الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ١٧
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

سورة يونس
مكية
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه السورة مكية إلا قوله: * (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين) * فإنها مدنية نزلت في اليهود.
بسم الله الرحمن الرحيم
* (الر تلك ءايات الكتاب الحكيم) *.
قوله جل جلاله * (آلر) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وعاصم * (الر) * بفتح الراء على التفخيم، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويحيى عن أبي بكر: بكسر الراء على الإمالة. وروي عن نافع وابن عامر وحماد عن عاصم، بين الفتح والكسر، واعلم أن كلها لغات صحيحة. قال الواحدي: الأصل ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو ما ولا، لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء، وأما من أمال فلأن هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصوصة، فقصد بذكر الإمالة التنبيه على أنها أسماء لا حروف.
المسألة الثانية: اتفقوا على أن قوله * (الر) * وحده ليس آية، واتفقوا على أن قوله * (طه) * وحده آية. والفرق أن قوله: * (الر) * لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله: * (طه) * فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده.
2

المسألة الثالثة: الكلام المستقصى في تفسير هذا النوع من الكلمات قد تقدم في أول سورة البقرة إلا أنا نذكر ههنا أيضا بعض ما قيل. قال ابن عباس * (الر) * معناه أنا الله أرى. وقيل أنا الرب لا رب غيري. وقيل * (الر) * و * (حم) * و * (ن) * اسم الرحمن.
قوله تعالى: * (تلك آيات الكتاب الحكيم) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: * (تلك) * يحتمل أن يكون إشارة إلى ما في هذه السورة من الآيات، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن، وأيضا فالكتاب الحكيم يحتمل أن يكون المراد منه هو القرآن، ويحتمل أن يكون المراد منه غير القرآن، وهو الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي منه نسخ كل كتاب، كما قال تعالى: * (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) * (الواقعة: 77، 78) وقال تعالى: * (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) * (البروج: 22) وقال: * (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) * (الزخرف: 4) وقال: * (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * (الرعد: 39).
وإذا عرفت ما ذكرنا من الاحتمالات تحصل ههنا حينئذ وجوه أربعة من الاحتمالات:
الاحتمال الأول: أن يقال: المراد من لفظة * (تلك) * الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة، فكان التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم الذي هو القرآن، وذلك لأنه تعالى وعد رسوله عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، ولا يغيره كرور الدهر، فالتقدير أن تلك الآيات الحاصلة في سورة * (الر) * هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء.
الاحتمال الثاني: أن يقال: المراد أن تلك الآيات الموجودة في هذه السورة هي آيات الكتاب المخزون المكنون عند الله.
واعلم أن على هذين القولين تكون الإشارة بقولنا: * (تلك) * إلى آيات هذه السورة وفيه إشكال، وهو أن * (تلك) * يشار بها إلى الغائب، وآيات هذه السورة حاضرة، فكيف يحسن أن يشار إليه بلفظ * (تلك) *.
واعلم أن هذا السؤال قد سبق مع جوابه في تفسير قوله تعالى: * (ألم ذلك الكتاب) * (البقرة: 1، 2). الاحتمال الثالث والرابع: أن يقال: لفظ * (تلك) * إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن، والمراد بها: هي آيات القرآن الحكيم، والمراد أنها هي آيات ذلك الكتاب المكنون المخزون عند الله تعالى، وفي الآية قولان آخران: أحدهما: أن يكون المراد من * (الكتاب الحكيم) * التوراة والإنجيل، والتقدير: أن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل، والمعنى: أن القصص المذكورة في هذه السورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة
3

والإنجيل، مع أن محمدا عليه الصلاة والسلام ما كان عالما بالتوراة والإنجيل، فحصل هذه الموافقة لا يمكن إلا إذا خص الله تعالى محمدا بإنزال الوحي عليه. والثاني: وهو قول أبي مسلم: أن قوله: * (الر) * إشارة إلى حروف التهجي، فقوله: * (الر تلك آيات الكتاب) * يعني هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت وعلامات لهذا الكتاب الذي آيات به وقع التحدي. فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام الناس بالوصف المعجز، وإلا لكان اختصاصه بهذا النظم، دون سائر الناس القادرين على التلفظ بهذه الحروف محالا.
المسألة الثانية: في وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه: الأول: أن الحكيم هو ذو الحكمة بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة. الثاني: أن يكون المراد وصف الكلام بصفة من تكلم به. قال الأعشى: وغريبة تأتي الملوك حكيمة * قد قلتها ليقال من ذا قالها
الثالث: قال الأكثرون * (الحكيم) * بمعنى الحاكم، فعيل بمعنى فاعل دليله قوله تعالى: * (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس) * (البقرة: 213) فالقرآن كالحاكم في الاعتقادات لتميز حقها عن باطلها، وفي الأفعال لتميز صوابها عن خطئها، وكالحاكم على أن محمدا صادق في دعوى النبوة، لأن المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام، ليست إلا القرآن الرابع: أن * (الحكيم) * بمعنى المحكم. والأحكام معناه المنع من الفساد، فيكون المراد منه أنه لا يمحوه الماء، ولا تحرقه النار، ولا تغيره الدهور. أو المراد منه براءته عن الكذب والتناقض. الخامس: قال الحسن: وصف الكتاب بالحكيم، لأنه تعالى حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي
القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه، فعلى هذا * (الحكيم) * يكون معناه المحكوم فيه. السادس: أن * (الحكيم) * في أصل اللغة: عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب، فكان وصف القرآن به مجازا، ووجه المجاز هو أنه يدل على الحكمة والصواب، فمن حيث أنه يدل على هذه المعاني صار كأنه هو الحكيم في نفسه.
قوله تعالى
* (أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هاذا لساحر مبين) *.
4

في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أن كفار قريش تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمدا بالرسالة والوحي، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك التعجب. أما بيان كون الكفار تعجبوا من هذا التخصيص فمن وجوه: الأول: قوله تعالى: * (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب * وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد) * (ص: 5 و 6) وإذا بلغوا في الجهالة إلى أن تعجبوا من كون الإله تعالى واحدا، لم يبعد أيضا أن يتعجبوا من تخصيص الله تعالى محمدا بالوحي والرسالة! والثاني: أن أهل مكة كانوا يقولون: إن الله تعالى ما وجد رسولا إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب! والثالث: أنهم قالوا: * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) وبالجملة فهذا التعجب يحتمل وجهين: أحدهما: أن يتعجبوا من أن يجعل الله بشرا رسولا، كما حكي عن الكفار أنهم قالوا: * (أبعث الله بشرا رسولا) * (الإسراء: 94) والثاني: أن لا يتعجبوا من ذلك بل يتعجبوا من تخصيص محمد عليه الصلاة والسلام بالوحي والنبوة مع كونه فقيرا يتيما، فهذا بيان أن الكفار تعجبوا من ذلك. وأما بيان أن الله تعالى أنكر عليهم هذا التعجب فهو قوله في هذه الآية: * (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم) * فإن قوله: * (أكان للناس عجبا) * لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الإنكار، لأن يكون ذلك عجبا. وإنما وجب إنكار هذا التعجب لوجوه: الأول: أنه تعالى مالك الخلق وملك لهم والمالك والملك هو الذي له الأمر والنهي والإذن والمنع. ولا بد من إيصال تلك التكاليف إلى أولئك المكلفين بواسطة بعض العباد. وإذا كان الأمر كذلك كان إرسال الرسول أمرا غير ممتنع، بل كان مجوزا في العقول. الثاني: أنه تعالى خلق الخلق للاشتغال بالعبودية كما قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) وقال: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) * (الإنسان: 2) وقال: * (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى) * (الأعلى: 14، 15) ثم إنه تعالى أكمل عقولهم ومكنهم من الخير والشر، ثم علم تعالى أن عباده لا يشتغلون بما كلفوا به، إلا إذا أرسل إليهم رسولا ومنبها. فعند هذا يجب وجوب الفضل والكرم والرحمة أن يرسل إليهم ذلك الرسول، وإذا كان ذلك واجبا فكيف يتعجب منه. الثالث: أن إرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى شيئا من أزمنة وجود المكلفين منه، كما قال: * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) * (يوسف: 109) فكيف يتعجب منه مع أنه قد سبقه النظير، ويؤكده قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) * الأعراف: 59) وسائر قصص الأنبياء عليهم السلام. الرابع: أنه تعالى إنما أرسل إليهم رجلا عرفوا نسبه وعرفوا كونه أمينا بعيدا عن أنواع التهم والأكاذيب ملازما للصدق والعفاف. ثم إنه كان أميا لم يخالط أهل الأديان، وما قرأ كتابا أصلا البتة، ثم إنه مع ذلك يتلو عليهم أقاصيصهم ويخبرهم عن وقائعهم، وذلك يدل على كونه
5

صادقا مصدقا من عند الله، ويزيل التعجب، وهو من قوله: * (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم) * (الجمعة: 2) وقال: * (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) * (العنكبوت: 48) الخامس: أن مثل هذا التعجب كان موجودا عند بعثة كل رسول، كما في قوله: * (وإلى عاد أخاهم هودا) * (لأعراف: 65) * (وإلى ثمود أخاهم صالحا) * (الأعراف: 73) إلى قوله: * (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم) * (الأعراف: 63) السادس: أن هذا التعجب إما أن يكون من إرسال الله تعالى رسولا من البشر، أو سلموا أنه لا تعجب في ذلك، وإنما تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام بالوحي والرسالة.
أما الأول: فبعيد لأن العقل شاهد بأن مع حصول التكليف لا بد من منبه ورسول يعرفهم تمام ما يحتاجون إليه في أديانهم كالعبادات وغيرها.
وإذا ثبت هذا فنقول: الأولى أن يبعث إليهم من كان من جنسهم ليكون سكونهم إليه أكمل والفهم به أقوى، كما قال تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * (الأنعام: 9) وقال: * (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) * (الإسراء: 95).
وأما الثاني: فبعيد لأن محمدا عليه الصلاة والسلام كان موصوفا بصفات الخير والتقوى والأمانة، وما كانوا يعيبونه إلا بكونه يتيما فقيرا، وهذا في غاية البعد، لأنه تعالى غني عن العالمين فلا ينبغي أن يكون الفقر سببا لنقصان الحال عنده، ولا أن يكون الغنى سببا لكمال الحال عنده. كما قال تعالى: * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) * (سبأ: 37) فثبت أن تعجب الكفار من تخصيص الله تعالى محمدا بالوحي والرسالة كلام فاسد.
المسألة الثانية: الهمزة في قوله: * (أكان) * لإنكار التعجب ولأجل التعجيب من هذا التعجب و * (أن أوحينا) * اسم كان وعجبا خبره، وقرأ ابن عباس * (عجب) * فجعله اسما وهو نكرة و * (أن أوحينا) * خبره وهو معرفة كقوله: يكون مزاجها عسل وماء. والأجود أن تكون " كان " تامة، وأن أوحينا، بدلا من عجب.
المسألة الثالثة: أنه تعالى قال: * (أكان للناس عجبا) * ولم يقل أكان عند الناس عجبا، والفرق أن قوله: * (أكان للناس عجبا) * معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه وعينوه لتوجيه الطيرة والاستهزاء والتعجب إليه! وليس في قوله: " أكان عند الناس عجبا " هذا المعنى.
المسألة الرابعة: * (أن) * مع الفعل في قولنا: * (أن أوحينا) * في تقدير المصدر وهو اسم كان وخبره، هو قوله: * (عجبا) * وإنما تقدم الخبر على المبتدأ
ههنا لأنهم يقدمون الأهم، والمقصود بالإنكار في هذه الآية إنما هو تعجبهم، وأما * (أن) * في قوله: * (أن أنذر الناس) * فمفسرة لأن الإيحاء فيه معني القول،
6

ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس.
المسألة الخامسة: أنه تعالى لما بين أنه أوحى إلى رسوله، بين بعده تفصيل ما أوحى إليه وهو الإنذار والتبشير. أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي، وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها. وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي.
المسألة السادسة: قوله: * (قدم صدق) * فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال المفسرين. أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في " البسيط " منها وجوها. قال الليث وأبو الهيثم: القدم السابقة، والمعنى: أنهم قد سبق لهم عند الله خير. قال ذو الرمة: وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة * لهم قدم معروفة ومفاخر
وقال أحمد بن يحيى: القدم كل ما قدمت من خير، وقال ابن الأنباري: القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه، ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء.
واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني، أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم، فسمى المسبب باسم السبب، كما سميت النعمة يدا، لأنها تعطى باليد.
فإن قيل: فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه: * (قدم صدق) *.
قلنا: الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة، وقال بعضهم: المراد مقام صدق. وأما المفسرون فلهم أقوال فبعضهم حمل * (قدم صدق) * على الأعمال الصالحة؛ وبعضهم حمله على الثواب، ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام، واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد: صل لذي العرش واتخذ قدما * بنجيك يوم العثار والزلل
المسألة السابعة: أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند الله تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين * (إن هذا لساحر مبين) * أي إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر. والابتداء بقوله: * (قال الكافرون) * على تقدير فلما أنذرهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين، قال القفال: وإضمار هذا، غير قليل في القرآن.
المسألة الثامنة: قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي * (إن هذا لساحر) * والمراد منه محمد صلى الله عليه وسلم، والباقون * (لسحر) * والمراد به القرآن.
واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل على عظم محل القرآن عندهم، وكونه معجزا.
7

وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة، فاحتاجوا إلى هذا الكلام.
واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحرا، يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح، فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه. فقال بعضهم: أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر، ولكنه باطل في الحقيقة، ولا حاصل له، وقال آخرون: أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله، جار مجرى السحر.
واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه، وإنما قلنا إنه في غاية الفساد، لأنه صلى الله عليه وسلم كان منهم، ونشأ بينهم وما غاب عنهم، وما خالط أحدا سواهم، وما كان مكة بلدة العلماء والأذكياء، حتى يقال: إنه تعلم السحر أو تعلم العلوم الكثيرة منهم فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن. وإذا كان الأمر كذلك، كان حمل القرآن على السحر كلاما في غاية الفساد، فلهذا السبب ترك جوابه.
قوله تعالى
* (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والارض فى ستة أيام ثم ستوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذالكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة، ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد البتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب، وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب، كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين: أحدهما: إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا نافذا لحكم بالأمر والنهي والتكليف. والثاني: إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما، فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.
أما الأول: وهو إثبات الإلهية، فبقوله تعالى: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) *.
وأما الثاني: وهو إثبات المعاد والحشر والنشر. فبقوله: * (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا) * (يونس: 4) فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن، ونهاية الكمال. وفي الآية مسائل:
8

المسألة الأولى: قد ذكرنا في هذا الكتاب، وفي الكتب العقلية أن الدليل الدال على وجود الصانع تعالى، إما الامكان وإما الحدوث وكلاهما إما في الذوات وإما في الصفات، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجود الصانع أربعة، وهي إمكان الذوات، وإمكان الصفات، وحدوث الذوات، وحدوث الصفات. وهذه الأربعة معتبرة تارة في العالم العلوي وهو عالم السماوات والكواكب، وتارة في العالم السفلي، والأغلب من الدلائل المذكورة في الكتب الإلهية التمسك بإمكان الصفات وحدوثها تارة في أحوال العالم العلوي، وتارة في أحوال العالم السفلي، والمذكور في هذا الموضع هو التمسك بإمكان الأجرام العلوية في مقاديرها وصفاتها، وتقريره من وجوه: الأول: أن أجرام الأفلاك لا شك أنها مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى، ومتى كان الأمر كذلك كانت لا محالة محتاجة إلى الخالق والمقدر.
أما بيان المقام الأول: فهو أن أجرام الأفلاك لا شك أنها قابلة للقسمة الوهمية، وقد دللنا في الكتب العقلية على أن كل ما كان قابلا للقسمة الوهمية، فإنه يكون مركبا من الأجزاء والأبعاض. ودللنا على أن الذي تقوله الفلاسفة من أن الجسم قابل للقسمة، ولكنه يكون في نفسه شيئا واحدا كلام فاسد باطل. فثبت بما ذكرنا أن أجرام الأفلاك مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى، وإذا ثبت هذا وجب افتقارها إلى خالق ومقدر، وذلك لأنها لما تركبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم، وبعضها حصلت على سطحها، وتلك الأجزاء متساوية في الطبع والماهية والحقيقة، والفلاسفة أقروا لنا بصحة هذه المقدمة حيث قالوا إنها بسائط، ويمتنع كونها مركبة من أجزاء مختلفة الطبائع.
وإذا ثبت هذا فنقول: حصول بعضها في الداخل، وحصول بعضها في الخارج، أمر ممكن الحصول جائز الثبوت، يجوز أن ينقلب الظاهر باطنا، والباطن ظاهرا. وإذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبر وقاهر، يخصص بعضها بالداخل وبعضها بالخارج فدل هذا على أن الأفلاك مفتقرة في تركيبها وأشكالها وصفاتها إلى مدبر قدير عليم حكيم.
الوجه الثاني: في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر أن نقول: حركات هذه الأفلاك لها بداية، ومتى كان الأمر كذلك افتقرت هذه الأفلاك في حركاتها إلى محرك ومدبر قاهر.
أما المقام الأول: فالدليل على صحته أن الحركة عبارة عن التغير من حال إلى حال، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها، والأزل ينافي المسبوقية بالغير، فكان الجمع بين الحركة
9

وبين الأزل محالا، فثبت أن لحركات الأفلاك أولا، وإذا ثبت هذا وجب أن يقال: هذه الأجرام الفلكية كانت معدومة في الأزل وإن كانت موجودة، لكنها كانت واقفة وساكنة. وما كانت متحركة، وعلى التقديرين: فلحركاتها أول وبداية.
" وأما المقام الثاني ": وهو أنه لما كان الأمر كذلك وجب افتقارها إلى مدبر قاهر، فالدليل عليه أن ابتداء هذه الأجرام بالحركة في ذلك الوقت المعين دون ما قبله ودون ما بعده، لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص، وترجيح مرجح. وذلك المرجح يمتنع أن يكون موجبا بالذات، وإلا لحصلت تلك الحركة قبل ذلك الوقت لأجل أن موجب تلك الحركة كان حاصلا قبل ذلك الوقت، ولما بطل هذا، ثبت أن ذلك المرجح قادر مختار وهو المطلوب.
الوجه الثالث: في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله المختار، وهو أن أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر، وأجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأول. فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن، ولا بد له من مرجح، ويعود التقرير الأول فيه. فهذا تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أن كلمة * (الذي) * كلمة وضعت للإشارة إلى شيء مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة، كما إذا قيل لك من زيد؟ فتقول: الذي أبوه منطلق، فهذا التعريف إنما يحسن لو كان كون أبيه منطلقا، أمرا معلوما عند السامع، فهنا لما قال: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) * فهذا إنما يحسن لو كان كونه سبحانه وتعالى خالقا للسموات والأرض في ستة أيام، أمرا معلوما عند السامع، والعرب ما كانوا عالمين بذلك، فكيف يحسن هذا التعريف؟
وجوابه أن يقال: هذا الكلام مشهور عند اليهود والنصارى، لأنه مذكور في أول ما يزعمون أنه هو التوراة. ولما كان ذلك مشهورا عندهم والعرب كانوا يخالطونهم، فالظاهر أنهم أيضا سمعوه منهم، فلهذا السبب حسن هذا التعريف.
السؤال الثاني: ما الفائدة في بيان الأيام التي خلقها الله فيها؟
والجواب: أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر. والدليل عليه أن العالم مركب من الأجزاء التي لا تتجزى، والجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إيجاده إلا دفعه، لأنا لو فرضنا أن إيجاده إنما يحصل في زمان، فذلك الزمان منقسم لا محالة من آنات متعاقبة، فهل حصل شيء من ذلك الإيجاد في الآن الأول أو لم يحصل، فإن لم يحصل منه شيء في الآن الأول فهو خارج عن مدة الإيجاد، وإن حصل في ذلك الآن إيجاد شيء وحصل في الآن الثاني إيجاد شيء آخر، فهما
10

إن كانا جزأين من ذلك الجزء الذي لا يتجزى، فحينئذ يكون الجزء الذي لا يتجزى متجزئا. وهو محال. وإن كان شيئا آخر، فحينئذ يكون إيجاد الجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إلا في آن واحد دفعة واحدة، وكذا القول في إيجاد جميع الأجزاء. فثبت أنه تعالى قادر على إيجاد جميع العالم دفعة واحدة، ولا شك أيضا أنه تعالى قادر على إيجاده وتكوينه على التدريج.
وإذا ثبت هذا فنقول ههنا مذهبان: الأول: قول أصحابنا وهو أنه يحسن منه كلما أراد، ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح، وعلى هذا القول يسقط قول من يقول: لم خلق العالم في ستة أيام وما خلقه في لحظة واحدة؟ لأنا نقول كل شيء صنعه ولا علة لصنعه فلا يعلل شيء من أحكامه ولا شيء من أفعاله بعلة، فسقط هذا السؤال. الثاني: قول المعتزلة وهو أنهم يقولون يجب أن تكون أفعاله تعالى مشتملة على المصلحة والحكمة. فعند هذا قال القاضي: لا يبعد أن يكون خلق الله تعالى السماوات والأرض في هذه المدة المخصوصة، أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين. ثم قال القاضي:
فإن قيل: فمن المعتبر وما وجه الاعتبار؟ ثم أجاب وقال: أما المعتبر فهو أنه لا بد من مكلف أو غير مكلف من الحيوان خلقه الله تعالى قبل خلقه للسموات والأرضين، أو معهما، وإلا لكان خلقهما عبثا.
فإن قيل: فهلا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد؟!
قلنا: إنه تعالى لا يخاف الفوت، فلا يجوز أن يقدم خلق ما لا ينتفع به أحد، لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك، وإنما يصح منا ذلك في مقدمات الأمور لأنا نخشى الفوت، ونخاف العجز والقصور. قال: وإذا ثبت هذا فقد صح ما روي في الخبر أن خلق الملائكة كان سابقا على خلق السماوات والأرض.
فإن قيل: أولئك الملائكة لا بد لهم من مكان، فقبل خلق السماوات والأرض لا مكان، فكيف يمكن وجودهم بلا مكان؟
قلنا: الذي يقدر على تسكين العرش والسماوات والأرض في أمكنتها كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته؟ وأما وجه الاعتبار في ذلك فهو أنه لما حصل هناك معتبر، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما يشاهده حالا بعد حال أقوى. والدليل عليه: أن ما يحدث على هذا الوجه، فإنه يدل على أنه صادر من فاعل حكيم. وأما المخلوق دفعة واحدة فإنه لا يدل على ذلك.
11

والسؤال الثالث: فهل هذه الأيام كأيام الدنيا أو كما روي عن ابن عباس أنه قال: إنها ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مما تعدون؟
والجواب: قال القاضي: الظاهر في ذلك أنه تعريف لعباده مدة خلقه لهما، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفا، إلا والمدة هذه الأيام المعلومة.
ولقائل أن يقول: لما وقع التعريف بالأيام المذكورة في التوراة والإنجيل، وكان المذكور هناك أيام الآخرة لا أيام الدنيا، لم يكن ذلك قادحا في صحة التعريف.
السؤال الرابع: هذه الأيام إنما تتقدر بحسب طلوع الشمس وغروبها، وهذا المعنى مفقود قبل خلقها، فكيف يعقل هذا التعريف؟
والجواب التعريف يحصل بما أنه لو وقع حدوث السماوات والأرض في مدة، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر، لكانت تلك المدة مساوية لستة أيام:
ولقائل أن يقول: فهذا يقتضي حصول مدة قبل خلق العالم، يحصل فيها حدوث العالم، وذلك يوجب قدم المدة.
وجوابه: أن تلك المدة غير موجودة بل هي مفروضة موهومة، والدليل عليه أن تلك المدة المعينة حادثة، وحدوثها لا يحتاج إلى مدة أخرى، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال، فكل ما يقولون في حدوث المدة فنحن نقوله في حدوث العالم.
السؤال الخامس: أن اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته، وقد يراد به النهار وحده. فالمراد بهذه الآية أيهما.
والجواب: الغالب في اللغة أنه يراد باليوم. اليوم بليلته.
المسألة الثانية: أما قوله: * (ثم استوى على العرش) * ففيه مباحث: الأول: أن هذا يوهم كونه تعالى مستقرا على العرش والكلام المستقصى فيه مذكور في أول سورة طه، ولكنا نكتفي ههنا بعبارة وجيزة. فنقول: هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها، ويدل عليه وجوه: الأول: أن الاستواء على العرش معناه كونه معتمدا عليه مستقرا عليه، بحيث لولا العرش لسقط ونزل، كما أنا إذا قلنا إن فلانا مستو على سريره. فإنه يفهم منه هذا هذا المعنى. إلا أن إثبات هذا المعنى يقتضي كونه محتاجا إلى العرش، وإنه لولا العرش لسقط ونزل، وذلك محال، لأن المسلمين أطبقوا على أن الله تعالى هو الممسك للعرش والحافظ له، ولا يقول أحد أن العرش هو الممسك لله تعالى والحافظ له. والثاني: أن قوله: * (ثم استوى على العرش) * يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستويا عليه،
12

وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال، وكل من كان متغيرا كان محدثا، وذلك بالاتفاق باطل. الثالث: أنه لما حدث الاستواء في هذا الوقت، فهذا يقتضي أنه تعالى كان قبل هذا الوقت مضطربا متحركا، وكل ذلك من صفات المحدثات. الرابع: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والأرض لأن كلمة * (ثم) * تقتضي التراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنيا عن العرش، فإذا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من الاستغناء إلى الحاجة. فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيا عن العرش، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرا على العرش. فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق، وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى.
المسألة الثالثة: اتفق المسلمون على أن فوق السماوات جسما عظيما هو العرش.
إذا ثبت هذا فنقول: العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره؟ فيه قولان:
القول الأول: وهو الذي اختاره أبو مسلم الأصفهاني، أنه ليس المراد منه ذلك، بل المراد من قوله: * (ثم استوى على العرش) * أنه لما خلق السماوات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإن كل بناء فإنه يسمى عرشا، وبانيه يسمى عارشا، قال تعالى: * (ومن الشجر ومما يعرشون) * (النحل: 68) أي يبنون، وقال في صفة القرية * (فهي خاوية على عروشها) * (الحج: 45) والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها، وقال: * (وكان عرشه على الماء) * (هود: 7) أي بناؤه، وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة، فالباني يبني البناء متباعدا عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم، والله تعالى بنى السماوات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته، والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر، والدليل عليه قوله تعالى: * (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه) * (الزخرف: 12، 13) قال أبو مسلم: فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه. فنقول: وجب حمل اللفظ عليه، ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء، والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى، يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك، وأما أجرام السماوات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزا صوابا حسنا. ثم قال: ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى: * (خلق السماوات والأرض في ستة أيام) * إشارة إلى تخليق ذواتها، وقوله: * (ثم استوى على العرش) * يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها، وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله
13

سبحانه وتعالى: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها) * (النازعات: 27، 28) فذكر أولا أنه بناها، ثم ذكر ثانيا أنه رفع سمكها فسواها.
وكذلك ههنا. ذكر بقوله: * (خلق السماوات والأرض) * أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله: * (ثم استوى على العرش) * أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها.
والقول الثاني: وهو القول المشهور لجمهور المفسرين: أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية: الجسم العظيم الذي في السماء، وهؤلاء قالوا إن قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) * لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السماوات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى * (وكان عرشه على الماء) * (هود: 7) وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السماوات والأرضين. بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر. وهو أن يكون المراد: ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش.
والقول الثالث: أن المراد من العرش الملك، يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله: * (ثم استوى على العرش) * المراد أنه تعالى لما خلق السماوات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب، وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات، ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه المخلوقات والكائنات. والحاصل أن العرش عبارة عن الملك، وملك الله تعالى عبارة عن وجود مخلوقاته، ووجود مخلوقاته إنما حصل بعد تخليق السماوات والأرض، لا جرم صح إدخال حرف * (ثم) * الذي يفيد التراخي على الاستواء على العرش والله أعلم بمراده.
المسألة الرابعة: أما قوله: * (يدبر الأمر) * معناه أنه يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله، الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، كي لا يدخل في الوجود ما لا ينبغي. والمراد من * (الأمر) * الشأن يعني يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السماوات والأرض.
فإن قيل: ما موقع هذه الجملة؟
قلنا: قد دل بكونه خالقا للسموات والأرض في ستة أيام وبكونه مستويا على العرش، على نهاية العظمة وغاية الجلالة. ثم أتبعها بهذه الجملة ليدل على أنه لا يحدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي أمر من الأمور ولا حادث من الحوادث، إلا بتقديره وتدبيره وقضائه وحكمه، فيصير ذلك دليلا على نهاية القدرة والحكمة والعلم والإحاطة التدبير، وأنه سبحانه مبدع جميع الممكنات، وإليه تنتهي الحاجات.
14

وأما قوله تعالى: * (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) * ففيه قولان:
القول الأول: وهو المشهور أن المراد منه أن تدبيره للأشياء وصنعه لها، لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر. ولا يستجرئ أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه، لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب، فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح.
فإن قيل: كيف يليق ذكر الشفيع بصفة مبدئية الخلق، وإنما يليق ذكره بأحوال القيامة؟
والجواب من وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره الزجاج: وهو أن الكفار الذين كانوا مخاطبين بهذه الآية كانوا يقولون: إن الأصنام شفعاؤنا عند الله، فالمراد منه الرد عليهم في هذا القول وهو كقوله تعالى: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن) * (النبأ: 38).
والوجه الثاني: وهو يمكن أن يقال إنه تعالى لما بين كونه إلها للعالم مستقلا بالتصرف فيه من غير شريك ولا منازع، بين أمر المبدأ بقوله: * (يدبر الأمر) * وبين حال المعاد بقوله: * (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) *.
والوجه الثالث: يمكن أيضا أن يقال إنه تعالى وضع تدبير الأمور في أول خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من رعاية المصالح، مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في طلب تحصيل المصالح، فدل هذا على أن إله العالم ناظر لعباده محسن إليهم مريد للخير والرأفة بهم، ولا حاجة في كونه سبحانه كذلك إلى حضور شفيع يشفع فيه.
والقول الثاني: في تفسير هذا الشفيع ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، فقال: الشفيع ههنا هو الثاني، وهو مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر، كما يقال الزوج والفرد، فمعنى الآية خلق السماوات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه، ثم خلق الملائكة والجن والبشر، وهو المراد من قوله: * (إلا من بعد إذنه) * أي لم يحدث أحد ولم يدخل في الوجود، إلا من بعد أن قال له: كن، حتى كان وحصل.
واعلم أنه تعالى لما بين هذه الدلائل وشرح هذه الأحوال، ختمها بعد ذلك بقوله: * (ذلكم الله ربكم فاعبدوه) * مبينا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا له، ومنبها على أنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم التي ذكرها ووصفها.
ثم قال بعده: * (أفلا تذكرون) * دالا بذلك على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة، وذلك يدل على أن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على جلالته وعزته وعظمته، أعلى
15

المراتب وأكمل الدرجات.
قوله تعالى
* (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الدلائل الدالة على إثبات المبدأ، أردفه بما يدل على صحة القول بالمعاد. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في بيان أن إنكار الحشر والنشر ليس من العلوم البديهية، ويدل عليه وجوه: الأول: أن العقلاء اختلفوا في وقوعه وعدم وقوعه. وقال بإمكانه عالم من الناس، وهم جمهور أرباب الملل والأديان. وما كان معلوم الامتناع بالبديهة امتنع وقوع الاختلاف فيه. الثاني: أنا إذا رجعنا إلى عقولنا السليمة، وعرضنا عليها أن الواحد ضعف الاثنين، وعرضنا عليها أيضا هذه القضية، لم نجد هذه القضية في قوة الامتناع مثل القضية الأولى. الثالث: أنا إما أن نقول بثبوت النفس الناطقة أولا نقول به. فإن قلنا به فقد زال الإشكال بالكلية، فإنه كما لا يمتنع تعلق هذه النفس بالبدن في المرة الأولى، لم يمتنع تعلقها بالبدن مرة أخرى. وإن أنكرنا القول بالنفس فالاحتمال أيضا قائم، لأنه لا يبعد أن يقال إنه سبحانه يركب تلك الأجزاء المفرقة تركيبا ثانيا، ويخلق الإنسان الأول مرة أخرى. والرابع: أنه سبحانه ذكر أمثلة كثيرة دالة على إمكان الحشر والنشر ونحن نجمعها ههنا.
فالمثال الأول: أنا نرى الأرض خاشعة وقت الخريف، ونرى اليبس مستوليا عليها بسبب شدة الحر في الصيف. ثم إنه تعالى ينزل المطر عليها وقت الشتاء والربيع، فتصير بعد ذلك متحلية بالأزهار العجيبة والأنوار الغريبة كما قال تعالى: * (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور) * (فاطر: 9) وثانيها: قوله تعالى: * (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) * (فصلت: 39) إلى قوله: * (ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى) * (الحج: 6) وثالثها: قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به
16

زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب) * (الزمر: 21) والمراد كونه منبها على أمر المعاد. ورابعها: قوله: * (ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره * كلا لما يقض ما أمره * فلينظر الإنسان إلى طعامه) * (عبس: 21 - 24) وقال عليه السلام: " إذا رأيتم الربيع فأكثروا ذكر النشور " ولم تحصل المشابهة بين الربيع وبين النشور إلا من الوجه الذي ذكرناه.
المثال الثاني: ما يجده كل واحد منا من نفسه من الزيادة والنمو بسبب السمن، ومن النقصان والذبول بسبب الهزال، ثم إنه قد يعود إلى حالته الأولى بالسمن.
وإذا ثبت هذا فنقول: ما جاز تكون بعضه لم يمتنع أيضا تكون كله، ولما ثبت ذلك ظهر أن الإعادة غير ممتنعة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (وننشئكم فيما لا تعلمون) * (الواقعة: 61) يعني أنه سبحانه لما كان قادرا على إنشاء ذواتكم أولا ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانيا شيئا فشيئا من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نقصانه. فوجب القطع أيضا بأنه لا يمتنع عليه سبحانه إعادتكم بعد البلى في القبور لحشر يوم القيامة.
المثال الثالث: أنه تعالى لما كان قادرا على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سبق، فلأن يكون قادرا على إيجادنا مرة أخرى مع سبق الإيجاد الأول كان أولى، وهذا الكلام قرره تعالى في آيات كثيرة، منها في هذه الآية وهو قوله: * (أنه يبدأ الخلق ثم يعيده) * وثانيها: قوله تعالى في سورة يس: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * (يس: 79) وثالثها: قوله تعالى: * (ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون) * (الواقعة: 62) ورابعها: قوله تعالى: * (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد) * (ق: 15) وخامسها: قوله تعالى: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من مني يمنى) * (القيامة: 36، 33) إلى قوله: * (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) * (القيامة: 40) وسادسها: قوله تعالى: * (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) * (الحج: 5) إلى قوله: * (ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) * (الحج: 6، 7) فاستشهد تعالى في هذه الآية على صحة الحشر بأمور: الأول: أنه استدل بالخلق الأول على إمكان الخلق الثاني وهو قوله: * (إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) * كأنه تعالى يقول: لما حصل الخلق الأول بانتقال هذه الأجسام من أحوال إلى أحوال أخرى فلم لا يجوز أن يحصل الخلق الثاني بعد تغيرات كثيرة، واختلافات متعاقبة؟ والثاني: أنه تعالى شبهها بإحياء الأرض الميتة. والثالث: أنه تعالى هو الحق وإنما يكون كذلك لو كان كامل القدرة تام العلم والحكمة. فهذه هي الوجوه المستنبطة من هذه الآية على إمكان صحة الحشر والنشر.
والآية السابعة: في هذا الباب قوله تعالى: * (قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة) * (الإسراء: 50، 51).
17

