرحام) * (النساء: 1) على سبيل الخفض ولو أن حمزة روى هذه اللغة لكان مقبولا بالاتفاق، فإذا قرأ به في كتاب الله تعالى كان أولى أن يكون مقبولا، وأما الأكثرون الذين اختاروا القول الثاني قالوا: لا شك أنه يقتضي وقوع الأجنبي بين الصلة والموصول، والأصل أنه لا يجوز إلا أنا تحملناه ههنا لوجهين الأول: أن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشئ الواحد في المعنى، فكأنه لا فصل الثاني: أن موضع قوله: * (وكفر به) * عقيب قوله: * (والمسجد الحرام) * إلا أنه قدم عليه لفرط العناية، كقوله تعالى: * (ولم يكن له كفوا أحدا) * كان من حق الكلام أن يقال: ولم يكن له أحد كفوا إلا أن فرط العناية أوجب تقديمه فكذا ههنا.
الوجه الثاني: في هذه الآية، وهو اختيار الفراء وأبي مسلم الأصفهاني أن قوله تعالى: * (والمسجد الحرام) * عطف بالواو على الشهر الحرام، والتقدير: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام، ثم بعد هذا طريقان أحدهما: أن قوله: * (قتال فيه) * مبتدأ، وقوله: * (كبير وصد عن سبيل الله وكفر به) * خبر بعد خبر، والتقدير: إن قتلا فيه محكوم عليه بأنه كبير وبأنه صد عن سبيل الله، وبأنه كفر بالله.
والطريق الثاني: أن يكون قوله: * (قتال فيه كبير) * جملة مبتدأ وخبر، وأما قوله: * (وصد عن سبيل الله) * فهو مرفوع بالابتداء، وكذا قوله: * (وكفر به) * والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه، والتقدير: قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كبير وكفر به كبير، ونظيره قولك: زيد منطلق وعمرو، تقديره: وعمرو منطلق، طعن البصريون في هذا الجواب فقالوا: أما قولكم تقدير الآية: يسألونك عن قتال في المسجد الحرام فهو ضعيف لأن السؤال كان واقعا عن القتال في الشهر الحرام لا عن القتال في المسجد الحرام، وطعنوا في الوجه الأول بأنه يقتضي أن يكون
34

القتال في الشهر الحرام كفرا بالله، وهو خطأ بالإجماع، وطعنوا في الوجه الثاني بأنه لما قال بعد ذلك: * (وإخراج أهله منه أكبر) * أي أكبر من كل ما تقدم فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد من المسجد أكبر عند الله من الكفر، وهو خطأ بالإجماع.
وأقول: للفراء أن يجيب عن الأول بأنه من الذي أخبركم بأنه ما وقع السؤال عن القتال في المسجد الحرام، بل الظاهر أنه وقع لأن القوم كانوا مستعظمين للقتال في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم، فالظاهر أنهم جمعوهما في السؤال، وقولهم على الوجه الأول يلزم أن يكون القتال في الشهر الحرام كفرا.
قلنا: يلزم أن يكون قتال في الشهر الحرام كفرا ونحن نقول به، لأن النكرة في الإثبات لا تفيد العموم، وعندنا أن قتالا واحدا في المسجد الحرام كفر، ولا يلزم أن كل قتال كذلك، وقولهم على الوجه الثاني يلزم أن يكون إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر، قلنا: المراد من أهل المسجد هم الرسول عليه السلام والصحابة، وإخراج الرسول من المسجد على سبيل الإذلال لا شك أنه كفر وهو مع كونه كفرا فهو ظلم لأنه إيذاء للإنسان من غير جرم سابق وعرض لاحق ولا شك أن الشيء الذي يكون ظلما وكفرا، أكبر وأقبح عند الله مما يكون كفرا وحده، فهذا جملة القول في تقرير قول الفراء.
القول الثالث: في الآية قوله: * (قل قتال فيه كبير وصد عن سبل الله وكفر به) * وجهه ظاهر، وهو أن قتالا فيه موصوف بهذه الصفات، وأما الخفض في قوله: * (والمسجد الحرام) * فهو واو القسم إلا أن الجمهور ما أقاموا لهذا القول وزنا.
المسألة الثانية: أما الصد عن سبيل الله ففيه وجوه أحدها: أنه صد عن الإيمان بالله وبمحمد عليه السلام وثانيها: صد للمسلمين من أن يهاجروا إلى الرسول عليه السلام وثالثها: صد المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت، ولقائل أن يقول: الرواية دلت على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر في قصة عبد الله بن جحش، وقصة الحديبية كانت بعد غزوة بدر بمدة طويلة، ويمكن أن يجاب عنه بأن ما كان في معلوم الله تعالى كان كالواقع، وأما الكفر بالله فهو الكفر بكونه مرسلا للرسل، مستحقا للعبادة، قادرا على البعث، وأما قوله: * (والمسجد الحرام) * فإن عطفناه على الضمير في * (به) * كان المعنى: وكفر بالمسجد الحرام، ومعنى الكفر بالمسجد الحرام
هو منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به، فقد كفروا بما هو السبب في فضيلته التي بها يتميز عن سائر البقاع، ومن قال: إنه معطوف على سبيل الله كان المعنى: وصد عن المسجد الحرام، وذلك لأنهم
35

صدوا عن المسجد الحرام الطائفين والعاكفين والركع السجود.
وأما قوله تعالى: * (وإخراج أهله منه) * فالمراد أنهم أخرجوا المسلمين من المسجد، بل من مكة، وإنما جعلهم أهلا له إذ كانوا هم القائمين بحقوق البيت كما قال تعالى: * (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق به وأهلها) * (الفتح: 26) وقال تعالى: * (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون) * (الأنفال: 34) فأخبر تعالى أن المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد، ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الأشياء حكم عليها بأنها أكبر، أي كل واحد منها أكبر من قتال في الشهر الحرام، وهذا تفريع على قول الزجاج، وإنما قلنا: إن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام لوجهين: أحدهما: أن كل واحد من هذه الأشياء كفر، والكفر أعظم من القتال والثاني: أنا ندعي أن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو القتال الذي صدر عن عبد الله بن جحش، وهو ما كان قاطعا بوقوع ذلك القتال في الشهر الحرام، وهؤلاء الكفار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشهر الحرام، فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر.
أما قوله تعالى: * (والفتنة أكبر من القتل) * فقد ذكروا في الفتنة قولين أحدهما: هي الكفر وهذا القول عليه أكثر المفسرين، وهو عندي ضعيف، لأن على قول الزجاج قد تقدم ذكر ذلك، فإنه تعالى قال: * (وكفر به أكبر) * فحمل الفتنة على الفكر يكون تكرارا، بل هذا التأويل يستقيم على قول الفراء.
والقول الثاني: أن الفتنة هي ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم، تارة بإلقاء الشبهات في قلوبهم، وتارة بالتعذيب، كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر، وهذا قول محمد بن إسحاق وقد ذكرنا أن الفتنة عبارة عن الامتحان، يقال فتنت الذهب بالنار إذا أدخلته فيها لتزيل الغش عنه، ومنه قوله تعالى: * (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) * (التغابن: 15) أي امتحان لكم لأنه إذا لزمه إنفاق المال في سبيل الله تفكر في ولده، فصار ذلك مانعا له عن الإنفاق، وقال تعالى: * (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) * (العنكبوت: 1، 2) أي لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء، وقال: * (وفتناك فتونا) * (طه: 40) وإنما هو الامتحان بالبلوى، وقال: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) * (العنكبوت: 10) والمراد به المحنة التي تصيبه من جهة الدين من الكفار وقال: * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا) * (البروج: 10) والمراد أنهم آذوهم وعرضوهم على العذاب ليمتحنوا ثباتهم على دينهم، وقال: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم
36

أن يفتنكم الذين كفروا) * (النساء: 101) وقال: * (ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم) * (الصافات: 162، 163) وقال: * (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) * (آل عمران: 7) أي المحنة في الدين وقال: * (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) * (المائدة: 49) وقال: * (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) * (الممتحنة: 5) وقال: * (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) * (يونس: 85) والمعنى أن يفتنوا بها عن دينهم فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر والظلم وقال: * (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون) * (القلم: 65) قيل: المفتون المجنون، والجنون فتنة، إذ هو محنة وعدول عن سبيل أهل السلامة في العقول.
فثبت بهذه الآيات أن الفتنة هي الامتحان، وإنما قلنا: إن الفتنة أكبر من القتل لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا، وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة، فصح أن الفتنة أكبر من القتل فضلا عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي.
روى أنه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش صاحب هذه السرية إلى مؤمني مكة: إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، ومنع المؤمنين عن البيت الحرام قال: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) * والمعنى ظاهر، ونظيره قوله تعالى: * (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) * (البقرة: 120).
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ما زال يفعل كذا، ولا يزال يفعل كذا، قال الواحدي: هذا فعل لا مصدر له، ولا يقال منه: فاعل ولا مفعول، ومثاله في الأفعال كثير نحو * (عسى) * ليس له مصدر ولا مضارع وكذلك: ذو، وما فتئ، وهلم، وهاك، وهات، وتعال، ومعنى: * (لا يزالون) * أي يدومون على ذلك الفعل لأن الزوال يفيد النفي فإذا أدخلت عليه: ما، كان ذلك نفيا للنفي فيكون دليلا على الثبوت الدائم.
المسألة الثانية: قوله: * (حتى يردوكم عن دينكم) * أي إلى أن يردوكم وقيل المعنى: ليردوكم.
المسألة الثالثة: قوله: * (إن استطاعوا) * استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي فلا تبق على وهو واثق بأنه لا يظفر به.
ثم قال تعالى: * (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي قوله: * (ومن يرتدد) * أظهر التضعيف مع الجزم لسكون الحرف الثاني: وهو أكثر في اللغة من الإدغام، وقوله: * (فيمت) * هو جزم بالعطف على * (يرتدد) * وجوابه * (فأولئكم حبطت أعمالهم) *.
المسألة الثانية: لما بين تعالى أن غرضهم من تلك المقاتلة هو أن يرتد المسلمون عن دينهم،
37

ذكر بعده وعيدا شديدا على الردة، فقال: * (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) * واستوجب العذاب الدائم في النار.
المسألة الثالثة: ظاهر الآية يقتضي أن الارتداد إنما يتفرع عليه الأحكام المذكورة إذا مات المرتد على الكفر، أما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من هذه الأحكام، وقد تفرع على هذه النكتة بحث أصولي وبحث فروعي، أما البحث الأصولي فهو أن جماعة من المتكلمين زعموا أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة، فالإيمان لا يكون إيمانا إلا إذا مات المؤمن عليه والكفر لا يكون كفرا إلا إذا مات الكافر عليه، قالوا: لأن من كان مؤمنا ثم ارتد والعياذ بالله فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيمانا في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي، ثم بعد كفره يستحق العقاب الأبدي فإما أن يبقى الاستحقاقان وهو محال، وإما أن يقال: إن الطارئ يزيل السابق وهذا محال لوجوه أحدها: أن المنافاة حاصلة بين السابق والطارئ، فليس كون الطارئ مزيلا للسابق أولى من كون السابق دافعا للطارئ، بل الثاني أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وثانيها: أن المنافاة إذا كانت حاصلة من الجانبين، كان شرط طريان الطارئ زوال السابق فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور وهو محال وثالثها: أن ثواب الإيمان السابق وعقاب الكفر الطارئ، إما أن يكونا متساويين أو يكون أحدهما أزيد من الآخر، فإن تساويا وجب أن يتحابط كل واحد منهما بالآخر، فحينئذ يبقى المكلف لا من أهل الثواب ولا من أهل العقاب وهو باطل بالإجماع، وإن ازداد أحدهما على الآخر، فلنفرض أن السابق أزيد، فعند طريان الطارئ لا يزول إلا ما يساويه، فحينئذ يزول بعض الاستحقاقات دون البعض مع كونها متساوية في الماهية، فيكون ذلك ترجيحا من غير مرجح وهو محال، لنفرض أن السابق أقل فحينئذ إما أن يكون الطارئ الزائد، يكون جملة أجزائه مؤثرة في إزالة السابق فحينئذ يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة وهو محال، وإما أن يكون المؤثر في إزالة السابق بعض أجزاء الطارئ دون البعض، وحينئذ يكون اختصاص ذلك البعض بالمؤثرية ترجيحا للمثل من غير مرجح وهو محال، فثبت بما ذكرنا أنه إذا كان مؤمنا ثم كفر، فذلك الإيمان السابق، وإن كنا نظنه إيمانا إلا أنه ما كان عند الله إيمانا، فظهر أن الموافاة شرط لكون الإيمان إيمانا، والكفر كفرا، وهذا هو الذي دلت الآية عليه، فإنها دلت على أن شرط كون الردة موجبة لتلك الأحكام أن يموت المرتد على تلك الردة.
أما البحث الفروعي: فهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت قال الشافعي
38

رحمه الله: لا إعادة عليه، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج، حجة الشافعي رضي الله تعالى عنه قوله تعالى: * (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) * شرط في حبوط العمل أن يموت وهو كافر، وهذا الشخص لم يوجد في حقه هذا الشرط، فوجب أن لا يصير عمله محبطا، فإن قيل: هذا معارض بقوله: * (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) * (الأنعام: 88) وقوله: * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) * (المائدة: 5) لا يقال: حمل المطلق على المقيد واجب.
لأنا نقول: ليس هذا من باب المطلق والمقيد، فإنهم أجمعوا على أن من علق حكما بشرطين، وعلقه بشرط أن الحكم ينزل عند أيهما وجه، كمن قال لعبده: أنت حر إذا جاء يوم الخميس، أنت حر إذا جاء يوم الخميس والجمعة: لا يبطل واحد منهما، بل إذا جاء يوم الخميس عتق، ولو كان باعه فجاء يوم الخميس ولم يكن في ملكه، ثم اشتراه ثم جاء يوم الجمعة وهو في ملكه عتق بالتعليق الأول.
والسؤال الثاني: عن التمسك بهذه الآية أن هذه الآية دلت على أن الموت على الردة شرط لمجموع الأحكام المذكورة في هذه الآية، ونحن نقول به فإن من جملة هذه الأحكام: الخلود في النار وذلك لا يثبت إلا مع هذا الشرط، وإنما الخلاف في حبط الأعمال، وليس في الآية دلالة على أن الموت على الردة شرط فيه.
والجواب: أن هذا من باب المطلق والمقيد لا من باب التعليق بشرط واحد وبشرطين، لأن التعليق بشرط وبشرطين إنما يصح لو لم يكن تعليقه بكل واحد منهما مانعا من تعليقه بالآخر، وفي مسألتنا لو جعلنا مجرد الردة مؤثرا في الحبوط لم يبق للموت على الردة أثر في الحبوط أصلا في شيء من الأوقات، فعلمنا أن هذا ليس من باب التعليق بشرط وبشرطين بل من باب المطلق والمقيد.
وأما السؤال الثاني: فجوابه أن الآية دلت على أن الردة إنما توجب الحبوط بشرط الموت على الردة، وإنما توجب الخلود في النار بشرط الموت على الردة، وعلى هذا التقدير فذلك السؤال ساقط.
أما قوله تعالى: * (فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أهل اللغة أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئا يضرها فتعظم بطونها فتهلك وفي الحديث " وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم " فسمى بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه.
39

المسألة الثانية: المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال، وإعدام المعدوم محال، ثم اختلف المتكلمون فيه، فقال المثبتون للإحباط والتكفير: المراد منه أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق، إما بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة أولا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي، وقال المنكرون للإحباط بهذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لأن الآتي بالردة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثوابا فإذا لم يأت بذلك العمل الجيد وأتى بدله بهذا العمل الردئ الذي لا يستفيد منه نفعا بل يستفيد منه أعظم المضار يقال: إنه أحبط عمله أي أتى بعمل باطل ليس فيه فائدة بل فيه مضرة، ثم قال المنكرون للإحباط هذا الذي ذكرناه في تفسير الإحباط، إما أن يكون حقيقة في لفظ الإحباط، وإما أن لا يكون، فإن كان حقيقة فيه وجب المصير إليه، وإن كان مجازا وجب المصير إليه، لأنا ذكرنا الدلائل القاطعة في مسألة أن الموافاة شرط في صحة الإيمان، على أن القول بأن أثر الفعل الحادث يزيل أثر الفعل السابق محال.
المسألة الثالثة: أما حبوط الأعمال في الدنيا، فهو أنه يقتل عند الطفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصرا ولا ثناء حسنا، وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من المسلمين، ويجوز أن يكون المعنى في قوله: * (حبطت أعمالهم في الدنيا) * أن ما يريدونه بعد الردة من الإضرار بالمسلمين ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره فتكون الأعمال على هذا التأويل ما يعملونه بعد الردة، وأما حبوط أعمالهم في الآخرة فعند القائلين بالإحباط معناه أن هذه الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استقوه بأعمالهم السالفة، وعند المنكرين لذلك معناه: أنهم لا يستفيدون من تلك الردة ثوابا ونفعا في الآخرة بل يستفيدون منها أعظم المضار، ثم بين كيفية تلك المضرة فقال تعالى: * (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *.
قوله عز وجل
* (إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة
40

الله والله غفور رحيم) *.
قوله عز وجل: * (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجادوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) *.
في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول: أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه لا عقاب فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرا وثوابا فنزلت هذه الآية، لأن عبد الله كان مؤمنا، وكان مهاجرا، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا والثاني: أنه تعالى لما أوجب الجهاد من قبل بقوله: * (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) * (البقرة: 216) وبين أن تركه سبب للوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال: * (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله) * ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد.
المسألة الثانية: * (هاجروا) * أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم، وأصله من الهجر الذي هو ضد الوصل، ومنه قيل للكلام القبيح: هجر، لأنه مما ينبغي أن يهجر، والهاجرة وقت يهجر فيه العمل، والمهاجرة مفاعلة من الهجرة، وجاز أن يكون المراد منه أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين، وهو أيضا هجرهم بهذا السبب، فكان ذلك مهاجرة، وأما المجاهدة فأصلها من الجهد الذي هو المشقة، ويجوز أن يكون معنى المجاهدة أن يضم جهده إلى جهد آخر في نصرة دين الله، كما أن المساعدة عبارة عن ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر ليحصل التأييد والقوة، ويجوز أن يكون المراد من المجاهدة بذل الجهد في قتال العدو، وعند فعل العدو، ومثل ذلك فتصير مفاعلة.
ثم قال تعالى: * (أولئك يرجون رحمة الله) * وفيه قولان: * (الأول) * أن المراد منه الرجاء، وهو عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها، وأراد تعالى في هذا الموضع أنهم يطمعون في ثواب الله وذلك لأن عبد الله بن جحش ما كان قاطعا بالفوز والثواب في عمله، بل كان يتوقعه ويرجوه.
فإن قيل: لم جعل الوعد مطلقا بالرجاء، ولم يقع به كما في سائر الآيات؟.
قلنا: الجواب من وجوه أحدها: أن مذهبنا أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب عقلا، بل بحكم الوعد، فلذلك علقه بالرجاء وثانيها: هب أنه واجب عقلا بحكم الوعد، ولكنه تعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك فيه لا متيقن، فلا جرم كان الحاصل هو الرجاء لا القطع وثالثها: أن المذكور ههنا هو الإيمان، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها، كما وفقه لهذه الثلاثة، فلا جرم علقه على الرجاء ورابعها: ليس المراد من الآية أن الله شكك العبد في هذه المغفرة، بل المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد، مستقصرين أنفسهم في حق الله تعالى،
41

يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه، فيقدمون على الله مع الخوف والرجاء، كما قال: * (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) * (المؤمنون: 60).
القول الثاني: أن المراد من الرجاء: القطع واليقين في أصل الثواب، والظن إنما دخل في كميته وفي وقته، وفيه وجوه قررناها في تفسير قوله تعالى: * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) * (البقرة: 46).
ثم قال تعالى: * (والله غفور رحيم) * أي إن الله تعالى يحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح، وأنه غفور رحيم، غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم.
الحكم الثالث
في الخمر
* (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهمآ إثم كبير ومنافع للناس وإثمهمآ أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) *.
اعلم أن قوله: * (يسألونك عن الخمر والميسر) * ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا، فإنه يحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع به، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة دل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان وقعا عن الحل والحرمة.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قالوا: نزلت في الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله تعالى: * (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) * (النحل: 67)
وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزل فيها قوله تعالى: * (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) * فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم، فشربوا وسكروا، فقام بعضهم يصلي فقرأ: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، فنزلت: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * (النساء: 43) فقل من شربها، ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرا فيه
42

هجاء للأنصار، فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه شجة موضحة، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل: * (إنما الخمر والميسر) * إلى قوله: * (فهل أنتم منتهون) * (المائدة: 91) فقال عمر: انتهينا يا رب، قال القفال رحمه الله: والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم قد كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيرا، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج، وهذا الرفق، ومن الناس من قال بأن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية، ثم نزل قوله تعالى: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * فاقتضى ذلك تحريم شرب الخمر وقت الصلاة، لأن شارب الخمر لا يمكنه أن يصلي إلا مع السكر، فكان المنع من ذلك منعا من الشرب ضمنا، ثم نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوة في التحريم، وعن الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر. المسألة الثانية: اعلم أن عندنا أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر فنفتقر إلى بيان أن الخمر ما هو؟ ثم إلى بيان أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر.
أما المقام الأول: في بيان أن الخمر ما هو؟ قال الشافعي رحمه الله: كل شرب مسكر فهو خمر، وقال أبو حنيفة: الخمر عبارة عن عصير العنب الشديد الذي قذف بالزبد، حجة الشافعي على قوله وجوه أحدها: ما روى أبو داود في " سننه ": عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، والخمر ما خامر العقل، وجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه أحدها: أن عمر رضي الله عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت وهي تتخذ من الحنطة والشعير، كما أنها كانت تتخذ من العنب والتمر، وهذا يدل على أنهم كانوا يسمونها كلها خمرا وثانيها: أنه قال: حرمت الخمر يوم حرمت، وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمر، وهذا كالتصريح بأن تحريم الخمر يتناول تحريم هذه الأنواع الخمسة وثالثها: أن عمر رضي الله عنه ألحق بها كل ما خامر العقل من شراب، ولا شك أن عمر كان عالما باللغة، وروايته أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل فغيره.
الحجة الثانية: روى أبو داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا " والاستدلال به من وجهين أحدهما: أن هذا صريح في أن هذه الأشياء داخلة تحت اسم الخمر فتكون داخلة تحت الآية الدالة على تحريم الخمر والثاني: أنه ليس مقصود الشارع
43

تعليم اللغات، فوجب أن يكون مراده من ذلك بيان أن الحكم الثابت في الخمر ثابت فيها، أو الحكم المشهور الذي اختص به الخمر هو حرمة الشرب، فوجب أن يكون ثابتا في هذه الأشربة، قال الخطابي رحمه الله: وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها، وإنما جرى ذكرها خصوصا لكونها معهودة في ذلك الزمان، فكل ما كان في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجرة، فحكمها حكم هذه الخمسة، كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها.
الحجة الثالثة: روى أبو داود أيضا عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام " قال الخطابي: قوله عليه السلام " كل مسكر خمر " دل على وجهين أحدهما: أن الخمر اسم لكل ما وجد منه السكر من الأشربة كلها، والمقصود منه أن الآية لما دلت على تحريم الخمر، وكان مسمي الخمر مجهولا للقوم حسن من الشارع أن يقال: مراد الله تعالى من هذه اللفظة هذا إما على سبيل أن هذا هو مسماه في اللغة العربية، أو على سبيل أن يضع اسما شرعيا على سبيل الاحداث كما في الصلاة والصوم وغيرهما.
والوجه الآخر: أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة، وذلك لأن قوله هذا خمر فحقيقة هذا اللفظ يفيد كونه في نفسه خمرا فإن قام دليل على أن ذلك ممتنع وجب حمله مجازا على المشابهة في الحكم، الذي هو خاصية ذلك الشيء.
الحجة الرابعة: روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع، فقال: " كل شراب أسكر فهو حرام " قال الخطابي: البتع شراب يتخذ من العسل، وفيه إبطال كل تأويل يذكره أصحاب تحليل الأنبذة، وإفساد لقول من قال: إن القليل من المسكر مباح، لأنه عليه السلام سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس، فيدخل فيه القليل والكثير منها، ولو كان هناك تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله.
الحجة الخامسة: روى أبو داود عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ".
الحجة السادسة: روى أيضا عن القاسم عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام " قال الخطابي: " الفرق " مكيال يسع ستة عشر رطلا، وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب.
44

الحجة السابعة: روى أبو داود عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر، قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء، وهذا لا شك أنه متناول لجميع أنواع الأشربة، فهذه الأحاديث كلها دالة على أن كل مسكر فهو خمر، وهو حرام.
النوع الثاني: من الدلائل على أن كل مسكر خمر التمسك بالاشتقاقات، قال أهل اللغة: أصل هذا الحرف التغطية، سمي الخمار خمارا لأنه يغطي رأس المرأة،
والخمر ما واراك من شجر وغيره، من وهدة وأكمة، وخمرت رأس الإناء أي غطيته، والخامر هو الذي يكتم شهادته، قال ابن الأنباري: سميت خمرا لأنها تخامر العقل، أي تخالطه، يقال: خامره الداء إذا خالطه، وأنشد لكثير: هنيئا مريئا غير داء مخامر
ويقال خامر السقام كبده، وهذا الذي ذكره راجع إلى الأول، لأن الشيء إذا خالط الشيء صار بمنزلة الساتر له، فهذه الاشتقاقات دالة على أن الخمر ما يكون ساترا للعقل، كما سميت مسكرا لأنها تسكر العقل أي تحجزه، وكأنها سميت بالمصدر من خمره خمرا إذا ستره للمبالغة، ويرجع حاصله إلى أن الخمر هو السكر، لأن السكر يغطي العقل، ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء، فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمى الخمر هو المسكر، فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه لا يقال هذا إثبات للغة بالقياس، وهو غير جائز، لأنا نقول: ليس هذا إثباتا للغة بالقياس، بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات، كما أن أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون إن مسمى النكاح هو الوطء ويثبتونه بالاشتقاقات، ومسمى الصوم هو الإمساك، ويثبتونه بالاشتقاقات.
النوع الثالث: من الدلائل الدالة على أن الخمر هو المسكر، أن الأمة مجمعة على أن الآيات الواردة في الخمر ثلاثة واثنان منها وردا بلفظ الخمر أحدهما: هذه الآية والثانية: آية المائدة والثالثة: وردت في السكر وهو قوله: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * (النساء: 43) وهذا يدل على أن المراد من الخمر هو المسكر.
النوع الرابع: من الحجة أن سبب تحريم الخمر هو أن عمر ومعاذا قالا: يا رسول الله إن الخمر مسلبة للعقل، مذهبة للمال، فبين لنا فيه، فهما إنما طلبا الفتوى من الله ورسوله بسبب كون الخمر مذهبة للعقل، فوجب أن يكون كل ما كان مساويا للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمرا
45

وإما أن يكون مساويا للخمر في هذا الحكم.
النوع الخامس: من الحجة أن الله علل تحريم الخمر بقوله تعالى: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) * (المائدة: 91) ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر، وهذا التعليل يقيني، فعلى هذا تكون هذه الآية نصا في أن حرمة الخمر معللة بكونها مسكرة، فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر، وإن لم يكن كذلك فلا بد من ثبوت هذا الحكم في كل مسكر، وكل من أنصف وترك العناد، علم أن هذه الوجوه ظاهرة جلية في إثبات هذا المطلوب حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه أحدها: قوله تعالى: * (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) * (النحل: 67) من الله تعالى علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن، وما نحن فيه سكر ورزق حسن، فوجب أن يكون مباحا لأن المنة لا تكون إلا بالمباح.
والحجة الثانية: ما روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام أتى السقاية عام حجة الوداع فاستند إليها، وقال: أسقوني، فقال العباس: ألا أسقيك مما ننبذه في بيوتنا؟ فقال: ما تسقي الناس، فجاءه بقدح من نبيذ فشمه، فقطب وجهه ورده، فقال العباس: يا رسول الله أفسدت على أهل مكة شرابهم، فقال: ردوا على القدح، فردوه عليه، فدعا بماء من زمزم وصب عليه وشرب، وقال: إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا منتها بالماء.
وجه الاستدلال به أن التقطيب لا يكون إلا من الشديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدة بالنص، ولأن اغتلام الشراب شدته، كاغتلام البعير سكره.
الحجة الثالثة: التمسك بآثار الصحابة.
والجواب عن الأول: أن قوله تعالى: * (تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) * نكرة في الإثبات، فلم قلتم: إن ذلك السكر والرزق الحسن هو هذا النبيذ؟ ثم أجمع المفسرون على أن تلك الآية كانت نازلة قبل هذه الآيات الثلاث الدالة على تحريم الخمر، فكانت هذه الثلاثة إما ناسخة، أو مخصصة لها.
وأما الحديث فلعل ذلك النبيذ كان ماء نبذت تمرات فيه لتذهب الملوحة فتغير طعم الماء قليلا إلى الحموضة، وطبعه عليه السلام كان في غاية اللطافة، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطعم، فلذلك قطب وجهه، وأيضا كان المراد بصب الماء فيه إزالة ذلك القذر من الحموضة أو الرائحة، وبالجملة فكل عاقل يعلم أن الإعراض عن تلك الدلائل التي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضعيف غير جائز.
46

وأما آثار الصحابة فهي متدافعة متعارضة، فوجب تركها والرجوع إلى ظاهر كتاب الله وسنة الرسول عليه السلام، فهذا هو الكلام في حقيقة الخمر.
المقام الثاني: في بيان أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر وبيانه من وجوه الأول: أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم، والإثم حرام لقوله تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي) * (الأعراف: 33) فكان مجموع هاتين الآيتين دليلا على تحريم الخمر الثاني: أن الإثم قد يراد به العقاب، وقد يراد به ما يستحق به العقاب من الذنوب، وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم الثالث: أنه تعالى قال: * (وإثمهما أكبر من نفعهما) * صرح برجحان الإثم والعقاب، وذلك يوجب التحريم.
فإن قيل: الآية لا تدل على أن شرب الخمر إثم، بل تدل على أن فيه إثما، فهب أن ذلك الإثم حرام فلم قلتم: إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حراما؟.
قلنا: لأن السؤال كان واقعا عن مطلق الخمر، فلما بين تعالى أن فيه إثما، كان المراد أن ذلك الإثم لازم له على جميع التقديرات، فكان شرب الخمر مستلزما لهذه الملازمة المحرمة، ومستلزم المحرم محرم، فوجب أن يكون الشرب محرما، ومنهم من قال: هذه الآية لا تدل على حرمة الخمر، واحتج عليه بوجوه أحدها: أنه تعالى أثبت فيها منافع للناس، والمحرم لا يكون فيه منفعة والثاني: لو دلت هذه الآية على حرمتها فلم لم يقنعوا بها حتى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصلاة؟ الثالث: أنه تعالى أخبر أن فيهما إثما كبيرا فمقتضاه أن ذلك الإثم الكبير يكون حاصلا ما داما موجودين، فلو كان ذلك الإثم الكبير سببا لحرمتها لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشرائع.
والجواب عن الأول: أن حصول النفع العاجل فيه في الدنيا لا يمنع كونه محرما، ومتى كان كذلك لم يكن حصول النفع فيهما مانعا من حرمتهما لأن صدق الخاص يوجب صدق العام.
والجواب عن الثاني: أنا روينا عن ابن عباس أنها نزلت في تحريم الخمر، والتوقف الذي ذكرته غير مروي عنهم، وقد يجوز أن يطلب الكبار من الصحابة نزول ما هو آكد من هذه الآية في التحريم، كما التمس إبراهيم صلوات الله عليه مشاهدة إحياء الموتى ليزداد سكونا وطمأنينة.
والجواب عن الثالث: أن قوله: * (فيهما إثم كبير) * إخبار عن الحال لا عن الماضي، وعندنا أن الله تعالى علم أن شرب الخمر مفسدة لهم في ذلك الزمان، وعلم أنه ما كان مفسدة للذين كانوا قبل هذه الأمة فهذا تمام الكلام في هذا الباب.
47

المسألة الثالثة: في حقيقة الميسر فنقول: الميسر القمار، مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما، يقال يسرته إذا قمرته، واختلفوا في اشتقاقه على وجوه أحدها: قال مقاتل: اشتقاقه من اليسر لأنه أخذ لمال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، كانوا يقولون: يسروا لنا ثمن الجزور، أو من اليسار لأنه سبب يساره، وعن ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله وثانيها: قال ابن قتيبة: الميسر من التجزئة والاقتسام، يقال: يسروا الشيء، أي اقتسموه، فالجزور نفسه يسمى ميسرا لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، والياسر الجازر، لأنه يجزئ لحم الجزور، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: إنهم ياسرون لأنهم بسبب ذلك الفعل يجزؤن لحم الجزور وثالثها: قال الواحدي: إنه من قولهم: يسر لي هذا الشيء ييسر يسرا وميسرا إذا وجب، والياسر الواجب بسبب القداح، هذا هو الكلام في اشتقاق هذه اللفظة.
وأما صفة الميسر فقال صاحب " الكشاف ": كانت لهم عشرة قداح، وهي الأزلام والأقلام الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، بفتح الحاء وكسر اللام، وقيل بكسر الحاء وسكون اللام، والمسبل، والمعلي، والنافس، والمنيح، والسفيح، والوغد، لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء، وقيل: ثمانية وعشرين جزءا إلا ثلاثة، وهي: المنيح والسفيح، والوعد، ولبعضهم في هذا المعنى شعر:
لي في الدنيا سهام * ليس فيهن ربيح
وأساميهن وغد * وسفيح ومنيح
فللفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلي سبعة، يجعلونها في الربابة، وهي الخريطة ويضعونها على يد عدل، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء، ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن الميسر هل هو اسم لذلك القمار المعين، أو هو اسم لجميع أنواع القمار، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم " وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء: كل شيء فيه خطر فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز، وأما الشطرنج فروي عن علي عليه السلام أنه قال: النرد والشطرنج من الميسر، وقال الشافعي
48

رضي الله عنه: إذا خلا الشطرنج عن الرهان، واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان، لم يكن حراما، وهو خارج عن الميسر، لأن الميسر ما يوجب دفع المال، أو أخذ مال، وهذا ليس كذلك، فلا يكون قمارا ولا ميسرا، والله أعلم، أما السبق في الخف والحافر فبالاتفاق ليس من الميسر، وشرحه مذكور في كتاب السبق والرمي من كتب الفقه.
المسألة الخامسة: الإثم الكبير، فيه أمور أحدها: أن عقل الإنسان أشرف صفاته، والخمر عدو العقل، وكل ما كان عدو الأشرف فهو أخس، فيلزم أن يكون شرب الخمر أخس الأمور، وتقريره أن العقل إنما سمي عقلا لأنه يجري مجرى عقال الناقة، فإن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعا له من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خاليا عن العقل المانع منها، والتقريب بعد ذلك معلوم، ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ، ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا، وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية: لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسى سفيههم وثانيها: ما ذكره الله تعالى من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وثالثها: أن هذه المعصية من خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر، ومواظبته عليها أتم كان الميل إليها أكثر وقوة النفس عليها أقوى. بخلاف سائر المعاصي، مثل الزاني إذا فعل مرة واحدة فترت رغبته في ذلك العمل، وكلما كان فعله لذلك العمل أكثر كان فتوره أكثر ونفرته أتم، بخلاف الشرب، فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر، كان نشاطه أكثر، ورغبته فيه أتم. فإذا واظب الإنسان عليه صار الإنسان غرقا في اللذات البدنية، معرضا عن تذكر الآخرة والمعاد، حتى يصير من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وبالجملة فالخمر يزيل العقل، وإذا زال العقل حصلت القبائح بأسرها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " الخمر أم الخبائث " وأما الميسر فالإثم فيه أنه يفضي إلى العداوة، وأيضا لما يجري بينهم من الشتم والمنازعة وأنه أكل مال بالباطل وذلك أيضا يورث العداوة، لأن صاحبه إذا أخذ ماله مجانا أبغضه جدا، وهو أيضا يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، وأما المنافع المذكورة في قوله تعالى: * (ومنافع للناس) * فمنافع الخمر أنهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النواحي، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن كانوا يعدون ذلك فضيلة ومكرمة، فكان تكثر أرباحهم بذلك السبب، ومنها أنه يقوي الضعيف ويهضم الطعام ويعين على الباه، ويسلي المحزون، ويشجع الجبان، ويسخي البخيل ويصفي اللون،
49

وينعش الحرارة الغريزية ويزيد في الهمة والاستعلاء ومن منافع الميسر: التوسعة على ذوي الحاجة لأن من قمر لم يأكل من الجزور، وإنما كان يفرقه في المحتاجين وذكر الواقدي أن الواحد منهم كان ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير، فيحصل له مال من غير كد وتعب، ثم يصرفه إلى المحتاجين، فيكتسب منه المدح والثناء.
المسألة السادسة: قرأ حمزة والكسائي * (كثير) * بالثاء المنقوطة من فوق والباقون بالباء المنقوطة من تحت حجة حمزة والكسائي، أن الله وصف أنواعا كثيرة من الإثم في الخمر والميسر وهو قوله: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) * (المائدة: 91) فذكر أعدادا من الذنوب فيهما ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عشرة بسبب الخمر، وذلك يدل على كثرة الإثم فيهما، ولأن الإثم في هذه الآية كالمضاد للمنافع لأنه قال: فيهما إثم ومنافع، وكما أن المنافع أعداد كثيرة فكذا الإثم فصار التقدير كأنه قال: فيهما مضار كثيرة ومنافع كثيرة حجة الباقين أن المبالغة في تعظيم الذنب إنما تكون بالكبر لا بكونه كثيرا يدل عليه قوله تعالى: * (كبائر الإثم) * (النجم: 32)، * (وكبائر ما تنهون عنه) * (النساء: 31)، * (إنه كان حوبا كبيرا) * (النساء: 2) وأيضا القراء اتفقوا على قوله: * (وإثمهما أكبر) * بالباء المنقوطة من تحت، وذلك يرجح ما قلناه.
الحكم الرابع في الإنفاق
قوله تعالى: * (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) *.
50

اعلم أن هذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد ههنا فأجيب عنه بذكر الكمية، قال القفال: قد يقول الرجل لآخر يسأله عن مذهب رجل وخلقه ما فلان هذا؟ فيقول: هو رجل من مذهبه كذا، ومن خلقه كذا إذا عرفت هذا فنقول: كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه، سألوا عن مقدار ما كلفوا به، هل هو كل المال أو بعضه، فأعلمهم الله أن العفو مقبول، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: أصل العفو في اللغة الزيادة، قال تعالى: * (خذ العفو) * (الأعراف: 199) أي الزيادة، وقال أيضا: * (حتى عفوا) * (الأعراف: 95) أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد قال القفال: العفو ما سهل وتيسر مما يكون فاضلا عن الكفاية يقال: خذ ما عفا لك، أي ما تيسر ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعا إلى التيسر والتسهيل، قال عليه الصلاة والسلام: " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا ربع عشر أموالكم " معناه التخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرقيق، ويقال: أعفى فلان فلانا بحقه إذا أوصله إليه من غير إلحاح في المطالبة، وهو راجع إلى التخفيف ويقال: أعطاه كذا عفوا صفوا، إذا لم يكدر عليه بالأذى، ويقال: خذ من الناس ما عفا لك أي ما تيسر، ومنه قوله تعالى: * (خذ العفو) * (الأعراف: 199) أي ما سهل لك من الناس، ويقال للأرض السهلة: العفو وإذا كان العفو هو التيسير فالغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤنتهم فقول من قال: العفو هو الزيادة راجع إلى التفسير الذي ذكرناه وجملة التأويل أن الله تعالى أدب الناس في الإنفاق فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: * (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) * (الإسراء: 26، 27) وقال: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى (الإسراء: 29) عنقك ولا تبسطها كل البسط) * وقال: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) * (الفرقان: 67) وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا كان عند أحدكم شيء فليبدأ بنفسه، ثم بمن يعول وهكذا وهكذا " وقال عليه الصلاة والسلام: " خير الصدقة ما أبقت غني ولا يلام على كفاف " وعن جابر بن عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال: يا رسول الله خذها صدقة فوالله لا أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من بين يديه، فقال: هاتها مغضبا فأخذها منه، ثم حذفه بها حيث لو أصابته لأوجعته، ثم قال: يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره، ثم يجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة، وقال الحكماء: الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط، فالإنفاق الكثير هو التبذير، والتقليل جدا هو التقتير، والعدل هو الفضيلة
51

وهو المراد من قوله: * (قل العفو) * ومدار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على رعاية هذه الدقيقة فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة، وشرع النصارى على المسامحة التامة، وشرع محمد صلى الله عليه وسلم متوسط في كل هذه الأمور، فلذلك كان أكمل من الكل.
المسألة الثانية: قرأ أبو عمرو (العفو) بضم الواو والباقون بالنصب، فمن رفع جعل * (ذا) * بمعنى * (الذي) * وينفقون صلته كأنه قال: ما الذي ينفقون؟ فقال: هو العفو ومن نصب كان التقدير: ما ينفقون وجوابه: ينفقون العفو.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن المراد بهذا الإنفاق هو الإنفاق الواجب أو التطوع، أما القائلون بأنه هو الإنفاق الواجب، فلهم قولان الأول: قول أبي مسلم يجوز أن يكون العفو هو الزكاة فجاء ذكرها ههنا على سبيل الإجمال، وأما تفاصيلها فمذكورة في السنة الثاني: أن هذا كان قبل نزول آية الصدقات فالناس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم، ثم ينفقوا الباقي، ثم صار هذا منسوخا بآية الزكاة فعلى هذا التقدير تكون الآية منسوخة.
القول الثاني: أن المراد من هذا الإنفاق هو الإنفاق على سبيل التطوع وهو الصدقة واحتج هذا القائل بأنه لو كان مفروضا لبين الله تعالى مقداره فلما لم يبين بل فوضه إلى رأي المخاطب علمنا أنه ليس بفرض.
وأجيب عنه: بأنه لا يبعد أن يوجب الله شيئا على سبيل الإجمال، ثم يذكر تفصيله وبيانه بطريق آخر.
أما قوله: * (كذلك يبين الله لكم الآيات) * فمعناه أني بينت لكم الأمر فيما سألتم عنه من وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا أبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون.
وقوله: * (لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) * فيه وجوه الأول: قال الحسن: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم
تتفكرون والثاني: * (كذلك يبين الله لكم الآيات) * فيعرفكم أن الخمر والميسر فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة علمتم أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا الثالث: يعرفكم أن إنفاق المال في وجوه الخير لأجل الآخرة وإمساكه لأجل الدنيا فتتفكرون في أمر الدنيا والآخرة وتعلمون أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا.
واعلم أنه لما أمكن إجراء الكلام على ظاهره كما قررناه في هذين الوجهين ففرض التقديم والتأخير على ما قاله الحسن يكون عدولا عن الظاهر لا لدليل وأنه لا يجوز.
52

الحكم الخامس
في اليتامى
* (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شآء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أن أهل الجاهلية كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعا في مالها أو يزوجها من ابن له لئلا يخرج مالها من يده، ثم إن الله تعالى أنزل قوله: * (إن الذين يأكلوا أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (النساء: 10) وأنزل في الآيات: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3) وقوله: * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللآتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن، والمستضعفين من الولدان، وأن تقوموا لليتامى بالقسط، وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما) * (النساء: 127) وقوله: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * (الأنعام: 152) فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى، والمقاربة من أموالهم، والقيام بأمورهم، فعند ذلك اختلت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم، فثقل ذلك على الناس، وبقوا متحيرين إن خالطوهم وتولوا أمر أموالهم، استعدوا للوعيد الشديد، وإن تركوا وأعرضوا عنهم، اختلت معيشة اليتامى، فتحير القوم عند ذلك.
ثم ههنا يحتمل أنهم سألوا الرسول عن هذه الواقعة، يحتمل أن السؤال كان في قلبهم، وأنهم تمنوا أن يبين الله لهم كيفية الحال في هذا الباب، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ويروى أنه لما نزلت تلك الآيات اعتزلوا أموال اليتامى، واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء، حتى كان يوضع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلا وطعاما وشرابا فعظم ذلك على ضعفة المسلمين، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله مالكنا منازل تسكنها الأيتام ولا كلنا يجد طعاما وشرابا يفردهما لليتيم، فنزلت هذه الآية.
53

المسألة الثانية: قوله: * (قل إصلاح لهم خير) * فيه وجوه أحدها: قال القاضي: هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما، لكي ينشأ على علم وأدب وفضل لأن هذا الصنع أعظم تأثيرا فيه من إصلاح حاله بالتجارة، ويدخل فيه أيضا إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة، ويدخل فيه أيضا معنى قوله تعالى: * (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * (النساء: 2) ومعنى قوله: * (خير) * يتناول حال المتكفل، أي هذا العمل خير له من أن يكون مقصرا في حق اليتيم، ويتناول حال اليتيم أيضا، أي هذا العمل خير لليتيم من حيث أنه يتضمن صلاح نفسه، وصلاح ماله، فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي.
فإن قيل: ظاهر قوله: * (قل إصلاح لهم خير) * لا يتناول إلا تدبير أنفسهم دون مالهم.
قلنا: ليس كذلك لأن ما يؤدي إلى إصلاح ماله بالتنمية والزيادة يكون إصلاحا له، فلا يمتنع دخوله تحت الظاهر، وهذا القول أحسن الأقوال المذكورة في هذا الموضع وثانيها: قول من قال: الخبر عائد إلى الولي، يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجرا له، والثالث: أن يكون الخبر عائدا إلى اليتيم، والمعنى أن مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن مخالطتهم، والقول الأول أولى، لأن اللفظ مطلق فتخصيصه ببعض الجهات دون البعض، ترجيح من غير مرجح وهو غير جائز، فوجب حمله على الخيرات العائدة إلى الولي، وإلى اليتيم في إصلاح النفس، وإصلاح المال، وبالجملة فالمراد من الآية أن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة، فينبغي أن يكون عين المتكفل لمصالح اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة لنفسه، واليتيم في ماله وفي نفسه، فهذه كلمة جامعة لهذه الجهات بالكلية.
أما قوله تعالى: * (وإن تخالطوهم فإخوانكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المخالطة جمع يتعذر فيه التمييز، ومنه يقال للجماع: الخلاط ويقال: خولط الرجل إذا جن، والخلاط الجنون لاختلاط الأمور على صاحبه بزوال عقله.
المسألة الثانية: في تفسير الآية وجوه أحدها: المراد: وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم فإخوانكم، والمعنى: أن القوم ميزوا طعامه عن طعام أنفسهم، وشرابه عن شراب أنفسهم ومسكنه عن مسكن أنفسهم، فالله تعالى أباح لهم خلط الطعامين والشرابين، والاجتماع في المسكن الواحد، كما يفعله المرء بمال ولده، فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة، والمعنى وإن تخالطوهم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز وثانيها: أن يكون المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجره مثل ذلك العمل والقائلون بهذا القول منهم من جوز
54

ذلك سواء كان القيم غنيا أو فقيرا، ومنهم من قال: إذا كان القيم غنيا لم يأكل من ماله لأن ذلك فرض عليه وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز، واحتجوا عليه
بقوله تعالى: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * وأما إن كان القيم فقيرا فقالوا إنه يأكل بقدر الحاجة ويرده إذا أيسر، فإن لم يوسر تحلله من اليتيم، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ولي اليتيم: إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت قرضا بالمعروف ثم قضيت، وعن مجاهد أنه إذا كان فقيرا وأكل بالمعروف فلا قضاء عليه.
القول الثالث: أن يكون معنى الآية إن يخلطوا أموال اليتامى بأموال أنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي.
والقول الرابع: وهو اختيار أبي مسلم: أن المراد بالخلط المصاهرة في النكاح، على نحو قوله: * (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا) * (النساء: 3) وقوله عز من قائل: * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء) * (النساء: 127) قال وهذا القول راجح على غيره من وجوه أحدها: أن هذا القول خلط لليتيم نفسه والشركة خلط لماله وثانيها: أن الشركة داخلة في قوله: * (قل إصلاح لهم خير) * والخلط من جهة النكاح، وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك، فحمل الكلام في هذا الخلط أقرب وثالثها: أن قوله تعالى: * (فإخوانكم) * يدل على أن المراد بالخلط هو هذا النوع من الخلط، لأن اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى صلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلما، فوجب أن تكون الإشارة بقوله: * (فإخوانكم) * إلى نوع آخر من المخالطة ورابعها: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 221) فكان المعنى أن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم لتأكيد الألفة، فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك.
المسألة الثالثة: قوله: * (فإخوانكم) * أي فهم إخوانكم، قال الفراء: ولو نصبته كان صوابا، والمعنى فإخوانكم تخالطون.
أما قوله: * (والله يعلم المفسد من المصلح) * فقيل: المفسد لأموالهم من المصلح لها، وقيل: يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح، يعني: إنكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح فإذا لم تريدوا ذلك في قلوبكم بل كان مرادكم منه غرضا آخر فالله مطلع على ضمائركم عالم بما في قلوبكم، وهذا تهديد عظيم، والسبب أن اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه، وليس له
55

أحد يراعيها فكأنه تعالى قال: لما لم يكن له أحد يتكفل بمصالحه فأنا ذلك المتكفل وأنا المطالب لوليه، وقيل: والله يعلم المصلح الذي يلي من أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله ويعلم المفسد الذي لا يلي من إصلاح أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله، فاتقوا أن تتناولوا من مال اليتيم شيئا من غير إصلاح منكم لمالهم.
أما قوله تعالى: * (ولو شاء الله لأعنتكم) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: " الإعنات " الحمل على مشقة لا تطاق يقال: أعنت فلان فلانا إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه وتعنته تعنتا إذا لبس عليه في سؤاله، وعنت العظم المجبور إذا انكسر بعد الجبر وأصل * (العنت) * من المشقة، وأكمة عنوت إذا كانت شاقة كدودا، ومنه قوله تعالى: * (عزيز عليه ما عنتم) * (التوبة: 128) أي شديد عليه ما شق عليكم، ويقال أعنتني في السؤال أي شدد علي وطلب عنتي وهو الإضرار وأما المفسرون فقال ابن عباس: لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا وقال عطاء: ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقة كما أدخلتم على أنفسكم ولضيق الأمر عليكم في مخالطتهم، وقال الزجاج: ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم.
المسألة الثانية: احتج الجبائي بهذه الآية، فقال: إنها تدل على أنه تعالى لم يكلف العبد بما لا يقدر عليه، لأن قوله: * (ولو شاء الله لأعنتكم) * يدل على أنه تعالى لم يفعل الإعنات والضيق في التكليف، ولو كان مكلفا بما لا يقدر العبد عليه لكان قد تجاوز حد الإعنات وحد الضيق.
واعلم أن وجه هذا الاستدلال أن كلمة * (لو) * تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ثم سألوا أنفسهم بأن هذه الآية وردت في حق اليتيم، وأجابوا عنه بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأيضا فولى هذا اليتيم قد لا يفعل تعالى فيه قدرة الإصلاح، لأن هذا هو قولهم فيمن يختار خلاف الإصلاح وإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يقول تعالى فيه خاصة * (ولو شاء الله لأعنتكم) * مع أنه كلفه بما لا يقدر عليه، ولا سبيل له إلى فعله، وأيضا فالإعنات لا يصح إلا فيمن يتمكن من الشيء فيشق عليه ويضيق، فأما من لا يتمكن البتة فذلك لا يصح فيه، وعند الخصم الولي إذا اختار الصلاح فإنه لا يمكنه فعل الفساد، وإذا لم يقدر على الفساد لا يصح أن يقال فيه * (ولو شاء الله لأعنتكم) *.
والجواب عنه: المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم.
المسألة الثالثة: احتج الكعبي بهذه الآية على أنه تعالى قادر على خلاف العدل، لأنه لو امتنع
56

وصفه بالقدرة على الإعنات ما جاز أن يقول: * (ولو شاء الله لأعنتكم) * وللنظام أن يجيب بأن هذا معلق على مشيئة الإعنات، فلم قلتم بأن هذه المشيئة ممكنة الثبوت في حقه تعالى، والله أعلم.
الحكم السادس
فيما يتعلق بالنكاح
* (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) *.
اعلم أن هذه الآية نظير قوله: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * وقرئ بضم التاء، أي لا تزوجوهن وعلى هذه القراءة لا يزوجونهن.
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أن هذه الآية ابتداء حكم وشرع، أو هو متعلق بما تقدم، فالأكثرون على أنه ابتداء شرع في بيان ما يحل ويحرم، وقال أبو مسلم: بل هو
متعلق بقصة اليتامى، فإنه تعالى لما قال: * (وإن تخالطوهم فإخوانكم) * (البقرة: 220) وأراد مخالطة النكاح عطف عليه ما يبعث على الرغبة في اليتامى، وأن ذلك أولى مما كانوا يتعاطون من الرغبة في المشركات، وبين أن أمة مؤمنة خير من مشركة وإن بلغت النهاية فيما يقتضي الرغبة فيها، ليدل بذلك على ما يبعث على التزوج باليتامى، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعية لما أمر به من النظر في صلاحهم وصلاح أموالهم، وعلى الوجهين فحكم الآية لا يختلف، ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: روي عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا من المسلمين بها سرا، فعند قدومه جاءته امرأته يقال لها عناق
57

خليلة له في الجاهلية، أعرضت عنه عند الإسلام، فالتمست الخلوة، فعرفها أن الإسلام يمنع من ذلك، ثم وعدها أن يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يتزوج بها، فلما انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفه ما جرى في أمر عناق، وسأله هل يحل له التزوج بها فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المسألة الثانية: اختلف الناس في لفظ النكاح، فقال أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله: إنه حقيقة في العقد، واحتجوا عليه بوجوه أحدها: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا نكاح إلا بولي وشهود " وقف النكاح على الولي والشهود، والمتوقف على الولي والشهود هو العقد لا الوطء، والثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: " ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح " دل الحديث على أن النكاح كالمقابل للسفاح، ومعلوم أن السفاح مشتمل على الوطء، فلو كان النكاح اسما للوطء لامتنع كون النكاح مقابلا للسفاح وثالثها: قوله تعالى: * (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) * (النور: 32) ولا شك أن لفظ * (أنكحوا) * لا يمكن حمله إلا على العقد ورابعها: قول الأعشى، أنشده الواحدي في " البسيط ":
فلا تقربن من جارة إن سرها * عليك حرام فانكحن أو تأيما
وقوله: * (فانكحن) * لا يحتمل إلا الأمر بالعقد، لأنه قال: " لا تقربن جارة " يعني مقاربتها على الطريق الذي يحرم فاعقد وتزوج وإلا فتأيم وتجنب النساء، وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة: أنه حقيقة في الوطء، واحتجوا عليه بوجوه أحدها: قوله تعالى: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * نفي الحل ممتد إلى غاية النكاح، والنكاح الذي تنتهي به هذه الحرمة ليس هو العقد بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " فوجب أن يكون المراد منه هو الوطء وثانيها: قوله عليه الصلاة والسلام: " ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون " أثبت النكاح مع عدم العقد وثالثها: أن النكاح في اللغة عبارة عن الضم والوطء، يقال: نكح المطر الأرض إذا وصل إليها، ونكح النعاس عينه، وفي المثل أنكحنا الفرا فسترى، وقال الشاعر:
التاركين على طهر نساءهم * والناكحين بشطي دجلة البقرا
وقال المتنبي:
أنكحت صم حصاها خف يعملة * تعثرت بي إليك السهل والجبلا
ومعلوم أن معنى الضم والوطء في المباشرة أتم منه في العقد، فوجب حمله عليه، ومن الناس من قال: النكاح عبارة عن الضم، ومعنى الضم حاصل في العقد وفي الوطء، فيحسن استعمال هذا اللفظ فيهما جميعا، قال ابن جني: سألت أبا علي عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرقت العرب في
58

الاستعمال فرقا لطيفا حتى لا يحصل الالتباس، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة: أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته، لم يريدوا غير المجامعة، لأنه إذا ذكر أنه نكح امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد، فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة، فهذا تمام ما في هذا اللفظ من البحث، وأجمع المفسرون على أن المراد من قوله: * (ولا تنكحوا) * في هذه الآية أي لا تعقدوا عليهن عقد النكاح.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن لفظ * (المشرك) * هل يتناول الكفار من أهل الكتاب، فأنكر بعضهم ذلك، والأكثرون من العلماء على أن لفظ * (المشرك) * يندرج فيه الكفار من أهل الكتاب وهو المختار، ويدل عليه وجوه أحدها: قوله تعالى: * (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) * (التوبة: 30) ثم قال في آخر الآية: * (سبحانه عما يشركون) * (التوبة: 31) وهذه الآية صريحة في أن اليهودي والنصراني مشرك وثانيها: قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) دلت هذه الآية على أن ما سوى الشرك قد يغفره الله تعالى في الجملة فلو كان كفر اليهودي والنصراني ليس بشرك لوجب بمقتضى هذه الآية أن يغفر الله تعالى في الجملة، ولما كان كان ذلك باطلا علمنا أن كفرهما شرك وثالثها: قوله تعالى: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) * (المائدة: 73) فهذا التثليث إما أن يكون لاعتقادهم وجود صفات ثلاثة، أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة، والأول باطل، لأن المفهوم من كونه تعالى عالما غير المفهوم من كونه قادرا ومن كونه حيا، وإذا كانت هذه المفهومات الثلاثة لا بد من الاعتراف بها، كان القول بإثبات صفات ثلاثة من ضرورات دين الإسلام، فكيف يمكن تكفير النصارى بسبب ذلك، ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى إنما كفرهم لأنهم أثبتوا ذواتا ثلاثة قديمة مستقلة، ولذلك فإنهم جوزوا في أقنوم الكلمة أن يحل في عيسى، وجوزوا في أقنوم الحياة أن يحل في مريم ولولا أن هذه الأشياء المسماة عندهم بالأقانيم ذوات قائمة بأنفسها، لما جوزوا عليها الانتقال من ذات إلى ذات، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنفس قديمة أزلية وهذا شرك، وقول بإثبات الآلهة، فكانوا مشركين، وإذا ثبت دخولهم تحت اسم المشرك؛ وجب أن يكون اليهودي كذلك ضرورة أنه لا قائل بالفرق ورابعها: ما روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر أميرا وقال: إذا لقيت عددا من المشركين فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، سمي من يقبل منه الجزية وعقد الذمة بالمشرك، فدل على أن الذمي يسمى بالمشرك
وخامسها: ما احتج به أبو بكر الأصم فقال: كل من جحد رسالته فهو مشرك، من حيث إن تلك
59

المعجزات التي ظهرت على يده كانت خارجة عن قدرة البشر، وكانوا منكرين صدورها عن الله تعالى، بل كانوا يضيفونها إلى الجن والشياطين، لأنهم كانوا يقولون فيها: إنها سحر وحصلت من الجن والشياطين، فالقوم قد أثبتوا شريكا لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر، فوجب القطع بكونهم مشركين لأنه لا معنى للإله إلا من كان قادرا على خلق هذه الأشياء، واعترض القاضي فقال: إنما يلزم هذا إذا سلم اليهودي أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم من الأمور الخارجة عن قدرة البشر، فعند ذلك إذا أضافه إلى غير الله تعالى كان مشركا، أما إذا أنكر ذلك وزعم أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم من جنس ما يقدر العباد عليه لم يلزم أن يكون مشركا بسبب ذلك إلى غير الله تعالى.
والجواب: أنه لا اعتبار بإقراره أن تلك المعجزات خارجة عن مقدور البشر أم لا، إنما الاعتبار يدل على أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر، فمن نسب ذلك إلى غير الله تعالى كان مشركا، كما أن إنسانا لو قال: إن خلق الجسم والحياة من جنس مقدور البشر ثم أسند حلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب كان مشركا فكذا ههنا، فهذا مجموع ما يدل على أن اليهودي والنصراني يدخلان تحت اسم المشرك، واحتج من أباه بأن الله تعالى فصل بين أهل الكتاب وبين المشركين في الذكر، وذلك يدل على أن أهل الكتاب لا يدخلون تحت اسم المشرك، وإنما قلنا أنه تعالى فصل لقوله تعالى: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا) * (الحج: 17) وقال أيضا: * (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين) * (البقرة: 105) وقال: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * (البينة: 1) ففي هذه الآيات فصل بين القسمين وعطف أحدهما على الآخر، وذلك يوجب التغاير.
والجواب: أن هذا مشكل بقوله تعالى: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) * (الأحزاب: 7) وبقوله تعالى: * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * فإن قالوا إنما خص بالذكر تنبيها على كمال الدرجة في ذلك الوصف المذكور، قلنا: فههنا أيضا إنما خص عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيها على كمال درجتهم في هذا الكفر، فهذا جملة ما في هذه المسألة ثم اعلم أن القائلين بأن اليهود والنصارى يندرجون تحت اسم المشرك اختلفوا على قولين فقال قوم: وقوع هذا الاسم عليهم من حيث اللغة لما بينا أن اليهود والنصارى قائلون بالشرك، وقال الجبائي والقاضي هذا الاسم من جملة الأسماء الشرعية، واحتجا على ذلك بأنه قد تواتر النقل عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يسمى كل من كان كافرا بالمشرك، ومن كان في الكفار من لا يثبت إلها أصلا أو كان شاكا في وجوده، أو كان شاكا في وجود الشريك، وقد كان فيهم من كان عند البعثة منكرا
60

للبعث والقيامة، فلا جرم كان منكرا للبعثة والتكليف، وما كان يعبد شيئا من الأوثان، والذين كانوا يعبدون الأوثان فيهم من كانوا يقولون: إنها شركاء الله في الخلق وتدبير العالم، بل كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله فثبت أن الأكثرين منهم كانوا مقرين بأن إله العالم واحد وأنه ليس له في الإلهية معين في خلق العالم وتدبيره وشريك ونظير إذا ثبت هذا ظهر أن وقوع اسم المشرك على الكافر ليس من الأسماء اللغوية، بل من الأسماء الشرعية، كالصلاة والزكاة وغيرهما، وإذا كان كذلك وجب اندراج كل كافر تحت هذا الاسم، فهذا جملة الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق.
المسألة الرابعة: الذين قالوا: إن اسم المشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان قالوا: إن قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات) * نهى عن نكاح الوثنية، أما الذين قالوا: إن اسم المشرك يتناول جميع الكفار قالوا: ظاهر قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات) * يدل على أنه لا يجوز نكاح الكافرة أصلا، سواء كانت من أهل الكتاب أو لا، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون من الأئمة قالوا إنه يجوز للرجل أن يتزوج بالكتابية، وعن ابن عمر ومحمد بن الحنفية والهادي وهو أحد الأئمة الزيدية أن ذلك حرام، حجة الجمهور قوله تعالى في سورة المائدة: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * (المائدة: 5) وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد منه: من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب؟.
قلنا: هذا لا يصح من قبل أنه تعالى أو لا أحل المحصنات من المؤمنات، وهذا يدخل فيه من آمن منهن بعد الكفر، ومن كن على الإيمان من أول الأمر، ولأن قوله: * (من الذين أوتوا الكتاب) * (البقرة: 101) يفيد حصول هذا الوصف في حالة الإباحة، ومما يدل على جواز ذلك ما روي أن الصحابة كانوا يتزوجون بالكتابيات، وما ظهر من أحد منهم إنكار على ذلك، فكان هذا إجماعا على الجواز.
نقل أن حذيفة تزوج بيهودية أو نصرانية، فكتب إليه عمر أن خل سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام؟ فقال: لا ولكنني أخاف.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا " ويدل عليه أيضا الخبر المشهور، وهو ما روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال في المجوس: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم " ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزا لكان هذا الاستثناء عبثا، واحتج القائلون بأنه لا يجوز بأمور أولها: أن لفظ المشرك يتناول الكتابية على ما بيناه فقوله: * (ولا تنكحوا
61

المشركات حتى يؤمن) * صريح في تحريم نكاح الكتابية، والتخصيص والنسخ خلاف الظاهر، فوجب المصير إليه، ثم قالوا: وفي الآية ما يدل على تأكيد ما ذكرناه وذلك لأنه تعالى قال في آخر الآية: * (أولئك يدعون إلى النار) * والوصف إذا ذكر عقيب الحكم، وكان الوصف مناسبا للحكم فالظاهر أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم فكأنه تعالى قال: حرمت عليكم نكاح المشركات لأنهن يدعون إلى النار وهذه العلة قائمة في الكتابية، فوجب القطع بكونها محرمة.
والحجة الثانية: لهم: أن ابن عمر سئل عن هذه المسألة فتلا آية التحريم وآية التحليل، ووجه الاستدلال أن الأصل في الإبضاع الحرمة، فلما تعارض دليل الحرمة تساقطا، فوجب بقاء حكم الأصل، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين، فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فحكمتم عند ذلك بالتحريم
للسبب الذي ذكرناه فكذا ههنا.
الحجة الثالثة: لهم: حكى محمد بن جرير الطبري في " تفسيره " عن ابن عباس تحريم أصناف النساء إلا المؤمنات، واحتج بقوله تعالى: * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) * (المائدة: 5) وإذا كان كذلك كانت كالمرتدة في أنه لا يجوز إيراد العقد عليها.
الحجة الرابعة: التمسك بأثر عمر: حكى أن طلحة نكح يهودية، وحذيفة نصرانية، فغضب عمر رضي الله عنه عليهما غضبا شديدا، فقالا: نحن نطلق يا أمير المؤمنين فلا تغضب، فقال: إن حل طلاقهن فقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم.
أجاب الأولون عن الحجة الأولى بأن من قال: اليهودي والنصراني لا يدخل تحت اسم المشرك فالإشكال عنه ساقط، ومن سلم ذلك قال: إن قوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * (المائدة: 5) أخص من هذه الآية، فإن صحت الرواية أن هذه الحرمة ثبتت ثم زالت جعلنا قوله: * (والمحصنات) * ناسخا، وإن لم تثبت جعلناه مخصصا، أقصى ما في الباب أن النسخ والتخصيص خلاف الأصل، إلا أنه لما كان لا سبيل إلا التوفيق بين الآيتين إلا بهذا الطريق وجب المصير إليه، أما قوله ثانيا أن تحريم نكاح الوثنية إنما كان لأنها تدعو إلى النار، وهذا المعنى قائم في الكتابية، قلنا: الفرق بينهما أن المشركة متظاهرة بالمخالفة والمناصبة، فلعل الزوج يحبها، ثم أنها تحمله على المقاتلة مع المسلمين، وهذا المعنى غير موجود في الذمية، لأنها مقهورة راضية بالذلة والمسكنة، فلا يفضي حصول ذلك النكاح إلى المقاتلة، أما قوله ثالثا إن آية التحريم والتحليل قد تعارضتا، فنقول: لكن آية التحليل خاصة ومتأخرة بالإجماع، فوجب أن تكون متقدمة على آية التحريم
62

وهذا بخلاف الآيتين في الجمع بين الأختين في ملك اليمين، لأن كل واحدة من تينك الآيتين أخص من الأخرى من وجه وأعم من وجه آخر، فلم يحصل سبب الترجيح فيه.
أما قوله ههنا: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * (المائدة: 5) أخص من قوله: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * مطلقا، فوجب حصول الترجيح.
وأما التمسك بقوله تعالى: * (فقد حبط عمله) * (المائدة: 5).
فجوابه: أنا لما فرقنا بين الكتابية وبين المرتدة في أحكام كثيرة، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضا في هذا الحكم؟.
وأما التمسك بأثر عمر فقد نقلنا عنه أنه قال: ليس بحرام، وإذا حصل التعارض سقط الاستدلال والله أعلم.
المسألة الخامسة: اتفق الكل على أن المراد من قوله: * (حتى يؤمن) * الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام، وعند هذا احتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار وقالوا إن الله تعالى جعل الإيمان ههنا غاية التحريم والذي هو غاية التحريم ههنا الإقرار، فثبت أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار، واحتج أصحابنا على فساد هذا المذهب بوجوه: أحدها: أنا بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير قوله: * (الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3) أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وثانيها: قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنون) * (البقرة: 11) ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإفراد لكان قوله تعالى: * (ما هم بمؤمنين) * كذبا وثالثها: قوله: * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا) * (الحجرات: 14) ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار لكان قوله: * (قل لم تؤمنوا) * كذبا، ثم أجابوا عن تمسكهم بهذه الآية بأن التصديق الذي في القلب لا يمكن الاطلاع عليه فأقيم الإقرار باللسان مقام التصديق بالقلب.
المسألة السادسة: نقل عن الحسن أنه قال: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من تزويج المشركات قال القاضي: كونهم قبل نزول هذه الآية مقدمين على نكاح المشركات إن كان على سبيل العادة لا من قبل الشرع امتنع وصف هذه الآية بأنها ناسخة، لأنه ثبت في أصول الفقه أن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكون حكمين شرعيين، أما إن كان جواز نكاح المشركة قبل نزول هذه الآية ثابتا من قبل الشرع كانت هذه الآية ناسخة.
أما قوله تعالى: * (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو مسلم: اللام في قوله: * (ولأمة) * في إفادة التوكيد تشبه لام القسم.
63

المسألة الثانية: الخير هو النفع الحسن: والمعنى: أن الشركة لو كانت ثابتة في المال والجمال والنسب، فالأمة المؤمنة خير منها لأن الإيمان متعلق بالدين والمال والجمال والنسب متعلق بالدنيا والدين خير من الدنيا ولأن الدين أشرف الأشياء عند كل أحد فعند التوافق في الدين تكمل المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد وعند الاختلاف في الدين لا تحصل المحبة، فلا يحصل شيء من منافع الدنيا من تلك المرأة، وقال بعضهم المراد ولأمة مؤمنة خير من حركة مشركة، واعلم أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لوجهين أحدهما: أن اللفظ مطلق والثاني: أن قوله: * (ولو أعجبتكم) * يدل على صفة الحرية، لأن التقدير: ولو أعجبتكم بحسنها أو مالها أو حريتها أو نسبها، فكل ذلك داخل تحت قوله: * (ولو أعجبتكم) *.
المسألة الثالثة: قال الجبائي: إن الآية دالة على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة، وذلك لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يجوز له التزوج بالأمة لكن الواجد لطول الحرة المشركة يكون لا محالة واجدا لطول الحرة المسلمة لأن سبب التفاوت في الكفر والإيمان لا يتفاوت بقدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح، فيلزم قطعا أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة، وهذا استدلال لطيف في هذه المسألة. المسألة الرابعة: في الآية إشكال وهو أن قوله: * (ولا تنكحوا المشركات) * يقتضي حرمة نكاح المشركة، ثم قوله: * (ولأمة مؤمنة خير من مشركة) * يقتضي جواز التزوج
بالمشركة لأن لفظة أفعل تقتضي المشاركة في النفع ولأحدهما مزية.
قلنا: نكاح المشركة مشتمل على منافع الدنيا، ونكاح المؤمنة مشتمل على منافع الآخرة، والنفعان يشتركان في أصل كونهما نفعا، إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى، فاندفع السؤال والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) * فلا خلاف ههنا أن المراد به الكل وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفرة.
وقوله: * (ولعبد مؤمن خير من مشرك) * فالكلام فيه على نحو ما تقدم.
أما قوله: * (أولئك يدعون إلى النار) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذه الآية نظير قوله: * (ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار) * (غافر: 41).
فإن قيل: فكيف يدعون إلى النار وربما لم يؤمنوا بالنار أصلا، فكيف يدعون إليها.
64

وجوابه: أنهم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوها أحدها: أنهم يدعون إلى ما يؤدي إلى النار، فإن الظاهر أن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة، وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض، وربما يؤدي ذلك إلى انتقال المسلم عن الإسلام بسبب موافقة حبيبه.
فإن قيل: احتمال المحبة حاصل من الجانبين، فكما يحتمل أن يصير المسلم كافرا بسبب الألفة والمحبة، يحتمل أيضا أن يصير الكافر مسلما بسبب الألفة والمحبة، وإذا تعارض الإحتمالان وجب أن يتساقطا، فيبقى أصل الجواز.
قلنا: إن الرجحان لهذا الجانب لأن بتقدير أن ينتقل الكافر عن كفره يستوجب المسلم به مزيد ثواب ودرجة، وبتقدير أن ينتقل المسلم عن إسلامه يستوجب العقوبة العظيمة، والإقدام على هذا العمل دائر بين أن يلحقه مزيد نفع، وبين أن يلحقه ضرر عظيم، وفي مثل هذه الصورة يجب الإحتراز عن الضرر، فلهذا السبب رجح الله تعالى جانب المنع على جانب الإطلاق.
التأويل الثاني: أن في الناس من حمل قوله: * (أولئك يدعون إلى النار) * أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال، وفي تركهما وجوب استحقاق النار والعذاب وغرض هذا القائل من هذا التأويل أن يجعل هذا فرقا بين الذمية وبين غيرها، فإن الذمية لا تحمل زوجها على المقاتلة فظهر الفرق.
التأويل الثالث: أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار، فهذا هو الدعوة إلى النار * (والله يدعو إلى الجنة) * حيث أمرنا بتزويج المسلمة حتى يكون الولد مسلما من أهل الجنة.
أما قوله تعالى: * (والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه) * ففيه قولان:
القول الأول: أن المعنى وأولياء الله يدعون إلى الجنة، فكأنه قيل: أعداء الله يدعون إلى النار وأولياء الله يدعون إلى الجنة والمغفرة فلا جرم يجب على العاقل أن لا يدور حول المشركات اللواتي هن أعداء الله تعالى، وأن ينكح المؤمنات فإنهن يدعون إلى الجنة والمغفرة والثاني: أنه سبحانه لما بين هذه الأحكام وأباح بعضها وحرم بعضها، قال: * (والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة) * لأن من تمسك بها استحق الجنة والمغفرة.
أما قوله: * (بإذنه) * فالمعنى بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة، ونظيره قوله: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) * (يونس: 100) وقوله: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) * (آل عمران: 145) وقوله: * (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) * (البقرة: 102) وقرأ الحسن * (والمغفرة بإذنه) * بالرفع أي والمغفرة حاصلة بتيسيره.
65

أما قوله تعالى: * (ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) * فمعناه ظاهر.
الحكم السابع في المحيض
* (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النسآء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى جمع في هذا الموضع ستة من الأسئلة، فذكر الثلاثة الأول بغير الواو، وذكر الثلاثة الأخيرة بالواو، والسبب أن سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت فيها بحرف العطف لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ، وسألوا عن المسائل الثلاثة الأخيرة في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع لذلك، كأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن كذا، والسؤال عن كذا.
المسألة الثانية: روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها، والنصارى كانوا يجامعونهن، ولا يبالون بالحيض، وأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس فلما نزلت هذه الآية أخذ المسلمون بظاهر الآية فأخرجوهن من بيوتهن فقال ناس من الأعراب: يا رسول الله البرد شديد، والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرناها هلكت الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم آمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم، فلما سمع اليهود ذلك قالوا: هذا الرجل يريد أن لا يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه، ثم جاء عباد بن بشير، وأسيد بن حضير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه بذلك وقالا: يا رسول الله أفلا ننكحهن في
المحيض؟ فتغير وجه
66

رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه غضب عليها فقاما، فجاءته هدية من لبن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما.
المسألة الثالثة: أصل الحيض في اللغة السيل يقال: حاض السيل وفاض، قال الأزهري: ومنه قيل للحوض حوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل إليه، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو لأنهما من جنس واحد.
إذا عرفت هذا فنقول: إن هذا البناء قد يجيء للموضع، كالمبيت، والمقيل، والمغيب، وقد يجيء أيضا بمعنى المصدر، يقال: حاضت محيضا، وجاء مجيئا، وبات مبيتا، وحكى الواحدي في " البسيط " عن ابن السكيت: إذا كان الفعل من ذوات الثلاثة، نحو: كال يكيل، وحاض يحيض، وأشباهه فإن الاسم منه مكسور، والمصدر مفتوح من ذلك مال ممالا، وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم، وبالفتح إلى المصدر، ولو فتحهما جميعا أو كسرهما في المصدر والاسم لجاز، تقول العرب: المعاش والمعيش، والمغاب والمغيب، والمسار والمسير، فثبت أن لفظ المحيض حقيقة في موضوع الحيض، وهو أيضا اسم لنفس الحيض وإذا ثبت هذا فاعلم أن أكثر المفسرين من الأدباء زعموا أن المراد بالمحيض ههنا الحيض، وعندي أنه ليس كذلك، إذ لو كان المراد بالمحيض ههنا الحيض لكان قوله: * (فاعتزلوا النساء في المحيض) * معناه: فاعتزلوا النساء في الحيض، ويكون المراد فاعتزلوا النساء في زمان الحيض، فيكون ظاهره مانعا من الاستمتاع بها فيما فوق السرة ودون الركبة ولما كان هذا المنع غير ثابت لزم القول بتطرق النسخ أو التخصيص إلى الآية، ومعلوم أن ذلك خلاف الأصل أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض كان معنى الآية: فاعتزلوا النساء في موضع الحيض، ويكون المعنى: فاعتزلوا موضع الحيض من النساء، وعلى هذا التقدير لا يتطرق إلى الآية نسخ ولا تخصيص، ومن المعلوم أن اللفظ إذا كان مشتركا بين معنيين، وكان حمله على أحدهما يوجب محذورا وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور، فإن حمل اللفظ على المعنى الذي لا يوجب المحذور أولى، هذا إذا سلمنا أن لفظ المحيض مشترك بين الموضع وبين المصدر، مع أنا نعلم أن استعمال هذا اللفظ في موضع أكثر وأشهر منه في المصدر.
فإن قيل: الدليل على أن المراد من المحيض الحيض أنه قال: * (هو أذى) * أي المحيض أذى، ولو كان المراد من المحيض الموضع لما صح هذا الوصف.
قلنا: بتقدير أن يكون المحيض عبارة عن الحيض، فالحيض في نفسه ليس بأذى لأن الحيض عبارة عن الدم المخصوص، والأذى كيفية مخصوصة، وهو عرض، والجسم لا يكون نفس
67

العرض، فلا بد وأن يقولوا: المراد منه أن الحيض موصوف بكونه أذى، وإذا جاز ذلك فيجوز لنا أيضا أن نقول: المراد أن ذلك الموضع ذو أذى، وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد من المحيض الأول هو الحيض، ومن المحيض الثاني موضع الحيض، وعلى هذا التقدير يزول ما ذكرتم من الإشكال، فهذا ما عندي في هذا الموضع وبالله التوفيق.
أما قوله تعالى: * (قل هو أذى) * فقال عطاء وقتادة والسدي: أي قذر، واعلم أن الأذى في اللغة ما يكره من كل شيء وقوله: * (فاعتزلوا النساء في المحيض) * الاعتزال التنحي عن الشيء، قدم ذكر العلة وهو الأذى، ثم رتب الحكم عليه، وهو وجوب الإعتزال.
فإن قيل: ليس الأذى إلا الدم وهو حاصل وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة في الاستحاضة غير واجب فقد انتقضت هذه العلة.
قلنا: العلة غير منقوضة لأن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم، ولو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة، فذلك الدم جار مجرى البول والغائط، فكان أذى وقذر، أما دم الاستحاضة فليس كذلك، بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر في عمق الرحم فلا يكون أذى، هذا ما عندي في هذا الباب، وهو قاعدة طيبة، وبتقريرها يتلخص ظاهر القرآن من الطعن والله أعلم بمراده.
المسألة الرابعة: اعلم أن دم الحيض موصوف بصفات حقيقية ويتفرع عليه أحكام شرعية، أما الصفات الحقيقية فأمران أحدهما: المنبع ودم الحيض دم يخرج من الرحم، قال تعالى: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) * (البقرة: 228) قيل في تفسيره: المراد منه الحيض والحمل، وأما دم الاستحاضة، فإنه لا يخرج من الرحم، لكن من عروق تنقطع في فم الرحم، قال عليه والسلام في صفة دم الاستحاضة: " إنه دم عرق انفجر " وهذا الكلام يؤيد ما ذكرنا في دفع للنقض عن تعليل القرآن.
والنوع الثاني: من صفات دم الحيض: الصفات التي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم دم الحيض بها أحدها: أنه أسود والثاني: أنه ثخين والثالث: أنه محتدم وهو المحترق من شدة حرارته الرابعة: أنه يخرج برفق ولا يسيل سيلانا والخامسة: أن له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة السادسة: أنه بحراني، وهو شديد الحمرة وقيل: ما تحصل فيه كدورة تشبيها له بماء البحر، فهذه الصفات هي الصفات الحقيقية.
ثم من الناس من قال: دم الحيض يتميز عن دم الاستحاضة فكل دم كان موصوفا بهذه الصفات فهو
68

دم الحيض، وما لا يكون كذلك لا يكون دم حيض، وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف وزوالها إنما يكون لعارض الحيض، فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف التي كانت واجبة على ما كان، ومن الناس من قال: هذه الصفات قد تشتبه على المكلف، فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسرا ومشقة، فالشارع قدر وقتا مضبوطا متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض كيف كانت تلك الدماء، ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء، والمقصود من هذا إسقاط العسر والمشقة عن المكلف، ثم إن الأحكام الشرعية للحيض هي المنع من الصلاة والصوم واجتناب دخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن، وتصير المرأة به بالغة، والحكم الثابت للحيض بنص القرآن إنما هو حظر الجماع على ما بينا كيفية دلالة الآية عليه.
المسألة الخامسة: اختلف الناس في مدة الحيض فقال الشافعي رحمه الله تعالى: أقلها يوم وليلة، وأكثرها خمسة عشر يوما، وهذا قول علي بن أبي طالب وعطاء بن أبي رباح والأوزاعي وأحمد وإسحق رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة والثوري: أقله ثلاثة أيام ولياليهن فإن نقص عنه فهو دم فاسد، وأكثره عشرة أيام، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء: إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما، ثم تركه وقال مالك لا تقدير لذلك في القلة والكثرة، فإن وجد ساعة فهو حيض، وإن وجد أياما فكذلك، واحتج أبو بكر الرازي في أحكام القرآن على فساد قول مالك فقال: لو كان المقدار ساقطا في القليل والكثير لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود من المرأة فكان يلزم أن لا يوجد في الدنيا مستحاضة، لأن كل ذلك الدم يكون حيضا على هذا المذهب وذلك باطل بإجماع الأمة، ولأنه روي أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إني أستحاض فلا أطهر، وأيضا روي أن حمنة استحيضت سبع سنين ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لهما إن جميع ذلك حيض، بل أخبرهما أن منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة، فبطل هذا القول والله أعلم.
واعلم أن هذه الحجة ضعيفة لأن لقائل أن يقول: إنما يميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لدم الحيض، فإذا علمنا ثبوتها حكمنا بالحيض، وإذا علمنا عدمها حكمنا بعدم الحيض، وإذا ترددنا في الأمرين كان طريقان الحيض مجهولا وبقاء التكليف الذي هو الأصل معلوم والمشكوك لا يعارض المعلوم، فلا جرم حكم ببقاء التكاليف الأصلية، فبهذا الطريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زمان معين، وحجة مالك من وجهين الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين علامة دم
69

الحيض وصفته بقوله: " دم الحيض هو الأسود المحتدم " فمتى كان الدم موصوفا بهذه الصفة كان الحيض حاصلا، فيدخل تحت قوله تعالى: * (فاعتزلوا النساء في المحيض) * وتحت قوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش: " إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ".
الحجة الثانية: أنه تعالى قال في دم الحيض: * (هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) * ذكر وصف كونه أذى في معرض بيان العلة لوجوب الإعتزال، وإنما كان أذى للرائحة المنكرة التي فيه، واللون الفاسد وللحدة القوية التي فيه، وإذا كان وجوب الاعتزال معللا بهذه المعاني فعند حصول هذه المعاني وجب الاحتراز عملا بالعلة المذكورة في كتاب الله تعالى على سبيل التصريح، وعندي أن قول مالك قوي جدا، أما الشافعي فاحتج على أبي حنيفة وجهين:
الحجة الأولى: أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته وفي الزائد على العشرة بدليل أنه عليه السلام وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم، فإذا وجد ذلك فقد حصل الحيض، فيدخل تحت عموم قوله تعالى: * (فاعتزلوا النساء في المحيض) * تركنا العمل بهذا الدليل في الأقل من يوم وليلة، وفي الأكثر من خمسة عشر يوما بالاتفاق بيني وبين أبي حنيفة، فوجب أن يبقى معمولا به في هذه المدة.
الحجة الثانية: للشافعي في جانب الزيادة ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما وصف النسوان بنقصان الدين، فسر ذلك بأن قال: تمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي، وهذا يدل على أن الحيض قد يكون خمسة عشر يوما، لأن على هذا التقدير يكون الطهر أيضا خمسة عشر يوما فيكون الحيض نصف عمرها، ولو كان الحيض أقل من ذلك لما وجدت امرأة لا تصلي نصف عمرها، أجاب أبو بكر الرازي عنه من وجهين الأول: أن الشطر ليس هو النصف بل هو البعض والثاني: أنه لا يوجد في الدنيا امرأة تكون حائضا نصف عمرها، لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها.
والجواب عن الأول: أن الشطر هو النصف، يقال: شطرت الشيء أي جعلته نصفين، ويقال في المثل: أجلب جلبا لك شطره، أي نصفه، وعن الثاني أن قوله عليه السلام: " تمكث إحداهن شطر عمرها لا نصلي " إنما يتناول زمان هي تصلي فيه، وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ، واحتج أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة من وجوه:
الحجة الأولى: ما روى عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشر أيام " قال أبو بكر: فإن صح هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد.
الحجة الثانية: ما روى عن أنس بن مالك، وعثمان بن أبي العاص الثقفي أنهما قالا الحيض
70

ثلاثة أيام وأربعة أيام إلى عشرة أيام وما زاد فهو استحاضة والاستدلال به من وجهين أحدهما: أن القول إذا ظهر عن الصحابي ولم يخالفه أحد كان إجماعا والثاني: أن التقدير مما لا سبيل إلى العقل إليه متى روى عن الصحابي فالظاهر أنه سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
الحجة الثالثة: قوله عليه السلام لحمنة بنت جحش: " تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر " مقتضاه أن يكون حيض جميع النساء في كل شهر هذا القدر خالفنا هذا الظاهر في الثلاثة إلى العشرة فيبقى ما عداه على الأصل.
الحجة الرابعة: قوله عليه السلام في حق النساء: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن، فقيل ما نقصان دينهن؟ قال: تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي " وهذا الخبر يدل على أن مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام والليال، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة لأنه لا يقال في الواحد والاثنين لفظ الأيام، ولا يقال في الزائد على العشرة أيام، بل يقال: أحد عشر يوما أما الثلاثة إلى العشرة فيقال فيها أيام، وأيضا قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش دعى الصلاة أيام أقرائك ولفظ الأيام مختص بالثلاثة إلى العشرة، وفي حديث أم سلمة في المرأة التي سألته أنها تهرق الدم، فقال: لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض من الشهر فلتترك الصلاة ذلك القدر من الشهر، ثم لتغتسل ولتصل.
فإن قيل: لعل حيض تلك المرأة كان مقدرا بذلك المقدار.
قلنا: إنه عليه السلام ما سألها عن قدر حيضها بل حكم عليها بهذا الحكم مطلقا فدل على أن الحيض مطلقا مقدر بما ينطلق عليه لفظ الأيام وأيضا قال في حديث عدي بن ثابت المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها، وذلك عام في جميع النساء.
الحجة الخامسة: وهي حجة ذكرها الجبائي من شيوخ المعتزلة في " تفسيره " فقال: إن فرض الصوم والصلاة لازم يتعين للعمومات الدالة على وجوبهما ترك العمل بها في الثلاثة إلى العشرة فوجب بقاؤها على الأصل فيما دون الثلاثة وفوق العشرة وذلك لأن فيما دون الثلاثة حصل اختلاف للعلماء فأورث شبهة فلم نجعله حيضا وما زاد على العشرة ففيه أيضا اختلاف العلماء فأورث شبهة فلم نجعله حيضا، فأما من الثلاثة إلى العشرة فهو متفق عليه فجعلناه حيضا فهذا خلاصة كلام الفقهاء في هذ المسألة وبالله التوفيق.
المسألة السادسة: اتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض، واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة ودون الركبة، واختلفوا في أنه هل يجوز الاستمتاع بما دون
71

السرة وفوق الركبة، فنقول: إن فسرنا المحيض بموضع الحيض على ما اخترناه كانت الآية دالة على تحريم الجماع فقط، فلا يكون فيها دلالة على تحريم ما وراءه، بل من يقول: إن تخصيص الشيء بالذكر يدل على أن الحكم فيما عداه بخلافه، يقول إن هذه الآية تدل على حل ما سوى الجماع، أما من يفسر المحيض بالحيض، كان تقدير الآية عنده فاعتزلوا النساء في زمان الحيض، ثم يقول ترك العمل بهذه الآية فيما فوق السرة ودون الركبة، فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة وبالله التوفيق.
أما قوله تعالى: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمرهم الله) * فاعلم أن قوله: * (ولا تقربوهن) * أي ولا تجامعوهن، يقال قرب الرجل امرأته إذا جامعها، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى: * (فاعتزلوا النساء في المحيض) * ويمكن أيضا حملها على فائدة جليلة جديدة وهي أن يكون قوله: * (فاعتزلوا النساء في المحيض) * نهيا عن المباشرة في موضع الدم وقوله: * (ولا تقربوهن) * يكون نهيا عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب الحضرمي، وأبو بكر عن عاصم (حتى يطهرن) خفيفة من الطهارة، وقرأ حمزة والكسائي * (يطهرن) * بالتشديد، وكذلك حفص عن عاصم، فمن خفف فهو زوال الدم لأن يطهرن من طهرت امرأة من حيضها، وذلك إذا انقطع الحيض، فالمعنى: لا تقربون حتى يزول عنهم الدم، ومن قرأ: * (يطهرن) * بالتشديد فهو على معنى يتطهرن فأدغم كقوله: * (يا أيها المزمل) * (المزمل: 1)، ويا أيها المدثر) * (المدثر: 1) أي المتزمل والمتدثر وبالله التوفيق. المسألة الثانية: أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري، والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها، وإن رأته لعشرة أيام جاز أن يقربها قبل الاغتسال، حجة الشافعي من وجهين.
الحجة الأولى: أن القراءة المتواترة، حجة بالإجماع، فإذا حصلت قراءتان متواترتان وأمكن الجمع بينهما، وجب الجمع بينهما.
إذا ثبت هذا فنقول: قرىء * (حتى يطهرن) * بالتخفيف وبالتثقيل * (ويطهرن) * بالتخفيف عبارة عن انقطاع الدم، وبالتثقيل عبارة عن التطهر بالماء والجمع بين الأمرين ممكن، وجب دلالة هذه الآية على وجوب الأمرين، وإذا كان وجب أن لا تنتهي هذه الحرمة إلا عند حصول الأمرين.
72

الحجة الثانية: أن قوله تعالى: * (فإذا تطهرن فأتوهن) * علق الإتيان على التطهر بكلمة * (إذا) * وكلمة * (إذا) * للشرط في اللغة، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط، فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهر، حجة أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * نهى عن قربانهن وجعل غاية ذلك النهي أن يطهرن بمعنى ينقطع حيضهن، وإذا كان انقطاع الحيض غاية لهذا النهي وجب أن لا يبقى هذا النهي عند انقطاع الحيض، أجاب القاضي عنه بأنه لو اقتصر على قوله: * (حتى يطهرن) * لكان ما ذكرتم لازما، أما لما ضم إليه قوله: * (فإذا تطهرن) * صار المجموع هو الغاية وذلك بمنزلة أن يقول الرجل: لا تكلم فلانا حتى يدخل الدار فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه، فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامه بالأمرين جميعا، وإذا ثبت أنه لا بد بعد انقطاع الحيض من التطهر فقد اختلفوا في ذلك التطهر فقال الشافعي وأكثر الفقهاء: هو الاغتسال وقال بعضهم: وهو غسل الموضع، وقال عطاء وطاوس: هو أن تغسل الموضع وتتوضأ، والصحيح هو الأول لوجهين الأول: أن ظاهر قوله: * (فإذا تطهرن) * حكم عائد إلى ذات المرأة، فوجب أن يحصل هذا التطهر في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها والثاني: أن حمله على التطهر الذي يختص الحيض بوجوبه أولى من التطهر الذي يثبت في الاستحاضة كثبوته في الحيض، فهذا يوجب أن المراد به الاغتسال وإذا أمكن بوجود الماء وإن تعذر ذلك فقد أجمع القائلون بوجوب الاغتسال على أن التيمم يقوم مقامه، وإنما أثبتنا التيمم مقام الاغتسال بدلالة الإجماع، وإلا فالظاهر يقتضي أن لا يجوز قربانها إلا عند الاغتسال بالماء.
المسألة الثالثة: اختلفوا في المراد بقوله تعالى: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) * وفيه وجوه الأول: وهو قول ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة: فأتوهن في المأتي فإنه هو الذي أمر الله به، ولا تؤتوهن في غير المأتي، وقوله: * (من حيث أمركم الله) * أي في حيث أمركم الله، كقوله: * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) * أي في يوم الجمعة. الثاني: قال الأصم والزجاج: أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن، وذلك بأن لا يكن صائمات، ولا معتكفات، ولا محرمات الثالث: وهو قول محمد بن الحنفية فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور، والأقرب هو القول الأول لأن لفظة * (حيث) * حقيقة في المكان مجاز في غيره.
أما قوله: * (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) * فالكلام في تفسير محبة الله تعالى، وفي تفسير التوبة قد تقدم فلا نعيده إلا أنا نقول: التواب هو المكثر من فعل
ما يسمى توبة، وقد
73

يقال هذا من حق الله تعالى من حيث يكثر في قبول التوبة.
فإن قيل: ظاهر الآية يدل على أنه يحب تكثير التوبة مطلقا والعقل يدل على أن التوبة لا تليق إلا بالمذنب، فمن لم يكن مذنبا وجب أن لا تحسن منه التوبة.
والجواب من وجهين: الأول: أن المكلف لا يأمن البتة من التقصير، فتلزمه التوبة دفعا لذلك التقصير المجوز الثاني: قال أبو مسلم الأصفهاني * (التوبة) * في اللغة عبارة عن الرجوع ورجوع العبد إلى الله تعالى في كل الأحوال محمود اعترض القاضي عليه بأن التوبة وإن كانت في أصل اللغة عبارة عن الرجوع، إلا أنها في عرف الشرع عبارة عن الندم على ما فعل في الماضي، والترك في الحاضر، والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل فوجب حمله على هذا المعنى الشرعي دون المفهوم اللغوي، ولأبي مسلم أن يجيب عنه فيقول: مرادي من هذا الجواب أنه إن أمكن حمل اللفظ على التوبة الشرعية، فقد صح اللفظ وسلم عن السؤال، وإن تعذر ذلك حملته على التوبة بحسب اللغة الأصلية، لئلا يتوجه الطعن والسؤال.
أما قوله تعالى: * (ويحب المتطهرين) * ففيه وجوه أحدها: المراد منه التنزيه عن الذنوب والمعاصي وذلك لأن التائب هو الذي فعله ثم تركه، والمتطهر هو الذي ما فعله تنزها عنه، ولا ثالث لهذين القسمين، واللفظ محتمل لذلك، لأن الذنب نجاسة روحانية، ولذلك قال: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) فتركه يكون طهارة روحانية، وبهذا المعنى يوصف الله تعالى بأنه طاهر مطهر من حيث كونه منزها عن العيوب والقبائح، ويقال: فلان طاهر الذيل.
والقول الثاني: أن المراد: لا يأتيها في زمان الحيض، وأن لا يأتيها في غير المأتى على ما قال: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) * ومن قال بهذا القول قال: هذا أولى لأنه أليق بما قبل الآية ولأنه تعالى قال حكاية عن قوم لوط * (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) * (الأعراف: 82) فكان قوله: * (ويحب المتطهرين) * ترك الإتيان في الأدبار.
والقول الثالث: أنه تعالى لما أمرنا بالتطهر في قوله: * (فإذا تطهرن) * فلا جرم مدح المتطهر فقال: * (ويحب المتطهرين) * والمراد منه التطهر بالماء، وقد قال تعالى: * (رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين) * (التوبة: 108) فقيل في التفسير: أنهم كانوا يستنجون بالماء فأثنى الله عليهم.
74

الحكم الثامن
قوله تعالى
* (نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب النزول وجوها أحدها: روي أن اليهود قالوا: من جامع امرأته في قبلها من دبرها كان ولدها أحول مخبلا، وزعموا أن ذلك في التوراة، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذبت اليهود ونزلت هذه الآية وثانيها: روي عن ابن عباس أن عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت، وحكى وقوع ذلك منه، فأنزل الله تعالى هذه الآية وثالثها: كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرجل المرأة من دبرها في قبلها، وكانوا أخذوا ذلك من اليهود، وكانت قريش تفعل ذلك فأنكرت الأنصار ذلك عليهم، فنزلت الآية.
المسألة الثانية: * (حرث لكم) * أي مزرع ومنبت للولد، وهذا على سبيل التشبيه، ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج، والحرث مصدر، ولهذا وحد الحرث فكان المعنى نساؤكم ذوات حرث لكم فيهن تحرثون للولد، فحذف المضاف، وأيضا قد يسمى موضع الشيء باسم الشيء على سبيل المبالغة كقوله: فإنما هي إقبالي وإدبار (c)
ويقال: هذا أمر الله، أي مأموره، وهذا شهوة فلان، أي مشتهاه، فكذلك حرث الرجل محرثة.
المسألة الثالثة: ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها، فقوله: * (أنى شئتم) * محمول على ذلك، ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن، وسائر الناس
75

كذبوا نافعا في هذه الرواية، وهذا قول مالك، واختيار السيد المرتضى من الشيعة، والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه، وحجة من قال: إنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن من وجوه:
الحجة الأولى: أن الله تعالى قال في آية المحيض: * (قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) * (البقرة: 222) جعل قيام الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى، ولا معنى للأذى إلا ما يتأذى الإنسان منه وههنا يتأذى الإنسان بنتن روائح ذلك الدم وحصول هذه العلة في محل النزاع أظهر فإذا كانت تلك العلة قائمة ههنا وجب حصول الحرمة.
الحجة الثانية: قوله تعالى: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) * (البقرة: 222) وظاهر الأمر للوجوب، ولا يمكن أن يقال: إنه يفيد وجوب إتيانهن لأن ذلك غير واجب، فوجب حمله على أن المراد منه أن من أتى المرأة وجب أن يأتيها في ذلك الموضع الذي أمر الله تعالى به ثم هذا غير محمول على الدبر، لأن ذلك بالإجماع غير واجب فتعين أن يكون محمولا على القبل، وذلك هو المطلوب.
الحجة الثالثة: روى خزيمة بن ثابت أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلال، فلما ولى الرجل
دعاه فقال: كيف قلت في أي الخربتين، أو في أي الخرزتين، أو في أي الخصفتين، أو من قبلها في قبلها فنعم، أمن دبرها في قبلها فنعم، أمن دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحي من الحق: " لا تؤتوا النساء في أدبارهن " وأراد بخربتها مسلكها، وأصل الخربة عروة المزادة شبه الثقب بها، والخرزة هي التي يثقبها الخراز، كنى به عن المأتي، وكذلك الخصفة من قولهم: خصفت الجلد إذا خرزته، حجة من قال بالجواز وجوه:
الحجة الأولى: التمسك بهذه الآية من وجهين الأول: أنه تعالى جعل الحرث اسما للمرأة فقال: * (نساؤكم حرث لكم) * فهذا يدل على أن الحرث اسم للمرأة لا للموضع المعين، فلما قال بعده: * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * كان المراد فأتوا نساءكم أنى شئتم فيكون هذا إطلاقا في إتيانهن على جميع الوجوه، فيدخل فيه محل النزاع.
الوجه الثاني: أن كلمة * (أنى) * معناها أين، قال الله تعالى: * (أنى لك هذا قالت هو من عند الله) * (الأعراف: 37 خ والتقدير: من أين لك هذا فصار تقدير الآية: فأتوا حرثكم أين شئتم وكلمة: أين شئتم، تدل على تعدد الأمكنة: اجلس أين شئت ويكون هذا تخييرا بين الأمكنة.
إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنه لا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها في قبلها، أو من دبرها
76

في قبلها لأن على هذا التقدير المكان واحد، والتعداد إنما وقع في طريق الإتيان، واللفظ اللائق به أن يقال: اذهبوا إليه كيف شئتم فلما لم يكن المذكور ههنا لفظة: كيف، بل لفظة * (أنى) * ويثبت أن لفظة * (أنى) * مشعرة بالتخيير بين الأمكنة، ثبت أنه ليس المراد ما ذكرتم بل ما ذكرناه.
الحجة الثانية: لهم: التمسك بعموم قوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المؤمنون: 6) ترك العمل به في حق الذكور لدلالة الإجماع، فوجب أن يبقى معمولا به في حق النسوان.
الحجة الثالثة: توافقنا على أنه لو قال للمرأة: دبرك على حرام ونوى الطلاق أنه يكون طلاقا، وهذا يقتضي كون دبرها حلالا له، هذا مجموع كلام القوم في هذا الباب.
أجاب الأولون فقالوا: الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية إتيان النساء في غير المأتي وجوه الأول: أن الحرث اسم لموضع الحراثة، ومعلوم أن المراد بجميع أجزائها ليست موضعا للحراثة، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة، ويقتضي هذا الدليل أن لا يطلق لفظ الحرث على ذات المرأة إلا أنا تركنا العمل بهذا الدليل في قوله: * (نساؤكم حرث لكم) * لأن الله تعالى صرح ههنا بإطلاق لفظ الحرث على ذات المرأة، فحملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية كل الشيء باسم جزئه، وهذه الصورة مفقودة في قوله: * (فأتوا حرثكم) * فوجب حمل الحرث ههنا على موضع الحراثة على التعيين، فثبت أن الآية لا دلالة فيها إلا على إتيان النساء في المأتى.
الوجه الثاني: في بيان أن هذه الآية لا يمكن أن تكون دالة على ما ذكروه لما بينا أن ما قبل هذه الآية يدل على المنع مما ذكروه من وجهين أحدهما: قوله: * (قل هو أذى) * (البقرة: 222) والثاني: قوله: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) * فلو دلت هذه الآية على التجويز لكان ذلك جمعا بين ما يدل على التحريم وبين ما يدل على التحليل في موضع واحد، والأصل أنه لا يجوز.
الوجه الثالث: الروايات المشهورة في أن سبب نزول هذه الآية اختلافهم في أنه هل يجوز إتيانها من دبرها في قبلها، وسبب نزول الآية لا يكون خارجا عن الآية فوجب كون الآية متناولة لهذه الصورة، ومتى حملناها على هذه الصورة لم يكن بنا حاجة إلى حملها على الصورة الأخرى فثبت بهذه الوجوه أن المراد من الآية ليس ما ذكروه، وعند هذا نبحث عن الوجوه التي تمسكوا بها على التفصيل.
أما الوجه الأول: فقد بينا أن قوله: * (فأتوا حرثكم) * معناه: فأتوه موضع الحرث.
وأما الثاني: فإنه لما كان المراد بالحرث في قوله: * (فأتوا حرثكم) * ذلك الموضع المعين لم يكن حمل * (أنى شئتم) *
على التخيير في مكان، وعند هذا يضمر فيه زيادة، وهي أن يكون المراد من * (أنى شئتم) *
77

فيضمر لفظة: من، لا يقال ليس حمل لفظ الحرث على حقيقته، والتزام هذا الإضمار أولى من حمل لفظ الحرث على المرأة على سبيل المجاز، حتى لا يلزمنا هذا الإضمار لأن نقول: بل هذا أولى، لأن الأصل في الإبضاع الحرمة.
وأما الثالث: فجوابه: أن قوله: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المؤمنون: 6) عام، ودلائلنا خاصة، والخاص مقدم على العام.
وأما الرابع: فجوابه: أن قوله: دبرك على حرام، إنما صلح أن يكون كناية عن الطلاق، لأنه محل لحل الملابسة والمضاجعة، فصار ذلك كقوله: يدك طالق، والله أعلم.
المسألة الرابعة: اختلف المفسرون في تفسير قوله: * (أنى شئتم) * والمشهور ما ذكرناه أنه يجوز للزوج أن يأتيها من قبلها في قبلها، ومن دبرها في قبلها والثاني: أن المعنى: أي وقت شئتم من أوقات الحل: يعنى إذا لم تكن أجنبية، أو محرمة، أو صائمة، أو حائضا والثالث: أنه يجوز للرجل أن ينكحها قائمة أو باركة، أو مضطجعة، بعد أن يكون في الفرج الرابع: قال ابن عباس: المعنى إن شاء، وإن شاء لم يعزل، وهو منقول عن سعيد بن المسيب الخامس: متى شئتم من ليل أو نهار.
فإن قيل: فما المختار من هذه الأقاويل؟.
قلنا: قد ظهر عن المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو أن اليهود كانوا يقولون: من أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله تعالى هذا لتكذيب قولهم، فكان الأولى حمل اللفظ عليه، وأما الأوقات فلا مدخل لها في هذا الباب، لأن * (أنى) * يكون بمعنى * (متى) * ويكون بمعنى * (كيف) * وأما العزل وخلافه فلا يدخل تحت * (أنى) * لأن حال الجماع لا يختلف بذلك، فلا وجه لحمل الكلام إلا على ما قلنا.
أما قوله: * (وقدموا لأنفسكم) * فمعناه: افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة ونظيره أن يقول الرجل لغيره: قدم لنفسك عملا صالحا، وهو كقوله: * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * (البقرة: 197) ونظير لفظ التقديم ما حكى الله تعالى عن فريق من أهل النار وهو قوله: * (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار) * (ص: 60).
فإن قيل: كيف تعلق هذا الكلام بما قبله؟.
قلنا: نقل عن ابن عباس أنه قال: معناه التسمية عند الجماع وهو في غاية البعد، والذي عندي فيه أن قوله: * (نساؤكم حرث لكم) * جار مجرى التنبيه على سبب إباحة الوطء، كأنه قيل: هؤلاء
78

النسوان إنما حكم الشرع بإباحة وطئهن لكم لأجل أنهن حرث لكم أي بسبب أنه يتولد الولد منها ثم قال بعده: * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * أي لما كان السبب في إباحة وطئها لكم حصول الحرث، فأتوا حرثكم، ولا تأتوا غير موضع الحرث، فكان قوله: * (فأتوا حرثكم) * دليلا على الإذن في ذلك الموضع، والمنع من غير ذلك الموضع، فلما اشتملت الآية عل الإذن في أحد الموضعين، والمنع عن الموضع الآخر، لا جرم قال: * (وقدموا لأنفسكم) * أي لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة بل كونوا في قيد تقديم الطاعة، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: * (واتقوا الله) * ثم أكده ثالثا بقوله: * (واعلموا أنكم ملاقوه) * وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا يليق ذكرها إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن شيء لذيذ مشتهى، فثبت أن ما قبل هذه الآية دال على تحريم هذا العمل، وما بعدها أيضا دال على تحريمه، فظهر أن المذهب الصحيح في تفسير هذه الآية ما ذهب إليه جمهور المجتهدين.
أما قوله تعالى: * (واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه) * فاعلم أن الكلام في التقوى قد تقدم، والكلام في تفسير لقاء الله تعالى قد تقدم في قوله: * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) * (البقرة: 46) واعلم أنه تعالى ذكر هذه الأمور الثلاثة أولها: * (وقدموا لأنفسكم) * والمراد منه فعل الطاعات وثانيها: قوله: * (واتقوا الله) * والمراد منه ترك المحظورات وثالثها: قوله: * (واعلموا أنكم ملاقوه) * وفيه إشارة إلى أنى إنما كلفتكم بتحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات لأجل يوم البعث والنشور والحساب، فلولا ذلك اليوم لكان تحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات عبثا وما أحسن هذا الترتيب، ثم قال: * (وبشر المؤمنين) * والمراد منه رعاية الترتيب المعتبر في القرآن وهو أن يجعل مع كل وعيد وعدا والمعنى وبشر المؤمنين خاصة بالثواب والكرامة فحذف ذكرهما لما أنهم كالمعلوم، فصار كقوله: * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) * (الأحزاب: 47).
الحكم التاسع في الأيمان
* (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس
79

والله سميع عليم) *.
والمفسرون أكثروا من الكلام في هذه الآية، وأجود ما ذكروه وجهان الأول: وهو الذي ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو الأحسن أن قوله: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) * نهى عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به، لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له يقول الرجل: قد جعلتني عرضة للومك، وقال الشاعر: ولا تجعلني عرضة للوائم (c)
وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله: * (ولا تطع كل حلاف مهين) * (القلم: 10) وقال تعالى: * (واحفظوا أيمانكم) * (المائدة: 89) والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف، كما قال كثير: قليل الألا يا حافظ ليمينه * وإن سبقت منه الألية برت
والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين، وأيضا كلما كان الإنسان أكثر تعظيما لله تعالى كان أكمل في العبودية ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية.
وأما قوله تعالى بعد ذلك: * (أن تبروا) * فهو علة لهذا النهي، فقوله: * (أن تبروا) * أي إرادة أن تبروا، والمعنى: إنما نهيتكم عن هذا لما أن توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فتكونون يا معشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين.
فإن قيل: وكيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس؟.
قلنا: لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا وخسائس مطالب الحفل، فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر وأما معنى التقوى فظاهر أنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله، وأما الإصلاح بين الناس فمتى اعتقدوا في صدق لهجته، وبعده عن الأغراض الفاسدة فيقبلون قوله فيحصل الصلح بتوسطه.
التأويل الثاني: قالوا: العرضة عبارة عن المانع، والدليل على صحة هذه اللغة أنه يقال: أردت أفعل كذا فعرض لي أمر كذا، واعترض أي تحامى ذلك فمنعني منه،
واشتقاقها من الشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانعا للناس من السلوك والمرور ويقال: اعترض فلان على كلام فلان، وجعل كلامه معارضا لكلام آخر، أي ذكر ما يمنعه من تثبيت كلامه، إذا عرفت أصل الاشتقاق فالعرضة فعلة بمعنى المفعول، كالقبضة، والغرفة، فيكون اسما لما يجعل معرضا
80

دون الشيء، ومانعا منه، فثبت أن العرضة عبارة عن المانع، وأما اللام في قوله: * (لأيمانكم) * فهو للتعليل. إذا عرفت هذا فنقول: تقدير الآية: ولا تجعلوا ذكر الله مانعا بسبب أيمانكم من أن تبروا أو في أن تبروا، فأسقط حرف الجر لعدم الحاجة إليه بسبب ظهوره، قالوا: وسبب نزول الآية أن الرجل كان يحلف على ترك الخيرات من صلة الرحم، أو إصلاح ذات البين، أو إحسان إلى أحد أدعيائه ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل: لا تجعلوا ذكر الله مانعا بسبب هذه الأيمان عن فعل البر والتقوى هذا أجود ما ذكره المفسرون وقد طولوا في كلمات أخر، ولكن لا فائدة فيها فتركناها، ثم قال في آخر الآية: * (والله سميع عليم) * أي: إن حلفتم يسمع، وإن تركتم الحلف تعظيما لله وإجلالا له من أن يستشهد باسمه الكريم في الأعراض العاجلة فهو عليم عالم بما في قلوبكم ونيتكم.
قوله تعالى
* (لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم) *.
في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: * (اللغو) * الساقط الذي لا يعتد به، سواء كان كلاما أو غيره، أما ورود هذه اللفظة في الكلام، فيدل عليه الآية والخبر والرواية، أما الآية فقوله تعالى: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) * (القصص: 55) وقوله: * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما) * (الواقعة: 25) وقوله: * (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) * (فصلت: 26) وقوله: * (لا تسمع فيها لاغية) * (الغاشية: 11) أما قوله: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72) فيحتمل أن يكون المراد، وإذا مروا بالكلام الذي يكون لغوا، وأن يكون المراد، وإذا مروا بالفعل الذي يكون لغوا.
وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم: " من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا ".
وأما الرواية فيقال: لغا الطائر يلغو لغوا إذا صوت، ولغو الطائر تصويته، وأما ورود هذا اللفظ في غير الكلام، فهو أنه يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل: لغو، قال جرير:
يعد الناسبون بني تميم * بيوت المجد أربعة كبارا
81