المثال الرابع: أنه تعالى لما قدر على تخليق ما هو أعظم من أبدان الناس فكيف يقال: إنه لا يقدر على إعادتها؟ فإن من كان الفعل الأصعب عليه سهلا، فلأن يكون الفعل السهل الحقير عليه سهلا كان. أولى وهذا المعنى مذكور في آيات كثيرة: منها: قوله تعالى: * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) * (يس: 81) وثانيها: قوله تعالى: * (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى) * (الأحقاف: 33) وثالثها: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها) * (النازعات: 27).
المثال الخامس: الاستدلال بحصول اليقظة بعد النوم على جواز الحشر والنشر، فإن النوم أخو الموت، واليقظة بعد الموت. قال تعالى: * (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) * (الأنعام: 60) ثم ذكر عقيبه أمر الموت والبعث، فقال: * (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) * (الأنعام: 61، 62) وقال في آية أخرى * (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) * (الزمر: 42) إلى قوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) * (الرعد: 3) والمراد منه الاستدلال بحصول هذه الأحوال على صحة البعث والحشر والنشر.
المثال السادس: أن الإحياء بعد الموت لا يستنكر إلا من حيث إنه يحصل الضد بعد حصول الضد، إلا أن ذلك غير مستنكر في قدرة الله تعالى، لأنه لما جاز حصول الموت عقيب الحياة فكيف يستبعد حصول الحياة مرة أخرى بعد الموت؟ فإن حكم الضدين واحد. قال تعالى مقررا لهذا المعنى: * (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن
بمسبوقين) * (الواقعة: 60) وأيضا نجد النار مع حرها ويبسها تتولد من الشجر الأخضر مع برده ورطوبته فقال: * (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون) * (يس: 80) فكذا ههنا، فهذا جملة الكلام في بيان أن القول بالمعاد، وحصول الحشر والنشر غير مستبعد في العقول.
المسألة الثانية: في إقامة الدلالة على أن المعاد حق واجب.
اعلم أن الأمة فريقان منهم من يقول: يجب عقلا أن يكون إله العالم رحيما عادلا منزها عن الإيلام والإضرار، إلا لمنافع أجل وأعظم منها، ومنهم من ينكر هذه القاعدة ويقول: لا يجب على الله تعالى شيء أصلا، بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. أما الفريق الأول: فقد احتجوا على وجود المعاد من وجوه.
الحجة الأولى: أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولا بها يميزون بين الحسن والقبيح، وأعطاهم قدرا بها يقدرون على الخير والشر. وإذا ثبت هذا فمن الواجب في حكمة الله تعالى وعدله
18

أن يمنع الخلق عن شتم الله وذكره بالسوء، وأن يمنعهم عن الجهل والكذب وإيذاء أنبيائه وأوليائه، والصالحين من خلقه. ومن الواجب في حكمته أن يرغبهم في الطاعات والخيرات والحسنات، فإنه لو لم يمنع عن تلك القبائح، ولم يرغب في هذه الخيرات، قدح ذلك في كونه محسنا عادلا ناظرا لعباده. ومن المعلوم أن الترغيب في الطاعات لا يمكن إلا بربط الثواب بفعلها، والزجر عن القبائح لا يمكن إلا بربط العقاب بفعلها، وذلك الثواب المرغب فيه، والعقاب المهدد به غير حاصل في دار الدنيا. فلا بد من دار أخرى يحصل فيها هذا الثواب، وهذا العقاب، وهو المطلوب، وإلا لزم كونه كاذبا، وأنه باطل. وهذا هو المراد من الآية التي نحن فيها وهي قوله تعالى: * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) *.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه يكفي في الترغيب في فعل الخيرات، وفي الردع عن المنكرات ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات ولا حاجة مع ذلك إلى الوعد والوعيد؟ سلمنا أنه لا بد من الوعد والوعيد، فلم لا يجوز أن يقال: الغرض منه مجرد الترغيب والترهيب ليحصل به نظام العالم كما قال تعالى: * (ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون) * (الزمر: 16) فإما أن يفعل تعالى ذلك فما الدليل عليه؟ قوله لو لم يفعل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد لصار كلامه كذبا فنقول: ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن لقيام الدلالة على وجوب ذلك التخصيص فإن كان هذا كذبا وجب فيما تحكمون به من تلك التخصيصات أن يكون كذبا؟ سلمنا أنه لا بد وأن يفعل الله تعالى ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال: إن ذلك الثواب والعقاب عبارة عما يصل إلى الإنسان من أنواع الراحات واللذات ومن أنواع الآلام والأسقام، وأقسام الهموم والغموم؟
والجواب عن السؤال الأول: أن العقل وإن كان يدعوه إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوانه إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية، وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح قوي ومعاضد كامل، وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد والثواب والعقاب على الفعل والترك.
والجواب عن السؤال الثاني: أنه إذا جوز الإنسان حصول الكذب على الله تعالى فحينئذ لا يحصل من الوعد رغبة، ولا من الوعيد رهبة، لأن السامع يجوز كونه كذبا. والجواب عن السؤال الثالث: أن العبد ما دامت حياته في الدنيا فهو كالأجير المشتغل بالعمل. والأجير حال اشتغاله بالعمل لا يجوز دفع الأجرة بكمالها إليه، لأنه إذا أخذها فإنه لا يجتهد في العمل. وأما إذا كان محل أخذ الأجرة هو الدار الآخرة كان الاجتهاد في العمل أشد وأكمل، وأيضا نرى
19

في هذه الدنيا أن أزهد الناس وأعلمهم مبتلي بأنواع الغموم والهموم والأحزان، وأجهلهم وأفسقهم في اللذات والمسرات، فعلمنا أن دار الجزاء يمتنع أن تكون هذه الدار فلا بد من دار أخرى، ومن حياة أخرى، ليحصل فيها الجزاء.
الحجة الثانية: أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن وبين المسئ، وأن لا يجعل من كفر به، أو جحده بمنزلة من أطاعه، ولما وجب إظهار هذه التفرقة فحصول هذه التفرقة إما أن يكون في دار الدنيا، أو في دار الآخرة، والأول باطل. لأنا نرى الكفار والفساق في الدنيا في أعظم الراحات، ونرى العلماء والزهاد بالضد منه، ولهذا المعنى قال تعالى: * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) * (الزخرف: 33) فثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى، وهو المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله: * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) * وهو المراد أيضا بقوله تعالى في سورة طه: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى) * (طه: 15) وبقوله تعالى في سورة ص: * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) * (ص: 28).
فإن قيل: أما أنكرتم أن يقال إنه تعالى لا يفصل بين المحسن وبين المسئ في الثواب والعقاب كما لم فصل بينهما في حسن الصورة وفي كثرة المال؟
والجواب: أن هذا الذي ذكرته مما يقوي دليلنا، فإنه ثبت في صريح العقل وجوب التفرقة، ودل الحس على أنه لم تحصل هذه التفرقة في الدنيا، بل كان الأمر على الضد منه، فإنا نرى العالم والزاهد في أشد البلاء، ونرى الكافر والفاسق في أعظم النعم. فعلمنا أنه لا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا التفاوت، وأيضا لا يبعد أن يقال إنه تعالى علم أن هذا الزاهد العابد لو أعطاه ما دفع إلى الكافر الفاسق لطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، وأن ذلك الكافر الفاسق لو زاد عليه في التضييق لزاد في الشر وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) * (الشورى: 27).
الحجة الثالثة: أنه تعالى كلف عبيده بالعبودية فقال: * (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلا بد وأن يجعله فارغ الباب منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تلك التكاليف، والناس جبلوا على طلب اللذات وتحصيل الراحات لأنفسهم، فلو لم يكن لهم زاجر من خوف المعاد لكثر الهرج والمرج ولعظمت الفتن، وحينئذ لا يتفرغ المكلف للاشتغال بأداء العبادات. فوجب القطع بحصول دار الثواب والعقاب لتنتظم أحوال العالم حتى يقدر المكلف
على الاشتغال بأداء العبودية.
20

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال إنه يكفي في بقاء نظام العالم مهابة الملوك وسياساتهم؟ وأيضا فالأوباش يعلمون أنهم لو حكموا بحسن الهرج والمرج. لانقلب الأمر عليهم ولقدر غيرهم على قتلهم، وأخذ أموالهم، فلهذا المعنى يحترزون عن إثارة الفتن.
والجواب: أن مجرد مهابة السلاطين لا تكفي في ذلك، وذلك لأن السلطان إما أن يكون قد بلغ في القدرة والقوة إلى حيث لا يخاف من الرعية، وإما أن يكون خائفا منهم، فإن كان لا يخاف الرعية مع أنه لا خوف له من المعاد، فحينئذ يقدم على الظلم والإيذاء على أقبح الوجوه، لأن الداعية النفسانية قائمة، ولا رادع له في الدنيا ولا في الآخرة، وأما إن كان يخاف الرعية فحينئذ الرعية لا يخافون منه خوفا شديدا، فلا يصير ذلك رادعا لهم عن القبائح والظلم. فثبت أن نظام العالم لا يتم ولا يكمل إلا بالرغبة في المعاد والرهبة عنه.
الحجة الرابعة: أن السلطان القاهر إذا كان له جمع من العبيد، وكان بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء، وجب على ذلك السلطان إن كان رحيما ناظرا مشفقا عليهم أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القادر القوي، فإن لم يفعل ذلك كان راضيا بذلك الظلم، والرضا بالظلم لا يليق بالرحيم الناظر المحسن.
إذا ثبت هذا فنقول: إنه سبحانه سلطان قاهر قادر حكيم منزه عن الظلم والعبث. فوجب أن ينتصف لعبيده المظلومين من عبيده الظالمين، وهذا الانتصاف لم يحصل في هذه الدار، لأن المظلوم قد يبقى في غاية الذلة والمهانة، والظالم يبقى في غاية العزة والقدرة، فلا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا العدل وهذا الإنصاف، وهذه الحجة يصلح جعلها تفسيرا لهذه الآية التي نحن في تفسيرها.
فإن قالوا: إنه تعالى لما أقدر الظالم على الظلم في هذه الدار، وما أعجزه عنه، دل على كونه راضيا بذلك الظلم.
قلنا: الإقدار على الظلم عين الإقدار على العدل والطاعة، فلو لم يقدره تعالى على الظلم لكان قد أعجزه عن فعل الخيرات والطاعات، وذلك لا يليق بالحكيم، فوجب في العقل إقداره على الظلم والعدل، ثم إنه تعالى ينتقم للمظلوم من الظالم.
الحجة الخامسة: أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق كل من فيه من الناس فإما أن يقال: إنه تعالى خلقهم لا لمنفعة ولا لمصلحة، أو يقال: إنه تعالى خلقهم لمصلحة ومنفعة. والأول: يليق بالرحيم الكريم. والثاني: وهو أن يقال: إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير، فذلك الخير والمصلحة إما أن يحصل في هذه الدنيا أو في دار أخرى، والأول باطل من وجهين: الأول: أن لذات هذا
21

العالم جسمانية، واللذات الجسمانية لا حقيقية لها إلا إزالة الألم، وإزالة الألم أمر عدمي، وهذا العدم كان حاصلا حال كون كل واحد من الخلائق معدوما، وحينئذ لا يبقى للتخليق فائدة. والثاني: أن لذات هذا العالم ممزوجة بالآلام والمحن، بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات والمحن والبليات، واللذة فيها كالقطرة في البحر. فعلمنا أن الدار التي يصل فيها الخلق إلى تلك الراحات المقصودة دار أخرى سوى دار الدنيا.
فإن قالوا: أليس أنه تعالى يؤلم أهل النار بأشد العذاب لا لأجل مصلحة وحكمة؟ فلم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يخلق الخلق في هذا العالم لا لمصلحة ولا لحكمة.
قلنا: الفرق أن ذلك الضرر ضرر مستحق على أعمالهم الخبيثة. وأما الضرر الحاصل في الدنيا فغير مستحق، فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة ومنافع جابرة لتلك المضار السالفة، وإلا لزم أن يكون الفاعل شريرا مؤذيا، وذلك ينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
الحجة السادسة: لو لم يحصل للإنسان معاد لكان الإنسان أخس من جميع الحيوانات في المنزلة والشرف. واللازم باطل، فالملزوم مثله. بيان الملازمة أن مضار الإنسان في الدنيا أكثر من مضار جميع الحيوانات، فإن سائر الحيوانات قبل وقوعها في الآلام والأسقام تكون فارغة البال طيبة النفس، لأنه ليس لها فكر وتأمل. أما الإنسان فإنه بسبب ما يحصل له من العقل يتفكر أبدا في الأحوال الماضية والأحوال المستقبلة، فيحصل له بسبب أكثر الأحوال الماضية أنواع من الحزن والأسف، ويحصل له بسبب أكثر الأحوال الآتية أنواع من الخوف، لأنه لا يدري أنه كيف تحدث الأحوال. فثبت أن حصول العقل للإنسان سبب لحصول المضار العظيمة في الدنيا والآلام النفسانية الشديدة القوية. وأما اللذات الجسمانية فهي مشتركة بين الناس وبين سائر الحيوانات، لأن السرقين في مذاق الجعل طيب، كما أن اللوزينج في مذاق الإنسان طيب.
إذا ثبت هذا فنقول: لو لم يحصل للإنسان معاد به تكمل حالته وتظهر سعادته، لوجب أن يكون كمال العقل، سببا لمزيد الهموم والغموم والأحزان من غير جابر يجبر، ومعلوم أن كل ما كان كذلك فإنه يكون سببا لمزيد الخسة والدناءة والشقاء والتعب الخالية عن المنفعة. فثبت أنه لولا حصول السعادة الأخروية لكان الإنسان أخس الحيوانات حتى الخنافس والديدان، ولما كان ذلك باطلا قطعا، علمنا أنه لا بد من الدار الآخرة، وأن الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا، وأنه بعقله يكتسب موجبات السعادات الأخروية. فلهذا السبب كان العقل شريفا.
الحجة السابعة: أنه تعالى قادر على إيصال النعم إلى عبيده على وجهين: أحدهما: أن تكون
22

النعم مشوبة بالآفات والأحزان. والثاني: أن تكون خالصة عنها، فلما أنعم الله تعالى في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علينا بالمرتبة الثانية في دار أخرى، إظهارا لكمال القدرة والرحمة والحكمة، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن المذنبين، ويزيل الغموم والهموم والشهوات والشبهات. والذي يقوي ذلك، ويقرر هذا الكلام أن الإنسان حين كان جنينا في بطن أمه، كان في أضيق المواضع وأشدها عفونة وفسادا، ثم إذا خرج من بطن أمه كانت الحالة الثانية أطيب وأشرف من الحالة الأولى، ثم إنه عند ذلك يوضع في المهد ويشد شدا وثيقا، ثم بعد حين يخرج من المهد ويعدو يمينا وشمالا، وينتقل من تناول اللبن إلى تناول الأطعمة الطيبة، وهذه الحالة الثالثة لا
شك أنها أطيب من الحالة الثانية، ثم إنه بعد حين يصير أميرا نافذ الحكم على الخلق، أو عالما مشرفا على حقائق الأشياء، ولا شك أن هذه الحالة الرابعة أطيب وأشرف من الحالة الثالثة. وإذا ثبت هذا وجب بحكم هذا الاستقراء أن يقال: الحالة الحاصلة بعد الموت تكون أشرف وأعلى وأبهج من اللذات الجسدانية والخيرات الجسمانية.
الحجة الثامنة: طريقة الاحتياط، فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له، فإن كان هذا المذهب حقا، فقد نجونا وهلك المنكر، وإن كان باطلا، لم يضرنا هذا الاعتقاد. غاية ما في الباب أن يقال إنه تفوتنا هذه اللذات الجسمانية إلا أنا نقول يجب على العاقل أن لا يبالي بفوتها لأمرين أحدهما: أنها في غاية الخساسة لأنها مشترك فيها بين الخنافس والديدان والكلاب. والثاني: أنها منقطعة سريعة الزوال. فثبت أن الاحتياط ليس إلا في الإيمان بالمعاد، ولهذا قال الشاعر: قال المنجم والطبيب كلاهما * لا تحشر الأموات قلت إليكما
إن صح لكما فلست بخاسر * أو صح قولي فالخسار عليكما
الحجة التاسعة: اعلم أن الحيوان ما دام يكون حيوانا، فإنه إن قطع منه شيء مثل ظفر أو ظلف أو شعر، فإنه يعود ذلك الشيء، وإن جرح اندمل، ويكون الدم جاريا في عروقه وأعضائه جريان الماء في عروق الشجر وأغصانه، ثم إذا مات انقلبت هذه الأحوال، فإن قطع منه شيء من شعره أو ظفره لم ينبت، وإن جرح لم يندمل ولم يلتحم، ورأيت الدم يتجمد في عروقه، ثم بالآخرة يؤول حاله إلى الفساد والانحلال. ثم إنا لما نظرنا إلى الأرض وجدناها شبيهة بهذه الصفة، فإنا نراها في زمان الربيع تفور عيونها وتربو تلالها وينجذب الماء إلى أغصان الأشجار وعروقها، والماء في الأرض بمنزلة الدم الجاري في بدن الحيوان، ثم تخرج أزهارها وأنوارها وثمارها كما
23

قال تعالى: * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) * (الحج: 5) وإن جذ من نباتها شيء أخلف ونبت مكانه آخر مثله، وإن قطع غصن من أغصان الأشجار أخلف، وإن جرح التأم، وهذه الأحوال شبيهة بالأحوال التي ذكرناها للحيوان. ثم إذا جاء الشتاء واشتد البرد غارت عيونها وجفت رطوبتها وفسدت بقولها، ولو قطعنا غصنا من شجرة ما أخلف، فكانت هذه الأحوال شبيهة بالموت بعد الحياة. ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة، فإذا عقلنا هذه المعاني في إحدى الصورتين، فلم لا نعقل مثله في الصورة الثانية، بل نقول لا شك أن الإنسان أشرف من سائر الحيوانات، والحيوان أشرف من النبات، وهو أشرف من الجمادات. فإذا حصلت هذه الأحوال في الأرض، فلم لا يجوز حصولها في الإنسان.
فإن قالوا: إن أجساد الحيوان تتفرق وتتمزق بالموت، وأما الأرض فليست كذلك.
فالجواب: أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة، وهو جوهر باق، أو إن لم نقل بهذا المذهب فهو عبارة عن أجزاء أصلية باقية من أول وقت تكون الجنين إلى آخر العمر، وهي جارية في البدن، وتلك الأجزاء باقية، فزال هذا السؤال.
الحجة العاشرة: لا شك أن بدن الحيوان إنما تولد من النطفة، وهذه النطفة إنما اجتمعت من جميع البدن، بدليل أن عند انفصال النطفة يحصل الضعف والفتور في جميع البدن، ثم إن مادة تلك النطفة إنما تولدت من الأغذية المأكولة، وتلك الأغذية إنما تولدت من الأجزاء العنصرية وتلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، واتفق لها أن اجتمعت، فتولد منها حيوان أو نبات فأكله إنسان، فتولد منه دم فتوزع ذلك الدم على أعضائه، فتولد منها أجزاء لطيفة. ثم عند استيلاء الشهوة سال من تلك الرطوبات مقدار معين، وهو النطفة، فانصب إلى فم الرحم، فتولد منه هذا الإنسان، فثبت أن الأجزاء التي منها تولد بدن الإنسان كانت متفرقة في البحار والجبال وأوج الهواء، ثم إنها اجتمعت بالطريق المذكور، فتولد منها هذا البدن، فإذا مات تفرقت تلك الأجزاء على مثال التفرق الأول.
وإذا ثبت هذا فنقول وجب القطع أيضا بأنه لا يمتنع أن يجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول، وأيضا، فذلك المني لما وقع في رحم الأم، فقد كان قطرة صغيرة ثم تولد منه بدن الإنسان وتعلقت الروح به حال ما كان ذلك البدن في غاية الصغر، ثم إن ذلك البدن لا شك أنه في غاية الرطوبة، ولا شك أنه يتحلل منه أجزاء كثيرة بسبب عمل الحرارة الغريزية فيها، وأيضا فتلك الأجزاء البدنية الباقية أبدا في طول العمر تكون في التحلل، ولولا ذلك لما حصل الجوع، ولما
24

حصلت الحاجة إلى الغذاء، مع أنا نقطع بأن هذا الإنسان الشيخ، هو عين ذلك الإنسان الذي كان في بطن أمه. ثم انفصل، وكان طفلا ثم شابا، فثبت أن الأجزاء البدنية دائمة التحلل، وأن الإنسان هو هو بعينه. فوجب القطع بأن الإنسان، إما أن يكون جوهرا مفارقا مجردا، وإما أن يكون جسما نورانيا لطيفا باقيا مع تحلل هذا البدن، فإذا كان الأمر كذلك فعلى التقديرين لا يمتنع عوده إلى الجثة مرة أخرى، ويكون هذا الإنسان العائد عين الإنسان الأول، فثبت أن القول بالمعاد صدق.
الحجة الحادية عشر: ما ذكره الله تعالى في قوله: * (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) * واعلم أن قوله سبحانه: * (خلقناه من نطفة) * (يس: 77) إشارة إلى ما ذكرناه في الحجة العاشرة من أن تلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، فجمعها الله تعالى وخلق من تركيبها هذا الحيوان، والذي يقويه قوله سبحانه: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) * (المؤمنون: 12، 13) فإن تفسيره هذه الآية إنما يصح بالوجه الذي ذكرناه، وهو أن السلالة من الطين يتكون منها نبات، ثم إن ذلك النبات يأكله الإنسان فيتولد منه الدم، ثم الدم ينقلب نطفة، فبهذا الطريق ينتظم ظاهر هذه الآية. ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذا المعنى حكى كلام المنكر، وهو قوله تعالى: * (قال من يحيي العظام وهي رميم) * (يس: 78) ثم إنه تعالى بين إمكان هذا المذهب.
واعلم أن إثبات إمكان الشيء لا يعقل إلا بطريقين: أحدهما: أن يقال: إن مثله ممكن، فوجب أن يكون هذا أيضا ممكنا. والثاني: أن يقال: إن ما هو أعظم منه وأعلى حالا منه، فهو أيضا ممكن. ثم إنه تعالى ذكر الطريق الأول أولا فقال: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) * (يس: 79) ثم فيه دقيقة وهي أن قوله: * (قل يحييها) * إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: * (وهو بكل خلق عليم) * إشارة إلى كمال العلم. ومنكروا الحشر والنشر لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين
الأصلين، لأنهم تارة يقولون: إنه تعالى موجب بالذات، والموجب بالذات لا يصح منه القصد إلى التكوين، وتارة يقولون إنه يمتنع كونه عالما بالجزئيات، فيمتنع منه تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، ولما كانت شبه الفلاسفة مستخرجة من هذين الأصلين، لا جرم كلما ذكر الله تعالى مسألة المعاد أردفه بتقرير هذين الأصلين ثم إنه تعالى ذكر بعده الطريق الثاني، وهو الاستدلال بالأعلى على الأدنى، وتقريره من وجهين: الأول: أن الحياة لا تحصل إلا بالحرارة والرطوبة، والتراب بارد يابس، فحصلت المضادة بينهما. إلا أنا نقول: الحرارة النارية أقوى في صفة الحرارة من الحرارة الغريزية، فلما لم يمتنع تولد الحرارة النارية عن الشجر الأخضر مع كمال ما بينهما من المضادة، فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزية
25

في جرم التراب؟ الثاني: قوله تعالى: * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) * (يس: 81) بمعنى أنه لما سلمتم أنه تعالى هو الخالق لأجرام الأفلاك والكواكب، فكيف يمكنكم الامتناع من كونه قادرا على الحشر والنشر؟ ثم إنه تعالى حسم مادة الشبهات بقوله: * (إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) والمراد أن تخليقه وتكوينه لا يتوقف على حصول الآلات والأدوات ونطفة الأب ورحم الأم، والدليل عليه أنه خلق الأب الأول، لا عن أب سابق عليه، فدل ذلك على كونه سبحانه غنيا في الخلق والإيجاد والتكوين عن الوسائط والآلات. ثم قال سبحانه: * (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون) * (يس: 83) أي سبحانه من أن لا يعيدهم ويهمل أمر المظلومين، ولا ينتصف للعاجزين من الظالمين، وهو المعنى المذكور في هذه الآية التي نحن في تفسيرها، وهي قوله سبحانه: * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) *.
الحجة الثانية عشر: دلت الدلائل على أن العالم محدث ولا بد له من محدث قادر، ويجب أن يكون عالما، لأن الفعل المحكم المتقن لا يصدر إلا من العالم، ويجب أن يكون غنيا عنها وإلا لكان قد خلقها في الأزل وهو محال، فثبت أن لهذا العالم إلها قادرا عالما غنيا، ثم لما تأملنا فقلنا: هل يجوز في حق هذا الحكيم الغني عن الكل أن يهمل عبيده ويتركهم سدى، ويجوز لهم أن يكذبوا عليه ويبيح لهم أن يشتموه ويجحدوا ربوبيته، ويأكلوا نعمته، ويعبدوا الجبت والطاغوت، ويجعلوا له أندادا وينكروا أمره ونهيه ووعده ووعيده؟ فههنا حكمت بديهة العقل بأن هذه المعاني لا تليق إلا بالسفيه الجاهل البعيد من الحكمة. القريب من العبث، فحكمنا لأجل هذه المقدمة أن له أمرا ونهيا، ثم تأملنا فقلنا: هل يجوز أن يكون له أمر ونهي مع أنه لا يكون له وعد ووعيد؟ فحكم صريح العقل بأن ذلك غير جائز لأنه إن لم يقرن الأمر بالوعد بالثواب، ولم يقرن النهي بالوعيد بالعقاب لم يتأكد الأمر والنهي، ولم يحصل المقصود. فثبت أنه لا بد من وعد ووعيد، ثم تأملنا فقلنا: هل يجوز أن يكون له وعد ووعيد ثم إنه لا يفي بوعده لأهل الثواب، ولا بوعيده لأهل العقاب: فقلنا: إن ذلك لا يجوز، لأنه لو جاز ذلك لما حصل الوثوق بوعده ولا بوعيده، وهذا يوجب أن لا يبقى فائدة في الوعد والوعيد، فعلمنا أنه لا بد من تحقيق الثواب والعقاب، ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالحشر والبعث، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فهذه مقدمات يتعلق بعضها بالبعض كالسلسلة متى صح بعضها صح كلها، ومتى فسد بعضها فسد كلها، فدل مشاهدة أبصارنا لهذه التغيرات على حدوث العالم، ودل حدوث العالم على وجود الصانع الحكيم الغني، ودل ذلك على وجود الأمر والنهي، ودل ذلك على وجود الثواب والعقاب، ودل ذلك على وجوب الحشر. فإن لم
26

يثبت الحشر أدى ذلك إلى بطلان جميع المقدمات المذكورة ولزم إنكار العلوم البديهية وإنكار العلوم النظرية القطعية. فثبت أنه لا بد لهذه الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة المتمزقة من البعث بعد الموت، ليصل المحسن إلى ثوابه والمسئ إلى عقابه، فإن لم تحصل هذه الحالة لم يحصل الوعد والوعيد، وإن لم يحصلا لم يحصل الأمر والنهي، وإن لم يحصلا لم تحصل الإلهية، وإن لم تحصل الإلهية لم تحصل هذه التغيرات في العالم. وهذه الحجة هي المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله: * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) * هذا كله تقرير إثبات المعاد بناء على أن لهذا العالم إلها رحيما ناظرا محسنا إلى العباد.
أما الفريق الثاني: وهم الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح، فطريقهم إلى إثبات المعاد أن قالوا: المعاد أمر جائز الوجود، والأنبياء عليهم السلام أخبروا عنه، فوجب القطع بصحته، أما إثبات الإمكان فهو مبني على مقدمات ثلاثة. المقدمة الأولى: البحث عن حال القابل فنقول: الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن، فإن كان عبارة عن النفس وهو القول الحق، فنقول: لما كان تعلق النفس بالبدن في المرة الأولى، جائزا كان تعلقها بالبدن في المرة الثانية يجب أن يكون جائزا. وهذا الكلام لا يختلف، سواء قلنا النفس عبارة عن جوهر مجرد، أو قلنا: إنه جسم لطيف مشاكل لهذا البدن باق في جميع أحوال البدن مصون عن التحلل والتبدل، وأما إن كان الإنسان عبارة عن البدن، وهذا القول أبعد الأقاويل فنقول: إن تألف تلك الأجزاء على الوجه المخصوص في المرة الأولى كان ممكنا، فوجب أيضا أن يكون في المرة الثانية ممكنا، فثبت أن عود الحياة إلى هذا البدن مرة أخرى أمره ممكن في نفسه.
وأما المقدمة الثانية: فهي في بيان أن إله العالم قادر مختار. لا علة موجبة، وأن هذا القادر قادر على كل الممكنات.
وأما المقدمة الثالثة: فهي في بيان أن إله العالم عالم بجميع الجزئيات، فلا جرم أجزاء بدن زيد وإن اختلطت بأجزاء التراب، والبحار إلا أنه تعالى لما كان عالما بالجزئيات أمكنه تمييز بعضها عن بعض. ومتى ثبتت هذه المقدمات الثلاثة، لزم القطع بأن الحشر والنشر أمر ممكن في نفسه.
وإذا ثبت هذا الإمكان فنقول: دل الدليل على صدق الأنبياء وهم قطعوا بوقوع هذا الممكن، فوجب القطع بوقوعه، وإلا لزمنا تكذيبهم، وذلك باطل بالدلائل الدالة على صدقهم، فهذا خلاصة ما وصل إليه عقلنا في تقرير أمر المعاد.
27

المسألة الثالثة: في الجواب عن شبهات المنكرين للحشر والنشر.
الشبهة الأولى: قالوا: لو بدلت هذه الدار بدار أخرى لكانت تلك الدار إما أن تكون مثل هذه الدار أو شرا منها أو خيرا منها، فإن كان الأول كان التبديل عبثا، وإن كان شرا منها كان هذا التبديل سفها، وإن كان خيرا منها ففي أول الأمر هل كان قادرا على خلق ذلك الأجود أو ما كان قادرا عليه؟ فإن قدر عليه ثم تركه وفعل الأردأ كان
ذلك سفها، وإن قلنا: إنه ما كان قادرا ثم صار قادرا عليه فقد انتقل من العجز إلى القدرة، أو من الجهل إلى الحكمة، وأن ذلك على خالق العالم محال.
والجواب: لم لا يجوز أن يقال تقديم هذه الدار على تلك الدار هو المصلحة، لأن الكمالات النفسانية الموجبة للسعادة الأخروية لا يمكن تحصيلها إلا في هذه الدار، ثم عند حصول هذه الكمالات كان البقاء في هذه الدار سببا للفساد والحرمان عن الخيرات.
الشبهة الثانية: قالوا: حركات الأفلاك مستديرة، والمستدير لا ضد له، وما لا ضد له لا يقبل الفساد.
والجواب: أنا أبطلنا هذه الشبهة في الكتب الفلسفية، فلا حاجة إلى الإعادة. والأصل في إبطال أمثال هذه الشبهات أن نقيم الدليل على أن أجرام الأفلاك مخلوقة، ومتى ثبت ذلك ثبت كونها قابلة للعدم والتفرق والتمزق. ولهذا السر، فإنه تعالى في هذه السورة بدأ بالدلائل الدالة على حدوث الأفلاك، ثم أردفها بما يدل على صحة القول بالمعاد.
الشبهة الثالثة: الإنسان عبارة عن هذا البدن، وهو ليس عبارة عن هذه الأجزاء كيف كانت، لأن هذه الأجزاء كانت موجودة قبل حدوث هذا الإنسان، مع أنا نعلم بالضرورة أن هذا الإنسان ما كان موجودا، وأيضا أنه إذا أحرق هذا الجسد، فإنه تبقى تلك الأجزاء البسيطة، ومعلوم أن مجموع تلك الأجزاء البسيطة من الأرض والماء والهواء والنار، ما كان عبارة عن هذا الإنسان العاقل الناطق، فثبت أن تلك الأجزاء إنما تكون هذا الإنسان بشرط وقوعها على تأليف مخصوص، ومزاج مخصوص، وصورة مخصوصة، فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصور والأعراض، وعود المعدوم محال. وعلى هذا التقدير فإنه يمتنع عود بعض الأجزاء المعتبرة في حصول هذا الإنسان فوجب أن يمتنع عوده بعينه مرة أخرى.
والجواب: لا نسلم أن هذا الإنسان المعين عبارة عن هذا الجسد المشاهد، بل هو عبارة عن النفس. سواء فسرنا النفس بأنه جوهر مفارق مجرد، أو قلنا إنه جسم لطيف مخصوص مشاكل لهذا الجسد مصون عن التغير، والله أعلم به.
28

الشبهة الرابعة: إذا قتل إنسان واغتذى به إنسان آخر. فيلزم أن يقال تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال.
والجواب: هذه الشبهة أيضا مبنية على أن الإنسان المعين عبارة عن مجموع هذا البدن، وقد بينا أنه باطل. بل الحق أنه عبارة عن النفس سواء.
قلنا: النفس جوهر مجرد وأجسام لطيفة باقية مشاكلة للجسد، وهي التي سمتها المتكلمون بالأجزاء الأصلية. وهذا آخر البحث العقلي عن مسألة المعاد.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (إليه مرجعكم جميعا) * فيه أبحاث:
البحث الأول: أن كلمة " إلى " لانتهاء الغاية، وظاهره يقتضي أن يكون الله سبحانه مختصا بحيز وجهة، حتى يصح أن يقال: إليه مرجع الخلق.
والجواب عنه من وجوه: الأول: أنا إذا قلنا. النفس جوهر مجرد، فالسؤال زائل. الثاني: أن يكون المراد منه: أن مرجعهم إلى حيث لا حاكم سواه. الثالث: أن يكون المراد: أن مرجعهم إلى حيث حصل الوعد فيه بالمجازاة.
البحث الثاني: ظاهر الآيات الكثيرة يدل على أن الإنسان عبارة عن النفس، لا عن البدن، ويدل أيضا على أن النفس كانت موجودة قبل البدن. أما أن الإنسان شيء غير هذا البدن فلقوله تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء) * فالعلم الضروري حاصل بأن بدن المقتول ميت، والنص دال على أنه حي، فوجب أن تكون حقيقته شيئا مغايرا لهذا البدن الميت، وأيضا قال الله تعالى في صفة نزع روح الكفار * (أخرجوا أنفسكم) * (الأنعام: 93) وأما إن النفس كانت موجودة قبل البدن، فلأن قوله تعالى في هذه الآية: * (إليه مرجعكم) * يدل على ما قلنا، لأن الرجوع إلى الموضع إنما يحصل لو كان ذلك الشيء قد كان هناك قبل ذلك، ونظيره قوله تعالى: * (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية) * (الفجر: 27، 28) وقوله: * (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) * (الأنعام: 62).
البحث الثالث؛ المرجع بمعنى الرجوع و * (جميعا) * نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع، وهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا المرجع الموت، وإنما المراد منه القيامة.
البحث الرابع: قوله تعالى: * (إليه مرجعكم) * يفيد الحصر، وأنه لا رجوع إلا إلى الله تعالى، ولا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره، وأما قوله: * (وعد الله حقا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: * (وعد الله) * منصوب على معنى: وعدكم الله وعدا، لأن قوله: * (إليه مرجعكم) * معناه: الوعد بالرجوع، فعلى هذا التقدير يكون قوله: * (وعد الله) * مصدرا مؤكدا لقوله:
29

* (إليه مرجعكم) * وقوله: * (حقا) * مصدرا مؤكدا لقوله: * (وعد الله) * فهذه التأكيدات قد اجتمعت في هذا الحكم.
المسألة الثانية: قرىء * (وعد الله) * على لفظ الفعل. واعلم أنه تعالى لما أخبر عن وقوع الحشر والنشر، ذكر بعده ما يدل على كونه في نفسه ممكن الوجود. ثم ذكر بعده ما يدل على وقوعه. أما ما يدل على إمكانه في نفسه فهو قوله سبحانه: * (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تقرير هذا الدليل أنه تعالى بين بالدليل كونه خالقا للأفلاك والأرضين، ويدخل فيه أيضا كونه خالقا لكل ما في هذا العالم من الجمادات والمعادن والنبات والحيوان والإنسان، وقد ثبت في العقل أن كل من كان قادرا على شيء، وكانت قدرته باقية ممتنعة الزوال، وكان عالما بجميع المعلومات فإنه يمكنه إعادته بعينه، فدل هذا الدليل على أنه تعالى قادر على إعادة الإنسان بعد موته.
المسألة الثانية: اتفق المسلمون على أنه تعالى قادر على إعدام أجسام العالم، واختلفوا في أنه تعالى هل يعدمها أم لا؟ فقال قوم إنه تعالى يعدمها، واحتجوا بهذه الآية
وذلك لأنه تعالى حكم على جميع المخلوقات بأنه يعيدها، فوجب أن يعيد الأجسام أيضا، وإعادتها لا تمكن إلا بعد إعدامها، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال. ونظيره قوله تعالى: * (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده) * (الأنبياء: 104) فحكم بأن الإعادة تكون مثل الابتداء، ثم ثبت بالدليل أنه تعالى إنما يخلقها في الابتداء من العدم، فوجب أن يقال إنه تعالى يعيدها أيضا من العدم.
المسألة الثالثة: في هذه الآية إضمار، كأنه قيل: إنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة، ثم يميتهم ثم يعيدهم، كما قال في سورة البقرة: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم) * (البقرة: 28) إلا أنه تعالى حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا، لأجل أنه تعالى قال قبل هذه الآية: * (ذلكم الله ربكم فاعبدوه) * (يونس: 3) وحذف ذكر الإماتة لأن ذكر الإعادة يدل عليها.
المسألة الرابعة: قرأ بعضهم * (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده) * بالكسر وبعضهم بالفتح. قال الزجاج: من كسر الهمزة من " أن " فعلى الاستئناف، وفي الفتح وجهان: الأول: أن يكون التقدير: إليه مرجعكم جميعا لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده. والثاني: أن يكون التقدير: وعد الله وعدا بدأ الخلق ثم إعادته، وقرئ * (يبدئ) * من أبدأ وقرئ * (حق إنه يبدأ الخلق) * كقولك: حق إن زيدا منطلق.
أما قوله تعالى: * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) * فاعلم أن المقصود منه إقامة الدلالة على أنه لا بد من حصول الحشر والنشر، حتى يحصل الفرق بين المحسن والمسئ، وحتى يصل
30