وتخرج منهم المرئي لغوا * كما ألغيت في الدية الحوارا
وقال العجاج: ورب أسراب حجيج كظم * عن اللغا ورفث التكلم
قال الفراء: اللغا، مصدر للغيت، و * (اللغو) * مصدر للغوت، فهذا ما يتعلق باللغة.
أما المفسرون فقد ذكروا وجوها الأول: قال الشافعي رضي الله عنه: إنه قول العرب: لا والله، وبلى والله، مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف، ولو قيل لواحد منهم: سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك، ولعله قال: لا والله ألف مرة والثاني: وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه: أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن فهذا هو اللغو، وفائدة هذا الإختلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل لا والله وبلى والله ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك ومذهب الشافعي هو قول عائشة، والشعبي، وعكرمة، وقول أبي حنيفة هو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والنخعي والزهري، وسليمان بن يسار، وقتادة، والسدي، ومكحول، حجة الشافعي رضي الله عنه على قوله وجوه الأول: ما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لغو اليمين قول الرجل في كلامه كلا والله، وبلى والله، ولا والله " وروى أنه صلى الله عليه وسلم مر بقوم ينتضلون، ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم، فقال: أصبت والله، ثم أخطأ، ثم قال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: " كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة " وعن عائشة أنها قالت: أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب، وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة.
الحجة الثانية: أن قوله: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * يدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب، ولكن المراد من قوله: * (بما كسبت قلوبكم) * هو الذي يقصده الإنسان على الجد ويربط قلبه به، وإذا كان كذلك وجب أن يكون اللغو الذي هو كالمقابل له أن يكون معناه ما لا يقصده الإنسان بالجد، ولا يربط قلبه به، وذلك هو قول الناس على سبيل التعود في الكلام: لا والله بلى والله، فأما إذا حلف على شيء بالجد أنه كان حاصلا ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك، فلم يكن ذلك لغوا البتة بل كان ذلك حاصلا بكسب القلب.
82

الحجة الثالثة: أنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) * (البقرة: 224) وقد ذكرنا أن معناه النهي عن كثرة الحلف واليمين، وهؤلاء الذين يقولون على سبيل الاعتياد: لا والله وبلى والله لا شك أنهم يكثرون الحلف، فذكر تعالى عقيب قوله: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) * حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام لا على سبيل القصد إلى الحلف، وبين أنه لا مؤاخذة عليهم، ولا كفارة، لأن إيجاب المؤاخذة والكفارة عليهم يفضي إما إلى أن يمتنعوا عن الكلام، أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرناه هو المناسب لما قبل الآية، فأما الذي قال أبو حنيفة
رضي الله عنه فإنه لا يناسب ما قبل الآية فكان تأويل الشافعي أولى، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه.
الحجة الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه " الحديث دل على وجوب الكفارة على الحانث مطلقا من غير فصل بين المجد والهازل.
الحجة الثانية: أن اليمين معنى لا يلحقه الفسخ، فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق، فهاتان الحجتان يوجبان الكفارة في قول الناس: لا والله بلى والله، إذا حصل الحنث، ثم الذي يدل على أن اللغو لا يمكن تفسيره بما قال الشافعي، ويجب تفسيره بما قاله أبو حنيفة أن اليمين في اللغة عبارة عن القوة قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة، والمقصود من اليمين تقوية جانب البر على جانب الحنث بسبب اليمين، وهذا إنما يفعل في الموضع الذي يكون قابلا للتقوية، وهذا إنما يكون إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل، فأما إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التقوية البتة، فعلى هذا اليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة المطلوبة منها، والخالي عن المطلوب يكون لغوا، فثبت أن اللغو هو اليمين على الماضي، وأما اليمين على المستقبل فهو قابل للتقوية، فلم تكن هذه اليمين خالية عن الغرض المطلوب منها فلا تكون لغوا.
القول الثالث: في تفسير يمين اللغو: هو أنه إذا حلف على ترك طاعة، أو فعل معصية، فهذا هو يمين اللغو وهو المعصية. قال تعالى: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) * (القصص: 55) فبين أنه تعالى لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان، ثم قال: * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية، قالوا: وهذا التأويل مناف لقوله عليه السلام: " من حلف على
83

يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر " وهذا التأويل ضعيف من وجهين الأول: هو أن المؤاخذة المذكورة في هذه الآية صارت مفسرة في آية المائدة بقوله تعالى: * (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته) * (المائدة: 89) ولما كان المراد بالمؤاخذة إيجاب الكفارة وههنا الكفارة واجبة، علمنا أن المراد من الآية ليس هو هذه الصورة الثاني: أنه تعالى جعل المقابل للغو هو كسب القلب، ولا يمكن تفسيره بما ذكره من الإصرار على الشيء الذي حلفوا عليه لأن كسب القلب مشعر بالشروع في فعل جديد، فأما الاستمرار على ما كان فذلك لا يسمى كسب القلب.
القول الرابع: في تفسير يمين اللغو: أنها اليمين المكفرة سميت لغوا لأن الكفارة أسقطت الإثم، فكأنه قيل: لا يؤاخذكم الله باللغو إذا كفرتم، وهذا قول الضحاك.
القول الخامس: وهو قول القاضي: أن المراد به ما يقع سهوا غير مقصود إليه، والدليل عليه قوله تعالى بعد ذلك: * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * أي يؤاخذكم إذا تعمدتم، ومعلوم أن المقابل للعمد هو السهو.
المسألة الثانية: احتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على وجوب الكفارة في اليمين الغموس، قال: إنه تعالى ذكر ههنا * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * وقال في آية المائدة: * (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) * وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد منه عقد القلب به، ولأن يكون المراد به العقد الذي يضاد الحل، فلما ذكر ههنا قوله: * (بما كسبت قلوبكم) * علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب، وأيضا ذكر المؤاخذة ههنا، ولم يبين أن تلك المؤاخذة ما هي، وبينها في آية المائدة بقوله: * (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته) * فبين أن المؤاخذة هي الكفارة، فكل واحدة من هاتين الآيتين مجملة من وجه، مبينة من وجه آخر فصارت كل واحدة منهما مفسرة للأخرى من وجه، وحصل من كل واحدة منهما أن كل يمين ذكر على سبيل الجد وربط القلب، فالكفارة واجبة فيها، واليمين الغموس كذلك فكانت الكفارة واجبة فيها.
أما قوله تعالى: * (والله غفور رحيم) * فقد علمت أن: الغفور، مبالغة في ستر الذنوب، وفي إسقاط عقوبتها، وأما: الحليم، فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة والسكون، يقال: ضع الهودج على أحلم الجمال، أي على أشدها تؤدة في السير، ومنه الحلم لأنه يرى في حال السكون، وحلمة الثدي، ومعنى: الحليم، في صفة الله: الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار.
84

الحكم العاشر
قوله تعالى
* (للذين يؤلون من نسآئهم تربص أربعة أشهر فإن فآءوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: آلى يؤالي إيلاء، وتألى يتألى تأليا، وائتلى يأتلي ائتلاء، والاسم منه ألية وألوة، كلاهما بالتشديد، وحكى أبو عبيدة الوة والوة والوة ثلاثة لغات، وبالجملة فالألية والقسم واليمين، والحلف، كلها عبارات عن معنى واحد، وفي الحديث حكاية عن الله تعالى: " آليت أفعل خلاف المقدرين " وقال كثير: قليل الألايا حافظ ليمينه * فإن سبقت منه الألية برت
هذا هو معنى اللفظ بحسب أصل اللغة، أما في عرف الشعر فهو اليمين على ترك الوطء، كما إذا قال: والله لا أجامعك، ولا أباضعك، ولا أقربك، ومن المفسرين من قال: في الآية حذف تقديره: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم، إلا أنه حذف لدلالة الباقي عليه، وأنا أقول: هذا الإضمار إنما يحتاج إليه إذا حملنا لفظ الإيلاء على المعهود اللغوي، أما إذا حملناه على المتعارف في الشرع استغنينا عن هذا الإضمار.
المسألة الثانية: روي أن الإيلاء في الجاهلية كان طلاقا قال سعيد بن المسيب: كان الرجل لا يريد المرأة ولا يجب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها، فكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات بعل، والغرض منه مضارة المرأة، ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضا، فأزال الله تعالى ذلك وأمهل للزوج مدة حتى يتروى ويتأمل، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها.
المسألة الثالثة: قرأ عبد الله * (آلوا من نسائهم) * وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما * (يقسمون من نسائهم) *.
85

أما قوله: * (من نسائهم) * ففيه سؤال، وهو أنه يقال: المتعارف أن يقال: حلف فلان على كذا أو آلى على كذا، فلم أبدلت لفظة * (على) * ههنا بلفظة * (من) *؟.
والجواب من وجهين: الأول: أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر، كما يقال: لي منك كذا والثاني: أنه ضمن في هذا القسم معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مولين أو مقسمين.
أما قوله تعالى: * (تربص أربعة أشهر) * فاعلم أن التربص التلبث والانتظار يقال: تربصت الشيء تربصا، ويقال: ما لي على هذا الأمر ربصة، أي تلبث، وإضافة التربص إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله: بينهما مسيرة يوم، أي مسيرة في يوم ومثله كثير.
أما قوله: * (فإن فاءوا) * فمعناه فإن رجعوا، والفئ في اللغة هو رجوع الشيء إلى ما كان عليه من قبل، ولهذا قيل لما تنسخه الشمس من الظل ثم يعود: فيء، وفرق أهل العربية بين الفيء والظل، فقالوا: الفيء ما كان بالعشي، لأنه الذي نسخته الشمس والظل ما كان بالغداة لأنه لم تنسخه الشمس وفي الجنة ظل وليس فيها فيء، لأنه لا شمس فيها، قال الله تعالى: * (وظل ممدود) * (الواقعة: 30) وأنشدوا: فلا الظل من برد الضحى يستطيعه * ولا الفيء من برد العشي يذوق
وقيل: فلان سريع الفيء والفيئة حكاهما الفراء عن العرب، أي سريع الرجوع عن الغصب إلى الحالة المتقدمة وقيل: لما رده الله على المسلمين من مال المشركين فيء كأنه كان لهم فرجع إليهم فقوله: * (فإن فاءوا) * معناه فإن فرجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها * (فإن الله غفور رحيم) * للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته كما أنه غفور رحيم لكل التائبين.
أما قوله تعالى: * (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) * فاعلم أن العزم عقد القلب على الشيء يقال عزم على الشيء يعوم عزما وعزيمة، وعزمت عليك لتفعلن، أي أقسمت، والطلاق مصدر طلقت المرأة أطلق طلاقا، وقال الليث: طلقت بضم اللام، وقال ابن الأعرابي: طلقت بضم اللام من الطلاق أجود، ومعنى الطلاق هو حل عقد النكاح بما يكون حلالا في الشرع، وأصله من الإنطلاق، وهو الذهاب، فالطلاق عبارة عن انطلاق المرأة، فهذا ما يتعلق بتفسير لفظ الآية.
أما الأحكام فكثيرة ونذكر هاهنا بعض ما دلت الآية عليه في مسائل:
المسألة الأولى: كل زوج يتصور منه الوقاع، وكان تصرفه معتبرا في الشرع، فإنه يصح
86

منه الإيلاء، وهذا القيد معتبر طردا وعكسا. أما الطرد فهو أن كل من كان كذلك صح إيلاؤه، ويتفرع عليه أحكام الأول: يصح إيلاء الذمي، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يصح إيلاؤه بالله تعالى ويصح بالطلاق والعتاق لنا قوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) * وهذا العموم يتناول الكافر والمسلم.
الحكم الثاني: قال الشافعي رضي الله عنه: مدة الإيلاء لا تختلف بالرق والحرية فهي أربعة أشهر سواء كان الزوجان حرين أو رقيقين، أو أحدهما كان حرا والآخر رقيقا، وعند أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما تتنصف بالرق، إلا أن عند أبي حنيفة تتنصف برق المرأة، وعند مالك برق الرجل، كما قالا في الطلاق لنا إن ظاهر قوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم) * يتناول الكل، والتخصيص خلاف الظاهر، لأن تقدير هذه المدة إنما كان لأجل معنى يرجع إلى الجبلة والطبع، وهو قلة الصبر على مفارقة الزوج، فيستوي فيه الحر والرقيق، كالحيض، ومدة الرضاع ومدة العنة.
الحكم الثالث: يصح الإيلاء في حال الرضا والغضب، وقال مالك: لا يصح إلا في حال الغضب لنا ظاهر هذه الآية.
الحكم الرابع: يصح الإيلاء من المرأة سواء كانت في صلب النكاح، أو كانت مطلقة طلقة رجعية، بدليل أن الرجعية يصدق عليها أنها من نسائه، بدليل أنه لو قال: نسائي طوالق، وقع الطلاق عليها، وإذا ثبت أنها من نسائه دخلت تحت الآية لظاهر قوله: * (للذين يؤلون من نسائهم) *.
أما عكس هذه القضية. وهو أن من لا يتصور منه الوقاع لا يصح إيلاؤه، ففيه حكمان:
الحكم الأول: إيلاء الخصي صحيح، لأنه يجامع كما يجامع الفحل، إنما المفقود في حقه الإنزال وذلك لا أثر له: ولأنه داخل تحت عموم الآية.
الحكم الثاني: المجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يجامع به صح إيلاؤه وإن لم يبق ففيه قولان أحدهما: أنه لا يصح إيلاؤه وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه والثاني: أنه يصح لعموم هذه الآية، لأن قصد المضارة باليمين قد حصل منه.
القيد الثاني: أن يكون زوجا، فلو قال لأجنبية: والله لا أجامعك ثم نكحها لم يكن مؤليا لأن قوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) * يفيد أن هذا الحكم لهم لا لغيرهم، كقوله: * (لكم دينكم ولي دين) * (الكافرون: 6) أي لكم لا لغيركم.
87

المسألة الثانية: المحلوف به والحلف إما أن يكون بالله أو بغيره، فإن كان بالله كان موليا ثم إن جامعها في مدة الإيلاء خرج عن الإيلاء، وهل تجب كفارة اليمين فيه قولان: الجديد وهو الأصح، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تجب كفارة اليمين، والقديم أنه إذا فاء بعد مضي المدة أو في خلال المدة فلا كفارة عليه، حجة القول
: والله لا أقربك ثم يقربها، وبين أن يقول: والله لا أكلمك ثم يكلمها وحجة القول القديم قوله تعالى: * (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) * والاستدلال به من وجهين أحدهما: أن الكفارة لو كانت واجبة لذكرها الله ههنا، لأن الحاجة ههنا داعية إلى معرفتها، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والثاني: أنه تعالى كما لم يذكر وجوب الكفارة نبه على سقوطها بقوله: * (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) * والغفران يوجب ترك المؤاخذة وللأولين أن يجيبوا فيقولوا: إنما ترك الكفارة ههنا لأنه تعالى بينها في القرآن وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر المواضع.
أما قوله: * (غفور رحيم) * فهو يدل على عدم العقاب، لكن عدم العقاب لا ينافي وجوب الفعل، كما أن التائب عن الزنا والقتل لا عقاب عليه، ومع ذلك يجب عليه الحد والقصاص، وأما إن كان الحلف في الإيلاء بغير الله كما إذا قال: إن وطئتك فعبدي حر، أو أنت طالق، أو ضرتك طالق، أو ألزم أمرا في الذمة، فقال: إن وطئتك فلله علي عتق رقبة، أو صدقة، أو صوم، أو حج، أو صلاة، فهل يكون موليا للشافعي رضي الله عنه فيه قولان: قال في القديم: لا يكون موليا، وبه قال أحمد في ظاهر الرواية دليله أن الإيلاء معهود في الجاهلية، ثم قد ثبت أن معهود الجاهلية في هذا الباب هو الحلف بالله، وأيضا روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: من حلف فليحلف بالله، فمطلق الحلف يفهم منه الحلف بالله، وقال في الجديد، وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة العلماء رحمهم الله أنه يكون موليا لأن لفظ الإيلاء يتناول الكل، وعلق القولين فيمينه منعقدة فإن كان قد علق به عتقا أو طلاقا، فإذا وطئها يقع ذلك المتعلق، وإن كان المعلق به التزام قربة في الذمة فعليه ما في نذر اللجاج، وفيه أقوال أصحها: أن عليه كفارة اليمين والثاني: عليه الوفاء بما سمى، والثالث: أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء بما سمى، وفائدة هذين القولين أنا إن قلنا إنه يكون موليا فبعد مضي أربعة أشهر يضيق الأمر عليه حتى يفيء أو يطلق وإن قلنا: لا يكون موليا لا يضيق عليه الأمر.
المسألة الثالثة: اختلفوا في مقدار مدة الإيلاء على أقوال فالأول: قول ابن عباس أنه
88

لا يكون موليا حتى يحلف على أن لا يطأها أبدا والثاني: قول الحسن البصري وإسحق: إن أي مدة حلف عليها كان موليا وإن كانت يوما، وهذان المذهبان في غاية التباعد والثالث: قول أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون موليا حتى يحلف على أنه لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد والرابع: قول الشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنهم: إنه لا يكون مواليا حتى تزيد المدة على أربعة أشهر وفائدة الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما أنه إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل أربعة، وهذه المدة تكون حقا للزوج، فإذا مضت تطالب المرأة الزوج بالفيئة أو بالطلاق، فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه، وعن أبي حنيفة: إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه، حجة الشافعي من وجوه:
الحجة الأولى: أن الفاء في قوله: * (فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) * تقتضي كون هذين الحكمين مشروعين متراخيا عن انقضاء الأربعة أشهر.
فإن قيل: ما ذكرتموه ممنوع لأن قوله: * (فإن فاؤا، وإن عزموا الطلاق) * تفصيل لقوله: * (الذين يؤلون من نسائهم) * والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: أنا أنزل عندكم هذا الشهر فإن أكرمتموني بقيت معكم وإلا ترحلت عنكم.
قلنا: هذا ضعيف لأن قوله: * (للذين يؤلون من نسائهم تربص) * هذه المدة يدل على الأمرين والفاء في قوله: * (فإن فاؤا) * ورد عقيب ذكرهما، فيكون هذا الحكم مشروعا عقيب الإيلاء، وعقيب حصول التربص في هذه المدة بخلاف المثال الذي ذكره وهو قوله: أنا أنزل عندكم فإن أكرمتموني بقيت وإلا ترحلت، لأن هناك الفاء متأخرة عن ذلك النزول، أما ههنا فالفاء مذكورة عقيب ذكر الإيلاء وذكر التربص، فلا بد وأن يكون ما دخل الفاء عليه واقعا عقيب هذين الأمرين، وهذا كلام ظاهر. الحجة الثانية: للشافعي رضي الله عنه أن قوله: * (وإن عزموا الطلاق) * صريح في أن وقوع الطلاق إنما يكون بإيقاع الزوج، وعلى قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يقع الطلاق بمضي المدة لا بإيقاع الزوج.
فإن قيل: الإيلاء الطلاق في نفسه. فالمراد من قوله: * (وإن عزموا الطلاق) * الإيلاء المتقدم.
قلنا: هذا بعيد لأن قوله: * (وإن عزموا الطلاق) * لا بد وأن يكون معناه: وإن عزم الذين يؤلون الطلاق، فجعل المؤلي عازما، وهذا يقتضي أن يكون الإيلاء والعزم قد اجتمعا، وأما الطلاق فهو متعلق العزم، ومتعلق العزم متأخر عن العزم، فإذا الطلاق متأخر عن العزم لا محالة، والإيلاء
89

إما أن يكون مقارنا للعزم أو متقدما، وهذا يفيد القطع بأن الطلاق في هذه الآية مغاير لذلك الإيلاء وهذا كلام ظاهر.
الحجة الثالثة: أن قوله تعالى: * (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) * يقتضي أن يصدر من الزوج شيء يكون مسموعا، وما ذاك إلا أن نقول تقدير الآية فإن عزموا الطلاق وطلقوا فإن الله سميع لكلامهم، عليم بما في قلوبهم.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد إن الله سميع لذلك الإيلاء.
قلنا: هذا يبعد لأن هذا التهديد لم يحصل على نفس الإيلاء، بل إنما حصل على شيء حصل بعد الإيلاء، وهو كلام غيره حتى يكون * (فإن الله سميع عليم) * تهديدا عليه.
الحجة الرابعة: أن قوله تعالى: * (فإن فاؤا، وإن عزموا) * ظاهره التخيير بين الأمرين، وذلك يقتضي أن يكون وقت ثبوتهما واحدا، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك.
الحجة الخامسة: أن الإيلاء في نفسه ليس بطلاق، بل هو حلف على الامتناع من الجماع مدة مخصوصة إلا أن الشرع ضرب مقدارا معلوما من الزمان، وذلك لأن
الرجل قد يترك جماع المرأة مدة من الزمان لا بسبب المضارة، وهذا إنما يكون إذا كان الزمان قصيرا، فأما ترك الجماع زمانا طويلا فلا يكون إلا عند قصد المضارة، ولما كان الطول والقصر في هذا الباب أمرا غير مضبوط، بين تعالى حدا فاصلا بين القصير والطويل، فعند حصول هذه تبين قصد المضارة، وذلك لا يوجب البتة وقوع الطلاق، بل اللائق بحكمة الشرع عند ظهور قصد المضارة أنه يؤمر إما بترك المضارة أو بتخليصها من قيد الإيلاء، وهذا المعنى معتبر في الشرع كما قلنا في ضرب الأجل في مدة العنين وغيره حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن عبد الله بن مسعود قرأ، فإن فاؤا فيهن.
والجواب الصحيح: أن القراءة الشاذة مردودة لأن كل ما كان قرآنا وجب أن يثبت بالتواتر فحيث لم يثبت بالتواتر قطعنا أنه ليس بقرآن وأولى الناس بهذا أبو حنيفة، فإنه بهذا الحرف تمسك في أن التسمية ليست من القرآن، وأيضا فقد بينا أن الآية مشتملة على أمور ثلاثة دلت على أن هذه الفيئة لا تكون في المدة، فالقراءة الشاذة لما كانت مخالفة لها وجب القطع بفسادها.
90

الحكم الحادي عشر
قوله تعالى
* (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الاخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم) *.
قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) *.
اعلم أنه تعالى ذكر في هذا الموضع أحكاما كثيرة للطلاق:
فالحكم الأول للطلاق وجوب العدة: اعلم أن المطلقة هي المرأة التي أوقع الطلاق عليها، وهي إما أن تكون أجنبية أو منكوحة، فإن كانت أجنبية فإذا أوقع الطلاق عليها فهي مطلقة بحسب اللغة، لكنها غير مطلقة بحسب عرف الشرع، والعدة غير واجبة عليها بالإجماع، وأما المنكوحة فهي إما أن تكون مدخولا بها أو لا تكون، فإن لم تكن مدخولا بها لم تجب العدة عليها، قال الله تعالى: * (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) * (الأحزاب: 49) وأما إن كانت مدخولا بها فهي إما أن تكون حائلا أو حاملا، فإن كانت حاملا فعدتها بوضع الحمل لا بالأقراء قال الله تعالى: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * (الطلاق: 4) وأما إن كانت حائلا فأما أن يكون الحيض ممكنا في حقها أو لا يكون فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط، أو للكبر المفرط كانت عدتها بالأشهر لا بالأقراء، قال الله تعالى: * (واللائي يئسن من المحيض) * وأما إذا كان الحيض في حقها ممكنا فإما أن تكون رقيقة، وإما أن تكون حرة، فإن كانت رقيقة كانت عدتها بقرأين لا بثلاثة، أما إذا كانت المرأة منكوحة، وكانت مطلقة بعد الدخول، وكانت حائلا، وكانت من ذوات الحيض وكانت حرة، فعند اجتماع هذه الصفات كانت عدتها بالأقراء الثلاثة على ما بين الله حكمها في هذه الآية، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي بعد التخصيص أكثر من حيث أنه جرت العادة بإطلاق لفظ الكل على الغالب، يقال في الثوب: إنه أسود إذا كان الغالب عليه السواد، أو حصل فيه بياض قليل، فأما إذا كان الغالب عليه البياض، وكان السواد قليلا، كان انطلاق لفظ الأسود عليه كذبا، فثبت أن الشرط في كون العام مخصوصا أن يكون الباقي بعد
91

التخصيص أكثر، وهذه الآية ليست كذلك فإنكم أخرجتم من عمومها خمسة أقسام وتركتم قسما واحدا، فإطلاق لفظ العام في مثل هذا الموضع لا يليق بحكمة الله تعالى.
والجواب: أما الأجنبية فخارجة عن اللفظ فإن الأجنبية لا يقال فيها: إنها مطلقة، وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم، والحاجة إلى البراءة لا تحصل إلا عند سبق الشغل، وأما الحامل والآيسة فهما خارجتان عن اللفظ لأن إيجاب الاعتداد بالأقراء إنما يكون حيث تحصل الإقراء، وهذان القسمان لم تحصل الإقراء في حقهما، وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن الأعم الأغلب باق تحت هذا العموم.
السؤال الثاني: قوله: * (يتربصن) * لا شك أنه خبر، والمراد منه الأمر فما الفائدة في التعبير عن الأمر بلفظ الخبر.
والجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى لو ذكره بلفظ الأمر لكان ذلك يوهم أنه لا يحصل المقصود إلا إذا شرعت فيها بالقصد والاختيار، وعلى هذا التقدير فلو مات الزوج ولم تعلم المرأة ذلك حتى انقضت العدة وجب أن لا يكون ذلك كافيا في المقصود، لأنها لما كانت مأمورة بذلك لم تخرج عن العهدة إلا إذا قصدت أداء التكليف، أما لما ذكر الله تعالى هذا التكليف بلفظ الخبر زال ذلك الوهم، وعرف أنه مهما انقضت هذه العدة حصل المقصود، سواء علمت ذلك أو لم تعلم وسواء شرعت في العدة بالرضا أو بالغضب الثاني: قال صاحب " الكشاف ": التعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر إشعارا بأنه مما يجب أن يتعلق بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجودا، ونظيره قولهم في الدعاء: رحمك الله أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة كأنها وجدت الرحمة فهو يخبر عنها.
السؤال الثالث: لو قال يتربص المطلقات: لكان ذلك جملة من فعل وفاعل، فما الحكمة في ترك ذلك، وجعل المطلقات مبتدأ، ثم قوله: * (يتربص) * إسناد الفعل إلى الفاعل، ثم جعل هذه الجملة خبرا عن ذلك المبتدأ.
الجواب: قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في كتاب " دلائل الإعجاز ": إنك إذا قدمت الاسم فقلت: زيد فعل فهذا يفيد من التأكيد والقوة ما لا يفيده قولك: فعل زيد، وذلك لأن قولك: زيد فعل يستعمل في أمرين أحدهما: أن يكون لتخصيص ذلك الفاعل بذلك الفعل، كقولك: أنا أكتب في المهم الفلاني إلى السلطان، والمراد دعوى الإنسان الانفراد الثاني: أن لا يكون المقصود ذلك، بل المقصود أن تقديم ذكر المحدث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل، كقولهم:
92

هو يعطي الجزيل لا يريد الحصر، بل أن يحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبه ومثله قوله تعالى: * (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) * (النحل: 20) ليس المراد تخصيص المخلوقية وقوله تعالى: * (وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) * (المائدة: 61) وقول الشاعر:
هما يلبسان المجد أحسن لبسة * شجيعان ما اسطاعا عليه كلاهما
والسبب في حصول هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ أنك إذا قلت: عبد الله، فقد أشعرت بأنك تريد الاخبار عنه، فيحصل في العقل شوق إلى معرفة ذلك فإذا ذكرت ذلك الخبر قبله العقل قبول العاشق لمعشوقه، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة.
السؤال الرابع: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء كما قيل: * (تربص أربعة أشهر) * (البقرة: 226) وما الفائدة في ذكر الأنفس.
الجواب: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن، وذلك لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويخبرنها على التربص.
السؤال الخامس: لفظ * (أنفس) * جمع قلة، مع أنهن نفوس كثيرة، والقروء جمع كثرة، فلم ذكر جمع الكثرة مع أن المراد هذه القروء الثلاثة وهي قليلة.
والجواب: أنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في معنى الجمعية، أو لعل القروء كانت أكثر استعمالا في جمع قرء من الإقراء.
السؤال السادس: لم لم يقل: ثلاث قروء، كما يقال: ثلاثة حيض.
الجواب: لأنه أتبع تذكير اللفظ ولفظ القروء مذكر فهذا ما يتعلق بالسؤالات في هذه الآية وبقى من الكلام في هذه الآية مسألة واحدة في حقيقة القروء، فنقول: القروء جمع قرء وقرء، ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الحيض والطهر، قال أبو عبيدة: الإقراء من الأضداد في كلام العرب، والمشهور أنه حقيقة فيهما كالشفق اسم للحمرة والبياض جميعا، وقال آخرون إنه حقيقة في الحيض، مجاز في الطهر، ومنهم من عكس الأمر، وقال قائلون: إنه موضوع بحيثية معنى واحد مشترك بين الحيض والطهر، والقائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أقوال فالأول: أن القرء هو الاجتماع، ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم، وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن، وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي.
والقول الثاني: وهو قول أبي عبيد: أنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة.
93

والقول الثالث: وهو قول أبي عمرو بن العلاء: أن القرء هو الوقت، يقال: أقرأت النجوم إذا طلعت، وأقرأت إذا أفلت، ويقال: هذا قارئ الرياح لوقت هبوبها، وأنشدوا للهذلي: إذا هبت لقارئها الرياح
وإذا ثبت أن القرء هو الوقت دخل فيه الحيض والطهر، لأن لكل واحد منهما وقتا معينا، واعلم أنه تعالى أمر المطلقة أن تعتد بثلاثة قروء، والظاهر يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى ثلاثة أقراء إن تخرج عن عهدة التكليف، إلا أن العلماء أجمعوا على أنه لا يكفي ذلك، بل عليها أن تعتد بثلاثة أقراء من أحد الجنسين، واختلفوا فيه فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها الأطهار، روى ذلك عن ابن عمر، وزيد، وعائشة، والفقهاء السبعة، ومالك، وربيعة، وأحمد رضي الله عنهم في رواية، وقال علي وعمر وابن مسعود هي الحيض، وهو قول أبي حنيفة، والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإسحاق رضي الله عنهم، وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر، وعندهم أطول، حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءا وإن حاضت عقيبه في الحال، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر، ومن الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها، ثم قال إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء، أو يمضي عليها وقت صلاة، حجة الشافعي من وجوه:
الحجة الأولى: قوله تعالى: * (فطلقوهن لعدتهن) * (الطلاق: 1) ومعناه في وقت عدتهن، لكن الطلاق في زمان الحيض منهي عنه فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الحيض، أجاب صاحب " الكشاف " عنه فقال بمعنى مستقبلات لعدتهن، كما يقول لثلاث بقين من الشهر، يريد مستقبلا لثلاث، وأقول هذا الكلام يقوى استدلال الشافعي رضي الله عنه لأن قول القائل لثلاث بقين من الشهر معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه، فكذا ههنا قوله: * (فطلقوهن لعدتهن) * معناه طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه، ولما كان الأمر حاصلا بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة، وذلك هو المطلوب.
الحجة الثانية: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: هل تدرون الأقراء؟ الأقراء الأطهار، ثم قال الشافعي رضي الله عنه: والنساء بهذا أعلم، لأن هذا إنما يبتلي به النساء.
94

الحجة الثالثة: * (القرء) * عبارة عن الجمع، يقال: ما قرأت الناقة نسلا قط، أي ما جمعت في رحمها ولدا قط ومنه قول عمرو بن كلثوم: هجان اللون لم تقرأ جنينا (c)
وقال الأخفش يقال: ما قرأت حيضة، أي ما ضمت رحمها على حيضة، وسمي الحوض مقرأة لأنه يجتمع فيه الماء، وأقرأت النجوم إذا اجتمعت للغروب، وسمي القرآن قرآنا لاجتماع حروفه وكلماته ولاجتماع العلوم الكثيرة فيه، وقرأ القارئ أي جمع الحروف بعضها إلى بعض.
إذا ثبت هذا فنقول: وقت اجتماع الدم إنما هو زمان الطهر لأن الدم يجتمع في ذلك الزمان في البدن.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم، لأن الدم يجتمع في هذا الزمان في الرحم.
قلنا: الدماء لا تجتمع في الرحم البتة بل تنفصل قطرة قطرة أما وقت الطهر فالكل مجتمع في البدن فكان معنى الاجتماع في وقت الطهر أتم، وتمام التقرير فيه أن اسم القرء لما دل على الاجتماع فأكثر أحوال الرحم اجتماعا واشتمالا في الدم آخر الطهر، إذ لو تمتلئ بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج، فمن أولى الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره، والآخر هو حال كمال الاجتماع فكان آخر الطهر هو القرء في الحقيقة وهذا كلام بين.
الحجة الثالثة: أن الأصل أن لا يكون لأحد على أحد من العقلاء المكلفين حق الحبس والمنع من التصرفات تركنا العمل به عند قيام الدليل عليه، وهو أقل ما يسمى بالأقراء الثلاثة وهي الأطهار، لأن الاعتداد بالأطهار أقل زمانا من الاعتداد بالحيض، فلما كان كذلك أثبتنا الأقل ضرورة العمل بهذه الآية وطرحنا الأكثر وفاء بالدلائل الدالة على أن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره قدرة الحبس والمنع.
الحجة الرابعة: أن ظاهر قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء أن تخرج عن العهدة، وكل واحد من الطهر ومن الحيض يسمى بهذا الاسم، فوجب أن تخرج المرأة عن العهدة بأيهما كان على سبيل التخيير، إلا أنا بينا أن مدة العدة بالأطهار أقل من مدة العدة بالحيض، فعلى هذا تكون المرأة مخيرة بين أن تعتد بالمدة الناقصة أو بالمدة الزائدة، وإذا كان كذلك كانت متمكنة من أن تترك القدر الزائد لا إلى بدل، وكل ما كان كذلك لم يكن واجبا فأذن الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب
95

وذلك يقتضي أن لا يكون الاعتداد بمدة الحيض واجبا وهو المطلوب، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه الأول: أن الأقراء في اللغة وإن كانت مشتركة بين الأطهار والحيض إلا أن في الشرع غلب استعمالها في الحيض، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " دعي الصلاة أيام أقرائك " وإذا ثبت هذا كان صرف الأقراء المذكورة في القرآن إلى الحيض أولى.
الحجة الثانية: أن القول بأن الأقراء حيض يمكن معه استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها لأن هذا القائل يقول: إن المطلقة يلزمها تربص ثلاث حيض، وإنما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثالثة ومن قال: إنه طهر يجعلها خارجة من العدة بقرأين وبعض الثالث، لأن عنده إذا طلقها في آخر الطهر تعتد بذلك قرءا فإذا كان في أحد القولين تكمل الأقراء الثلاثة دون القول الآخر كان القول الأول أليق بالظاهر، أجاب الشافعي رضي الله عنه عن ذلك أن الله قال: * (الحج أشهر معلومات) * (الحج: 197) والأشهر جمع وأقله ثلاثة، ثم إنا حملنا الآية على شهرين وبعض الثالث، وذلك هو شوال، وذو القعدة، وبعض ذو الحجة، فكذا ههنا جاز أن تحمل هذه الثلاثة على طهرين وبعض طهر، أجاب الجبائي من شيوخ المعتزلة عن هذا الجواب من وجهين الأول: أنا تركنا الظاهر في تلك الآية لدليل، فلم يلزمنا أن نترك الظاهر ههنا من غير دليل والثاني: أن في العدة تربصا متصلا، فلا بد من استيفاء الثلاثة وليس كذلك أشهر الحج، لأنه ليس فيها فعل متصل، فكأنه قيل: هذه الأشهر وقت الحج لا على سبيل الاستغراق، وأجاب المتأخرون من أصحابنا عن هذه الحجة من وجهين الأول: كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب النقصان عن الثلاثة، فحمله على الحيض يوجب الزيادة، لأنه إذا طلقها في أثناء الطهر كان ما بقي من الطهر غير محسوب من العدة فتحصل الزيادة وعذرهم عنه أن هذه لا بد من تحملها لأجل الضرورة، لأنه لو جاز الطلاق في الحيض لأمرناه بالطلاق في آخر الحيض حتى تعتد بأطهار كاملة، وإذا اختص الطلاق بالطاهر صارت تلك الزيادة متحملة للضرورة، فنحن أيضا نقول: لما صارت الأقراء مفسرة بالأطهار، والله تعالى أمرنا بالطلاق في الطهر، صار تقدير الآية يتربصن بأنفسهن ثلاثة أطهار طهر الطلاق فيه.
والوجه الثاني: في الجواب أنا بينا أن القرء اسم للاجتماع وكمال الاجتماع إنما يحصل في آخر الطهر قرءا تاما، وعلى هذا التقدير لم يلزم دخول النقصان في شيء من القرء.
الحجة الثالثة: لهم: أنه تعالى نقل إلى الشهور عند عدم الحيض فقال: * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر) * (الطلاق: 4) فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار وأيضا
96

لما كانت الأشهر شرعت بدلا عن الأقراء والبدل يعتبر بتمامها، فإن الأشهر لا بد من إتمامها وجب أيضا أن يكون الكمال معتبرا في المبدل، فلا بد وأن تكون الأقراء الكاملة هي الحيض، أما الأطهار فالواجب فيها قرءان وبعض. الحجة الرابعة: لهم: قوله صلى الله عليه وسلم: " طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان " وأجمعوا على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة، فوجب أن تكون عدة الحرة هي الحيض.
الحجة الخامسة: أجمعنا على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيضة، فكذا العدة تكون بالحيضة، لأن المقصود من الاستبراء والعدة شيء واحد.
الحجة السادسة: لهم: أن الغرض الأصلي في العدة استبراء الرحم، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر، فوجب أن يكون المعتبر هو الحيض دون الطهر.
الحجة السابعة: لهم: أن القول بأل القروء هي الحيض احتياط وتغليب لجانب الحرمة، لأن المطلقة إذا مر عليها بقية الطهر وطعنت في الحيضة الثالثة فإن جعلنا القرء هو الحيض، فحينئذ يحرم للغير التزوج بها، وإن جعلنا القرء طهرا، فحينئذ يحل للغير التزوج بها، وجانب التحريم أولى بالرعاية، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال " ولأن الأصل في الإبضاع الحرمة، ولأن هذا أقرب إلى الاحتياط، فكان أولى لقوله صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " فهذا جملة الوجوه في هذا الباب.
واعلم أن عند تعارض هذه الوجوه تضعف الترجيحات، ويكون حكم الله في حق الكل ما أدى اجتهاده إليه.
أما قوله تعالى: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) * فاعلم أن انقضاء العدة لما كان مبنيا على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء، وضع الحمل في حق الحامل، وكان الوصول إلى علم ذلك للرجال متعذرا جعلت المرأة أمينة في العدة، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها، وهو على مذهب الشافعي رضي الله عنه اثنان وثلاثون يوما وساعة، لأن أمرها يحمل على أنها طلقت طاهرة فحاضت بعد سعة، ثم حاضت يوما وليلة وهو أقل الحيض، ثم طهرت خمسة عشر يوما وهو أقل الطهر، مرة أخرى يوما وليلة، ثم طهرت خمسة عشر يوما، ثم رأيت الدم فقد انقضت عدتها بحصول ثلاثة أطهار، فمتى ادعت هذا أو أكثر من هذا قبل قولها، وكذلك إذا كانت حاملا فادعت أنها أسقطت كان القول قولها، لأنها على أصل أمانتها.
97

واعلم أن للمفسرين في قوله: * (ما خلق الله في أرحامهن) * ثلاثة أقوال الأول: أنه الحبل والحيض معا، وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما، أما كتمان الحبل فإن غرضها فيه أن انقضاء عدتها بالقروء أقل زمانا من انقضاء عدتها بوضع الحمل، فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول، وربما أحبت التزوج بزوج آخر. أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني، فلهذه الأغراض تكتم الحبل، وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول، وقد تحب تقصير عتها لتبطيل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات لأنها إذا حاضت أولا فكتمته، ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة، وإذا كتمت أن الحيضة الثالثة وجدت فكمثل، وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها، فثبت أنه كما أن لها غرضا في كتمان الحبل، فكذلك في كتمان الحيض، فوجب حمل النهي على مجموع الأمرين.
القول الثاني: أن المراد هو النهي عن كتمان الحمل فقط، واحتجوا عليه بوجوه أحدها: قوله تعالى: * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) * وثانيها: أن الحيض خارج عن الرحم لا أنه مخلوق في الرحم وثالثها: أن حمل قوله تعالى: * (ما خلق الله في أرحامهن) * على الولد الذي هو جوهر شريف، أولى من حمله على الحيض الذي هو شيء في غاية الخساسة والقذر، واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة، لأنه لما كان المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال التي لا اطلاع لغيرها عليها، وبسببها تختلف أحوال الحرمة والحل في النكاح، فوجب حمل اللفظ على الكل.
القول الثالث: المراد هو النهي عن كتمان الحيض، لأن هذه الآية وردت عقيب ذكر الإقراء، ولم يتقدم ذكر الحمل، وهذا أيضا ضعيف، لأن قوله: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) * كلام مستأنف مستقل بنفسه من غير أن يضاف إلى ما تقدم، فيجب حمله على كل ما يخلق في الرحم.
أما قوله تعالى: * (إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) * فليس المراد أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة، بل هذا كما تقول للرجل الذي يظلم: إن كنت مؤمنا فلا تظلم، تريد إن كنت مؤمنا فينبغي أن يمنعك إيمانك عن ظلمي، ولا شك أن هذا تهديد شديد على النساء، وهو كما قال في الشهادة * (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * (البقرة: 283) وقال: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته وليتق الله ربه) * (البقرة: 283) والآية دالة على أن كل من جعل أمينا في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد.
98

قوله تعالى (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك أن أرادوا اصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم)
اعلم أن هذا هو الحكم الثاني للطلاق وهو الرجعية، وفي البعولة قولان أحدهما: أنه جمع بعل، كالفحولة والذكورة والجدودة والعمومة، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة ولا يجوز إدخالها في كل جمع بل فيما رواه أهل اللغة عن العرب، فلا يقال في كعب: كعوبه، ولا في كلب: كلابة، واعلم أن اسم البعل مما يشترك فيه الزوجان فيقال للمرأة بعلة، كما يقال لها زوجة في كثير من اللغات، وزوج في أفصح اللغات فهما بعلان، كما أنهما زوجان، وأصل البعل السيد المالك فيما قيل، يقال: من بعل هذه الناقة؟ كما يقال: من ربها، وبعل اسم صنم كانوا يتخذونه ربا، وقد كان النساء يدعون أزواجهن بالسؤدد.
القول الثاني: أن العبولة مصدر، يقال: بعل الرجل يبعل بعولة، إذا صار بعلا، وباعل الرجل امرأته إذا جامعها، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أيام التشريق: " أنها أيام أكل وشرب وبعال " وامرأته حسنة البعل إذا كانت تحسن عشرة زوجها، ومنه الحديث " إذا أحسنتن ببعل أزواجكن " وعلى هذا الوجه كان معنى الآية: وأهل بعولتهن.
وأما قوله: * (أحق بردهن في ذلك) * فالمعنى: أحق برجعتهن في مدة ذلك التربص وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما فائدة قوله: * (أحق) * مع أنه لا حق لغير الزوج في ذلك.
الجواب من وجهين الأول: أنه تعالى قال قبل هذه الآية: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) * كان تقدير الكلام: فإنهن إن كتمن لأجل أن يتزوج بهن زوج آخر، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن، وذلك لأنه ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر، فبين أن الزوج الأول أحق منه، وكذا إذا ادعت انقضاء أقرائها ثم علم خلافه فالزوج الأول أحق من الزوج الآخر في العدة الثاني: إذا كانت معتدة فلها في مضي العدة حق انقطاع النكاح فلما كان لهن هذا الحق الذي يتضمن إبطال حق الزوج جاز أن يقول: * (وبعولتهن أحق) * من حيث
99

أن لهم أن يبطلوا بسبب الرجعة ما هن عليه من العدة.
السؤال الثاني: ما معنى الرد؟.
الجواب: يقال: رددته أي رجعته قال تعالى في موضع * (ولئن رددت إلى ربي) * (الكهف: 36) وفي موضع آخر: * (ولئن رجعت) *.
السؤال الثالث: ما معنى الرد في المطلقة الرجعية؟ وهي ما دامت في العدة فهي زوجته كما كانت.
الجواب: أن الرد والرجعة يتضمن إبطال التربص والتحري في العدة فهي ما دامت في العدة كأنه كانت جارية في إبطال حق الزوج وبالرجعة يبطل ذلك، فلا جرم سميت الرجعة ردا، لا سيما ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يحرم الاستمتاع بها إلا بعد الرجعة، ففي الرد على مذهبه شيئان أحدهما: ردها من التربص إلى خلافه الثاني: ردها من الحرمة إلى الحل.
السؤال الرابع: ما الفائدة في قوله تعالى: * (في ذلك) *.
الجواب: أن حق الرد إنما يثبت في الوقت الذي هو وقت التربص، فإذا انقضى ذلك الوقت فقد بطل حق الردة والرجعة.
أما قوله تعالى: * (إن أرادوا إصلاحا) * فالمعنى أن الزوج أحق بهذه المراجعة إن أرادوا الإصلاح وما أرادوا المضارة، ونظيره قوله: * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه) * (البقرة: 231) والسبب في هذه الآية أن في الجاهلية كانوا يرجعون المطلقات، ويريدون بذلك الإضرار بهن ليطلقوهن بعد الرجعة، حتى تحتاج المرأة إلى أن تعتد عدة حادثة، فنهوا عن ذلك، وجعل الشرط في حل المراجعة إرادة الإصلاح، وهو قوله: * (إن أرادوا إصلاحا) *.
فإن قيل: إن كلمة * (إن) * للشرط، والشرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح أن لا يثبت حق الرجعة.
والجواب: أن الإرادة صفة باطنة لا اطلاع لنا عليها، فالشرع لم يوقف صحة المراجعة عليها، بل جوازها فيما بينه وبين الله موقوف على هذه الإرادة، حتى إنه لو راجعها لقصد المضارة استحق الإثم.
أما قوله تعالى: * (ولهن مثل الذي عليهن) * فاعلم أنه تعالى لما بين أنه يجب أن يكون المقصود
100

من المراجعة إصلاح حالها، لا إيصال الضرر إليها بين أن لكل واحد من الزوجين حقا على الآخر.
واعلم أن المقصود من الزوجين لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما مراعيا حق الآخر، وتلك الحقوق المشتركة كثيرة، ونحن نشير إلى بعضها فأحدها: أن الزوج كالأمير والراعي، والزوجة كالمأمور والرعية، فيجب على الزوج بسبب كونه أميرا وراعيا أن يقوم بحقها ومصالحها، ويجب عليها في مقابلة ذلك إظهار الانقياد والطاعة للزوج وثانيها: روي عن ابن عباس أنه قال: " إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي " لقوله تعالى: * (ولهن مثل الذي عليهن) * وثالثها: ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة، مثل ما عليهن من ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن، وهذا أوفق لمقدمة الآية.
أما قوله تعالى: * (وللرجال عليهن درجة) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: يقال: رجل بين الرجلة، أي القوة، وهو أرجل الرجلين أي أقواهما، وفرس رجيل قوي على المشي، والرجل معروف لقوته على المشي، وارتجل الكلام أي قوي عليه من غير حاجة فيه إلى فكرة وروية، وترجل النهار قوي ضياؤه، وأما الدرجة فهي المنزلة وأصلها من درجت الشيء أدرجه درجا، وأدرجته إدراجا إذا طويته، ودرج القوم قرنا بعد قرن أي فنوا ومعناه أنهم طووا عمرهم شيئا فشيئا، والمدرجة قارعة الطريق، لأنها تطوي منزلا بعد منزل، والدرجة المنزلة من منازل الطريق، ومنه الدرجة التي يرتقي فيها.
المسألة الثانية: اعلم أن فضل الرجل على المرأة أمر معلوم، إلا أن ذكره ههنا يحتمل وجهين الأول: أن الرجل أزيد في الفضيلة من النساء في أمور أحدها: العقل والثاني: في الدية والثالث: في المواريث والرابع: في صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة والخامس: له أن يتزوج عليها، وأن يتسرى عليها، وليس لها أن تفعل ذلك مع الزوج والسادس: أن نصيب الزوج في الميراث منها أكثر من نصيبها في الميراث منه والسابع: أن الزوج قادر على تطليقها، وإذا طلقها فهو قادر على مراجعتها، شاءت المرأة أم أبت، أما المرأة فلا تقدر على تطليق الزوج، وبعد الطلاق لا تقدر على مراجعة الزوج ولا تقدر أيضا على أن تمنع الزوج من المراجعة والثامن: أن نصيب الرجل في سهم الغنيمة أكثر من نصيب المرأة، وإذا ثبت فضل الرجل على المرأة في هذه الأمور، ظهر أن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان " وفي خبر آخر: اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم والمرأة، وكان معنى الآية أنه لأجل ما جعل الله للرجال من الدرجة عليهن في الاقتدار كانوا مندوبين إلى أن يوفوا من حقوقهن
101

أكثر، فكان ذكر ذلك كالتهديد للرجال في الإقدام على مضارتهن وإيذائهن، وذلك لأن كل من كانت نعم الله عليه أكثر، كان صدور الذنب عنه أقبح، واستحقاقه للزجر أشد.
والوجه الثاني: أن يكون المراد حصول المنافع واللذة مشترك بين الجانبين، لأن المقصود من الزوجية السكن والألفة والمودة، واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة، وكل ذلك مشترك بين الجانبين بل يمكن أن يقال: إن نصيب المرأة فيها أوفر، ثم إن الزوج اختص بأنواع من حقوق الزوجة، وهي التزام المهر والنفقة، والذب عنها، والقيام بمصالحها، ومنعها عن مواقع الآفات، فكان قيام المرأة بخدمة الرجل آكد وجوبا، رعاية لهذه الحقوق الزائدة وهذا كما قال تعالى: * (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) * (النساء: 34) وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها " ثم قال تعالى: * (والله عزيز حكيم) * أي غالب لا يمنع، مصيب أحكامه وأفعاله، لا يتطرق إليهما احتمال العبث
والسفه والغلط والباطل.
قوله تعالى: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *.
اعلم أن هذا هو الحكم الثالث من أحكام الطلاق، وهو الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: كان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها، ولو طلقها ألف مرة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له، فجاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها، فشكت أن زوجها يطلقها ويراجعها يضارها بذلك، فذكرت عائشة رضي الله عنها ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: * (الطلاق مرتان) *.
المسألة الثانية: اختلف المفسرون في أن هذا الكلام حكم مبتدأ وهو متعلق بما قبله، قال قوم: إنه حكم مبتدأ، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، وهذا التفسير هو قول من قال: الجمع بين الثلاث حرام، وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار: أن هذا هو قول عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين، وأبي موسى الأشعري، وأبي الدرداء وحذيفة.
102

والقول الثاني: في تفسير الآية أن هذا ليس ابتداء كلام بل هو متعلق بما قبله، والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان، ولا رجعة بعد الثلاث، وهذا التفسير هو قول من جوز الجمع بين الثلاث، وهو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه.
حجة القائلين بالقول الأول: أن لفظ الطلاق يفيد الاستغراق، لأن الألف واللام إذا لم يكونا للمعهود أفادا الاستغراق، فصار تقدير الآية: كل الطلاق مرتان، ومرة ثالثة، ولو قال هكذا لأفاد أن الطلاق المشروع متفرق، لأن المرات لا تكون إلا بعد تفرق بالإجماع.
فإن قيل: هذه الآية وردت لبيان الطلاق المسنون، وعندي الجمع مباح لا مسنون.
قلنا: ليس في الآية بيان صفة السنة، بل كان تفسير الأصل الطلاق، ثم قال هذا الكلام وإن كان لفظه لفظ الخبر، إلا أن معناه هو الأمر، أي طلقوا مرتين يعني دفعتين، وإنما وقع العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لما ذكرنا فيما تقدم أن التعبير عن الأمر بلفظ الخبر يفيد تأكيد معنى الأمر، فثبت أن هذه الآية دالة على الأمر بتفريق الطلقات، وعلى التشديد في ذلك الأمر والمبالغة فيه، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين الأول: وهو اختيار كثير من علماء الدين، أنه لو طلقها اثنين أو ثلاثا لا يقع إلا الواحدة، وهذا القول هو الأقيس، لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعى في إدخال تلك المفسدة في الوجود وأنه غير جائز، فوجب أن يحكم بعدم الوقوع.
والقول الثاني: وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه وإن كان محرما إلا أنه يقع، وهذا منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد.
القول الثالث: في تفسير هذه الآية أن نقول: أنها ليست كلاما مبتدأ، بل هي متعلقة بما قبلها، وذلك لأنه تعالى بين في الآية الأولى أن حق المراجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائما أو إلى غاية معينة، فكان ذلك كالمجمل المفتقر إلى المبين، أو كالعام المفتقر إلى المخصص فبين في هذه الآية أن ذلك الطلاق الذي ثبت فيه للزوج حق الرجعة، هو أن يوجد طلقتان فقط وأما بعد الطلقتين فلا يثبت البتة حق الرجعة بالألف واللام في قوله: الطلاق للمعهود السابق، يعني ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة هو أن يوجد مرتين، فهذا تفسير حسن مطابق لنظم الآية والذي يدل على أن هذا التفسير أولى لوجوه الأول: أن قوله: * (وبعولتهن أحق بردهن) * (البقرة: 228) إن كان لكل الأحوال فهو مفتقر إلى المخصص، وإن لم يكن عاما فهو مجمل، لأنه ليس فيه بيان الشرط الذي عنده يثبت حق الرجعة، فيكون مفتقرا إلى البيان، فإذا جعلنا الآية الثانية متعلقة
103

بما قبلها كان المخصص حاصلا مع العام المخصوص، أو كان البيان حاصلا مع المجمل، وذلك أولى من أن لا يكون كذلك، لأن تأخير البيان عن وقت الخطاب وإن كان جائزا إلا أن الأرجح أن لا يتأخر.
الحجة الثانية: إذا جعلنا هذا الكلام مبتدأ، كان قوله: * (الطلاق مرتان) * يقتضي حصر كل الطلاق في المرتين وهو باطل بالإجماع، لا يقال: إنه تعالى ذكر الطلقة الثالثة، وهو قوله: * (أو تسريح بإحسان) * فصار تقدير الآية: الطلاق مرتان ومرة، لأنا نقول: إن قوله: * (أو تسريح بإحسان) * متعلق بقوله: * (فإمساك بمعروف) * لا بقوله: * (الطلاق مرتان) * ولأن لفظ التسريح بالإحسان لا إشعار فيه بالطلاق، ولأنا لو جعلنا التسريح هو الطلقة الثالثة، لكان قوله فإن طلقها طلقة رابعة وإنه غير جائز.
الحجة الثالثة: ما روينا في سبب نزول هذه الآية، إنها إنما نزلت بسبب امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها أن زوجها يطلقها ويراجعها كثيرا بسبب المضارة، وقد أجمعوا على أن سبب نزول الآية لا يجوز أن يكون خارجا عن عموم الآية، فكان تنزيل هذه الآية على هذا المعنى أولى من تنزيلها على حكم آخر أجنبي عنه.
أما قوله تعالى: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الإمساك خلاف الإطلاق والمساك والمسكة اسمان منه، يقال: إنه لذو مسكة ومساكة إذا كان بخيلا قال الفراء: يقال إنه ليس بمساك غلمانه، وفيه مساكة من جبر، أي قوة، وأما التسريح فهو الإرسال، وتسريح الشعر تخليصك بعضه من بعض، وسرح الماشية إذا أرسلها ترعى.
المسألة الثانية: تقدير الآية ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة للزوج، هو أن يوجد مرتان، ثم الواجب بعد هاتين المرتين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان
، ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة، بل على قصد الإصلاح والإنفاع، وفي معنى الآية وجهان أحدهما: أن توقع عليها الطلقة الثالثة، روى أنه لما نزل قوله تعالى: * (الطلاق مرتان) * قيل له صلى الله عليه وسلم: فأين الثالثة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو قوله: * (أو تسريح بإحسان) * والثاني: أن معناه أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة، وهو مروي عن الضحاك والسدي.
واعلم أن هذا الوجه هو الأقرب لوجوه أحدها: أن الفاء في قوله: * (فإن طلقها) * (البقرة: 230) تقتضي وقوع
104

الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح، فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة، لكان قوله: فإن طلقها طلقة رابعة وأنه لا يجوز وثانيها: أنا لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأحوال، لأنه بعد الطلقة الثانية، إما أن يراجعها وهو المراد بقوله: * (فإمساك بمعروف) * أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة وهو المراد بقوله: * (أو تسريح بإحسان) * أو يطلقها وهو المراد بقوله: * (فإن طلقها) * فكانت الآية مشتملة على بيان كل الأقسام، أما لو جعلنا التسريح بالإحسان طلاقا آخر لزم ترك أحد الأقسام الثلاث، ولزم التكرير في ذكر الطلاق وأنه غير جائز وثالثها: أن ظاهر التسريح هو الإرسال والإهمال فحمل اللفظ على ترك المراجعة أولى من حمله على التطليق ورابعها: أنه قال بعد ذكر التسريح * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) * والمراد به الخلع، ومعلوم أنه لا يصح الخلع بعد أن طلقها الثالثة، فهذه الوجوه ظاهرة لو لم يثبت الخبر الذي رويناه في صحة ذلك القول، فإن صح ذلك الخبر فلا مزيد عليه.
واعلم أن المراد من الإحسان، هو أنه إذا تركها أدى إليها حقوقها المالية، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها.
المسألة الثالثة: الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أو لا فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين، وعند ذلك قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك الباب، فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف، وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده.
قوله تعالى: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن
105

يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) *.
اعلم أن هذا هو الحكم الرابع من أحكام الطلاق وهو بيان الخلع، واعلم أنه تعالى لما أمر أن يكون التسريح مقرونا بالإحسان، بين في هذه الآية أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئا من الذي أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها، وذلك لأنه ملك بضعها، واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها، فلا يجوز أن يأخذ منها شيئا، ويدل في هذا النهي أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء، كما قال في سورة النساء: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) * (النساء: 19 خ وقوله ههنا: * (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) * هو كقوله هناك: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * فثبت أن الإتيان بالفاحشة المبينة قد يكون بالبذاء وسوء الخلق، ونظيره قوله تعالى: * (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * (الطلاق: 1) فقيل المراد من الفاحشة المبينة البذاء على أحمائها وقال أيضا: * (فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) * (النساء: 20) فعظم في أخذ شيء من ذلك بعد الإفضاء.
فإن قيل: لمن الخطاب في قوله: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا) * فإن كان للأزواج لم يطابقه قوله: * (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله) * وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء لا يأخذون منهن شيئا. قلنا: الأمران جائزان فيجوز أن يكون أول الآية خطابا للأزواج وآخرها خطابا للأئمة والحكام، وذلك غير غريب في القرآن، ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام، لأنهم هم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الآخذون والمؤتون.
أما قوله تعالى: * (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) * فاعلم أنه تعالى لما منع الرجل أن يأخذ من امرأته عند الطلاق شيئا استثنى هذه الصورة وهي مسألة الخلع وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: روي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب، فأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: فرق بيني وبينه فإني أبغضه، ولقد رفعت طرف الخباء فرأيته يجيء في أقوام فكان أقصرهم قامة، وأقبحهم وجها، وأشدهم سوادا، وإني أكره الكفر بعد الإسلام، فقال ثابت: يا رسول الله مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها، فقال لها: ما تقولين؟ قالت: نعم وأزيده فقال صلى الله عليه وسلم: * (لا حديقته فقط، ثم قال لثابت: خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها
106

ففعل فكان ذلك أول خلع في الإسلام، وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصارية.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن قوله تعالى: * (إلا أن يخافا) * هو استثناء متصل أو منقطع، وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة فقهية، وهي أن أكثر المجتهدين قالوا: يجوز الخلع في غير حالة الخوف والغضب، وقال الأزهري والنخعي وداود: لا يباح الخلع إلا عند الغضب، والخوف من أن لا يقيما حدود الله، فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد وحجتهم أن هذه الآية صريحة في أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من المرأة عند طلاقها شيئا، ثم استثنى الله حالة مخصوصة فقال: * (ألا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) * فكانت الآية صريحة في أنه لا يجوز الأخذ في غير حالة الخوف، وأما جمهور المجتهدين فقالوا: الخلع جائز في حالة الخوف وفي غير حالة الخوف والدليل عليه قوله تعالى: * (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * (النساء: 4) فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصل لنفسها
شيئا بإزاء ما بذل كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى، وأما كلمة * (إلا) * فهي محمولة على الاستثناء المنقطع كما في قوله تعالى: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) * (النساء: 92) أي لكن إن كان خطأ * (فدية مسلمة إلى أهله) * (النساء: 92).
المسألة الثالثة: الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف، وهو الإشفاق مما يكره وقوعه، ويمكن حمله على الظن، وذلك لأن الخوف حالة نفسانية مخصوصة، وسبب حصولها ظن أنه سيحدث مكروه في المستقبل وإطلاق اسم المعلول على العلة مجاز مشهور فلا جرم أطلق على هذا الظن اسم الخوف، وهذا مجاز مشهور فقد يقول الرجل لغيره: قد خرج غلامك بغير إذنك، فتقول: قد خفت ذلك على معنى ظننته وتوهمته، وأنشد الفراء:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة * تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني * أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ثم الذي يؤكد هذا التأويل قوله تعالى فيما بعد هذه الآية: * (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله) * (البقرة: 230). المسألة الرابعة: اعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشرط هو حصول الخوف للرجل وللمرأة، ولا بد ههنا من مزيد بحث، فنقول: الأقسام الممكنة في هذا الباب أربعة لأنه إما أن يكون هذا الخوف حاصلا من قبل المرأة فقط، أو من قبل الزوج فقط، أو لا يحصل الخوف من قبل واحد منهما، أو يكون الخوف حاصلا من قبلهما معا.
107

أما القسم الأول: وهو أن يكون هذا الخوف حاصلا من قبل المرأة، وذلك بأن تكون المرأة ناشزة مبغضة للزوج، فههنا يحل للزوج أخذ المال منها والدليل عليه ما رويناه من حديث جميلة مع ثابت، لأنها أظهرت البغض فجوز رسول الله صلى الله عليه وسلم لها الخلع ولثابت الأخذ.
فإن قيل: فقد شرط تعالى في هذه الآية خوفهما معا، فكيف قلتم: إنه يكفي حصول الخوف منها فقط.
قلنا: سبب هذا الخوف وإن كان أوله من جهة المرأة إلا أنه قد يترتب عليه الخوف الحاصل من قبل الزوج، لأن المرأة تخاف على نفسها من عصيان الله في أمر الزوج، وهو يخاف أنها إذا لم تطعه فإنه يضربها ويشتمها، وربما زاد على قدر الواجب فكان الخوف حاصلا لهما جميعا، فقد يكون ذلك السبب منها لأمر يتعلق بالزوج، ويجوز أن تكره المرأة مصاحبة ذلك الزوج لفقره أو لقبح وجهه، أو لمرض منفر منه، وعلى هذا التقدير تكون المرأة خائفة من معصية الله في أن لا تطيع الزوج، ويكون الزوج خائفا من معصية الله تعالى من أن يقع منه تقصير في بعض حقوقها.
القسم الثاني: أن يكون الخوف من قبل الزوج فقط، بأن يضربها ويؤذيها، حتى تلتزم الفدية فهذا المال حرام بدليل أول هذه الآية، وبدليل سائر الآيات، كقوله: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا) * إلى قوله: * (أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) * (النساء: 19، 20) وهذا مبالغة عظيمة في تحريم أخذ ذلك المال.
القسم الثالث: أن لا يكون هذا الخوف حاصلا من قبل الزوج، ولا من قبل الزوجة، وقد ذكرنا أن قول أكثر المجتهدين: أن هذا الخلع جائز، والمال المأخوذ حلال، وقال قوم إنه حرام.
القسم الرابع: أن يكون الخوف حاصلا من قبلهما معا، فهذا المال حرام أيضا، لأن الآيات التي تلوناها تدل على حرمة أخذ ذلك المال إذا كان السبب حاصلا من قبل الزوج، وليس فيه تقييد بقيد أن يكون من جانب المرأة سبب لذلك أم لا ولأن الله تعالى أفرد لهذا القسم آية أخرى وهو قوله تعالى: * (وإن خفتم شقاق بينهما) * الآية، ولم يذكر فيه تعالى حل أخذ المال، فهذا شرح هذه الأقسام الأربعة، واعلم أن هذا الذي قلناه من هذه الأقسام إنما هو فيما بين المكلفين وبين الله تعالى، فأما في الظاهر فهو جائز هذا هو قول الفقهاء.
المسألة الخامسة: قرأ حمزة: * (إلا أن يخافا) * بضم الياء والباقون بفتحها، قال صاحب " الكشاف "
وجه قراءة حمزة إبدال أن لا يقيما من ألف الضمير، وهو من بدل الاشتمال، كقولك: خيف زيد
108

تركه إقامة حدود الله، وهذا المعنى متأكد بقراءة عبد الله * (إلا أن يخافوا) * وبقوله تعالى: * (فإن خفتم) * ولم يقل: خافا، فجعل الخوف لغيرهما، وجه قراءة العامة إضافة الخوف إليهما على ما بينا أن المرأة تخاف الفتنة على نفسها، والزوج يخاف أنها إن لم تطعه يعتدي عليها.
المسألة السادسة: اختلفوا في قدر ما يجوز وقوع الخلع به، فقال الشعبي والزهري والحسن البصري وعطاء وطاوس: لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال سعيد بن المسيب: بل ما دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له، وأما سائر الفقهاء فإنهم جوزوا المخالعة بالأزيد والأقل والمساوي، واحتج الأولون بالقرآن والخبر والقياس، أما القرآن فقوله تعالى: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) * ثم قال بعد ذلك: * (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * فوجب أن يكون هذا راجعا إلى ما آتاها: وإذا كان كذلك لم يدخل في إباحة الله تعالى إلا قدر ما آتاها من المهر، وأما الخبر روينا أن ثابتا لما طلب من جميلة أن ترد عليه حديقته، فقالت جميلة وأزيده، فقال صلى الله عليه وسلم: لا حديقته فقط، ولو كان الخلع بالزائد جائزا لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يمنعها منه، وأما القياس فهو أنه استباح بعضها، فلو أخذ منها أزيد مما دفع إليها لكان ذلك إجحافا بجانب المرأة وإلحاقا للضرر بها، وأنه غير جائز، وأما سائر الفقهاء فإنهم قالوا الخلع عقد معاوضة، فوجب أن لا يتقيد بمقدار معين، فكما أن للمرأة أن لا ترضى عند النكاح إلا بالصداق الكثير، فكذا للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير، لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج، حيث أظهرت بغضه وكراهته، ويتأكد هذا بما روي أن عمر رضي الله عنه رفعت إليه امرأة ناشزة أمرها فأخذها عمر وحبسها في بيت الزبل ليلتين، ثم قال لها: كيف حالك؟ فقالت: ما بت أطيب من هاتين الليلتين، فقال عمر: اخلعها ولو بقرطها، والمراد اخلعها حتى بقرطها وعن ابن عمر أنه جاءته امرأة قد اختلعت من زوجها بكل شيء وبكل ثوب عليها إلا درعها، فلم ينكر عليها.
المسألة الرابعة: الخلع تطليقة بائنة وهو قول علي وعثمان وابن مسعود والحسن والشعبي والنخعي وعطاء وابن المسيب وشريح ومجاهد ومكحول والزهري، وهو قول أبي حنيفة وسفيان، وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنهم، وقال ابن عباس وطاوس وعكرمة رضي الله عنهم: إنه فسخ للعقد، وهو القول الثاني للشافعي، وبه قال أحمد وإسحق وأبو ثور.
(حجة من قال إنه طلاق) أن الأمة مجمعة على أنه فسخ أو طلاق، فإذا بطل كونه فسخا ثبت أنه طلاق وإنما قلنا: إنه ليس بفسخ لأنه لو كان فسخا لما صح بالزيادة على المهر المسمى: كالإقالة
109

في البيع، وأيضا لو كان الخلع فسخا فإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يجب عليها المهر، كالإقالة، فإن الثمن يجب رده، وإن لم يذكر ولما لم يكن كذلك ثبت أن الخلع ليس بفسخ، وإذا بطل ذلك ثبت أنه طلاق.
حجة من قال إنه ليس بطلاق وجوه:
الحجة الأولى: أنه تعالى قال: * (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * ثم ذكر الطلاق فقال: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * (البقرة: 230) فلو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا، وهذا الاستدلال نقله الخطابي في كتاب معالم السنن عن ابن عباس.
الحجة الثانية: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس بن شماس في مخالعة امرأته، مع أن الطلاق في زمان الحيض أو في طهر حصل الجماع فيه حرام، فلو كان الخلع طلاقا لكان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يستكشف الحال في ذلك، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقا دل على أن الخلع ليس بطلاق.
الحجة الثالثة: روى أبو داود في " سننه " عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة، قال الخطابي: وهذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق، لأن الله تعالى قال: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * (البقرة: 228) فلو كانت هذه مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد.
أما قوله تعالى: * (تلك حدود الله) * فالمعنى أن ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع * (فلا تعتدوها) * أي فلا تتجاوزوا عنها، ثم بعد هذا النهي المؤكد أتبعه بالوعيد، فقال: * (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) * وفيه وجوه أحدها: أنه تعالى ذكره في سائر الآيات * (ألا لعنة الله على الظالمين) * (هود: 18) فذكر الظلم ههنا تنبيها على حصول اللعن وثانيها: أن الظالم اسم ذم وتحقير، فوقوع هذا الاسم يكون جاريا مجرى الوعيد وثالثها: أنه أطلق لفظ الظلم تنبيها على أنه ظلم من الإنسان على نفسه، حيث أقدم على المعصية، وظلم أيضا للغير بتقدير أن لا تتم المرأة عدتها، أو كتمت شيئا مما خلق في رحمها، أو الرجل ترك الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئا لا بسبب نشوز من جهة المرأة، ففي كل هذه المواضع يكون ظالما للغير فلو أطلق لفظ الظالم دل على كونه ظالما لنفسه، وظالما لغيره، وفيه أعظم التهديدات.
110

قوله تعالى
* (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) *.
اعلم أن هذا هو الحكم الخامس من أحكام الطلاق، وهو بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الذين قالوا: إن قوله * (أو تسريح بإحسان) * (البقرة: 229) إشارة إلى الطلقة الثالثة قالوا إن قوله: * (فإن طلقها) * تفسير لقوله: * (تسريح بإحسان) * وهذا قول مجاهد، إلا أنا بينا أن الأولى أن لا يكون المراد من قوله: * (تسريح بإحسان) * الطلقة الثالثة، وذلك لأن للزوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية أحوالا ثلاثة أحدها: أن يراجعها، وهو المراد بقوله: * (فإمساك بمعروف) * (البقرة: 229) والثاني: أن لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة، وهو المراد بقوله: * (أو تسريح بإحسان) * والثالث: أن يطلقها طلقة ثالثة، وهو المراد بقوله: * (فإن طلقها) * فإذا كانت الأقسام ثلاثة، والله تعالى ذكر ألفاظا ثلاثة وجب تنزيل كل واحد من الألفاظ الثلاثة على معنى من المعاني الثلاثة، فأما إن جعلنا قوله: * (أو تسريح بإحسان) * عبارة عن الطلقة الثالثة كنا قد صرفنا لفظين إلى معنى واحد على سبيل التكرار، وأهملنا القسم الثالث، ومعلوم أن الأول أولى.
واعلم أن وقوع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين كالشئ الأجنبي، ونظم الآية * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان * فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) *.
فإن قيل: فإذا كان النظم الصحيح هو هذا فما السبب في إيقاع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين؟.
قلنا: السبب أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة، أما بعدها فلا يبقى شيء من ذلك: فلهذا السبب ذكر الله حكم الرجعة، ثم أتبعه بحكم الخلع، ثم ذكر بعد الكل حكم الطلقة الثالثة لأنها كالخاتمة لجميع الأحكام المعتبرة في هذا الباب والله أعلم.
المسألة الثانية: مذهب جمهور المجتهدين أن المطلقة بالثلاث لا تحل لذلك الزوج إلا بخمس
111

شرائط: تعتد منه، وتعقد للثاني، ويطؤها، ثم يطلقها، ثم تعتد منه، وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب: تحل بمجرد العقد، واختلف العلماء في أن شرط الوطء بالسنة، أو بالكتاب، قال أبو مسلم الأصفهاني: الأمران معلومان بالكتاب وهذا هو المختار.
وقبل الخوض في الدليل لا بد من التنبيه على مقدمة، قال عثمان بن جني: سألت أبا علي عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا: نكح
فلان فلانة، أرادوا أنه عقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته أرادوا به المجامعة، وأقول: هذا الذي قاله أبو علي كلام محقق بحسب القوانين العقلية، لأن الإضافة الحاصلة بين الشيئين مغايرة لذات كل واحد من المضافين، فإذا قيل: نكح فلان زوجته، فهذا النكاح أمر حاصل بينه وبين زوجته فهذا النكاح مغاير له ولزوجته، ثم الزوجة ليست اسما لتلك المرأة بحسب ذاتها بل اسما لتلك الذات بشرط كونها موصوفة بالزوجية، فالزوجة ماهية مركبة من الذات ومن الزوجية والمفرد مقدم لا محالة على المركب.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا قلنا نكح فلان زوجته، فالناكح متأخر عن المفهوم من الزوجية، والزوجية متقدمة على الزوجة من حيث إنها زوجة، تقدم المفرد على المركب، وإذا كان كذلك لزم القطع بأن ذلك النكاح غير الزوجية، إذا ثبت هذا كان قوله: * (حتى تنكح زوجا غيره) * يقتضي أن يكون ذلك النكاح غير الزوجية، فكل من قال بذلك قال: إنه الوطء، فثبت أن الآية دالة على أنه لا بد من الوطء، فقوله: * (تنكح) * يدل على الوطء، وقوله: * (زوجا) * يدل على العقد، وأما قول من يقول: إن الآية غير دالة على الوطء، وإنما ثبت الوطء بالسنة فضعيف، لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدودا إلى غاية، وهي قوله: * (حتى تنكح) * وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته، فيلزم انتهاء الحرمة عند حصول النكاح، فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء الحرمة عند حصول العقد، فكان رفعها بالخبر نسخا للقرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز، أما إذا حملنا النكاح على الوطء، وحملنا قوله: * (زوجا) * على العقد، لم يلزم هذا الإشكال، وأما الخبر المشهور في السنة فما روي أن تميمة بنت عبد الرحمن القرظي، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي ابن عمها، فطلقها ثلاثا، فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير القرظي، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثواب، وأنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى
112

تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " والمراد بالعسيلة الجماع شبه اللذة فيه بالعسل، فلبثت ما شاء الله ثم عادت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن زوجي مسني فكذبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: كذبت في الأول فلن أصدقك في الآخر، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتت أبا بكر فاستأذنت، فقال: لا ترجعي إليه فلبثت حتى مضى لسبيله، فأتت عمر فاستأذنت فقال لئن رجعت إليه لأرجمنك، وفي قصة رفاعة نزل قوله: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) *.
أما القياس فلأن المقصود من توقيف حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يفترش زوجته رجل آخر، ولهذا المعنى قال بعض أهل العلم إنما حرم الله تعالى على نساء النبي أن ينكحن غيره لما فيه من الغضاضة، ومعلوم أن الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصح جعله مانعا وزاجرا.
المسألة الثانية: قال الشافعي: إذا طلق زوجته واحدة أو اثنتين، ثم نكحت زوجا آخر وأصابها، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد لم يكن له عليها إلا طلقة واحدة، وهي التي بقيت له من الطلقات الأولى، وقال أبو حنيفة: بل يملك عليها ثلاثا كما لو نكحت زوجا بعد الثلاث، حجة الشافعي أن هذه طلقة ثالثة، فوجب أن تحصل الحرمة الغليظة، إنما قلنا إنها طلقة ثالثة لأنها طلقة وجدت بعد الطلقتين، والطلقة الثالثة موجبة للحرمة الغليظة، لقوله تعالى: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد) * الآية وقوله: * (فإن طلقها) * أعم من أن يطلقها الطلقة الثالثة مسبوقا بنكاح غيره، أو غير مسبوق بنكاح غيره فكان الكل داخلا فيه.
المسألة الرابعة: مذهب الشافعي رضي الله عنه: إذا تزوج بالمطلقة ثلاثا للغير على أنه إذا أحلها للأول بأن أصابها فلا نكاح بينهما، فهذا نكاح متعة بأجل مجهول، وهو باطل ولو تزوجها بشرط أن لا يطلقها إذا أحلها للأول ففيه قولان أحدهما: لا يصح والثاني: يصح ويبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة، ولو تزوجها مطلقا معتقدا بأنه إذا أحلها طلقها فالنكاح صحيح ويكره ذلك ويأثم به، وقال مالك والثوري وأحمد: هذا النكاح باطل دليلنا أن الآية تدل على أن الحرمة تنتهي بوطء مسبوق بعقد، وقد وجدت فوجب القول بانتهاء الحرمة وحيث حكمنا بفساد النكاح، فوطئها هل يقع به التحليل قولان والأصح أنه لا يقع به التحليل.
أما قوله تعالى: * (فإن طلقها) * فالمعنى: إن طلقها الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة لأنه تعالى قد ذكره بقوله: * (حتى تنكح زوجا غيره فلا جناح عليهما) * أي على المرأة المطلقة والزوج
113

الأول أن يتراجعا بنكاح جديد، فذكر لفظ النكاح بلفظ التراجع، لأن الزوجية كانت حاصلة بينهما قبل ذلك، فإذا تناكحا فقد تراجعا إلى ما كانا عليه من النكاح، فهذا تراجع لغوي، بقي في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: ظاهر الآية يقتضي أن عندما يطلقها الزوج الثاني تحل المراجعة للزوج الأول، إلا أنه مخصوص بقوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * (البقرة: 228) لأن المقصود من العدة استبراء الرحم، وهذا المعنى حاصل ههنا، وهذا هو الذي عول عليه سعيد بن المسيب في أن التحليل يحصل بمجرد العقد، لأن الوطء لو كان معتبرا لكانت العدة واجبة، وهذه الآية تدل على سقوط العدة، لأن الفاء في قوله: * (فلا جناح عليهما أن يتراجعا) * تدل على أن حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني إلا أن الجواب ما قدمنا.
المسألة الثانية: قال الخليل والكسائي: موضع * (أن يتراجعا) * خفض بإضمار الخافض، تقديره: في أن يتراجعا، وقال الفراء: موضعه نصب بنزع الخافض.
أما قوله تعالى: * (إن ظنا أن يقيما حدود الله) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال كثير من المفسرين * (إن ظنا) * أي إن علما وأيقنا أنهما يقيمان حدود الله، وهذا القول ضعيف من وجوه أحدها: أنك لا تقول: علمت أن يقوم
زيد ولكن علمت أنه يقوم زيد والثاني: أن الإنسان لا يعلم ما في القدر وإنما يظنه والثالث: أنه بمنزلة قوله تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) * (البقرة: 228) فإن المعتبر هناك الظن فكذا ههنا، وإذا بطل هذا القول فالمراد منه نفس الظن، أي متى حصل هذا الظن، وحصل لهما العزم على إقامة حدود الله، حسنت هذه المراجعة ومتى لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالمراجعة تحرم. المسألة الثانية: كلمة * (إن) * في اللغة للشرط والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فظاهر الآية يقتضي أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة، لكنه ليس الأمر كذلك، فإن جواز المراجعة ثابت سواء حصل هذا الظن أو لم يحصل إلا أنا نقول: ليس المراد أن هذا شرط لصحة المراجعة: بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى، وقصد الإقامة لحدود الله وأوامره، ثم قال بعد ذلك: * (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (وتلك حدود الله) * إشارة إلى ما بينها من التكاليف، وقوله: * (يبينها) *
114

إشارة إلى الاستقبال والجمع بينهما متناقض وعندي أن هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يتطرق إليها تخصيصات كثيرة، وأكثر تلك المخصصات إنما عرفت بالسنة، فكان المراد والله أعلم أن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله وسيبينها الله تعالى كمال البيان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو كقوله تعالى: * (ليبين للناس ما نزل إليهم) * (النحل: 44).
المسألة الثانية: قرأ عاصم في رواية أبان * (نبينها) * بالنون وهي نون التعظيم والباقون بالياء على أنه يرجع على اسم الله تعالى.
والمسألة الثالثة: إنما خص العلماء بهذا البيان لوجوه أحدها: أنهم هم الذين ينتفعون بالآيات فغيرهم بمنزلة من لا يعتد به، وهو كقوله: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) والثاني: أنه خصهم بالذكر كقوله: * (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (البقرة: 98) والثالث: يعني به العرب لعلمهم باللسان والرابع: يريد من له عقل وعلم، كقوله: * (وما يعقلها إلا العالمون) * (العنكبوت: 43) والمقصود أنه لا يكلف إلا عاقلا عالما بما يكلفه، لأنه متى كان كذلك فقد أزيح عذر المكلف والخامس: أن قوله: * (تلك حدود الله) * يعني ما تقدم ذكره من الأحكام يبينها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب وبعث الرسول ليعلموا بأمره وينتهوا عما نهوا عنه.
قوله تعالى
* (وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم ومآ أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شىء عليم) *.
اعلم أن في الآية مسائل:
115

المسألة الأولى: أول ما يجب تقديمه في هذه الآية أن لقائل أن يقول: لا فرق بين هذه الآية وبين قوله: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * (البقرة: 229) فتكون إعادة هذه الآية بعد ذكر تلك الآية تكريرا لكلام واحد في موضع واحد من غير فائدة وأنه لا يجوز.
والجواب: أما أصحاب أبي حنيفة فهم الذين حملوا قوله: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * على أن الجمع بين الطلقات غير مشروع، وإنما المشروع هو التفريق، فهذا السؤال ساقط عنهم، لأن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق، وهذه الآية في بيان كيفية الرجعة، وأما أصحاب الشافعي رحمهم الله وهم الذين حملوا تلك الآية على كيفية الرجعة فهذا السؤال وارد عليهم، ولهم أن يقولوا: إن من ذكر حكما يتناول صورا كثيرة، وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهم لم يبعد أن يعيد بعد ذلك الحكم العام تلك الصورة الخاصة مرة أخرى، ليدل ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام ما ليس في غيرها وههنا كذلك وذلك لأن قوله: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * (البقرة: 229) فيه بيان أنه لا بد في مدة العدة من أحد هذين الأمرين، وأما في هذه الآية ففيه بيان أن عند مشارفة العدة على الزوال لا بد من رعاية أحد هذين الأمرين ومن المعلوم أن رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبل هذا الوقت، وذلك لأن أعظم أنواع الإيذاء أن يطلقها، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل حتى تبقى في العدة تسعة أشهر، فلما كان هذا أعظم أنواع المضارة لم يقبح أن يعيد الله حكم هذه الصورة تنبيها على أن هذه الصورة أعظم الصور اشتمالا على المضارة وأولاها بأن يحترز المكلف عنها.
المسألة الثانية: قوله: * (فأمسكوهن بمعروف) * إشارة إلى المراجعة واختلف العلماء في كيفية المراجعة، فقال الشافعي رضي الله عنه: لما لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام، لم تكن الرجعة إلا بكلام، وقال أبو حنيفة والثوري رضي الله عنهما: تصح الرجعة بالوطء، وقال مالك رضي الله عنه: إن نوى الرجعة بالوطء كانت رجعة وإلا فلا.
حجة الشافعي رضي الله عنه ما روى أن ابن عمر رضي الله عنه لما طلق زوجته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام " مره فليراجعها ثم ليمسكها " حتى تطهر أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالمراجعة مطلقا، وقيل: درجات الأمر الجواز فنقول: إنه كان مأذونا بالمراجعة في زمان الحيض، وما كان مأذونا بالوطء في زمان الحيض فيلزم أن لا يكون الوطء رجعة وحجة أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه تعالى قال: * (فأمسكوهن
116

بمعروف) * أمر بمجرد الإمساك، وإذا وطئها فقد أمسكها، فوجب أن يكون كافيا، أما الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه لما قال: إنه لا بد من الكلام، فظاهر مذهبه أن الإشهاد على الرجعة مستحب ولا يجب وبه قال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما، وقال في " الإملاء ": هو واجب، وهو اختيار محمد بن جرير الطبري، والحجة فيه قوله تعالى: * (فأمسكوهن بمعروف) * ولا يكون معروفا إلا إذا عرفه الغير، وأجمعنا على أنه لا يجب عرفان غير الشاهد، فوجب أن يكون عرفان الشاهد واجبا وأجاب الأولون بأن المراد بالمعروف هو المراعاة وإيصال الخير لا ما ذكرتم.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: إنه تعالى أثبت عند بلوغ الأجل حق المراجعة، وبلوغ الأجل عبارة عن انقضاء العدة، وعند انقضاء العدة لا يثبت حق المراجعة.
والجواب من وجهين: أحدهما: المراد ببلوغ الأجل مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ، وبالجملة فهذا من باب المجاز الذي يطلق فيه اسم الكل على الأكثر، وهو كقول الرجل إذا قارب البلد: قد بلغنا الثاني: أن الأجل اسم للزمان فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمان يمكن إيقاع الرجعة إليه، بحيث إذا فات لا يبقى بعده مكنة الرجعة، وعلى هذا التأويل فلا حاجة بنا إلى المجاز.
أما قوله تعالى: * (ولا تمسكوهن ضرارا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: فلا فرق بين أن يقول: * (فأمسكوهن بمعروف) * وبين قوله: * (ولا تمسكوهن ضرارا) * لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فما الفائدة في التكرار؟.
والجواب: الأمر لا يفيد إلا مرة واحدة، فلا يتناول كل الأوقات، أما النهي فإنه يتناول كل الأوقات، فلعله يمسكها بمعروف في الحال، ولكن في قلبه أن يضارها في الزمان المستقبل، فلما قال تعالى: * (ولا تمسكوهن ضرارا) * اندفعت الشبهات وزالت الاحتمالات.
المسألة الثانية: قال القفال: الضرار هو المضارة قال تعالى: * (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا) * (التوبة: 107) أي اتخذوا المسجد ضرارا ليضاروا المؤمنين، ومعناه رجع إلى إثارة العداوة وإزالة الألفة وإيقاع الوحشة، وموجبات النفرة، وذكر المفسرون في تفسير هذا الضرار وجوها أحدها: ما روي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يدعها، فإذا قارب انقضاء القرء الثالث راجعها، وهكذا يفعل بها حتى تبقى في العدة تسعة أشهر أو أكثر والثاني: في تفسير الضرار سوء العشرة والثالث: تضييق النفقة، واعلم أنهم كانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال رجاء أن تختلع المرأة منه بمالها.
أما قوله تعالى: * (لتعتدوا) * ففيه وجهان الأول: المراد لا تضاروهن فتكونوا معتدين، يعني فتكون عاقبة أمركم ذلك وهو كقوله: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) أي فكان لهم
117

وهي لام العاقبة والثاني: أن يكون المعنى: لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن، فحينئذ تصيرون عصاة الله، وتكونون متعمدين قاصدين لتلك المعصية، ولا شك أن هذا أعظم أنواع المعاصي.
أما قوله تعالى: * (ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه) * ففيه وجوه أحدها: ظلم نفسه بتعريضها لعذاب الله وثانيها: ظلم نفسه بأن فوت عليها منافع الدنيا والدين، أما منافع الدنيا فإنه إذا اشتهر فيما بين الناس بهذه المعاملة القبيحة لا يرغب في التزوج به ولا معاملته أحد، وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل والثواب الحاصل على الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه.
أما قوله تعالى: * (ولا تتخذوا آيات الله هزوا) * ففيه وجوه الأول: أن من نسي فلم يفعله بعد أن نصب نفسه منصب من يطيع ذلك الأمر، يقال فيه أنه استهزأ بهذا الأمر ويلعب به، فعلى هذا كل من أمر بأنه تجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله، ثم وصلت إليه هذه التكاليف التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة فلا يتشمر لأدائها، كان كالمستهزئ بها، وهذا تهديد عظيم للعصاة من أهل الصلاة وثانيها: المراد: ولا تتسامحوا في تكاليف الله كما يتسامح فيما يكون من باب الهزل والعبث والثالث: قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية، ويقول: طلقت وأنا لاعب، ويعتق وينكح، ويقول مثل ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " من طلق، أو حرر، أو نكح، فزعم أنه لاعب فهو جد " والرابع: قال عطاء: المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصرا عليه أو على مثله، كان كالمستهزئ بآيات الله تعالى، والأقرب هو الوجه الأول، لأن قوله: * (ولا تتخذوا آيات الله هزوا) * تهديد، والتهديد إذا ذكر بعد ذكر التكاليف كان ذلك التهديد تهديدا على تركها، لا على شيء آخر غيرها، واعلم أنه تعالى لما رغبهم في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد، رغبهم أيضا في أدائها بأن ذكرهم أنواع نعمه عليهم، فبدأ أولا بذكرها على سبيل الإجمال فقال: * (واذكروا نعمة الله عليكم) * وهذا يتناول كل نعم الله على العبد في الدنيا وفي الدين، ثم إنه تعالى ذكر بعد هذا نعم الدين، وإنما خصها بالذكر لأنها أجل من نعم الدنيا، فقال: * (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) * والمعنى أنه إنما أنزل الكتاب والحكمة ليعظكم به، ثم قال: * (واتقوا الله) * أي في أوامره كلها، ولا تخالفوه في نواهيه * (واعلموا أن الله بكل شيء عليم) *.
قوله تعالى (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا
118

إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم
الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون
بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله
يعلم وأنتم لا تعلمون
اعلم أن هذا هو الحكم السادس من أحكام الطلاق، وهو حكم المرأة المطلقة بعد انقضاء العدة
وفى الآية مسائل:
(المسألة الأولى) في سبب نزول الآية وجهان: الأول: روى أن معقل بن يسار زوج أخته
جميل بن عبد الله بن عاصم، فطلقها ثم تركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فجاء يخطبها لنفسه ورضيت
المرأة بذلك، فقال لها معقل: انه طلقك ثم تريدين مراجعته وجهي من وجهك حرام ان راجعتيه
فأنزل الله تعالى هذه الآية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقل بن يسار وتلا عليه هذه الآية
فقال معقل: رغم أنفى لأمر ربى، اللهم رضيت وسلمت لأمرك، وأنكح أخته زوجها. والثاني:
روى عن مجاهد والسدي أن جابر بن عبد الله كانت له بنت عم فطلقها زوجها وأراد رجعتها بعد
العدة فأبى جابر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكان جابر يقول: في نزلت هذه الآية
(المسألة الثانية) العضل المنع، يقال: عضل فلان ابنته، إذا منعها من التزوج، فهو يعضلها
ويعضلها، بضم الضاد وبكسرها وأنشد الأخفش:
وان قصائدي لك فاصطنعني... كرائم قد عضلن عن النكاح
وأصل العضل في اللغة الضيق، يقال عضلت المرأة إذا نشب الولد في بطنها، وكذلك عضلت
الشاة، وعضلت الأرض بالجيش إذا ضاقت بهم لكثرتهم. قال أوس بن حجر:
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة... معضلة منا بجيش عرموم
وأعضل المريض الأطباء أي أعياهم، وسميت العضلة عضلة لان القوى المحركة منشؤها منها،
ويقال: داء عضال. للامر إذا اشتد. ومنه قول أوس:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي... يذمك ان ولى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا... وصاحبك الأدنى إذا الامر أعضلا
(المسألة الثالثة) اختلف المفسرون في أن قوله (فلا تعضلوهن) خطاب لمن؟ فقال الأكثرون
119

انه خطاب للأولياء. وقال بعضهم: انه خطاب للأزواج، وهذا هو المختار، الذي يدل عليه أن
قوله تعالى (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) جملة واحدة مركبة من شرط وجزاء،
فالشرط قوله (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) والجزاء قوله (فلا تعضلوهن) ولا شك أن الشرط
وهو قوله (وإذا طلقتم النساء) خطاب مع الأزواج، فوجب أن يكون الجزاء هو قوله (فلا تعضلوهن)
خطابا معهم أيضا، إذ لو لم يكن كذلك لصار تقدير الآية: إذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا
تعضلوهن أيها الأولياء، وحينئذ لا يكون بين الشرط وبين الجزء مناسبة أصلا، وذلك يوجب
تفكك نظم الكلام، وتنزيه كلام الله عن مثله واجب، فهذا كلام قوى متين في تقرير هذا القول،
ثم انه يتأكد بوجهين آخرين: الأول: أن من أول آية في الطلاق إلى هذا الموضع كان الخطاب
كله مع الأزواج، والبتة ما جرى للأولياء ذكر، فكان صرف هذا الخطاب إلى الأولياء على خلاف
النظم. الثاني: ما قبل هذه الآية خطاب مع الأزواج في كيفية معاملتهم مع النساء قبل انقضاء العدة
فإذا جعلنا هذه الآية خطابا لهم في كيفية معاملتهم مع النساء بعد انقضاء العدة، كان الكلام منتظما،
الترتيب مستقيما، أما إذا جعلناه خطابا للأولياء لم يحصل فيه مثل هذا الترتيب الحسن اللطيف،
فكان صرف الخطاب إلى الأزواج أولى
حجة من قال: الآية خطاب للأولياء وجوه: الأول: وهو عمدتم الكبرى: أن الرويات
المشهورة في سبب نزول الآية دالة على أن هذه الآية خطاب مع الأولياء لا مع الأزواج، ويمكن
أن يجاب عنه بأنه لما وقع التعارض بين هذه الحجة وبين الحجة التي ذكرناها كانت الحجة التي ذكرناها
أولى بالرعاية، لان المحافظة على نظم الكلام أولى من المحافظة على خبر الواحد، وأيضا فلان
الروايات متعارضة، فروى عن معقل أنه كان يقول: ان هذه الآية لو كانت خطابا مع الأزواج
لكانت اما أن تكون خطابا قبل انقضاء العدة، أو مع انقضائها، والأول باطل، لان ذلك مستفاد
من الآية، فلو حلمنا هذه الآية على مثل ذلك المعنى كان تكرار من غير فائدة، وأيضا فقد قال
تعالى (لا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) فنهى عن العضل حال
حصول التراضي، ولا يحصل التراضي بالنكاح إلا بعد التصريح بالخطبة، ولا يجوز التصريح بالخطبة
إلا بعد انقضاء العدة، قال تعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله). والثاني:
أيضا باطل لان بعد انقضاء العدة ليس للزوج قدرة على عضل المرأة، فكيف يصرف هذا النهى
إليه، ويمكن أن يجاب عنه بأن بالرجل قد يكون بحيث يشتد ندمه على مفارقة المرأة بعد انقضاء
عدتها، وتلحقه الغيرة إذا رأى من يخطبها، وحينئذ يعضلها عن أن ينكحها غيره إما بأن يجحد الطلاق
120

أو يدعى أنه كان راجعها في العقدة، أو يدس إلى من يخطبها بالتهديد والوعيد، أو يسئ القول فيها
وذلك بأن ينسبها إلى أمور تنفر الرجل عن الرغبة فيها، فالله تعالى نهى الأزواج عن هذه الأفعال
وعرفهم أن ترك هذه الأفعال أزكى لهم وأطهر من دنس الآثام
(الحجة الثالثة لهم) قالوا قوله تعالى (أن ينكحن أزواجهن) معناه: ولا منعوهن من أن ينكحن
الذين كانوا أزواجا لهن قبل ذلك، وهذا الكلام لا ينتظم إلا إذا جعلنا الآية خطايا للأولياء،
لانهم كانوا يمنعونهن من العود إلى الذين كانوا أزواجا لهن قبل ذلك، فاما إذا جعلنا الآية خطابا
للأزواج، فهذا الكلام لا يصح، ويمكن أن يجاب عنه بأن معنى قوله (ينكحن أزواجهن) من
يريدون أن يتزوجوهن، فيكونون أزواجا، والعرب قد تسمى الشئ باسم ما يؤول إليه، فهذا جملة
الكلام في هذا الباب.
(المسألة الرابعة) تمسك الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية في بيان أن النكاح بغير ولى لا يجوز
وبنى ذلك الاستدلال على أن الخطاب في هذه الآية مع الأولياء، قال: وإذا ثبت هذا وجب أن
يكون التزويج إلى الأولياء لا إلى النساء، لأنه لو كان للمرأة أن تتزوج بنفسها، أو توكل من يزوجها
لما كان الولي قادرا على عضلها من النكاح، ولو لم يقدر الولي على هذا العضل لما نهاه الله عز وجل
عن العضل، وحيث نهى عن العضل كان قدرا على العضل، وإذا كان الولي قادرا على العضل،
وجب أن لا تكون المرأة متمكنة من النكاح، واعلم أن هذا الاستدلال بناء على أن هذا الخطاب
مع الأولياء، وقد تقدم ما فيه من المباحث، ثم إن سلمنا هذه المقدمة لكن لم لا يجوز أن يكون
المراد بقوله (ولا تعضلوهن) أن يخليها ورأيها في ذلك، وذلك لان الغالب في النساء الأيامى أن
يركن إلى رأى الأولياء في باب النكاح، وإن كان الاستدلال الشرعي لهن، وإن يكن تحت تدبيرهم
ورأيهم، وحينئذ يكونون متمكنين من منعهن لتمكنهم من تزويجهن، فيكون النهى محمولا على هذا
الوجه، وهو منقول عن ابن عباس في تفسير الآية، وأيضا فثبوت العضل في حق الولي ممتنع،
لأنه مهما عضل لا يبقى لعضله أثر، وعلى هذا الوجه فصدور العضل عنه غير معتبر، وتمسك أبو
حنيفة رضي الله عنه بقوله تعالى (أن ينكحن أزواجهن) على أن النكاح بغير ولى جائز، وقاله انه
تعالى أضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله، والتصرف إلى مباشرة ونهى الولي عن منعها
من ذلك، ولو كان ذلك التصرف فاسدا لما نهى الولي عن منعها منه، قالوا: وهذا النص متأكد
بقوله تعالى (حتى تنكح زوجا غيره) وبقوله (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن
بالمعروف وتزويجها نفسها من الكف، فعل بالمعروف، فوجب أن يصح وحقيقة هذه الإضافة على
121

المباشر دون الخاطب، وأيضا قوله تعالى (وامرأة مؤمنة إن مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن
يستنكحها) دليل واضح مع أنه لم يحضر هناك ولى البتة، وأجاب أصحابنا بأن الفعل كما يضاف إلى
المباشر قد يضاف أيضا إلى المتسبب، يقال: بنى الأمير دارا، وضرب دينارا، وهذا وإن كان مجازا
إلا أنه يجب المصير إليه لدلالة الأحاديث على بطلان هذا النكاح.
(المسألة الخامسة) قوله تعالى: قوله تعالى (فبلغن أجلهن) محمول في هذه الآية على انقضاء العدة، قال
الشافعي رضي الله عنه: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين، ومعنى هذا الكلام أنه تعالى قال
في الآية السابقة (فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) ولو كانت عدتها قد
انقضت لما قال (فأمسكوهن بمعروف) لان إمساكها بعد انقضاء العدة لا يجوز، ولما قال
(أو سرحوهن بمعروف) لأنها بعد انقضاء العدة تكون مسرحة، فلا حاجة إلى تسريحها، وأما هذه
الآية التي نحن فيها فالله تعالى نهى عن عضلهن عن التزوج بالأزواج، وهذا النهى إنما يحسن
في الوقت الذي يمكنها أن تتزوج فيه بالأزواج، وذلك إنما يكون بعد انقضاء العدة، فهذا هو المراد
من قول الشافعي رضي الله عنه، دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين.
أما قوله تعالى (إذا تراضوا بينهم بالمعروف) ففيه مسائل:
(المسألة الأولى) في التراضي وجهان: أحدهما: ما وافق الشرع من عقد حلال ومهر جائز
وشهود عدول، وثانيها: أن المراد منه ما يضاد ما ذكره في قوله تعالى (ولا تمسكوهن ضرار لتعتدوا)
فيكون معنى الآية أن يرضى كل واحد منهما ما لزمه في هذا العقد لصاحبه، حتى تحصل الصحبة
الجميلة، وتدوم الألفة.
(المسألة الثانية) قال بعضهم: التراضي بالمعروف، هو مهر المثل، وفرعوا عليه مسألة فقهية
وهي أنها إذا زوجت نفسها ونقصت عن مهر مثلها نقصانا فاحشا، فالنكاح صحيح عند أبي حنيفة،
وللولي أن يعترض عليها بسبب النقصان عن المهر، وقال أبو يوسف ومحمد: ليس للولي ذلك
حجة أبي حنيفة رحمه الله في هذه الآية هو قوله تعالى (إذا تراضوا بينهم بالمعروف) وأيضا
أنها بهذا النقصان أرادت إلحاق الشين بالأولياء، لان الأولياء يتضررون بذلك لانهم يعيرون
بقلة المهور، ويتفاخرون بكثرتها، ولهذا يكتمون المهر القليل حياء، ويظهرون المهر الكثير رياء،
وأيضا فان نساء العشيرة يتضررن بذلك لأنه ربما وقعت الحاجة إلى إيجاب مهر المثل لبعضهن،
فيعتبرون ذلك بهذا المهر القليل، فلا جرم للأولياء أن يمنعوها عن ذلك، وينوبوا
عن نساء العشيرة، ثم أنه تعالى لما بين حكمة التكليف قرنه بالتهديد، فقال (ذلك يوعظ به
122

من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر) وذلك لان من حق الوعظ أن يتضمن التحذير
من المخالفة، كما يتضمن الترغيب في الموافقة، فكانت الآية تهديدا من هذا الوجه، وفى
الآية سؤالان:
(السؤال الأول) لم وحد الكاف في قوله تعالى ذلك مع أنه يخاطب جماعة؟
والجواب: هذا جائز في اللغة، والتثنية أيضا جائزة، والقرآن نزل باللغتين جميعا،
قال تعالى (ذلكما مما علمني ربى) وقال (فذلكن الذي لمتنني فيه) وقال (يوعظ به) وقال (ألم أنهكما
عن تلكما الشجرة)
(السؤال الثاني) لم خصص هذا الوعظ بالمؤمنين دون غيرهم؟
الجواب: لوجوه: أحدها: لما كان المؤمن هو المنتفع به حبسن تخصيصه به، كقوله (هدى
للمتقين) وهو هدى للكل، كما قال (هدى للناس) وقال (انما أنت منذر من يخشاها، انما تنذر
من اتبع الذكر) مع أنه كان منذر للكل، كما قال (ليكون للعالمين نذيرا). وثانيها: احتج بعضهم
بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الدين، قالوا: والدليل عليه أن قوله ذلك إشارة
إلى ما تقدم ذكره من بيان الاحكام، فلما خصص ذلك بالمؤمنين دل على أن التكليف بفروع
الشرائع غير حاصل إلا في حق المؤمنين وهذا ضعيف، لأنه ثبت أن ذلك التكليف عام، قال
تعالى (ولله على الناس حج البيت). وثالثها: أن أن بيان الاحكام وإن كان عاما في حق المكلفين،
الا أن كون ذلك البيان وعظا مختص بالمؤمنين، لان هذه التكاليف انما توجب على الكفار على سبيل
إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز، أما المؤمن الذي يقر بحقيقتها، فإنها إنها تذكر له وتشرح له
على سبيل التنبيه والتحذير، ثم قال (ذلكم أزكى لكم وأطهر) يقال: زكا الزرع إذا نما، فقوله
(أزكى لكم) إشارة إلى استحقاق الثواب الدائم، وقوله (وأطهر) إشارة إلى إزالة الذنوب والمعاصي
التي يكون حصولها سببا لحصول العقاب، ثم قال (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) والمعنى أن الكلف
وأن كان يعلم وجه الصلاح في هذه التكاليف على الجملة، الا أن التفصيل في هذه الأمور غير معلوم
والله تعالى عالم في كل ما أمر ونهى بالكمية والكيفية بحسب الواقع وبحسب التقدير، لأنه تعالى عالم
بما لا نهاية له من المعلومات، فلما كان كذلك صح أن يقول (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) ويجوز أن
يراد به، والله يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف، ومن لا يعمل بها وعلى جميع الوجوه فالمقصود
من الآيات تقرير طريقة الوعد والوعيد.
123

والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة
وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها
لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فان أرادا
فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما
الحكم العاشر
الرضاع
قوله تعالى (والوالدات دات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) *.
اعلم أن في قوله تعالى: * (والوالدات) * ثلاثة أقوال الأول: أن المراد منه ما أشعر ظاهر اللفظ وهو جميع الوالدات، سواء كن مزوجات أو مطلقات، والدليل عليه أن اللفظ عام وما قام دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه.
والقول الثاني: المراد منه: الوالدات المطلقات، قالوا: والذي يدل على أن المراد ذلك وجهان أحدها: أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آية الطلاق، فكانت هذه الآية تتمة تلك الآيات ظاهرا، وسبب التعليق بين هذه الآية وبين ما قبلها أنه إذا حصلت الفرقة حصل التباغض والتعادي، وذلك يحمل المرأة على إيذاء الولد من وجهين أحدهما: أن إيذاء الولد يتضمن إيذاء الزوج المطلق والثاني: أنها ربما رغبت في التزوج بزوج آخر، وذلك يقتضي إقدامها على إهمال أمر الطفل فلما كان هذا الاحتمال قائما لا جرم ندب الله الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم، فقال: * (والوالدات يرضعن أولادهن) * والمراد المطلقات.
الحجة الثانية لهم: ما ذكره السدي، قال: المراد بالوالدات المطلقات، لأن الله تعالى قال بعد هذه الآية: * (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن) * ولو كانت الزوجية
124

باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا لأجل الرضاع، واعلم أنه يمكن الجواب عن الحجة الأولى أن هذه الآية مشتملة على حكم مستقل بنفسه، فلم يجب تعلقها بما قبلها، وعن الحجة الثانية لا يبعد أن تستحق المرأة قدرا من المال لمكان الزوجية وقدرا آخر لمكان الرضاع فإنه لا منافاة بين الأمرين.
القول الثالث: قال الواحدي في " البسيط ": الأولى أن يحمل على الزوجات في حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة.
فإن قيل: إذا كانت الزوجية باقية فهي مستحقة النفقة والكسوة بسبب النكاح سواء أرضعت الولد أو لم ترضع فما وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع.
قلنا: النفقة والكسوة يجبان في مقابلة التمكين، فإذا أشغلت بالحضانة والإرضاع لم تتفرغ لخدمة الزوج فربما توهم متوهم أن نفقتها وكسوتها تسقط بالخلل الواقع في خدمة الزوج فقطع الله ذلك الوهم بإيجاب الرزق والكسوة، وإن اشتغلت المرأة بالإرضاع، هذا كله كلام الواحدي رحمه الله.
أما قوله تعالى: * (يرضعن أولادهن) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا الكلام وإن كان في اللفظ خبرا إلا أنه في المعنى أمر وإنما جاز ذلك لوجهين الأول: تقدير الآية: والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه، إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه والثاني: أن يكون معنى يرضعن: ليرضعن، إلا أنه حذف ذلك للتصرف في الكلام مع زوال الإيهام.
المسألة الثانية: هذا الأمر ليس أمر إيجاب، ويدل عليه وجهان الأول: قوله تعالى: * (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) * (الطلاق: 6) ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة والثاني: أنه تعالى قال بعد ذلك: * (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) * (الطلاق: 6) وهذا نص صريح، ومنهم من تمسك في نفي الوجوب عليها بقوله تعالى: * (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن) * (البقرة: 233) والوالدة قد تكون مطلقة فلم يكن وجوب رزقها على الوالد إلا بسبب الإرضاع، فلو كان الإرضاع واجبا عليها لما وجب ذلك، وفيه البحث الذي قدمناه، إذا ثبت أن الإرضاع غير واجب على الأم فهذا الأمر محمول على الندب من حيث أن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من سائر الألبان، ومن حيث إن شفقة الأم عليه أتم من شفقة غيرها هذا إذا لم يبلغ الحال في الولد إلى حد الاضطرار بأن لا يوجد غير الأم، أو لا يرضع الطفل إلا منها، فواجب عليها عند ذلك أن ترضعه كما يجب على كل أحد مواساة المضطر في الطعام.
أما قوله تعالى: * (حولين كاملين) * ففيه مسائل:
125

المسألة الأولى: أصل الحول من حال الشيء يحول إذا انقلب فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني، وإنما ذكر الكمال لرفع التوهم من أنه على مثل قولهم أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين، وإنما أقام حولا وبعض الآخر، ويقولون: اليوم يومان مذ لم أره، وإنما يعنون يوما وبعض اليوم الآخر.
المسألة الثانية: اعلم أنه ليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب ويدل عليه وجهان الأول: أنه تعالى قال بعد ذلك: * (لمن أراد أن يتم الرضاعة) * فلما علق هذا الإتمام بإرادتنا ثبت أن هذا الإتمام غير واجب الثاني: أنه تعالى قال: * (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) * فثبت أنه ليس المقصود من ذكر هذا التحديد إيجاب هذا المقدار، بل فيه وجوه الأول: وهو الأصح أن المقصود منه قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع، فقدر الله ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند وقوع التنازع بينهما، فإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم لم يكن له ذلك، وكذلك لو كان على عكس هذا فأما إذا اجتمعا على أن يفطما الولد
قبل تمام الحولين فلهما ذلك.
الوجه الثاني: في المقصود من هذا التحديد هو أن للرضاع حكما خاصا في الشريعة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " والمقصود من ذكر هذا التحديد بيان أن الارتضاع ما لم يقع في هذا الزمان، لا يفيد هذا الحكم، هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: مدة الرضاع ثلاثون شهرا.
حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه:
الحجة الأولى: أنه ليس المقصود من قوله: * (لمن أراد أن يتم الرضاعة) * هو التمام بحسب حاجة الصبي إلى ذلك، إذ من المعلوم أن الصبي كما يستغني عن اللبن عند تمام الحولين، فقد يحتاج إليه بعد الحولين لضعف في تركيبه لأن الأطفال يتفاوتون في ذلك، وإذا لم يجز أن يكون المراد بالتمام هذا المعنى، وجب أن يكون المراد هو الحكم المخصوص المتعلق بالرضاع، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على أن حكم الرضاع لا يثبت إلا عند حصول الإرضاع في هذه المدة.
الحجة الثانية: روي عن علي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا رضاع بعد فصال " وقال تعالى: * (وفصاله في عامين) * (لقمان: 14).
الحجة الثالثة: ما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحرم من
126

الرضاع إلا ما كان في الحولين ".
والوجه الثالث: في المقصود من هذا التحديد ما روى ابن عباس أنه قال للتي تضع لستة أشهر أنها ترضع حولين كاملين، فإن وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهرا، وقال آخرون: الحولان هذا الحد في رضاع كل مولود، وحجة ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى قال: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * (الأحقاف: 15) دلت هذه الآية على أن زمان هاتين الحالتين هو هذا القدر من الزمان، فكما ازداد في مدة إحدى الحالتين انتقص من مدة الحالة الأخرى.
المسألة الثالثة: روي أن رجلا جاء إلى علي رضي الله عنه فقال: تزوجت جارية بكرا وما رأيت بها ريبة، ثم ولدت لستة أشهر، فقال علي رضي الله عنه قال الله: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * وقال تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * فالحمل ستة أشهر الولد ولدك، وعن عمر أنه جئ بامرأة وضعت لستة أشهر، فشاور في رجمها، فقال ابن عباس: إن خاصمتكم بكتاب الله خصمتكم، ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أن أقل الحمل ستة أشهر.
أما قوله تعالى: * (لمن أراد أن يتم الرضاعة) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: * (أن يكمل الرضاعة) * وقرئ * (الرضاعة) * بكسر الراء.
المسألة الثانية: في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان الأول: أن تقدير الآية: هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة، وعن قتادة أنزل الله حولين كاملين، ثم أنزل اليسر والتخفيف فقال: * (لمن أراد أن يتم الرضاعة) * والمعنى أنه تعالى جوز النقصان بذكر هذه الآية والثاني: أن اللام متعلقة بقوله: * (يرضعن) * كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الإرضاع من الآباء، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم لما بيناه.
أما قوله تعالى: * (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: * (المولود له) * هو الوالد، وإنما عبر عنه بهذا الاسم لوجوه الأول: قال صاحب " الكشاف ": إن السبب فيه أن يعلم أن الوالدات إنما ولدن الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات وأنشد للمأمون بن الرشيد:
وإنما أمهات الناس أوعية * مستودعات وللآباء أبناء
الثاني: أن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد لكونه مولودا على فراشه على ما قال صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش " فكأنه قال: إذا ولدت المرأة الولد للرجل وعلى فراشه، وجب
127

عليه رعاية مصالحه، فهذا تنبيه على أن سبب النسب واللحاق مجرد هذا القدر الثالث: أنه قيل في تفسير قوله: * (يا ابن أم) * (طه: 94) أن المراد منه أن الأم مشفقة على الولد، فكان الغرض من ذكر الأم تذكير الشفقة، فكذا ههنا ذكر الوالد بلفظ المولود له تنبيها على أن هذا الولد إنما ولد لأجل الأب، فكان نقصه عائدا إليه، ورعاية مصالحه لازمة له، كما قيل: كلمة لك، وكلمة عليك.
المسألة الثانية: أنه تعالى كما وصى الأم برعاية جانب الطفل في قوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * وصى الأب برعاية جانب الأم حتى تكون قادرة على رعاية مصلحة الطفل فأمره برزقها وكسوتها بالمعروف، والمعرف في هذا الباب قد يكون محدودا بشرط وعقد، وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف، لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها، فقد استغنى عن تقدير الأجرة، فإنه إن كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها من الجوع والعري، فضررها يتعدى إلى الولد.
المسألة الثالثة: أنه تعالى وصى الأم برعاية الطفل أولا، ثم وصى الأب برعايته ثانيا، وهذا يدل على أن احتياج الطفل إلى رعاية الأم أشد من احتياجه إلى رعاية الأب، لأنه ليس بين الطفل وبين رعاية الأم واسطة البتة، أما رعاية الأب فإنما تصل إلى الطفل بواسطة، فإنه يستأجر المرأة على إرضاعه وحضانته بالنفقة والكسوة، وذلك يدل على أن حق الأم أكثر من حق الأب، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرة مشهورة، ثم قال تعالى: * (لا تكلف نفس إلا وسعها) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: التكليف: الإلزام، يقال: كلفه الأمر فتكلف وكلف، وقيل: إن أصله من الكلف، وهو الأثر على الوجه من السواد، فمعنى تكلف الأمر اجتهد أن يبين
فيه أثره وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره، والوسع ما يسع الإنسان فيطيقه أخذه، من سعة الملك أي العرض، ولو ضاق لعجز عنه، والسعة بمنزلة القدرة، فلهذا قيل: الوسع فوق الطاقة.
المسألة الثانية: المراد من الآية أن أب هذا الصبي لا يكلف الإنفاق عليه وعلى أمه، إلا ما تتسع له قدرته، لأن الوسع في اللغة ما تتسع له القدرة، ولا يبلغ استغراقها، وبين أنه لا يلزم الأب إلا ذلك، وهو نظير قوله في سورة الطلاق: * (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) * ثم قال: * (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) * ثم بين في النفقة أنها على قدر إمكان الرجل بقوله: * (لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * (الطلاق: 6، 7).
128

المسألة الثالثة: المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا ما يقدرون عليه، لأنه أخبر أنه لا يكلف أحدا إلا ما تتسع له قدرته، والوسع فوق الطاقة، فإذا لم يكلفه الله تعالى ما لا تتسع له قدرته، فبأن لا يكلفه ما لا قدرة له عليه أولى.
ثم قال: * (لا تضار والدة بولدها) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتيبة عن الكسائي * (لا تضار) * بالرفع والباقون بالفتح، أما الرفع فقال الكسائي والفراء إنه نسق على قوله: * (لا تكلف) * قال علي بن عيسى: هذا غلط لأن النسق بلا إنما هو إخراج الثاني مما دخل فيه الأول نحو: ضربت زيدا لا عمرا فأما أن يقال: يقوم زيد لا يقعد عمرو، فهو غير جائز على النسق، بل الصواب أنه مرفوع على الاستئناف في النهي كما يقال: لا يضرب زيد لا تقتل عمرا وأما النصب فعلى النهي، والأصل لا تضار فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، يقال: يضارر رجل زيدا، وذلك لأن أصل الكلمة التضعيف، فأدغمت إحدى الراءين في الأخرى، فصار لا تضار، كما تقول: لا تردد ثم تدغم فتقول: لا ترد بالفتح قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) * (المائدة: 54) وقرأ الحسن: * (لا تضار) * بالكسر وهو جائز في اللغة، وقرأ أبان عن عاصم * (لا تضار) * مطهرة الراء مكسورة على أن الفعل لها. المسألة الثانية: قوله: * (لا تضار) * يحتمل وجهين كلاهما جائز في اللغة، وإنما احتمل الوجهين نظرا لحال الإدغام الواقع في تضار أحدهما: أن يكون أصله لا تضار بكسر الراء الأولى، وعلى هذا الوجه تكون المرأة هي الفاعلة للضرار والثاني: أن يكون أصله لا تضارر بفتح الراء الأولى فتكون المرأة هي المفعول بها الضرار، وعلى الوجه الأول يكون المعنى: لا تفعل الأم الضرار بالأب بسبب إيصال الضرار إلى الولد، وذلك بأن تمتنع المرأة من إرضاعه مع أن الأب ما امتنع عليها في النفقة من الرزق والكسوة، فتلقى الولد عليه، وعلى الوجه الثاني معناه: لا تضارر، أي لا يفعل الأب الضرار بالأم فينزع الولد منها مع رغبتها في إمساكها وشدة محبتها له، وقوله: * (ولا مولود له بولده) * أي: ولا تفعل الأم الضرار بالأب بأن تلقى الولد عليه، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد.
فإن قيل: لم قال * (تضار) * والفعل لواحد؟.
قلنا لوجوه أحدها: أن معناه المبالغة، فإن إيذاء من يؤذيك أقوى من إيذاء من لا يؤذيك والثاني: لا يضار الأم والأب بأن لا ترضع الأم أو يمنعها الأب وينزعه منها والثالث: أن المقصود
129

لكل واحد منهما بإضرار الولد إضرار الآخر، فكان ذلك في الحقيقة مضارة.
المسألة الثالثة: قوله: * (لا تضار والدة بولدها) * وإن كان خبرا في الظاهر، لكن المراد منه النهي، وهو يتناول إساءتها إلى الولد بترك الرضاع، وترك التعهد والحفظ.
وقوله: * (ولا مولود له بولده) * يتناول كل المضار، وذلك بأن يمنع الوالدة أن ترضعه وهي به أرأف وقد يكون بأن يضيق عليها النفقة والكسوة أو بأن يسيء العشرة فيحملها ذلك على إضرارها بالولد، فكل ذلك داخل في هذا النهي والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وعلى الوارث مثل ذلك) * فاعلم أنه لما تقدم ذكر الولد وذكر الوالد وذكر الوالدات احتمل في الوارث أن يكون مضافا إلى واحد من هؤلاء، والعلماء لم يدعوا وجها يمكن القول به إلا وقال به بعضهم.
فالقول الأول: وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن المراد وارث الأب، وذلك لأن قوله: * (وعلى الوارث مثل ذلك) * معطوف على قوله: * (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) * وما بينهما اعتراض لبيان المعروف، والمعنى أن المولود له إن مات فعلى وارثه مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، يعني إن مات المولود له لزم وارثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور، وهو رعاية المعروف وتجنب الضرار، قال أبو مسلم الأصفهاني هذا القول ضعيف، لأنا إذا حملنا اللفظ على وارث الولد والولد أيضا وارثه، أدى إلى وجوب نفقته على غيره، حال ماله مال ينفق منه وإن هذا غير جائز، ويمكن أن يجاب عنه بأن الصبي إذا ورث من أبيه مالا فإنه يحتاج إلى من يقوم بتعهده وينفق ذلك المال عليه بالمعروف، ويدفع الضرار عنه، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب.
القول الثاني: أن المراد وارث الأب يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجبا على الأب وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه أي وارث هو؟ فقيل: هو العصبات دون الأم، والأخوة من الأم، وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم وقيل: هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى، قالوا: النفقة على قدر الميراث، وقيل: الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واعلم أن ظاهر الكلام يقتضي أن لا فضل بين وارث ووارث، لأنه تعالى أطلق اللفظ فغير ذي الرحم بمنزلة ذي
الرحم، كما أن البعيد كالقريب، والنساء كالرجال، ولولا أن الأم خرجت من ذلك من حيث مر ذكرها بإيجاب الحق
130

لها، لصح أيضا دخولها تحت الكلام، لأنها قد تكون وارث كغيرها.
القول الثالث: المراد من الوارث الباقي من الأبوين، وجاء في الدعاء المشهور: واجعله الوارث منا، أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة.
القول الرابع: أراد بالوارث الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنه إن كان له مال وجب أجر الرضاعة في ماله، وإن لم يكن له مال أجبرت أمه على إرضاعه، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان، وهو قول مالك والشافعي.
أما قوله تعالى: * (مثل ذلك) * فقيل من النفقة والكسوة عن إبراهيم، وقيل: من ترك الإضرار عن الشعبي والزهري والضحاك، وقيل: منهما عن أكثر أهل العلم.
أما قوله تعالى: * (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) * فاعلم أن في الآية مسائل: المسألة الأولى: في الفصال قولان الأول: أنه الفطام لقوله تعالى: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * (الأحقاف: 15) وإنما سمي الفطام بالفصال لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات قال المبرد: يقال فصل الولد عن الأم فصلا وفصالا، وقرئ بهما في قوله: * (وحمله وفصاله) * والفصال أحسن، لأنه إذا انفصل من أمه فقد انفصلت منه، فبينهما فصال نحو القتال والضراب، وسمي الفصيل فصيلا لأنه مفصول عن أمه، ويقال: فصل من البلد إذا خرج عنه وفارقه قال تعالى: * (فلما فصل طالوت بالجنود) * (البقرة: 249) واعلم أن حمل الفصال ههنا على الفطام هو قول أكثر المفسرين.
واعلم أنه تعالى لما بين أن الحولين الكاملين هو تمام مدة الرضاع وجب حمل هذه الآية على غير ذلك حتى لا يلزم التكرار، ثم اختلفوا فمنهم من قال: المراد من هذه الآية أن الفطام قبل الحولين جائز ومنهم من قال: إنها تدل على أن الفطام قبل الحولين جائز، وبعده أيضا جائز وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
حجة القول الأول أن ما قبل الآية لما دل على جواز الفطام عند تمام الحولين كان أيضا دليلا على جواز الزيادة على الحولين وإذا كان كذلك بقيت هذه الآية دالة على جواز الفطام قبل تمام الحولين فقط.
وحجة القول الثاني أن الولد قد يكون ضعيفا فيحتاج إلى الرضاع ويضر به فطمه كما يضر ذلك قبل الحولين، وأجاب الأولون أن حصول المضرة في الفطام بعد الحولين نادر وحمل الكلام على المعهود واجب والله أعلم.
القول الثاني: في تفسير الفصال، وهو أن أبا مسلم لما ذكر القول الأول قال: ويحتمل معنى آخر، وهو أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الأم والولد إذا حصل التراضي
131

والتشاور في ذلك ولم يرجع بسبب ذلك ضرر إلى الولد.
المسألة الثانية: التشاور في اللغة: استجماع الرأي، وكذلك المشورة والمشورة مفعلة منه كالمعونة، وشرت العسل استخرجته، وقال أبو زيد: شرت الدابة وأشرتها أي أجريتها لاستخراج جريها، والشوار متاع البيت، لأنه يظهر للناظر، وقالوا: شورته فتشور، أي خجلته، والشارة هيئة الرجل، لأنه ما يظهر من زيه ويبدو من زينته، والإشارة إخراج ما في نفسك، وإظهاره للمخاطب بالنطق وبغيره.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن الفطام في أقل من حولين لا يجوز إلا عند رضا الوالدين وعند المشاورة مع أرباب التجارب وذلك لأن الأم قد تمل من الرضاع فتحاول الفطام والأب أيضا قد يمل من إعطاء الأجرة على الإرضاع، فقد يحاول الفطام دفعا لذلك، لكنهما قلما يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس، ثم بتقدير توافقهما اعتبر المشاورة مع غيرهما، وعند ذلك يبعد أن تحصل موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد، فعند اتفاق الكل يدل على أن الفطام قبل الحولين لا يضره البتة فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير كم شرط في جواز إفطامه من الشرائط دفعا للمضار عنه، ثم عند اجتماع كل هذه الشرائط لم يصرح بالإذن بل قال: * (لا جناح عليكم) * وهذا يدل على أن الإنسان كلما كان أكثر ضعفا كانت رحمة الله معه أكثر وعنايته به أشد.
اعلم أنه تعالى لما بين حكم الأم وأنها أحق بالرضاع، بين أنه يجوز العدول في هذا الباب عن الأم إلى غيرها ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": استرضع منقول من أرضع، يقال: أرضعت المرأة الصبي واسترضعها الصبي، فتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة واستنجحته الحاجة والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول:
132

استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن آخرهما عبارة عن الأول، وقال الواحدي: * (أن تسترضعوا أولادكم) * أي لأولادكم وحذف اللام اجتزاء بدلالة الاسترضاع، لأنه لا يكون إلا للأولاد، ولا يجوز دعوت زيدا وأنت تريد لزيد، لأنه تلبيس ههنا بخلاف ما قلنا في الاسترضاع، ونظير حذف اللام قوله تعالى: * (وإذا كالوهم أو وزنوهم) * (المطففين: 3) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم.
المسألة الثانية: اعلم أنا قد بينا أن الأم أحق بالإرضاع، فأما إذا حصل مانع عن ذلك فقد يجوز العدول عنها إلى غيرها، منها ما إذا تزوجت آخر، فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الرضاع، ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الرضاع حتى يتزوج بها زوج آخر، ومنها أن تأتي المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق وإيحاشا له، ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها، فعند أحد هذه الوجوه إذا وجدنا مرضعة أخرى وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها، فأما إذا لم نجد مرضعة أخرى، أو وجدناها ولكن الطفل لا يقبل لبنها فههنا الإرضاع واجب على الأم.
أما قوله تعالى: * (إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وحده * (ما أتيتم) * مقصورة الألف، والباقون * (ما آتيتم) * ممدودة الألف، أما المد فتقديره: ما آتيتموه المرأة أي أردتم إيتاءه وأما القصر فتقديره: ما آتيتم به، فحذف المفعولان في الأول وحذف لفظة * (به) * في الثاني لحصول العلم بذلك، وروى شيبان عن عاصم * (ما أوتيتم) * أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، ونظيره قوله تعالى: * (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) * (الحديد: 7).
المسألة الثانية: ليس التسليم شرطا للجواز والصحة، وإنما هو ندب إلى الأولى والمقصود منه أن تسليم الأجرة إلى المرضعة يدا بيد حتى تكون طيبة النفس راضية فيصير ذلك سببا لصلاح حال الصبي، والاحتياط في مصالحه، ثم إنه تعالى ختم الآية بالتحذير، فقال: * (واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعلمون بصير) *.
الحكم الحادي عشر
عدة الوفاة
* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا
133

فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يتوفون معناه يموتون ويقبضون قال الله تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * (الزمر: 42) وأصل التوفي أخذ الشيء وافيا كاملا، فمن مات فقد وجد عمره وافيا كاملا، ويقال: توفي فلان، وتوفي إذا مات، فمن قال: توفي. كان معناه قبض وأخذ ومن قال: توفى. كان معناه توفى أجله واستوفى أكله وعمره وعليه قراءة علي عليه السلام يتوفون بفتح الياء.
وأما قوله: * (ويذرون) * معناه: يتركون، ولا يستعمل منه الماضي ولا المصدر استغناء عنه يترك تركا، ومثله يدع في رفض مصدره وماضيه، فهذان الفعلان العابر والأمر منهما موجودان، يقال: فلان يدع كذا ويذر ويقال: دعه وذره أما الماضي والمصدر فغير موجودين منهما والأزواج ههنا النساء والعرب تسمي الرجل زوجا وامرأته زوجا له، وربما ألحقوا بها الهاء.
المسألة الثانية: قوله: * (والذين) * مبتدأ ولا بد له من خبر، واختلفوا في خبره على أقوال الأول: أن المضاف محذوف والتقدير، وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن والثاني: وهو قول الأخفش التقدير: يتربصن بعدهم إلا أنه أسقط لظهوره كقوله: السمن منوان بدرهم وقوله تعالى: * (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) * (الشورى: 43) والثالث: وهو قول المبرد: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، أزواجهم يتربصن، قال: وإضمار المبتدأ ليس بغريب قال تعالى: * (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار) * (الحج: 72) يعني هو النار، وقوله: * (فصبر جميل) * (يوسف: 18).
فإن قيل: أنتم أضمرتم ههنا مبتدأ مضافا، وليس ذلك شيئا واحدا بل شيئان، والأمثلة التي ذكرتم المضمر فيها شيء واحد.
قلنا: كما ورد إضمار المبتدأ المفرد، فقد ورد أيضا إضمار المبتدأ المضاف، قال تعالى: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل) * (آل عمران: 196، 197) والمعنى: تقلبهم متاع قليل الرابع: وهو قول الكسائي والفراء، أن قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم) * مبتدأ، إلا أن الغرض غير متعلق ههنا ببيان حكم عائد إليهم، بل ببيان حكم عائد إلى أزوجهم، فلا جرم لم يذكر لذلك المبتدأ خبرا، وأنكر المبرد
134

والزجاج ذلك، لأن مجئ المبتدأ بدون الخبر محال.
المسألة الثالثة: قد بينا فيما تقدم معنى التربص، وبينا الفائدة في قوله: * (بأنفسهن) * وبينا أن هذا وإن كان خبرا إلا أن المقصود منه هو الأمر، وبينا الفائدة في العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر.
المسألة الرابعة: قوله: * (وعشرا) * مذكور بلفظ التأنيث مع أن المراد عشرة أيام، وذكروا في العذر عنه وجوها الأول: تغليب الليالي على الأيام وذلك أن ابتداء الشهر يكون من الليل، فلما كانت الليالي هي الأوائل غلبت، لأن الأوائل أقوى من الثواني، قال ابن السكيت: يقولون صمنا خمسا من الشهر، فيغلبون الليالي على الأيام، إذ لم يذكروا الأيام، فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا خمسة أيام الثاني: أن هذه الأيام أيام الحزن والمكروه، ومثل هذه الأيام تسمى بالليالي على سبيل الاستعارة، كقولهم: خرجنا ليالي الفتنة، وجئنا ليالي إمارة الحجاج والثالث: ذكره المبرد، وهو أنه إنما أنث العشر لأن المراد به المدة، معناه وعشر مدد، وتلك المدة كل مدة منها يوم وليلة الرابع: ذهب بعض الفقهاء إلى ظاهر الآية، فقال: إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج، فيتأول العشرة بالليالي، وإليه ذهب الأوزاعي وأبو بكر الأصم.
المسألة الخامسة: روي عن أبي العالية أن الله سبحانه إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة، وهو أيضا منقول عن الحسن البصري.
المسألة السادسة: اعلم أن هذه العدة واجبة في كل امرأة مات عنها زوجها إلا في صورتين أحداهما: أن تكون أمة فإنها تعتد عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرة، وقال أبو بكر الأصم: عدتها عدة الحرائر، وتمسك بظاهر الآية، وأيضا الله تعالى جعل وضع الحمل في حق الحامل بدلا عن هذه المدة، ثم وضع الحمل مشترك فيه الحرة والرقيقة، فكذا الاعتداد بهذه المدة يجب أن يشتركا فيه، وسائر الفقهاء قالوا: التنصيف في هذه المدة ممكن، وفي وضع الحمل غير ممكن، فظهر الفرق.
الصورة الثانية: أن يكون المراد إن كانت حاملا فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل، فإذا وضعت الحمل حلت، وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة، وعن علي عليه السلام: تتربص أبعد الأجلين، والدليل عليه القرآن والسنة.
أما القرآن فقوله تعالى: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * (الطلاق: 4) ومن الناس من جعل هذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) * والشافعي لم يقل بذلك
135

لوجهين الأول: أن كل واحدة من هاتين الآيتين أعم من الأخرى من وجه وأخص منها من وجه، لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى، كما أن التي توفى عنها زوجها قد تكون حاملا وقد لا تكون، ولما كان الأمر كذلك امتنع جعل إحدى الآيتين مخصصة للأخرى والثاني: أن قوله: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * إنما ورد عقيب ذكر المطلقات، فربما يقول قائل: هي في المطلقة لا في المتوفى عنها زوجها. فلهذين السببين لم يعول الشافعي في الباب على القرآن، وإنما عول على السنة، وهي ما روى أبو داود بإسناده أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر، فلما طهرت من دمها تجملت للخطاب، فقال لها بعض الناس: ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، فأمرني بالتزوج إن بدا لي، إذا عرفت هذا الأصل فههنا تفاريع الأول: لا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وقال ابن عباس: لا عدة عليها قبل الدخول وهذا قول متروك لأن الآية عامة في حق الكل.
الحكم الثاني: إذا تمت أربعة أشهر وعشر انقضت عدتها، وإن لم تر عادتها من الحيض فيها وقال مالك: لا تنقضي عدتها حتى ترى عادتها من الحيض في تلك الأيام، مثلا إن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة فعليها حيضة واحدة، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا تكفيها الشهور حجة الشافعي رحمه الله أن هذه الآية دلت على أنه تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بهذه المدة ولم يزد على هذا القدر فوجب أن يكون هذا القدر كافيا، ثم قال الشافعي: إنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة، كما أن ذات الإقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط.
الحكم الثالث: إذا مات الزوج فإن كان بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيام فالشهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلة سواء خرجت كاملة أو ناقصة، ثم تكمل الشهر الأول بالخامس ثلاثين يوما، ثم تضم إليها عشرة أيام، وإن مات وقد بقي من الشهر أقل من عشرة أيام اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلة وكمل العشر من الشهر السادس.
المسألة السابعة: أجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت متقدمة في التلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني فإنه أبى نسخها، وسنذكر كلامه من بعد إن
136

شاء الله تعالى، والتقدم في التلاوة لا يمنع التأخر في النزول، إذ ليس ترتيب المصحف على ترتيب النزول، وإنما ترتيب التلاوة في المصاحف هو ترتيب جبريل بأمر الله تعالى.
المسألة الثامنة: اختلفوا في أن هذه العدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة، فقال بعضهم: ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة، واحتجوا بأنه تعالى قال: * (يتربصن بأنفسهن) * ولا يحصل إلا إذا قصدت هذا التربص، والقصد إلى التربص لا يحصل إلا مع العلم بذلك، والأكثرون قالوا السبب هو الموت، فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى، قالوا والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها انقضاء هذه المدة.
المسألة التاسعة: المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح، والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه: والامتناع عن التزين وهذا اللفظ كالمجمل لأنه ليس فيه بيان أنها تتربص في أي شيء إلا أنا نقول: الامتناع عن النكاح مجمع عليه، وأما الامتناع عن الخروج من المنزل فواجب إلا عند الضرورة والحاجة، وأما ترك التزين فهو واجب، لما روي عن عائشة وحفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " وقال الحسن والشعبي: هو غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه والله أعلم.
واحتجوا بما روي عن أسماء بنت عميس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وتلبثي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت ".
المسألة العاشرة: احتج من قال: إن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع بقوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم) * فقوله: * (منكم) * خطاب مع المؤمنين، فدل على أن الخطاب بهذه الفروع مختص بالمؤمنين فقط.
وجوابه: أن المؤمنين لما كانوا هم العاملين بذلك خصهم بالذكر كقوله: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) مع أنه كان منذرا للكل، لقوله تعالى: * (ليكون للعالمين نذيرا) * (الفرقان: 1).
وأما قوله تعالى: * (فإذا بلغن أجلهن) * فالمعنى إذا انقضت هذه المدة التي هي أجل العدة فلا جناح عليكم قيل الخطاب مع الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد، وقيل: الخطاب مع الحكام وصلحاء المسلمين، وذلك لأنهن إن تزوجن في مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك إن قدر على المنع، فإن عجز وجب عليه أن يستعين بالسلطان، وذلك لأن المقصود من هذه العدة أنه لا يؤمن اشتمال فرجها
137

على ماء زوجها الأول، وفي الآية وجه ثالث وهو أنه * (لا جناح عليكم) * تقديره: لا جناح على النساء وعليكم، ثم قال: * (فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) * أي ما يحسن عقلا وشرعا لأنه ضد المنكر الذي لا يحسن، وذلك هو الحلال من التزوج إذا كان مستجمعا لشرائط الصحة، ثم ختم الآية بالتهديد، فقال: * (والله بما تعملون خبير) *. بقي في الآية مسائل:
المسألة الأولى: تمسك بعضهم في وجوب الإحداد على المرأة بقوله تعالى: * (فيما فعلن في أنفسهن) * فإن ظاهره يقتضي أن يكون المراد منه ما تنفرد المرأة بفعله، والنكاح ليس كذلك، فإنه لا يتم إلا مع الغير فوجب أن يحمل ذلك على ما يتم بالمرأة وحدها من التزين والتطيب وغيرهما.
المسألة الثانية: تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في جواز النكاح بغير ولي، قالوا: إنها إذا زوجت نفسها وجب أن يكون ذلك جائزا لقوله تعالى: * (ولا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن) * وإضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة، لأن هذا هو الحقيقة في اللفظة، وتمسك أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه في أن هذا النكاح لا يصح إلا من الولي لأن قوله: * (لا جناح عليكم) * خطاب مع الأولياء ولولا أن هذا العقد لا يصح إلا من الولي وإلا لما صار مخاطبا بقوله: * (لا جناح عليكم) * وبالله التوفيق.
الحكم الثاني عشر
في خطبة النساء
* (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النسآء أو أكننتم فى أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم) *.
قوله تعالى: * (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا) * وفي مسائل:
المسألة الأولى: التعريض في اللغة ضد التصريح، ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة
138

على غير مقصوده إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره، ونظيره أن يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا: وحسبك بالتسليم مني تقاضيا (c)
والتعريض قد يسمى تلويحا لأنه يلوح منه ما يريد والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بذكر لوازمه، كقولك: فلان طويل النجاد، كثير الرماد، والتعريض أن تذكر كلاما يحتمل مقصودك ويحتمل غير مقصودك إلا أن قرائن أحوالك تؤكد حمله على مقصودك، وأما الخطبة فقال الفراء: الخطبة مصدر بمنزلة الخطب وهو مثل قولك: أنه الحسن العقدة والجلسة تريد العقود والجلوس وفي اشتقاقه وجهان الأول: أن الخطب هو الأمر، والشأن يقال: ما خطبك، أي ما شأنك، فقولهم: خطب فلان فلانة، أي سألها أمرا وشأنا في نفسها الثاني: أصل الخطبة من الخطاب الذي هو الكلام، يقال: خطب المرأة خطبة لأنه خاطب في عقد النكاح، وخطب خطبة أي خاطب بالزجر والوعظ والخطب: الأمر العظيم، لأنه يحتاج فيه إلى خطاب كثير.
المسألة الثانية: النساء في حكم الخطبة على ثلاثة أقسام أحدها: التي تجوز خطبتها تعريضا وتصريحا وهي التي تكون خالية عن الأزواج والعدد لأنه لما جاز نكاحها في هذه الحالة فكيف لا تجوز خطبتها، بل يستثنى عنه صورة واحدة، وهي ما روى الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه " ثم هذا الحديث وإن ورد مطلقا لكن فيه ثلاثة أحوال.
الحالة الأولى: إذا خطب امرأته فأجيب إليه صريحا ههنا لا يحل لغيره أن يخطبها لهذا الحديث.
الحالة الثانية: إذا وجد صريح الإباء عن الإجابة فههنا يحل لغيره أن يخطبها.
الحالة الثالثة: إذا لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد للشافعي ههنا قولان أحدهما: أنه يجوز للغير خطبتها، لأن السكوت لا يدل على الرضا والثاني: وهو القديم وقول مالك: أن السكوت وإن لم يدل على الرضا لكنه لا يدل أيضا على الكراهة، فربما كانت الرغبة حاصله من بعض الوجوه فتصير هذه الخطبة الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة.
القسم الثاني: التي لا تجوز خطبتها لا تصريحا ولا تعريضا، وهي ما إذا كانت منكوحة للغير
139

لأن خطبته إياها ربما صارت سببا لتشويش الأمر على زوجها من حيث أنها إذا علمت رغبة الخاطب فربما حملها ذلك على الامتناع من تأدية حقوق الزوج، والتسبب إلى هذا حرام، وكذا الرجعة فإنها في حكم المنكوحة، بدليل أنه يصح طلاقها وظاهرها ولعانها، وتعتد منه عدة الوفاة، ويتوارثان.
القسم الثالث: أن يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية وهي أيضا على ثلاثة أقسام: القسم الأول: التي تكون في عدة الوفاة فتجوز خطبتها تعريضا لا تصريحا، أما جواز التعريض فلقوله تعالى: * (لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) * وظاهره أنه للمتوفى عنها زوجها، لأن هذه الآية مذكورة عقيب تلك الآية، أما أنه لا يجوز التصريح، فقال الشافعي: لما خصص التعريض بعدم الجناح وجب أن يكون التصريح بخلافه، ثم المعنى يؤكد ذلك، وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها ذلك إلى الكذب.
القسم الثاني: المعتدة عن الطلاق الثلاث، قال الشافعي رحمه الله في " الأم ": ولا أحب التعريض لخطبتها، وقال في " القديم " و " الإملاء ": يجوز لأنها ليست في النكاح، فأشبهت المعتدة عن الوفاة وجه المنع هو أن المعتدة عن الوفاة يؤمن عليها بسبب الخطبة الخيانة في أمر العدة فإن عدتها تنقضي بالأشهر أما ههنا تنقضي عدتها بالأقراء فلا يؤمن عليها الخيانة بسبب رغبتها في هذا الخاطب وكيفية الخيانة هي أن تخبر بانقضاء عدتها قبل أن تنقضي.
القسم الثالث: البائن التي يحل لزوجها نكاحها في عدتها، وهي المختلعة والتي انفسخ نكاحها بعيب أو عنة أو إعسار نفقته فههنا لزوجها التعريض والتصريح؛ لأنه لما كان له نكاحها في العدة فالتصريح أولى وأما غير الزوج فلا شك في أنه لا يحل له التصريح وفي التعريض قولان أحدهما: يحل كالمتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثا والثاني: وهو الأصح أنه لا يحل لأنها معتدة تحل للزوج أن ينكحها في عدتها فلم يحل التعريض لها كالرجعية.
المسألة الثالثة: قال الشافعي: والتعريض كثير، وهو كقوله: رب راغب فيك، أو من يجد مثلك؟ أو لست بأيم وإذا حللت فأدريني، وذكر سائر المفسرين من ألفاظ التعريض: إنك لجميلة وإنك لصالحه، وإنك لنافعه، وإن من عزمي أن أتزوج، وإني فيك لراغب.
أما قوله تعالى: * (أو أكننتم في أنفسكم) * فاعلم أن الإكنان الإخفاء والستر قال الفراء:
140

للعرب في أكننت الشيء أي سترته لغتان: كننته وأكننته في الكن وفي النفس بمعنى، ومنه: و * (ما تكن صدورهم) * (النحل: 74)، * (وبيض مكنون) * (الصافات: 49) وفرق قوم بينهما، فقالوا: كننت الشيء إذا صنته حتى لا تصيبه آفة، وإن لم يكن مستورا يقال: در مكنون، وجارية مكنونة، وبيض مكنون، مصون عن التدحرج وأما أكننت فمعناه أضمرت، ويستعمل ذلك في الشيء الذي يخفيه الإنسان ويستره عن غيره، وهو ضد أعلنت وأظهرت، والمقصود من الآية أنه لا حرج في التعريض للمرأة في عدة الوفاة ولا فيما يضمره الرجل من الرغبة فيها.
فإن قيل: إن التعريض بالخطبة أعظم حالا من أن يميل قلبه إليها ولا يذكر شيئا فلما قدم جواز التعريض بالخطبة كان قوله بعد ذلك: * (أو أكننتم في أنفسكم) * جاريا مجرى إيضاح الواضحات.
قلنا: ليس المراد ما ذكرتم بل المراد منه أنه أباح التعريض وحرم التصريح في الحال، ثم قال: * (أو أكننتم في أنفسكم) * والمراد أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل، فالآية الأولى إباحة للتعريض في الحال، وتحريم للتصريح في الحال، والآية الثانية إباحة لأن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء زمان العدة، ثم أنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك، فقال: * (علم الله أنكم ستذكرونهن) * لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لا يكاد يخلو ذلك المشتهي من العزم والتمني، فلما كان دفع هذا الخاطر كالشئ الشاق أسقط تعالى عنه هذا الحرج وأباح له ذلك.
ثم قال تعالى: * (ولكن لا تواعدوهن سرا) * وفيه سؤالان:
السؤال الأول: أين المستدرك بقوله تعالى: * (ولكن لا تواعدوهن سرا) * الجواب: هو محذوف لدلالة ستذكرونهن عليه، تقديره: * (علم الله أنكم ستذكرونهن) * فاذكروهن * (ولكن لا تواعدوهن) *.
السؤال الثاني: ما معنى السر؟.
والجواب: أن السر ضد الجهر والإعلان، فيحتمل أن يكون السر ههنا صفة المواعدة على شيء: ولا تواعدوهن مواعدة سرية ويحتمل أن يكون صفة للموعود به على معنى ولا توعدوهن بالشيء الذي يكون موصوفا بوصف كونه سرا، أما على التقدير الأول وهو أظهر التقديرين، فالمواقعة بين الرجل وبين المرأة على وجه السر لا تنفك ظاهرا عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات، وههنا احتمالات الأول: أن يواعدها في السر بالنكاح فيكون المعنى أن أول الآية إذن في التعريض بالخطبة وآخر الآية منع عن التصريح بالخطبة الثاني: أن يواعدها بذكر الجماع
141

والرفث، لأن ذكر ذلك بين الأجنبي والأجنبية غير جائز، قال تعالى لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: * (فلا تخضعن بالقول) * (الأحزاب: 32) أي لا تقلن من أمر الرفث شيئا * (فيطمع الذي في قلبه مرض) * (الأحزاب: 32) الثالث: قال الحسن: * (ولكن لا تواعدوهن سرا) * بالزنا طعن القاضي في هذا الوجه، وقال: إن المواعدة محرمة بالإطلاق فحمل الكلام ما يخص به الخاطب حال العدة أولى.
والجواب: روى الحسن أن الرجل يدخل على المرأة، وهو يعرض بالنكاح فيقول لها: دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك، فالله تعالى نهى عن ذلك الرابع: أن يكون ذلك نهيا عن أن يسار الرجل المرأة الأجنبية، لأن ذلك يورث نوع ريبة فيها الخامس: أن يعاهدها بأن لا يتزوج أحدا سواها.
أما إذا حملنا السر على الموعود به ففيه وجوه الأول: السر الجماع قال امرؤ القيس: وأن لا يشهد السر أمثالي (c)
وقال الفرزدق: موانع للأسرار إلا من أهلها * ويخلفن ما ظن الغيور المشغف
أي الذي شغفه بهن، يعني أنهن عفائف يمنعن الجماع إلا من أزواجهن، قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد لا يصف نفسه لها فيقول: آتيك الأربعة والخمسة الثاني: أن يكون المراد من السر النكاح، وذلك لأن الوطء يسمى سرا والنكاح سببه وتسمية الشيء باسم سببه جائز.
أما قوله تعالى: * (إلا أن تقولوا قولا معروفا) * ففيه سؤال، وهو أنه تعالى بأي شيء علق هذا الاستثناء.
وجوابه: أنه تعالى لما أذن في أول الآية بالتعريض، ثم نهى عن المسارة معها دفعا للريبة والغيبة استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف، وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفل بمصالحها، حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدا لذلك التعريض والله أعلم.
قوله تعالى: * (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم
142

فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم) *.
اعلم أن في لفظ العزم وجوها الأول: أنه عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال، قال تعالى: * (فإذا عزمت فتوكل على الله) * (آل عمران: 159) واعلم أن
العزم إنما يكون عزما على الفعل، فلا بد في الآية من إضمار فعل، وهذا اللفظ إنما يعدى إلى الفعل بحرف * (على) * فيقال: فلان عزم على كذا إذا ثبت هذا كان تقدير الآية: ولا تعزموا على عقدة النكاح، قال سيبويه: والحذف في هذه الأشياء لا يقاس، فعلى هذا تقدير الآية: ولا تعزموا عقدة النكاح أن تقدروها حتى يبلغ الكتاب أجله والمقصود منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العدة فإن العزم متقدم على المعزوم عليه، فإذا ورد النهي عن العزم فلأن يكون النهي متأكدا عن الإقدام على المعزوم عليه أولى.
القول الثاني: أن يكون العزم عبارة عن الإيجاب، يقال: عزمت عليكم، أي أوجبت عليكم ويقال: هذا من باب العزائم لا من باب الرخص، وقال عليه الصلاة والسلام: " عزمة من عزمات ربنا " وقال: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " ولذلك فإن العزم بهذا المعنى جائز على الله تعالى، وبالوجه الأول لا يجوز.
إذا عرفت هذا فنقول: الإيجاب سبب الوجود ظاهرا، فلا يبعد أن يستفاد لفظ العزم في الوجود وعلى هذا فقوله: * (ولا تعزموا عقدة النكاح) * أي لا تحققوا ذلك ولا تنشئوه، ولا تفرغوا منه فعلا، حتى يبلغ الكتاب أجله، وهذا القول هو اختيار أكثر المحققين.
القول الثالث: قال القفال رحمه الله: إنما لم يقل ولا تعزموا على عقدة النكاح، لأن المعنى: لا تعزموا عليهن عقدة النكاح، أي لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح، كما تقول: عزمت عليك أن تفعل كذا.
فأما قوله تعالى: * (عقدة النكاح) * فاعلم أن أصل العقد الشد، والعهود والأنكحة تسمى عقودا لأنها تعقد كما يعقد الحبل.
أما قوله تعالى: * (حتى يبلغ الكتاب أجله) * ففي الكتاب وجهان الأول: المراد منه: المكتوب والمعنى: تبلغ العدة المفروضة آخرها، وصارت منقضية والثاني: أن يكون الكتاب نفسه في معنى الفرض كقوله: * (كتب عليكم الصيام) * (البقرة: 183) فيكون المعنى حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته، وإنما حسن أن يعبر عن معنى: فرض، بلفظ * (كتب) * لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه أثبت وآكد وقوله: * (حتى) * هو غاية فلا بد من أن يفيد ارتفاع الخطر المتقدم، لأن من حق الغاية ضربت للحظر أن تقتضي زواله.
143

ثم إنه تعالى ختم الآية بالتهديد فقال: * (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) * وهو تنبيه على أنه تعالى لما كان عالما بالسر والعلانية، وجب الحذر في كل ما يفعله الإنسان في السر والعلانية ثم ذكر بعد الوعيد الوعد، فقال: * (واعلموا أن الله غفور حليم) *.
الحكم الثالث عشر
حكم المطلقة قبل الدخول
قوله تعالى
* (لا جناح عليكم إن طلقتم النسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) *.
اعلم أن أقسام المطلقات أربعة أحدها: المطلقة التي تكون مفروضا لها ومدخولا بها وقد ذكر الله تعالى فيما تقدم أحكام هذا القسم وهو أنه لا يؤخذ منهن على الفراق شيء على سبيل الظلم ثم أخبر أن لهن كمال المهر، وأن عدتهن ثلاثة قروء.
والقسم الثاني: من المطلقات ما لا يكون مفروضا ولا مدخولا بها وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، وذكر أنه ليس لها مهر، وأن لها المتعة بالمعروف.
والقسم الثالث: من المطلقات: التي يكون مفروضا لها، ولكن لا يكون مدخولا بها وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه الآية، وهي قوله سبحانه وتعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) * (البقرة: 237) واعلم أنه تعالى بين حكم عدة غير المدخول بها وذكر في سورة الأحزاب أنه لا عدة عليها البتة، فقال: * (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن) * (الأحزاب: 49).
القسم الرابع: من المطلقات: التي تكون مدخولا بها، ولكن لا يكون مفروضا لها، وحكم هذا القسم مذكور في قوله: * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) * (النساء: 24) أيضا القياس الجلي دال عليه
144

وذلك لأن الأمة مجمعة على أن الموطئة بالشبهة لها مهر المثل، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذا الحكم، فهذا التقسيم تنبيه على المقصود من هذه الآية، ويمكن أن يعبر عن هذا التقسيم بعبارة أخرى، فيقال: إن عقد النكاح يوجب بدلا على كل حال، ثم ذلك البدل إما أن يكون مذكورا أو غير مذكور، فإن كان البدل مذكورا، فإن حصل الدخول استقر كله، وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى قبل هذه الآية، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق، وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى في الآية التي تجئ عقيب هذه الآية. فإن لم يكن البدل مذكورا فإن لم يحصل الدخول فهو هذه المطلقة التي ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية، وحكمها أنه لا مهر لها، ولا عدة عليها، ويجب عليه لها المتعة، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات، إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل، ولما نبهنا على هذا التقسيم فلنرجع إلى التفسير.
أما قوله تعالى: * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء) * فهذا نص في أن الطلاق جائز، واعلم أن كثيرا من أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في بيان أن الجمع بين الثلاث ليس بحرام، قالوا: لأن قوله: * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء) * يتناول جميع أنواع التطليقات، بدليل أنه يصح استثناء الثلاث منها فيقال لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إلا إذا طلقتموهن ثلاث طلقات فإن هناك يثبت الجناح، قالوا: وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فثبت أن قوله: * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء) *
يتناول جميع أنواع التطليقات، أعني حال الإفراد وحال الجمع، وهذا الاستدلال عندي ضعيف، وذلك لأن الآية دالة على الإذن في تحصيل هذه الماهية في الوجود، ويكفي في العمل به إدخاله في الوجود مرة واحدة، ولهذا قلنا: إن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، ولهذا قلنا: إنه إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق انعقدت اليمين على المرة الواحدة فقط؛ فثبت أن هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع، وأما الاستثناء الذي ذكروه فنقول: يشكل هذا بالأمر فإنه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحققين، مع أنه يصح أن يقال: صل إلا في الوقت الفلاني وصم إلا في اليوم الفلاني والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (ما لم تمسوهن) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي * (تماسوهن) * بالألف على المفاعلة، وكذلك في الأحزاب والباقون * (تمسوهن) * بغير ألف، حجة حمزة والكسائي أن بدن كل واحد يمس بدن صاحبه ويتماسان جميعا وأيضا يدل على ذلك قوله تعالى: * (من قبل أن يتماسا) * (المجادلة: 3) وهو إجماع وحجة الباقين إجماعهم على قوله: * (ولم يمسسني بشر) * (آل عمران: 47)
145

ولأن أكثر الألفاظ في هذا المعنى جاء على المعنى بفعل دون فاعل كقوله: * (لم يطمثهن) * (الرحمن: 56) وكقوله: * (فانكحوهن بإذن أهلهن) * (النساء: 25) وأيضا المراد من هذا المس: الغشيان، وذلك فعل الرجل، ويدل في الآية الثانية على أن المراد من هذا المس الغشيان، وأما ما جاء في الظهار من قوله تعالى: * (من قبل أن يتماسا) * فالمراد به المماسة التي هي غير الجماع وهي حرام في الظهار، وبعض من قرأ: * (تماسوهن) * قال: إنه بمعنى * (تمسوهن) * لأن فاعل قد يراد به فعل، كقوله: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وهو كثير.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح عن المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك فإنه لا جناح عليه أيضا بعد المسيس.
وجوابه من وجوه الأول: أن الآية دالة على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقا، وهذا الإطلاق غير ثابت بعد المسيس، فإنه لا يحل الطلاق بعد المسيس في زمان الحيض، ولا في الطهر الذي جامعها فيه، فلما كان المذكور في الآية حل الطلاق على الإطلاق، وحل الطلاق على الإطلاق لا يثبت إلا بشرط عدم المسيس، صح ظاهر اللفظ.
الوجه الثاني: في الجواب قال بعضهم: إن * (ما) * في قوله: * (ما لم تمسوهن) * بمعنى * (الذي) * والتقدير: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن، إلا أن * (ما) * اسم جامد لا ينصرف، ولا يبين فيه الإعراب ولا العدد، وعلى هذا التقدير لا يكون لفظ * (ما) * شرطا، فزال السؤال.
الوجه الثالث: في الجواب ما يدور حوله القفال رحمه الله، وحاصله يرجع إلى ما أقوله، وهو أن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر، فتقدير الآية: لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، بمعنى: لا يجب المهر إلا بأحد هذين الأمرين، فإذا فقدا جميعا لم يجب المهر، وهذا كلام ظاهر إلا أنا نحتاج إلى بيان أن قوله: * (لا جناح) * معناه لا مهر، فنقول: إطلاق لفظ الجناح على المهر محتمل، والدليل دل عليه فوجب المصير إليه، وأما بيان الاحتمال فهو أن أصل الجناح في اللغة هو الثقل، يقال: أجنحت السفينة إذا مالت لثقلها والذنب يسمى جناحا لما فيه من الثقل، قال تعالى: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) * (العنكبوت: 13) إذا ثبت أن الجناح هو الثقل، ولزوم أداء المال ثقل فكان جناحا، فثبت أن اللفظ محتمل له، وإنما قلنا: إن الدليل دل على أنه هو المراد لوجهين الأول: أنه تعالى قال: * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أن تفرضوا لهن فريضة) * نفى الجناح محدودا إلى غاية وهي إما المسيس أو الفرض، والتقدير: فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ثم إن الجناح الذي
146

يثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر، فوجب القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر الثاني: أن تطليق النساء قبل المسيس على قسمين أحدهما: الذي يكون قبل المسيس وقبل تقدير المهر، وهو المذكور في هذه الآية والثاني: الذي يكون قبل المسيس وبعد تقدير المهر وهو المذكور في الآية التي بعد هذه الآية وهي قوله: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة) * (البقرة: 237) ثم إنه في هذا القسم أوجب نصف المفروض وهذا القسم كالمقابل لذلك القسم فيلزم أن يكون الجناح المنفي هناك هو المثبت ههنا، فلما كان المثبت ههنا هو لزوم المهر وجب أن يقال: الجناح المنفي هناك هو لزوم المهر والله أعلم.
واعلم أنا قد ذكرنا في أول تفسير هذه الآية أن أقسام المطلقات أربعة، وهذه الآية تكون مشتملة على بيان حكم ثلاثة أقسام منها، لأنه لما صار تقدير الآية: لا مهر إلا عند المسيس أو عند التقدير، عرف منه أن التي لا تكون ممسوسة ولا مفروضا لها لا يجب لها المهر، وعرف أن التي تكون ممسوسة ولا تكون مفروضا لها والتي تكون مفروضا لها ولا تكون ممسوسة يجب لكل واحدة منهما المهر، فتكون هذه الآية مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الثلاثة.
وأما القسم الرابع: وهي التي تكون ممسوسة ومفروضا لها، فبيان حكمه مذكور في الآية المتقدمة، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآيات مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الأربعة بالتمام وهذا من لطائف الكلمات والحمد لله على ذلك.
المسألة الثالثة: قال أبو بكر الأصم والزجاج: هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير المهر جائز، وقال القاضي: إنها لا تدل على الجواز لكنها تدل على الصحة، أما بيان دلالتها على الصحة، فلأنه لو لم يكن صحيحا لم يكن الطلاق مشروعا، ولم تكن المتعة لازمة، وأما أنها لا تدل على الجواز، فلأنه لا يلزم من الصحة الجواز، بدليل أن الطلاق في زمان الحيض حرام ومع ذلك واقع وصحيح.
المسألة الرابعة: اتفقوا على أن المراد من المسيس في هذه الآية الدخول، قال أبو مسلم: وإنما كنى تعالى بقوله: * (تمسوهن) * عن المجامعة تأديبا للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (أو تفرضوا لهن فريضة) * فالمعنى يقدر لها مقدارا من المهر يوجبه على نفسه، لأن الفرض في اللغة هو التقدير، وذكر كثير من المفسرين أن * (أو) * ههنا بمعنى الواو، ويريد: ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة، كقوله: * (أو يزيدون) * (الصافات: 147) وأنت إذا تأملت فيما لخصناه علمت أن هذا التأويل متكلف، بل خطأ قطعا والله أعلم.
147

أما قوله تعالى: * (ومتعوهن) * فاعلم أنه تعالى لما بين أنه لا مهر عند عدم المسيس، والتقدير بين أن المتعة لها واجبة، وتفسير لفظ المتعة قد تقدم في قوله: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * (البقرة: 196).
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المطلقات قسمان، مطلقة قبل الدخول، ومطلقة بعد الدخول، أما المطلقة قبل الدخول ينظر إن لم يكن فرض لها مهر فلها المتعة بهذه الآية التي نحن فيها، وإن كان قد فرض لها فلا متعة، لأن الله تعالى أوجب في حقها نصف المهر ولم يذكر المتعة، ولو كانت واجبة لذكرها وقال ابن عمر: لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم يدخل بها فحسبها نصف المهر، وأما المطلقة بعد الدخول سواء فرض لها أو لم يفرض، فهل تستحق المتعة، فيه قولان: قال في " القديم " وبه قال أبو حنيفة: لا متعة لها، لأنها تستحق المهر كالمطلقة بعد الفرض قبل الدخول، وقال في " الجديد ": بل لها المتعة، وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام، والحسن بن علي، وابن عمر، والدليل عليه قوله تعالى: * (وللمطلقات متاع بالمعروف) * (البقرة: 241) وقال تعالى: * (فتعالين أمتعكن) * (الأحزاب: 28) وكان ذلك في نساء دخل بهن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كالمطلقة بعد الفرض قبل المسيس، لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة استباحة عوض فلم تستحق المتعة والمطلقة بعد الدخول استحقت الصداق بمقابلة استباحة البضع فتجب لها المتعة للإيحاش بالفراق. المسألة الثانية: مذهب الشافعي وأبي حنيفة أن المتعة واجبة، وهو قول شريح والشعبي والزهري، وروي عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة، وهو قول مالك لنا قوله تعالى: * (ومتعوهن) * وظاهر الأمر للإيجاب، وقال: * (وللمطلقات متاع) * فجعل ملكا لهن أو في معنى الملك، وحجة مالك أنه تعالى قال في آخر الآية: * (حقا على المحسنين) * فجعل هذا من باب الإحسان وإنما يقال: هذا الفعل إحسان إذا لم يكن واجبا فإن وجب عليه أداء دين فأداه لا يقال إنه أحسن، وأيضا قال تعالى: * (ما على المحسنين من سبيل) * (التوبة: 91) وهذا يدل على عدم الوجوب، والجواب عنه أن الآية التي ذكرتموها تدل على قولنا لأنه تعالى قال: * (حقا على المحسنين) * فذكره بكلمة * (على) * وهي للوجوب، ولأنه إذا قيل: هذا حق على فلان، لم يفهم منه الندب بل الوجوب.
المسألة الثالثة: أصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعا غير باق بل منقضيا عن قريب، ولهذا يقال: الدنيا متاع، ويسمى التلذذ تمتعا لانقطاعه بسرعة وقلة لبث.
أما قوله تعالى: * (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: * (الموسع) * الغني الذي يكون في سعة من غناه، يقال: أوسع الرجل إذا
148

كثر ماله، واتسعت حاله، ويقال: أوسعه كذا أي وسعه عليه، ومنه قوله تعالى: * (وإنا لموسعون) * (الذاريات: 47) وقوله: * (قدره) * أي قدر إمكانه وطاقته، فحذف المضاف، والمقتر الذي في ضيق من فقره وهو المقل الفقير، وأقتر إذا افتقر.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم * (قدره) * بسكون الدال، والباقون قدره بفتح الدال، وهما لغتان في جميع معاني القدر، يقال: قدر القوم أمرهم يقدرونه قدرا، وهذا قدر هذا، واحمل على رأسك قدر ما تطيق، وقدر الله الرزق يقدره ويقدره قدرا، وقدرت الشيء بالشيء أقدره قدرا، وقدرت على الأمر أقدر عليه قدرة، كل هذا يجوز فيه التحريك والتسكين، يقال: هم يختصمون في القدر والقدر، وخدمته بقدر كذا وبقدر كذا، قال الله تعالى: * (فسالت أودية بقدرها) * (الرعد: 17) وقال: * (وما قدروا الله حق قدره) * (الأنعام: 91) ولو حرك لكان جائزا، وكذلك: * (إنا كل شيء خلقناه بقدر) * (القمر: 49) ولو خفف جاز.
المسألة الثالثة: أن قوله تعالى: * (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) * يدل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد، ولأنها كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات، وبين أن الموسع يخالف المقتر وقال الشافعي: المستحب على الموسع خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهما، وعلى المقتر مقنعة، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أكثر المتعة خادم وأقلها مقنعة، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة، وقال أبو حنيفة المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل، قال: لأن حال المرأة التي يسمى لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها، ثم لما لم يجب لها زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول، فلأن لا يجب زيادة على نصف مهر المثل أولى والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (متاعا بالمعروف) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: معنى الآية أنه يجب أن يكون على قدر حال الزوج في الغنى والفقر، ثم اختلفوا فمنهم من يعتبر حالهما، وهو قول القاضي، ومنهم من يعتبر حال الزوج فقط قال أبو بكر الرازي رحمه الله في المتعة: يعتبر حال الرجل، وفي مهر المثل حالها، وكذلك في النفقة واحتج أبو بكر بقوله: * (وعلى الموسع قدره) * واحتج القاضي بقوله: * (بالمعروف) * فإن ذلك يدل على حالهما لأنه ليس من المعروف أن يسوى بين الشريفة والوضيعة.
المسألة الثانية: * (متاعا) * تأكيد لمتعوهن، يعني: متعوهن تمتيعا بالمعروف و * (حقا) * صفة لمتاعا أي: متاعا واجبا عليهم، أو حق ذلك حقا على المحسنين، وقيل: نصب على الحال من قدره
149

لأنه معرفة، والعامل فيه الظرف، وقيل: نصب على القطع.
وأما قوله: * (على المحسنين) * ففي سبب تخصيصه بالذكر وجوه أحدها: أن المحسن هو الذي ينتفع بهذا البيان: كقوله: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) والثاني: قال أبو مسلم: المعنى أن من أراد أن يكون من المحسنين فهذا شأنه وطريقه، والمحسن هو المؤمن، فيكون المعنى أن العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين الثالث: * (حقا على المحسنين) * إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى.
قوله تعالى
* (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المطلقة غير الممسوسة إذا لم يفرض لها مهر، تكلم في المطلقة غير الممسوسة إذا كان قد فرض لها مهر. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر، وقال أبو حنيفة: الخلوة الصحيحة تقرر المهر، ويعني بالخلوة الصحيحة: أن يخلوا بها وليس هناك مانع حسي ولا شرعي، فالحسي نحو: الرتق والقرن والمرض، أو يكون معهما ثالث وإن كان نائما، والشرعي نحو، الحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق سواء كان فرضا أو نقلا، حجة الشافعي أن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر وههنا وجد الطلاق قبل المسيس فوجب القول بسقوط نصف المهر.
بيان المقدمة الأولى: قوله تعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) * فقوله: * (فنصف ما فرضتم) * ليس كلاما تاما بل لا بد من إضمار آخر ليتم الكلام، فأما أن يضمر * (فنصف ما فرضتم) * ساقط، أو يضمر * (فنصف ما فرضتم) * ثابت والأول هو
150