الثواب إلى المطيع والعقاب إلى العاصي، وقد سبق الاستقصاء في تقرير هذا الدليل، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الكعبي: اللام في قوله تعالى: * (ليجزي الذين آمنوا) * يدل على أنه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة. وأيضا فإنه أدخل لام التعليل على الثواب. وأما العقاب فما أدخل فيه لام التعليل، بل قال: * (والذين كفروا لهم شراب من حميم) * وذلك يدل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، وذلك يدل على أنه ما أراد منهم الكفر، وما خلق فيهم الكفر البتة.
والجواب: أن لام التعليل في أفعال الله تعالى محال، لأنه تعالى لو فعل فعلا لعلة لكانت تلك العلة، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة لزم التسلسل وهو محال.
المسألة الثانية: قال الكعبي أيضا: هذه الآية تدل على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يبدأ خلقهم في الجنة، لأنه لو حسن إيصال تلك النعم إليهم من غير واسطة خلقهم في هذا العالم ومن غير واسطة تكليفهم، لما كان خلقهم وتكليفهم معللا بإيصال تلك النعم إليهم، وظاهر الآية يدل على ذلك.
والجواب: هذا بناء على صحة تعليل أحكام الله تعالى وهو باطل، سلمنا صحته. إلا أن كلامه إنما يصح لو عللنا بدء الخلق وإعادته بهذا المعنى وذلك ممنوع. فلم لا يجوز أن يقال: إنه يبدأ الخلق لمحض التفضل، ثم إنه تعالى يعيدهم لغرض إيصال نعم الجنة إليهم؟ وعلى هذا التقدير: سقط كلامه. أما قوله تعالى: * (بالقسط) * ففيه وجهان:
الوجه الأول: * (بالقسط) * بالعدل، وهو يتعلق بقوله: * (ليجزي) * والمعنى: ليجزيهم بقسطه، وفيه سؤالان.
السؤال الأول: أن القسط إذا كان مفسرا بالعدل، فالعدل هو الذي يكون لا زائدا ولا ناقصا، وذلك يقتضي أنه تعالى لا يزيدهم على ما يستحقونه بأعمالهم، ولا يعطيهم شيئا على سبيل التفضل ابتداء.
والجواب: عندنا أن الثواب أيضا محض التفضل. وأيضا فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق، إلا أن لفظ * (القسط) * يدل على توفية الأجر، فأما المنع من الزيادة فلفظ * (القسط) * لا يدل عليه.
السؤال الثاني: لم خص المؤمنين بالقسط مع أنه تعالى يجازي الكافرين أيضا بالقسط؟
والجواب: أن تخصيص المؤمنين بذلك يدل على مزيد العناية في حقهم، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد هذا الاحتياط.
31

الوجه الثاني: في تفسير الآية أن يكون المعنى: ليجزي الذين آمنوا بقسطهم، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حيث آمنوا وعملوا الصالحات، لأن الشرك ظلم. قال الله تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) والعصاة أيضا قد ظلموا أنفسهم. قال الله تعالى: * (فمنهم ظالم لنفسه) * (فاطر: 32) وهذا الوجه أقوى، لأنه في مقابلة قوله: * (بما كانوا يكفرون) * (يونس: 70). وأما قوله تعالى: * (والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: الحميم: الذي سخن بالنار حتى انتهى حره. يقال: حممت الماء أي سخنته، فهو حميم. ومنه الحمام.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين أن يكون المكلف مؤمنا وبين أن يكون كافرا، لأنه تعالى اقتصر في هذه الآية على ذكر هذين القسمين.
وأجاب القاضي عنه: بأن ذكر هذين القسمين لا يدل على نفي القسم الثالث. والدليل عليه قوله تعالى: * (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) * (النور: 45) ولم يدل ذلك على نفي القسم الرابع، بل نقول: إن في مثل ذلك ربما يذكر المقصود أو الأكثر، ويترك ذكر ما عداه، إذا كان قد بين في موضع آخر. وقد بين الله تعالى القسم الثالث في سائر الآيات.
والجواب أن نقول: إنما يترك القسم الثالث الذي يجري مجرى النادر، ومعلوم أن الفساق أكثر من أهل الطاعات، وكيف يجوز ترك ذكرهم في هذا الباب؟ وأما قوله
تعالى: * (والله خلق كل دابة من ماء) * فإنما ترك ذكر القسم الرابع والخامس، لأن أقسام ذوات الأرجل كثيرة. فكان ذكرها بأسرها يوجب الإطناب بخلاف هذه المسألة. فإنه ليس ههنا إلا القسم الثالث، وهو الفاسق الذي يزعم الخصم أنه لا مؤمن ولا كافر. فظهر الفرق.
قوله تعالى
* (هو الذى جعل الشمس ضيآء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين
32

والحساب ما خلق الله ذالك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على الإلهية، ثم فرع عليها صحة القول بالحشر والنشر، عاد مرة أخرى إلى ذكر الدلائل الدالة على الإلهية.
واعلم أن الدلائل المتقدمة في إثبات التوحيد والإلهية هي التمسك بخلق السماوات والأرض، وهذا النوع إشارة إلى التمسك بأحوال الشمس والقمر، وهذا النوع الأخير إشارة إلى ما يؤكد الدليل الدال على صحة الحشر والنشر، وذلك لأنه تعالى أثبت القول بصحة الحشر والنشر، بناء على أنه لا بد من إيصال الثواب إلى أهل الطاعة، وإيصال العقاب إلى أهل الكفر، وأنه يجب في الحكمة تمييز المحسن عن المسئ، ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أنه جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل ليتوصل المكلف بذلك إلى معرفة السنين والحساب، فيمكنه ترتيب مهمات معاشه من الزراعة والحراثة، وإعداد مهمات الشتاء والصيف، فكأنه تعالى يقول: تمييز المحسن عن المسئ والمطيع عن العاصي، أوجب في الحكمة من تعليم أحوال السنين والشهور. فلما اقتضت الحكمة والرحمة خلق الشمس والقمر لهذا المهم الذي لا نفع له إلا في الدنيا. فبأن تقتضي الحكمة والرحمة تمييز المحسن عن المسئ بعد الموت، مع أنه يقتضي النفع الأبدي والسعادة السرمدية، كان ذلك أولى. فلما كان الاستدلال بأحوال الشمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية مما يدل على التوحيد من وجه، وعلى صحة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه، لا جرم ذكر الله هذا الدليل بعد ذكر الدليل على صحة المعاد.
المسألة الثانية: الاستدلال بأحوال الشمس والقمر على وجود الصانع المقدر هو أن يقال: الأجسام في ذواتها متماثلة، وفي ماهياتها متساوية، ومتى كان الأمر كذلك كان اختصاص جسم الشمس بضوئه الباهر وشعاعه القاهر، واختصاص جسم القمر بنوره المخصوص لأجل الفاعل الحكيم المختار، أما بيان أن الأجسام متماثلة في ذواتها وماهياتها، فالدليل عليه أن الأجسام لا شك أنها متساوية في الحجمية والتحيز والجرمية، فلو خالف بعضها بعضا لكانت تلك المخالفة في أمر وراء الحجمية والجرمية ضرورة أن ما به المخالفة غير ما به المشاركة، وإذا كان كذلك فنقول أن ما به حصلت المخالفة من الأجسام إما أن يكون صفة لها أو موصوفا بها أو لا صفة لها ولا موصوفا بها والكل باطل.
أما القسم الأول: فلأن ما به حصلت المخالفة لو كانت صفات قائمة بتلك الذوات، فتكون
33

الذوات في أنفسها، مع قطع النظر عن تلك الصفات، متساوية في تمام الماهية، وإذا كان الأمر كذلك، فكل ما يصح على جسم، وجب أن يصح على كل جسم، وذلك هو المطلوب.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: إن الذي به خالف بعض الأجسام بعضا، أمور موصوفة بالجسمية والتحيز والمقدار. فنقول: هذا أيضا باطل. لأن ذلك الموصوف، إما أن يكون حجما ومتحيزا أو لا يكون، والأول باطل، وإلا لزم افتقاره إلى محل آخر، ويستمر ذلك إلى غير النهاية. وأيضا فعلى هذا التقدير يكون المحل مثلا للحال، ولم يكن كون أحدهما محلا والآخر حالا، أولى من العكس، فيلزم كون كل واحد منهما محلا للآخر وحالا فيه، وذلك محال، وأما إن كان ذلك المحل غير متحيز، وله حجم. فنقول: مثل هذا الشيء لا يكون له اختصاص بحيز ولا تعلق بجهة والجسم مختص بالحيز، وحاصل في الجهة، والشيء الذي يكون واجب الحصول في الحيز والجهة، يمتنع أن يكون حالا في الشيء الذي يمتنع حصوله في الحيز والجهة.
وأما القسم الثالث: وهو أن يقال: ما به خالف جسم جسما، لا حال في الجسم ولا محل له، فهذا أيضا باطل، لأن على هذا التقدير يكون ذلك الشيء شيئا مباينا عن الجسم لا تعلق له به، فحينئذ تكون ذوات الأجسام من حيث ذواتها متساوية في تمام الماهية، وذلك هو المطلوب، فثبت أن الأجسام بأسرها متساوية في تمام الماهية.
وإذا ثبت هذا فنقول: الأشياء المتساوية في تمام الماهية تكون متساوية في جميع لوازم الماهية، فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على الباقي، فلما صح على جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر الباهر، وجب أن يصح مثل ذلك الضوء القاهر على جرم القمر أيضا، وبالعكس. وإذا كان كذلك، وجب أن يكون اختصاص جرم الشمس بضوئه القاهر، واختصاص القمر بنوره الضعيف بتخصيص مخصص وإيجاد موجد. وتقدير مقدر وذلك هو المطلوب، فثبت أن اختصاص الشمس بذلك الضوء بجعل جاعل، وأن اختصاص القمر بذلك النوع من النور بجعل جاعل، فثبت بالدليل القاطع صحة قوله سبحانه وتعالى: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) * وهو المطلوب.
المسألة الثالثة: قال أبو علي الفارسي: الضياء لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون جمع ضوء كسوط وسياط وحوض وحياض، أو مصدر ضاء يضوء ضياء كقولك قام قياما، وصام صياما، وعلى أي الوجهين حملته، فالمضاف محذوف، والمعنى جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نور، ويجوز أن يكون من غير ذلك لأنه لما عظم الضوء والنور فيهما جعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم أنه كرم وجود.
34

المسألة الرابعة: قال الواحدي: روي عن ابن كثير من طريق قنبل * (ضئاء) * بهمزتين وأكثر الناس على تغليطه فيه، لأن ياء ضياء منقلبة من واو مثل ياء قيام
وصيام، فلا وجه للهمزة فيها. ثم قال: وعلى البعد يجوز أن يقال قدم اللام التي هي الهمزة إلى موضع العين، وأخر العين التي هي واو، إلى موضع اللام، فلما وقعت طرفا بعد ألف زائدة انقلبت همزة، كما انقلبت في سقاء وبابه. والله أعلم.
المسألة الخامسة: اعلم أن النور كيفية قابلة للأشد والأضعف، فإن نور الصباح أضعف من النور الحاصل في أفنية الجدران عند طلوع الشمس، وهو أضعف من النور الساطع من الشمس على الجدران، وهو أضعف من الضوء القائم بجرم الشمس، فكما هذه الكيفية المسماة بالضوء على ما يحس به في جرم الشمس، وهو في الإمكان وجود مرتبة في الضوء أقوى من الكيفية القائمة بالشمس، فهو من مواقف العقول. واختلف الناس في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض؟ والحق أنه عرض، وهو كيفية مخصوصة، وإذا ثبت أنه عرض فهل حدوثه في هذا العالم بتأثير قرص الشمس أو لأجل أن الله تعالى أجرى عادته بخلق هذه الكيفية في الأجرام المقابلة لقرص الشمس على سبيل العادة، فهي مباحث عميقة، وإنما يليق الاستقصاء فيها بعلوم المعقولات.
وإذا عرفت هذا فنقول: النور اسم لأصل هذه الكيفية، وأما الضوء، فهو اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية، والدليل عليه أنه تعالى سمى الكيفية القائمة بالشمس * (ضياء) * والكيفية القائمة بالقمر * (نورا) * ولا شك أن الكيفية القائمة بالشمس أقوى وأكمل من الكيفية القائمة بالقمر، وقال في موضع آخر: * (وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) * وقال في آية أخرى: * (وجعل الشمس سراجا) * وفي آية أخرى * (وجعلنا سراجا وهاجا) *.
المسألة السادسة: قوله: * (وقدره منازل) * نظيره. قوله تعالى في سورة يس: * (والقمر قدرناه منازل) * (يس: 39) وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون المعنى وقدر مسيره منازل. والثاني: أن يكون المعنى وقدره ذا منازل.
المسألة السابعة: الضمير في قوله: * (وقدره) * فيه وجهان: الأول: أنه لهما، وإنما وحد الضمير للإيجاز، وإلا فهو في معنى التثنية اكتفاء بالمعلوم، لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر، ونظيره قوله تعالى: * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) * (التوبة: 62) والثاني: أن يكون هذا الضمير راجعا إلى القمر وحده، لأن بسير القمر تعرف الشهور، وذلك لأن الشهور المعتبرة في
35

الشريعة مبنية على رؤية الأهلة، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية، كما قال تعالى: * (إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله) * (التوبة: 36).
المسألة الثامنة: اعلم أن انتفاع الخلق بضوء الشمس وبنور القمر عظيم، فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل. وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم. وبحركة القمر تحصل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة الضوء ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم. وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، فالنهار يكون زمانا للتكسب والطلب، والليل يكون زمانا للراحة، وقد استقصينا في منافع الشمس والقمر في تفسير الآيات اللائقة بها فيما سلف، وكل ذلك يدل على كثرة رحمة الله على الخلق وعظم عنايته بهم، فإنا قد دللنا على أن الأجسام متساوية. ومتى كان كذلك كان اختصاص كل جسم بشكله المعين ووضعه المعين، وحيزه المعين، وصفته المعينة، ليس إلا بتدبير مدبر حكيم رحيم قادر قاهر. وذلك يدل على أن جميع المنافع الحاصلة في هذا العالم بسبب حركات الأفلاك ومسير الشمس والقمر والكواكب، ما حصل إلا بتدبير المدبر المقدر الرحيم الحكيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ثم إنه تعالى لما قرر هذه الدلائل ختمها بقوله: * (ما خلق الله ذلك إلا بالحق) * ومعناه أنه تعالى خلقه على وفق الحكمة ومطابقة المصلحة، ونظيره قوله تعالى في آل عمران: * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) * (آل عمران: 191) وقال في سورة أخرى: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا) * (ص: 27) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال القاضي: هذه الآية تدل على بطلان الجبر، لأنه تعالى لو كان مريدا لكل ظلم، وخالقا لكل قبيح، ومريدا لإضلال من ضل، لما صح أن يصف نفسه بأنه ما خلق ذلك إلا بالحق.
المسألة الثانية: قال حكماء الإسلام: هذا يدل على أنه سبحانه أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواص معينة وقوى مخصوصة، باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السفلي. إذ لو لم يكن لها آثار وفوائد في هذا العالم، لكان خلقها عبثا وباطلا وغير مفيد، وهذه النصوص تنافي ذلك. والله أعلم.
ثم بين تعالى أنه يفصل الآيات، ومعنى التفصيل هو ذكر هذه الدلائل الباهرة، واحدا عقيب الآخر، فصلا فصلا مع الشرع والبيان. وفي قوله: * (نفصل) * قراءتان: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم * (يفصل) * بالياء، وقرأ الباقون بالنون.
36

ثم قال: * (لقوم يعلمون) * وفيه قولان: الأول: أن المراد منه العقل الذي يعم الكل. والثاني: أن المراد منه من تفكر وعلم فوائد مخلوقاته وآثار إحسانه، وحجة القول الأول: عموم اللفظ، وحجة القول الثاني: أنه لا يمتنع أن يخص الله سبحانه وتعالى العلماء بهذا الذكر، لأنهم هم الذين انتفعوا بهذه الدلائل، فجاء كما في قوله: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) مع أنه عليه السلام كان منذرا للكل.
قوله تعالى
* (إن فى اختلاف اليل والنهار وما خلق الله فى السماوات والارض الآيات لقوم يتقون) *.
اعلم أنه تعالى استدل على التوحيد والإلهيات أولا: بتخليق السماوات والأرض، وثانيا: بأحوال الشمس والقمر، وثالثا: في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة في تفسير قوله: * (إن في خلق السماوات والأرض) * (آل عمران: 9) ورابعا: بكل ما خلق الله في السماوات
والأرض، وهي أقسام الحوادث الحادثة في هذا العالم، وهي محصورة في أربعة أقسام: أحدها: الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار والثلوج. ويدخل فيها أيضا أحوال البحار، وأحوال المد والجزر، وأحوال الصواعق والزلازل والخسف. وثانيها: أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة. وثالثها: اختلاف أحوال النبات. ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات، وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى: * (وما خلق الله في السماوات والأرض) * والاستقصاء في شرح هذه الأحوال مما لا يمكن في ألف مجلد، بل كل ما ذكره العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب.
ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الدلائل قال: * (لآيات لقوم يتقون) * فخصها بالمتقين، لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر. قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم، بل جعلها لهم دار عمل. وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي، ثم من ثواب وعقاب، ليتميز المحسن عن المسئ، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد.
37

قوله تعالى
* (إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحيواة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون * أولائك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) *.
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها، وفي شرح أحوال من يؤمن بها. فأما شرح أحوال الكافرين فهو المذكور في هذه الآية. واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أربعة:
الصفة الأولى: قوله: * (إن الذين لا يرجون لقاءنا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير هذا الرجاء قولان:
القول الأول: وهو قول ابن عباس ومقاتل والكلبي: معناه: لا يخافون البعث، والمعنى: أنهم لا يخافون ذلك لأنهم لا يؤمنون بها. والدليل على تفسير الرجاء ههنا بالخوف قوله تعالى: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) وقوله: * (وهم من الساعة مشفقون) * (الأنبياء: 49) وتفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال تعالى: * (ما لكم لا ترجون لله وقارا) * (نوح: 13) قال الهذلي: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
والقول الثاني: تفسير الرجاء بالطمع، فقوله: * (لا يرجون لقاءنا) * أي لا يطمعون في ثوابنا، فيكون هذا الرجاء هو الذي ضده اليأس، كما قال: * (قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار) *.
واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد، لأن تفسير الضد بالضد غير جائز، ولا مانع ههنا من حمل الرجاء على ظاهره البتة، والدليل عليه أن لقاء الله إما أن يكون المراد منه تجلي جلال الله تعالى للعبد وإشراق نور كبريائه في روحه، وإما أن يكون المراد منه الوصول إلى ثواب الله تعالى وإلى رحمته. فإن كان الأول فهو أعظم الدرجات وأشرف السعادات وأكمل الخيرات، فالعاقل كيف لا يرجوه، وكيف لا يتمناه؟ وإن كان الثاني فكذلك، لأن كل أحد يرجو من الله تعالى أن يوصله إلى ثوابه ومقامات رحمته، وإذا كان كذلك فكل من آمن بالله فهو يرجو ثوابه، وكل من لم يؤمن بالله ولا بالمعاد فقد أبطل على نفسه هذا الرجاء، فلا جرم حسن جعل عدم هذا الرجاء كناية عن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر.
38

المسألة الثانية: اللقاء هو الوصول إلى الشيء، وهذا في حق الله تعالى محال، لكونه منزها عن الحد والنهاية، فوجب أن يجعل مجازا عن الرؤية، وهذا مجاز ظاهر. فإنه يقال: لقيت فلانا إذا رأيته، وحمله على لقاء ثواب الله يقتضي زيادة في الإضمار وهو خلاف الدليل.
واعلم أنه ثبت بالدلائل اليقينية أن سعادة النفس بعد الموت في أن تتجلى فيها معرفة الله تعالى ويكمل إشراقها ويقوي لمعانها، وذلك هو الرؤية، وهي من أعظم السعادات. فمن كان غافلا عن طلبها معرضا عنها مكتفيا بعد الموت بوجدان اللذات الحسية من الأكل والشرب والوقاع كان من الضالين.
الصفة الثانية: من صفات هؤلاء الكفار قوله تعالى: * (ورضوا بالحياة الدنيا) *.
واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن طلب اللذات الروحانية، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية، وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى استغراقه في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها، واستغراقه في طلبها.
والصفة الثالثة: قوله تعالى: * (واطمأنوا بها) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر الله نوع من الوجل والخوف كما قال تعالى: * (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) * (الحج: 35) ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر الله تعالى كما قال تعالى: * (وتطمئن قلوبهم بذكر الله إلا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا، وفي الاشتغال بطلب لذاتها كما قال في هذه الآية: * (واطمأنوا بها) * فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله تعالى.
المسألة الثانية: مقتضى اللغة أن يقال: واطمأنوا إليها، إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقام البعض، فلهذا السبب قال: * (واطمأنوا بها) *.
والصفة الرابعة: قوله تعالى: * (والذين هم عن آياتنا غافلون) * والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء الله تعالى. بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية، وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية.
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفات الأربعة قال: * (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) * وفيه مسألتان:
39

المسألة الأولى: النيران على أقسام: النار التي هي جسم محسوس مضيء محرق، صاعدا بالطبع، والإقرار به واجب، لأجل أنه ثبت بالدلائل المذكورة أن الإقرار بالجنة والنار حق.
القسم الثاني: النار الروحانية العقلية، وتقريره أن من أحب شيئا حبا شديدا ثم ضاع عنه ذلك الشيء بحيث لا يمكنه الوصول إليه، فإنه يحترق قلبه وباطنه، وكل عاقل يقول: إن فلانا محترق القلب محترق الباطن بسبب فراق ذلك المحبوب. وألم هذه النار أقوى بكثير من ألم النار المحسوسة.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الأرواح التي كانت مستغرقة في حب الجسمانيات وكانت غافلة عن حب عالم الروحانيات، فإذا مات ذلك الإنسان وقعت الفرقة بين ذلك الروح وبين معشوقاته ومحبوباته، وهي أحوال هذا العالم، وليس له معرفة بذلك العالم ولا إلف مع أهل ذلك العالم، فيكون مثاله مثال من أخرج من مجالسة معشوقه وألقي في بئر ظلمانية لا إلف له بها، ولا معرفة له بأحوالها، فهذا الإنسان يكون في غاية الوحشة، وتألم الروح فكذا هنا، أما لو كان نفورا عن هذه الجسمانيات عارفا بمقابحها ومعايبها وكان شديد الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى، عظيم الحب لله، كان مثاله مثال من كان محبوسا في سجن مظلم عفن مملوء من الحشرات المؤذية والآفات المهلكة، ثم اتفق أن فتح باب السجن وأخرج منه وأحضر في مجلس السلطان الأعظم مع الأحباب والأصدقاء، كما قال تعالى * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) * (النساء: 69) فهذا هو الإشارة إلى تعريف النار الروحانية والجنة الروحانية.
المسألة الثانية: الباء في قوله: * (بما كانوا يكسبون) * مشعر بأن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول هذا العذاب ونظيره قوله تعالى: * (ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) *.
قوله تعالى
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الانهار في جنات النعيم * دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) *.
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنكرين والجاحدين في الآية المتقدمة، ذكر في هذه الآية أحوال المؤمنين المحقين، واعلم أنه تعالى ذكر صفاتهم أولا، ثم ذكر مالهم من الأحوال السنية والدرجات
40

الرفيعة ثانيا، أما أحوالهم وصفاتهم فهي قوله: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * وفي تفسيره وجوه:
الوجه الأول: أن النفس الإنسانية لها قوتان:
القوة النظرية: وكمالها في معرفة الأشياء، ورئيس المعارف وسلطانها معرفة الله.
والقوة العملية: وكمالها في فعل الخيرات والطاعات، ورئيس الأعمال الصالحة وسلطانها خدمة الله. فقوله: * (إن الذين آمنوا) * إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة الله تعالى وقوله: * (وعملوا الصالحات) * إشارة إلى كمال القوة العملية بخدمة الله تعالى، ولما كانت القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف والرتبة، لا جرم وجب تقديمها في الذكر.
الوجه الثاني: في تفسير هذه الآية قال القفال: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * أي صدقوا بقلوبهم، ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله تعالى.
الوجه الثالث: * (الذين آمنوا) * أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة * (وعملوا الصالحات) * أي شغلوا جوارحهم بالخدمة، فعينهم مشغولة بالاعتبار كما قال: * (فاعتبروا يا أولي الأبصار) * (الحشر: 2) وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى كما قال: * (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول) * (المائدة: 83) ولسانهم مشغول بذكر الله كما قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله) * (الأحزاب: 41) وجوارحهم مشغولة بنور طاعة الله كما قال: * (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض) * (النمل: 25).
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم وهي أربعة.
المرتبة الأولى: قوله: * (يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير قوله: * (يهديهم ربهم بإيمانهم) * وجوه: الأول: أنه تعالى يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه: أحدها: قوله تعالى: * (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) * (الحديد: 12) وثانيها: ما روي أنه عليه السلام قال: " إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار " وثالثها: قال مجاهد: المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة. ورابعها: وهو الوجه العقلي أن الإيمان عبارة عن نور اتصل به من عالم القدس، وذلك النور كالخيط المتصل بين قلب المؤمن وبين ذلك العالم المقدس، فإن حصل هذا الخط
41

النوراني قدر العبد على أن يقتدي بذلك النور ويرجع إلى عالم القدس، فأما إذا لم يوجد هذا الحبل النوراني تاه في ظلمات عالم الضلالات نعوذ بالله منه.
والتأويل الثاني: قال ابن الأنباري: إن إيمانهم يهديهم إلى خصائص في المعرفة ومزايا في الألفاظ ولوامع من النور تستنير بها قلوبهم، وتزول بواسطتها الشكوك
والشبهات عنهم، كقوله تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (محمد: 17) وهذه الزوائد والفوائد والمزايا يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت، قال القفال: وإذا حملنا الآية على هذا الوجه. كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم، إلا أن حذف الواو وجعل قوله: * (تجري) * خبرا مستأنفا منقطعا عما قبله:
والتأويل الثالث: أن الكلام في تفسير هذه الآية يجب أن يكون مسبوقا بمقدمات.
المقدمة الأولى: أن العلم نور والجهل ظلمة. وصريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك، ومما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلة شريفة على شخصين، فاتفق أن فهمها أحدهما وما فهمها الآخر، فإنك ترى وجه الفاهم متهللا مشرقا مضيئا، ووجه من لم يفهم عبوسا مظلما منقبضا، ولهذا السبب جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان والنور، وعن الجهل والكفر بالظلمات.
والمقدمة الثانية: أن الروح كاللوح، والعلوم والمعارف كالنقوش المنقوشة في ذلك اللوح. ثم ههنا دقيقة، وهي أن اللوح الجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصول بعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائر النقوش فيه، فأما لوح الروح فخاصيته على الضد من ذلك، فإن الروح إذا كانت خالية عن نقوش المعارف والعلوم فإنه يصعب عليه تحصيل المعارف والعلوم، فإذا احتال وحصل شيء منها، كان حصول ما حصل منها معينا له على سهولة تحصيل الباقي، وكلما كان الحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل، فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعا من حصول الباقي، والنقوش الروحانية يكون بعضها معينا على حصول البقية، وذلك يدل على أن أحوال العالم الروحاني بالضد من أحوال العالم الجسماني.
المقدمة الثالثة: أن الأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة، والأعمال المذمومة ما تكون بالضد من ذلك.
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور هذه المعرفة، ثم إذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة مستقرة في التوجه إلى الآخرة وفي الإعراض عن الدنيا، وكلما كانت هذه الأحوال أكمل كان استعداد النفس لتحصيل سائر المعارف أشد، وكلما
42

كان الاستعداد أقوى وأكمل. كانت معارج المعارف أكثر وإشراقها ولمعانها أقوى، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية، لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهداية المشار إليها بقوله تعالى: * (يهديهم ربهم بإيمانهم) *.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (تجري من تحتهم الأنهار) * المراد منه أنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم، ونظيره قوله تعالى: * (قد جعل ربك تحتك سريا) * (مريم: 24) وهي ما كانت قاعدة عليها، ولكن المعنى بين يديك، وكذا قوله: * (وهذه الأنهار تجري من تحتي) * (الزخرف: 51) المعنى بين يدي فكذا ههنا.
المسألة الثالثة: الإيمان هو المعرفة والهداية المترتبة عليها أيضا من جنس المعارف، ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهم. بل قال: * (يهديهم ربهم بإيمانهم) * وذلك يدل على أن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة، بل العلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعداد التام لقبول النفس للنتيجة. ثم إذا حصل هذا الاستعداد، كان التكوين من الحق سبحانه وتعالى، وهذا معنى قول الحكماء أن الفياض المطلق والجواد الحق، ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
المرتبة الثانية: من مراتب سعاداتهم ودرجات كمالاتهم قوله سبحانه وتعالى: * (دعواهم فيها سبحانك اللهم) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: في دعواهم وجوه: الأول: أن الدعوى ههنا بمعنى الدعاء، يقال: دعا يدعو دعاء ودعوى، كما يقال: شكى يشكو شكاية وشكوى. قال بعض المفسرين: * (دعواهم) * أي دعاؤهم. وقال تعالى في أهل الجنة: * (لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون) * (يس: 57) وقال في آية أخرى * (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) * (الدخان: 55) ومما يقوى أن المراد من الدعوى ههنا الدعاء. هو أنهم قالوا: اللهم. وهذا نداء لله سبحانه وتعالى، ومعنى قولهم: * (سبحانك اللهم) * إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت: " اللهم إياك نعبد " الثاني: أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله تعالى: * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) * (مريم: 48) أي وما تعبدون. فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف، بل على سبيل الابتهاج بذكر الله تعالى. الثالث: قال بعضهم: لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم. والمعنى: أن أهل الجنة يدعون في الدنيا وفي الآخرة تنزيه الله تعالى عن كل المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال: أصل ذلك أيضا من الدعاء، لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. الرابع: قال مسلم: * (دعواهم) * أي قولهم وإقرارهم ونداؤهم، وذلك هو قولهم: * (سبحانك
43

اللهم) * الخامس: قال القاضي: المراد من قوله: * (دعواهم) * أي طريقتهم في تمجيد الله تعالى وتقديسه وشأنهم وسنتهم. والدليل على أن المراد ذلك أن قوله: * (سبحانك اللهم) * ليس بدعاء ولا بدعوى، إلا أن المدعي للشيء يكون مواظبا على ذكره، لا جرم جعل لفظ الدعوى كناية عن تلك المواظبة والملازمة. فأهل الجنة لما كانوا مواظبين على هذا الذكر، لا جرم أطلق لفظ الدعوى عليها. السادس: قال القفال: قيل في قوله: * (لهم ما يدعون) * (يس: 57) أي ما يتمنونه، والعرب تقول: ادع ما شئت علي، أي تمن. وقال ابن جريج: أخبرت أن قوله: * (دعواهم فيها سبحانك اللهم) * هو أنه إذا مر بهم طير يشتهونه قالوا * (سبحانك اللهم) * فيأتيهم الملك بذلك المشتهى، فقد خرج تأويل الآية من هذا الوجه، على أنهم إذا اشتهوا الشيء قالوا سبحانك اللهم، فكان المراد من دعواهم ما حصل في قلوبهم من التمني، وفي هذا التفسير وجه آخر هو أفضل وأشرف مما تقدم، وهو أن يكون المعنى أن تمنيهم في الجنة أن يسبحوا الله تعالى، أي تمنيهم لما يتمنونه، ليس إلا في تسبيح الله تعالى وتقديسه وتنزيهه. السابع: قال القفال أيضا: ويحتمل أن يكون المعنى في الدعوى ما كانوا يتداعونه في الدنيا في أوقات حروبهم ممن يسكنون
إليه ويستنصرونه، كقولهم: يا آل فلان، فأخبر الله تعالى أن أنسهم في الجنة بذكرهم الله تعالى، وسكونهم بتحميدهم الله. ولذتهم بتمجيدهم الله تعالى.
المسألة الثانية: أن قوله: * (سبحانك اللهم) * فيه وجهان:
الوجه الأول: قول من يقول: أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر علامة على طلب المشتهيات قال ابن جريج: إذا مر بهم طيرا اشتهوه؛ قالوا سبحانك اللهم فيؤتون به، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا: * (الحمد لله رب العالمين) * وقال الكلبي: قوله: * (سبحانك اللهم) * علم بين أهل الجنة والخدام، فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون. واعلم أن هذا القول عندي ضعيف جدا، وبيانه من وجوه: أحدها: أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر العالي المقدس علامة على طلب المأكول والمشروب والمنكوح، وهذا في غاية الخساسة. وثانيها: أنه تعالى قال في صفة أهل الجنة: * (ولهم ما يشتهون) * فإذا اشتهوا أكل ذلك الطير، فلا حاجة بهم إلى الطلب، وإذا لم يكن بهم حاجة إلى الطلب، فقد سقط هذا الكلام. وثالثها: أن هذا يقتضي صرف الكلام عن ظاهره الشريف العالي إلى محمل خسيس لا إشعار للفظ به، وهذا باطل.
الوجه الثاني: في تأويل هذه الآية أن نقول: المراد اشتغال أهل الجنة بتقديس الله سبحانه وتمجيده والثناء عليه، لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وابتهاجهم به وسرورهم به، وكمال حالهم لا يحصل إلا منه، وهذا القول هو الصحيح الذي لا محيد عنه. ثم على هذا التقدير ففي الآية وجوه:
44

أحدها: قال القاضي: إنه تعالى وعد المتقين بالثواب العظيم، كما ذكر في أول هذه السورة من قوله: * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) * (يونس: 4) فإذا دخل أهل الجنة الجنة، ووجدوا تلك النعم العظيمة، عرفوا أن الله تعالى كان صادقا في وعده إياهم بتلك النعم، فعند هذا قالوا: * (سبحانك اللهم) * أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول. وثانيها: أن نقول: غاية سعادة السعداء، ونهاية درجات الأنبياء والأولياء استسعادهم بمراتب معارف الجلال.
واعلم أن معرفة ذات الله تعالى والاطلاع على كنه حقيقته مما لا سبيل للخلق إليه، بل الغاية القصوى معرفة صفاته السلبية أو صفاته الإضافية. إما الصفات السلبية فهي المسماة بصفات الجلال، وأما الصفات الإضافية فهي المسماة بصفات الإكرام، فلذلك كان كمال الذكر العالي مقصورا عليها، كما قال سبحانه وتعالى: * (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) * (الرحمان: 78) وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " ولما كانت السلوب متقدمة بالرتبة على الإضافات، لا جرم كان ذكر الجلال متقدما على ذكر الإكرام في اللفظ. وإذا ثبت أن غاية سعادة السعداء ليس إلا في هذين المقامين، لا جرم ذكر الله سبحانه وتعالى كونهم مواظبين على هذا الذكر العالي المقدس، ولما كان لا نهاية لمعارج جلال الله ولا غاية لمدارج إلهيته وإكرامه وإحسانه، فكذلك لا نهاية لدرجات ترقي الأرواح المقدسة في هذه المقامات العلية الإلهية. وثالثها: أن الملائكة المقربين كانوا قبل تخليق آدم عليه السلام مشتغلين بهذا الذكر، ألا ترى أنهم قالوا: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * (البقرة: 30) فالحق سبحانه ألهم السعداء من أولاد آدم، حتى أتوا بهذا التسبيح والتحميد، ليدل ذلك على أن الذي أتى به الملائكة المقربون قبل خلق العالم من الذكر العالي، فهو بعينه أتى به السعداء من أولاد آدم عليه السلام، بعد انقراض العالم، ولما كان هذا الذكر مشتملا على هذا الشرف العالي، لا جرم جاءت الرواية بقراءته في أول الصلاة، فإن المصلي إذا كبر قال: " سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ".
المرتبة الثالثة: من مراتب سعادات أهل الجنة قوله تعالى: * (وتحيتهم فيها سلام) * قال المفسرون: تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام، وتحية الملائكة لهم بالسلام، كما قال تعالى: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) * (الرعد: 23) وتحية الله تعالى لهم أيضا بالسلام كما قال تعالى: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) قال الواحدي: وعلى هذا التقدير يكون هذا من إضافة المصدر إلى المفعول، وعندي فيه وجه آخر: وهو أن مواظبتهم على ذكر هذه الكلمة، مشعرة بأنهم كانوا في الدنيا في منزل الآفات وفي معرض المخافات، فإذا أخرجوا من الدنيا ووصلوا إلى كرامة الله تعالى، فقد صاروا سالمين
45