المقصود، والثاني مرجوح لوجوه أحدها: أن المعلق على الشيء بكلمة إن عدم ذلك الشيء ظاهرا، فلو حملناه على الوجوب تركنا العمل بقضية التعليق، لأنه غير منفي قبله، أما لو حملناه على السقوط، عملنا بقضية التعليق، لأنه منفي قبله وثانيها: أن قوله تعالى: * (وقد فرضتم لهن فريضة) * يقتضي وجوب كل المهر عليه، لأنه لما التزم لزمه الكل لقوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * فلم تكن الحاجة إلى بيان ثبوت النصف قائمة لأن المقتضى لوجوب الكل مقتض أيضا لوجوب النصف إنما المحتاج إليه بيان سقوط النصف، لأن عند قيام المقتضى لوجوب الكل كان الظاهر هو وجوب الكل، فكان سقوط البعض في هذا المقام هو المحتاج إلى البيان، فكان حمل الآية على بيان السقوط أولى من حملها على بيان الوجوب وثالثها: أن الآية الدالة على وجوب إيتاء كل المهر قد تقدمت كقوله: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) * (البقرة: 129) فحمل الآية على سقوط النصف أولى من حملها على وجوب النصف ورابعها: وهو أن المذكور في الآية هو الطلاق قبل المسيس، وكون الطلاق واقعا قبل المسيس يناسب سقوط نصف المهر، ولا يناسب وجوب شيء، فلما كان المذكور في الآية ما يناسب السقوط، لا ما يناسب الوجوب كان إضمار السقوط أولى، وإنما استقصينا في هذه الوجوه لأن منهم من قال: إن معنى الآية: فنصف ما فرضتم واجب، وتخصيص النصف بالوجوب لا يدل على سقوط النصف الآخر، إلا من حيث دليل الخطاب، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجة، فكان غرضنا من هذا الاستقصاء دفع هذا السؤال.
بيان المقدمة الثانية: وهي أن ههنا وجد الطلاق قبل المسيس، هو أن المراد بالمسيس إما حقيقة المس باليد أو جعل كناية عن الوقاع، وأيهما كان فقد وجد الطلاق قبله، حجة أبي حنيفة قوله تعالى: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * (النساء: 20) إلى قوله: * (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * (النساء: 21) وجه التمسك به من وجهين الأول: هو أنه تعالى نهى عن أخذ المهر، ولم يفصل بين الطلاق وعدم الطلاق إلا أن توافقنا على أنه خص الطلاق قبل الخلوة، ومن ادعى التخصيص ههنا فعليه البيان والثاني: أن الله تعالى نهى عن أخذ المهر وعلل بعلة الإفضاء، وهي الخلوة، والإفضاء مشتق من الفضاء، وهو المكان الخالي، فعلمنا أن الخلوة تقرر المهر.
وجوابنا عن ذلك أن الآية التي تمسكوا بها عامة، والآية التي تمسكنا بها خاصة والخاص مقدم على العام والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (وقد فرضتم لهن فريضة) * حال من مفعول * (طلقتموهن) * والتقدير:
151

طلقتموهن حال ما فرضتم لهن فريضة.
أما قوله تعالى: * (إلا أن يعفون) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: إنما لم تسقط النون من * (يعفون) * وإن دخلت عليه * (أن) * الناصبة للأفعال لأن * (يعفون) * فعل النساء، فاستوى فيه الرفع والنصب والجزم، والنون في * (يعفون) * إذا كان الفعل مسندا إلى النساء ضمير جمع المؤنث، وإذا كان الفعل مسندا إلى الرجال فالنون علامة الرفع فلذلك لم تسقط النون التي هي ضمير جمع المؤنث، كما لم تسقط الواو التي هي ضمير جمع المذكر، والساقط في * (يعفون) * إذا كان للرجال الواو التي هي لام الفعل في * (يعفون) * لا الواو التي هي ضمير الجمع، والله أعلم.
المسألة الثانية: المعنى: إلا أن يعفون المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته، ولا استمتع بي. فكيف آخذ منه شيئا.
أما قوله تعالى: * (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية قولان الأول: أنه الزوج، وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام، وسعيد بن المسيب، وكثير من الصحابة والتابعين وهو قول أبي حنيفة.
والقول الثاني: أنه الولي، وهو قول الحسن، ومجاهد وعلقمة، وهو قول أصحاب الشافعي.
حجة القول الأول وجوه الأول: أنه ليس للولي أن يهب مهر موليته صغيرة كانت أو كبيرة فلا يمكن حمل هذه الآية على الولي والثاني: أن الذي بيد الولي هو عقد النكاح، فإذا عقد حصلت العقدة، لأن بناء الفعلة يدل على المفعول، كالأكلة واللقمة، وأما المصدر فالعقد كالأكل واللقم، ثم من المعلوم أن العقدة الحاصلة بعد العقد في يد الزوج لا في يد الولي والثالث: أن قوله تعالى: * (الذي بيده عقدة النكاح) * معناه الذي بيده عقدة نكاح ثابت له لا لغيره، كما أن قوله: * (ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) * (النازعات: 40) أي نهى النفس عن الهوى الثابت له لا لغيره، كانت الجنة ثابتة له، فتكون مأواه الرابع: ما روي عن جبير بن مطعم، أنه تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل الصداق، وقال: أنا أحق بالعفو، وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج.
حجة من قال: المراد هو الولي وجوه الأول: أن الصادر من الزوج هو أن يعطيها كل المهر، وذلك يكون هبة، والهبة لا تسمى عفوا، أجاب الأولون عن هذا من وجوه أحدها: أنه كان الغالب عندهم أن يسوق المهر إليها عند التزوج، فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها، فإذا
152

ترك المطالبة فقد عفا عنها وثانيها: سماه عفوا على طريق المشاكلة وثالثها: أن العفو قد يراد به التسهيل يقال: فلان وجد المال عفوا صفوا، وقد بينا وجه هذا القول في تفسير قوله تعالى: * (فمن عفى له من أخيه شيء) * وعلى هذا عفو الرجل أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة.
أجاب القائلون بأن المراد هو الولي عن السؤال الأول بأن صدور العفو عن الزوج على ذلك الوجه لا يحصل إلا على بعض التقديرات والله تعالى ندب إلى العفو مطلقا وحمل المطلق على المقيد خلاف الأصل، وأجابوا عن السؤال الثاني أن العفو الصادر عن المرأة هو الإبراء وهذا عفو في الحقيقة أما الصادر عن الرجل محض الهبة فكيف يسمى عفوا؟.
وأجابوا عن السؤال الثالث بأنه لو كان العفو هو التسهيل لكان كل من سهل على إنسان شيئا يقال إنه عفا عنه ومعلوم أنه ليس كذلك.
الحجة الثانية: للقائلين بأن المراد هو الولي هو أن ذكر الزوج قد تقدم بقوله عز وجل: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) * فلو كان المراد بقوله: * (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) * هو الزوج، لقال: أو تعفو على سبيل المخاطبة، فلما لم يفعل ذلك بل عبر عنه بلفظ المغايبة، علمنا أن المراد منه غير الزواج.
وأجاب الأولون بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة التنبيه على المعنى الذي من أجله يرغب الزوج في العفو، والمعنى: إلا أن يعفو أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق وإنما فارقها الزوج، فلا جرم كان حقيقا بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها.
الحجة الثالثة: للقائلين بأنه هو الولي هو أن الزوج ليس بيده البتة عقدة النكاح، وذلك لأن قبل النكاح كان الزوج أجنبيا عن المرأة، ولا قدرة له على التصرف فيها بوجه من الوجوه، فلا يكون له قدرة على إنكاحها البتة وأما بعد النكاح فقد حصل النكاح ولا قدرة على إيجاد الموجود بل له لا قدرة على إزالة النكاح، والله تعالى أثبت العفو لمن في يده وفي قدرته عقدة النكاح، فلما ثبت أن الزوج ليس له يد ولا قدرة على عقد النكاح ثبت أنه ليس المراد هو الزوج، أما الولي فله قدرة على إنكاحها، فكان المراد من الآية هو الولي لا الزوج، ثم إن القائلين بهذا القول أجابوا عن دلائل من قال: المراد هو الزوج.
أما الحجة الأولى: فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة عند المباشرة وأخرى عند السبب يقال بنى الأمير دارا، وضرب دينارا، والظاهر أن النساء إنما يرجعن في مهماتهن وفي معرفة مصالحهن إلى أقوال الأولياء والظاهر أن كل ما يتعلق بأمر التزوج فإن المرأة لا تخوض
153

فيه، بل تفوضه بالكلية إلى رأي الولي، وعلى هذا التقدير يكون حصول العفو باختيار الولي وبسعيه فلهذا السبب أضيف العفو إلى الأولياء.
وأما الحجة الثانية: وهي قولهم: الذي بيد الولي عقد النكاح لا عقدة النكاح، قلنا: العقدة قد يراد بها العقد قال تعالى: * (ولا تعزموا عقدة النكاح) * سلمنا أن العقدة هي المعقودة لكن تلك المعقودة إنما حصلت وتكونت بواسطة العقد، وكان عقد النكاح في يد الولي ابتداء، فكانت عقدة النكاح في يد الولي أيضا بواسطة كونها من نتائج العقد ومن آثاره.
وأما الحجة الثالثة: وهي قوله: إن المراد من الآية الذي بيده عقدة النكاح لنفسه فجوابه: أن هذا التقييد لا يقتضيه اللفظ لأنه إذا قيل: فلان في يده الأمر والنهي والرفع والخفض فلا يراد به أن الذي في يده الأمر نفسه ونهى نفسه بل المراد أن في يده أمر غيره ونهى غيره فكذا ههنا.
المسألة الثانية: للشافعي أن يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا يجوز النكاح إلا بالولي، وذلك لأن جمهور المفسرين أجمعوا على أن المراد من قوله: * (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) * إما الزوج وإما الولي، وبطل حمله على الزوج لما بينا أن الزوج لا قدرة له البتة على عقدة النكاح، فوجب حمله على الولي.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (بيده عقدة النكاح) * هذا يفيد الحصر لأنه إذا قيل: بيده الأمر والنهي معناه أنه بيده لا بيد غيره، قال تعالى: * (لكم دينكم) * (الكافرون: 6) أي لا لغيركم، فكذا ههنا بيد الولي عقدة النكاح لا بيد غيره، وإذا كان كذلك فوجب أن يكون بيد المرأة عقدة النكاح وذلك هو المطلوب والله أعلم.
قوله تعالى: * (وأن تعفو أقرب للتقوى) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا خطاب للرجال والنساء جميعا إلا أن الغلبة للذكور إذا اجتمعوا مع الإناث، وسبب التغليب أن الذكورة أصل والتأنيث فرع في اللفظ وفي المعنى أما في اللفظ فلأنك تقول: قائم. ثم تريد التأنيث فتقول: قائمة. فاللفظ الدال على المذكر هو الأصل، والدال على المؤنث فرع عليه، وأما في المعنى فلأن الكمال للذكور والنقصان للإناث، فلهذا السبب متى اجتمع التذكير والتأنيث كان جانب التذكير مغلبا.
المسألة الثانية: موضع * (أن) * رفع بالابتداء، والتقدير: والعفو أقرب للتقوى، واللام بمعنى * (إلى) *.
المسألة الثالثة: معنى الآية: عفو بعضكم عن بعض أقرب إلى حصول معنى التقوى وإنما
154

كان الأمر كذلك لوجهين الأول: أن من سمح بترك حقه فهو محسن، ومن كان محسنا فقد استحق الثواب، ومن استحق الثواب نفى بذلك الثواب ما هو دونه من العقاب وأزاله والثاني: أن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظلم الذي هو التقوى في الحقيقة، لأن من سمح بحقه وهو له معرض تقربا إلى ربه كان أبعد من أن يظلم غيره يأخذ ما ليس له بحق، ثم قال تعالى: * (ولا تنسوا الفضل بينكم) * وليس المراد منه النهى عن النسيان لأن ذلك ليس في الوسع بل المراد منه الترك، فقال تعالى: ولا تتركوا الفضل والإفضال فيما بينكم، وذلك لأن الرجل إذا تزوج بالمرأة فقد تعلق قلبها به، فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سببا لتأذيها منه، وأيضا إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهرا من غير أن انتفع بها البتة صار ذلك سببا لتأذيه منها، فندب تعالى كل واحد منهما إلى فعل يزيل ذلك التأذي عن قلب الآخر، فندب الزوج إلى أن يطيب قلبها بأن يسلم المهر إليها بالكلية، وندب المرأة إلى ترك المهر بالكلية، ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجرى مجرى التهديد على العادة المعلومة، فقال: * (إن الله بما تعملون بصير) *.
الحكم الرابع عشر
حكم المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى
قوله تعالى
* (حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قانتين) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين للمكلفين ما بين من معالم دينه، وأوضح لهم من شرائع شرعه أمرهم بعد ذلك بالمحافظة على الصلوات وذلك لوجوه أحدها: أن الصلاة لما فيها من القراءة والقيام والركوع والسجود والخضوع والخشوع تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى، وزوال التمرد عن الطبع، وحصول الانقياد لأوامر الله تعالى والانتهاء عن مناهيه، كما قال: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (العنكبوت: 45) والثاني: أن الصلاة تذكر العبد جلالة الربوبية وذلة العبودية وأمر الثواب والعقاب فعند ذلك يسهل عليه الانقياد للطاعة ولذلك قال: * (استعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 45) والثالث: أن كل ما تقدم من بيان النكاح والطلاق والعدة اشتغال بمصالح الدنيا، فأتبع ذلك بذكر الصلاة التي هي مصالح الآخرة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أجمع المسلمون على أن الصلاة المفروضة خمسة، وهذه الآية التي نحن في
155

تفسيرها دالة على ذلك، لأن قوله: * (حافظوا على الصلوات) * يدل على الثلاثة من حيث أن أقل الجمع ثلاثة، ثم إن قوله تعالى: * (والصلاة الوسطى) * يدل على شيء أزيد من الثلاثة، وإلا لزم التكرار، والأصل عدمه، ثم ذلك الزائد يمتنع أن يكون أربعة، وإلا فليس لها وسطى، فلا بد وأن ينضم إلى تلك الثلاثة عدد آخر يحصل به للمجموع وسط، وأقل ذلك أن يكون خمسة، فهذه الآية دالة على وجوب الصلوات الخمسة بهذا الطريق، واعلم أن هذا الاستدلال إنما يتم إذا بينا أن المراد من الوسطى ما تكون وسطى في العدد لا ما تكون وسطى بسبب الفضيلة ونبين ذلك بالدليل إن شاء الله تعالى إلا أن هذه الآية وإن دلت على وجوب الصلوات الخمس لكنها لا تدل على أوقاتها، والآيات الدالة على تفصيل الأوقات أربع:
الآية الأولى: قوله: * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) * (الروم: 17) وهذه الآية أبين آيات المواقيت فقوله: * (فسبحان الله) * أي سبحوا الله معناه صلوا لله حين تمسون، أراد به صلاة المغرب والعشاء * (وحين تصبحون) * أراد صلاة الصبح * (وعشيا) * (مريم: 11) أراد به صلاة العصر * (وحين تظهرون) * (الروم: 18) صلاة الظهر.
الآية الثانية: قوله: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) * (الإسراء: 78) أراد بالدلوك زوالها فدخل فيه صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم قال: * (وقرآن الفجر) * أراد صلاة الصبح.
الآية الثالثة: قوله: * (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار) * (طه: 130) فمن الناس من قال: هذه الآية تدل على الصلوات الخمس، لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخلان في هاتين اللفظتين.
الآية الرابعة: قوله تعالى: * (وأقم الصلاة طرفي النهاء وزلفا من الليل) * (هود: 114) فالمراد بطرفي النهار: الصبح، والعصر، وقوله: * (وزلفا من الليل) * المغرب والعشاء، وكان بعضهم يتمسك به في وجوب الوتر، لأن لفظ زلفا جمع فأقله الثلاثة.
المسألة الثانية: اعلم أن الأمر بالمحافظة على الصلاة أمر بالمحافظة على جميع شرائطها، أعني طهارة البدن، والثوب، والمكان، والمحافظة على ستر العورة، واستقبال القبلة، والمحافظة على جميع أركان الصلاة، والمحافظة على الاحتراز عن جميع مبطلات الصلاة سواء كان ذلك من أعمال القلوب أو من أعمال اللسان، أو من أعمال الجوارح، وأهم الأمور في الصلاة، رعاية النية فإنها هي المقصود الأصلي من الصلاة، قال تعالى: * (وأقم الصلاة لذكري) * (طه: 14) فمن أدى الصلاة على هذا الوجه كان محافظا على الصلاة وإلا فلا.
156

فإن قيل: المحافظة لا تكون إلا بين اثنين، كالمخاصمة، والمقاتلة، فكيف المعنى ههنا؟.
والجواب: من وجهين أحدهما: أن هذه المحافظة تكون بين العبد والرب، كأنه قيل له: احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة وهذا كقوله: * (فاذكروني أذكركم) * (البقرة: 152) وفي الحديث: " احفظ الله يحفظك " الثاني: أن تكون المحافظة بين المصلي والصلاة فكأنه قيل: احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة،
واعلم أن حفظ الصلاة للمصلي على ثلاثة أوجه الأول: أن الصلاة تحفظه عن المعاصي، قال تعالى: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (العنكبوت: 45) فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن الفحشاء والثاني: أن الصلاة تحفظه من البلايا والمحن، قال تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 153) وقال تعالى: * (وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة) * (المائدة: 12) ومعناه: إني معكم بالنصرة والحفظ إن كنتم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة والثالث: أن الصلاة تحفظ صاحبها وتشفع لمصليها، قال تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) * (البقرة: 110) ولأن الصلاة فيها القراءة، والقرآن يشفع لقارئه، وهو شافع مشفع وفي الخبر: " إنه تجئ البقرة وآل عمران كأنهما عمامتان فيشهدان ويشفعان " وأيضا في الخبر " سورة الملك تصرف عن المتهجد بها عذاب القبر وتجادل عنه في الحشر وتقف في الصراط عند قدميه وتقول للنار لا سبيل لك عليه " والله أعلم.
المسألة الثالثة: اختلفوا في الصلاة الوسطى على سبعة مذاهب.
فالقول الأول: أن الله تعالى أمر بالمحافظة عليها، ولم يبين لنا أنها أي صلاة هي، وإنما قلنا: إنه لم يبين لأنه لو بين ذلك لكان إما أن يقال: إنه تعالى بينها بطريق قطعي، أو بطريق ظني والأول باطل لأنه بيان إما أن يكون بهذه الآية، أو بطريق آخر قاطع، أو خبر متواتر ولا يمكن أن يكون البيان حاصلا في هذه الآية، لأن عدد الصلوات خمس، وليس في الآية ذكر لأولها وآخرها، وإذا كان كذلك أمكن في كل واحدة من تلك الصلوات أن يقال: إنما هي الوسطى، وإما أن يقال: بيان حصل في آية أخرى أو في خبر متواتر، وذلك مفقود، وأما بيانه بالطريق الظني وهو خبر الواحد والقياس فغير جائز، لأن الطريق المفيد للظن معتبر في العمليات، وهذه المسألة ليست كذلك، فثبت أن الله تعالى لم يبين أن الصلاة الوسطى ما هي؟ ثم قالوا: والحكمة فيه أنه تعالى لما خصها بمزيد التوكيد، مع أنه تعالى لم يبينها جوز المرء في كل صلاة يؤديها أنها هي الوسطى فيصير ذلك داعيا إلى أداء الكل على نعت الكمال والتمام، ولهذا السبب أخفى الله تعالى ليلة القدر في رمضان، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى اسمه الأعظم في جميع الأسماء، وأخفى وقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفا
157

من الموت في كل الأوقات، فيكون آتيا بالتوبة في كل الأوقات، وهذا القول اختاره جمع من العلماء، قال محمد بن سيرين: إن رجلا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال: حافظ على الصلوات كلها تصبها، وعن الربيع بن خيثم أنه سأله واحد عنها، فقال: يا ابن عم الوسطى واحدة منهن فحافظ على الكل تكن محافظا على الوسطى ثم قال الربيع: لو علمتها بعينها لكنت محافظا لها ومضيعا لسائرهن، قال السائل: لا. قال الربيع: فإن حافظت عليهن فقد حافظت على الوسطى.
القول الثاني: هي مجموع الصلوات الخمس وذلك لأن هذه الخمسة هي الوسطى من الطاعات وتقريره أن الإيمان بضع وسبعون درجة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والصلوات المكتوبات دون الإيمان وفوق إماطة الأذى فهي واسطة بين الطرفين.
القول الثالث: أنها صلاة الصبح، وهذا القول من الصحابة قول علي عليه السلام، وعمر وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي أمامة الباهلي، ومن التابعين قول طاوس، وعطاء، وعكرمة ومجاهد، وهو مذهب الشافعي رحمه الله والذي يدل على صحة هذا القول وجوه الأول: أن هذه الصلاة تصلى في الغلس فأولها يقع في الظلام فأشبهت صلاة الليل، وآخرها يقع في الضوء فأشبهت صلاة النهار الثاني: أن هذه الصلاة تؤدى بعد طلوع الصبح، وقبل طلوع الشمس، وهذا القدر من الزمان لا تكون الظلمة فيه تامة، ولا يكون الضوء أيضا تاما، فكأنه ليس بليل ولا نهار فهو متوسط بينهما الثالث: أنه حصل في النهار التام صلاتان: الظهر والعصر، وفي الليل صلاتان: المغرب والعشاء، وصلاة الصبح كالمتوسط بين صلاتي الليل والنهار.
فإن قيل: فهذه المعاني حاصلة في صلاة المغرب قلنا: إنا نرجح صلاة الصبح على المغرب بكثرة فضائل صلاة الصبح على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى الرابع: أن الظهر والعصر يجمعان بعرفة بالاتفاق، وفي السفر عند الشافعي، وكذا المغرب والعشاء، وأما صلاة الفجر فهي منفردة في وقت واحد فكان وقت الظهر والعصر وقتا واحدا ووقت المغرب والعشاء وقتا واحدا، ووقت الفجر متوسطا بينهما، قال القفال رحمه الله: وتحقيق هذا الاحتجاج يرجع إلى أن الناس يقولون: فلان وسط، إذا لم يمل إلى أحد الخصمين، فكان منفردا بنفسه عنهما، والله أعلم الخامس: قوله تعالى: * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) * (الإسراء: 78) وقد ثبت بالتواتر أن المراد منه صلاة الفجر، وإنما جعلها مشهودا لأنها تؤدى بحضرة ملائكة الليل وملائكة النهار.
إذا عرفت هذا فوجه الاستدلال بهذه الآية من وجهين أحدهما: أن الله تعالى أفرد صلاة
158

الفجر بالذكر، فدل هذا على مزيد فضلها، ثم إنه تعالى خص الصلاة الوسطى بمزيد التأكيد، فيغلب على الظن أن صلاة الفجر لما ثبت أنها أفضل بتلك الآية، وجب أن تكون هي المراد بالتأكيد المذكور في هذه الآية والثاني: أن الملائكة تتعاقب بالليل والنهار، فلا تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في وقت واحد إلا صلاة الفجر، فثبت أن صلاة الفجر قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه، فكانت كالشئ المتوسط السادس: أنه تعالى قال بعد ذكر الصلاة الوسطى: * (وقوموا لله قانتين) * قرن هذه الصلاة بذكر القنوت، وليس في الشرع صلاة ثبت بالأخبار الصحاح القنوت فيها إلا الصبح، فدل على أن المراد بالصلاة الوسطى هي صلاة الصبح السابع: لا شك أنه تعالى إنما أفردها بالذكر لأجل التأكيد، ولا شك أن صلاة الصبح أحوج الصلوات إلى التأكيد، إذ ليس في الصلاة أشق منها، لأنها تجب على الناس في ألذ أوقات النوم، حتى إن العرب كانوا يسمون نوم الفجر العسيلة للذتها، ولا شك أن ترك النوم اللذيذ الطيب في ذلك الوقت، والعدول إلى استعمال الماء البارد، والخروج إلى المسجد والتأهب للصلاة شاق صعب على النفس، فيجب أن تكون هي المراد بالصلاة الوسطى إذ هي أشد الصلوات حاجة إلى التأكيد الثامن: أن صلاة الصبح أفضل الصلوات، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد من الصلاة الوسطى صلاة الصبح، إنما قلنا: إنها أفضل الصلوات لوجوه أحدها: قوله تعالى: * (الصابرين والصادقين) * إلى قوله تعالى: * (والمستغفرين بالأسحار) * (آل عمران: 17) فجعل ختم طاعاتهم الشريفة وعباداتهم الكاملة بذكر كونهم مستغفرين بالأسحار، ثم
يجب أن يكون أعظم أنواع الاستغفار هو أداء الفرض، لقوله عليه الصلاة والسلام حاكيا عن ربه تعالى " لن يتقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم " وذلك يقتضي أن أفضل الطاعات بعد الإيمان هو صلاة الصبح وثانيها: ما روي فيها أن التكبيرة الأولى منها مع الجماعة خير من الدنيا وما فيها وثالثها: أنه ثبت بالأخبار الصحيحة أن صلاة الصبح مخصوصة بالأذان مرتين: مرة قبل طلوع الفجر، ومرة أخرى بعده وذلك لأن المقصود من المرة الأولى إيقاظ الناس حتى يقوموا ويتشمروا للوضوء ورابعها: أن الله تعالى سماها بأسماء، فقال في بني إسرائيل: * (وقرآن الفجر) * (الإسراء: 78) وقال في النور: * (من قبل صلاة الفجر) * (النور: 58) وقال في الروم: * (وحين تصبحون) * (الروم: 17) وقال عمر بن الخطاب: المراد من قوله: * (وإدبار النجوم) * (الطور: 49) صلاة الفجر وخامسها: أنه تعالى أقسم به فقال: * (والفجر * وليال عشر) * (الفجر: 1، 2) ولا يعارض هذا بقوله تعالى: * (والعصر * إن الإنسان لفي خسر) * (العصر: 1، 2) فإنا إذا سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر لكن في صلاة الفجر تأكيد، وهو قوله: * (أقم الصلاة طرفي النهار) * (هود: 114) وقد بينا أن هذا التأكيد لم يوجد في العصر
159

وسادسها: أن التثويب في أذان الصبح معتبر، وهو أن يقول بعد الفراغ من الحيعلتين: الصلاة خير من النوم مرتين، ومثل هذا التأكيد غير حاصل في سائر الصلوات وسابعها: أن الإنسان إذا قام من منامه فكأنه كان معدوما، ثم صار موجودا، أو كان ميتا، ثم صار حيا، بل كأن الخلق كانوا في الليل كلهم أمواتا، فصاروا أحياء، فإذا قاموا من منامهم وشاهدوا هذا الأمر العظيم من كمال قدرة الله ورحمته حيث أزال عنهم ظلمة الليل، وظلمة النوم والغفلة، وظلمة العجز والخيرة، وأبدل الكل بالإحسان، فملأ العالم من النور، والأبدان من قوة الحياة والعقل والفهم والمعرفة، فلا شك أن هذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية، وإظهار الخضوع والذلة والمسكنة، فثبت بمجموع هذه البيانات أن صلاة الصبح أفضل الصلوات، فكان حمل الوسطى عليها أولى التاسع: ما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه سئل عن الصلاة الوسطى، فقال: كنا نرى أنها الفجر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى صلاة الصبح ثم قال: هذه هي الصلاة الوسطى العاشر: أن سنن الصبح آكد من سائر السنن ففرضها يجب أن يكون أقوى من سائر الفروض فصرف التأكيد إليها أولى، فهذا جملة ما يستدل به على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح.
القول الرابع: قول من قال: إنها صلاة الظهر، ويروى هذا القول عن عمر وزيد وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد رضي الله عنهم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واحتجوا عليه بوجوه الأول: أن الظهر كان شاقا عليهم لوقوعه في وقت القيلولة وشدة الحر فصرف المبالغة إليه أولى، وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهاجرة، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، وربما لم يكن وراءه إلا الصف والصفان، فقال عليه الصلاة والسلام: " لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم " فنزلت هذه الآية والثاني: صلاة الظهر تقع وسط النهار وليس في المكتوبات صلاة تقع في وسط الليل أو النهار غيرها والثالث: أنها بين صلاتين نهاريتين: الفجر والعصر الرابع: أنها صلاة بين البردين: برد الغداة وبرد العشي الخامس: قال أبو العالية: صليت مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فلما فرغوا سألتهم عن الصلاة الوسطى، فقالوا التي صليتها السادس: روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " وجه الاستدلال أنها عطفت صلاة العصر على الصلاة الوسطى، والمعطوف عليه قبل المعطوف، والتي قبل العصر هي الظهر السابع: روي أن قوما كانوا عند زيد بن ثابت، فأرسلوا إلى أسامة بن زيد وسألوه عن الصلاة الوسطى، فقال:
160

هي صلاة الظهر كانت تقام في الهاجرة الثامن: روي في الأحاديث الصحيحة أن أول إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم كانت في صلاة الظهر، فدل هذا على أنها أشرف الصلوات، فكان صرف التأكيد إليها أولى التاسع: أن صلاة الجمعة هي أشرف الصلوات، وهي صلاة الظهر، فصرف المبالغة إليها أولى.
القول الخامس: قول من قال: إنها صلاة العصر، وهو من الصحابة مروي عن علي عليه السلام وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، ومن الفقهاء: النخعي، وقتادة، والضحاك، وهو مروي عن أبي حنيفة، واحتجوا عليه بوجوه الأول: ما روي عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: " شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا " وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وسائر الأئمة، وهو عظيم الوقع في المسألة، وفي صحيح مسلم: " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر " ومن الفقهاء من أجاب عنه فقال: العصر وسط، ولكن ليس هي المذكورة في القرآن، فههنا صلاتان وسطيان الصبح والعصر، وأحدهما ثبت بالقرآن والآخر بالسنة، كما أن الحرم حرمان: حرم مكة بالقرآن، وحرم المدينة بالسنة، وهذا الجواب متكلف جدا الثاني: قالوا روي في صلاة العصر من التأكيد ما لم يرو في غيرها قال عليه الصلاة والسلام: " من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " وأيضا أقسم الله تعالى بها فقال: * (والعصر إن الإنسان لفي خسر) * (العصر: 1، 2) فدل على أنها أحب الساعات إلى الله تعالى الثالث: أن العصر بالتأكيد أولى من حيث إن المحافظة على سائر أوقات الصلاة أخف وأسهل من المحافظة على صلاة العصر، والسبب فيه أمران أحدهما: أن وقت صلاة العصر أخفى الأوقات، لأن دخول صلاة الفجر بطلوع الفجر المستطير ضوؤه، ودخول الظهر بظهور الزوال، ودخول المغرب بغروب القرص ودخول العشاء بغروب الشفق، أما صلاة العصر فلا يظهر دخول وقتها إلا بنظر دقيق وتأمل عظيم في حال الظل، فلما كانت معرفته أشق لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر الثاني: أن أكثر الناس عند العصر يكونون مشتغلين بالمهمات، فكان الإقبال على الصلاة أشق، فكان صرف التأكيد إلى هذه الصلاة أولى. الحجة الرابعة: في أن الوسطى هي العصر أشبه بالصلاة الوسطى لوجوه أحدها: أنها متوسطة بين صلاة هي شفع، وبين صلاة هي وتر، أما الشفع فالظهر، وأما الوتر فالمغرب، إلا أن العشاء أيضا كذلك، لأن قبلها المغرب وهي وتر، وبعدها الصبح وهو شفع وثانيها: العصر متوسطة بين صلاة نهارية وهي الظهر، وليلية وهي المغرب وثالثها: أن العصر بين صلاتين
161

بالليل وصلاتين بالنهار.
والقول السادس: أنها صلاة المغرب، وهو قول عبيدة السلماني، وقبيصة بن ذؤيب، والحجة فيه من وجهين الأول: أنها بين بياض النهار وسواد الليل، وهذا المعنى وإن كان حاصلا في الصبح إلا أن المغرب يرجح بوجه آخر، وهو أنه أزيد من الركعتين كما في الصبح، وأقل من الأربع كما في الظهر والعصر والعشاء، فهي وسط في الطول والقصر.
الحجة الثانية: أن صلاة الظهر تسمى بالصلاة الأولى، ولذلك ابتدأ جبريل عليه السلام بإمامة فيها، وإذا كان الظهر أول الصلوات كان الوسطى هي المغرب لا محالة.
القول السابع: أنها صلاة العشاء، قالوا لأنها متوسطة بين صلاتين لا يقصران، المغرب والصبح، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة " فهذا مجموع دلائل الناس وأقوالهم في هذه المسألة، وقد تركت ترجيح بعضها فإنه يستدعي تطويلا عظيما، والله أعلم.
المسألة الرابعة: احتج الشافعي بهذه الآية على أن الوتر ليس بواجب، قال: الوتر لو كان واجبا لكانت الصلوات الواجبة ستة، ولو كان كذلك لما حصل لها وسطى، والآية دلت على حصول الوسطى لها.
فإن قيل: الاستدلال إنما يتم إذا كان المراد هو الوسطى في العدد وهذا ممنوع بل المراد من الوسطى الفضيلة قال تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) أي عدولا وقال تعالى: * (قال أوسطهم) * (القلم: 28) أي أعدلهم، وقد أحكمنا هذا الاشتقاق في تفسير قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات وهو متوسط بين الاثنين وبين الأربع، وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في الصفة وهي صلاة الصبح فإنها تقع في وقت ليس بغاية في الظلمة ولا غاية في الضوء.
الجواب: أن الخلق الفاضل إنما يسمى وسطا لا من حيث إنه خلق فاضل، بل من حيث إنه يكون متوسطا بين رذيلتين هما طرفا الإفراط والتفريط، مثل الشجاعة فإنها خلق فاضل وهي متوسطة بين الجبن والتهور فيرجع حاصل الأمر إلى أن لفظ الوسط حقيقة فيما يكون وسطا بحسب العدد ومجاز في الخلق الحسن والفعل الحسن من حيث إن من شأنه أن يكون متوسطا بين الطرفين اللذين ذكرناهما وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.
أما قوله: نحمله على ما يكون وسطا في الزمان وهو الظهر.
162

فجوابه: أن الظهر ليست بوسط في الحقيقة، لأنها تؤدى بعد الزوال، وهنا قد زال الوسط.
وأما قوله: نحمله على الصبح لكون وقت وجوبه وسطا بين وقت الظلمة وبين وقت النور، أو على المغرب لكون عددها متوسطا بين الاثنين والأربعة.
فجوابه: أن هذا محتمل وما ذكرناه أيضا محتمل، فوجب حمل اللفظ على الكل فهذا هو وجه الاستدلال في هذه المسألة بهذه الآية بحسب الإمكان والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وقوموا لله قانتين) * ففيه وجوه أحدها: وهو قول ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر، واحتج عليه بوجهين الأول: أن قوله: * (حافظوا على الصلوات) * أمر بما في الصلاة من الفعل، فوجب أن يحمل القنوت على كل ما في الصلاة من الذكر، فمعنى الآية: وقوموا لله ذاكرين داعين منقطعين إليه والثاني: أن المفهوم من القنوت هو الذكر والدعاء، بدليل قوله تعالى: * (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما) * (الزمر: 9) وهو المعنى بالقنوت في صلاة الصبح والوتر، وهو المفهوم من قولهم: قنت على فلان لأن المراد به الدعاء عليه.
والقول الثاني: * (قانتين) * أي مطيعين، وهو قول ابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل، الدليل عليه وجهان الأول: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل قنوت في القرآن فهو الطاعة " الثاني: قوله تعالى في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم: * (ومن يقنت منكن لله ورسوله) * (النساء: 34) وقال في كل النساء: * (فالصالحات قانتات) * (النساء: 34) فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها، والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها، وهو زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما يجزئ وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد، ولو كان كما قال لوجب أن لا يصلي رأسا، لأنه يقال: كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا، فكذلك لا يحتاج إلى القليل وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل والسلف الصالح فأطالوا وأظهروا الخشوع والاستكانة وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال.
القول الثالث: * (قانتين) * ساكتين، وهو قول ابن مسعود وزيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه، ويسألهم: كم صليتم؟ كفعل أهل الكتاب، فنزل الله تعالى: * (وقوموا لله قانتين) * فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
القول الرابع: وهو قول مجاهد: القنوت عبارة عن الخشوع، وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات من هيبة الله تعالى وكان أحدهم إذا قام إلى الصلاة يهاب ربه فلا
163

يلتفت ولا يقلب الحصى، ولا يعبث بشيء من جسده، ولا يحدث نفسه بشيء من الدنيا حتى ينصرف.
القول الخامس: * (القنوت) * هو القيام، واحتجوا عليه بحديث جابر قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: " أي الصلاة أفضل؟ قال طول القنوت " يريد طول القيام، وهذا القول عندي ضعيف، وإلا صار تقدير الآية: وقوموا لله قائمين اللهم إلا أن يقال: وقوموا لله مديمين لذلك القيام فحينئذ يصير القنوت مفسرا بالإدامة لا بالقيام.
القول السادس: وهو اختيار علي بن عيسى: أن القنوت عبارة عن الدوام على الشيء والصبر عليه والملازمة له وهو في الشريعة صار مختصا بالمداومة على طاعة
الله تعالى، والمواظبة على خدمة الله تعالى، وعلى هذا التقدير يدخل فيه جميع ما قاله المفسرون، ويحتمل أن يكون المراد: وقوموا لله مديمين على ذلك القيام في أوقات وجوبه واستحبابه والله تعالى أعلم.
قوله تعالى
* (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذآ أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما أوجب المحافظة على الصلوات والقيام على أدائها بأركانها وشروطها، بين من بعد أن هذه المحافظة على هذا الحد لا تجب إلا مع الأمن دون الخوف، فقال: * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: يروى * (فرجالا) * بضم الراء و * (رجالا) * بالتشديد و * (رجلا) *.
المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه الله معنى الآية: فإن خفتم عدوا فحذف المفعول لإحاطة العلم به، قال صاحب الكشاف: فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره، وهذا القول أصح لأن هذا الحكم ثابت عند حصول الخوف، سواء كان الخوف من العدو أو من غيره، وفيه قول ثالث وهو أن المعنى: فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالا أو ركبانا، وعلى هذا التقدير الآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود.
المسألة الثالثة: في الرجال قولان أحدهما: رجالا جمع راجل مثل تجار وتاجر وصحاب
164

وصاحب والراجل هو الكائن على رجله ماشيا كان أو واقفا ويقال في جمع راجل: رجل ورجالة ورجالة ورجال ورجال.
والقول الثاني: ما ذكره القفال، وهو أنه يجوز أن يكون جمع الجمع، لأن راجلا يجمع على راجل، ثم يجمع رجل على رجال، والركبان جمع راكب، مثل فرسان وفارس، قال القفال: ويقال إنه إنما يقال راكب لمن كان على جمل، فأما من كان على فرس فإنما يقال له فارس، والله أعلم.
المسألة الرابعة: رجالا نصب على الحال، والعامل فيه محذوف، والتقدير: فصلوا رجالا أو ركبانا.
المسألة الخامسة: صلاة الخوف قسمان أحدهما: أن تكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية والثاني: في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) * (النساء: 102) وفي سياق الآيتين بيان اختلاف القولين.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا التحم القتال ولم يمكن ترك القتال لأحد، فمذهب الشافعي رحمه الله أنهم يصلون ركبانا على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة يومئون بالركوع والسجود، ويجعلون السجود أخفض من الركوع ويحترزون عن الصيحات لأنه لا ضرورة إليها وقال أبو حنيفة: لا يصلي الماشي بل يؤخر، واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجهين الأول: قال ابن عمر: * (فرجالا أو ركبانا) * يعني مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: وهو أن الخوف الذي تجوز معه الصلاة مع الترجل والمشي ومع الركوب والركض لا يمكن معه المحافظة على الاستقبال، فصار قوله: * (فرجالا أو ركبانا) * يدل على الترخص في ترك التوجه، وأيضا يدل على الترخص في ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لأن مع الخوف الشديد من العدو لا يأمن الرجل على نفسه إن وقف في مكانه لا يتمكن من الركوع والسجود، فصح بما ذكرنا دلالة رجالا أو ركبانا على جواز ترك الاستقبال، وعلى جواز الاكتفاء بالإيماء في الركوع والسجود.
إذا ثبت هذا فلنتكلم فيما يسقط عنه وفيما لا يسقط، فنقول: لا شك أن الصلاة إنما تتم بمجموع أمور ثلاثة أحدها: فعل القلب وهو النية، وذلك لا يسقط لأنه لا يتبدل حال الخوف
165

بسبب ذلك والثاني: فعل اللسان وهي القراءة، وهي لا تسقط عند الخوف، ولا يجوز له أيضا أن يتكلم حال الصلاة بكلام أجنبي، أو يأتي بصيحات لا ضرورة إليها والثالث: أعمال الجوارح فنقول: أما القيام والقعود فساقطان عنه لا محالة وأما الاستقبال فساقط على ما بيناه، وأما الركوع والسجود فالإيماء قائم مقامهما، فيجب أن يجعل الإيماء النائب عن السجود أخفض من الإيماء النائب عن الركوع، لأن هذا القدر ممكن، وأما ترك الطهارة فغير جائز لأجل الخوف، فإنه يمكنه التطهير بالماء أو التراب، إنما الخلاف في أنه إذا وجد الماء وامتنع عليه التوضي به هل يجوز له أن يتيمم بالغبار الذي يتمكن منه حال ركوبه، والأصح أنه يجوز، لأنه إذا كان خوف العطش يرخص التيمم، فالخوف على النفس أولى أن يرخص في ذلك، فهذا تفصيل قول الشافعي رحمه الله وبالجملة فاعتماده في هذا الباب على قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " واحتج أبو حنيفة بأنه عليه السلام أخر الصلاة يوم الخندق فوجب علينا ذلك أيضا.
والجواب: أن يوم الخندق لم يبلغ الخوف هذا الحد ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أخرى الصلاة فعلمنا كون هذه الآية ناسخة لذلك الفعل.
المسألة السادسة: اختلفوا في الخوف الذي يفيد هذه الرخصة وطريق الضبط أن نقول: الخوف إما أن يكون في القتال، أو في غير القتال، أما الخوف في القتال فإما أن يكون في قتال واجب، أو مباح، أو محظور، أما القتال الواجب فهو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف، وفيه نزلت الآية، ويلتحق به قتال أهل البغي، قال تعالى: * (فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) * (الحجرات: 9) وأما القتال المباح فقد قال القاضي أبو المحاسن الطبري في كتاب شرح المختصر: أن دفع الإنسان عن نفسه مباح غير واجب بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه، فإنه يجب الدفع لئلا يكون إخلالا بحق الإسلام.
إذا عرفت هذا فنقول: أما القتال في الدفع عن النفس وفي الدفع عن كل حيوان محترم، فإنه يجوز فيه صلاة الخوف، أما قصد أخذ ماله، أو إتلاف حاله، فهل له أن يصلي صلاة شدة الخوف، فيه قولان: الأصح أن يجوز، واحتج الشافعي بقوله عليه السلام: " من قتل دون ماله فهو شهيد " فدل هذا على أن الدفع عن المال كالدفع عن النفس والثاني: لا يجوز لأن حرمة الزوج أعظم، أما القتال المحظور فإنه لا تجوز فيه صلاة الخوف، لأن هذا رخصة والرخصة إعانة والعاصي لا يستحق الإعانة، أما الخوف الحاصل لا في القتال، كالهارب من الحرق والغرق والسبع وكذا
166

المطالب بالدين إذا كان معسرا خائفا من الحبس، عاجزا عن بينة الإعسار، فلهم أن يصلوا هذه الصلاة، لأن قوله تعالى: * (فإن خفتم) * مطلق يتناول الكل.
فإن قيل: قوله: * (فرجالا أو ركبانا) * يدل على أن المراد منه الخوف من العدو حال المقاتلة.
قلنا. هب أنه كذلك إلا أنه لما ثبت هناك دفعا للضرر، وهذا المعنى قائم ههنا، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعا والله أعلم.
المسألة الرابعة: روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: فرض الله على لسان نبيكم الصلاة في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، والجمهور على أن الواجب في الحضر أربع، وفي السفر ركعتان سواء كان في الخوف أو لم يكن، وأن قول ابن عباس متروك.
أما قوله تعالى: * (فإذا أمنتم) * فالمعنى بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة * (فاذكروا الله كما علمكم) * وفيه قولان الأول: فاذكروا بمعنى فافعلوا الصلاة كما علمكم بقوله: * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) * (البقرة: 238) وكما بينه بشروطه وأركانه، لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه كما كان من قبل، والصلاة قد تسمى ذكرا لقوله تعالى: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * (الجمعة: 9).
والقول الثاني: * (فاذكروا الله) * أي فاشكروه لأجل إنعامه عليكم بالأمن، طعن القاضي في هذا القول وقال: إن هذا الذكر لما كان معلقا بشرط مخصوص، وهو حصول الأمن بعد الخوف لم يكن حمله على ذكر يلزم مع الخوف والأمن جميعا على حد واحد، ومعلوم أن مع الخوف يلزم الشكر، كما يلزم مع الأمن، لأن في كلا الحالين نعمة الله تعالى متصلة، والخوف ههنا من جهة الكفار لا من جهته تعالى، فالواجب حمل قوله تعالى: * (فاذكروا الله) * على ذكر يختص بهذه الحالة.
والقول الثالث: أنه دخل تحت قوله: * (فاذكروا الله) * الصلاة والشكر جميعا، لأن الأمن بسبب الشكر محدد يلزم فعله مع فعل الصلاة في أوقاتها.
أما قوله تعالى: * (كما علمكم) * فبيان إنعامه علينا بالتعليم والتعريف، وأن ذلك من نعمه تعالى، ولولا هدايته لم نصل إلى ذلك، ثم إن أصحابنا فسروا هذا التعليم بخلق العلم والمعتزلة فسروه بوضع الدلائل، وفعل الألطاف، وقوله تعالى: * (ما لم تكونوا تعلمون) * إشارة إلى ما قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من زمان الجهالة والضلالة.
167

الحكم الخامس عشر
الوفاة
قوله تعالى
* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فى ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم * (وصية) * بالرفع، والباقون بالنصب، أما الرفع ففيه أقوال الأول: أن قوله: * (وصية) * مبتدأ وقوله: * (لأزواجهم) * خبر، وحسن الابتداء بالنكرة، لأنها متخصصة بسبب تخصيص الموضع، كما حسن قوله: سلام عليكم، وخبر بين يدي والثاني: أن يكون قوله: * (وصية لأزواجهم) * مبتدأ، ويضمر له خبر، والتقدير فعليهم وصية لأزواجهم، ونظيره قوله: * (فنصف ما فرضتم) * (البقرة: 237)، * (فدية مسلمة) * (النساء: 92)، * (فصيام ثلاثة أيام) * (المائدة: 89) والثالث: تقدير الآية: الأمر وصية، أو المفروض، أو الحكم وصية، وعلى هذا الوجه أضمرنا المبتدأ والرابع: تقدير الآية: كتب عليكم وصية والخامس: تقديره: ليكون منكم وصية والسادس: تقدير الآية: ووصية الذين يتوفون منكم وصية إلى الحول، وكل هذه الوجوه جائزة حسنة، وأما قراءة النصب ففيها وجوه الأول: تقدير الآية فليوصوا وصية والثاني: تقديرها: توصون وصية، كقولك: إنما أنت سير البريد أي تسير سير البريد الثالث: تقديرها: ألزم الذين يتوفون وصية.
أما قوله تعالى: * (متاعا) * ففيه وجوه الأول: أن يكون على معنى: متعوهن متاعا، فيكون التقدير: فليوصوا لهن وصية، وليمتعوهن متاعا الثاني: أن يكون التقدير: جعل الله لهن ذلك متاعا لأن ما قبل الكلام يدل على هذا الثالث: أنه نصب على الحال.
أما قوله: * (غير إخراج) * ففيه قولان الأول: أنه نصب بوقوعه موقع الحال كأنه
168

قال: متعوهن مقيمات غير مخرجات والثاني: انتصب بنزع الخافض، أراد من غير إخراج.
المسألة الثانية: في هذه الآية ثلاثة أقوال الأول: وهو اختيار جمهور المفسرين، أنها منسوخة، قالوا: كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة والسكنى سنة، وكان الحول عزيمة عليها في الصبر عن التزوج، ولكنها كانت مخيرة في أن تعتد إن شاءت في بيت الزوج، وإن شاءت خرجت قبل الحول، لكنها متى خرجت سقطت نفقتها، هذا جملة ما في هذه الآية، لأنا إن قرأنا * (وصية) * بالرفع، كان المعنى: فعليهم وصية، وإن قرأناها
بالنصب، كان المعنى: فليوصوا وصية، وعلى القراءتين هذه الوصية واجبة، ثم إن هذه الوصية صارت مفسرة بأمرين أحدهما: المتاع والنفقة إلى الحول والثاني: السكنى إلى الحول، ثم أنزل تعالى أنهن إن خرجن فلا جناح عليكم في ذلك، فثبت أن هذه الآية توجب أمرين أحدهما: وجوب النفقة والسكنى من مال الزوج سنة والثاني: وجوب الاعتداد سنة، لأن وجوب السكنى والنفقة من مال الميت سنة توجب المنع من التزوج بزوج آخر في هذه السنة، ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين، أما الوصية بالنفقة والسكنى فلأن القرآن دل على ثبوت الميراث لها، والسنة دلت على أنه لا وصية لوارث، فصار مجموع القرآن والسنة ناسخا للوصية للزوجة بالنفقة والسكنى في الحول، وأما وجوب العدة في الحول فهو منسوخ بقوله: * (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * (البقرة: 234) فهذا القول هو الذي اتفق عليه أكثر المتقدمين والمتأخرين من المفسرين.
القول الثاني: وهو قول مجاهد: أن الله تعالى أنزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتين أحدهما: ما تقدم وهو قوله: * (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * والأخرى: هذه الآية، فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين. فنقول: إنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها، كانت عدتها أربعة أشهر وعشرا على ما في تلك الآية المتقدمة، وأما إن اختارت السكنى في دار زوجها، والأخذ من ماله وتركته، فعدتها هي الحول، وتنزيل الآيتين على هذين التقديرين أولى، حتى يكون كل واحد منهما معمولا به.
القول الثالث: وهو قول أبي مسلم الأصفهاني: أن معنى الآية: من يتوفى منكم ويذرون أزواجا، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة، قال: والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية
169

يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول، فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب، وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل، واحتج على قوله بوجوه أحدها: أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان الثاني: أن يكون الناسخ متأخرا عن المنسوخ في النزول، وإذا كان متأخرا عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخرا عنه في التلاوة أيضا، لأن هذا الترتيب أحسن، فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة، فهو وإن كان جائزا في الجملة، إلا أنه يعد من سوء الترتيب وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك التلاوة، كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخة بتلك.
الوجه الثالث: وهو أنه ثبت في علم أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص، كان التخصيص أولى، وههنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد اندفع النسخ فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل، وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر، لأنكم تقولون تقدير الآية: فعليهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها: فليوصوا وصية، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى، وأبو مسلم يقول: بل تقدير الآية: والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها: وقد أوصوا وصية لأزواجهم، فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج، وإذا كان لا بد من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضماره، ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية، وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم، وأن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل، مع ما في القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه، وهذا كلام واضح.
وإذا عرفت هذا فنقول: هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية، فالشرط هو قوله: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج) * فهذا كله شرط، والجزاء هو قوله: * (فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف) * فهذا تقرير قول أبي مسلم، وهو في غاية الصحة.
المسألة الثالثة: المعتدة عن فرقة الوفاة لا نفقة لها ولا كسوة، حاملا كانت أو حائلا، وروي عن علي عليه السلام وابن عمر رضي الله عنهما، أن لها النفقة إذا كانت حاملا، وعن جابر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا لا نفقة لها حسبها الميراث، وهل تستحق السكنى فيه قولان أحدهما: لا تستحق السكنى وهو قول علي عليه السلام وابن عباس وعائشة، ومذهب أبي حنيفة واختيار المزني والثاني: تستحق وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وأم سلمة رضي الله عنهم
170

وبه قال مالك والثوري وأحمد، وبناء القولين على خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قتل زوجها قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما تركني في منزل يملكه فقال عليه السلام: نعم فانصرفت حين إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، واختلفوا في تنزيل هذا الحديث، قيل لم يوجب في الابتداء، ثم أوجب فصار الأول منسوخا، وقيل: أمرها بالمكث في بيتها أمرا على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب، واحتج المزني رحمه الله على أنه لا سكنى لها، فقال: أجمعنا على أنه لا نفقة لها، لأن الملك انقطع بالموت، فكذلك السكنى، بدليل أنهم أجمعوا على أن من وجب له نفقة وسكنى من والد وولد على رجل فمات انقطعت نفقتهم وسكناهم، لأن ماله صار ميراثا للورثة، فكذا ههنا.
أجاب الأصحاب فقالوا: لا يمكن قياس السكنى على النفقة لأن المطلقة الثلاث تستحق السكنى بكل حال ولا تستحق النفقة لنفسها عند المزني ولأن النفقة وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع ولا يمكن ههنا، وأما السكنى فوجبت لتحصين النساء وهو موجود ههنا فافترقا.
إذا عرفت هذا فنقول: القائلون بأن هذه الآية منسوخة لا بد وأن يختلف قولهم بسبب هذه المسألة، وذلك لأن هذه الآية توجب النفقة والسكنى، أما وجوب النفقة فقد صار منسوخا، وأما وجوب السكنى فهل صار منسوخا أم لا؟ والكلام فيه ما ذكرناه.
المسألة الرابعة: القائلون بأن هذه الوصية كانت واجبة أوردوا على أنفسهم سؤالا فقالوا: الله تعالى ذكر الوفاة، ثم أمر بالوصية، فكيف يوصي المتوفي؟ وأجابوا عنه
بأن المعنى: والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا فالوفاة عبارة عن الإشراف عليها وجواب آخر وهو أن هذه الوصية يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى بمعنى أمره وتكليفه، كأنه قيل: وصية من الله لأزواجهم، كقوله: * (يوصيكم الله في أولادكم) * (النساء: 11) وإنما يحسن هذا المعنى على قراءة من قرأ بالرفع.
أما قوله تعالى: * (فلا جناح عليكم) * فالمعنى: لا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين، ومن الإقدام على النكاح، وفي رفع الجناح وجهان أحدهما: لا جناح في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول والثاني: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج، لأن مقامها حولا في بيت زوجها ليس بواجب عليها.
171

الحكم السادس عشر في المطلقات
قوله تعالى
* (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين * كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) *.
يروى أن هذه الآية إنما نزلت، لأن الله تعالى لما أنزل قوله تعالى: * (ومتعوهن) * إلى قوله: * (حقا على المحسنين) * (البقرة: 236) قال رجل من المسلمين: إن أردت فعلت، وإن لم أرد لم أفعل، فقال تعالى: * (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) * يعني على كل من كان متقيا عن الكفر، واعلم أن المراد من المتاع ههنا فيه قولان أحدهما: أنه هو المتعة، فظاهر هذه الآية يقتضي وجوب هذه المتعة لكل المطلقات، فمن الناس من تمسك بظاهر هذه الآية وأوجب المتعة لجميع المطلقات، وهو قول سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري قال الشافعي رحمه الله تعالى: لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها مهر ولم يوجد في حقها المسيس، وهذه المسألة قد ذكرناها في تفسير قوله تعالى: * (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) * (البقرة: 236).
فإن قيل: لم أعيد ههنا ذكر المتعة مع أن ذكرها قد تقدم في قوله: * (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) *.
قلنا: هناك ذكر حكما خاصا، وههنا ذكر حكما عاما.
والقول الثاني: أن المراد بهذه المتعة النفقة، والنفقة قد تسمى متاعا وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى، وههنا آخر الآيات الدالة على الأحكام والله أعلم.
قوله تعالى
* (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) *.
اعلم أن عادته تعالى في القرآن أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص ليفيد الاعتبار للسامع،
172

ويحمله ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد، ومزيد الخضوع والانقياد فقال: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) * أما قوله: * (ألم تر) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الرؤية قد تجئ بمعنى رؤية البصيرة والقلب، وذلك راجع إلى العلم، كقوله: * (وأرنا مناسكنا) * (البقرة: 128) معناه: علمنا، وقال: * (لتحكم بين الناس بما أراك الله) * (النساء: 105) أي علمك، ثم إن هذا اللفظ قد يستعمل فيما تقدم للمخاطب العلم به، وفيما لا يكون كذلك فقد يقول الرجل لغيره يريد تعريفه ابتداء: ألم تر إلى ما جرى على فلان، فيكون هذا ابتداء تعريف، فعلى هذا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية، ويجوز أن نقول: كان العلم بها سابقا على نزول هذه الآية، ثم إن الله تعالى أنزل هذه الآية على وفق ذلك العلم.
المسألة الثانية: هذا الكلام ظاهره خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يبعد أن يكون المراد هو وأمته، إلا أنه وقع الابتداء بالخطاب معه، كقوله تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) * (الطلاق: 1). المسألة الثالثة: دخول لفظة * (إلى) * في قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين) * يحتمل أن يكون لأجل أن * (إلى) * عندهم حرف للانتهاء كقولك: من فلان إلى فلان، فمن علم بتعليم معلم، فكأن ذلك المعلم أوصل ذلك المتعلم إلى ذلك المعلوم وأنهاه إليه، فحسن من هذا الوجه دخول حرف * (إلى) * فيه، ونظيره قوله تعالى: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) * (الفرقان: 45).
أما قوله: * (إلى الذين خرجوا من ديارهم) * ففيه روايات أحدها: قال السدي: كانت قرية وقع فيها الطاعون وهرب عامة أهلها، والذين بقوا مات أكثرهم، وبقي قوم منهم في المرض والبلاء، ثم بعد ارتفاع المرض والطاعون رجع الذين هربوا سالمين، فقال من بقي من المرضى: هؤلاء أحرص منا، لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات، ولئن وقع الطاعون ثانيا خرجنا فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا، فلما خرجوا من ذلك الوادي، ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا، فهلكوا وبليت أجسامهم، فمر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهما وقف عليهم وتفكر فيهم فأوحى الله تعالى إليه أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ فقال نعم فقيل
173