من الآفات، آمنين من المخافات والنقصانات. وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يذكرون هذا المعنى في قوله: * (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) * (فاطر: 34، 35).
المرتبة الرابعة: من مراتب سعاداتهم قوله سبحانه وتعالى: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا هذه الكلمات العالية المقدسة على أحوال أهل الجنة بسبب الأكل والشرب. فقالوا: إن أهل الجنة إذا اشتهوا شيئا قالوا: سبحانك اللهم وبحمدك، وإذا أكلوا وفرغوا. قالوا: الحمد لله رب العالمين، وهذا القائل ما ترقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب، وحقيق لمثل هذا الإنسان أن يعد في زمرة البهائم. وأما المحقون المحققون، فقد تركوا ذلك، ولهم فيه أقوال. روى الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون أنفاسكم " وقال الزجاج: أعلم الله تعالى أن أهل الجنة يفتتحون بتعظيم الله تعالى وتنزيهه. ويختتمون بشكره والثناء عليه، وأقول: عندي في هذا الباب وجوه أخر: فأحدها: أن أهل الجنة لما استسعدوا بذكر سبحانك اللهم وبحمدك، وعاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء. فقالوا: * (الحمد لله رب العالمين) * وإنما وقع الختم على هذا الكلام لأن اشتغالهم بتسبيح الله تعالى وتمجيده من أعظم نعم الله تعالى عليهم. والاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة، فلهذا السبب وقع الختم على هذه الكلمة، وثانيها: أن لكل إنسان بحسب قوته معراجا، فتارة ينزل عن ذلك المعراج، وتارة يصعد إليه. ومعراج العارفين الصادقين، معرفة الله تعالى وتسبيح الله وتحميد الله، فإذا قالوا: * (سبحانك اللهم) * فهم في عين المعراج، وإذا نزلوا منه إلى عالم المخلوقات. كان الحاصل عند ذلك النزول إفاضة الخير على جميع المحتاجين وإليه الإشارة بقوله: * (وتحيتهم فيها سلام) * ثم أنه مرة أخرى يصعد إلى معراجه، وعند الصعود يقول: * (الحمد
لله رب العالمين) * فهذه الكلمات العالية إشارة إلى اختلاف أحوال العبد بسبب النزول والعروج. وثالثها: أن نقول: إن قولنا الله اسم لذات الحق سبحانه، فتارة ينظر العبد إلى صفات الجلال، وهي المشار إليها بقوله: * (سبحانك) * ثم يحاول الترقي منها إلى حضرة جلال الذات، ترقيا يليق بالطاقة البشرية، وهي المشار إليها بقوله: * (اللهم) * فإذا عرج عن ذلك المكان. واخترق في أوائل تلك الأنوار رجع إلى عالم الإكرام، وهو
46

المشار إليه بقوله: * (الحمد لله رب العالمين) * فهذه كلمات خطرت بالبال ودارت في الخيال، فإن حقت فالتوفيق من الله تعالى، وإن لم يكن كذلك فالتكلان على رحمة الله تعالى.
المسألة الثانية: قال الواحدي: * (أن) * في قوله: * (أن الحمد لله) * هي المخففة من الشديدة، فلذلك لم تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله: أن هالك كل من يخفى وينتعل على معنى أنه هالك. وقال صاحب " النظم " * (أن) * ههنا زائدة، والتقدير: وآخر دعواهم الحمد لله رب العالمين، وهذا القول ليس بشيء، وقرأ بعضهم * (أن) * الحمد لله بالتشديد، ونصب الحمد.
قوله تعالى
* (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقآءنا فى طغيانهم يعمهون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن الذي يغلب على ظني أن ابتداء هذه السورة في ذكر شبهات المنكرين للنبوة مع الجواب عنها.
فالشبهة الأولى: أن القوم تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمدا عليه السلام بالنبوة فأزال الله تعالى ذلك التعجب بقوله: * (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم) * (يونس: 2) ثم ذكر دلائل التوحيد ودلائل صحة المعاد، وحاصل الجواب أنه يقول: إني ما جئتكم إلا بالتوحيد والإقرار بالمعاد، وقد دللت على صحتها، فلم يبق للتعجب من نبوتي معنى.
والشبهة الثانية: للقوم أنهم كانوا أبدا يقولون: اللهم إن كان ما يقول: محمد حقا في ادعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بما ذكره في هذه الآية. فهذا هو الكلام في كيفية النظم. ومن الناس من ذكر فيه وجوها أخرى: فالأول: قال القاضي: لما بين تعالى فيما تقدم الوعد والوعيد أتبعه بما دل على أن من حقهما أن يتأخرا عن هذه الحياة الدنيوية لأن حصولهما في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف. والثاني: ما ذكره القفال: وهو أنه تعالى لما وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا
47

واطمأنوا بها، وكانوا عن آيات الله غافلين؛ بين أن من غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلا منهم وسفها.
المسألة الثانية: أنه تعالى أخبر في آيات كثيرة أن هؤلاء المشركين متى خوفوا بنزول العذاب في الدنيا استعجلوا ذلك العذاب كما قالوا: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) * (الأنفال: 32) وقال تعالى: * (سأل سائل بعذاب واقع) * (المعارج: 1) الآية. ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية وهو قوله: * (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) * (يونس: 8) استعجلوا ذلك العذاب، وقالوا: متى يحصل ذلك كما قال تعالى: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) * (الشورى: 18) وقال في هذه السورة بعد هذه الآية: * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * (الأنبياء: 38) إلى قوله: * (آلآن وقد كنتم به تستعجلون) * (يونس: 51) وقال في سورة الرعد: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات) * (الرعد: 6) فبين تعالى أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم، لأنه تعالى لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنوا بعد ذلك، وربما خرج من صلبهم من كان مؤمنا، وذلك يقتضي أن لا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر.
المسألة الثالثة: في لفظ الآية إشكال، وهو أن يقال: كيف قابل التعجل بالاستعجال، وكان الواجب أن يقابل التعجيل بالتعجيل، والاستعجال بالاستعجال.
والجواب عنه من وجوه: الأول: قال صاحب " الكشاف ": أصل هذا الكلام، ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير إلا أنه وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعارا بسرعة إجابته وإسعافه بطلبهم، حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم. الثاني: قال بعضهم حقيقة قولك عجلت فلانا طلبت عجلته، وكذلك عجلت الأمر إذا أتيت به عاجلا، كأنك طلبت فيه العجلة والاستعجال أشهر وأظهر في هذا المعنى، وعلى هذا الوجه يصير معنى الآية لو أراد الله عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم لقضى إليهم أجلهم، قال صاحب هذا الوجه، وعلى هذا التقدير: فلا حاجة إلى العدول عن ظاهر الآية. الثالث: أن كل من عجل شيئا فقد طلب تعجيله، وإذا كان كذلك، فكل من كان معجلا كان مستعجلا، فيصير التقدير، ولو استعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها، لأن اللائق به تعالى هو التكوين واللائق بهم هو الطلب.
المسألة الرابعة: أنه تعالى سمى العذاب شرا في هذه الآية، لأن أذى في حق المعاقب ومكروه عنده كما أنه سماه سيئة في قوله: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) * (الرعد: 6) وفي قوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40).
48

المسألة الخامسة: قرأ ابن عامر * (لقضى) * بفتح اللام والقاف * (أجلهم) * بالنصب، يعني لقضى الله، وينصره قراءة عبد الله * (لقضينا إليهم أجلهم) * وقرأ الباقون بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء * (أجلهم) * بالرفع على ما لم يسم فاعله.
المسألة السادسة: المراد من استعجال هؤلاء المشركين الخير هو أنهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله تعالى بكشفها، وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك في آيات كثيرة
كقوله: * (ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) * (النمل: 53) وقوله: * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا) * (يونس: 12).
المسألة السابعة: لسائل أن يسأل فيقول: كيف اتصل قوله: * (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) * (يونس: 11) بما قبله وما معناه؟
وجوابه أن قوله: * (ولو يعجل الله للناس) * متضمن معنى نفي التعجيل، كأنه قيل: ولا يعجل لهم الشر، ولا يقضي إليهم أجلهم فيذرهم في طغيانهم أي فيمهلهم مع طغيانهم إلزاما للحجة.
المسألة الثامنة: قال أصحابنا: إنه تعالى لما حكم عليهم بالطغيان والعمه امتنع أن لا يكونوا كذلك. وإلا لزم أن ينقلب خبر الله الصدق كذبا وعلمه جهله وحكمه باطلا، وكل ذلك محال، ثم إنه مع هذا كلفهم وذلك يكون جاريا مجرى التكليف بالجمع بين الضدين.
قوله تعالى
* (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه كذالك زين للمسرفين ما كانوا يعملون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجهان: الأول: أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك ولقضى عليه، فبين في هذه الآية ما يدل على غاية ضعفه ونهاية عجزه، ليكون ذلك مؤكدا لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات. الثاني: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب، ثم بين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال، لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه، فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه
49

وفي دفعه عنه وذلك يدل على أنه ليس صادقا في هذا الطلب.
المسألة الثانية: المقصود من هذه الآية، بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء، قليل الشكر عند وجدان النعماء والآلاء، فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعا أو قائما أو قاعدا مجتهدا في ذلك الدعاء طالبا من الله تعالى إزالة تلك المحنة، وتبديلها بالنعمة والمنحة، فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر، ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره، وذلك يدل على ضعف طبيعة الإنسان وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه، وإنما ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على أن هذه الطريقة مذمومة، بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابرا عند نزول البلاء شاكرا عند الفوز بالنعماء، ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية. حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء ".
واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة، وجب عليه رعاية أمور: فأولها: أن يكون راضيا بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه. وإنما وجب عليه ذلك لأنه تعالى مالك على الإطلاق وملك بالاستحقاق. فله أن يفعل في ملكه وملكه ما شاء كما يشاء، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق وهو منزه عن فعل الباطل والعبث، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب، وإذا كان كذلك فحينئذ يعلم أنه تعالى إن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل، وإن أزالها عنه فهو فضل، وحينئذ يجب عليه الصبر والسكوت وترك القلق والاضطراب. وثانيها: أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى والثناء عليه بدلا عن الدعاء كان أفضل، لقوله عليه السلام حكاية عن رب العزة " من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " ولأن الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق، والاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس، ولا شك أن الأول أفضل، ثم إن اشتغل بالدعاء وجب أن يشترط فيه أن يكون إزالته صلاحا في الدين، وبالجملة فإنه يجب أن يكون الدين راجحا عنده على الدنيا. وثالثها: أنه سبحانه إذا أزال عنه تلك البلية فإنه يجب عليه أن يبالغ في الشكر وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء، وأحوال الشدة والرخاء، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء. وههنا مقام آخر أعلى وأفضل مما ذكرناه، وهو أن أهل التحقيق قالوا: إن من كان في وقت وجدان النعمة مشغولا بالنعمة لا بالمنعم كان عند البلية مشغولا بالبلاء لا بالمبلى، ومثل هذا الشخص يكون أبدا في البلاء، أما في وقت البلاء فلا شك أنه يكون في البلاء، وأما في وقت حصول النعماء فإن خوفه من
50

زوالها يكون أشد أنواع البلاء، فإن النعمة كلما كانت أكمل وألذ وأقوى وأفضل، كان خوف زوالها أشد إيذاء وأقوى إيحاشا، فثبت أن من كان مشغولا بالنعمة كان أبدا في لجة البلية. أما من كان في وقت النعمة مشغولا بالمنعم، لزم أن يكون في وقت البلاء مشغولا بالمبلي. وإذا كان المنعم والمبلي واحدا، كان نظره أبدا على مطلوب واحد، وكان مطلوبه منزها عن التغير مقدسا عن التبدل ومن كان كذلك كان في وقت البلاء وفي وقت النعماء، غرقا في بحر السعادات، واصلا إلى أقصى الكمالات، وهذا النوع من البيان بحر لا ساحل له، ومن أراد أن يصل إليه فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر. المسألة الثالثة: اختلفوا في * (الإنسان) * في قوله: * (وإذا مس الإنسان الضر) * فقال بعضهم: إنه الكافر، ومنهم من بالغ وقال: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان، فالمراد هو الكافر، وهذا باطل، لأن قوله: * (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه) * (الانشقاق: 6، 7) لا شبهة في أن المؤمن داخل فيه، وكذلك قوله: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) * (الدهر: 1) وقوله: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنون: 12) وقوله: * (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) * (ق: 16) فالذي قالوه بعيد، بل الحق أن نقول: اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام حكمه أنه إذا حصل هناك معهود سابق انصرف إليه، وإن لم يحصل هناك معهود سابق وجب حمله على الاستغراق صونا له عن الإجمال والتعطيل. ولفظ * (الإنسان) * ههنا لائق بالكافر، لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة.
المسألة الرابعة: في قوله: * (دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) * وجهان:
الوجه الأول: أن المراد منه ذكر أحوال الدعاء فقوله: * (لجنبه) * في موضع الحال بدليل عطف الحالين عليه، والتقدير: دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما.
فإن قالوا: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟
قلنا: معناه: إن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء إلى أن يزول عنه الضر، سواء كان مضطجعا أو قاعدا أو قائما.
والوجه الثاني: أن تكون هذه الأحوال الثلاثة تعديدا لأحوال الضر، والتقدير: وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعدا أو قائما دعانا وهو قول الزجاج. والأول: أصح، لأن ذكر الدعاء أقرب إلى هذه الأحوال من ذكر الضر، ولأن القول بأن هذه الأحوال أحوال للدعاء يقتضي مبالغة الإنسان في الدعاء، ثم إذا ترك الدعاء بالكلية وأعرض عنه كان ذلك أعجب.
المسألة الخامسة: في قوله: * (مر) * وجوه: الأول: المراد منه أنه مضى على طريقته الأولى
51

قبل مس الضر ونسي حال الجهد. الثاني: مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به.
المسألة السادسة: قوله تعالى: * (كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) * تقديره: كأنه لم يدعنا، ثم أسقط الضمير عنه على سبيل التخفيف ونظيره قوله تعالى: * (كأن لم يلبثوا) * (يونس: 45) قال الحسن: نسي ما دعا الله فيه، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه:
المسألة السابعة: قال صاحب " النظم ": قوله: * (وإذا مس الإنسان) * * (إذا) * موضوعة للمستقبل.
ثم قال: * (فلما كشفنا) * وهذا للماضي، فهذا النظم يدل على أن معنى الآية أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل. فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي، وأقول البرهان العقلي مساعد على هذا المعنى وذلك لأن الإنسان جبل على الضعف والعجز وقلة الصبر، وجبل أيضا على الغرور والبطر والنسيان والتمرد والعتو، فإذا نزل به البلاء حمله ضعفه وعجزه على كثرة الدعاء والتضرع، وإظهار الخضوع والانقياد، وإذا زال البلاء ووقع في الراحة استولى عليه النسيان فنسي إحسان الله تعالى إليه، ووقع في البغي والطغيان والجحود والكفران. فهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته، وبالجملة فهؤلاء المساكين معذورون ولا عذر لهم.
المسألة الثامنة: في قوله تعالى: * (كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون) * أبحاث:
البحث الأول: أن هذا المزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان، فرع على مسألة الجبر والقدر وهو معلوم.
البحث الثاني: في بيان السبب الذي لأجله سمى الله سبحانه الكافر مسرفا. وفيه وجوه:
الوجه الأول: قال أبو بكر الأصم: الكافر مسرف في نفسه وفي ماله ومضيع لهما، أما في النفس فلأنه جعلها عبدا للوثن، وأما في المال فلأنهم كانوا يضيعون أموالهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
الوجه الثاني: قال القاضي: إن من كانت عادته أن يكون عند نزول البلاء كثير التضرع والدعاء، وعند زوال البلاء ونزول الآلاء معرضا عن ذكر الله متغافلا عنه غير مشتغل بشكره، كان مسرفا في أمر دينه متجاوزا للحد في الغفلة عنه، ولا شبهة في أن المرء كما يكون مسرفا في الإنفاق فكذلك يكون مسرفا فيما يتركه من واجب أو يقدم عليه من قبيح، إذا تجاوز الحد فيه.
الوجه الثالث: وهو الذي خطر بالبال في هذا الوقت، أن المسرف هو الذي ينفق المال
52

الكثير لأجل الغرض الخسيس، ومعلوم أن لذات الدنيا وطيباتها خسيسة جدا في مقابلة سعادات الدار الآخرة. والله تعالى أعطاه الحواس والعقل والفهم والقدرة لاكتساب تلك السعادات العظيمة، فمن بذل هذه الآلات الشريفة لأجل أن يفوز بهذه السعادات الجسمانية الخسيسة، كان قد أنفق أشياء عظيمة كثيرة، لأجل أن يفوز بأشياء حقيرة خسيسة، فوجب أن يكون من المسرفين.
البحث الثالث: الكاف في قوله تعالى: * (كذلك) * للتشبيه. والمعنى: كما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح المنكر زين للمسرفين ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات.
قوله تعالى
* (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجآءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذالك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف فى الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في بيان كيفية النظم. اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم كانوا يقولون: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) * (الأنفال: 32) ثم إنه أجاب عنه بأن ذكر أنه لا صلاح في إجابة دعائهم، ثم بين أنهم كاذبون في هذا الطلب لأنه لو نزلت بهم آفة أخذوا في التضرع إلى الله تعالى في إزالتها والكشف لها، بين في هذه الآية ما يجري مجرى التهديد، وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم، والغرض منه أن يكون ذلك رادعا لهم عن قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، لأنهم متى سمعوا أن الله تعالى قد يجيب دعاءهم وينزل عليهم عذاب الاستئصال، ثم سمعوا من اليهود والنصارى أن ذلك قد وقع مرارا كثيرة. صار ذلك رادعا لهم وزاجرا عن ذكر ذلك الكلام، فهذا وجه حسن مقبول في كيفية النظم.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف " * (لما) * ظرف لأهلكنا، والواو في قوله: * (وجاءتهم) * للحال، أي ظلموا بالتكذيب. وقد جاءتهم رسلهم بالدلائل والشواهد على صدقهم وهي المعجزات،
53

وقوله: * (وما كانوا ليؤمنوا) * يجوز أن يكون عطفا على ظلموا، وأن يكون اعتراضا، واللام لتأكيد النفي، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر وهذا يدل على أنه تعالى إنما أهلكهم لأجل تكذيبهم الرسل، فكذلك يجزى كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله، وقرئ * (يجزي) * بالياء وقوله: * (ثم جعلناكم خلائف) * الخطاب للذين بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناهم، لننظر كيف تعملون، خيرا أو شرا، فنعاملكم على حسب عملكم. بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: كيف جاز النظر إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟
والجواب: أنه استعير لفظ النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق الشك إليه، وشبه هذا العلم بنظر الناظر وعيان المعاين.
السؤال الثاني: قوله: * (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) * مشعر بأن الله تعالى ما كان عالما بأحوالهم قبل وجودهم.
والجواب: المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم، ليجازيهم بحسبه كقوله: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * (هود: 7) وقد مر نظائر هذا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون " وقال قتادة: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرا، بالليل والنهار.
المسألة الثالثة: قال الزجاج: موضع * (كيف) * نصب بقوله: * (تعملون) * لأنها حرف، لاستفهام والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ولو قلت: لننظر خيرا تعملون أم شرا، كان العالم في خير وشر تعملون.
قوله تعالى
* (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان غير هذآ أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *.
فيه مسائل:
54

المسألة الأولى: اعلم أن هذا الكلام هو النوع الثالث من شبهاتهم وكلماتهم التي ذكروها في الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، حكاها الله تعالى في كتابه وأجاب عنها.
واعلم أن من وقف على هذا الترتيب الذي نذكره، علم أن القرآن مرتب على أحسن الوجوه.
المسألة الثانية: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن. الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن حنظلة، فقتل الله كل رجل منهم بطريق آخر، كما قال: * (إنا كفيناك المستهزئين) * (الحجر: 95) فذكر الله تعالى أنهم كلما تلي عليهم آيات: * (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) * وفيه بحثان:
البحث الأول: أن وصفهم بأنهم لا يرجون لقاء الله أريد به كونهم مكذبين بالحشر والنشر، منكرين للبعث والقيامة، ثم في تقرير حسن هذه الاستعارة وجوه: الأول: قال الأصم: * (لا يرجون لقاءنا) * أي لا يرجون في لقائنا خيرا على طاعة، فهم من السيئات أبعد أن يخافوها. الثاني: قال القاضي: الرجاء لا يستعمل إلا في المنافع، لكنه قد يدل على المضار من بعض الوجوه، لأن من لا يرجو لقاء ما وعد ربه من الثواب، وهو القصد بالتكليف، لا يخاف أيضا ما يوعده به من العقاب، فصار ذلك كناية عن جحدهم للبعث والنشور.
واعلم أن كلام القاضي قريب من كلام الأصم، إلا أن البيان التام أن يقال: كل من كان مؤمنا بالبعث والنشور فإنه لا بد وأن يكون راجيا ثواب الله وخائفا من عقابه، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم، فلزم من نفي الرجاء نفي الإيمان بالبعث. فهذا هو الوجه في حسن هذه الاستعارة.
البحث الثاني: أنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أمرين على البدل: فالأول: أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن. والثاني: أن يبدل هذا القرآن وفيه إشكال، لأنه إذا بدل هذا القرآن بغيره، فقد أتى بقرآن غير هذا القرآن، وإذا كان كذلك كان كل واحد منهما شيئا واحدا. وأيضا مما يدل على أن كل واحد منهما هو عين الآخر أنه عليه الصلاة والسلام اقتصر في الجواب على نفي أحدهما، وهو قوله: * (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) * وإذا ثبت أن كل واحد من هذين الأمرين هو نفس الآخر، كان إلقاء اللفظ على الترديد والتخيير فيه باطلا.
والجواب: أن أحد الأمرين غير الآخر، فالإتيان بكتاب آخر، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه، يكون إتيانا بقرآن آخر، وأما إذا أتى بهذا القرآن إلا أنه وضع مكان ذم بعض الأشياء مدحها، ومكان آية رحمة آية عذاب، كان هذا تبديلا، أو نقول: الإتيان بقرآن غير هذا هو أن
55

يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب. مع كون هذا الكتاب باقيا بحاله، والتبديل هو أن يغير هذا الكتاب. وأما قوله: إنه اكتفى في الجواب على نفي أحد القسمين.
قلنا: الجواب المذكور عن أحد القسمين هو عين الجواب عن القسم الثاني. وإذا كان كذلك وقع الاكتفاء بذكر أحدهما عن ذكر الثاني. وإنما قلنا: الجواب عن أحد القسمين عين الجواب عن الثاني لوجهين: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام لما بين أنه لا يجوز أن يبدله من تلقاء نفسه، لأنه وارد من الله تعالى ولا يقدر على مثله،
كما لا يقدر سائر العرب على مثله، فكان ذلك متقررا في نفوسهم بسبب ما تقدم من تحديه لهم بمثل هذا القرآن، فقد دلهم بذلك على أنه لا يتمكن من قرآن غير هذا. والثاني: أن التبديل أقرب إلى الإمكان من المجيء بقرآن غير هذا القرآن، فجوابه عن الأسهل يكون جوابا عن الأصعب، ومن الناس من قال: لا فرق بين الإتيان بقرآن غير هذا القرآن وبين تبديل هذا القرآن، وجعل قوله: * (ما يكون لي أن أبدله) * جوابا عن الأمرين، إلا أنه ضعيف على ما بيناه.
المسألة الثالثة: اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء، مثل أن يقولوا: إنك لو جئتنا بقرآن آخر غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك، وغرضهم من هذا الكلام السخرية والتطير. والثاني: أن يكونوا قالوه على سبيل الجد، وذلك أيضا يحتمل وجوها: أحدها: أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان، حتى أنه إن فعل ذلك، علموا أنه كان كذابا في قوله: إن هذا القرآن نزل عليه من عند الله. وثانيها: أن يكون المقصود من هذا الالتماس أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم والطعن في طرائقهم، وهم كانوا يتأذون منها، فالتمسوا كتابا آخر ليس فيه ذلك. وثالثها: أن بتقدير أن يكونوا قد جوزوا كون هذا القرآن من عند الله، التمسوا منه أن يلتمس من الله نسخ هذا القرآن وتبديله بقرآن آخر. وهذا الوجه أبعد الوجوه.
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك أمره الله تعالى أن يقول: إن هذا التبديل غير جائز مني * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * ثم بين تعالى أنه بمنزلة غيره في أنه متوعد بالعذاب العظيم إن عصى. ويتفرع على هذه الآية فروع:
الفرع الأول: أن قوله: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * معناه: لا أتبع إلا ما يوحى إلي، فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالوحي، وهذا يدل على أنه لم يحكم قط بالاجتهاد.
الفرع الثاني: تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: دل هذا النص على أنه عليه الصلاة
56

والسلام ما حكم إلا بالنص. فوجب أن يجب على جميع الأمة أن لا يحكموا إلا بمقتضى النص لقوله تعالى: * (واتبعوه) *.
الفرع الثالث: نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن ذلك منسوخ بقوله: * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * (الفتح: 2) وهذا بعيد لأن النسخ إنما يدخل في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية.
الفرع الرابع: قالت المعتزلة: إن قوله: * (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) * مشروط بما يكون واقعا بلا توبة ولا طاعة أعظم منها، ونحن نقول فيه تخصيص ثالث. وهو أن لا يعفو عنه ابتداء، لأن عندنا يجوز من الله تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر.
قوله تعالى
* (قل لو شآء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنا بينا فيما سلف، أن القوم إنما التمسوا منه ذلك الالتماس، لأجل أنهم اتهموه بأنه هو الذي يأتي بهذا الكتاب من عند نفسه، على سبيل الاختلاق والافتعال، لا على سبيل كونه وحيا من عند الله. فلهذا المعنى احتج النبي عليه الصلاة والسلام على فساد هذا الوهم بما ذكره الله تعالى في هذه الآية. وتقريره أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتابا ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين. وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى، فقوله: * (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) * حكم منه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن وحي من عند الله تعالى، لا من اختلاقي ولا من افتعالي. وقوله: * (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله) * إشارة إلى الدليل الذي قررناه، وقوله: * (أفلا تعقلون) * يعني أن مثل
57

هذا الكتاب العظيم إذا جاء على يد من لم يتعلم ولم يتلمذ ولم يطالع كتابا ولم يمارس مجادلة، يعلم بالضرورة أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي والتنزيل. وإنكار العلوم الضرورية يقدح في صحة العقل. فلهذا السبب قال: * (أفلا تعقلون) *.
المسألة الثانية: قوله: * (ولا أدراكم به) * هو من الدراية بمعنى العلم. قال سيبويه: يقال دريته ودريت به، والأكثر هو الاستعمال بالباء. والدليل عليه قوله تعالى: * (ولا أدراكم به) * ولو كان على اللغة الأخرى لقال ولا أدراكموه.
إذا عرفت هذا فنقول: معنى * (ولا أدراكم به) * أي ولا أعلمكم الله به ولا أخبركم به. قال صاحب " الكشاف ": قرأ الحسن * (ولا أدرأكم به) * على لغة من يقول أعطأته وأرضأته في معنى أعطيته وأرضيته ويعضده قراءة ابن عباس * (ولا أنذرتكم به) * ورواه الفراء * (ولا أدرأتكم) * به بالهمز، والوجه فيه أن يكون من أدرأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته داريا، والمعنى: ولا أجعلكم بتلاوته خصماء تدرؤنني بالجدال وتكذبونني، وعن ابن كثير * (ولأدرأكم) * بلام الابتداء لإثبات الإدراء.
وأما قوله تعالى: * (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله) * فالقراءة المشهورة بضم الميم، وقرئ * (عمرا) * بسكون الميم.
قوله تعالى
* (فمن أظلم ممن فترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون) *.
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر، وذلك لأنهم التمسوا منه قرآنا يذكره من عند نفسه، ونسبوه إلى أنه إنما يأتي بهذا القرآن من عند نفسه، ثم إنه أقام البرهان القاهر الظاهر على أن ذلك باطل، وأن هذا القرآن ليس إلا بوحي الله تعالى وتنزيله، فعند هذا قال: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * والمراد أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله، لما كان في الدنيا أحد أظلم على نفسه مني، حيث افتريته على الله، ولما أقمت الدلالة على أنه ليس الأمر كذلك، بل هو بوحي من الله تعالى وجب أن يقال إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه منكم، لأنه لما ظهر بالبرهان المذكور كونه من عند الله، فإذا أنكرتموه كنتم قد كذبتم بآيات الله. فوجب أن تكونوا أظلم الناس. والحاصل أن قوله: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * المقصود منه نفي الكذب عن نفسه وقوله:
58

* (أو كذب بآياته) * المقصود منه إلحاق الوعيد الشديد بهم حيث أنكروا دلائل الله، وكذبوا بآيات الله تعالى.
وأما قوله: * (إنه لا يفلح المجرمون) * فهو تأكيد لما سبق من هذين الكلامين. والله أعلم.
قوله تعالى
* (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم فى السماوات ولا فى الارض سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
اعلم أنا ذكرنا أن القوم إنما التمسوا من الرسول صلى الله عليه وسلم قرآنا غير هذا القرآن أو تبديل، هذا القرآن لأن هذا القرآن مشتمل على شتم الأصنام التي جعلوها آلهة لأنفسهم، فلهذا السبب ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما يدل على قبح عبادة الأصنام، ليبين أن تحقيرها والاستخفاف بها أمر حق وطريق متيقن.
واعلم أنه تعالى حكى عنهم أمرين: أحدهما: أنهم كانوا يعبدون الأصنام. والثاني: أنهم كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. أما الأول فقد نبه الله تعالى على فساده بقوله: * (ما لا يضرهم ولا ينفعهم) * وتقريره من وجوه: الأول: قال الزجاج: لا يضرهم إن لم يعبدوه ولا ينفعهم إن عبدوه. الثاني: أن المعبود لا بد وأن يكون أكمل قدرة من العابد، وهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر البتة، وأما هؤلاء الكفار فهم قادرون على التصرف في هذه الأصنام تارة بالإصلاح وأخرى بالإفساد، وإذا كان العابد أكمل حالا من المعبود كانت العبادة باطلة. الثالث: أن العبادة أعظم أنواع التعظيم، فهي لا تليق إلا بمن صدر عنه أعظم أنواع الأنعام، وذلك ليس إلا الحياة والعقل والقدرة ومصالح المعاش والمعاد، فإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله سبحانه وتعالى، وجب أن لا تليق العبادة إلا بالله سبحانه. وأما النوع الثاني: ما حكاه الله تعالى عنهم في هذه الآية، وهو قولهم: * (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * فاعلم أن من الناس من قال إن أولئك الكفار توهموا أن عبادة الأصنام أشد في تعظيم الله من عبادة الله سبحانه وتعالى. فقالوا ليست لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى بل نحن نشتغل
59

بعبادة هذه الأصنام، وأنها تكون شفعاء لنا عند الله تعالى. ثم اختلفوا في أنهم كيف قالوا في الأصنام إنها شفعاؤنا عند الله؟ وذكروا فيه أقوالا كثيرة: فأحدها: أنهم اعتقدوا أن المتولي لكل أقليم من أقاليم العالم، روح معين من أرواح عالم الأفلاك، فعينوا لذلك الروح صنما معينا واشتغلوا بعبادة ذلك الصنم، ومقصودهم عبادة ذلك الروح، ثم اعتقدوا أن ذلك الروح يكون عبدا للإله الأعظم ومشتغلا بعبوديته. وثانيها: أنهم كانوا يعبدون الكواكب وزعموا أن الكواكب هي التي لها أهلية عبودية الله تعالى، ثم لما رأوا أن الكواكب تطلع وتغرب وضعوا لها أصناما معينة واشتغلوا بعبادتها، ومقصودهم توجيه العبادة إلى الكواكب. وثالثها: أنهم وضعوا طلسمات معينة على تلك الأصنام والأوثان، ثم تقربوا إليها كما يفعله أصحاب الطلسمات. ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل، فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى، ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله. وخامسها: أنهم اعتقدوا أن الإله نور عظيم، وأن الملائكة أنوار فوضعوا على صورة الإله الأكبر الصنم الأكبر، وعلى صورة الملائكة صورا أخرى. وسادسها: لعل القوم حلولية، وجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام العالية الشريفة.
واعلم أن كل هذه الوجوه باطلة بالدليل الذي ذكره الله تعالى وهو قوله: * (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) * وتقريره ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة.
قوله تعالى: * (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
اعلم أن المفسرين قرروا وجها واحدا، وهو أن المراد من نفي علم الله تعالى بذلك تقرير نفيه في نفسه، وبيان أن لا وجود له البتة، وذلك لأنه لو كان موجودا لكان معلوما لله تعالى، وحيث لم يكن معلوما لله تعالى وجب أن لا يكون موجودا، ومثل هذا الكلام مشهور في العرف، فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول: ما علم الله هذا مني، ومقصوده أنه ما حصل ذلك قط، وقرئ * (أتنبئون) * بالتخفيف أما قوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * فالمقصود تنزيه الله تعالى نفسه عن ذلك الشرك، قرأ حمزة والكسائي * (تشركون) * بالتاء، ومثله في أول النحل في موضعين، وفي الروم كلها بالتاء على الخطاب، قال صاحب " الكشاف " " ما " موصولة أو مصدرية أي عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم، قال الواحدي: من قرأ بالتاء فلقوله: * (أتنبئون الله) * ومن قرأ بالياء
60

فكأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم قل أنت * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * ويجوز أن يكون الله سبحانه هو الذي نزه نفسه عما قالوه فقال: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
قوله تعالى
* (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) *.
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام، بين السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد، والمقالة الباطلة، فقال: * (وما كان الناس إلا
أمة واحدة) * واعلم أن ظاهر قوله: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة لا يدل على أنهم أمة واحدة) * فيماذا؟ وفيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنهم كانوا جميعا على الدين الحق، وهو دين الإسلام، واحتجوا عليه بأمور: الأول: أن المقصود من هذه الآيات بيان كون الكفر باطلا، وتزييف طريق عبادة الأصنام، وتقرير أن الإسلام هو الدين الفاضل، فوجب أن يكون المراد من قوله: * (كان الناس أمة واحدة) * هو أنهم كانوا أمة واحدة، إما في الإسلام وإما في الكفر، ولا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر. فبقي أنهم كانوا أمة واحدة في الإسلام، إنما قلنا إنه لا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر لوجوه: الأول: قوله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) * (النساء: 41) وشهيد الله لا بد وأن يكون مؤمنا عدلا. فثبت أنه ما خلت أمة من الأمم إلا وفيهم مؤمن. الثاني: أن الأحاديث وردت بأن الأرض لا تخلو عمن يعبد الله تعالى، وعن أقوام بهم يمطر أهل الأرض وبهم يرزقون. الثالث: أنه لما كانت الحكمة الأصلية في الخلق هو العبودية، فيبعد خلو أهل الأرض بالكلية عن هذا المقصود. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقية من أهل الكتاب " وهذا يدل على قوم تمسكوا بالإيمان قبل مجيء الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر؟ وإذا ثبت أن الناس كانوا أمة واحدة إما في الكفر وإما في الإيمان، وأنهم ما كانوا أمة واحدة في الكفر، ثبت أنهم كانوا أمة واحدة في الإيمان، ثم اختلف القائلون بهذا القول أنهم متى كانوا كذلك؟ فقال ابن عباس ومجاهد كانوا على دين الإسلام في عهد آدم وفي عهد ولده، واختلفوا عند
61

قتل أحد ابنيه الابن الثاني، وقال قوم: إنهم بقوا على دين الإسلام إلى زمن نوح، وكانوا عشرة قرون. ثم اختلفوا على عهد نوح. فبعث الله تعالى إليهم نوحا. وقال آخرون: كانوا على دين الإسلام في زمن نوح بعد الغرق، إلى أن ظهر الكفر فيهم. وقال آخرون: كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي، وهذا القائل قال: المراد من الناس في قوله تعالى: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة) * فاختلفوا العرب خاصة.
إذا عرفت تفصيل هذا القول فنقول: إنه تعالى لما بين فيما قبل فساد القول بعبادة الأصنام بالدليل الذي قررناه، بين في هذه الآية أن هذا المذهب ليس مذهبا للعرب من أول الأمر، بل كانوا على دين الإسلام، ونفي عبادة الأصنام. ثم حذف هذا المذهب الفاسد فيهم، والغرض منه أن العرب إذا علموا أن هذا المذهب ما كان أصليا فيهم، وأنه إنما حدث بعد أن لم يكن، لم يتعصبوا لنصرته، ولم يتأذوا من تزييف هذا المذهب، ولم تنفر طباعهم من إبطاله. ومما يقوي هذا القول وجهان: الأول: أنه تعالى قال: * (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * (يونس: 18) ثم بالغ في إبطاله بالدليل. ثم قال عقيبه: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة) * فلو كان المراد منه بيان أن هذا الكفر كان حاصلا فيهم من الزمان القديم، لم يصح جعل هذا الكلام دليلا على إبطال تلك المقالة. أما لو حملناه على أن الناس في أول الأمر كانوا مسلمين، وهذا الكفر إنما حدث فيهم من زمان، أمكن التوسل به إلى تزييف اعتقاد الكفار في هذه المقالة، وفي تقبيح صورتها عندهم، فوجب حمل اللفظ عليه تحصيلا لهذا الغرض. الثاني: أنه تعالى قال: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم) * ولا شك أن هذا وعيد، وصرف هذا الوعيد إلى أقرب الأشياء المذكورة أولى، والأقرب هو ذكر الاختلاف، فوجب صرف هذا الوعيد إلى هذا الاختلاف، لا إلى ما سبق من كون الناس أمة واحدة، وإذا كان كذلك، وجب أن يقال: كانوا أمة واحدة في الإسلام لا في الكفر، لأنهم لو كانوا أمة واحدة في الكفر لكان اختلافهم بسبب الإيمان، ولا يجوز أن يكون الاختلاف الحاصل بسبب الإيمان سببا لحصول الوعيد. أما لو كانوا أمة واحدة في الإيمان لكان اختلافهم بسبب الكفر، وحينئذ يصح جعل ذلك الاختلاف سببا للوعيد.
القول الثاني: قول من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الكفر، وهذا القول منقول عن طائفة من المفسرين. قالوا: وعلى هذا التقدير ففائدة هذا الكلام في هذا المقام هي أنه تعالى بين للرسول عليه الصلاة والسلام، أنه لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الدين مجيبا لك، قابلا لدينك.
62

فإن الناس كلهم كانوا على الكفر، وإنما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك، فكيف تطمع في اتفاق الكل على الإيمان؟
القول الثالث: قول من يقول: المراد إنهم كانوا أمة واحدة في أنهم خلقوا على فطرة الإسلام، ثم اختلفوا في الأديان. وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ومنهم من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الشرائع العقلية، وحاصلها يرجع إلى أمرين: التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله. وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) * (الأنعام: 151) واعلم أن هذه المسألة قد استقصينا فيها في سورة البقرة، فلنكتف بهذا القدر ههنا.
أما قوله تعالى: * (ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) * فاعلم أنه ليس في الآية ما يدل على أن تلك الكلمة ما هي؟ وذكروا فيه وجوها: الأول: أن يقال لولا أنه تعالى أخبر بأنه يبقى التكليف على عباده، وإن كانوا به كافرين، لقضى بينهم بتعجيل الحساب والعقاب لكفرهم، لكن لما كان ذلك سببا لزوال التكليف، ويوجب الإلجاء، وكان إبقاء التكليف أصوب وأصلح، لا جرم أنه تعالى أخر هذا العقاب إلى الآخرة. ثم قال هذا القائل، وفي ذلك تصبير للمؤمنين على احتمال المكاره من قبل الكافرين والظالمين. الثاني: * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * في أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة إنعاما عليهم، لقضى بينهم في اختلافهم، بما يمتاز المحق من المبطل والمصيب من المخطئ الثالث: أن تلك الكلمة هي قوله: " سبقت رحمتي غضبي " فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال وإمهاله إلى وقت الوجدان.
قوله تعالى
* (ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين) *.
اعلم أن هذا الكلام هو النوع الرابع من شبهات القوم في إنكارهم نبوته، وذلك أنهم. قالوا: أن القرآن الذي جئتنا به كتاب مشتمل على أنواع من الكلمات، والكتاب لا يكون معجزا، ألا ترى أن كتاب موسى وعيسى ما كان معجزة لهما، بل كان لهما أنواع من المعجزات دلت على نبوتهما
63

سوى الكتاب. وأيضا فقد كان فيهم من يدعي إمكان المعارضة، كما أخبر الله تعالى أنهم قالوا: * (لو شئنا لقلنا مثل هذا) * وإذا كان الأمر كذلك لا جرم طلبوا منه شيئا آخر سوى القرآن، ليكون معجزة له، فحكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله: * (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه) * فأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يقول عند هذا السؤال * (إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين) *.
واعلم أن الوجه في تقرير هذا الجواب أن يقال: أقام الدلالة القاهرة على أن ظهور القرآن عليه معجزة قاهرة ظاهرة. لأنه عليه الصلاة والسلام بين أنه نشأ فيما بينهم وتربى عندهم، وهم علموا أنه لم يطالع كتابا، ولم يتلمذ لأستاذ. بل كان مدة أربعين سنة معهم ومخالطا لهم، وما كان مشتغلا بالفكر والتعلم قط، ثم إنه دفعة واحدة ظهر هذا القرآن العظيم عليه، وظهور مثل هذا الكتاب الشريف العالي، على مثل ذلك الإنسان الذي لم يتفق له شيء من أسباب التعلم، لا يكون إلا بالوحي. فهذا برهان قاهر على أن القرآن معجز قاهر ظاهر، وإذا ثبت هذا كان طلب آية أخرى سوى القرآن من الاقتراحات التي لا حاجة إليها في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام، وتقرير رسالته، ومثل هذا يكون مفوضا إلى مشيئة الله تعالى، فإن شاء أظهرها، وإن شاء لم يظهرها، فكان ذلك من باب الغيب، فوجب على كل أحد أن ينتظر أنه هل يفعله الله أم لا؟ ولكن سواء فعل أو لم يفعل، فقد ثبتت النبوة، وظهر صدقه في ادعاء الرسالة، ولا يختلف هذا المقصود بحصول تلك الزيادة وبعدمها، فظهر أن هذا الوجه جواب ظاهر في تقرير هذا المطلوب.
قوله تعالى
* (وإذآ أذقنا الناس رحمة من بعد ضرآء مستهم إذا لهم مكر فى ءاياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن القوم لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية أخرى سوى القرآن، وأجاب الجواب الذي قررناه وهو قوله: * (إنما الغيب لله) * (يونس: 20) ذكر جوابا آخر وهو المذكور في هذه الآية، وتقريره من وجهين:
الوجه الأول: أنه تعالى بين في هذه الآية أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد
64

وعدم الإنصاف، وإذا كانوا كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوه من إنزال معجزات أخرى، فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم وجهلهم، فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين: إلى بيان أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد، ثم إلى بيان أنه متى كان الأمر كذلك لم يكن في إظهار سائر المعجزات فائدة.
أما المقام الأول: فتقريره أنه روي أن الله تعالى سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم، وأنزل الأمطار النافعة على أراضيهم، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام وإلى الأنواء، وعلى التقديرين فهو مقابلة للنعمة بالكفران. فقوله: * (وإذا أذقنا الناس رحمة) * المراد منه تلك الأمطار النافعة. وقوله: * (من بعد ضراء مستهم) * المراد منه ذلك القحط الشديد. وقوله: * (إذا لهم مكر في آياتنا) * المراد منه إضافتهم تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء والكواكب أو إلى الأصنام.
واعلم أنه تعالى ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة، وهو قوله تعالى: * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) * (يونس: 12) إلا أنه تعالى زاد في هذه الآية التي نحن في تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة، ويطلبون الغوائل، وفي الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة، فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر وطلب الغوائل.
وأما المقام الثاني: وهو بيان أنه متى كان الأمر كذلك فلا فائدة في إظهار سائر الآيات، لأنه تعالى لو أظهر لهم جميع ما طلبوه من المعجزات الظاهرة فإنهم لا يقبلونها، لأنه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التشدد في طلب الدين، وإنما غرضهم الدفع والمنع والمبالغة في صون مناصبهم الدنيوية، والامتناع من المتابعة للغير، والدليل عليه أنه تعالى لما شدد الأمر عليهم وسلط البلاء عليهم، ثم أزالها عنهم وأبدل تلك البليات بالخيرات، فهم مع ذلك استمروا على التكذيب والجحود، فدل ذلك على أنه تعالى لو أنزل عليهم الآيات التي طلبوها لم يلتفتوا إليها، فظهر بما ذكرنا أن هذا الكلام جواب قاطع عن السؤال المتقدم.
الوجه الثاني: في تقرير هذا الجواب: أن أهل مكة قد حصل لهم أسباب الرفاهية وطيب العيش، ومن كان كذلك تمرد وتكبر كما قال تعالى: * (إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى) * (العلق: 6، 7) وقرر تعالى هذا المعنى بالمثال المذكور، فإقدامهم على طلب الآيات الزائدة والاقتراحات الفاسدة، إنما كان لأجل ما هم فيه من النعم الكثيرة والخيرات المتوالية، وقوله: * (قل الله أسرع مكرا) * كالتنبيه على أنه تعالى يزيل عنهم تلك النعم، ويجعلهم منقادين للرسول مطيعين له، تاركين لهذه الاعتراضات الفاسدة، والله أعلم.
65

المسألة الثانية: قوله تعالى: * (وإذا أذقنا الناس رحمة) * كلام ورد على سبيل المبالغة، والمراد منه إيصال الرحمة إليهم.
واعلم أن رحمة الله تعالى لا تذاق بالفم، وإنما تذاق بالعقل، وذلك يدل على أن القول بوجود السعادات الروحانية حق.
المسألة الثالثة: قال الزجاج * (إذا) * في قوله: * (وإذا أذقنا الناس رحمة) * للشرط و * (إذا) * في قوله * (إذا لهم مكر) * جواب الشرط وهو كقوله: *
(وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) * (الروم: 36) والمعنى: إذا أذقنا الناس رحمة مكروا وإن تصبهم سيئة قنطوا. واعلم أن * (إذا) * في قوله: * (إذا لهم مكر) * تفيد المفاجأة، معناه أنهم في الحال أقدموا على المكر وسارعوا إليه.
المسألة الرابعة: سمي تكذيبهم بآيات الله مكرا، لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بطريق الحيلة، وهؤلاء يحتالون لدفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة. قال مقاتل: المراد من هذا المكر هو أن هؤلاء لا يقولون هذا رزق الله، بل يقولون سقينا بنوء كذا.
أما قوله تعالى: * (قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) * فالمعنى أن هؤلاء الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر، فالله سبحانه وتعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك، وهو من وجهين: الأول: ما أعد لهم يوم القيامة من العذاب الشديد، وفي الدنيا من الفضيحة والخزي والنكال. والثاني: أن رسل الله يكتبون مكرهم ويحفظونه، وتعرض عليهم ما في بواطنهم الخبيثة يوم القيامة، ويكون ذلك سببا للفضيحة التامة والخزي والنكال نعوذ بالله تعالى منه.
قوله تعالى
* (هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجآءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين
66

له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلمآ أنجاهم إذا هم يبغون فى الارض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيواة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: * (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا) * كان هذا الكلام كلاما كليا لا ينكشف معناه تمام الانكشاف. إلا بذكر مثال كامل، فذكر الله تعالى لنقل الإنسان من الضر الشديد إلى الرحمة مثالا، ولمكر الإنسان مثالا، حتى تكون هذه الآية كالمفسرة للآية التي قبلها، وذلك لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي.
واعلم أن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود، حصل له الفرح التام والمسرة القوية، ثم قد تظهر علامات الهلاك دفعة واحدة. فأولها: أن تجيئهم الرياح العاصفة الشديدة. وثانيها: أن تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانب. وثالثها: أن يغلب على ظنونهم أن الهلاك واقع، وأن النجاة ليست متوقعة، ولا شك أن الانتقال من تلك الأحوال الطيبة الموافقة إلى هذه الأحوال القاهرة الشديدة يوجب الخوف العظيم، والرعب الشديد، وأيضا مشاهدة هذه الأحوال والأهوال في البحر مختصة بإيجاب مزيد الرعب، والخوف ثم إن الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته، ويصير منقطع الطمع عن جميع الخلق، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعا إلى الله تعالى، ثم إذا نجاه الله تعالى من هذه البلية العظيمة، ونقله من هذه المضرة القوية إلى الخلاص والنجاة، ففي الحال ينسى تلك النعمة ويرجع إلى ما ألفه واعتاده من العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة، فظهر أنه لا يمكن تقرير ذلك المعنى الكلي المذكور في الآية المتقدمة بمثال أحسن وأكمل من المثال المذكور في هذه الآية.
المسألة الثانية: يحكى أن واحدا قال لجعفر الصادق: أذكر لي دليلا على إثبات الصانع فقال: أخبرني عن حرفتك: فقال: أنا رجل أتجر في البحر، فقال: صف لي كيفية حالك. فقال: ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح واحد من ألواحها، وجاءت الرياح العاصفة، فقال
67

جعفر: هل وجدت في قلبك تضرعا ودعاء. فقال نعم. فقال جعفر: فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت.
المسألة الثالثة: قرأ ابن عامر * (ينشركم) * من النشر الذي هو خلاف الطي كأنه أخذه من قوله تعالى: * (فانتشروا في الأرض) * (الجمعة: 10) والباقون قرؤا * (يسيركم) * من التسيير. المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد يجب أن يكون خلقا لله تعالى. قالوا: دلت هذه الآية على أن سير العباد من الله تعالى، ودل قوله تعالى: * (قل سيروا في الأرض) * (الأنعام: 11) على أن سيرهم منهم، وهذا يدل على أن سيرهم منهم ومن الله، فيكون كسبيا لهم وخلقا لله ونظيره. قوله تعالى: * (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) * (الأنفال: 5) وقال في آية أخرى: * (إذ أخرجه الذين كفروا) * (التوبة: 40) وقال في آية أخرى: * (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا) * (التوبة: 82) ثم قال في آية أخرى * (وأنه هو أضحك وأبكى) * (النجم: 43) وقال في آية أخرى * (وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى) * (الأنفال: 7) قال الجبائي: أما كونه تعالى مسيرا لهم في البحر على الحقيقة فالأمر كذلك. وأما سيرهم في البر فإنما أضيف إلى الله تعالى على التوسع. فما كان منه طاعة فبأمره وتسهيله، وما كان منه معصية فلأنه تعالى هو الذي أقدره عليه. وزاد القاضي فيه يجوز أن يضاف ذلك إليه تعالى من حيث أنه تعالى سخر لهم المركب في البر، وسخر لهم الأرض التي يتصرفون عليها بإمساكه لها، لأنه تعالى لو لم يفعل ذلك لتعذر عليهم السير. وقال القفال: * (هو الذي يسيركم في البر والبحر) * أي هو الله الهادي لكم إلى السير في البر والبحر طلبا للمعاش لكم، وهو المسير لكم، لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير. هذا جملة ما قيل في الجواب عنه. ونحن نقول: لا شك أن المسير في البحر هو الله تعالى، لأن الله تعالى هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السفينة، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة. فنقول: وجب أيضا أن يكون مسيرا لهم في البر بهذا التفسير، إذ لو كان مسيرا لهم في البر بمعنى إعطاء الآلات والأدوات لكان مجازا بهذا الوجه، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازا دفعة واحدة، وذلك باطل.
واعلم أن مذهب الجبائي أنه لامتناع في كون اللفظ حقيقة ومجازا بالنسبة إلى المعنى الواحد. وأما أبو هاشم فإنه يقول: إن ذلك ممتنع، إلا أنه يقول: لا يبعد أن يقال إنه تعالى تكلم به مرتين.
واعلم أن قول الجبائي: قد أبطلناه في أصول الفقه، وقول أبي هاشم أنه تعالى تكلم به مرتين أيضا بعيد. لأن هذا قول لم يقل به أحد من الأمة ممن كانوا قبله، فكان هذا على خلاف الإجماع فيكون باطلا.
واعلم أنه بقي في هذه الآية سؤالات:
68

السؤال الأول: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، مع أن الكون في الفلك متقدم لا محالة على التسيير في البحر؟
والجواب: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير، بل تقدير الكلام كأنه قيل هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا.
السؤال الثاني: ما جواب * (إذا) * في قوله: * (حتى إذا كنتم في الفلك) *.
الجواب: هو أن جوابها هو قوله: * (جاءتها ريح عاصف) * ثم قال صاحب " الكشاف ":
وأما قوله: * (دعوا الله) * فهو بدل من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك. وقال بعض الأفاضل لو حمل قوله: * (دعوا الله) * على الاستئناف. كان أوضح، كأنه لما قيل: * (جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم) * قال قائل فما صنعوا؟ فقيل: * (دعوا الله) *.
(السؤال الثالث) ما الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟
الجواب فيه وجوه: الأول: قال صاحب الكشاف: المقصود هو المبالغة كأنه تعالى يذكر حالهم لغيرهم لتعجيبهم منها، ويستدعى منهم يزيد الانكار والتقبيح. الثاني: قال أبو علي الجائي:
إن مخاطبته تعالى لعباده، هي على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، فهي بمنزلة الخبر عن الغائب.
وكل من أقام الغائب مقام مخاطب، حسن منه أن يرده مرة أخرى إلى الغائب. الثالث: وهو الذي
خطر بالبال في الحال، أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدل على مزيد
التقرب والاكرام. وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة، يدل على
المقت التبعيد.
(أما الأول) فكما في سورة الفاتحة، فان قوله (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم) كله مقام
الغيبة، ثم انتقل منها إلى قوله (إياك نعبد وإياك نستعين) وهذا يدل على أن العبد كأنه انتقل من
مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وهو يوجب علو الدرجة، وكمال القرب من خدمة رب العالمين.
(وأما الثاني) فكما في هذه الآية، لان قوله (حتى إذا كنتم في الفلك) خطاب الحضور،
المقت والتبعيد والطرد، وهو اللائق بحال هؤلاء، لان من كان صفته أنه مقابل إحسان الله تعالى
إليه بالكفران، كان اللائق به ما ذكرناه،
(السؤال الرابع) كم القيود المعتبرة في الشرط والقيود المعتبرة في الجزاء؟
الجواب: أم القيود المعتبرة في الشرط فثلاثة: أولها: الكون في الفلك، وثانيها: جرى الفلك
69

بالريح الطيبة. وثالثها: فرحهم بها. وأما القيود المعتبرة في الجزاء فثلاثة أيضا: أولها: قوله (جاءتها
ريح عاصف) وفيه سؤالان:
(السؤال الأول) الضمير في قوله (جاءتها) عائد إلى الفلك وهو ضمير الواحد، والضمير
في قوله (وجرين بهم) عائد إلي الفلك وهو الضمير الجمع، فما السبب فيه؟
الجواب عنه من وجهين: الأول: أنا لا نسلم أن الضمير في قوله (جاءتها) عائد إلى الفلك،
بل نقول إنه عائد إلى الريح الطيبة المذكورة في قوله (وجرين بهم بريح طيبة) الثاني: لو سلمنا
ما ذكرتهم إلا أن لفظ (الفلك) يصلح للواحد والجمع، فحسن الضميران.
(السؤال الثاني) ما العاطف. الجواب: قال القراء والزجاج: يقال ريح عاصف وعاصفة،
وقد عصفت عصوفا وأعصفت، فهي معصف ومعصفة. قال الفراء: والألف لغة بني أسد، ومعنى
عصفت الريح اشتدت، وأصل العصف السرعة، يقال: ناقة عاصف وعصوف سريعة، وإنما قيل
(ريح عاصف) لأنه يراد ذات عصوف كما قيل: لابن وتام أو لأجل أن لفظ الريح مذكر.
(أما القيد الثاني (فهو قوله (وجاءهم الموج من كل مكان) والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر.
(أما القيد الثالث) فهو قوله (وظنوا أنهم أحيط بهم) والمراد أنهم ظنوا القرب من الهلاك،
وأصله أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد، فقد دنوا من الهلاك.
(السؤال الخامس) ما المراد من الاخلاص في قوله (دعوا الله مخلصين له الدين)
والجواب: قال ابن عباس: يريد تركوا الشرك، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئا، وأقروا لله
بالربوبية والوحدانية. قال الحسن (دعوا الله مخلصين) الاخلاص الايمان، لكن لأجل العلم بأنه
لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى، فيكون جاريا مجرى الايمان الاضطراري. وقال ابن زيد: هؤلاء
المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضر والبلاء لم يدعوا إلا الله. وعن أبي عبيدة أن
المراد من ذلك الدعاء قولهم أهيا شراهيا تفسيره يا حي يا قيوم.
(السؤال السادس) ما الشئ المشار إليه بقوله هذه في قوله (لئن أنجيتنا من هذه)
والجواب المراد لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصفة، وقيل المراد لئن أنجيتنا من هذه الأمواج
أو من هذه الشدائد، وهذه الألفاظ وإن لم يسبق ذكرها، إلا أنه سبق ذكر ما يدل عليها.
(السؤال السابع) هل يحتاج في هذه الآية إلى إضمار؟
الجواب: نعم، والتقدير: دعوا الله مخلصين له الدين مريدين أن يقولوا لئن أنجيتنا، ويمكن
70

أن يقال: لا حاجة إلا الاضمار، لان قوله (دعوا الله) يصير مفسرا بقوته (لئن أنجتينا من هذه لنكونن
من الشاكرين) فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة
أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق. قال ابن عباس: يريد به الفساد والتكذيب
والجراءة على الله تعالى، ومعنى البغي قصد الاستعلاء. بالظلم. قال الزجاج: البغي الترقي في الفساد
قالا الأصمعي: يقال بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترقى إلى الفساد، وبغت المرأة إذا فجرت. قال الواحدي:
أصل هذا اللفظ من الطلب.
فان قيل: فما معنى قوله (بغير الحق) والبغي لا يكون بحق؟
قلنا: البغي قد يكون بالحق. وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق
زروعهم وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، ثم إنه تعالى بين أن
هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع
الحياة الدنيا) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) قرأ الأكثرون (متاع) برفع العين، وقرأ حفص عن عاصم (متاع) بنصب
العين، أما الرفع ففيه وجهان: الأول: أن يكون قوله (بغيكم على أنفسكم) مبتدأ، وقوله (متاع
أنفسكم) ومعنى الكلام أن بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها. والثاني: أن قوله
(بغيكم مبتدأ، وقوله (على أنفسكم) خبره، وقوله (متاع الحياة الدنيا) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير:
هو متاع الحياة الدنيا. وأما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول: إن قوله (بغيكم) مبتدأ، وقوله (على
أنفسكم) خبره، وقوله (متاع الحياة الدنيا) في موضع المصدر المؤكد، والتقدير: تتمتعون
متاع الحياة الدنيا.
(المسألة الثانية) البغي من منكرات المعاصي. قال عليه الصلاة والسلام أسرع الخير ثوابا
صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة وروى ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق
الوالدين وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي، وكان المأمون يتمثل
بهذين البيتين في أخيه:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة... فاربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل... لاندك منه أعاليه وأسفله
71

* (إنما مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السمآء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام حتى إذآ أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلهآ أنهم قادرون عليهآ
أتاهآ أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس كذالك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) *.
وعن محمد بن كعب القرظي: ثلاث من كن فيه كن عليه، البغي والنكث والمكر، قال تعالى
(إنما بغيكم على أنفسكم)
المسألة الثالثة) حاصل الكلام في قوله تعالى (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم) أي لا يتهيأ
لكم بغى بعضكم على بعض إلا أياما قليلة، وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها (ثم إلينا)
أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم (مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون) في الدنيا، والانباء هو
الاخبار، وهو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره سأخبرك بما فعلت.
قوله تعالى (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل
الناس والانعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها
أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كان لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: * (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) * (يونس: 23) أتبعه بهذا المثل العجيب الذي ضربه لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا، ويشتد تمسكه بها، ويقوي إعراضه عن أمر الآخرة والتأهب لها، فقال: * (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) * وهذا الكلام يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى فاختلط به نبات الأرض بسبب هذا الماء النازل من السماء، وذلك لأنه إذا نزل المطر ينبت بسببه أنواع كثيرة من النبات، وتكون تلك الأنواع مختلطة، وهذا فيما لم يكن نابتا قبل نزول المطر. والثاني: أن يكون المراد منه الذي نبت، ولكنه لم يترعرع، ولم يهتز. وإنما هو في أول بروزه من الأرض ومبدأ حدوثه، فإذا نزل المطر عليه، واختلط بذلك المطر، أي اتصل كل واحد منهما بالآخر اهتز ذلك النبات وربا وحسن، وكمل واكتسى كمال الرونق والزينة، وهو المراد من قوله تعالى: * (حتى إذا أخذت الأرض
72

زخرفها وازينت) * وذلك لأن التزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء. فجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون، وتزينت بجميع الألوان الممكنة في الزينة من حمرة وخضرة وصفرة وذهبية وبياض، ولا شك أنه متى صار البستان على هذا الوجه، وبهذه الصفة، فإنه يفرح به المالك ويعظم رجاؤه في الانتفاع به، ويصير قلبه مستغرقا فيه، ثم إنه تعالى يرسل على هذا البستان العجيب آفة عظيمة دفعة واحدة في ليل أو نهار من برد، أو ريح أو سيل، فصارت تلك الأشجار والزروع باطلة هالكة كأنها ما حصلت البتة. فلا شك أنه تعظم حسرة مالك ذلك البستان ويشتد حزنه، فكذلك من وضع قلبه على لذات الدنيا وطيباتها، فإذا فاتته تلك الأشياء يعظم حزنه وتلهفه عليها.
واعلم أن تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوها لخصها القاضي رحمه الله تعالى.
الوجه الأول: أن عاقبة هذه الحياة الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا وضع عليها قلبه وعظمت رغبته فيها يأتيه الموت. وهو معنى قوله تعالى: * (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) * (الأنعام: 44) خاسرون الدنيا، وقد أنفقوا أعمارهم فيها، وخاسرون من الآخرة، مع أنهم متوجهون إليها.
والوجه الثاني: في التشبيه أنه تعالى بين أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد، فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد.
والوجه الثالث: أن يكون وجه التشبيه مثل قوله سبحانه: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) * () فلما صار سعي هذا الزراع باطلا بسبب حدوث الأسباب المهلكة، فكذلك سعي المغتر بالدنيا.
والوجه الرابع: أن مالك ذلك البستان لما عمره بأتعاب النفس وكد الروح، وعلق قلبه على الانتفاع به، فإذا حدث ذلك السبب المهلك، وصار العناء الشديد الذي تحمله في الماضي سببا لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل، وهو ما يحصل له في قلبه من الحسرات. فكذلك حال من وضع قلبه على الدنيا وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات، وفاته كل ما نال، صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا، سببا لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.
والوجه الخامس: لعله تعالى إنما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد، وذلك لأنا نرى الزرع الذي قد انتهى إلى الغاية القصوى في التربية، قد بلغ الغاية في الزينة والحسن. ثم يعرض
73

للأرض المتزينة به آفة، فيزول ذلك الحسن بالكلية، ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى. فذكر هذا المثال ليدل عل أن من قدر على ذلك، كان قادرا على إعادة الأحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
المسألة الثانية: المثل: قول يشبه به حال الثاني بالأول، ويجوز أن يكون المراد من المثل الصفة. والتقدير: إنما صفة الحياة الدنيا. وأما قوله: * (وازينت) * فقال الزجاج: يعني تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت الزاي فاجتلب لها ألف الوصل، وهذا مثل ما ذكرنا في قوله: * (ادارأتم) * (البقرة: 72) * (اداركوا) * (الأعراف: 38).
وأما قوله: * (وظن أهلها أنهم قادرون عليها) * فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أن أهل تلك الأرض قادرون على حصادها وتحصيل ثمراتها. والتحقيق أن الضمير وإن كان في الظاهر عائدا إلى الأرض، إلا أنه عائد إلى النبات الموجود في الأرض. وأما قوله: * (أتاها أمرنا) * فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد عذابنا. والتحقيق أن المعنى أتاها أمرنا بهلاكها. وقوله: * (فجعلناها حصيدا) * قال ابن عباس: لا شيء فيها، وقال الضحاك: يعني المحصود. وعلى هذا، المراد بالحصيد الأرض التي حصد نبتها، ويجوز أن يكون المراد بالحصيد النبات، قال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل، وقال غيره: الحصيد المقطوع والمقلوع. وقوله: * (كأن لم تغن بالأمس) * قال الليث: يقال للشيء إذا فنى: كأن لم يغن بالأمس. أي كأن لم يكن من قولهم غني القوم في دارهم، إذا أقاموا بها، وعلى هذا الوجه يكون هذا صفة للنبات. وقال الزجاج: معناه: كأن لم تعمر بالأمس، وعلى هذا الوجه فالمراد هو الأرض، وقوله: * (كذلك نفصل الآيات) * أي نذكر واحدة منها بعد الأخرى، على الترتيب. ليكون تواليها وكثرتها سببا لقوة اليقين، وموجبا لزوال الشك والشبهة:
قوله تعالى
* (والله يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *.
المسألة الأولى: في كيفية النظم. اعلم أنه تعالى لما نفر الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق، رغبهم في الآخرة بهذه الآية. ووجه الترغيب في الآخرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مثلي ومثلكم شبه سيد بنى دارا ووضع مائدة وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد. ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد فالله السيد، والدار دار الإسلام، والمائدة الجنة، والداعي محمد عليه السلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق
74

إلا الثقلين. أيها الناس؛ هلموا إلى ربكم والله يدعوا إلى دار السلام ".
المسألة الثانية: لا شبهة أن المراد من دار السلام الجنة، إلا أنهم اختلفوا في السبب الذي لأجله حصل هذا الاسم على وجوه: الأول: أن السلام هو الله تعالى، والجنة داره. ويجب علينا ههنا بيان فائدة تسمية الله تعالى بالسلام، وفيه وجوه: أحدها: أنه لما كان واجب الوجود لذاته فقد سلم من الفناء والتغير، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته إلى الافتقار إلى الغير، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال: * (والله الغني وأنتم الفقراء) * (محمد: 38) وقال: * (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) * (فاطر: 15) وثانيها: أنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أن الخلق سلموا من ظلمه، قال: * (وما ربك بظلام للعبيد) * (فصلت: 46) ولأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه، وتصرف الفاعل في ملك نفسه لا يكون ظلما. ولأن الظلم إنما يصدر إما عن العاجز أو الجاهل أو المحتاج، ولما كان الكل محالا على الله تعالى، كان الظلم محالا في حقه. وثالثها: قال المبرد: إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أنه ذو السلام، أي الذي لا يقدر على السلام إلا هو، والسلام عبارة عن تخليص العاجزين عن المكاره والآفات. فالحق تعالى هو الساتر لعيوب المعيوبين، وهو المجيب لدعوة المضطرين، وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين. قال المبرد: وعلى هذا التقدير: السلام مصدر سلم.
القول الثاني: السلام جمع سلامة، ومعنى دار السلام: الدار التي من دخلها سلم من الآفات. فالسلام ههنا بمعنى السلامة، كالرضاع بمعنى الرضاعة. فإن الإنسان هناك سلم من كل الآفات، كالموت والمرض والألم والمصائب ونزعات الشيطان والكفر والبدعة والكد والتعب.
والقول الثالث: أنه سميت الجنة بدار السلام لأنه تعالى يسلم على أهلها قال تعالى: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) والملائكة يسلمون عليهم أيضا، قال تعالى: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم) * (الرعد: 23، 24) وهم أيضا يحيي بعضهم بعضا بالسلام قال تعالى: * (تحيتهم فيها سلام) * (يونس: 10) وأيضا فسلامهم يصل إلى السعداء من أهل الدنيا، قال تعالى: * (وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين) * (الواقعة: 90، 91). المسألة الثالثة: اعلم أن كمال جود الله تعالى وكمال قدرته وكمال رحمته بعباده معلوم، فدعوته عبيده إلى دار السلام، تدل على أن دار السلام قد حصل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأن العظيم إذا استعظم شيئا ورغب فيه وبالغ في ذلك الترغيب، دل ذلك على كمال حال ذلك الشيء، لا سيما وقد ملأ الله هذا الكتاب المقدس من وصف الجنة مثل قوله: * (فروح وريحان وجنة نعيم) * (الواقعة: 89) ونحن نذكر ههنا كلاما كليا في تقرير هذا المطلوب، فنقول: الإنسان إنما يسعى
75

في يومه لغده. ولكل إنسان غدان، غد في الدنيا وغد في الآخرة. فنقول: غد الآخرة خير من غد الدنيا من وجوه أربعة: أولها: أن الإنسان قد لا يدرك غد الدنيا وبالضرورة يدرك غد الآخرة. وثانيها: أن بتقدير أن يدرك غد الدنيا فلعله لا يمكنه أن ينتفع بما جمعه، إما لأنه يضيع منه ذلك المال أو لأنه يحصل في بدنه مرض يمنعه من الانتفاع به. أما غد الآخرة فكلما اكتسبه الإنسان لأجل هذا اليوم، فإنه لا بد وأن ينتفع به. وثالثها: أن بتقدير أن يجد غد الدنيا ويقدر على أن ينتفع بماله، إلا أن تلك المنافع مخلوطة بالمضار والمتاعب، لأن سعادات الدنيا غير خالصة عن الآفات، بل هي ممزوجة بالبليات، والاستقراء يدل عليه. ولذلك قال عليه السلام: " من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق " فقيل يا رسول الله وما هو؟ قال: " سرور يوم بتمامه " وأما منافع عز الآخرة فهي خالصة عن الغموم والهموم والأحزان سالمة عن كل المنفرات. ورابعها: أن بتقدير أن يصل الإنسان إلى عز الدنيا وينتفع بسببه، وكان ذلك الانتفاع خاليا عن خلط الآفات، إلا أنه لا بد وأن يكون منقطعا. ومنافع الآخرة دائمة مبرأة عن الانقطاع، فثبت أن سعادات الدنيا مشوبة بهذه العيوب الأربعة، وأن سعادات الآخرة سالمة عنها. فلهذا السبب كانت الجنة دار السلام.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر والإيمان بقضاء الله تعالى قالوا: إنه تعالى بين في هذه الآية أنه دعا جميع الخلق إلى دار السلام، ثم بين أنه ما
هدى إلا بعضهم فهذه الهداية الخاصة يجب أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامة، ولا شك أيضا أن الأقدار والتمكين وإرسال الرسل وإنزال الكتب أمور عامة، فوجب أن تكون هذه الهداية الخاصة مغايرة لكل هذه الأشياء، وما ذاك إلا ما ذكرناه من أنه تعالى خصه بالعلم والمعرفة دون غيره. واعلم أن هذه الآية مشكلة على المعتزلة وما قدروا على إيراد الأسئلة الكثيرة، وحاصل ما ذكره القاضي في وجهين: الأول: أن يكون المراد ويهدي الله من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة، بمعنى أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها. والثاني: أن المراد من هذه الآية الألطاف. وأجاب أصحابنا عن هذين الوجهين بحرف واحد، وهو أن عندهم أنه يجب على الله فعل هذه الهداية، وما كان واجبا لا يكون معلقا بالمشيئة، وهذا معلق بالمشيئة، فامتنع حمله على ما ذكروه.
قوله تعالى
* (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب
76

الجنة هم فيها خالدون) *.
اعلم أنه تعالى لما دعا عباده إلى دار السلام، ذكر السعادات التي تحصل لهم فيها فقال: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * فيحتاج إلى تفسير هذه الألفاظ الثلاثة.
أما اللفظ الأول: وهو قوله: * (للذين أحسنوا) * فقال ابن عباس: معناه: للذين ذكروا كلمة لا إله إلا الله. وقال الأصم: معناه: للذين أحسنوا في كل ما تعبدوا به، ومعناه: أنهم أتوا بالمأمور به كما ينبغي، واجتنبوا المنهيات من الوجه الذي صارت منهيا عنها.
والقول الثاني: أقرب إلى الصواب لأن الدرجات العالية لا تحصل إلا لأهل الطاعات.
وأما اللفظ الثاني: وهو * (الحسنى) * فقال ابن الأنباري: الحسنى في اللغة تأنيث الأحسن، والعرب توقع هذه اللفظة على الحالة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها، ولذلك لم تؤكد، ولم تنعت بشيء، وقال صاحب " الكشاف ": المراد: المثوبة الحسنى. ونظير هذه الآية قوله: * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) * (الرحمن: 60).
وأما اللفظ الثالث: وهو الزيادة. فنقول: هذه الكلمة مبهمة، ولأجل هذا اختلف الناس في تفسيرها، وحاصل كلامهم يرجع إلى قولين:
القول الأول: أن المراد من منها رؤية الله سبحانه وتعالى. قالوا: والدليل عليه النقل والعقل.
أما النقل: فالحديث الصحيح الوارد فيه، وهو أن الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى الله سبحانه وتعالى.
وأما العقل: فهو أن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف، فانصرف إلى المعهود السابق، وهو دار للسلام. والمعروف من المسلمين والمتقرر بين أهل الإسلام من هذه اللفظة هو الجنة، وما فيها من المنافع والتعظيم. وإذا ثبت هذا، وجب أن يكون المراد من الزيادة أمرا مغايرا لكل ما في الجنة من المنافع والتعظيم، وإلا لزم التكرار. وكل من قال بذلك قال: إنما هي رؤية الله تعالى. فدل ذلك على أن المراد من هذه الزيادة: الرؤية. ومما يؤكد هذا وجهان: الأول: أنه تعالى قال: * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) * (القيامة: 22، 23) فأثبت لأهل الجنة أمرين: أحدهما: نضرة الوجوه والثاني: النظر إلى الله تعالى، وآيات القرآن يفسر بعضها بعضا فوجب حمل الحسنى ههنا على نضرة الوجوه، وحمل الزيادة على رؤية الله تعالى. الثاني: أنه تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: * (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) * (الإنسان: 20) أثبت له النعيم، ورأيت الملك الكبير، فوجب ههنا حمل الحسنى والزيادة على هذين الأمرين.
77