له: ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام ثم أوحى الله إليه: ناد يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما ودما، فصارت لحما ودما، ثم قيل: ناد إن الله يأمرك أن تقومي فقامت، فلما صاروا أحياء قاموا، وكانوا يقولون: " سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت " ثم رجعوا إلى قريتهم بعد حياتهم، وكانت أمارات أنهم ماتوا ظاهرة في وجوههم ثم بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم.
الرواية الثانية: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال، فخافوا القتال وقالوا لملكهم: إن الأرض التي نذهب إليها فيها الوباء، فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء، فأماتهم الله تعالى بأسرهم، وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا، وبلغ بني إسرائيل موتهم، فخرجوا لدفنهم، فعجزوا من
كثرتهم، فحظروا عليهم حظائر، فأحياهم الله بعد الثمانية، وبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم، واحتج القائلون بهذا القول بقوله تعالى عقيب هذه الآية * (وقاتلوا في سبيل الله) * (البقرة: 190).
والرواية الثالثة: أن حزقيل النبي عليه السلام ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا وجبنوا، فأرسل الله عليهم الموت، فلما كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فلما رأى حزقيل ذلك قال: اللهم إله يعقوب وإله موسى ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك وأنهم لا يحرجون عن قبضتك، فأرسل الله عليهم الموت، ثم إنه عليه السلام ضاق صدره بسبب موتهم، فدعا مرة أخرى فأحياهم الله تعالى.
أما قوله تعالى: * (وهم ألوف) * ففيه قولان الأول: أن المراد منه بيان العدد، واختلفوا في مبلغ عددهم، قال الواحدي رحمه الله: ولم يكونوا دون ثلاثة آلاف، ولا فوق سبعين ألفا، والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف لأن الألوف جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف.
والقول الثاني: أن الألوف جمع آلاف كقعود وقاعد، وجلوس وجالس، والمعنى أنهم كانوا مؤتلفي القلوب، قال القاضي: الوجه الأول أولى، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة يفيد مزيد اعتبار بحالهم، لأن موت جمع عظيم دفعة واحدة لا يتفق وقوعه يفيد اعتبارا عظيما، فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة، كوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير ولا يختلف.
ويمكن أن يجاب عن هذا السؤال بأن المراد كون كل واحد منهم آلفا لحياته، محبا لهذه الدنيا
174

فيرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم: * (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) * (البقرة: 96) ثم إنهم مع غاية حبهم للحياة والفهم بها، أماتهم الله تعالى وأهلكهم، ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه من الموت فهذا القول على هذا الوجه ليس في غاية البعد.
أما قوله: * (حذر الموت) * فهو منصوب لأنه مفعول له، أي لحذر الموت، ومعلوم أن كل أحد يحذر الموت، فلما خص هذا الموضع بالذكر، علم أن سبب الموت كان في تلك الواقعة أكثر، إما لأجل غلبة الطاعون أو لأجل الأمر بالمقاتلة.
أما قوله تعالى: * (فقال لهم الله موتوا) * ففي تفسير * (قال الله) * وجهان الأول: أنه جار مجرى قوله: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) وقد تقدم أنه ليس المراد منه إثبات قول، بل المراد أنه تعالى متى أراد ذلك وقع من غير منع وتأخير، ومثل هذا عرف مشهور في اللغة، ويدل عليه قوله: * (ثم أحياهم) * فإذا صح الإحياء بالقول، فكذا القول في الإماتة.
والقول الثاني: أنه تعالى أمر الرسول أن يقول لهم: موتوا، وأن يقول عند الإحياء ما رويناه عن السدي، ويحتمل أيضا ما رويناه من أن الملك قال ذلك، والقول الأول أقرب إلى التحقيق.
أما قوله تعالى: * (ثم أحياهم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الآية دالة على أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا فوجب القطع به، وذلك لأنه في نفسه جائر والصادق أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه، أما الإمكان فلأن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن، وإلا لما وجد أولا، واحتمال تلك الأجزاء للحياة ممكن وإلا لما وجد أولا، ومتى ثبت هذا فقد ثبت الإمكان، وأما إن الصادق قد أخبر عنه ففي هذه الآية، ومتى أخبر الصادق عن وقوع ما ثبت في العقل إمكان وقوعه وجب القطع به.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: إحياء الميت فعل خارق للعادة، ومثل هذا لا يجوز من الله تعالى إظهاره إلا عندما يكون معجزة لنبي، إذ لو جاز ظهوره لا لأجل أن يكون معجزة لنبي لبطلت دلالته على النبوة، وأما عند أصحابنا فإنه يجوز إظهار خوارق العادات لكرامة الولي، ولسائر الأغراض، فكأن هذا الحصر باطلا، ثم قالت المعتزلة: وقد روي أن هذا الإحياء إنما وقع في زمان حزقيل النبي عليه السلام ببركة دعائه، وهذا يحقق ما ذكرناه من أن مثل هذا لا يوجد إلا ليكون معجزة للأنبياء عليهم السلام، وقيل: حزقيل هو ذو الكفل، وإنما سمي بذلك لأنه تكفل بشأن سبعين نبيا وأنجاهم من القتل، وقيل: إنه عليه السلام مر بهم وهم موتى فجعل يفكر فيهم متعجبا، فأوحى الله تعالى إليه: إن أردت أحييتهم وجعلت ذلك الإحياء آية لك، فقال: نعم
175

فأحياهم الله تعالى بدعائه.
المسألة الثالثة: أنه قد ثبت بالدلائل أن معارف المكلفين تصير ضرورية عند القرب من الموت: وعند معاينة الأهوال والشدائد، فهؤلاء الذين أماتهم الله ثم أحياهم لا يخلو إما أن يقال إنهم عاينوا الأهوال والأحوال التي معها صارت معارفهم ضرورية، وإما ما شاهدوا شيئا من تلك الأهوال بل الله تعالى أماتهم بغتة، كالنوم الحادث من غير مشاهدة الأهوال البتة، فإن كان الحق هو الأول، فعندما أحياهم يمتنع أن يقال: إنهم نسوا تلك الأهوال ونسوا ما عرفوا به ربهم بضرورة العقل، لأن الأحوال العظيمة لا يجوز نسيانها مع كمال العقل، فكان يجب أن تبقى تلك المعارف الضرورية معهم بعد الإحياء، وبقاء تلك المعارف الضرورية يمنع من صحة التكليف، كما أنه لا يبقى التكليف في الآخرة، وإما أن يقال: إنهم بقوا بعد الإحياء غير مكلفين، وليس في الآية ما يمنع منه، أو يقال: إن الله تعالى حين أماتهم ما أراهم شيئا من الآيات العظيمة التي تصير معارفهم عندها ضرورية، وما كان ذلك الموت كموت سائر المكلفين الذين يعاينون الأهوال عند القرب من الموت، والله أعلم بحقائق الأمور.
المسألة الرابعة: قال قتادة: إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم، وهذا القول فيه كلام كثير وبحث طويل.
أما قوله تعالى: * (إن الله لذو فضل على الناس) * ففيه وجوه أحدها: أنه تفضل على أولئك الأقوام الذين أماتهم بسبب أنه أحياهم، وذلك لأنهم خرجوا من الدنيا على المعصية، فهو تعالى أعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي وثانيها: أن العرب الذين كانوا ينكرون المعاد كانوا متمسكين بقول اليهود في كثير من الأمور، فلما
نبه الله تعالى اليهود على هذه الواقعة التي كانت معلومة لهم، وهم يذكرونها للعرب المنكرين للمعاد، فالظاهر أن أولئك المنكرين يرجعون من الدين الباطل الذي هو الإنكار إلى الدين الحق الذي هو الإقرار بالبعث والنشور فيخلصون من العقاب، ويستحقون الثواب، فكان ذكر هذه القصة فضلا من الله تعالى وإحسانا في حق هؤلاء المنكرين وثالثها: أن هذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد، فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان، وتزيل عن قلبه الخوف من الموت، فكان ذكر هذه القصة سببا لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة التي بها يفوز بالثواب العظيم، فكان ذكر هذه القصة فضلا وإحسانا من الله تعالى على عبده، ثم قال: * (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) * وهو كقوله: * (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) * (الفرقان: 50).
176

قوله تعالى
* (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) *.
فيه قولان الأول: أن هذا خطاب للذين أحيوا، قال الضحاك: أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد لأنه تعالى إنما أماتهم بسبب أن كرهوا الجهاد.
واعلم أن القول لا يتم إلا بإضمار محذوف تقديره: وقيل لهم قاتلوا.
والقول الثاني: وهو اختيار جمهور المحققين: أن هذا استئناف خطاب للحاضرين، يتضمن الأمر بالجهاد إلا أنه سبحانه بلطفه ورحمته قدم على الأمر بالقتال ذكر الذين خرجوا من ديارهم لئلا ينكص عن أمر الله بحب الحياة بسبب خوف الموت، وليعلم كل أحد أنه يترك القتال لا يثق بالسلامة من الموت، كما قال في قوله: * (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا) * (الأحزاب: 16) فشجعهم على القتال الذي به وعد إحدى الحسنيين، إما في العاجل الظهور على العدو، أو في الآجل الفوز بالخلود في النعيم، والوصول إلى ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
أما قوله تعالى: * (في سبيل الله) * فالسبيل هو الطريق، وسميت العبادات سبيلا إلى الله تعالى من حيث أن الإنسان يسلكها، ويتوصل إلى الله تعالى بها، ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين، فكان طاعة، فلا جرم كان المجاهد مقاتلا في سبيل الله ثم قال: * (واعلموا أن الله سميع عليم) * أي هو يسمع كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد، وفي تنفير الغير عنه، وعليم بما في صدوركم من البواعث والأغراض وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لعاجل الدنيا.
قوله تعالى
* (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ثم أردفه بقوله: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * اختلف المفسرون فيه على قولين * (الأول) * أن هذه الآية متعلقة بما
177

قبلها والمراد منها القرض في الجهاد خاصة، فندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد، وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد، ثم أكد تعالى ذلك بقوله: * (والله يقبض ويبسط) * وذلك لأن من علم ذلك كان اعتماده على فضل الله تعالى أكثر من اعتماده على ماله وذلك يدعوه إلى إنفاق المال في سبيل الله، والاحتراز عن البخل بذلك الإنفاق.
والقول الثاني: أن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال: المراد من هذا القرض إنفاق المال، ومنهم من قال: إنه غيره، والقائلون بأنه إنفاق المال لهم ثلاثة أقوال الأول: أن المراد من الآية ما ليس بواجب من الصدقة، وهو قول الأصم واحتج عليه بوجهين الأول: أنه تعالى سماه بالقرض والقرض لا يكون إلا تبرعا.
الحجة الثانية: سبب نزول الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت الآية في أبي الدحداح قال: يا رسول الله إن لي حديقتين فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة؟ قال: نعم، قال: وأم الدحداح معي؟ قال: نعم، قال: والصبية معي؟ قال: نعم، فتصدق بأفضل حديقته، وكانت تسمى الحنينة، قال: فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها، فقام على باب الحديقة، وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدحداح: بارك الله لك فيما اشتريت، فخرجوا منها وسلموها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كم من نخلة رداح، تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح.
إذا عرفت سبب نزول هذه الآية ظهر أن المراد بهذا القرض ما كان تبرعا لا واجبا.
والقول الثاني: أن المراد من هذا القرض الإنفاق الواجب في سبيل الله، واحتج هذا القائل على قوله بأنه تعالى ذكر في آخر الآية: * (وإليه ترجعون) * وذلك كالزجر، وهو إنما يليق بالواجب.
والقول الثالث: وهو الأقرب أنه يدخل فيه كلا القسمين، كما أنه داخل تحت قوله: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت) * (البقرة: 261) من قال: المراد من هذا القرض شيء سوى إنفاق المال، قالوا: روي عن بعض أصحاب ابن مسعود أنه قول الرجل " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " قال القاضي: وهذا بعيد، لأن لفظ الإقراض لا يقع عليه في عرف اللغة ثم قال: ولا يمكن حمل هذا القول على الصحة، إلا أن نقول: الفقير الذي لا يملك شيئا إذا كان في قلبه أنه لو كان قادرا لأنفق وأعطى فحينئذ تكون تلك النية قائمة مقام الإنفاق، وقد روي
178

عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة ".
المسألة الثانية: اختلفوا في أن إطلاق لفظ القرض على هذا الإنفاق حقيقة أو مجاز، قال الزجاج: إنه حقيقة، وذلك لأن القرض هو كل ما يفعل ليجازى عليه، تقول العرب: لك عندي قرض حسن وسئ، والمراد منه الفعل الذي يجازى عليه، قال أمية بن أبي الصلت:
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا * أو سيئا أو مدينا كالذي دانا
ومما يدل على أن القرض ما ذكرناه أن القرض أصله في اللغة القطع، ومنه القراض، وانقرض القوم إذا هلكوا، وذلك لانقطاع أثرهم فإذا أقرض فالمراد قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها.
والقول الثاني: أن لفظ القرض ههنا مجاز، وذلك لأن القرض هو أن يعطي الإنسان شيئا ليرجع إليه مثله وههنا المنفق في سبيل الله إنما ينفق ليرجع إليه بدله إلا أنه جعل الاختلاف بين هذا الإنفاق وبين القرض من وجوه أحدها: أن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله تعالى محال وثانيها: أن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا المثل، وفي هذا الإنفاق هو الضعف وثالثها: أن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكا له وههنا هذا المال المأخوذ ملك لله، ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله قرضا، والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله، فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة، ويروى أنه لما نزلت هذه الآية قالت اليهود: إن الله فقير ونحن أغنياء، فهو يطلب منا القرض، وهذا الكلام لائق بجهلهم وحمقهم، لأن الغالب عليهم التشبيه، ويقولون: إن معبودهم شيخ، قال القاضي: من يقول في معبوده مثل هذا القول لا يستبعد منه أن يصفه بالفقر.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * ولأي فائدة جرى الكلام على طريق الاستفهام.
قلنا: إن ذلك في الترغيب في الدعاء إلى الفعل أقرب من ظاهر الأمر.
أما قوله تعالى: * (قرضا حسنا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الواحدي: القرض في هذه الآية اسم لا مصدر، ولو كان مصدرا لكان ذلك إقراضا.
المسألة الثانية: كون القرض حسنا يحتمل وجوها أحدها: أراد به حلالا خالصا لا يختلط
179

به الحرام، لأن مع الشبهة يقع الاختلاط، ومع الاختلاط ربما قبح الفعل وثانيها: أن لا يتبع ذلك الإنفاق منا ولا أذى وثالثها: أن يفعله على نية التقرب إلى الله تعالى، لأن ما يفعل رياء وسمعة لا يستحق به الثواب.
أما قوله تعالى: * (فيضاعفه له) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في قوله: * (فيضاعفه) * أربع قراءات أحدها: قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي * (فيضاعفه) * بالألف والرفع والثاني: قرأ عاصم * (فيضاعفه) * بألف والنصب والثالث: قرأ ابن كثير * (فيضعفه) * بالتشديد والرفع بلا ألف والرابع: قرأ ابن عامر * (فيضعفه) * بالتشديد والنصب.
فنقول: أما التشديد والتخفيف فهما لغتان، ووجه الرفع العطف على يقرض، ووجه النصب أن يحمل الكلام على المعنى لا على اللفظ لأن المعنى يكون قرضا فيضاعفه، والاختيار الرفع لأن فيه معنى الجزاء، وجواب الجزاء بالفاء لا يكون إلا رفعا.
المسألة الثانية: التضعيف والإضعاف والمضاعفة واحد وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يبلغ مثلين أو أكثر، وفي الآية حذف، والتقدير: فيضاعف ثوابه.
أما قوله تعالى: * (أضعافا كثيرة) * فمنهم من ذكر فيه قدرا معينا، وأجود ما يقال فيه: إنه القدر المذكور في قوله تعالى: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل) * (البقرة: 261) فيقال يحمل المجمل على المفسر لأن كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لم يقتصر في هذه الآية على التحديد، بل قال بعده: * (والله يضاعف لمن يشاء) * (البقرة: 261).
والقول الثاني: وهو الأصح واختيار السدي: أن هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو وكم هو؟ وإنما أبهم تعالى ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود.
أما قوله تعالى: * (والله يقبض ويبسط) * ففي بيان أن هذا كيف يناسب ما تقدم وجوه أحدها: أن المعنى أنه تعالى لما كان هو القابض الباسط، فإن كان تقدير هذا الذي أمر بإنفاق المال الفقر فلينفق المال في سبيل الله، فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الفقر، وإن كان تقديره الغنى فلينفق فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الغنى والسعة وبسط اليد، فعلى كلا التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى وثانيها: أن الإنسان إذا علم أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا، وبقي اعتماده على الله، فحينئذ يسهل عليه إنفاق المال في سبيل مرضاة الله تعالى وثالثها: أنه تعالى يوسع عن عباده ويقتر، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم، لئلا يبدل
180

السعة الحاصلة لكم بالضيق ورابعها: أنه تعالى لما أمرهم بالصدقة وحثهم عليها أخبر أنه لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه وإعانته، فقال: * (والله يقبض ويبسط) * يعني يقبض القلوب حتى لا تقدم على هذه الطاعة، ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة، ثم قال: * (وإليه ترجعون) * والمراد به إلى حيث لا حاكم ولا مدبر سواه، والله أعلم.
القصة الثانية
قصة طالوت
* (ألم تر إلى الملإ من بنى إسرءيل من بعد موسى إذ قالوا لنبى لهم ابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنآ ألا نقاتل
فى سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنآئنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين) *.
الملأ الأشراف من الناس، وهو اسم الجماعة، كالقوم والرهط والجيش، وجمعه أملاء، قال الشاعر: وقال لها الأملاء من كل معشر * وخير أقاويل الرجال سديدها
وأصلها من الملء، وهم الذين يملأون العيون هيبة ورواء، وقيل: هم الذين يملأون المكان إذا حضروا، وقال الزجاج: الملأ الرؤساء، سموا بذلك لأنهم يملأون القلوب بما يحتاج إليه، من قولهم: ملأ الرجل يملأ ملأة فهو ملئ.
قوله تعالى: * (إذا قالوا لنبي لهم ابعث لنا) * في الآية مسائل:
181

المسألة الأولى: تعلق هذه الآية بما قبلها من حيث إنه تعالى لما فرض القتال بقوله: * (وقاتلوا في سبيل الله) * (البقرة: 190) ثم أمرنا بالإنفاق فيه لما له من التأثير في كمال المراد بالقتال ذكر قصة بني إسرائيل، وهي أنهم لما أمروا بالقتال نكثوا وخالفوا فذمهم الله تعالى عليه، ونسبهم إلى الظلم والمقصود منه أن لا يقدم المأمورون بالقتال من هذه الأمة على المخالفة، وأن يكونوا مستمرين في القتال مع أعداء الله تعالى. المسألة الثانية: لا شك أن المقصود الذي ذكرناه حاصل، سواء علمنا أن النبي من كان من أولئك، وأن أولئك الملأ من كانوا أو لم نعلم شيئا من ذلك، لأن المقصود هو الترغيب في باب الجهاد وذلك لا يختلف، وإنما يعلم من ذلك النبي ومن ذلك الملأ بالخبر المتواتر وهو مفقود، وأما خبر الواحد فإنه لا يفيد إلا الظن، ومنهم من قال: إنه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف، والدليل عليه قوله تعالى: * (من بعد موسى) * وهذا ضعيف لأن قوله: * (من بعد موسى) * كما يحتمل الاتصال يحتمل الحصول من بعد زمان، ومنهم من قال: كان اسم ذلك النبي أشمويل من بني هارون واسمه بالعربية: إسماعيل، وهو قول الأكثرين، وقال السدي: هو شمعون، سمته أمه بذلك، لأنها دعت الله تعالى أن يرزقها ولدا فاستجاب الله تعالى دعاءها، فسمته شمعون، يعني سمع دعاءها فيه، والسين تصير شينا بالعبرانية، وهو من ولد لاوي بن يعقوب عليه السلام.
المسألة الثالثة: قال وهب والكلبي: إن المعاصي كثرت في بني إسرائيل، والخطايا عظمت فيهم، ثم غلب عليهم عدو لهم فسبى كثيرا من ذراريهم، فسألوا نبيهم ملكا تنتظم به كلمتهم ويجتمع به أمرهم، ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم، وقيل تغلب جالوت على بني إسرائيل، وكان قوام بني إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء، ويجري الأحكام، ونبي يطيعه الملك، ويقيم أمر دينهم، ويأتيهم بالخبر من عند ربهم.
أما قوله: * (نقاتل في سبيل الله) * فاعلم أنه قرىء * (نقاتل) * بالنون والجزم على الجواب، وبالنون والرفع على أنه حال، أي ابعثه لنا مقدرين القتال، أو استئناف كأنه قيل: ما تصنعون بالملك، قالوا نقاتل، وقرئ بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة لقوله: * (ملكا) * أما قوله: * (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وحده * (عسيتم) * بكسر السين ههنا، وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم، واللغة المشهورة فتحها ووجه قراءة نافع ما حكاه ابن الأعرابي أنهم يقولون: هو عسى بكذا وهذا يقوي * (عسيتم) * بكسر السين، ألا ترى أن عسى بكذا، مثل حري وشحيح وطعن
182

أبو عبيدة في هذه القراءة فقال لو جاز ذلك لجاز * (عسى ربكم) * أجاب أصحاب نافع عنه من وجهين الأول: أن الياء إذا سكنت وانفتح ما قبلها حصل في التلفظ بها نوع كلفة ومشقة، وليست الياء من * (عسى) * كذلك، لأنها وإن كانت في الكتابة ياء إلا أنها في اللفظ مدة، وهي خفيفة فلا تحتاج إلى خفة أخرى.
والجواب الثاني: هب أن القياس يقتضي جواز * (عسى ربكم) * إلا أنا ذكرنا أنهما لغتان، فله أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع والأخرى في موضع آخر.
المسألة الثانية: خبر * (هل عسيتم) * وهو قوله: * (أن لا تقاتلوا) * والشرط فاصل بينهما، والمعنى هل قاربتم أن تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل * (هل) * مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون، وأراد بالاستفهام التقرير، وثبت أن المتوقع كائن له، وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) * معناه التقرير، ثم إنه تعالى ذكر أن القوم قالوا: * (وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله) * وهذا يدل على ضمان قوي خصوصا واتبعوا ذلك بعلة قوية توجب التشدد في ذلك، وهو قولهم: * (وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) * لأن من بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوه ومقاتلته.
فإن قيل: المشهور إنه يقال: مالك تفعل كذا؟ ولا يقال: مالك أن تفعل كذا؟ قال تعالى: * (مالكم لا ترجون لله وقارا) * (نوح: 13) وقال: * (وما لكم لا تؤمنون بالله) * (الحديد: 8).
والجواب من وجهين: الأول: وهو قول المبرد: أن * (ما) * في هذه الآية جحد لا استفهام كأنه قال: ما لنا نترك القتال، وعلى هذا الطريق يزول السؤال.
الوجه الثاني: أن نسلم أن * (ما) * ههنا بمعنى الاستفهام، ثم على هذا القول وجوه الأول: قال الأخفش: أن ههنا زائدة، والمعنى: ما لنا لا نقاتل وهذا ضعيف، لأن القول بثبوت الزيادة في كلام الله خلاف الأصل الثاني: قال الفراء: الكلام ههنا محمول على المعنى، لأن قولك: مالك لا تقاتل معناه ما يمنعك أن تقاتل؟ فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال أن فيه قال تعالى: * (ما منعك أن تسجد) * (ص: 75) وقال: * (مالك أن لا تكون مع الساجدين) * (الحجر: 32) الثالث: قال الكسائي: معنى * (وما لنا أن لا نقاتل) * أي شيء لنا في ترك القتال؟ ثم سقطت كلمة * (في) * ورجح أبو علي الفارسي، قول الكسائي على قول الفراء، قال: وذلك لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر، والتقدير: ما يمنعنا من أن نقاتل، إذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين، ثم على قول الكسائي يبقى اللفظ مع هذا الإضمار على ظاهره، وعلى قول الفراء لا يبقى، فكان قول الكسائي
183

لا محالة أولى وأقوى.
أما قوله: * (فلما كتب عليهم القتال تولوا) * فاعلم أن في الكلام محذوفا تقديره: فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكا وكتب عليهم القتال فتولوا.
أما قوله: * (إلا قليلا منهم) * فهم الذين عبروا منهم النهر وسيأتي ذكرهم، وقيل: كان عدد هذا القليل ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر * (والله عليم بالظالمين) * أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قيل من ربه، وهذا هو الذي يدل على تعلق هذه الآية بقوله قبل ذلك:
* (وقاتلوا في سبيل الله) * فكأنه تعالى أكد وجوب ذلك بأن ذكر قصة بني إسرائيل في الجهاد وعقب ذلك بأن من تقدم على مثله فهو ظالم والله أعلم بما يستحقه الظالم وهذا بين في كونه زجرا عن مثل ذلك في المستقبل وفي كونه بعثا على الجهاد، وأن يستمر كل مسلم على القيام بذلك والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشآء والله واسع عليم) *.
اعلم أنه لما بين في الآية الأولى أنه أجابهم إلى ما سألوا، ثم إنهم تولوا فبين أن أول ما تولوا إنكارهم إمرة طالوت، وذلك لأنهم طلبوا من نبيهم أن يطلب من الله أن يعين لهم ملكا فأجابهم بأن الله قد بعث لهم طالوت ملكا، قال صاحب " الكشاف ": طالوت اسم أعجمي، كجالوت، وداود وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته، وزعموا أنه من الطول لما وصف به من البسطة في الجسم، ووزنه إن كان من الطول فعلوت، وأصله طولوت، إلا أن امتناع صرفه يدفع أن يكون منه، إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق عربيا كما وافق حطة حنطة، وعلى هذا التقدير يكون أحد سببية العجمة لكونه عبرانيا، ثم إن الله تعالى لما عينه لأن يكون ملكا لهم أظهروا التولي عن طاعته، والإعراض عن حكمه، وقالوا: * (أنى يكون له الملك علينا) * واستبعدوا جدا أن يكون هو
184

ملكا عليهم، قال المفسرون: وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بني إسرائيل، وهو سبط لاوي بن يعقوب، ومنه موسى وهارون، وسبط المملكة، سبط يهوذا، ومنه داود وسليمان، وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين، بل كان من ولد بنيامين فلهذا السبب أنكروا كونه ملكا لهم، وزعموا أنهم أحق بالملك منه، ثم أنهم أكدوا هذه الشبهة بشبهة أخرى، وهي قولهم: ولم يؤت سعة من المال، وذلك إشارة إلى أنه فقير، واختلفوا فقال وهب، كان دباغا، وقال السدي: كان مكاريا، وقال آخرون، كان سقاء.
فإن قيل: ما الفرق بين الواوين في قوله: * (ونحن أحق) * وفي قوله: * (ولم يؤت) *.
قلنا: الأولى للحال، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالا، والمعنى: كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به، ثم إنه تعالى أجاب عن شبههم بوجوه الأول: قوله: * (إن الله اصطفاه عليكم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى الآية أنه تعالى خصه بالملك والإمرة.
واعلم أن القوم لما كانوا مقرين بنبوة ذلك النبي، كان إخباره عن الله تعالى أنه جعل طالوت ملكا عليهم حجة قاطعة في ثبوت الملك له لأن تجويز الكذب على الأنبياء عليهم السلام يقتضي رفع الوثوق بقولهم وذلك يقدح في ثبوت نبوتهم ورسالتهم، وإذا ثبت صدق المخبر ثبت أن الله تعالى خصه بالملك، وإذا ثبت ذلك كان ملكا واجب الطاعة وكانت الاعتراضات ساقطة.
المسألة الثانية: قوله: * (اصطفاه) * أي أخذ الملك من غيره صافيا له، واصطفاه، واستصفاه بمعنى الاستخلاص، وهو أن يأخذ الشيء خالصا لنفسه، وقال الزجاج: إنه مأخوذ من الصفوة، والأصل فيه اصتفى بالتاء فأبدلت التاء طاء ليسهل النطق بها بعد الصاد، وكيفما كان الاشتقاق فالمراد ما ذكرناه أنه تعالى خصه بالملك والإمرة، وعلى هذا الوجه وصف تعالى نفسه بأنه اصطفى الرسل ووصفهم بأنهم: المصطفون الأخيار ووصف الرسول بأنه المصطفى.
المسألة الثالثة: هذه الآية تدل على بطلان قول من يقول: إن الإمامة موروثة، وذلك لأن بني إسرائيل أنكروا أن يكون ملكهم من لا يكون من بيت المملكة، فأعلمهم الله تعالى أن هذا ساقط، والمستحق لذلك من خصه الله تعالى بذلك وهو نظير قوله: * (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) * (آل عمران: 26).
الوجه الثاني: في الجواب عن هذه الشبهة قوله تعالى: * (وزاده بسطة في العلم والجسم) * وتقرير
185

هذا الجواب أنهم طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين أحدهما: أنه ليس من أهل بيت الملك الثاني: أنه فقير، والله تعالى بين أنه أهل للملك وقرر ذلك بأنه حصل له وصفان أحدهما: العلم والثاني: القدرة، وهذان الوصفان أشد مناسبة لاستحقاقه الملك من الوصفين الأولين وبيانه من وجوه أحدها: أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية، والمال والجاه ليسا كذلك والثاني: أن العلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لجوهر نفس الإنسان والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان الثالث: أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان، والمال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان والرابع: أن العلم بأمر الحروب، والقوي الشديد على المحاربة يكون الانتفاع به في حفظ مصلحة البلد، وفي دفع شر الأعداء أتم من الانتفاع بالرجل النسيب الغني إذا لم يكن له علم بضبط المصالح، وقدرة على دفع الأعداء، فثبت بما ذكرنا أن إسناد الملك إلى العالم القادر، أولى من إسناده إلى النسيب الغني ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله: * (وزاده بسطة في العلم والجسم) * وهذا يدل على أن العلوم الحاصلة للخلق، إنما حصلت بتخليق الله تعالى وإيجاده، وقالت المعتزلة هذه الإضافة إنما كانت لأنه تعالى هو الذي يعطي العقل ونصب الدلائل، وأجاب الأصحاب بأن الأصل في الإضافة المباشرة دون التسبب.
المسألة الثانية: قال بعضهم: المراد بالبسطة في الجسم طول القامة، وكان يفوق الناس برأسه ومنكبه، وإنما سمي طالوت لطوله، وقيل المراد من البسطة في الجسم الجمال، وكان أجمل بني إسرائيل وقيل: المراد القوة، وهذا القول عندي أصح لأن المنتفع به في دفع الأعداء هو القوة والشدة، لا الطول والجمال.
المسألة الثالثة: أنه تعالى قدم البسطة في العلم، على البسطة في الجسم، وهذا منه تعالى تنبيه على أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف وأكمل من الفضائل الجسمانية.
الوجه الثالث: في الجواب عن الشبهة قوله تعالى: * (والله يؤتي ملكه من يشاء) * وتقريره أن الملك لله والعبيد لله فهو سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله، لأن المالك إذا تصرف في ملكه فلا اعتراض لأحد عليه في فعله.
الوجه الرابع: في الجواب قوله تعالى: * (والله واسع عليم) * وفيه ثلاثة أقوال أحدها: أنه تعالى واسع الفضل والرزق والرحمة، وسعت رحمته كل شيء، والتقدير: أنتم طعنتم في طالوت بكونه فقيرا، والله تعالى واسع الفضل والرحمة، فإذا فوض الملك إليه، فإن علم أن الملك لا يتمشى
186

إلا بالمال، فالله تعالى يفتح عليه باب الرزق والسعة في المال.
والقول الثاني: أنه واسع، بمعنى موسع، أي يوسع على من يشاء من نعمه، وتعلقه بما قبله على ما ذكرناه والثالث: أنه واسع بمعنى ذو سعة، ويجيء فاعل ومعناه ذو كذا، كقوله: * (عيشة راضية) * (الحاقة: 21) أي ذات رضا، وهم ناصب ذو نصب، ثم بين بقوله: * (عليم) * أنه تعالى مع قدرته على إغناء الفقير عالم بمقادير ما يحتاج إليه في تدبير الملك، وعالم بحال ذلك الملك في الحاضر والمستقبل، فيختار لعلمه بجميع العواقب ما هو مصلحته في قيامه بأمر الملك.
قوله تعالى
* (وقال لهم نبيهم إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك ءال موسى وءال هارون تحمله الملا ئكة إن في ذلك لأية لكم إن كنتم مؤمنين * فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين ءامنوا معه قالوا لا طاقة لنا ليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) *.
اعلم أن ظاهر الآية المتقدمة يدل على أن أولئك الأقوام كانوا مقرين بنبوة النبي الذي كان فيهم
187

لأن قوله تعالى حكاية عنهم * (إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا) * كالظاهر في أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي، ومقرين بأنه مبعوث من عند الله تعالى، ثم إن ذلك النبي لما قال: * (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) * كان هذا دليلا قاطعا في كون طالوت ملكا، ثم إنه تعالى لكمال رحمته بالخلق، ضم إلى ذلك الدليل دليلا آخر يدل على كون ذلك النبي صادقا في ذلك الكلام، ويدل أيضا على أن طالوت نصبه الله تعالى للملك وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز، ولذلك أنه كثرت معجزات موسى عليه السلام، ومحمد عليه الصلاة والسلام، فلهذا قال تعالى: * (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن مجيء ذلك التابوت لا بد وأن يقع على وجه يكون خارقا للعادة حتى يصح أن يكون آية من عند الله، دالة على صدق تلك الدعوى، ثم قال أصحاب الأخبار: إن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتا فيه صور الأنبياء من أولاده، فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل، فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصرة، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت، قال ذلك النبي: إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره، ثم إن الكفار الذين سلبوا ذلك التابوت كانوا قد جعلوه في موضع البول والغائط، فدعا النبي عليهم في ذلك الوقت، فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله تعالى بالبواسير، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت، فأخرجوه ووضعوه على ثورين فأقبل الثوران يسيران ووكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، حتى أتوا منزل طالوت، ثم إن قوم ذلك النبي رأوا التابوت عند طالوت، فعلموا أن ذلك دليل على كونه ملكا لهم، فذلك هو قوله تعالى: * (إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت) * والإتيان على هذا مجاز، لأنه أتى به ولم يأت هو فنسب إليه توسعا، كما يقال: ربحت الدراهم، وخسرت التجارة.
والرواية الثانية: أن التابوت صندوق كان موسى عليه السلام يضع التوراة فيه، وكان من خشب، وكانوا يعرفونه، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل، ثم قال نبي ذلك القوم: إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء، ثم إن التابوت لم تحمله الملائكة ولا الثوران، بل نزل من السماء إلى الأرض، والملائكة كانوا يحفظونه،
188

والقوم كانوا ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، وعلى هذا الإتيان حقيقة في التابوت، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعا، لأن من حفظ شيئا في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء وإن لم يحمله كما يقول القائل: حملت الأمتعة إلى زيد إذا حفظها في الطريق، وإن كان الحامل غيره.
واعلم أنه تعالى جعل إتيان التابوت معجزة، ثم فيه احتمالان أحدهما: أن يكون مجئ التابوت معجزا، وذلك هو الذي قررناه والثاني: أن لا يكون التابوت معجزا، بل يكون ما فيه هو المعجز، وذلك بأن يشاهدوا التابوت خاليا، ثم إن ذلك النبي يضعه بمحضر من القوم في بيت ويغلقوا البيت، ثم إن النبي يدعي أن الله تعالى خلق فيه ما يدل على واقعتنا، فإذا فتحوا باب البيت ونظروا في التابوت رأوا فيه كتابا يدل على أن ملكهم هو طالوت، وعلى أن الله سينصرهم على أعدائهم فهذا يكون معجزا قاطعا دالا على أنه من عند الله تعالى، ولفظ القرآن يحتمل هذا، لأن قوله: * (يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم) * يحتمل أن يكون المراد منه أنهم يجدون في التابوت هذا
المعجز الذي هو سبب لاستقرار قلبهم واطمئنان أنفسهم فهذا محتمل.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": وزن التابوت إما أن يكون فعلوتا أو فاعولا، والثاني مرجوح، لأنه يقل في كلام العرب لفظ يكون فاؤه ولامه من جنس واحد، نحو: سلس وقلق، فلا يقال: تابوت من تبت قياسا على ما نقل، وإذا فسد هذا القسم تعين الأول، وهو أنه فعلوت من التوب، وهو الرجوع لأنه ظرف يوضع فيه الأشياء، ويودع فيه فلا يزول يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته.
المسألة الثالثة: قرأ الكل: التابوت بالتاء، وقرأ أبي وزيد بن ثابت * (التابوه) * بالهاء وهي لغة الأنصار.
المسألة الرابعة: من الناس من قال: إن طالوت كان نبيا، لأنه تعالى أظهر المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبيا، ولا يقال: إن هذا كان من كرامات الأولياء، لأن الفرق بين الكرامة والمعجزة أن الكرامة لا تكون على سبيل التحدي، وهذا كان على سبيل التحدي، فوجب أن لا يكون من جنس الكرامات.
والجواب: لا يبعد أن يكون ذلك معجزة لنبي ذلك الزمان، ومع كونه معجزة له فإنه كان آية قاطعة في ثبوت ملكه.
أما قوله تعالى: * (فيه سكينة من ربكم) * ففيه مسائل:
189

المسألة الأولى: * (السكينة) * فعيلة من السكون، وهو ضد الحركة وهي مصدر وقع موقع الاسم، نحو: القضية والبقية والعزيمة.
المسألة الثانية: اختلفوا في السكينة، وضبط الأقوال فيها أن نقول: المراد بالسكينة إما أن يقال إنه كان شيئا حاصلا في التابوت أو ما كان كذلك.
والقسم الثاني: هو قول أبي بكر الأصم، فإنه قال: * (آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم) * أي تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك، وتزول نفرتكم عنه، لأنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم بالكلية.
وأما القسم الأول: وهو أن المراد من السكينة شيء كان موضوعا في التابوت، وعلى هذا ففيه أقوال الأول: وهو قول أبي مسلم أنه كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام، بأن الله ينصر طالوت وجنوده، ويزيل خوف العدو عنهم الثاني: وهو قول علي عليه السلام: كان لها وجه كوجه الإنسان، وكان لها ريح هفافة والثالث: قول ابن عباس رضي الله عنهما: هي صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه، فإذا صاحت كصياح الهر ذهب التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا وقف وقفوا ونزل النصر.
القول الرابع: وهو قول عمرو بن عبيد: إن السكينة التي كانت في التابوت شيء لا يعلم.
واعلم أن السكينة عبارة عن الثبات والأمن، وهو كقوله في قصة الغار: * (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) * (الفتح: 26) فكذا قوله تعالى: * (فيه سكينة من ربكم) * معناه الأمن والسكون.
واحتج القائلون بأنه حصل في التابوت شيء بوجهين الأول: أن قوله: * (فيه سكينة) * يدل على كون التابوت ظرفا للسكينة والثاني: وهو أنه عطف عليه قوله: * (وبقية مما ترك آل موسى) * فكما أن التابوت كان ظرفا للبقية وجب أن يكون ظرفا للسكينة.
والجواب عن الأول: أن كلمة * (في) * كما تكون للظرفية فقد تكون للسببية قال عليه الصلاة والسلام: " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " وقال: " في خمس من الإبل شاة " أي بسببه فقوله في هذه الآية: * (فيه سكينة) * أي بسببه تحصل السكينة.
والجواب عن الثاني: لا يبعد أن يكون المراد بقية مما ترك آل موسى وآل هارون من الدين والشريعة، والمعنى أن بسبب هذا التابوت ينتظم أمر ما بقي من دينهما وشريعتهما.
190

وأما القائلون بأن المراد بالبقية شيء كان موضوعا في التابوت فقالوا: البقية هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشئ من التوراة وقفيز من المن الذي كان ينزل عليهم. أما قوله: * (آل موسى وآل هارون) * ففيه قولان الأول: قال بعض المفسرين يحتمل أن يكون المراد من آل موسى وآل هارون هو موسى وهارون أنفسهما، والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام لأبي موسى الأشعري: " لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود " وأراد به داود نفسه، لأنه لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن مثل ما كان لداود عليه السلام.
والقول الثاني: قال القفال رحمه الله: إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون، لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت، وما في التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون، فيكون الآل هم الأتباع، قال تعالى: * (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * (غافر: 46).
وأما قوله: * (تحمله الملائكة) * فقد تقدم القول فيه.
وأما قوله: * (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) * فالمعنى أن هذه الآية معجزة باهرة إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق المدعي.
قوله تعالى: * (فلما فصل طالوت بالجنود) * فيه مسائل.
المسألة الأولى: اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها يظهر بتقدير محذوف يدل عليه باقي الكلام، والتقدير أنه لما أتاهم بآية التابوت أذعنوا له، وأجابوا إلى المسير تحت رايته. فلما فصل بهم أي فارق بهم حد بلده وانقطع عنه، ومعنى الفصل القطع، يقال: قول فصل، إذا كان يقطع بين الحق والباطل وفصلت اللحم عن العظم فصلا وفاصل الرجل شريكه وامرأته فصالا، ويقال للفطام فصال، لأنه يقطع عن الرضاع، وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه، ومنه قوله: * (ولما فصلت العير) * (يوسف: 94) قال صاحب " الكشاف " قوله: فصل عن موضع كذا أصله فصل نفسه، ثم لأجل الكثرة في الاستعمال حذفوا المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي
كما يقال انفصل والجنود جمع جند وكل صنف من الخلق جند على حدة، يقال للجراد الكثيرة إنها جنود الله، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " الأرواح جنود مجندة ".
المسألة الثانية: روي أن طالوت قال لقومه: لا ينبغي أن يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبغي إلا الشاب النشيط الفارغ
191

فاجتمع إليه ممن اختار ثمانون ألفا.
أما قوله تعالى: * (قال إن الله مبتليكم بنهر) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن هذا القائل من كان فقال الأكثرون: أنه هو طالوت وهذا هو الأظهر لأن قوله لا بد وأن يكون مسندا إلى مذكور سابق، والمذكور السابق هو طالوت، ثم على هذا يحتمل أن يكون القول من طالوت لكنه تحمله من نبي الوقت، وعلى هذا التقدير لا يلزم أن يكون طالوت نبيا ويحتمل أن يكون من قبل نفسه فلا بد من وحي أتاه عن ربه، وذلك يقتضي أنه مع الملك كان نبيا.
والقول الثاني: أن قائل هذا القول هو النبي المذكور في أول الآية، والتقدير: فلما فصل طالوت بالجنود قال لهم نبيهم: * (إن الله مبتليكم بنهر) * ونبي ذلك الوقت هو اشمويل عليه السلام.
المسألة الثانية: في حكمة هذا الابتلاء وجهان الأول: قال القاضي: كان مشهورا من بني إسرائيل أنهم يخالفون الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة فأراد الله تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدو يتميز بها من يصبر على الحرب ممن لا يصبر لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو، فلما كان هذا هو الصلاح قبل مقاتلة العدو لا جرم قال: * (فإن الله مبتليكم بنهر) * الثاني: أنه تعالى ابتلاهم ليتعودوا الصبر على الشدائد.
المسألة الثالثة: في النهر أقوال أحدها: وهو قول قتادة والربيع، أنه نهر بين الأردن وفلسطين والثاني: وهو قول ابن عباس والسدي: أنه نهر فلسطين، قال القاضي: والتوفيق بين القولين أن النهر الممتد من بلد قد يضاف إلى أحد البلدين.
القول الثالث: وهو الذي رواه صاحب " الكشاف ": أن الوقت كان قيظا فسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهرا فقال: إن الله مبتليكم بما اقترحتموه من النهر.
المسألة الرابعة: قوله: * (مبتليكم بنهر) * أي ممتحنكم امتحان العبد كما قال: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) * (الإنسان: 2) ولما كان الابتلاء بين الناس إنما يكون لظهور الشيء، وثبت أن الله تعالى لا يثبت، ولا يعاقب على علمه، إنما يفعل ذلك بظهور الأفعال بين الناس، وذلك لا يحصل إلا بالتكليف لا جرم سمي التكليف ابتلاء، وفيه لغتان بلا يبلو، وابتلى يبتلي، قال الشاعر: ولقد بلوتك وابتليت خليفتي * ولقد كفاك مودتي بتأدب
فجاء باللغتين.
المسألة الخامسة: نهر ونهر بتسكين الهاء وتحريكها لغتان، وكل ثلاثي حشوه حرف
192

من حروف الحلق فإنه يجئ على هذين، كقولك: صخر وصخر، وشعر وشعر، وقالوا: بحر وبحر، وقال الشاعر: كأنما خلقت كفاء من حجر * فليس بين يديه والندى عمل
يرى التيمم في بر وفي بحر مخافة أن يرى في كفه بلل
أما قوله تعالى: * (فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (فليس مني) * كالزجر، يعني ليس من أهل ديني وطاعتي، ونظيره قوله تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) * ثم قال قبل هذا: * (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف) * وأيضا نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا " أي ليس على ديننا ومذهبنا والله أعلم.
المسألة الثانية: قال أهل اللغة * (لم يطعمه) * أي لم يذقه، وهو من الطعم، وهو يقع على الطعام والشراب هذا ما قاله أهل اللغة، وعندي إنما اختير هذا اللفظ لوجهين من الفائدة أحدهما: أن الإنسان إذا عطش جدا، ثم شرب الماء وأراد وصف ذلك الماء بالطيب واللذة قال: إن هذا الماء كأنه الجلاب، وكأنه عسل فيصفه بالطعوم اللذيذة، فقوله: * (ومن لم يطعمه) * معناه أنه وإن بلغ به العطش إلى حيث يكون ذلك الماء في فمه كالموصوف بهذه الطعوم الطيبة فإنه يجب عليه الاحتراز عنه، وأن لا يشربه والثاني: أن من جعل الماء في فمه وتمضمض به ثم أخرجه من الفم، فإنه يصدق عليه أنه ذاقه وطعمه، ولا يصدق عليه أنه شربه، فلو قال: ومن لم يشربه فإنه مني كان المنع مقصورا على الشرب، أما لما قال: * (ومن لم يطعمه) * كان المنع حاصلا في الشرب وفي المضمضة، ومعلوم أن هذا التكليف أشق، وأن الممنوع من شرب الماء إذا تمضمض به وجد نوع خفة وراحة. المسألة الثالثة: أنه تعالى قال في أول الآية: * (فمن شرب منه فليس مني) * ثم قال بعده: * (ومن لم يطعمه) * وكان ينبغي أن يقال: ومن لم يطعم منه ليكون آخر الآية مطابقا أولها، إلا أنه ترك ذلك اللفظ، واختير هذا لفائدة، وهي أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث؟ قال أبو حنيفة لا يحنث إلا إذا كرع من النهر، حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث، لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربه متصلا بذلك الشيء، وهذا لا يحصل إلا بأن يشرب من النهر، وقال الباقون إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه
193

يحنث، لأن ذلك وإن كان مجازا إلا أنه مجاز معروف مشهور.
إذا عرفت هذا فنقول: إن قوله: * (فمن شرب منه فليس مني) * ظاهره أن يكون النهي مقصورا على الشرب من النهر، حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا يكون داخلا تحت النهي، فلما كان هذا الاحتمال قائما في اللفظ الأول ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام، فقال: * (ومن لم يطعمه فإنه مني) * أضاف الطعم والشرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الإبهام.
أما قوله: * (إلا من اغترف غرفة بيده) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو * (غرفة) * بفتح الغين، وكذلك يعقوب وخلف، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالضم، قال أهل اللغة الغرفة بالضم الشيء القليل الذي يحصل في الكف، والغرفة بالفتح الفعل، وهو الاغتراف مرة واحدة، ومثله الأكلة والأكلة، يقال: فلان يأكل في النهار أكله واحدة، وما أكلت عندهم إلا أكلة بالضم أي شيئا قليلا كاللقمة، ويقال: الحزة من اللحم بالضم للقطعة اليسيرة منه، وحززت اللحم حزة أي قطعته مرة واحدة، ونحوه: الخطوة والخطوة بالضم مقدار ما بين القدمين، والخطوة أن يخطو مرة واحدة، وقال المبرد: غرفة بالفتح مصدر يقع على قليل ما في يده وكثيره والغرفة بالضم اسم ملء الكف أو ما اغترف به.
المسألة الثانية: قوله: * (إلا من اغترف) * استثناء من قوله: * (فمن شرب منه فليس مني) * وهذه الجملة في حكم المتصلة بالاستثناء، إلا أنها قدمت في الذكر للعناية.
المسألة الثالثة: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه، ويحمل منها.
وأقول: هذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما: أنه كان مأذونا أن يأخذ من الماء ما شاءه مرة واحدة، بغرفة واحدة، بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه وخدمه، ولأن يحمله مع نفسه والثاني: أنه كان يأخذ القليل إلا أن الله تعالى يجعل البركة فيه حتى يكفي لكل هؤلاء، وهذا كان معجزة لنبي ذلك الزمان، كما أنه تعالى كان يروي الخلق العظيم من الماء القليل في زمان محمد عليه الصلاة والسلام.
أما قوله تعالى: * (فشربوا منه إلا قليلا منهم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبي والأعمش * (إلا قليل) * قال صاحب " الكشاف ": وهذا بسبب ميلهم إلى المعنى، وإعراضهم عن اللفظ، لأن قوله: * (فشربوا منه) * في معنى: فلم يطيعوه، لا جرم حمل عليه
194

كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم.
المسألة الثانية: قد ذكرنا أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز الصديق عن الزنديق، والموافق عن المخالف، فلما ذكر الله تعالى أن الذين يكونون أهلا لهذا القتال هم الذين لا يشربون من هذا النهر، وأن كل من شرب منه فإنه لا يكون مأذونا في هذا القتال، وكان في قلبهم نفرة شديدة عن ذلك القتال، لا جرم أقدموا على الشرب، فتميز الموافق عن المخالف، والصديق عن العدو، ويروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد، وقع أكثرهم في النهر، وأكثروا الشرب، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى، فلم يزيدوا على الاغتراف، وأما الذين شربوا وخالفوا أمر الله فاسودت شفاههم وغلبهم العطش ولم يرووا، وبقوا على شط النهر، وجبنوا على لقاء العدو، وأما الذين أطاعوا أمر الله تعالى، فقوي قلبهم وصح إيمانهم، وعبروا النهر سالمين.
المسألة الثالثة: القليل الذي لم يشرب قيل: إنه أربعة آلاف، والمشهور وهو قول الحسن أنهم كانوا على عدد أهل بدر ثلثمائة وبضعة عشر وهم المؤمنون، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن، قال البراء بن عازب: وكنا يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا.
أما قوله: * (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاع الله تعالى في باب الشرب من النهر، وإنما اختلفوا في أن رجوعهم إلى بلدهم كان قبل عبور النهر أو بعده، وفيه قولان الأول: أنه ما عبر معه إلا المطيع، واحتج هذا القائل بأمور الأول: أن الله تعالى قال: * (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه) * فالمراد بقوله: * (الذين آمنوا معه) * الذين وافقوه في تلك الطاعة، فلما ذكر الله تعالى كل العسكر، ثم خص المطيعين بأنهم عبروا النهر، علمنا أنه ما عبر النهر أحد إلا المطيعين.
الحجة الثانية: الآية المتقدمة وهي قوله تعالى حكاية عن طالوت * (فمن شرب منه فليس مني) * أي ليس من أصحابي في سفري، كالرجل الذي يقول لغيره: لست أنت منا في هذا الأمر، قال: ومعنى * (فشربوا منه) * أي ليتسببوا به إلى الرجوع، وذلك لفساد دينهم وقلبهم.
الحجة الثالثة: أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي والمتمرد، حتى يصرفهم عن نفسه ويردهم قبل أن يرتدوا عند حضور العدو، وإذا كان المقصود من هذا الابتلاء
195

ليس إلا هذا المعنى كان الظاهر أنه صرفهم عن نفسه في ذلك الوقت وما أذن لهم في عبور النهر.
القول الثاني: أنه استصحب كل جنوده وكلهم عبروا النهر واعتمدوا في إثبات هذا القول على قوله تعالى حكاية عن قوم طالوت * (قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت
وجنوده) * ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق، وهذه الحجة ضعيفة، وبيان ضعفها من وجوه أحدها: يحتمل أن يقال: إن طالوت لما عزم على مجاوزة النهر وتخلف الأكثرون ذكر المتخلفون أن عذرنا في هذا التخلف أنه لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فنحن معذورون في هذا التخلف، أقصى ما في الباب أن يقال: إن الفاء في قوله: * (فلما جاوزه) * تقتضي أن يكون قولهم: * (لا طاقة لنا اليوم بجالوت) * إنما وقع بعد المجاوزة، إلا أنا نقول يحتمل أن يقال: إن طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه، سألهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع من المكالمة، ويحتمل أن يكون المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة، وعلى هذا التقدير فالإشكال أيضا زائل.
والجواب الثاني: أنه يحتمل أن يقال: المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين: بعضهم ممن يحب الحياة ويكره الموت وكان الخوف والجزع غالبا على طبعه، ومنهم من كان شجاعا قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى.
فالقسم الأول: هم الذين قالوا: * (لا طاقة لنا اليوم) *.
والقسم الثاني: هم الذين أجابوا بقولهم: * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة) *.
والجواب الثالث: يحتمل أن يقال: القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم قالوا: * (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) * فلا بد أن نوطن أنفسنا على القتل، لأنه لا سبيل إلى الفرار من أمر الله، والقسم الثاني قالوا: لا نوطن أنفسنا بل نرجو من الله الفتح والظفر، فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة، وغرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح والنصرة، وعلى هذا التقدير لا يكون في واحد من القولين ما ينقض الآخر.
المسألة الثانية: الطاقة مصدر بمنزلة الإطاقة، يقال: أطقت الشيء إطاقة وطاقة، ومثلها أطاع إطاعة، والاسم الطاعة، وأغار يغير إغارة والاسم الغارة، وأجاب يجيب إجابة والاسم الجابة وفي المثل: أساء سمعا فأساء جابة، أي جوابا.
أما قوله تعالى: * (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله) * ففيه سؤال، وهو أنه تعالى لم جعلهم
196

ظانين ولم يجعلهم حازمين؟.
وجوابه: أن السبب فيه أمور الأول: وهو قول قتادة: أن المراد من لقاء الله الموت، قال عليه الصلاة والسلام: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " وهؤلاء المؤمنون لما وطنوا أنفسهم على القتل، وغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت، لا جرم قيل في صفتهم: إنهم يظنون أنهم ملاقوا الله الثاني: * (الذين يظنون أنهم ملاقوا الله) * أي ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة، وذلك لأن أحدا لا يعلم عاقبة أمره، فلا بد أن يكون ظانا راجيا وإن بلغ في الطاعة أبلغ الأمر، إلا من أخبر الله بعاقبة أمره، وهذا قول أبي مسلم وهو حسن.
الوجه الثالث: أن يكون المعنى: قال الذين يظنون أنهم ملاقوا طاعة الله، وذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون قاطعا بأن هذا العمل الذي عمله طاعة، لأنه ربما أتى فيه بشيء من الرياء والسمعة، ولا يكون بنية خالصة فحينئذ لا يكون الفعل طاعة، إنما الممكن فيه أن يظن أنه أتى به على نعت الطاعة والإخلاص.
الوجه الرابع: أنا ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم) * أن المراد بالسكينة على قول بعض المفسرين أنه كان في التابوت كتب إلهية نازلة على الأنبياء المتقدمين، دالة على حصول النصر والظفر لطالوت وجنوده، ولكنه ما كان في تلك الكتب أن النصر والظفر يحصل في المرة الأولى أو بعدها، فقوله: * (الذين يظنون أنهم ملاقوا الله) * يعني الذين يظنون أنهم ملاقوا وعد الله بالظفر، وإنما جعله ظنا لا يقينا لأن حصوله في الجملة وإن كان قطعا إلا أن حصوله في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل حسن الظن.
الوجه الخامس: قال كثير من المفسرين: المراد بقوله: * (يظنون أنهم ملاقوا الله) * أنهم يعلمون ويوقنون، إلا أنه أطلق لفظ الظن على اليقين على سبيل المجاز لما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكد الاعتقاد.
أما قوله: * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المراد منه تقوية قلوب الذين قالوا: * (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) * والمعنى أنه لا عبرة بكثرة العدد إنما العبرة بالتأييد الإلهي، والنصر السماوي، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة.
المسألة الثانية: الفئة: الجماعة، لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة، وقال الزجاج:
197