القول الثاني: أنه لا يجوز حمل هذه الزيادة على الرؤية. قالت المعتزلة ويدل على ذلك وجوه: الأول: أن الدلائل العقلية دلت على أن رؤية الله تعالى ممتنعة. والثاني: أن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه، ورؤية الله تعالى ليست من جنس نعيم الجنة. الثالث: أن الخبر الذي تمسكتم به في هذا الباب هو ما روي أن الزيادة، هي النظر إلى وجه الله تعالى، وهذا الخبر يوجب التشبيه، لأن النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي. وذلك يقتضي كون المرئي في الجهة، لأن الوجه اسم للعضو المخصوص، وذلك أيضا يوجب التشبيه. فثبت أن هذا اللفظ لا يمكن حمله على الرؤية، فوجب حمله على شيء آخر، وعند هذا قال الجبائي: الحسنى عبارة عن الثواب المستحق، والزيادة هي ما يزيده الله تعالى على هذا الثواب من التفضل. قال: والذي يدل على صحته، القرآن وأقوال المفسرين.
أما القرآن: فقوله تعالى: * (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) * (فاطر: 30).
وأما أقوال المفسرين: فنقل عن علي رضي الله عنه أنه قال: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس: أن الحسنى هي الحسنة، والزيادة عشر أمثالها وعن الحسن: عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وعن مجاهد: الزيادة مغفرة الله ورضوانه. ورضوانه وعن يزيد بن سمرة: الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم. فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم. أجاب أصحابنا عن هذه الوجوه فقالوا: أما قولكم إن الدلائل العقلية دلت على امتناع رؤية الله تعالى فهذا ممنوع، لأنا بينا في كتب الأصول أن تلك الدلائل في غاية الضعف ونهاية السخافة، وإذا لم يوجد في العقل ما يمنع من رؤية الله تعالى وجاءت الأخبار الصحيحة بإثبات الرؤية، وجب إجراؤها على ظواهرها. أما قوله الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه. فنقول: المزيد عليه، إذا كان مقدرا بمقدار معين، وجب أن تكون الزيادة عليه مخالفة له.
مثال الأول: قول الرجل لغيره: أعطيتك عشرة أمداد من الحنطة وزيادة، فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة من الحنطة.
ومثال الثاني: قوله أعطيتك الحنطة وزيادة، فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة غير الحنطة، والمذكور في هذه الآية لفظ * (الحسنى) * وهي الجنة، وهي مطلقة غير مقدرة بقدر معين، فوجب أن تكون تلك الزيادة عليها شيئا مغايرا لكل ما في الجنة. وأما قوله: الخبر المذكور في هذا الباب، اشتمل على لفظ النظر، وعلى إثبات
الوجه لله تعالى، وكلاهما يوجبان التشبيه. فنقول: هذا الخبر أفاد إثبات الرؤية، وأفاد إثبات الجسمية. ثم قام الدليل على أنه ليس بجسم، ولم يقم الدليل على امتناع رأيته، فوجب ترك العمل بما قام الدليل على فساده فقط، وأيضا فقد بينا أن لفظ هذه الآية
78

يدل على أن الزيادة هي الرؤية من غير حاجة تنافي تقرير ذلك الخبر، والله أعلم.
واعلم أنه تعالى لما شرح ما يحصل لأهل الجنة من السعادات، شرح بعد ذلك الآفات التي صانهم الله بفضله عنها، فقال: * (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) * والمعنى: لا يغشاها قتر، وهي غبرة فيها سواد * (ولا ذلة) * ولا أثر هوان ولا كسوف.
فالصفة الأولى: هي قوله تعالى: * (وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة) * (عبس: 40).
والصفة الثانية: هي قوله تعالى: * (وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة) * (الغاشية: 2، 3) والغرض من نفي هاتين الصفتين، نفي أسباب الخوف والحزن والذل عنهم، ليعلم أن نعيمهم الذي ذكره الله تعالى خالص غير مشوب بالمكروهات، وإنه لا يجوز عليهم ما إذا حصل غير صفحة الوجه، ويزيل ما فيها من النضارة والطلاقة، ثم بين أنهم خالدون في الجنة لا يخافون الانقطاع.
واعلم أن علماء الأصول قالوا: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله: * (والله يدعوا إلى دار السلام) * (يونس: 25) يدل على غاية التعظيم. وقوله: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * يدل على حصول المنفعة وقوله: * (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) * يدل على كونها خالصة وقوله: * (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) * إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع والله أعلم.
قوله تعالى
* (والذين كسبوا السيئات جزآء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من اليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه كما شرح حال المسلمين في الآية المتقدمة، شرح حال من أقدم على السيئات في هذه الآية، وذكر تعالى من أحوالهم أمورا أربعة أولها: قوله: * (جزاء سيئة بمثلها) * والمقصود من هذا القيد التنبيه على الفرق بين الحسنات وبين السيئات، لأنه تعالى ذكر في أعمال البر أنه يوصل إلى المشتغلين بها الثواب مع الزيادة وأما في عمل السيئات، فإنه تعالى ذكر أنه لا يجازي
79

إلا بالمثل، والفرق هو أن الزيادة على الثواب تكون تفضلا وذلك حسن، ويكون فيه تأكيد للترغيب في الطاعة، وأما الزيادة على قدر الاستحقاق في عمل السيئات، فهو ظلم، ولو فعله لبطل الوعد والوعيد والترهيب والتحذير، لأن الثقة بذلك إنما تحصل إذا ثبتت حكمته، ولو فعل الظلم لبطلت حكمته. تعالى الله عن ذلك، هكذا قرره القاضي تفريعا على مذهبه. وثانيها: قوله: * (وترهقهم ذلة) * وذلك كناية عن الهوان والتحقير، واعلم أن الكمال محبوب لذاته، والنقصان مكروه لذاته، فالإنسان الناقص إذا مات بقيت روحه ناقصة خالية عن الكمالات، فيكون شعوره بكونه ناقصا، سببا لحصول الذلة والمهانة والخزي والنكال. وثالثها: قوله: * (ما لهم من الله من عاصم) * واعلم أنه لا عاصم من الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن قضاءه محيط بجميع الكائنات، وقدره نافذ في كل المحدثات إلا أن الغالب على الطباع العاصية، أنهم في الحياة العاجلة مشتغلون بأعمالهم ومراداتهم. أما بعد الموت فكل أحد يقر بأنه ليس له من الله من عاصم. ورابعها: قوله: * (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) * والمراد من هذا الكلام إثبات ما نفاه عن السعداء حيث قال: * (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) * (يونس: 26).
واعلم أن حكماء الإسلام قالوا: المراد من هذا السواد المذكور ههنا سواد الجهل وظلمة الضلالة، فإن العلم طبعه طبع النور، والجهل طبعه طبع الظلمة، فقوله: * (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة) * المراد منه نور العلم، وروحه وبشره وبشارته، وقوله: * (ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة) * المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة.
المسألة الثانية: قوله: * (والذين كسبوا السيئات) * فيه وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفا على قوله: * (للذين أحسنوا) * (آل عمران: 172) كأنه قيل: للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها والثاني: أن يكون التقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها. على معنى أن جزاءهم أن يجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وهذا يدل على أن حكم الله في حق المحسنين ليس إلا بالفضل، وفي حق المسيئين ليس إلا بالعدل.
المسألة الثالثة: قال بعضهم: المراد بقوله: * (والذين كسبوا السيئات) * الكفار واحتجوا عليه بأن سواد الوجه من علامات الكفر، بدليل قوله تعالى: * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) * (آل عمران: 106) وكذلك قوله: * (وجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة) * ولأنه تعالى قال بعد هذه الآية * (ويوم نحشرهم جميعا) * (الأنعام: 22) والضمير في قوله: * (هم) * عائد إلى هؤلاء، ثم إنه تعالى وصفهم بالشرك، وذلك يدل على أن هؤلاء هم الكفار، ولأن العلم نور وسلطان العلوم والمعارف
80

هو معرفة الله تعالى، فكل قلب حصل فيه معرفة الله تعالى لم يحصل فيه الظلمة أصلا، وكان الشبلي رحمة الله تعالى عليه يتمثل بهذا ويقول:
كل بيت أنت ساكنه * غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا * يوم يأتي الناس بالحجج
وقال القاضي: إن قوله: * (والذين كسبوا السيئات) * عام يتناول الكافر والفاسق. إلا أنا نقول: الصيغة وإن كانت عامة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تخصصه:
المسألة الرابعة: قال الفراء: في قوله: * (جزاء سيئة بمثلها) * وجهان: الأول: أن يكون التقدير: فلهم جزاء السيئة بمثلها، كما قال: * (ففدية من صيام) * (البقرة: 196) أي فعليه. والثاني: أن يعلق الجزاء بالباء في قوله: * (بمثلها) * قال ابن الأنباري: وعلى هذا التقدير الثاني فلا بد من عائد الموصول. والتقدير: فجزاء سيئة منهم بمثلها.
أما قوله: * (وترهقهم ذلة) * فهو معطوف على يجازي، لأن قوله: * (جزاء سيئة بمثلها) * تقديره: يجازي سيئة بمثلها، وقرئ * (يرهقهم ذلة) * بالياء.
أما قوله تعالى: * (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: * (أغشيت) * أي ألبست * (وجوههم قطعا) * قرأ ابن كثير والكسائي * (قطعا) * بسكون الطاء، وقرأ الباقون بفتح الطاء، والقطع بسكون القطعة. وهي البعض، ومنه قوله تعالى * (فأسر بأهلك بقطع من الليل) * (هود: 81) أي قطعة. وأما قطع بفتح الطاء، فهو جمع قطعة، ومعنى الآية: وصف وجوههم بالسواد، حتى كأنها ألبست سوادا من الليل، كقوله تعالى: * (ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) * (الزمر: 60) وكقوله: * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) * (آل عمران: 106) وكقوله: * (يعرف المجرمون بسيماهم) * (الرحمن: 41) وتلك العلامة هي سواد الوجه وزرقة العين.
المسألة الثانية: قوله: * (مظلما) * قال الفراء والزجاج: هو نعت لقوله: * (قطعا) * وقال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يجعل حالا كأنه قيل: أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته.
قوله تعالى
* (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركآؤكم فزيلنا بينهم وقال
81

شركآؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا نوع آخر من شرح فضائح أولئك الكفار، فالضمير في قوله * (ويوم نحشرهم) * عائد إلى المذكور السابق، وذلك هو قوله: * (والذين كسبوا السيئات) * (يونس: 27) فلما وصف الله هؤلاء الذين يحشرهم بالشرك والكفر، دل على أن المراد من قوله: * (والذين كسبوا السيئات) * الكفار، وحاصل الكلام: أنه تعالى يحشر العابد والمعبود، ثم إن المعبود يتبرأ من العابد، ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته، والمقصود منه أن القوم كانوا يقولون: * (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * (يونس: 180) فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار، بل يتبرؤن منهم، وذلك يدل على نهاية الخزي والنكال في حق هؤلاء الكفار، ونظيره آيات منها قوله تعالى: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) * (البقرة: 166) ومنها قوله تعالى: * (ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) * (سبأ: 40، 41).
واعلم أن هذا الكلام يشير على سبيل الرمز إلى دقيقة عقلية، وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته، والممكن لذاته محتاج بحسب ماهيته، والشيء الواحد يمتنع أن يكون قابلا وفاعلا معا، فما سوى الواحد لأحد الحق لا تأثير له في الإيجاد والتكوين، فالممكن المحدث لا يليق به أن يكون معبودا لغيره، بل المعبود الحق ليس إلا الموجد الحق، وذلك ليس إلا الموجود الحق الذي هو واجب الوجود لذاته، فبراءة المعبود من العابدين، يحتمل أن يكون المراد منه ما ذكرناه. والله أعلم بمراده.
المسألة الثانية: * (الحشر) * الجمع من كل جانب إلى موقف واحد و * (جميعا) * نصب على الحال أي نحشر الكل حال اجتماعهم. و * (مكانكم) * منصوب بإضمار الزموا. والتقدير: الزموا مكانكم و * (أنتم) * تأكيد للضمير * (وشركاؤكم) * عطف عليه. واعلم أن قوله: * (مكانكم) * كلمة مختصة بالتهديد والوعيد والمراد أنه تعالى يقول للعابدين والمعبودين مكانكم أي الزموا مكانكم حتى تسألوا، ونظيره قوله تعالى: * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم * وقفوهم إنهم مسؤولون) * (الصافات: 22 - 24).
أما قوله: * (فزيلنا بينهم) * ففيه بحثان:
82

البحث الأول: أن هذه الكلمة جاءت على لفظ المضي بعد قوله: * (ثم نقول) * وهو منتظر، والسبب فيه أن الذي حكم الله فيه، بأن سيكون صار كالكائن الراهن الآن، ونظيره قوله تعالى: * (ونادى أصحاب الجنة) * (الأعراف: 44).
البحث الثاني: زيلنا فرقنا وميزنا. قال الفراء: قوله: * (فزيلنا) * ليس من أزلت، إنما هو من زلت إذا فرقت. تقول العرب: زلت الضأن من المعز فلم تزل. أي ميزتها فلم تتميز، ثم قال الواحدي: فالزيل والتزييل والمزايلة، والتمييز والتفريق. قال الواحدي: وقرئ * (فزايلنا بينهم) * وهو مثل * (فزيلنا) * وحكى الواحدي عن ابن قتيبة أنه قال في هذه الآية: هو من زال يزول وأزلته أنا، ثم حكى عن الأزهري أنه قال: هذا غلط، لأنه لم يميز بين زال يزول، وبين زال يزيل، وبينهما بون بعيد، والقول ما قاله الفراء، ثم قال المفسرون: * (فزيلنا) * أي فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة والأصنام، وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا.
وأما قوله: * (وقال شركاؤهم ما كنتم أيانا تعبدون) * ففيه مباحث:
البحث الأول: إنما أضاف الشركاء إليهم لوجوه: الأول: أنهم جعلوا نصيبا من أموالهم لتلك الأصنام، فصيروها شركاء لأنفسهم في تلك الأموال، فلهذا قال تعالى: *
(وقال شركاؤهم) * الثاني: أنه يكفي في الإضافة أدنى تعلق، فلما كان الكفار هم الذين أثبتوا هذه الشركة، لا جرم حسنت إضافة الشركاء إليهم. الثالث: أنه تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله: * (مكانكم) * صاروا شركاء في هذا الخطاب.
البحث الثاني: اختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء. فقال بعضهم: هم الملائكة، واستشهدوا بقوله تعالى: * (يوم نحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * (سبأ: 40) ومنهم من قال: بل هي الأصنام، والدليل عليه: أن هذا الخطاب مشتمل على التهديد والوعيد، وذلك لا يليق بالملائكة المقربين، ثم اختلفوا في أن هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام. فقال بعضهم: إن الله تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق فيها، فلا جرم قدرت على ذكر هذا الكلام. وقال آخرون إنه تعالى يخلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى يسمع منها ذلك الكلام، وهو ضعيف، لأن ظاهر قوله: * (وقال شركاؤهم) * يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هم الشركاء.
فإن قيل: إذا أحياهم الله تعالى فهل يبقيهم أو يفنيهم؟
قلنا: الكل محتمل ولا اعتراض على الله في شيء من أفعاله، وأحوال القيامة غير معلومة، إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن.
83

والقول الثالث: إن المراد بهؤلاء الشركاء، كل من عبد من دون الله تعالى، من صنم وشمس وقمر وأنسي وجني وملك.
البحث الثالث: هذا الخطاب لا شك أنه تهديد في حق العابدين، فهل يكون تهديدا في حق المعبودين. أما المعتزلة: فإنهم قطعوا بأن ذلك لا يجوز. قالوا: لأنه لا ذنب للمعبود، ومن لا ذنب له، فإنه يقبح من الله تعالى أن يوجه التخويف والتهديد والوعيد إليه. وأما أصحابنا، فإنهم قالوا إنه تعالى لا يسئل عما يفعل. البحث الرابع: أن الشركاء قالوا: * (ما كنتم إيانا تعبدون) * وهم كانوا قد عبدوهم، فكان هذا كذبا، وقد ذكرنا في سورة الأنعام اختلاف الناس في أن أهل القيامة هل يكذبون أم لا، وقد تقدمت هذه المسألة على الاستقصاء، والذي نذكره ههنا، أن منهم من قال: إن المراد من قولهم * (ما كنتم إيانا تعبدون) * هو أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا؟ قالوا: والدليل على أن المراد ما ذكرناه وجهان: الأول: أنهم استشهدوا بالله في ذلك حيث قالوا: * (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم) * والثاني: أنهم قالوا: * (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) * فأثبتوا لهم عبادة، إلا أنهم زعموا أنهم كانوا غافلين عن تلك العبادة، وقد صدقوا في ذلك، لأن من أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور البتة. ومن الناس من أجرى الآية على ظاهرها. وقالوا: إن الشركاء أخبروا أن الكفار ما عبدوها، ثم ذكروا فيه وجوها: الأول: أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة، فذلك الكذب يكون جاريا مجرى كذب الصبيان، ومجرى كذب المجانين والمدهوشين. والثاني: أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم، ولهذا المعنى قالوا: إنهم ما عبدونا. والثالث: أنهم تخيلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة، فهم في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات، ولما كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات، فهم ما عبدوها وإنما عبدوا أمورا تخيلوها ولا وجود لها في الأعيان، وتلك الصفات التي تخيلوها في أصنامهم أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله بغير إذنه.
قوله تعالى
* (هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) *.
84

واعلم أن هذه الآية كالتتمة لما قبلها. وقوله: * (هنالك) * معناه: في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو يكون المراد في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان، وفي قوله: * (تبلوا) * مباحث:
البحث الأول: قرأ حمزة والكسائي * (تتلوا) * بتاءين، وقرأ عاصم * (نبلو كل نفس) * بالنون ونصب كل والباقون * (تبلوا) * بالتاء والباء. أما قراءة حمزة والكسائي فلها وجهان: الأول: أن يكون معنى قوله: * (تتلوا) * أي تتبع ما أسلفت، لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة وإلى طريق النار. الثاني: أن يكون المعنى: أن كل نفس تقرأ ما في صحيفتها من خير أو شر ومنه قوله تعالى: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * (الإسراء: 14) وقال: * (فأولئك يقرؤن كتابهم) * (الإسراء: 71) وأما قراءة عاصم فمعناها: أن الله تعالى يقول في ذلك الوقت نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل، والمعنى: أنا نعرف حالها بمعرفة حال عملها، إن كان حسنا فهي سعيدة، وإن كان قبيحا فهي شقية، والمعنى نفعل بها فعل المختبر، كقوله تعالى: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * (الملك: 2) وأما القراءة المشهورة فمعناها: أن كل نفس نختبر أعمالها في ذلك الوقت.
البحث الثاني: الابتلاء عبارة عن الاختبار قال تعالى: * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) * (الأعراف: 168) ويقال: البلاء ثم الابتلاء أي الاختبار ينبغي أن يكون قبل الابتلاء.
ولقائل أن يقول: إن في ذلك الوقت تنكشف نتائج الأعمال وتظهر آثار الأفعال، فكيف يجوز تسمية حدوث العلم بالابتلاء؟
وجوابه: أن الابتلاء سبب لحدوث العلم، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور.
وأما قوله: * (وردوا إلى الله مولاهم الحق) * فاعلم أن الرد عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه، وههنا فيه احتمالات: الأول: أن يكون المراد من قوله: * (وردوا إلى الله) * أي وردوا إلى حيث لا حكم إلا لله على ما تقدم من نظائره. والثاني: أن يكون المراد * (وردوا) * إلى ما يظهر لهم من الله من ثواب وعقاب، منبها بذلك على أن حكم الله بالثواب والعقاب لا يتغير. الثالث: أن يكون المراد من قوله: * (وردوا إلى الله) * أي جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلهيته، بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله تعالى، ولذلك قال: * (مولاهم الحق) * أعني أعرضوا عن المولى الباطل ورجعوا إلى المولى الحق.
وأما قوله: * (مولاهم الحق) * فقد مر تفسيره في سورة الأنعام.
وأما قوله: * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * فالمراد أنهم كانوا يدعون فيما يعبدونه أنهم شفعاء وأن عبادتهم مقربة إلى الله تعالى، فنبه تعالى على أن ذلك يزول في الآخرة، ويعلمون أن ذلك باطل وافتراء واختلاق.
85

قوله تعالى
* (قل من يرزقكم من السمآء والارض أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون * كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل الدالة على فساد هذا المذهب.
فالحجة الأولى: ما ذكره في هذه الآية وهو أحوال الرزق وأحوال الحواس وأحوال الموت والحياة. أما الرزق فإنه إنما يحصل من السماء والأرض، أما من السماء فبنزول الأمطار الموافقة وأما من الأرض، فلأن الغذاء إما أن يكون نباتا أو حيوانا، أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض وأما الحيوان فهو محتاج أيضا إلى الغذاء. ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيوانا آخر وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال، فثبت أن أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات وثبت أن تولد النبات من الأرض، فلزم القطع بأن الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض، ومعلوم أن مدبر السماوات والأرضين ليس إلا الله سبحانه وتعالى، فثبت أن الرزق ليس إلا من الله تعالى، وأما أحوال الحواس فكذلك، لأن أشرفها السمع والبصر وكان علي رضي الله عنه يقول: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم، وأما أحوال الموت والحياة فهو قوله: * (ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) * وفيه وجهان: الأول: أنه يخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة * (ويخرج الميت من الحي) * أي يخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر. والثاني: أن المراد منه أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر
86

من المؤمن، والأكثرون على القول الأول، وهو إلى الحقيقة أقرب، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا التفصيل ذكر بعده كلاما كليا، وهو قوله: * (ومن يدبر الأمر) * وذلك لأن أقسام تدبير الله تعالى في العالم العلوي وفي العالم السفلي وفي عالمي الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها، وذكر كلها كالمتعذر، فلما ذكر بعض تلك التفاصيل لا جرم عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بين تعالى أن الرسول عليه السلام، إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون إنه الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به، وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام إنها تقربنا إلى الله زلفى وإنهم شفعاؤنا عند الله وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، فعند ذلك قال لرسوله عليه السلام: * (فقل أفلا تتقون) * يعني أفلا تتقون أن تجعلوا هذه الأوثان شركاء لله في المعبودية، مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل من رحمة الله وإحسانه، واعترافكم بأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر البتة.
ثم قال تعالى: * (فذلكم الله ربكم) * ومعناه أن من هذه قدرته ورحمته هو * (ربكم الحق) * الثابت ربوبيته ثباتا لا ريب فيه، وإذا ثبت أن هذا هو الحق، وجب أن يكون ما سواه ضلالا، لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقا وجب أن يكون ما سواه باطلا.
ثم قال: * (فأنى تصرفون) * والمعنى أنكم لما عرفتم هذا الأمر الواضح الظاهر * (فأنى تصرفون) * وكيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر، واعلم أن الجبائي قد استدل بهذه الآية وقال: هذا يدل على بطلان قول المجبرة أنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان، لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يقول: * (فأنى تصرفون) * كما لا يقول إذا أعمى بصر أحدهم إني عميت، واعلم أن الجواب عنه سيأتي عن قريب.
أما قوله: * (كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء الله تعالى وإرادته، وتقريره أنه تعالى أخبر عنهم خبرا جزما قطعا أنهم لا يؤمنون، فلو آمنوا لكان إما أن يبقى ذلك الخبر صدقا أو لا يبقى، والأول باطل، لأن الخبر بأنه لا يؤمن يمتنع أن يبقى صدقا حال ما يوجد الإيمان منه والثاني أيضا باطل، لأن انقلاب خبر الله تعالى كذبا محال فثبت أن صدور الإيمان منهم محال. والمحال لا يكون مرادا، فثبت أنه تعالى ما أراد الإيمان من هذا الكافر وأنه أراد الكفر منه، ثم نقول: إن كان قوله: * (فأنى تصرفون) * يدل على صحة مذهب القدرية، فهذه الآية الموضوعة بجنبه
87

تدل على فساده، وقد كان من الواجب على الجبائي مع قوة خاطره حين استدل بتلك الآية على صحة قوله أن يذكر هذه الحجة ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده.
المسألة الثانية: قرأ نافع وابن عامر * (كلمات ربك) * على الجمع وبعده * (إن الذين حقت عليهم كلمات ربك) * (يونس: 96) وفي حم المؤمن * (كذلك حقت كلمات) * (غافر: 6) كله بالألف على الجمع والباقون * (كلمت ربك) * في جميع ذلك على لفظ الوحدان.
المسألة الثالثة: الكاف في قوله: * (كذلك) * للتشبيه، وفيه قولان: الأول: أنه كما ثبت وحق أنه ليس بعد الحق إلا الضلال كذلك حقت كلمة ربك بأنهم لا يؤمنون. الثاني: كما حق صدور العصيان منهم، كذلك حقت كلمة العذاب عليهم.
المسألة الرابعة: * (أنهم لا يؤمنون) * بدل من * (كلمت) * أي حق عليهم انتفاء الإيمان.
المسألة الخامسة: المراد من كلمة الله إما إخباره عن ذلك وخبره صدق لا يقبل التغير والزوال، أو علمه بذلك، وعلمه لا يقبل التغير والجهل. وقال بعض المحققين: علم الله تعلق بأنه لا يؤمن وخبره تعالى تعلق بأنه لا يؤمن، وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه، بل بخلق الكفر فيه وإرادته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه، بل بخلق الكفر فيه، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ، وأشهد عليه ملائكته، وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء، فينقلب علمه جهلا، وخبره الصدق
كذبا، وقدرته عجزا، وإرادته كرها، وإشهاده باطلا، وإخبار الملائكة والأنبياء كذبا، وكل ذلك محال.
قوله تعالى
* (قل هل من شركآئكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون) *.
اعلم أن هذا هو الحجة الثانية، وتقريرها ما شرح الله تعالى في سائر الآيات من كيفية ابتداء تخليق الإنسان من النطفة والعلقة والمضغة وكيفية إعادته، ومن كيفية ابتداء تخليق السماوات والأرض، فلما فصل هذه المقامات، لا جرم اكتفى تعالى بذكرها ههنا على سبيل الإجمال، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام.
88

والجواب: أن الكلام إذا كان ظاهرا جليا ثم ذكر على سبيل الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤول، كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب.
السؤال الثاني: القوم كانوا منكرين الإعادة والحشر والنشر فكيف احتج عليهم بذلك؟
والجواب: أنه تعالى قدم في هذه السورة ذكر ما يدل عليه، وهو وجوب التمييز بين المحسن وبين المسئ وهذه الدلالة ظاهرة قوية لا يتمكن العاقل من دفعها، فلأجل كمال قوتها وظهورها تمسك به سواء ساعد الخصم عليه أو لم يساعد.
السؤال الثالث: لم أمر رسوله بأن يعترف بذلك، والإلزام إنما يحصل لو اعترف الخصم به؟
والجواب: أن الدليل لما كان ظاهرا جليا، فإذا أورد على الخصم في معرض الاستفهام، ثم إنه بنفسه يقول الأمر كذلك، كان هذا تنبيها على أن هذا الكلام بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به، وأنه سواء أقر أو أنكر، فالأمر متقرر ظاهر.
أما قوله: * (فأنى تؤفكون) * فالمراد التعجب منهم في الذهاب عن هذا الأمر الواضح الذي دعاهم الهوى والتقليد أو الشبهة الضعيفة إلى مخالفته، لأن الإخبار عن كون الأوثان آلهة كذب وإفك، والاشتغال بعبادتها مع أنها لا تستحق هذه العبادة يشبه الإفك.
قوله تعالى
* (قل هل من شركآئكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون * وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو الحجة الثالثة، واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا، ثم بالهداية ثانيا، عادة مطردة في القرآن، فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك
89

فقال: * (الذي خلقني فهو يهدين) * (الشعراء: 78) وعن موسى عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: * (سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) * (الأعلى: 1 - 3) وهو في الحقيقة دليل شريف، لأن الإنسان له جسد وله روح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية فههنا أيضا لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى، وهو قوله: * (أم من يبدأ الخلق ثم يعيده) * (النمل: 64) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية.
واعلم أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح، كما قال تعالى: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) * (الحل: 78) وهذا كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد، وإنما أعطى الحواس لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم، وأيضا فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة، أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية، فإنها كمالات باقية أبد الآباد مصونة عن الكون والفساد، فعلمنا أن الخلق تبع للهداية، والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية.
إذا ثبت هذا فنقول: العقول مضطربة والحق صعب، والأفكار مختلطة، ولم يسلم من الغلط إلا الأقلون، فوجب أن الهداية وإدراك الحق لا يكون إلا بإعانة الله سبحانه وتعالى وهدايته وإرشاده، ولصعوبة هذا الأمر قال الكليم عليه السلام بعد استماع الكلام القديم * (رب اشرح لي صدري) * (طه: 25) وكل الخلق يطلبون الهداية ويحترزون عن الضلالة، مع أن الأكثرين وقعوا في الضلالة، وكل ذلك يدل على أن حصول الهداية والعلم والمعرفة ليس إلا من الله تعالى.
إذا عرفت هذا فنقول: الهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق، وإما أن تكون عبارة عن تحصيل تلك المعرفة وعلى التقديرين فقد دللنا على أنها أشرف المراتب البشرية وأعلى السعادات الحقيقية، ودللنا على أنها ليست إلا من الله تعالى. وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك كان الاشتغال بعبادتها جهلا محضا وسفها صرفا، فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال.
المسألة الثانية: قال الزجاج: يقال هديت إلى الحق، وهديت للحق بمعنى واحد، والله تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله: * (قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق) *.
90

المسألة الثالثة: في قوله: * (أم من لا يهدي) * ست قراءات: الأول: قرأ ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع * (يهدي) * بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، وهو
اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، لأن أصله يهتدي أدغمت التاء في الدال ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء. الثانية: قرأ نافع ساكنة الهاء مشددة الدال أدغمت التاء في الدال وتركت الهاء على حالها، فجمع في قراءته بين ساكنين كما جمعوا في * (يخصمون) * (يس: 49) قال علي بن عيسى وهو غلط على نافع. الثالثة: قرأ أبو عمرو بالإشارة إلى فتحة الهاء من غير إشباع فهو بين الفتح والجزم مختلسة على أصل مذهبه اختيارا للتخفيف، وذكر علي بن عيسى أنه الصحيح من قراءة نافع. الرابعة: قرأ عاصم بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال فرارا من التقاء الساكنين، والجزم يحرك بالكسر. الخامسة: قرأ حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء أتبع الكسرة للكسرة. وقيل: هو لغة من قرأ * (نستعين ونعبد) * السادسة: قرأ حمزة والكسائي * (يهدي) * ساكنة الهاء وبتخفيف الدال على معنى يهتدي والعرب تقول: يهدي، بمعنى يهتدي يقال: هديته فهدى أي اهتدى.
المسألة الرابعة: في لفظ الآية إشكال، وهو أن المراد من الشركاء في هذه الآية الأصنام وأنها جمادات لا تقبل الهداية، فقوله: * (أم من لا يهدي إلا أن يهدي) * لا يليق بها.
والجواب من وجوه: الأول: لا يبعد أن يكون المراد من قوله: * (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده) * هو الأصنام. والمراد من قوله: * (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق) * رؤساء الكفر والضلالة والدعاة إليها. والدليل عليه قوله سبحانه: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * إلى قوله: * (لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) * (التوبة: 31) والمراد أن الله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الدين الحق بواسطة ما أظهر من الدلائل العقلية والنقلية. وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله تعالى، فكان التمسك بدين الله تعالى أولى من قبول قول هؤلاء الجهال.
الوجه الثاني: في الجواب أن يقال: إن القوم لما اتخذوها آلهة، لا جرم عبر عنها كما يعبر عمن يعلم ويعقل، ألا ترى أنه تعالى قال: * (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) * (الأعراف: 194) مع أنها جمادات وقال: * (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) * (فاطر: 14) فأجرى اللفظ على الأوثان على حسب ما يجري على من يعقل ويعلم فكذا ههنا وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل، وإن لم يكن الأمر كذلك، الثالث: أنا نحمل ذلك على التقدير، يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي، فإنها لا تهدي غيرها إلا بعد أن يهديها غيرها، وإذا حملنا الكلام على هذا التقدير فقد زال السؤال. الرابع: أن البنية عندنا ليست شرطا
91

لصحة الحياة والعقل، فتلك الأصنام حال كونها خشبا وحجرا قابلة للحياة والعقل، وعلى هذا التقدير فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة ثم إنها تشتغل بهداية الغير. الخامس: أن الهدى عبارة عن النقل والحركة يقال: هديت المرأة إلى زوجها هدى، إذا نقلت إليه والهدي ما يهدى إلى الحرم من النعم، وسميت الهدية هدية لانتقالها من رجل إلى غيره، وجاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمدا عليهما من ضعفه وتمايله.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (أم من لا يهدي إلا أن يهدي) * يحتمل أن يكون معناه أنه لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه، وعلى هذا التقدير فالمراد الإشارة إلى كون هذه الأصنام جمادات خالية عن الحياة والقدرة. واعلم أنه تعالى لما قرر على الكفار هذه الحجة الظاهرة قال: * (فما لكم كيف تحكمون) * يعجب من مذهبهم الفاسد ومقالتهم الباطلة أرباب العقول.
ثم قال تعالى: * (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) * وفيه وجهان: الأول: وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظنا، لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم، بل سمعوه من أسلافهم. الثاني: وما يتبع أكثرهم في قولهم الأصنام آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن والقول الأول أقوى، لأنا في القول الثاني نحتاج إلى أن نفسر الأكثر بالكل.
ثم قال تعالى: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تمسك نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: العمل بالقياس عمل بالظن، فوجب أن لا يجوز، لقوله تعالى: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) *.
أجاب مثبتو القياس، فقالوا: الدليل الذي دل على وجوب العمل بالقياس دليل قاطع، فكان وجوب العمل بالقياس معلوما، فلم يكن العمل بالقياس مظنونا بل كان معلوما.
أجاب المستدل عن هذا السؤال، فقال: لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكما لله تعالى لكان ترك العمل به كفرا لقوله تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * (المائدة: 44) ولما لم يكن كذلك، بطل العمل به وقد يعدون عن هذه الحجة بأنهم قالوا: الحكم المستفاد من القياس إما أن يعلم كونه حكما لله تعالى أو يظن أو لا يعلم ولا يظن والأول باطل وإلا لكان من لم يحكم به كافرا لقوله تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * (المائدة: 44) وبالاتفاق ليس كذلك. والثاني: باطل، لأن العمل بالظن لا يجوز لقوله تعالى: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * والثالث: باطل، لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوما ولا مظنونا، كان مجرد التشهي، فكان باطلا لقوله تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) * (مريم: 59).
وأجاب مثبتو القياس: بأن حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسك بالعمومات، والتمسك بالعمومات
92

لا يفيد إلا الظن. فلما كانت هذه العمومات دالة على المنع من التمسك بالظن، لزم كونها دالة على المنع من التمسك بها، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكا. المسألة الثانية: دلت هذه الآية على أن كل من كان ظانا في مسائل الأصول، وما كان قاطعا، فإنه لا يكون مؤمنا.
فإن قيل: فقول أهل السنة أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر.
قلنا: هذا ضعيف من وجوه: الأول: مذهب الشافعي رحمه الله: أن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، والشك أصل في أن هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى؟ والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية. الثاني: أن الغرض من قوله إن شاء الله بقاء الإيمان عند الخاتمة. الثالث:
الغرض منه هضم النفس وكسرها. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وما كان هذا القرءان أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنا حين شرعنا في تفسير قوله تعالى: * (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه) * (يونس: 20) ذكرنا أن القوم إنما ذكروا ذلك لاعتقادهم أن القرآن ليس بمعجز، وأن محمدا إنما يأتي به من
93

عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق، ثم إنه تعالى ذكر الجوابات الكثيرة عن هذا الكلام، وامتدت تلك البيانات على الترتيب الذي شرحناه وفصلناه إلى هذا الموضع، ثم إنه تعالى بين في هذا المقام أن إتيان محمد عليه السلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى، ولكنه وحي نازل عليه من عند الله، ثم إنه تعالى احتج على صحة هذا الكلام بقوله: * (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله) * وذلك يدل على أنه معجز نازل عليه من عند الله تعالى، وأنه مبرأ عن الافتراء والافتعال فهذا هو الترتيب الصحيح في نظم هذه الآيات.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (وما كان هذا القرآن أن يفترى) * فيه وجهان: الأول: أن قوله: * (أن يفترى) * في تقدير المصدر، والمعنى: وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله، كما تقول: ما كان هذا الكلام إلا كذبا. والثاني: أن يقال إن كلمة * (أن) * جاءت ههنا بمعنى اللام، والتقدير: ما كان هذا القرآن ليفتري من دون الله، كقوله: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * (التوبة: 122) * (ما كان الله ليذر المؤمنين... وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * (آل عمران: 179) أي لم يكن ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك، فكذلك ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى، أي ليس وصفه وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله، لأن المفتري هو الذي يأتي به البشر، والقرآن معجز لا يقدر عليه البشر، والافتراء افتعال من فريت الأديم إذا قدرته للقطع، ثم استعمل في الكذب كما استعمل قولهم: اختلف فلان هذا الحديث في الكذب، فصار حاصل هذا الكلام أن هذا القرآن لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل، ثم إنه تعالى احتج على هذه الدعوى بأمور:
الحجة الأولى: قوله: * (ولكن تصديق الذي بين يديه) * وتقرير هذه الحجة من وجوه: أحدها: أن محمدا عليه السلام كان رجلا أميا ما سافر إلى بلدة لأجل التعلم، وما كانت مكة بلدة العلماء، وما كان فيها شيء من كتب العلم، ثم إنه عليه السلام أتى بها القرآن، فكان هذا القرآن مشتملا على أقاصيص الأولين، والقوم كانوا في غاية العداوة له، فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التوراة والإنجيل لقدحوا فيه ولبالغوا في الطعن فيه، ولقالوا له إنك جئت بهذه الأقاصيص لا كما ينبغي، فلما لم يقل أحد ذلك مع شدة حرصهم على الطعن فيه، وعلى تقبيح صورته، علمنا أنه أتى بتلك الأقاصيص مطابقة لما في التوراة والإنجيل، مع أنه ما طالعهما ولا تلمذ لأحد فيهما، وذلك يدل على أنه عليه السلام إنما أخبر عن هذه الأشياء بوحي من قبل الله تعالى.
الحجة الثانية: أن كتب الله المنزلة دلت على مقدم محمد عليه السلام، على ما استقصينا في تقريره في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40) وإذا كان الأمر كذلك
94

كان مجيء محمد عليه السلام تصديقا لما في تلك الكتب، من البشارة بمجيئه صلى الله عليه وسلم، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه.
الحجة الثالثة: أنه عليه السلام أخبر في القرآن عن الغيوب الكثيرة في المستقبل، ووقعت مطابقة لذلك الخبر، كقوله تعالى: * (ألم غلبت الروم) * (الروم: 1، 2) الآية، وكقوله تعالى: * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) * (الفتح: 27) وكقوله: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) * (النور: 55) وذلك يدل على أن الإخبار عن هذه الغيوب المستقبلة، إنما حصل بالوحي من الله تعالى، فكان ذلك عبارة عن تصديق الذي بين يديه، فالوجهان الأولان: إخبار عن الغيوب الماضية والوجه الثالث: إخبار عن الغيوب المستقبلة، ومجموعها عبارة عن تصديق الذي بين يديه.
النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: * (وتفصيل كل شيء) *.
واعلم أن الناس اختلفوا في أن القرآن معجز من أي الوجوه؟ فقال بعضهم: إنه معجز لاشتماله على الإخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة، وهذا هو المراد من قوله: * (تصديق الذي بين يديه) * ومنهم من قال: إنه معجز لاشتماله على العلوم الكثيرة، وإليه الإشارة بقوله: * (وتفصيل كل شيء) * وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلوم إما أن تكون دينية أو ليست دينية، ولا شك أن القسم الأول أرفع حالا وأعظم شأنا وأكمل درجة من القسم الثاني. وأما العلوم الدينية، فإما أن تكون علم العقائد والأديان، وإما أن تكون علم الأعمال. أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. أما معرفة الله تعالى، فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله، ومعرفة صفات إكرامه، ومعرفة أفعاله، ومعرفة أحكامه، ومعرفة أسمائه والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب، بل لا يقرب منه شيء من المصنفات. وأما علم الأعمال فهو إما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر وهو علم الفقه. ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن، وإما أن يكون علما بتصفية الباطن أو رياضة القلوب. وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يكاد يوجد في غيره، كقوله: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) * (الأعراف: 199) وقوله: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) * (النمل: 90) فثبت أن القرآن مشتمل على تفاصيل جميع العلوم الشريفة، عقليها ونقليها، اشتمالا يمتنع حصوله في
سائر الكتب فكان ذلك معجزا، وإليه الإشارة بقوله: * (وتفصيل الكتاب) *.
أما قوله: * (لا ريب فيه من رب العالمين) * فتقريره: أن الكتاب الطويل المشتمل على هذه
95

العلوم الكثيرة لا بد وأن يشتمل على نوع من أنواع التناقض، وحيث خلي هذا الكتاب عنه، علمنا أنه من عند الله وبوحيه وتنزيله، ونظيره قوله تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82).
واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول هذه الآية أن هذا القرآن لا يليق بحاله وصفته أن يكون كلاما مفترى على الله تعالى، وأقام عليه هذين النوعين من الدلائل المذكورة، عاد مرة أخرى بلفظ الاستفهام على سبيل الإنكار، فقال: * (أم يقولون افتراه) * ثم إنه تعالى ذكر حجة أخرى على إبطال هذا القول، فقال: * (قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) * وهذه الحجة بالغنا في تقريرها في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) * (البقرة: 23) وههنا سؤالات:
السؤال الأول: لم قال في سورة البقرة: * (من مثله) * وقال ههنا: * (فأتوا بسورة مثله) *.
والجواب: أن محمدا عليه السلام كان رجلا أميا، لم يتلمذ لأحد ولم يطالع كتابا فقال في سورة البقرة: * (فأتوا بسورة من مثله) * يعني فليأت إنسان يساوي محمدا عليه السلام في عدم التلمذ وعدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز. فهذا لا يدل على أن السورة في نفسها معجزة، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد عليه السلام في عدم التلمذ والتعلم معجز، ثم إنه تعالى بين في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجز، فإن الخلق وإن تلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا، فإنه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور، فلا جرم قال تعالى في هذه الآية: * (فأتوا بسورة مثله) * ولا شك أن هذا ترتيب عجيب في باب التحدي وإظهار المعجز.
السؤال الثاني: قوله: * (فأتوا بسورة مثله) * هل يتناول جميع السور الصغار والكبار، أو يختص بالسور الكبار.
الجواب: هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فالمراد مثل هذه السورة، لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه.
السؤال الثالث: أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن القرآن مخلوق، قالوا: إنه عليه السلام تحدى العرب بالقرآن، والمراد من التحدي: أنه طلب منهم الإتيان بمثله، فإذا عجزوا عنه ظهر كونه حجة من عند الله على صدقه، وهذا إنما يمكن لو كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ولو كان قديما لكان الإتيان بمثل القديم محالا في نفس الأمر، فوجب أن لا يصح التحدي.
96

والجواب: أن القرآن اسم يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله تعالى، وعلى هذه الحروف والأصوات، ولا نزاع في أن الكلمات المركبة من هذه الحروف والأصوات محدثة مخلوقة، والتحدي إنما وقع بها لا بالصفة القديمة.
أما قوله: * (وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) * فالمراد منه: تعليم أنه كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة لو كانوا قادرين عليها، وتقريره أن الجماعة إذا تعاونت وتعاضدت صارت تلك العقول الكثيرة كالعقل الواحد، فإذا توجهوا نحو شيء واحد، قدر مجموعهم على ما يعجز كل واحد منهم، فكأنه تعالى يقول: هب أن عقل الواحد والاثنين منكم لا يفي باستخراج معارضة القرآن فاجتمعوا وليعن بعضكم بعضا في هذه المعارضة، فإذا عرفتم عجزكم حالة الاجتماع وحالة الانفراد عن هذه المعارضة، فحينئذ يظهر أن تعذر هذه المعارضة إنما كان لأن قدرة البشر غير وافية بها، فحينئذ يظهر أن ذلك فعل الله لا فعل البشر.
واعلم أنه قد ظهر بهذا الذي قررناه أن مراتب تحدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ستة، فأولها: أنه تحداهم بكل القرآن كما قال: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (الإسراء: 88) وثانيها: أنه عليه السلام تحداهم بعشر سور قال تعالى: * (فاتوا بعشر سور مثله مفتريات) * وثالثها: أنه تحداهم بسورة واحدة كما قال: * (فأتوا بسورة من مثله) * (الطور: 34) ورابعها: أنه تحداهم بحديث مثله فقال: * (فليأتوا بحديث مثله) * وخامسها: أن في تلك المراتب الأربعة، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم التلمذ والتعلم، ثم في سورة يونس طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان سواء تعلم العلوم أو لم يتعلمها. وسادسها: أن في المراتب المتقدمة تحدى كل واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة، كما قال: * (وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) * وههنا آخر المراتب، فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أن القرآن معجز، ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا القرآن فقال: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله) * واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوها:
الوجه الأول: أنهم كلما سمعوا شيئا من القصص قالوا: ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها: فأولها: بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم، ونقل أهله من العز إلى الذل ومن الذل إلى العز
97

وذلك يدل على قدرة كاملة. وثانيها: أنها تدل على العبرة من حيث إن الإنسان يعرف بها أن الدنيا لا تبقى، فنهاية كل متحرك سكون، وغاية كل متكون أن لا يكون، فيرفع قلبه عن حب الدنيا وتقوى رغبته في طلب الآخرة، كما قال: * (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) * (يوسف: 111) وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ، دل ذلك على أنه بوحي من الله تعالى، كما قال في سورة الشعراء بعد أن ذكر القصص * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين) * (الشعراء: 192 - 194).
والوجه الثاني: أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئا ساء ظنهم بالقرآن. وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) * (آل عمران: 7).
والوجه الثالث: أنهم رأوا أن القرآن يظهر شيئا فشيئا، فصار ذلك سببا للطعن الردئ فقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة فأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (كذلك لنثبت به فؤادك) * (الفرقان: 32) وقد شرحنا هذا الجواب في سورة الفرقان.
والوجه الرابع: أن القرآن مملوء من إثبات الحشر والنشر، والقوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت، ولم يتقرر ذلك في قلوبهم، فظنوا أن محمدا عليه السلام إنما يذكر ذلك على سبيل الكذب، والله تعالى بين صحة القول بالمعاد بالدلائل القاهرة الكثيرة.
الوجه الخامس: أن القرآن مملوء من الأمر بالصلاة والزكاة وسائر العبادات، والقوم كانوا يقولون إله العالمين غني عنا وعن طاعتنا، وإنه تعالى أجل من أن يأمر بشيء لا فائدة فيه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) * (المؤمنون: 115) وبقوله: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) وبالجملة فشبهات الكفار كثيرة، فهم لما رأوا القرآن مشتملا على أمور ما عرفوا حقيقتها ولم يطلعوا على وجه الحكمة فيها لا جرم كذبوا بالقرآن، والحاصل أن القوم ما كانوا يعرفون أسرار الإلهيات، وكانوا يجرون الأمور على الأحوال المألوفة من عالم المحسوسات وما كانوا يطلبون حكمها ولا وجوه تأويلاتها، فلا جرم وقعوا في التكذيب والجهل، فقوله: * (بل كذبوا لما لم يحيطوا بعلمه) * إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء، وقوله: * (ولما يأتهم تأويله) * إشارة إلى عدم جدهم واجتهادهم في طلب تلك الأسرار.
ثم قال: * (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) * والمراد أنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة، فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم، ومن الناس من قال المراد منه عذاب الاستئصال وهو الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الرسل من ضروب العذاب في الدنيا، قال أهل التحقيق قوله:
98

* (ولما يأتهم تأويله) * يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة، لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة، فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق، أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل على التأويل فيصير ذلك نورا على نور يهدي الله لنوره من يشاء.
قوله تعالى
* (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين * وإن كذبوك فقل لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا برىء مما تعملون) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله: * (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) * وكان المراد منه تسليط العذاب عليهم في الدنيا، أتبعه بقوله: * (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به) * منبها على أن الصلاح عنده تعالى كان في هذه الطائفة التبقية دون الاستئصال، من حيث كان المعلوم أن منهم من يؤمن به، والأقرب أن يكون الضمير في قوله: * (به) * رجعا إلى القرآن، لأنه هو المذكور من قبل، ثم يعلم أنه متى حصل الإيمان بالقرآن، فقد حصل معه الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام أيضا. واختلفوا في قوله: * (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به) * لأن كلمة يؤمن فعل مستقبل وهو يصلح للحال والاستقبال، فمنهم من حمله على الحال، وقال: المراد أن منهم من يؤمن بالقرآن باطنا، لكنه يتعمد الجحد وإظهار التكذيب، ومنهم من باطنه كظاهره في التكذيب، ويدخل فيه أصحاب الشبهات، وأصحاب التقليد، ومنهم من قال: المراد هو المستقبل، يعني أن منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الفكر ويبدله بالإيمان ومنهم من بصر ويستمر على الكفر.
ثم قال: * (وربك أعلم بالمفسدين) * أي هو العالم بأحوالهم في أنه هل يبقى مصرا على الكفر أو يرجع عنه.
ثم قال: * (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم) * قيل فقل لي عملي الطاعة والإيمان، ولكم عملكم الشرك، وقيل: لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم.
99

ثم قال: * (أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) * قيل معنى الآية الزجر والردع، وقيل بل معناه استمالة قلوبهم. قال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد، لأن شرط الناسخ أن يكون رافعا لحكم المنسوخ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، فآية القتال ما رفعت شيئا من مدلولات هذه الآية فكان القول بالنسخ باطلا.
قوله تعالى
* (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون * إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى في الآية الأولى، قسم الكفار إلى قسمين منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به، وفي هذه الآية قسم من لا يؤمن به قسمين: منهم من يكون في غاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه، ومنهم من لا يكون كذلك، فوصف القسم الأول في هذه الآية فقال: ومنهم من يستمع كلامك مع أنه يكون كالأصم من حيث إنه لا ينتفع البتة بذلك الكلام فإن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر، وعظمت نفرته عنه، صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابح كلامه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه، فالصمم في الأذن، معنى ينافي حصول إدراك الصوت فكذلك حصول هذا البغض الشديد كالمنافي للوقوف على محاسن ذلك الكلام والعمى في العين معنى ينافي حصول إدراك الصورة، فكذلك البغض ينافي وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه والوقوف على ما آتاه الله تعالى من الفضائل، فبين
تعالى أن في أولئك الكفار من بلغت حالته في البغض والعداوة إلى هذا الحد، ثم كما أنه لا يمكن جعل الأصم سميعا ولا جعل الأعمى بصيرا،
100

فكذلك لا يمكن جعل العدو البالغ في العداوة إلى هذا الحد صديقا تابعا للرسول صلى الله عليه وسلم والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذه الطائفة، قد بلغوا في مرض العقل إلى حيث لا يقبلون العلاج والطبيب إدا رأى مريضا لا يقبل العلاج أعرض عنه، ولم يستوحش من عدم قبوله للعلاج، فكذلك وجب عليك أن لا تستوحش من حال هؤلاء الكفار.
المسألة الثانية: احتج ابن قتيبة بهذه الآية، على أن السمع أفضل من البصر فقال: إن الله تعالى قرن بذهاب السمع ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر. وزيف ابن الأنباري هذا الدليل فقال: إن الذي نفاه الله مع السمع بمنزلة الذي نفاه الله مع البصر لأنه تعالى أراد إبصار القلوب، ولم يرد إبصار العيون والذي يبصره القلب هو الذي يعقله. واحتج ابن قتيبة على هذا المطلوب بحجة أخرى من القرآن، فقال: كلما ذكر الله السمع والبصر، فإنه في الأغلب يقدم السمع على البصر، وذلك يدل على أن السمع أفضل من البصر ومن الناس من ذكر في هذا الباب دلائل أخرى: فأحدها: أن العمى قد وقع في حق الأنبياء عليهم السلام أما الصمم فغير جائز عليهم لأنه يخل بأداء الرسالة، من حيث إنه إذا لم يسمع كلام السائلين تعذر عليه الجواب فيعجز عن تبليغ شرائع الله تعالى.
الحجة الثانية: أن القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلا من جهة واحدة وهي المقابل.
الحجة الثالثة: أن الإنسان إنما يستفيد العلم بالتعلم من الأستاذ، وذلك لا يمكن إلا بقوة السمع، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع، ولا يتوقف على قوة البصر، فكان السمع أفضل من البصر.
الحجة الرابعة: أنه تعالى قال: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) * والمراد من القلب ههنا العقل، فجعل السمع قرينا للعقل ويتأكد هذا بقوله تعالى: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) * (الملك: 10) فجلوا السمع سببا للخلاص من عذاب السعير. الحجة الخامسة: أن المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق والكلام وإنما ينتفع بذلك القوة السامعة، فمتعلق السمع النطق الذي به حصل شرف الإنسان، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.
101

الحجة السادسة: أن الأنبياء عليهم السلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم، فنبوتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية، وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأصوات المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع وبيان الأحكام، فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئي، فلزم أن يكون السمع أفضل من البصر، فهذا جملة ما تمسك به القائلون بأن السمع أفضل من البصر، ومن الناس من قال: البصر أفضل من السمع، ويدل عليه وجوه:
الحجة الأولى: أنهم قالوا في المثل المشهور ليس وراء العيان بيان، وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الأبصار.
الحجة الثانية: أن آلة القوة الباصرة هو النور وآلة القوة السامعة هي الهواء والنور أشرف من الهواء فالقوة الباصرة أشرف من القوة السامعة.
الحجة الثالثة: أن عجائب حكمة الله تعالى في تخليق العين التي هي محل الأبصار أكثر من عجائب خلقته في الأذن التي هي محل السماع، فإنه تعالى جعل تمام روح واحد من الأرواح السبعة الدماغية من العصب آلة للأبصار، وركب العين من سبع طبقات وثلاث رطوبات وخلق لتحريكات العين عضلات كثيرة على صورة مختلفة والأذن ليس كذلك وكثرة العناية في تخليق الشيء تدل على كونه أفضل من غيره.
الحجة الرابعة: أن البصر يرى ما حصل فوق سبع سماوات والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ، فكان البصر أقوى وأفضل وبهذا البيان يدفع قولهم إن السمع يدرك من كل الجوانب والبصر لا يدرك إلا من الجانب الواحد.
الحجة الخامسة: أن كثيرا من الأنبياء سمع كلام الله في الدنيا، واختلفوا في أنه هل رآه أحد في الدنيا أم لا؟ وأيضا فإن موسى عليه السلام سمع كلامه من غير سبق سؤال والتماس ولما سأل الرؤية قال: * (لن تراني) * (الأعراف: 143) وذلك يدل على أن حال الرؤية أعلى من حال السماع.
الحجة السادسة: قال ابن الأنباري: كيف يكون السمع أفضل من البصر وبالبصر يحصل جمال الوجه، وبذهابه عيبه، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيبا، العرب تسمي العينين الكريمتين ولا تصف السمع بمثل هذا؟ ومنه الحديث يقول الله تعالى: (من أذهبت كريمته فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة).
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية، على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، قالوا: الآية دالة على أن قلوب أولئك الكفار بالنسبة إلى الإيمان كالأصم بالنسبة إلى استماع الكلام، وكالأعمى
102

بالنسبة إلى إبصار الأشياء، وكما أن هذا ممتنع فكذلك ما نحن فيه. قالوا: والذي يقوي ذلك أن حصول العداوة القوية الشديدة، وكذلك حصول المحبة الشديدة في القلب ليس باختيار الإنسان، لأن عند حصول هذه العداوة الشديدة يجد وجدانا ضروريا أن القلب يصير كالأصم والأعمى في استماع كلام العدو وفي مطالعة أفعاله الحسنة، وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل المطلوب، وأيضا لما حكم الله تعالى عليها حكما جازما بعدم الإيمان، فحينئذ يلزم من حصول الإيمان انقلاب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا وذلك محال. وأما المعتزلة: فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) * وجه الاستدلال به، أنه يدل على أنه تعالى ما ألجأ أحدا إلى هذه القبائح والمنكرات، ولكنهم باختيار أنفسهم يقدمون عليها ويباشرونها.
أجاب الواحدي عنه فقال: إنه تعالى إنما نفى الظلم عن نفسه، لأنه يتصرف في ملك نفسه، ومن كان كذلك لم يكن ظالما، وإنما قال: * (ولكن الناس أنفسهم يظلمون) * لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب.
قوله تعالى
* (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله وما كانوا مهتدين * وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) *.
اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الكفار بقلة الإصغاء وترك التدبر أتبعه بالوعيد فقال: * (ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حفص عن عاصم * (يحشرهم) * بالياء والباقون بالنون.
المسألة الثانية: قوله: * (كأن لم يلبثوا) * في موضع الحال، أي مشابهين من لم يلبث إلا ساعة من النهار. وقوله: * (يتعارفون) * يجوز أن يكون متعلقا بيوم نحشرهم، ويجوز أن يكون حالا بعد حال.
المسألة الثالثة: * (كأن) * هذه هي المخففة من الثقيلة. التقدير: كأنهم لم يلبثوا، فخففت كقوله: وكأن قد.
103

المسألة الرابعة: قيل: كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار وقيل في قبورهم، والقرآن وارد بهذين الوجهين قال تعالى: * (كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) * (المؤمنون: 112، 113) قال القاضي: والوجه الأول أولى لوجهين: أحدهما: أن حال المؤمنين كحال الكافرين في أنهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلى وقت الحشر، فيجب أن يحمل ذلك على أمر يختص بالكفار، وهو أنهم لما لم ينتفعوا بعمرهم استقلوه، والمؤمن لما انتفع بعمره فإنه لا يستقله. الثاني: أنه قال: * (يتعارفون بينهم) * لأن التعارف إنما يضاف إلى حال الحياة لا إلى حال الممات.
المسألة الخامسة: ذكروا في سبب هذا الاستقلال وجوها: الأول: قال أبو مسلم: لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على لذاتها لم ينتفعوا بعمرهم البتة، فكان وجود ذلك العمر كالعدم، فلهذا السبب استقلوه ونظيره قوله تعالى: * (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) * (البقرة: 96) الثاني: قال الأصم: قل ذلك عندهم لما شاهدوا من أهوال الآخرة، والإنسان إذا عظم خوفه نسي الأمور الظاهرة. الثالث: أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة وفي العذاب المؤبد. الرابع: أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا لطول وقوفهم في الحشر. الخامس: المراد أنهم عند خروجهم من القبور يتعارفون كما كانوا يتعارفون في الدنيا، وكأنهم لم يتعارفوا بسبب الموت إلا مدة قليلة لا تؤثر في ذلك التعارف. وأقول: تحقيق الكلام في هذا الباب، أن عذاب الكافر مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإهانة والإذلال، والإحساس بالمضرة أقوى من الإحساس باللذة بدليل أن أقوى اللذات هي لذات الوقاع، والشعور بأم القولنج وغيره والعياذ بالله تعالى أقوى من الشعور بلذة الوقاع. وأيضا لذات الدنيا مع خساستها ما كانت خالصة، بل كانت مخلوطة بالهمومات الكثيرة، وكانت تلك اللذات مغلوبة بالمؤلمات والآفات، وأيضا إن لذات الدنيا ما حصلت إلا بعض أوقات الحياة الدنيوية، وآلام الآخرة أبدية سرمدية لا تنقطع البتة ونسبة عمر جميع الدنيا إلى الآخرة الأبدية أقل من الجزء الذي لا يتجزأ بالنسبة إلى ألف ألف عالم مثل العالم الموجود.
إذا عرفت هذا فنقول: أنه متى قوبلت الخيرات الحاصلة بسبب الحياة العاجلة بالآفات الحاصلة للكافر وجدت أقل من اللذة بالنسبة إلى جميع العالم فقوله: * (كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) * إشارة إلى ما ذكرناه من قلتها وحقارتها في جنب ما حصل من العذاب الشديد.
أما قوله: * (يتعارفون بينهم) * ففيه وجوه: الأول: يعرف بعضهم بعضا كما كانوا يعرفون في الدنيا. الثاني: يعرف بعضهم بعضا بما كانوا عليه من الخطأ والكفر، ثم تنقطع المعرفة إذا
104

عاينوا العذاب وتبرأ بعضهم من بعض.
فإن قيل: كيف توافق هذه الآية قوله: * (ولا يسئل حميم حميما) * (المعارج: 10) والجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن المراد من هذه الآية أنهم يتعارفون بينهم يوبخ بعضهم بعضا، فيقول: كل فريق للآخر أنت أضللتني يوم كذا وزينت لي الفعل الفلاني من القبائح، فهذا تعارف تقبيح وتعنيف وتباعد وتقاطع لا تعارف عطف وشفقة. وأما قوله تعالى: * (ولا يسئل حميم حميما) * فالمراد سؤال الرحمة والعطف.
والوجه الثاني: في الجواب حمل هاتين الآيتين على حالتين، وهو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة فلذلك لا يسأل حميم حميما.
أما قوله تعالى: * (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) * ففيه وجهان: الأول: أن يكون التقدير: ويوم يحشرهم حال كونهم متعارفين، وحال كونهم قائلين * (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) * الثاني: أن يكون * (قد خسر الذين كذبوا) * كلام الله، فيكون هذا شهادة من الله عليهم بالخسران، والمعنى: أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر، لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني.
وأما قوله: * (وما كانوا مهتدين) * فالمراد أنهم ما اهتدوا إلى رعاية مصالح هذه التجارة، وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة، فصاروا كمن رأى زجاجة حسنة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب. وأما قوله: * (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفيك فإلينا مرجعهم) * فاعلم أن قوله * (فإلينا مرجعهم) * جواب * (نتوفينك) * وجواب * (نرينك) * محذوف، والتقدير: وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك أو نتوفينك قبل أن نرينك ذلك الموعد فإنك ستراه في الآخرة.
واعلم أن هذا يدل على أنه تعالى يري رسوله أنواعا من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا، وسيزيد عليه بعد وفاته، ولا شك أنه حصل الكثير منه في زمان حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصل الكثير أيضا بعد وفاته، والذي سيحصل يوم القيامة أكثر، وهو تنبيه على أن عاقبة المحقين محمودة وعاقبة المذنبين مذمومة.
قوله تعالى
* (ولكل أمة رسول فإذا جآء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) *.
105

اعلم أنه تعالى لما بين حال محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه، بين أن حال كل الأنبياء مع أقوامهم كذلك، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية تدل على أن كل جماعة ممن تقدم قد بعث الله إليهم رسولا والله تعالى ما أهمل أمة من الأمم قط، ويتأكد هذا بقوله تعالى: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * (فاطر: 24).
فإن قيل: كيف يصح هذا مع ما يعلمه من أحوال الفترة ومع قوله سبحانه: * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) * (يس: 6).
قلنا: الدليل الذي ذكرناه لا يوجب أن يكون الرسول حاضرا مع القوم، لأن تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسولا إليهم، كما لا يمنع تقدم رسولنا من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد. وتحمل الفترة على ضعف دعوة الأنبياء ووقوع موجبات التخليط فيها.
المسألة الثانية: في الكلام إضمار والتقدير: فإذا جاء رسولهم وبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون قضى بينهم أي حكم وفصل.
المسألة الثالثة: المراد من الآية أحد أمرين: إما بيان أن الرسول إذا بعث إلى كل أمة فإنه بالتبليغ وإقامة الحجة يزيح كل علة فلا يبقى لهم عذر في مخالفته أو تكذيبه، فيدل ذلك على أن ما يجري عليهم من العذاب في الآخرة يكون عدلا ولا يكون ظلما، لأنهم من قبل أنفسهم وقعوا في ذلك العقاب، أو يكون المراد أن القوم إذا اجتمعوا في الآخرة جمع الله بينهم وبين رسولهم في وقت المحاسبة، وبأن الفصل بين المطيع والعاصي ليشهد عليهم بما شاهد منهم، وليقع منهم الاعتراف بأنه بلغ رسالات ربه فيكون ذلك من جملة ما يؤكد الله به الزجر في الدنيا كالمساءلة، وإنطاق الجوارح، والشهادة عليهم بأعمالهم والموازين وغيرها، وتمام التقرير على هذا الوجه الثاني أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الله شهيد عليهم، فكأنه تعالى يقول: أنا شهيد عليهم وعلى أعمالهم يوم القيامة، ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة مع كل قوم رسولهم، حتى يشهد عليهم بتلك الأعمال. والمراد منه المبالغة في إظهار العدل.
واعلم أن دليل القول الأول هو قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسراء: 15) وقوله: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * (النساء: 165) وقوله: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) * (طه: 134) ودليل القول الثاني قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * إلى قوله: * (ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143) وقوله: * (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) * (الفرقان: 30) وقوله تعالى: * (قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) * فالتكرير لأجل التأكيد والمبالغة في نفي الظلم.
106

قوله تعالى
* (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا إلا ما شآء الله لكل أمة أجل إذا جآء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *.
اعلم أن هذه الشبهة الخامسة من شبهات منكري النبوة فإنه عليه السلام كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب، قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، واحتجوا بعدم ظهوره على القدح في نوبته عليه السلام، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أن قوله تعالى: * (ويقولون متى هذا الوعد) * كالدليل على أن المراد مما تقدم من قوله: * (قضى بينهم بالقسط) * (يونس: 147) القضاء بذلك في الدنيا، لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في الدار الآخرة، لأن الحال في الآخرة حال يقين ومعرفة لحصول كل وعد ووعيد وإلا ظهر أنهم إنما قالوا ذلك على وجه التكذيب للرسول عليه السلام فيما أخبرهم من نزول العذاب للأعداء والنصرة للأولياء أو على وجه الاستبعاد لكونه محقا في ذلك الإخبار، ويدل هذا القول على أن كل أمة قالت لرسولها مثل ذلك القول بدليل قوله: * (إن كنتم صادقة) * وذلك لفظ جمع وهو موافق لقوله: * (ولكل أمة رسول) * (يونس: 47) ثم إنه تعالى أمره بأن يجيب عن هذه الشبهة بجواب يحسم المادة وهو قوله: * (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله) * والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصرة للأولياء لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه، وأنه تعالى ما عين لذلك الوعد والوعيد وقتا معينا حتى يقال: لما لم يحصل ذلك الموعود في ذلك الوقت، دل على حصول الخلف فكان تعيين الوقت مفوضا إلى الله سبحانه، إما بحسب مشيئته وإلهيته عند من لا يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح، وإما بحسب المصلحة المقدرة عند من يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح، ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه، ويمتنع عليه التقدم والتأخر.
المسألة الثانية: المعتزلة احتجوا بقوله: * (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله) *
107

فقالوا: هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملك مصالح، ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه، ويمتنع عليه التقدم والتأخر.
المسألة الثانية: المعتزلة احتجوا بقوله: * (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله) *
فقالوا: هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملك وقوله: * (إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * يدل على أن أحدا لا يموت إلا بانقضاء أجله، وكذلك المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه، وهذه مسألة طويلة وقد ذكرناها في هذا الكتاب في مواضع كثيرة.
المسألة الخامسة: أنه تعالى قال ههنا: * (إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * فقوله: * (إذا جاء أجلهم) * شرط وقوله: * (فلا يستأخرون
ساعة ولا يستقدمون) * جزاء والفاء حرف الجزاء، فوجب إدخاله على الجزاء كما في هذه الآية، وهذه الآية تدل على أن الجزاء يحصل مع حصول الشرط لا متأخرا عنه وأن حرف الفاء لا يدل على التراخي وإنما يدل على كونه جزاء.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا قال الرجل لامرأة أجنبية إن نكحتك فأنت طالق قال الشافعي رضي الله عنه: لا يصح هذا التعليق، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يصح، والدليل على أنه لا يصح أن هذه الآية دلت على أن الجزاء إنما يحصل حال حصول الشرط، فلو صح هذا التعليق لوجب أن يحصل الطلاق مقارنا للنكاح، لما ثبت أن الجزاء يجب حصوله مع حصول الشرط، وذلك يوجب الجمع بين الضدين، ولما كان هذا اللازم باطلا وجب أن لا يصح هذا التعليق.
قوله تعالى
* (قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآلن وقد كنتم به تستعجلون * ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) *.
108

اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن قولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: حاصل الجواب أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب بتقدير أن يحصل هذا المطلوب وينزل هذا العذاب ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم نؤمن عنده، فذلك باطل، لأن الإيمان في ذلك الوقت إيمان حاصل في وقت الإلجاء والقسر، وذلك لا يفيد نفعا البتة، فثبت أن هذا الذي تطلبونه لو حصل لم يحصل منه إلا العذاب في الدنيا، ثم يحصل عقيبه يوم القيامة عذاب آخر أشد منه، وهو أنه يقال: للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد، ثم يقرن بذلك العذاب كلام يدل على الإهانة والتحقير وهو أنه تعالى يقول: * (هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) * فحاصل هذا الجواب: أن هذا الذي تطلبونه هو محض الضرر العاري عن جهات النفع والعاقل لا يفعل ذلك.
المسألة الثانية: قوله: * (بياتا) * أي ليلا يقال بت ليلتي أفعل كذا، والسبب فيه أن الإنسان في الليل يكون ظاهرا في البيت، فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل والبيات مصدر مثل التبييت كالوداع والسراح، ويقال في النهار ظللت أفعل كذا، لأن الإنسان في النهار يكون ظاهرا في الظل. وانتصب بياتا على الظرف أي وقت بيات وكلمة * (ماذا) * فيها وجهان: أحدهما: أن يكون ماذا اسما واحدا ويكون منصوب المحل كما لو قال ماذا أراد الله، ويجوز أن يكون ذا بمعنى الذي، فيكون ماذا كلمتين ومحل ما الرفع على الابتداء وخبره ذا وهو بمعنى الذي، فيكون معناه ما الذي يستعجل منه المجرمون ومعناه، أي شيء الذي يستعجل من العذاب المجرمون.
واعلم أن قوله: * (إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا) * شرط.
وجوابه: قوله ماذا يستعجل منه المجرمون، وهو كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني، يعني: إن حصل هذا المطلوب، فأي مقصود تستعجلونه منه.
وأما قوله: * (أثم إذا ما وقع آمنتم به) * فاعلم أن دخول حرف الاستفهام على ثم كدخوله على الواو والفاء في قوله: * (أو أمن أهل القرى) * (الأعراف: 98) * (أفأمن) * (الأعراف: 97) وهو يفيد التقريع والتوبيخ، ثم أخبر تعالى أن ذلك الإيمان غير واقع لهم بل يعيرون ويوبخون، يقال: آلآن تؤمنون وترجون الانتفاع بالإيمان مع أنكم كنتم قبل ذلك به تستعجلون على سبيل السخرية والاستهزاء، وقرئ * (آلان) * بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام.
وأما قوله: * (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد) * فهو عطف على الفعل المضمر قبل * (آلآن) * والتقدير: قيل: آلان وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد.
109

وأما قوله تعالى: * (هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) * ففيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى أينما ذكر العقاب والعذاب ذكر هذه العلة كأن سائلا يسأل وهو يقول: يا رب العزة أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا التشديد والوعيد، فهو تعالى يقول: " أنا ما عالمته بهذه المعاملة ابتداء بل هذا وصل إليه جزاء على عمله الباطل " وذلك يدل على أن جانب الرحمة راجح غالب، وجانب العذاب مرجوح مغلوب.
المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أن الجزاء يوجب العمل، أما عند الفلاسفة فهو أثر العمل، لأن العمل الصالح يوجب تنوير القلب، وإشراقه إيجاب العلة معلولها وأما عند المعتزلة فلأن العمل الصالح يوجب استحقاق الثواب على الله تعالى وأما عند أهل السنة، فلأن ذلك الجزاء واجب بحكم الوعد المحض.
المسألة الثالثة: الآية تدل على كون العبد مكتسبا خلافا للجبرية، وعندنا أن كونه مكتسبا معناه أن مجموع القدرة مع الداعية الخالصة يوجب الفعل والمسألة الطويلة معروفة بدلائلها.
قوله تعالى
* (ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه الحق ومآ أنتم بمعجزين * ولو أن لكل نفس ظلمت ما فى الارض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) *.
اعلم أنه سبحانه أخبر عن الكفار بقوله: * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) *.
وأجاب عنه بما تقدم فحكى عنهم أنهم رجعوا إلى الرسول مرة أخرى في عين هذه الواقعة وسألوه عن ذلك السؤال مرة أخرى وقالوا: أحق هو واعلم أن هذا السؤال جهل محض من وجوه: أولها: أنه قد تقدم هذا السؤال مع الجواب فلا يكون في الإعادة فائدة. وثانيها: أنه تقدم ذكر الدلالة العقلية على كون محمد رسولا من عند الله،
وهو بيان كون القرآن معجزا، وإذا صحت نبوته لزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه، فهذه المعاني توجب الإعراض عنهم،
110