أصل الفئة من قولهم: فأوت رأسه بالسيف، وفأيت إذا قطعت، فالفئة الفرقة من الناس، كأنها قطعة منهم.
المسألة الثالثة: قال الفراء: لو ألغيت من ههنا جاز في فئة الرفع والنصب والخفض، أما النصب فلأن * (كم) * بمنزلة عدد فنصب ما بعده نحو عشرين رجلا، وأما الخفض فبتقدير دخول حرف * (من) * عليه، وأما الرفع فعلى نية تقديم الفعل كأنه قيل: كم غلبت فئة.
وأما قوله: * (والله مع الصابرين) * فلا شبهة أن المراد المعونة والنصرة، ثم يحتمل أن يكون هذا قولا للذين قالوا: * (كم من فئة قليلة) * ويحتمل أن يكون قولا من الله تعالى، وإن كان الأول أظهر.
قوله تعالى
* (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنآ أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: المبارزة في الحروب، هي أن يبرز كل واحد منهم لصاحبه وقت القتال، والأصل فيها أن الأرض الفضاء التي لا حجاب فيها يقال لها البراز، فكان البروز عبارة عن حصول كل واحد منهما في الأرض المسماة بالبراز، وهو أن يكون كل واحد منهما بحيث يرى صاحبه.
المسألة الثانية: أن العلماء والأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع العوام والضعفاء أنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وأوضحوا أن الفتح والنصرة لا يحصلان إلا بإعانة الله، لا جرم لما برز عسكر طالوت إلى عسكر جالوت ورأوا القلة في جانبهم، والكثرة في جانب عدوهم، لا جرم اشتغلوا بالدعاء والتضرع، فقالوا: * (ربنا أفرغ علينا صبرا) * ونظيره ما حكى الله عن قوم آخرين أنهم قالوا حين الالتقاء مع المشركين: * (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير) * (آل عمران: 146) إلى قوله: * (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) * (آل عمران: 147) وهكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل المواطن، وروي عنه في قصة بدر أنه عليه السلام لم يزل يصلي ويستنجز من الله وعده، وكان متى لقي
198

عدوا قال: " اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم " وكان يقول: " اللهم بك أصول وبك أجول ".
المسألة الثالثة: الإفراغ الصب، يقال: أفرغت الإناء إذا صببت ما فيه، وأصله من الفراغ، يقال: فلان فارغ معناه أنه خال مما يشغله، والإفراغ إخلاء الإناء مما فيه، وإنما يخلو بصب كل ما فيه.
إذا عرفت هذا فنقول قوله: * (أفرغ علينا صبرا) * يدل على المبالغة في طلب الصبر من وجهين أحدهما: أنه إذا صب الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه، وهذا يدل على التأكيد والثاني: أن إفراغ الإناء هو إخلاؤه، وذلك يكون بصب كل ما فيه، فمعنى: أفرغ علينا صبرا: أي أصبب علينا أتم صب وأبلغه. المسألة الرابعة: اعلم أن الأمور المطلوبة عند المحاربة مجموع أمور ثلاثة فأولها: أن يكون الإنسان صبورا على مشاهدة المخاوف والأمور الهائلة، وهذا هو الركن الأعلى للمحارب فإنه إذا كان جبانا لا يحصل منه مقصود أصلا وثانيها: أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات والاتفاقات الحسنة مما يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار وثالثها: أن تزداد قوته على قوة عدوه حتى يمكنه أن يقهر العدو.
إذا عرفت هذا فنقول المرتبة الأولى: هي المراد من قوله: * (أفرغ علينا صبرا) * والثانية: هي المراد بقوله: * (وثبت أقدامنا) * والثالثة: هي المراد بقوله: * (وانصرنا على القوم الكافرين) *.
المسألة الخامسة: احتج الأصحاب على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى بقوله: * (ربنا أفرغ علينا صبرا) * وذلك لأنه لا معنى للصبر إلا القصد على الثبات، ولا معنى للثبات إلا السكون والاستقرار وهذه الآية دالة على أن ذلك القصد المسمى بالصبر من الله تعالى، وهو قوله: * (أفرغ علينا صبرا) * وعلى أن الثبات والسكون الحاصل عند ذلك القصد أيضا بفعل الله تعالى، وهو قوله: * (وثبت أقدامنا) * وهذا صريح في أن الإرادة من فعل العبد وبخلق الله تعالى، أجاب القاضي عنه بأن المراد من الصبر وتثبيت القدم تحصيل أسباب الصبر، وأسباب ثبات القدم، وتلك الأسباب أمور أحدها: أن يجعل في قلوب أعدائهم الرعب والجبن منهم فيقع بسبب ذلك منهم الاضطراب فيصير ذلك سببا لجراءة المسلمين عليهم، ويصير داعيا لهم إلى الصبر على القتال وترك الانهزام، وثانيها: أن يلطف ببعض أعدائهم في معرفة بطلان ما هم عليه فيقع بينهم الاختلاف والتفرق ويصير ذلك سببا لجراءة المؤمنين عليهم وثالثها: أن يحدث تعالى فيهم وفي ديارهم وأهاليهم من البلاء مثل
199

الموت والوباء، وما يكون سببا لاشتغالهم بأنفسهم، ولا يتفرغون حينئذ للمحاربة فيصير ذلك سببا لجراءة المسلمين عليهم ورابعها: أن يبتليهم بمرض وضعف يعمهم أو يعم أكثرهم، أو يموت رئيسهم ومن يدبر أمرهم فيعرف المؤمنون ذلك فيصير ذلك سببا لقوة قلوبهم، وموجبا لأن يحصل لهم الصبر والثبات، هذا كلام القاضي.
والجواب عنه من وجهين: الأول: أنا بينا أن الصبر عبارة عن القصد إلى السكوت والثبات عبارة عن السكون، فدلت هذه الآية على أن إرادة العبد ومراده من الله تعالى وذلك يبطل قولكم وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره وتحملونه على أسباب الصبر وثبات الأقدام، ومعلوم أن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز.
الوجه الثاني: في الجواب أن هذه الأسباب التي سلمتم أنها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في الترجيح الداعي أوليس لها أثر فيه وإن لم يكن لها أثر فيه لم يكن لطلبها من الله قائدة وإن كان لها أثر في الترجيح فعند صدور هذه الأسباب المرجحة من الله يحصل الرجحان، وعند حصول الرجحان يمتنع الطرف المرجوح، فيجب حصول الطرف الراجح، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب والله أعلم.
قوله تعالى
* (فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشآء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) *.
المعنى: أن الله تعالى استجاب دعاءهم، وأفرغ الصبر عليهم، وثبت أقدامهم، ونصرهم على القوم الكافرين: جالوت وجنوده وحقق بفضله ورحمته ظن من قال: * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وهزموهم بإذن الله) * وأصل الهزم في اللغة الكسر، يقال سقاء منهزم إذا تشقق مع جفاف، وهزمت العظم أو القصبة هزما، والهزمة نقرة في الجبل، أو في الصخرة، قال
200

سفيان بن عيينة في زمزم: هي هزمة جبريل يريد هزمها برجله فخرج الماء، ويقال: سمعت هزمة الرعد كأنه صوت فيه تشقق، ويقال للسحاب: هزيم، لأنه يتشقق بالمطر، وهزم الضرع وهزمه ما يكسر منه، ثم أخبر تعالى أن تلك الهزيمة كانت بإذن الله وبإعانته وتوفيقه وتيسيره، وأنه لولا إعانته وتيسيره لما حصل البتة ثم قال:
* (وقتل داود جالوت) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن داود عليه السلام كان راعيا وله سبعة أخوة مع طالوت فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم إيشا أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجبار وكان من قوم عاد إلى البراز فلم يخرج إليه أحد فقال: يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم فقال داود لإخوته أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا، فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرض الناس، فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ فقال طالوت: أنكحه ابنتي وأعطيه نصف ملكي فقال داود: فأنا خارج إليه وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في الرعي، وكان طالوت عارفا بجلادته، فلما هم داود بأن يخرج رماه فأصابه في صدره، ونفذ الحجر فيه، وقتل بعده ناسا كثيرا، فهزم الله جنود جالوت * (وقتل داود جالوت) * فحسده طالوت وأخرجه من مملكته، ولم يف له بوعده، ثم ندم فذهب يطلبه إلى أن قتل، وملك داود وحصلت له النبوة، ولم يجتمع في بني إسرائيل الملك والنبوة إلا له.
اعلم أن قوله: * (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت) * يدل على أن هزيمة عسكر جالوت كانت من طالوت وإن كان قتل جالوت ما كان إلا من داود ولا دلالة في الظاهر على أن انهزام العسكر كان قبل قتل جالوت أو بعده، لأن الواو لا تفيد الترتيب.
أما قوله تعالى: * (وآتاه الله الملك والحكمة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم آتاه الله الملك والنبوة جزاء على ما فعل من الطاعة العظيمة، وبذل النفس في سبيل الله، مع أنه تعالى كان عالما بأنه صالح لتحمل أمر النبوة، والنبوة لا يمتنع جعلها جزاء على الطاعات كما قال تعالى: * (ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) * (الدخان: 32، 33) وقال: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124) وظاهر هذه الآية يدل أيضا على ذلك لأنه تعالى لما حكى عن داود أنه قتل جالوت، قال بعده: * (وآتاه الله الملك والحكمة) * والسلطان إذا أنعم على بعض عبيده الذين قاموا بخدمة شاقة، يغلب على الظن أن ذلك الإنعام لأجل تلك الخدمة، وقال الأكثرون: إن النبوة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال، بل ذلك محض التفضل والإنعام، قال
201

تعالى: * (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) * (الحج: 75).
المسألة الثانية: قال بعضهم: ظاهر الآية يدل على أن داود حين قتل جالوت آتاه الله الملك والنبوة، وذلك لأنه تعالى ذكر إيتاء الملك والنبوة عقيب ذكره لقتل داود جالوت، وترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وبيان المناسبة أنه عليه السلام لما قتل مثل ذلك الخصم العظيم بالمقلاع والحجر، كان ذلك معجزا، لا سيما وقد تعلقت الأحجار معه وقالت: خذنا فإنك تقتل جالوت بنا، فظهور المعجز يدل على النبوة، وأما الملك فلأن القوم لما شاهدوا منه قهر ذلك العدو العظيم المهيب بذلك العمل القليل، فلا شك أن النفوس تميل إليه وذلك يقتضي حصول الملك له ظاهرا، وقال الأكثرون: إن حصول الملك والنبوة له تأخر عن ذلك الوقت بسبع سنين على ما قاله الضحاك، قالوا والروايات وردت بذلك، قالوا: لأن الله تعالى كان قد عين طالوت للملك فيبعد أن يعزله عن الملك حال حياته، والمشهور في أحوال بني إسرائيل كان نبي ذلك الزمان أشمويل، وملك ذلك الزمان طالوت، فلما توفي أشمويل أعطى الله تعالى النبوة لداود، ولما مات طالوت أعطى الله تعالى الملك لداود، فاجتمع الملك والنبوة فيه.
المسألة الثالثة: * (الحكمة) * هي وضع الأمور مواضعها على الصواب والصلاح، وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة، فلا يبعد أن يكون المراد بالحكمة ههنا النبوة، قال تعالى: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) * (النساء: 54) وقال فيما بعث به نبيه عليه السلام * (ويعلمهم الكتاب والحكمة) * (آل عمران: 146).
فإن قيل: فإذا كان المراد من الحكمة النبوة، فلم قدم الملك على الحكمة؟ مع أن الملك أدون حالا من النبوة.
قلنا: لأن الله تعالى بين في هذه الآية كيفية ترقي داود عليه السلام إلى المراتب العالية، وإذا تكلم المتكلم في كيفية الترقي، فكل ما كان أكثر تأخرا في الذكر كان أعلى حالا وأعظم رتبة.
أما قوله تعالى: * (وعلمه مما يشاء) * ففيه وجوه أحدها: أن المراد به ما ذكره في قوله: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم) * (الأنبياء: 80) وقال: * (وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد) * (سبأ: 10، 11) وثانيها: أن المراد كلام الطير والنمل، قال تعالى حكاية عنه: * (علمنا منطق الطير) * (النمل: 16) وثالثها: أن المراد به ما يتعلق بمصالح الدنيا وضبط الملك، فإنه ما ورث الملك من آبائه، لأنهم ما كانوا ملوكا بل كانوا رعاة ورابعها: علم الدين، قال تعالى: * (وآتينا داود زبورا) * (النساء: 163) وذلك لأنه كان حاكما بين الناس، فلا
202

بد وأن يعلمه الله تعالى كيفية الحكم والقضاء وخامسها: الألحان الطيبة، ولا يبعد حمل اللفظ على الكل.
فإن قيل: إنه تعالى لما ذكر إنه آتاه الحكمة، وكان المراد بالحكمة النبوة، فقد دخل العلم في ذلك، فلم ذكر بعده * (علمه مما يشاء) *.
قلنا: المقصود منه التنبيه على أن العبد قط لا ينتهي إلى حالة يستغني عن التعلم، سواء كان نبيا أو لم يكن، ولهذا السبب قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (وقل رب زدني علما) * (طه: 114) ثم قال تعالى: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الفساد الواقع بجالوت وجنوده زال بما كان من طالوت وجنوده، وبما كان من داود من قتل جالوت بين عقيب ذلك جملة تشتمل كل تفصيل في هذا الباب، وهو أنه تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض لكي لا تفسد الأرض، فقال: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ولولا دفع الله) * (البقرة: 25) بغير ألف، وكذلك في سورة الحج * (ولولا دفع الله) * وقرآ جميعا * (إن الله يدفع عن الذين آمنوا) * (الحج: 38) بغير ألف ووافقهما عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر اليحصبي على دفع الله بغير ألف إلا أنهم قرؤا * (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) * بالألف، وقرأ نافع * (ولولا دفاع الله) * و * (إن الله يدافع) * بالألف.
إذا عرفت هذه الروايات فنقول: أما من قرأ: * (ولولا دفع الله) *، * (إن الله يدفع) * فوجهه ظاهر، وأما من قرأ: * (ولولا دفاع الله) *، * (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) * فوجه الإشكال فيه أن المدافعة مفاعلة، وهي عبارة عن كون كل واحد من المدافعين دافعا لصاحبه ومانعا له من فعله، وذلك من العبد في حق الله تعالى محال، وجوابه أن لأهل اللغة في لفظ دفاع قولين أحدهما: أنه مصدر لدفع، تقول: دفعته دفعا ودفاعا، كما تقول: كتبته كتبا وكتابا، قالوا: وفعال كثيرا يجيء مصدرا للثلاثي من فعل وفعل، تقول: جمح جماحا، وطمح طماحا، وتقول: لقيته لقاء، وقمت قياما، وعلى هذا التأويل كان قوله: * (ولولا دفاع الله) * معناه ولولا دفع الله.
والقول الثاني: قول من جعل دفاع من دافع، فالمعنى أنه سبحانه إنما يكف الظلمة والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ورسله وأئمة دينه وكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة، كما قال: * (يحاربون الله ورسوله) * (المائدة: 33)، * (وشاقوا الله) * (الأنفال: 13) وكما قال: * (قاتلهم الله) * (التوبة: 30) ونظائره والله أعلم.
203

المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع والمدفوع به، فقوله: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم) * إشارة إلى المدفوع، وقوله: * (ببعض) * إشارة إلى المدفوع به، فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية، فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا، ويحتمل أن يكون مجموعهما.
أما القسم الأول: وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين، فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر، أو إلى الفسق، أو إليهما، فلنذكر هذه الاحتمالات.
الاحتمال الأول: أن يكون المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات قال تعالى: * (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) * (إبراهيم: 1).
والاحتمال الثاني: أن يكون المراد: ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على ما قال تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * (آل عمران: 110) ويدخل في هذا الباب: الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام ونظيره قوله تعالى: * (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) * (المؤمنون: 96) وفي موضع آخر: * (ويدرؤن بالحسنة السيئة) * (الرعد: 22).
الاحتمال الثالث: ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض، واعلم أن الدافعين على هذا التقدير هم الأنبياء عليهم السلام، ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم، وتقريره: أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا، ولا يبني هذا لذاك، ولا ينسج ذاك لهذا، لا تتم مصلحة الإنسان الواحد، ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد، فلهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولا، والمقاتلة ثانيا، فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق، لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات، فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع هم الذين دفع الله بسببهم وبسبب شريعتهم الآفات عن الخلق فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع، فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع كانت الفتن زائلة، والمصالح حاصلة فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام واعلم أنه كما لا بد في قطع الخصومات
204

والمنازعات من الشريعة فكذا لا بد في تنفيذ الشريعة من الملك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام " الإسلام والسلطان أخوان توأمان " وقال أيضا: " الإسلام أمير، والسلطان حارس، فما لا أمير له فهو منهزم، وما لا حارس له فهو ضائع " ولهذا يدفع الله تعالى عن المسلمين أنواع شرور الدنيا بسبب وضع الشرائع وبسبب نصب الملوك وتقويتهم، ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله: * (لفسدت الأرض) * أي لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي، وذلك يسمى فسادا قال الله تعالى: * (ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) * (البقرة: 205) وقال: * (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) * (القصص: 19) وقال: * (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) * (غافر: 26) وقال: * (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) * (الأعراف: 127) وقال: * (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) * (الروم: 41) وهذا التأويل يشهد له قوله في سورة الحج: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد) * (الحج: 40).
الاحتمال الرابع: ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها، وتصديق هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي، وبمن يزكي عمن لا يزكي، وبمن يصوم عمن لا يصوم، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على صحة هذا القول من القرآن قوله تعالى: * (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا) * (الكهف: 82) وقال تعالى: * (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) * (الفتح: 25) إلى
قوله: * (ولو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) * (الفتح: 25) وقال: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * (الأنفال: 33) ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله: * (لفسدت الأرض) * أي لأهلك الله أهلها لكثرة الكفار والعصاة.
والاحتمال الخامس: أن يكون اللفظ محمولا على الكل، لأن بين هذه الأقسام قدرا مشتركا وهو دفع المفسدة، فإذا حملنا اللفظ عليه دخلت الأقسام بأسرها فيه.
المسألة الثالثة: قال القاضي: هذه الآية من أقوى ما يدل على بطلان الجبر، لأنه إذا كان الفساد من خلقه فكيف يصلح أن يقول تعالى: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) * ويجب أن لا يكون على قولهم لدفاع الناس بعضهم ببعض تأثير في زوال الفساد وذلك لأن على قولهم الفساد إنما لا يقع بسبب أن لا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى الناس.
والجواب: أن الله تعالى لما كان عالما بوقوع الفساد، فإذا صح مع ذلك العلم أن لا يفعل الفساد
205

كان المعنى أنه يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد، فيلزم أن يكون قادرا على الجمع بين النفي والإثبات وهو محال.
أما قوله: * (ولكن الله ذو فضل على العالمين) * فالمقصود منه أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكل بقضاء الله تعالى، فقالوا: لو لم يكن فعل العبد خلقا لله تعالى، لم يكن دفع المحققين شر المبطلين فضلا من الله تعالى على أهل الدنيا لأن المتولي لذلك الدفع إذا كان هو العبد من قبل نفسه وباختياره ولم يكن لله تعالى * (ولكن الله ذو فضل على العالمين) * عقيب قوله: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) * يدل على أنه تعالى ذو فضل على العالمين بسبب ذلك الدفع، فدل هذا على أن ذلك الدفع الذي هو فعلهم هو من خلق الله تعالى ومن تقديره.
فإن قالوا: يحمل هذا على البيان والإرشاد والأمر.
قلنا: كل ذلك قائم في حق الكفار والفجار ولم يحصل منه الدفع، فعلمنا أن فضل الله ونعمته علينا إنما كان بسبب نفس ذلك الدفع وذلك يوجب قولنا والله أعلم.
قوله تعالى
* (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) *.
اعلم أن قوله: * (تلك) * إشارة إلى القصص التي ذكرها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت، وإظهار الآية التي هي نزول التابوت من السماء، وغلب الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير، ولا شك أن هذه الأحوال آيات باهرة دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته.
فإن قيل: لم قال: * (تلك) * ولم يقل: (هذه) مع أن تلك يشار بها إلى غائب لا إلى حاضر؟.
قلنا: قد بينا في تفسير قوله: * (ذلك الكتاب لا ريب فيه) * (البقرة: 2) أن تلك وذلك يرجع إلى معنى هذه وهذا، وأيضا فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشئ الذي انقضى ومضى، فكانت في حكم الغائب فلهذا التأويل قال: * (تلك) *.
أما قوله تعالى: * (نتلوها) * يعني يتلوها جبريل عليه السلام عليك لكنه تعالى جعل تلاوة جبريل عليه السلام تلاوة لنفسه، وهذا تشريف عظيم لجبريل عليه السلام، وهو كقوله: * (إن الذين
206

يبايعونك إنما يبايعون الله) * (الفتح: 10).
أما قوله: * (بالحق) * ففيه وجوه أحدها: أن المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها محمد صلى الله عليه وسلم، وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد، كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة وثانيها: * (بالحق) * أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب، لأنه في كتبهم، كذلك من غير تفاوت أصلا وثالثها: إنا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالة في نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة ورابعها: * (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق) * أي يجب أن يعلم أن نزول هذه الآيات عليك من قبل الله تعالى، وليس بسبب إلقاء الشياطين، ولا بسبب تحريف الكهنة والسحرة. ثم قال: * (وإنك لمن المرسلين) * وإنما ذكر هذا عقيب ما تقدم لوجوه أحدها: أنك أخبرت عن هذه الأقاصيص من غير تعلم ولا دراسة، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى وثانيها: أنك قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخوف عليهم والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالف عليك، لأنك مثلهم، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والتطوع، لا على سبيل الإكراه، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك يرجع عليهم فيكون تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظهر من الكفار والمنافقين، ويكون قوله: * (وإنك لمن المرسلين) * كالتنبيه على ذلك.
* (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وءاتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شآء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد
207

ما جآءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شآء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: * (تلك) * ابتداء، وإنما قال: * (تلك) * ولم يقل أولئك الرسل، لأنه ذهب إلى الجماعة، كأنه قيل: تلك الجماعة الرسل بالرفع، لأنه صفة لتلك وخبر الابتداء * (فضلنا بعضهم على بعض) *.
المسألة الثانية: في قوله: * (تلك الرسل) * أقوال أحدها: أن المراد منه: من تقدم ذكرهم من الأنبياء عليهم السلام في القرآن، كإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب
وموسى وغيرهم صلوات الله عليهم والثاني: أن المراد منه من تقدم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل وداود وطالوت على قول من يجعله نبيا والثالث: وهو قول الأصم: تلك الرسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد، الذين إليهم الإشارة بقوله تعالى: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) * (البقرة: 251).
المسألة الثالثة: وجه تعليق هذه الآية بما قبلها ما ذكره أبو مسلم وهو أنه تعالى أنبأ محمدا صلى الله عليه وسلم من أخبار المتقدمين مع قومهم، كسؤال قوم موسى * (أرنا الله جهرة) * (النساء: 153) وقولهم: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * (الأعراف: 138) وكقوم عيسى بعد أن شاهدوا منه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله فكذبوه وراموا قتله، ثم أقام فريق على الكفر به وهم اليهود، وفريق زعموا أنهم أولياؤه وادعت على اليهود من قتله وصلبه ما كذبهم الله تعالى فيه كالملأ من بني إسرائيل حسدوا طالوت ودفعوا ملكه بعد المسألة، وكذلك ما جرى من أمر النهر، فعزى الله رسوله عما رأى من قومه من التكذيب والحسد، فقال: هؤلاء الرسل الذين كلم الله تعالى بعضهم، ورفع الباقين درجات وأيد عيسى بروح القدس، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه بعد مشاهدة المعجزات، وأنت رسول مثلهم فلا تحزن على ما ترى من قومك، فلو شاء الله لم تختلفوا أنتم وأولئك، ولكن ما قضى الله فهو كائن، وما قدره فهو واقع وبالجملة فالمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على إيذاء قومه له.
المسألة الرابعة: أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، وعلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من الكل، ويدل عليه وجوه أحدها: قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) فلما كان رحمة لكل العالمين لزم أن يكون أفضل من كل العالمين.
الحجة الثانية: قوله تعالى: * (ورفعنا لك ذكرك) * فقيل فيه لأنه قرن ذكر محمد بذكره في كلمة
208

الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ولم يكن ذكر سائر الأنبياء كذلك.
الحجة الثالثة: أنه تعالى قرن طاعته بطاعته، فقال: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * (النساء: 80) وبيعته ببيعته فقال: * (إن الذين يبايعون إنما يبايعونك الله يد الله فوق أيديهم) * (الفتح: 10) وعزته بعزته فقال: * (ولله العزة ولرسوله) * (المنافقون: 8) ورضاه برضاه فقال: * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) * (التوبة: 62) وإجابته بإجابته فقال: * (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) * (الأنفال: 24).
الحجة الرابعة: أن الله تعالى أمر محمدا بأن يتحدى بكل سورة من القرآن فقال: * (فأتوا بسورة من مثله) * (البقرة: 23) وأقصر السور سورة الكوثر وهي ثلاث آيات، وكان الله تحداهم بكل ثلاث آيات من القرآن، ولما كان كل القرآن ستة آلاف آية، وكذا آية، لزم أن لا يكون معجز القرآن معجزا واحدا بل يكون ألفي معجزة وأزيد.
وإذا ثبت هذا فنقول: إن الله سبحانه ذكر تشريف موسى بتسع آيات بينات، فلأن يحصل التشريف لمحمد بهذه الآيات الكثيرة كان أولى.
الحجة الخامسة: أن معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من معجزات سائر الأنبياء فوجب أن يكون رسولنا أفضل من سائر الأنبياء.
بيان الأول قوله عليه السلام: " القرآن في الكلام كآدم في الموجودات ".
بيان الثاني أن الخلعة كلما كانت أشرف كان صاحبها أكرم عند الملك.
الحجة السادسة: أن معجزته عليه السلام هي القرآن وهي من جنس الحروف والأصوات وهي أعراض غير باقية وسائر معجزات سائر الأنبياء من جنس الأمور الباقية ثم إنه سبحانه جعل معجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى آخر الدهر، ومعجزات سائر الأنبياء فانية منقضية.
الحجة السابعة: أنه تعالى بعد ما حكى أحوال الأنبياء عليهم السلام قال: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90) فأمر محمدا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمن قبله، فإما أن يقال: إنه كان مأمورا بالاقتداء بهم في أصول الدين وهو غير جائز لأنه تقليد، أو في فروع الدين وهو غير جائز، لأن شرعه نسخ سائر الشرائع، فلم يبق إلا أن يكون المراد محاسن الأخلاق، فكأنه سبحانه قال: إنا أطلعناك على أحوالهم وسيرهم، فاختر أنت منها أجودها وأحسنها وكن مقتديا بهم في كلها، وهذا يقتضي أنه اجتمع فيه من الخصال المرضية ما كان متفرقا فيهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.
الحجة الثامنة: أنه عليه السلام بعث إلى كل الخلق وذلك يقتضي أن تكون مشقته أكثر، فوجب أن يكون أفضل، أما إنه بعث إلى كل الخلق فلقوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) * (سبأ: 28) وأما
209

أن ذلك يقتضي أن تكون مشتقه أكثر فلأنه كان إنسانا فردا من غير مال ولا أعوان وأنصار، فإذا قال لجميع العالمين: يا أيها الكافرون صار الكل أعداء له، وحينئذ يصير خائفا من الكل، فكانت المشقة عظيمة، وكذلك فإن موسى عليه السلام لما بعث إلى بني إسرائيل فهو ما كان يخاف أحدا إلا من فرعون وقومه، وأما محمد عليه السلام فالكل كانوا أعداء له، يبين ذلك أن إنسانا لو قيل له: هذا البلد الخالي عن الصديق والرفيق فيه رجل واحد ذو قوة وسلاح فاذهب إليه اليوم وحيدا وبلغ إليه خبرا يوحشه ويؤذيه، فإنه قلما سمحت نفسه بذلك، مع أنه إنسان واحد، ولو قيل له: اذهب إلى بادية بعيدة ليس فيها أنس ولا صديق، وبلغ إلى صاحب البادية كذا وكذا من الأخبار الموحشة لشق ذلك على الإنسان، أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان مأمورا بأن يذهب طول ليله ونهاره في كل عمره إلى الجن والإنس الذين لا عهد له بهم، بل المعتاد منهم أنهم يعادونه ويؤذونه ويستخفونه، ثم إنه عليه السلام لم يمل من هذه الحالة ولم يتلكأ، بل سارع إليها سامعا مطيعا، فهذا يقتضي أنه تحمل في إظهار دين الله أعظم المشاق، ولهذا قال تعالى: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) * (الحديد: 10) ومعلوم أن ذلك البلاء كان على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا عظم فضل الصحابة بسبب تلك الشدة فما ظنك بالرسول، وإذا ثبت أن مشقته أعظم من مشقة غيره وجب أن يكون فضله أكثر من فضل غيره لقوله عليه
السلام: " أفضل العبادات أحمزها ".
الحجة التاسعة: أن دين محمد عليه السلام أفضل الأديان، فيلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، بيان الأول أنه تعالى جعل الإسلام ناسخا لسائر الأديان، والناسخ يجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " فلما كان هذا الدين أفضل وأكثر ثوابا، كان واضعه أكثر ثوابا من واضعي سائر الأديان، فيلزم أن يكون محمد عليه السلام أفضل من سائر الأنبياء.
الحجة العاشرة: أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم، فوجب أن يكون محمد أفضل الأنبياء، بيان الأول قوله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * (آل عمران: 110) بيان الثاني أن هذه الأمة إنما نالت هذه الفضيلة لمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) * (آل عمران: 31) وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع، وأيضا أن محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر ثوابا لأنه مبعوث إلى الجن والإنس، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لأن لكثرة المستجيبين أثرا في علو شأن المتبوع.
210

الحجة الحادية عشر: أنه عليه السلام خاتم الرسل، فوجب أن يكون أفضل، لأن نسخ الفاضل بالمفضول قبيح في المعقول.
الحجة الثانية عشرة: أن تفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون لأمور منها: كثرة المعجزات التي هي دالة على صدقهم وموجبة لتشريفهم، وقد حصل في حق نبينا عليه السلام ما يفضل على ثلاثة آلاف، وهي بالجملة على أقسام، منها ما يتعلق بالقدرة، كإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، وإروائهم من الماء القليل، ومنها ما يتعلق لعلوم كالإخبار عن الغيوب، وفصاحة القرآن، ومنها اختصاصه في ذاته بالفضائل، نحو كونه أشرف نسبا من أشراف العرب، وأيضا كان في غاية الشجاعة، كما روي أنه قال بعد محاربة علي رضي الله عنه لعمرو بن ود: كيف وجدت نفسك يا علي، قال: وجدتها لو كان كل أهل المدينة في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم فقال: تأهب فإنه يخرج من هذا الوادي فتى يقاتلك، الحديث إلى آخره وهو مشهور، ومنها في خلقه وحلمه ووفائه وفصاحته وسخائه، وكتب الحديث ناطقة بتفصيل هذه الأبواب.
الحجة الثالثة عشرة: قوله عليه السلام: " آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيام " وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ومن كل أولاده، وقال عليه السلام: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " وقال عليه السلام: " لا يدخل الجنة أحد من النبيين حتى أدخلها أنا، ولا يدخلها أحد من الأمم حتى تدخلها أمتي " وروى أنس قال صلى الله عليه وسلم: " أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر " وعن ابن عباس قال: جلس ناس من الصحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثهم فقال بعضهم: عجبا إن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليما، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاه الله فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد سمعت كلامكم وحجتكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجى الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر.
211

الحجة الرابعة عشرة: روى البيهقي في " فضائل الصحابة " أنه ظهر علي بن أبي طالب من بعيد فقال عليه السلام: هذا سيد العرب فقالت عائشة: ألست أنت سيد العرب؟ فقال أنا أسيد العالمين وهو سيد العرب، وهذا يدل على أنه أفضل الأنبياء عليهم السلام.
الحجة الخامسة عشرة: روى مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر، بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي قبلي يبعث إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تكن لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئا " وجه الاستدلال أنه صريح في أن الله فضله بهذه الفضائل على غيره.
الحجة السادسة عشرة: قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير هذا المعنى: إن كل أمير فإنه تكون مؤنته على قدر رعيته، فالأمير الذي تكون أمارته على قرية تكون مؤنته بقدر تلك القرية، ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال أمير تلك القرية فكذلك كل رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرسالة، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنما يعطي من هذه الكنوز الروحانية بقدر ذلك الموضع، والمرسل إلى كل أهل الشرق والغرب إنسهم وجنهم لا بد وأن يعطي من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب، وإذا كان كذلك كانت نسبة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كل المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة، ولما كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله، فلا جرم بلغ في العلم إلى الحد الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقه: * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * (النجم: 10) وفي الفصاحة إلى أن قال: " أوتيت جوامع الكلم " وصار كتابه مهيمنا على الكتب وصارت أمته خير الأمم.
الحجة السابعة عشرة: روى محمد بن الحكيم الترمذي رحمه الله في كتاب " النوادر ": عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وموسى نجيا، واتخذني حبيبا، ثم قال وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي ".
الحجة الثامنة عشرة: في " الصحيحين " عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت ههنا
212

لبنة فيتم بناؤك؟ فقال محمد: كنت أنا تلك اللبنة ".
الحجة التاسعة عشرة: أن الله تعالى كلما نادى نبيا في القرآن ناداه باسمه * (يا آدم أسكن) * (البقرة: 35)، * (وناديناه أن يا إبراهيم) * (الصافات: 104)، * (يا موسى * إني أنا ربك) * (طه: 10، 11) وأما النبي عليه السلام فإنه ناداه بقوله: * (يا أيها النبي) *، * (يا أيها الرسول) * وذلك يفيد الفضل.
واحتج المخالف بوجوه الأول: أن معجزات الأنبياء كانت أعظم من معجزاته، فإن آدم عليه السلام كان مسجودا للملائكة، وما كان محمد عليه السلام كذلك، وإن إبراهيم عليه السلام ألقى في النيران العظيمة فانقلبت روحا وريحانا عليه، وأن موسى عليه السلام أوتي تلك المعجزات العظيمة، ومحمد ما كان له مثلها، وداود لأن له الحديد في يده، وسليمان كان الجن والإنس والطير والوحش والرياح مسخرين له، وما كان ذلك حاصلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وعيسى أنطقه الله في الطفولية وأقدره على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما كان ذلك حاصلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
الحجة الثانية: أنه تعالى سمى إبراهيم في كتابه خليلا، فقال: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * (النساء: 125) وقال في موسى عليه السلام * (وكلم الله موسى تكليما) * (النساء: 164) وقال في عيسى عليه السلام: * (نفخنا فيه من روحنا) * (التحريم: 12) وشئ من ذلك لم يقله في حق محمد عليه السلام.
الحجة الثالثة: قوله عليه السلام: " لا تفضلوني على يونس بن متى " وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تخيروا بين الأنبياء ".
الحجة الرابعة: روي عن ابن عباس قال: كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء فذكرنا نوحا بطول عبادته، وإبراهيم بخلته، وموسى بتكليم الله تعالى إياه، وعيسى برفعه إلى السماء، وقلنا رسول الله أفضل منهم، بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء، فدخل رسول الله فقال: فيم أنتم؟ فذكرنا له فقال: " لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا " وذلك أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها.
والجواب: أن كون آدم عليه السلام مسجودا للملائكة لا يوجب أن يكون أفضل من محمد عليه السلام، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة " وقال: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " ونقل أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وهذا أعظم من السجود، وأيضا أنه تعالى صلى بنفسه على محمد، وأمر الملائكة والمؤمنين بالصلاة عليه، وذلك أفضل من سجود الملائكة، ويدل عليه وجوه الأول: أنه تعالى أمر
213

الملائكة بسجود آدم تأديبا، وأمرهم بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم تقريبا والثاني: أن الصلاة على محمد عليه السلام دائمة إلى يوم القيامة، وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام ما كان إلا مرة واحدة الثالث: أن السجود لآدم إنما تولاه الملائكة، وأما الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم فإنما تولاها رب العالمين ثم أمر بها الملائكة والمؤمنين والرابع: أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد عليه السلام في جبهة آدم.
فإن قيل: إنه تعالى خص آدم بالعلم، فقال: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * (البقرة: 31) وأما محمد عليه السلام فقال في حقه: * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * (الشورى: 52) وقال: * (ووجدك ضالا فهدى) * (الضحى: 7) وأيضا فمعلم آدم هو الله تعالى، قال: * (وعلم آدم الأسماء) * ومعلم محمد عليه السلام جبريل عليه السلام لقوله: * (علمه شديد القوى) * (النجم: 5).
والجواب: أنه تعالى قال في علم محمد صلى الله عليه وسلم: * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * (النساء: 113) وقال عليه السلام: " أدبني ربي فأحسن تأديبي " وقال تعالى: * (الرحمن علم القرآن) * (الرحمن: 2) وكان عليه السلام يقول: (أرنا الأشياء كما هي) وقال تعالى لمحمد عليه السلام: * (وقل رب زدني علما) * (طه: 114) وأما الجمع بينه وبين قوله تعالى: * (علمه شديد القوى) * فذاك بحسب التلقين، وأما التعليم فمن الله تعالى، كما أنه تعالى قال: * (قل يتوفاكم ملك الموت) * (السجدة: 11) ثم قال تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * (الزمر: 42).
فإن قيل: قال نوح عليه السلام * (وما أنا بطارد المؤمنين) * (الشعراء: 114) وقال الله تعالى لمحمد عليه السلام: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) * (الأنعام: 52) وهذا يدل على أن خلق نوح أحسن.
قلنا: إنه تعالى قال: * (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) * (نوح: 1) فكان أول أمره العذاب، وأما محمد عليه السلام فقيل فيه: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107)، لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * (التوبة: 128) إلى قوله: * (رؤوف رحيم) * فكان عاقبة نوح أن قال: * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * (نوح: 26) وعاقبة محمد عليه السلام الشفاعة * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * (الإسراء: 79) وأما سائر المعجزات فقد ذكر في " كتب دلائل النبوة " في مقابلة كل واحد منها معجزة أفضل منها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب لا يحتمل أكثر مما ذكرناه، والله أعلم.
وأما قوله تعالى: * (منهم من كل الله) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المراد منه من كلمه الله تعالى، والهاء تحذف كثيرا كقوله تعالى: * (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) * (الزخرف: 71).
214

المسألة الثانية: قرىء * (كلم الله) * بالنصب، والقراءة الأولى أدل على الفضل، لأن كل مؤمن فإنه يكلم الله على ما قال عليه السلام: " المصلي مناج ربه " إنما الشرف في أن يكلمه الله تعالى، وقرأ اليماني: * (كالم الله) * من المكالمة، ويدل عليه قولهم: كليم الله بمعنى مكالمه.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن من كلمه الله فالمسموع هو الكلام القديم الأزلي، الذي ليس بحرف ولا صوت أم غيره؟ فقال الأشعري وأتباعه: المسموع هو ذلك فإنه لما لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف، فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف، وقال الماتريدي: سماع ذلك الكلام محال، وإنما المسموع هو الحرف والصوت.
المسألة الرابعة: اتفقوا على أن موسى عليه السلام مراد بقوله تعالى: * (منهم من كلم الله) * قالوا وقد سمع من قوم موسى السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله: * (واختار موسى قومه سبعين رجلا) * (الأعراف: 155) وهل سمعه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج؟ اختلفوا فيه منهم من قال: نعم بدليل قوله: * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * (النجم: 10).
فإن قيل: إن قوله تعالى: * (منهم من كلم الله) * المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى، ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام، قال: * (وكلم الله موسى تكليما) * ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس، حيث قال: * (انظرني إلى يوم يبعثون لله * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم) * (ص: 79 - 81) إلى آخر هذه الآيات وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم وإن لم يوجب شرفا فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال: * (وكلم الله موسى تكليما) *؟. والجواب: أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل الواسطة كانت موجودة.
أما قوله تعالى: * (ورفع بعضهم درجات) * ففيه قولان الأول: أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة، وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم خليلا، ولم يؤت أحدا مثله هذه الفضيلة، وجمع لداود الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره، وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح، ولم يكن هذا حاصلا لأبيه داود عليه السلام، ومحمد عليه السلام مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع، وهذا إن حملنا الدرجات على المناصب والمراتب، أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضا وجه، لأن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعا آخر من المعجزة لائقا بزمانه فمعجزات موسى عليه السلام، وهي قلب العصا حية، واليد البيضاء، وفلق البحر، كان كالشبيه بما
215

كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر، ومعجزات عيسى عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه، وهو الطب، ومعجزة محمد عليه السلام، وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار، وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة، وبالبقاء وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القوة، وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا، وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة، فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان مستجمعا للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر.
القول الثاني: أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام، لأنه هو المفضل على الكل، وإنما قال: * (ورفع بعضهم درجات) * على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلا عظيما فيقال له: من فعل هذا فيقول أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه، ويكون ذلك أفخم من التصريح به، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس، فذكر زهيرا والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة.
فإن قيل: المفهوم من قوله: * (ورفع بعضهم درجات) * هو المفهوم من قوله: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * فما الفائدة في التكرير؟ وأيضا قوله: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * كلام كلي، وقوله بعد ذلك: * (منهم من كلم الله) * شروع في تفصيل تلك الجملة، وقوله بعد ذلك: * (ورفع بعضهم درجات) * إعادة لذلك الكلي، ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركا.
والجواب: أن قوله: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض، فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله: * (ورفع بعضهم درجات) * فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريرا.
أما قوله تعالى: * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى قال في أول الآية: * (فضلنا بعضهم على بعض) * ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال: * (منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات) * ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال: * (وآتينا عيسى بن مريم البينات) * فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى؟.
والجواب: أن قوله: * (منهم من كلم الله) * أهيب وأكثر وقعا من أن يقال منهم من كلمنا،
216

ولذلك قال: * (وكلم الله موسى تكليما) * فلهذا المقصود اختار لفظة الغيبة.
وأما قوله: * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) * فإنما اختار لفظ المخاطبة، لأن الضمير في قوله: * (وآتينا) * ضمير التعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء.
السؤال الثاني: لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما؟.
والجواب: سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما وأيضا فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما، كأنه قيل: هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما، بل نازعوا وخالفوا، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا.
السؤال الثالث: تخصيص عيسى بن مريم بإيتاء البينات، يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره، ومعلوم أن ذلك غير جائز فإن قلت: إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات أقوى؟ فنقول: إن بينات موسى عليه السلام كانت أقوى من بينات عيسى عليه السلام، فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة.
الجواب: المقصود منه التنبيه على قبح أفعال اليهود، حيث أنكروا نبوة عيسى عليه السلام مع ما ظهر على يديه من البينات اللائحة.
السؤال الرابع: البينات جمع قلة، وذلك لا يليق بهذا المقام.
قلنا: لا نسلم أنه جمع قلة، والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وأيدناه بروح القدس) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: القدس تثقله أهل الحجاز وتخففه تميم.
المسألة الثانية: في تفسيره أقوال الأول: قال الحسن: القدس هو الله تعالى، وروحه جبريل عليه السلام، والإضافة للتشريف، والمعنى أعناه بجبريل عليه السلام في أول أمره وفي وسطه وفي آخره، أما في أول الأمر فلقوله: * (فنفخنا فيه من روحنا) * (التحريم: 12) وأما في وسطه فلأن جبريل عليه السلام علمه العلوم، وحفظه من الأعداء، وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام ورفعه إلى السماء والذي يدل على أن روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى: * (قل نزله روح القدس) * (النحل: 102).
والقول الثاني: وهو المنقول عن ابن عباس أن روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به
217

عيسى عليه السلام الموتى.
والقول الثالث: وهو قول أبي مسلم: أن روح القدس الذي أيد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه، وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى.
ثم قال تعالى: * (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تعلق هذه بما قبلها هو أن الرسل بعدما جاءتهم البينات، ووضحت لهم الدلائل والبراهين، اختلفت أقوامهم، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا.
المسألة الثانية: احتج القائلون بأن كل الحوادث بقضاء الله وقدره بهذه الآية، وقالوا تقدير الآية: ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا، والمعنى أن عدم الاقتتال لازم لمشيئة عدم الاقتتال، وعدم اللازم يدل على عدم اللزوم، فحيث وجد الاقتتال علمنا أن مشيئه عدم الاقتتال مفقودة، بل كان الحاصل هو مشيئة الاقتتال، ولا شك أن ذلك الاقتتال معصية، فدل ذلك على أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان بقضاء الله وقدره ومشيئته، وعلى أن قتل الكفار وقتالهم للمؤمنين بإرادة الله تعالى.
وأما المعتزلة فقد أجابوا عن الاستدلال، وقالوا: المقصود من الآية بيان أن الكفار إذا قتلوا فليس ذلك بغلبة منهم لله تعالى وهذا المقصود يحصل بأن يقال: إنه تعالى لو شاء لأهلكهم وأبادهم أو يقال: لو شاء لسلب القوى والقدر منهم أو يقال: لو شاء لمنعهم من القتال جبرا وقسرا وإذا كان كذلك فقوله: * (ولو شاء الله) * المراد منه هذه الأنواع من المشيئة، وهذا كما يقال: لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته، ولم تشرب النصارى الخمر، والمراد منه المشيئة التي ذكرناها، وكذا ههنا، ثم أكد القاضي هذه الأجوبة وقال: إذا كانت المشيئة تقع على وجوه وتنتفي على وجوه لم يكن في الظاهر دلالة على الوجه المخصوص، لا سيما وهذه الأنواع من المشيئة متباينة متنافية.
والجواب: أن أنواع المشيئة وإن اختلفت وتباينت إلا أنها مشتركة في عموم كونها مشيئة، والمذكور في الآية في معرض الشرط هو المشيئة من حيث إنها مشيئة، لا من حيث إنها مشيئة خاصة، فوجب أن يكون هذا المسمى حاصلا، وتخصيص المشيئة بمشيئة خاصة، وهي إما مشيئة الهلاك، أو مشيئة سلب القوى والقدر، أو مشيئة القهر والإجبار، تقييد للمطلق وهو غير جائز، وكما أن هذا التخصيص على خلاف ظاهر اللفظ فهو على خلاف الدليل القاطع، وذلك لأن الله تعالى إذا كان عالما بوقوع الاقتتال، والعلم بوقوع الاقتتال حال عدم وقوع الاقتتال جمع بين
218

النفي والإثبات، وبين السلب والإيجاب، فحال حصول العلم بوجود الاقتتال لو أراد عدم الاقتتال لكان قد أراد الجمع بين النفي والإثبات وذلك محال، فثبت أن ظاهر الآية على ضد قولهم، والبرهان القاطع على ضد قولهم وبالله التوفيق.
ثم قال: * (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) * فقد ذكرنا في أول الآية أن المعنى: ولو شاء لم يختلفوا، وإذا لم يختلفوا لم يقتتلوا، وإذا اختلفوا فلا جرم اقتتلوا، وهذه الآية دالة على أن الفعل لا يقع إلا بعد حصول الداعي، لأنه بين أن الاختلاف يستلزم التقاتل، والمعنى أن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة، وذلك يدل على أن المقاتلة لا تقع إلا لهذا الداعي، وعلى أنه متى حصل هذا الداعي وقعت المقاتلة، فمن هذا الوجه يدل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند عدم الداعي، وواجب عند حصول الداعي، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكل بقضاء الله وقدره، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله في العبد دفعا للتسلسل، فكانت الآية دالة أيضا من هذا الوجه على صحة مذهبنا.
ثم قال: * (ولو شاء الله ما اقتتلوا) * فإن قيل: فما الفائدة في التكرير؟.
قلنا: قال الواحدي رحمه الله تعالى: إنما كرره تأكيدا للكلام وتكذيبا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى.
ثم قال: * (ولكن الله يفعل ما يريد) * فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله واحتج الأصحاب بهذه الآية على أنه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين، وقالوا: لأن الخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن، ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى،
وأيضا لما دل على أنه يفعل كل ما يريد فلو كان يريد الإيمان من الكفار لفعل فيهم الإيمان، ولكانوا مؤمنين، ولما لم يكن كذلك دل على أنه تعالى لا يريد الإيمان منهم، فكانت هذه الآية دالة على مسألة خلق الأعمال، وعلى مسألة إرادة الكائنات والمعتزلة يقيدون المطلق ويقولون: المراد يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه، وهذا ضعيف لوجوه أحدها: أنه تقييد للمطلق والثاني: أنه على هذا التقييد تصير الآية بيانا للواضحات فإنه يصير معنى الآية أنه يفعل ما يفعله الثالث: أن كل أحد كذلك فلا يكون في وصف الله تعالى بذلك دليلا على كمال قدرته وعلو مرتبته والله أعلم.
219

قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) *.
اعلم أن أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال، وبذل المال في الإنفاق فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه بالأمر بالإنفاق، وأيضا فيه وجه آخر، وهو أنه تعالى أمر بالقتال فيما سبق بقوله: * (وقاتلوا في سبيل الله) * ثم أعقبه بقوله: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * (البقرة: 245) والمقصود منه إنفاق المال في الجهاد، ثم إنه مرة ثانية أكد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد، وهو قوله: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا) *.
إذا عرفت وجه النظم فنقول في الآية مسائل:
المسألة الأولى: المعتزلة احتجوا على أن الرزق لا يكون إلا حلالا بقوله: * (أنفقوا مما رزقناكم) * فنقول: الله تعالى أمر بالإنفاق من كل ما كان رزقا بالإجماع أما ما كان حراما فإنه لا يجوز إنفاقه، وهذا يفيد القطع بأن الرزق لا يكون حراما، والأصحاب قالوا: ظاهر الآية وإن كان يدل على الأمر بإنفاق كل ما كان رزقا إلا أنا نخصص هذا الأمر بإنفاق كل ما كان رزقا حلالا.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن قوله: * (أنفقوا) * مختص بالإنفاق الواجب كالزكاة أم هو عام في كل الإنفاقات سواء كانت واجبة أو مندوبة، فقال الحسن: هذا الأمر مختص بالزكاة، قال لأن قوله: * (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة) * كالوعد والوعيد لا يتوجه إلا على الواجب وقال الأكثرون: هذا الأمر يتناول الواجب والمندوب، وليس في الآية وعيد، فكأنه قيل: حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدنيا، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة والقول الثالث: أن المراد منه الإنفاق في الجهاد: والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد، فكان المراد منه الإنفاق في الجهاد، وهذا قول الأصم.
المسألة الثالثة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (لا بيع، ولا خلة، ولا شفاعة) * بالنصب، وفي سورة إبراهيم عليه السلام * (لا بيع فيه ولا خلال) * (إبراهيم: 31) وفي الطور * (لا لغو فيها ولا تأثيم) * (الطور: 23) والباقون جميعا بالرفع، والفرق بين النصب والرفع قد ذكرناه في قوله: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال) * (البقرة: 197).
220

المسألة الرابعة: المقصود من الآية أن الإنسان يجئ وحده، ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا، قال تعالى: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) * (الأنعام: 94) وقال: * (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) * (مريم: 80).
أما قوله: * (لا بيع فيه) * ففيه وجهان الأول: أن البيع ههنا بمعنى الفدية، كما قال: * (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية) * (الحديد: 15) وقال: * (ولا يقبل منها عدل) * (البقرة: 123) وقال: * (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) * (الأنعام: 7) فكأنه قال: من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب والثاني: أن يكون المعنى: قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال.
أما قوله: * (ولا خلة) * فالمراد المودة، ونظيره من الآيات قوله تعالى: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * (الزخرف: 67) وقال: * (وتقطعت بهم الأسباب) * (البقرة: 166) وقال: * (ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) * (العنكبوت: 25) وقال حكاية عن الكفار: * (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) * (الشعراء: 100) وقال: * (وما للظالمين من أنصار) * (البقرة: 270) وأما قوله: * (ولا شفاعة) * يقتضي نفي كل الشفاعات.
واعلم أن قوله: * (ولا خلة ولا شفاعة) * عام في الكل، إلا أن سائر الدلائل دلت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين، وعلى ثبوت الشفاعة للمؤمنين، وقد بيناه في تفسير قوله تعالى: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * (البقرة: 281) * (لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة) * (البقرة: 48).
واعلم أن السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور أحدها: أن كل أحد يكون مشغولا بنفسه، على ما قال تعالى: * (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغبيه) * (عبس: 37) والثاني: أن الخوف الشديد غالب على كل أحد، على ما قال: * (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) * (الحج: 2) والثالث: أنه إذا نزل العذاب بسبب الكفر والفسق صار مبغضا لهذين الأمرين، وإذا صار مبغضا لهما صار مبغضا لمن كان موصوفا بهما.
أما قوله تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) * فنقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول: الحمد لله الذي قال: * (والكافرون هم الظالمون) * ولم يقل الظالمون هم الكافرون، ثم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوها أحدها: أنه تعالى لما قال: * (ولا خلة ولا شفاعة) * أوهم ذلك نفي الخلة والشفاعة مطلقا، فذكر تعالى عقيبه: * (والكافرون هم الظالمون) * ليدل على أن ذلك النفي مختص بالكافرين، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على إثبات الشفاعة في حق الفساق، قال القاضي: هذا التأويل غير صحيح لأن قوله: * (والكافرون هم الظالمون) * كلام مبتدأ فلم يجب تعليقه بما تقدم.
221

والجواب: أنا لو جعلنا هذا الكلام مبتدأ تطرق الخلف إلى كلام الله تعالى، لأن غير الكافرين قد يكون ظالما، أما إذا علقناه بما تقدم زال الإشكال فوجب المصير إلى تعليقه بما قبله.
التأويل الثاني: أن الكافرين إذا دخلوا النار عجزوا عن التخلص عن ذلك العذاب، فالله تعالى لم يظلمهم بذلك العذاب، بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والفسق حتى صاروا مستحقين لهذا العذاب، ونظيره قوله تعالى: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) * (الكهف: 49).
والتأويل الثالث: أن الكافرين هم الظالمون حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم وحاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم في هذا الاختيار الردئ، ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله.
والتأويل الرابع: الكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأمور في غير مواضعها، لتوقعهم الشفاعة ممن لا يشفع لهم عند الله، فإنهم كانوا يقولون في الأوثان: * (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * (يونس: 18)، وقالوا أيضا: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3) فمن عبد جمادا وتوقع أن يكون شفيعا له عند الله فقد ظلم نفسه حيث توقع الخير ممن لا يجوز التوقع منه.
والتأويل الخامس: المراد من الظلم ترك الإنفاق، قال تعالى: * (آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) * (الكهف: 3) أي أعطت ولم تمنع فيكون معنى الآية والكافرون التاركون للإنفاق في سبيل الله، وأما المسلم فلا بد وأن ينفق منه شيئا قل أو كثر.
والتأويل السادس: * (والكافرون هم الظالمون) * أي هم الكاملون في الظلم البالغون المبلغ العظيم فيه كما يقال: العلماء هم المتكلمون أي هم الكاملون في العلم فكذا ههنا، وأكثر هذه الوجوه قد ذكرها القفال رحمه الله والله أعلم.
222