وترك الالتفات إلى سؤالهم، واختلفوا في الضمير في قوله: * (أحق هو) * قيل: أحق ما جئتنا به من القرآن والنبوة والشرائع. وقيل: ما تعدنا من البعث والقيامة. وقيل: ما تعدنا من نزول العذاب علينا في الدنيا. ثم إنه تعالى أمره أن يجيبهم بقوله: * (قل إي وربي إنه لحق) * والفائدة فيه أمور: أحدها: أن يستميلهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء، وأكده بالقسم فقد أخرجه عن الهزل وأدخله في باب الجد. وثانيها: أن الناس طبقات فمنهم من لا يقر بالشيء إلا بالبرهان الحقيقي، ومنهم من لا ينتفع بالبرهان الحقيقي، بل ينتفع بالأشياء الإقناعية، نحو القسم فإن الأعرابي الذي جاء الرسول عليه السلام، وسأل عن نبوته ورسالته اكتفى في تحقيق تلك الدعوى بالقسم، فكذا ههنا.
ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: * (وما أنتم بمعجزين) * ولا بد فيه من تقدير محذوف، فيكون المراد وما أنتم بمعجزين لمن وعدكم بالعذاب أن ينزله عليكم والغرض منه التنبيه على أن أحدا لا يجوز أن يمانع ربه ويدافعه عما أراد وقضى، ثم إنه تعالى بين أن هذا الجنس من الكلمات، إنما يجوز عليهم ما داموا في الدنيا فأما إذا حضروا محفل القيامة وعاينوا قهر الله تعالى، وآثار عظمته تركوا ذلك واشتغلوا بأشياء أخرى، ثم إنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء: أولها: قوله: * (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به) * إلا أن ذلك متعذر لأنه في محفل القيامة لا يملك شيئا كما قال تعالى: * (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) * (مريم: 95) وبتقدير: أن يملك خزائن الأرض لا ينفعه الفداء لقوله تعالى: * (ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) * (البقرة: 48) وقال في صفة هذا اليوم * (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) * (البقرة: 254) وثانيها: قوله: * (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) *.
واعلم أن قوله: * (وأسروا الندامة) * جاء على لفظ الماضي، والقيامة من الأمور المستقبلة إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع، جعل الله مستقبلها كالماضي، واعلم أن الإسرار هو الإخفاء والإظهار وهو من الأضداد، أما ورود هذه اللفظة بمعنى الإخفاء فظاهر وأما ورودها بمعنى الإظهار فهو من قولهم سر الشيء وأسره إذا أظهره.
إذا عرفت هذا فنقول: من الناس من قال: المراد منه إخفاء تلك الندامة، والسبب في هذا الإخفاء وجوه: الأول: أنهم لما رأوا العذاب الشديد صاروا مبهوتين متحيرين، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا سوى إسرار الندم كالحال فيمن يذهب به ليصلب فإنه يبقى مبهوتا متخيرا لا ينطق بكلمة. الثاني: أنهم أسروا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم.
111

فإن قيل: إن مهاية ذلك الموقف تمنع الإنسان عن هذا التدبير فكيف قدموا عليه.
قلنا: إن هذا الكتمان إنما يحصل قبل الاحتراق بالنار، فإذا احترقوا تركوا هذا الإخفاء وأظهروه بدليل قوله تعالى: * (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا) * (المؤمنون: 106) الثالث: أنهم أسروا تلك الندامة لأنهم أخلصوا لله في تلك الندامة، ومن أخلص في الدعاء أسره، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم يعني أنهم لما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته ولم ينفعهم، بل كان من الواجب عليهم أن يأتوا به في دار الدنيا وقت التكليف، وأما من فسر الإسرار بالإظهار فقوله: ظاهر لأنهم إنما أخفوا الندامة على الكفر والفسق في الدنيا لأجل حفظ الرياسة، وفي القيامة بطل هذا الغرض فوجب الإظهار. وثالثها: قوله تعالى: * (وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) * فقيل بين المؤمنين والكافرين، وقيل بين الرؤساء والأتباع، وقيل بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم.
واعلم أن الكفار وإن اشتركوا في العذاب فإنه لا بد وأن يقضي الله تعالى بينهم لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضا في الدنيا وخانه، فيكون في ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم، وتثقيل لعذاب الباقين، لأن العدل يقتضي أن ينتصف للمظلومين من الظالمين، ولا سبيل إليه إلا بأن يخفف من عذاب المظلومين ويثقل في عذاب الظالمين.
قوله تعالى
* (ألا إن لله ما فى السماوات والارض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون * هو يحى ويميت وإليه ترجعون) *.
اعلم أن من الناس من قال: إن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى قال قبل هذه الآية * (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به) * (يونس: 54) فلا جرم قال في هذه الآية ليس للظالم شيء يفتدى به، فإن كل الأشياء ملك الله تعالى وملكه، واعلم أن هذا التوجيه حسن، أما الأحسن أن يقال إنا قد ذكرنا أن الناس على طبقات، فمنهم من يكون انتفاعه بالإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات، أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات، أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات، وإنما تعويلهم على الدلائل البينة والبراهين القاطعة، فلما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا أحق هو؟ أمر الرسول عليه السلام بأن يقول: * (إي وربي) * وهذا جار مجرى الإقناعيات، فلما ذكر ذلك أتبعه بما هو البرهان القاطع
112

على صحته وتقريره أن القول بالنبوة والقول بصحة المعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم وأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه، فعبر عن هذا المعنى بقوله: * (ألا إن لله ما في السماوات والأرض) * ولم يذكر الدليل على صحة هذه القضية، لأنه تعالى قد استقصى في تقرير هذه الدلائل فيما سبق من هذه السورة، وهو قوله: * (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض) * (يونس: 6) وقوله: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل) * (يونس: 5) فلما تقدم ذكر هذه الدلائل القاهرة اكتفى بذكرها، وذكر أن كل ما في العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور فهو ملكه وملكه، ومتى كان الأمر كذلك، كان قادرا على كل الممكنات، عالما بكل المعلومات غنيا عن جميع الحاجات، منزها عن النقائص والآفات، فهو تعالى لكونه قادرا على جميع الممكنات يكون قادرا على إنزال العذاب على الأعداء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادرا على إيصال الرحمة إلى الأولياء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادرا على تأييد رسوله عليه السلام بالدلائل
القاطعة والمعجزات الباهرة ويكون قادرا على إعلاء شأن رسوله وإظهار دينه وتقوية شرعه، ولما كان قادرا على كل ذلك فقد بطل الاستهزاء والتعجب ولما كان منزها عن النقائص والآفات، كان منزها عن الخلف والكذب وكل ما وعد به فلا بد وأن يقع، هذا إذا قلنا: إنه تعالى لا يراعي مصالح العباد، أما إذا قلنا: إنه تعالى يراعيها فنقول: الكذب إنما يصدر عن العاقل، إما للعجز أو للجهل أو للحاجة، ولما كان الحق سبحانه منزها عن الكل كان الكذب عليه محالا، فلما أخبر عن نزول العذاب بهؤلاء الكفار، وبحصول الحشر والنشر وجب القطع بوقوعه، فثبت بهذا البيان أن قوله تعالى: * (ألا إن لله ما في السماوات والأرض) * مقدمة توجب الجزم بصحة قوله: * (ألا إن وعد الله حق) * ثم قال: * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * والمراد أنهم غافلون عن هذه الدلائل، مغرورون بظواهر الأمور، فلا جرم بقوا محرومين عن هذه المعارف، ثم إنه أكد هذه الدلائل فقال: * (هو يحيي ويميت وإليه ترجعون) * والمراد أنه لما قدر على الإحياء في المرة الأولى فإذا أماته وجب أن يبقى قادرا على إحيائه في المرة الثانية، فظهر بما ذكرنا أنه تعالى أمر رسوله بأن يقول: * (إي وربي) * (يونس: 53) ثم إنه تعالى أتبع ذلك الكلام بذكر هذه الدلائل القاهرة.
واعلم أن في قوله: * (ألا إن لله ما في السماوات والأرض) * دقيقة أخرى وهي كلمة * (ألا) * وذلك لأن هذه الكلمة إنما تذكر عند تنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين وأهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيقولون البستان للأمير والدار للوزير والغلام لزيد والجارية لعمرو فيضيفون كل شيء إلى مالك آخر والخلق لكونهم مستغرقين في نوم الجهل ورقدة الغفلة يظنون صحة تلك الإضافات فالحق نادى هؤلاء النائمين الغافلين بقوله: * (ألا إن لله ما في السماوات والأرض) * وذلك لأنه
113

لما ثبت بالعقل أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته، وثبت أن الممكن مستند إلى الواجب لذاته إما ابتداء أو بواسطة، فثبت أن ما سواه ملكه وملكه، وإذا كان كذلك، فليس لغيره في الحقيقة ملك، فلما كان أكثر الخلق غافلين عن معرفة هذا المعنى غير عالمين به، لا جرم أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يذكر هذا النداء، لعل واحدا منهم يستيقظ من نوم الجهالة ورقدة الضلالة.
قوله تعالى
* (يا أيها الناس قد جآءتكم موعظة من ربكم وشفآء لما فى الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء عليهم السلام أمران: الأول: أن نقول إن هذا الشخص قد ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك، فهو رسول من عند الله حقا وصدقا، وهذا الطريق مما قد ذكره الله تعالى في هذه السورة وقرره على أحسن الوجوه في قوله: * (وما كان هذا القرآن أن يفتري من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) * (يونس: 37، 38) وقد ذكرنا في تفسير هذه الآية ما يقوي الدين ويورث اليقين ويزيل الشكوك والشبهات ويبطل الجهالات والضلالات.
وأما الطريق الثاني فهو أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو؟ فكل من جاء ودعا الخلق إليهم وحملهم عليه وكانت لنفسه قوة قوية في نقل الناس من الكفر إلى الإيمان، ومن الاعتقاد الباطل إلى الاعتقاد الحق، ومن الأعمال الداعية إلى الدنيا إلى الأعمال الداعية إلى الآخرة فهو النبي الحق الصادق المصدق، وتقريره: أن نفوس الخلق قد استولى عليها أنواع النقص والجهل وحب الدنيا، ونحن نعلم بعقولنا أن سعادة الإنسان لا تحصل إلا بالاعتقاد الحق والعمل الصالح، وحاصله يرجع إلى حرف واحد وهو أن كل ما قوى نفرتك عن الدنيا ورغبتك في الآخرة فهو
114

العمل الصالح وكل ما كان بالضد من ذلك فهو العمل الباطل والمعصية، وإذا كان الأمر كذلك كانوا محتاجين إلى إنسان كامل، قوي النفس، مشرق الروح، علوي الطبيعة، ويكون بحيث يقوى على نقل هؤلاء الناقصين من مقام النقصان إلى مقام الكمال، وذلك هو النبي. فالحاصل أن الناس أقسام ثلاثة: الناقصون والكاملون الذين لا يقدرون على تكميل الناقصين، والقسم الثالث هو الكامل الذي يقدر على تكميل الناقصين، فالقسم الأول هو عامة الخلق، والقسم الثاني هم الأولياء، والقسم الثالث هم الأنبياء، ولما كانت القدرة على نقل الناقصين من درجة النقصان إلى درجة الكمال مراتبها مختلفة ودرجاتها متفاوتة، لا جرم كانت درجات الأنبياء في قوة النبوة مختلفة. ولهذا السر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ".
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه تعالى لما بين صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بطريق المعجزة، ففي هذه الآية بين صحة نبوته بالطريق الثاني، وهذا الطريق طريق كاشف عن حقيقة النبوة معرف لماهيتها، فالاستدلال بالمعجز هو الذي يسميه المنطقيون برهان الآن، وهذا الطريق هو الطريق الذي يسمونه برهان اللم، وهو أشرف وأعلى وأكمل وأفضل.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف القرآن في هذه الآية بصفات أربعة: أولها: كونه موعظة من عند الله. وثانيها: كونه شفاء لما في الصدور. وثالثها: كونه هدى. ورابعها: كونه رحمة للمؤمنين. ولا بد لكل واحد من هذه الصفات من فائدة مخصوصة فنقول: إن الأرواح لما تعلقت بالأجساد كان ذلك التعلق بسبب عشق طبيعي وجب للروح على الجسد، ثم إن جوهر الروح التذ بمشتهيات هذا العالم الجسداني وطيباته بواسطة الحواس الخمس وتمرن على ذلك وألف هذه الطريقة واعتادها. ومن المعلوم أن نور العقل إنما يحصل في آخر الدرجة، حيث قويت العلائق الحسية والحوادث الجسدانية، فصار ذلك الاستغراق سببا لحصول العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة في جوهر الروح، وهذه الأحوال تجري مجرى الأمراض الشديدة لجوهر الروح، فلا بد لها من طبيب حاذق، فإن من وقع في المرض الشديد، فإن لم يتفق له
طبيب حاذق يعالجه بالعلاجات الصائبة مات لا محالة، وإن اتفق أن صادفه مثل هذا الطبيب، وكان هذا البدن قابلا للعلاجات الصائبة فربما حصلت الصحة وزال السقم.
إذا عرفت هذا فنقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان كالطبيب الحاذق، وهذا القرآن عبارة عن مجموع أدويته التي بتركيبها تعالج القلوب المريضة. ثم إن الطبيب إذا وصل إلى المريض فله معه مراتب أربعة:
115

المرتبة الأولى: أن ينهاه عن تناول ما لا ينبغي ويأمره بالاحتراز عن تلك الأشياء التي بسببها وقع في ذلك المرض، وهذا هو الموعظة فإنه لا معنى للوعظ إلا الزجر عن كل ما يبعد عن رضوان الله تعالى، والمنع عن كل ما يشغل القلب بغير الله.
المرتبة الثانية: الشفاء وهو أن يسقيه أدوية تزيل عن باطنه تلك الأخلاط الفاسدة الموجبة للمرض، فكذلك الأنبياء عليهم السلام إذا منعوا الخلق عن فعل المحظورات صارت ظواهرهم مطهرة عن فعل ما لا ينبغي فحينئذ يأمرونهم بطهارة الباطن وذلك بالمجاهدة في إزالة الأخلاق الذميمة وتحصيل الأخلاق الحميدة، وأوائلها ما ذكره الله تعالى في قوله: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) * (النحل: 90) وذلك لأنا ذكرنا أن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة جارية مجرى الأمراض، فإذا زالت فقد حصل الشفاء للقلب وصار جوهر الروح مطهرا عن جميع النقوش المانعة عن مطالعة عالم الملكوت.
والمرتبة الثالثة: حصول الهدى، وهذه المرتبة لا يمكن حصولها إلا بعد المرتبة الثانية، لأن جوهر الروح الناطقة قابل للجلايا القدسية والأضواء الإلهية وفيض الرحمة عام غير منقطع على ما قال عليه الصلاة والسلام: " إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها " وأيضا فالمنع إنما يكون إما للعجز أو للجهل أو للبخل، والكل في حق الحق ممتنع، فالمنع في حقه ممتنع، فعلى هذا عدم حصول هذه الأضواء الروحانية، إنما كان لأجل أن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة طبعها طبع الظلمة، وعند قيام الظلمة يمتنع حصول النور، فإذا زالت تلك الأحوال، فقد زال العائق فلا بد وأن يقع ضوء عالم القدس في جوهر النفس القدسية، ولا معنى لذلك الضوء إلا الهدى، فعند هذه الحالة تصير هذه النفس بحيث قد انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت، وأول هذه المرتبة هو قوله: * (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك) * (الفجر: 27) وأوسطها قوله تعالى: * (ففروا إلى الله) * (الذاريات: 50) وآخرها قوله: * (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) * (الأنعام: 91) ومجموعها قوله: * (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) * (هود: 123) وسيجئ تفسير هذه الآيات في مواضعها بإذن الله تعالى، وهذه المرتبة هي المراد بقوله سبحانه * (وهدى) *.
وأما المرتبة الرابعة: فهي أن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم، وذلك هو المراد بقوله * (ورحمة للمؤمنين) * وإنما خص المؤمنين بهذا المعنى، لأن أرواح المعاندين لا تستضئ بأنوار أرواح الأنبياء عليهم السلام، لأن الجسم القابل للنور عن قرص الشمس
116

هو الذي يكون وجهه مقابلا لوجه الشمس، فإن لم تحصل هذه المقابلة لم يقع ضوء الشمس عليه، فكذلك كل روح لما لم تتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين، لم تنتفع بأنوارهم، ولم يصل إليها آثار تلك الأرواح المطهرة المقدسة، وكما أن الأجسام التي لا تكون مقابلة لقرص الشمس مختلفة الدرجات والمراتب في البعد عن هذه المقابلة ولا تزال تتزايد درجات هذا البعد حتى ينتهي ذلك الجسم إلى غاية بعده عن مقابلة قرص الشمس، فلا جرم يبقى خالص الظلمة، فكذلك تتفاوت مراتب النفوس في قبول هذه الأنوار عن أرواح الأنبياء ولا تزال تتزايد حتى تنتهي إلى النفس التي كملت ظلمتها، وعظمت شقاوتها وانتهت في العقائد الفاسدة، والأخلاق الذميمة إلى أقصى الغايات، وأبعد النهايات، فالحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة والهدى وهو إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة وهي إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للناقصين وهي النبوة، فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية لا يمكن تأخير ما تقدم ذكره ولا تقديم ما تأخر ذكره، ولما نبه الله تعالى في هذه الآية على هذه الأسرار العالية الآلهية قال: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) * والمقصود منه الإشارة إلى ما قرره حكماء الإسلام من أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية وقد سبق في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبالغة في تقرير هذا المعنى فلا فائدة في الإعادة انتهى.
المسألة الثانية: قوله: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) * وتقديره: بفضل الله وبرحمته فليفرحوا، ثم يقول مرة أخرى: * (فبذلك فليفرحوا) * والتكرير للتأكيد. وأيضا قوله: * (فبذلك فليفرحوا) * يفيد الحصر، يعني يجب أن لا يفرح الإنسان إلا بذلك. واعلم أن هذا الكلام يدل على أمرين: أحدهما: أنه يجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية، ويدل عليه وجوه: الأول: أن جماعة من المحققين قالوا: لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام، والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به. والثاني: أن بتقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية، لكنها معنوية من وجوه: الأول: أن التضرر بآلامها أقوى من الانتفاع بلذاتها ألا ترى أن أقوى اللذات الجسمانية لذة الوقاع، ولا شك أن الالتذاذ بها أقل مرتبة من الاستضرار بألم القولنج وسائر الآلام القوية. والثاني: أن مداخل اللذات الجسمانية قليلة، فإنه لا سبيل إلى تحصيل اللذات الجسمانية إلا بهذين الطريقين أعني لذة البطن والفرج. وأما الآلام: فإن كل جزء من أجزاء بدن الإنسان معه نوع آخر من الآلام، ولكل نوع منها خاصية ليست للنوع الآخر. والثالث: أن اللذات
117

الجسمانية لا تكون خالصة البتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره، فلو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب النفس في مقدماتها وفي لواحقها لكفى. الرابع: أن اللذات الجسمانية لا تكون باقية، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من خوف فواتها أكثر وأشد، ولذلك قال المعري: إن حزنا في ساعة الموت
أضعاف * سرور في ساعة الميلاد
فمن المعلوم أن الفرح الحاصل عند حدوث الولد لا يعادل الحزن الحاصل عند موته. الخامس: أن اللذات الجسمانية حال حصولها تكون ممتنعة البقاء، لأن لذة الأكل لا تبقى بحالها، بل كما زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل ولا يمكن استبقاء تلك اللذة. السادس: أن اللذات الجسمانية التذاذ بأشياء خسيسة، فإنها التذاذ بكيفيات حاصلة في أجسام رخوة سريعة الفساد مستعدة للتغير، فأما اللذات الروحانية فإنها بالضد في جميع هذه الجهات، فثبت أن الفرح باللذات الجسمانية فرح باطل، وأما الفرح الكامل فهو الفرح بالروحانيات والجواهر المقدسة وعالم الجلال ونور الكبرياء.
والبحث الثاني: من مباحث هذه الآية أنه إذا حصلت اللذات الروحانية فإنه يجب على العاقل أن لا يفرح بها من حيث هي هي، بل يجب أن يفرح بها من حيث إنها من الله تعالى وبفضل الله وبرحمته، فلهذا السبب قال الصديقون: من فرح بنعمة الله من حيث إنها تلك النعمة فهو مشرك، أما من فرح بنعمة الله من حيث إنها من الله كان فرحه بالله، وذلك هو غاية الكمال ونهاية السعادة فقوله سبحانه: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) * يعني فليفرحوا بتلك النعم لا من حيث هي هي، بل من حيث إنها بفضل الله وبرحمة الله، فهذه أسرار عالية اشتملت عليها هذه الألفاظ التي ظهرت من عالم الوحي والتنزيل، هذا ما تلخص عندنا في هذا الباب، أما المفسرون فقالوا: فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن. وقال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله. المسألة الرابعة: قرىء * (فلتفرحوا) * بالتاء، قال الفراء: وقد ذكر عن زيد بن ثابت أنه قرأ بالتاء وقال: معناه فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار، قال وقريب من هذه القراءة قراءة أبي * (فبذلك فافرحوا) * والأصل في الأمر للمخاطب والغائب اللام نحو لتقم يا زيد وليقم زيد، وذلك لأن حكم الأمر في الصورتين واحد، إلا أن العرب حذفوا اللام من فعل المأمور المخاطب لكثرة استعماله، وحذفوا التاء أيضا وأدخلوا ألف الوصل نحو اضرب واقتل ليقع الابتداء به وكان الكسائي يعيب قولهم فليفرحوا لأنه وجده قليلا فجعله عيبا إلا أن ذلك هو الأصل، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض المشاهد: " لتأخذوا مصافكم " يريد به خذوا، هذا كله كلام
118

الفراء. وقرئ * (تجمعون) * بالتاء ووجهه أنه تعالى عنى المخاطبين والغائبين إلا أنه غلب المخاطب على الغائب كما يغلب التذكير على التأنيث، فكأنه أراد المؤمنين هكذا قاله أهل اللغة وفيه دقيقة عقلية وهو أن الإنسان حصل فيه معنى يدعوه إلى خدمة الله تعالى وإلى الاتصال بعالم الغيب ومعارج الروحانيات، وفيه معنى آخر يدعوه إلى عالم الحس والجسم واللذات الجسدانية، وما دام الروح متعلقا بهذا الجسد، فإنه لا ينفك عن حب الجسد، وعن طلب اللذات الجسمانية، فكأنه تعالى خاطب الصديقين العارفين، وقال: حصلت الخصومة بين الحوادث العقلية الإلهية وبين النوازع النفسانية الجسدانية، والترجيح لجانب العقل لأنه يدعو إلى فضل الله ورحمته والنفس تدعو إلى جمع الدنيا وشهواتها وفضل الله ورحمته خير لكم مما تجمعون من الدنيا لأن الآخرة خير وأبقى، وما كان كذلك فهو أولى بالطلب والتحصيل.
قوله تعالى
* (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون * وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الناس ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها، ولا أستحسن واحدا منها. والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى وجهان: الأول: أن المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة. وتقريره أنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم: " إنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها فهذا الحكم تقولونه على سبيل الافتراء على الله تعالى، أو تعلمون أنه حكم حكم الله به " والأول طريق باطل بالاتفاق، فلم يبق إلا الثاني، ثم من المعلوم أنه تعالى ما خاطبكم به من غير واسطة، ولما بطل هذا، ثبت أن هذه الأحكام إنما وصلت إليكم بقول رسول أرسله الله إليكم ونبي بعثه الله إليكم، وحاصل الكلام أن حكمهم بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها مع اشتراك الكل في الصفات المحسوسة والمنافع المحسوسة، يدل على اعترافكم بصحة النبوة والرسالة وإذا
119

كان الأمر كذلك، فكيف يمكنكم أن تبالغوا هذه المبالغات العظيمة في إنكار النبوة والرسالة وحمل الآية على هذا الوجه الذي ذكرته طريق حسن معقول.
الطريق الثاني: في حسن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه عليه الصلاة والسلام، لما ذكر الدلائل الكثيرة على صحة نبوة نفسه وبين فساد سؤالاتهم وشبهاتهم في إنكارها، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم وبين أن التمييز بين هذه الأشياء بالحل والحرمة، مع أنه لم يشهد بذلك لا عقل ولا نقل طريق باطل ومنهج فاسد، والمقصود إبطال مذاهب القوم في أديانهم وفي أحكامهم، وأنهم ليسوا على شيء في باب من الأبواب.
المسألة الثانية: المراد بالشيء الذي جعلوه حراما ما ذكروه من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وأيضا قوله تعالى: * (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر) * (الأنعام: 138) إلى قوله: * (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) * (الأنعام: 139) وأيضا قوله تعالى: * (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) * (الأنعام: 143) والدليل عليه أن قوله: * (فجعلتم منه حراما) * إشارة إلى أمر تقدم منهم، ولم يحك الله تعالى عنهم إلا هذا، فوجب توجه هذا الكلام إليه، ثم لما حكى تعالى عنهم ذلك قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: * (قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون) * وهذه القسمة صحيحة، لأن هذه الأحكام إما أن تكون من الله تعالى أو لم تكن من الله فإن كانت من الله تعالى، فهو المراد بقوله: * (آلله أذن لكم) * وإن كانت ليست من الله. فهو المراد بقوله: * (أم على الله تفترون) *.
ثم قال تعالى: * (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب) * وهذا وإن كان في صورة الاستعلام فالمراد منه تعظيم وعيد من يفتري على الله. وقرأ عيسى بن عمر * (
وما ظن) * على لفظ الفعل ومعناه أي ظن ظنوه يوم القيامة وجئ به على لفظ الماضي لما ذكرنا أن أحوال القيامة وإن كانت آتية إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع في الحكمة ولا جرم عبر الله عنها بصيغة الماضي.
ثم قال: * (إن الله لذو فضل على الناس) * أي بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب * (ولكن أكثرهم لا يشكرون) * فلا يستعملون للعقل في التأمل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبياء الله ولا ينتفعون باستماع كتب الله.
المسألة الثالثة: ما في قوله تعالى: * (قل أرأيتم ما أنزل الله) * فيه وجهان: أحدهما: بمعنى الذي فينتصب برأيتم والآخر أن يكون بمعنى أي في الاستفهام، فينتصب بأنزل وهو قول الزجاج، ومعنى أنزل ههنا خلق وأنشأ كقوله: * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) * (الزمر: 6) وجاز أن يعبر عن الخلق بالإنزال، لأن كل ما في الأرض من رزق فما أنزل من السماء من ضرع وزرع وغيرهما، فلما كان إيجاده بالإنزال سمي إنزالا.
120

قوله تعالى
* (وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا فى السمآء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه لما أطال الكلام في أمر الرسول بإيراد الدلائل على فساد مذاهب الكفار، وفي أمره بإيراد الجواب عن شبهاتهم، وفي أمره بتحمل أذاهم، وبالرفق معهم ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السلوة والسرور للمطيعين، وتمام الخوف والفزع للمذنبين، وهو كونه سبحانه عالما بعمل كل واحد، وبما في قلبه من الدواعي والصوارف، فإن الإنسان ربما أظهر من نفسه نسكا وطاعة وزهدا وتقوى، ويكون باطنه مملوء من الخبث وربما كان بالعكس من ذلك فإذا كان الحق سبحانه عالما بما في البواطن كان ذلك من أعظم أنواع السرور للمطيعين ومن أعظم أنواع التهديد للمذنبين.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى خصص الرسول في أول هذه الآية بالخطاب في أمرين، ثم أتبع ذلك بتعميم الخطاب مع كل المكلفين في شيء واحد، أما الأمران المخصوصان بالرسول عليه الصلاة والسلام. فالأول: منهما قوله: * (وما تكون في شأن) * واعلم أن * (ما) * ههنا جحد والشأن الخطب والجمع الشؤون، تقول العرب ما شأن فلان أي ما حاله، قال الأخفش: وتقول ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله، وفيه وجهان: قال ابن عباس: وما تكون يا محمد في شأن يريد من أعمال البر وقال الحسن: في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها. والثاني: منهما قوله تعالى: * (وما تتلوا منه من قرآن) * واختلفوا في أن الضمير في قوله: * (منه) * إلى ماذا يعود؟ وذكروا فيه ثلاثة أوجه: الأول: أنه راجع إلى الشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو معظم
121

شأنه، وعلى هذا التقدير، فكان هذا داخلا تحت قوله: * (وما تكون في شأن) * إلا أنه خصه بالذكر تنبيها على علو مرتبته، كما في قوله تعالى: * (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (البقرة: 98) وكما في قوله: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم) * (الأحزاب: 7) والثاني: أن هذا الضمير عائد إلى القرآن والتقدير: وما تتلو من القرآن من قرآن، وذلك لأن كما أن القرآن اسم للمجموع، فكذلك هو اسم لكل جزء من أجزاء القرآن والإضمار قبل الذكر، يدل على التعظيم. الثالث: أن يكون التقدير: وما تتلو من قرآن من الله أي نازل من عند الله. وأقول: قوله: * (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن) * أمران مخصوصان بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: * (ولا تعملون من عمل) * فهذا خطاب مع النبي ومع جميع الأمة. والسبب في أن خص الرسول بالخطاب أولا، ثم عمم الخطاب مع الكل، هو أن قوله: * (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن) * وإن كان بحسب الظاهر خطابا مختصا بالرسول، إلا أن الأمة داخلون فيه ومرادون منه، لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب. والدليل عليه قوله تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * (الطلاق: 1) ثم إنه تعالى بعد أن خص الرسول بذينك الخطابين عمم الكل بالخطاب الثالث فقال: * (ولا تعملون من عمل) * فدل ذلك على كونهم داخلين في الخطابين الأولين.
ثم قال تعالى: * (إلا كنا عليكم شهودا) * وذلك لأن الله تعالى شاهد على كل شيء، وعالم بكل شيء، أما على أصول أهل السنة والجماعة، فالأمر فيه ظاهر، لأنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى. فكل ما يدخل في الوجود من أفعال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة، فكلها حصلت بإيجاد الله تعالى وإحداثه. والموجد للشيء لا بد وأن يكون عالما به، فوجب كونه تعالى عالما بكل المعلومات، وأما على أصول المعتزلة، فقد قالوا: إنه تعالى حي وكل من كان حيا، فإنه يصح أن يعلم كل واحد من المعلومات، والموجب لتلك العالمية، هو ذاته سبحانه. فنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية ببعض المعلومات كنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية بسائر المعلومات، فلما اقتضت ذاته حصول العالمية ببعض المعلومات وجب أن تقتضي حصول العالمية بجميع المعلومات فثبت كونه تعالى عالما بجميع المعلومات.
أما قوله تعالى: * (إذ تقيضون فيه) * فاعلم أن الإفاضة ههنا الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل، يقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه، وقد أفاضوا من عرفة إذا دفعوا منه بكثرتهم، فتفرقوا.
فإن قيل: * (إذ) * ههنا بمعنى حين، فيصير تقدير الكلام إلا كنا عليكم شهودا حين تفيضون فيه،
122

وشهادة الله تعالى عبارة عن علمه، فيلزم منه أن يقال إنه تعالى ما علم الأشياء إلا عند وجودها وذلك باطل.
قلنا: هذا السؤال بناء على أن شهادة الله تعالى عبادة عن علمه، وهذا ممنوع، فإن الشهادة لا تكون إلا عند وجود المشهود عليه، وأما العلم، فلا يمتنع تقدمه على
الشيء، والدليل عليه أن الرسول عليه السلام، لو أخبرنا عن زيد أنه يأكل غدا كنا من قبل حصول تلك الحالة عالمين بها ولا نوصف بكوننا شاهدين لها. واعلم أن حاصل هذه الكلمات أنه لا يخرج عن علم الله شيء، ثم إنه تعالى أكد هذا الكلام زيادة تأكيد، فقال: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أصل العزوب من البعد. يقال: كلأ عازب إذا كان بعيد المطلب، وعزب الرجل بإبله إذا أرسلها إلى موضع بعيد من المنزل، والرجل سمي عزبا لبعده عن الأهل، وعزب الشيء عن علمي إذا بعد.
المسألة الثانية: قرأ الكسائي * (وما يعزب) * بكسر الزاي، والباقون بالضم، وفيه لغتان: عزب يعزب، وعزب يعزب.
المسألة الثالثة: قوله: * (من مثقال ذرة) * أي وزن ذرة، ومثقال الشيء ما يساويه في الثقل، والمعنى: ما يساوي ذرة والذر صغار النمل واحدها ذرة، وهي تكون خفيفة الوزن جدا، وقوله: * (في الأرض ولا في السماء) * فالمعنى ظاهر.
فإن قيل: لم قدم الله ذكر الأرض ههنا على ذكر السماء مع أنه تعالى قال في سورة سبأ: * (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض) * (سبأ: 3).
قلنا: حق السماء أن تقدم على الأرض إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم، ثم وصل ذلك قوله لا يعزب عنه، ناسب أن تقدم الأرض على السماء في هذا الموضع. ثم قال: * (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) * وفيه قراءتان قرأ حمزة * (ولا أصغر ولا أكبر) * بالرفع فيهما، والباقون بالنصب.
واعلم أن قوله: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة) * تقديره وما يعزب عن ربك مثقال ذرة فلفظ * (مثقال) * عند دخول كلمة * (من) * عليه مجرور بحسب الظاهر، ولكنه مرفوع في المعنى، فالمعطوف عليه إن عطف على الظاهر كان مجرورا إلا أن لفظ أصغر وأكبر غير منصرف، فكان مفتوحا
123

وإن عطف على المحل، وجب كونه مرفوعا، ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل وعاقل، وكذا قوله: * (مالكم من إله غيره) * (الأعراف: 59) وغيره وقال الشاعر: فلسنا بالجبال ولا الحديدا
هذا ما ذكره النحويون، قال صاحب " الكشاف ": لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب: وحينئذ يلزم أن يكون الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله تعالى وأنه باطل.
وأجاب بعض المحققين عنه بوجهين:
الوجه الأول: أنا بينا أن العزوب عبارة عن مطلق البعد.
وإذا ثبت هذا فنقول: الأشياء المخلوقة على قسمين: قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسماوات والأرض، وقسم آخر أوجده الله بواسطة القسم الأول، مثل: الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود فقوله: * (وما يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) * أي لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين وهو كتاب كتبه الله تعالى وأثبت صور تلك المعلومات فيه، ومتى كان الأمر كذلك فقد كان عالما بها محيطا بأحوالها، والغرض منه الرد على من يقول: إنه تعالى غير عالم بالجزئيات، وهو المراد من قوله: * (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) * (الجاثية: 29).
والوجه الثاني: في الجواب أن نجعل كلمة * (إلا) * في قوله: * (إلا في كتاب مبين) * استثناء منقطعا لكن بمعنى هو في كتاب مبين، وذكر أبو علي الجرجاني صاحب " النظم " عنه جوابا آخر فقال: قوله: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) * ههنا تم الكلام وانقطع ثم وقع الابتداء بكلام آخر، وهو قوله: * (إلا في كتاب مبين) * أي وهو أيضا في كتاب مبين. قال: والعرب تضع " إلا " موضع " واو النسق " كثيرا على معنى الابتداء، كقوله تعالى: * (لا يخاف لدى المرسلون إلا من ظلم) * (النمل: 10) يعني ومن ظلم. وقوله: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا) * (البقرة: 150) يعني والذين ظلموا، وهذا الوجه في غاية التعسف.
وأجاب صاحب " الكشاف ": بوجه رابع فقال: الإشكال إنما جاء إذا عطفنا قوله: * (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) * على قوله: * (من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) * إما بحسب الظاهر أو بحسب المحل، لكنا لا نقول ذلك، بل نقول: الوجه في القراءة بالنصب في قوله: * (ولا أصغر من ذلك) * الحمل
124

على نفي الجنس وفي القراءة بالرفع الحمل على الابتداء، وخبره قوله: * (في كتاب مبين) * وهذا الوجه اختيار الزجاج.
قوله تعالى
* (ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين ءامنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحيواة الدنيا وفى الاخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) *.
اعلم أنا بينا أن قوله تعالى: * (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن) * (يونس: 61) مما يقوي قلوب المطيعين، ومما يكسر قلوب الفاسقين فأتبعه الله تعالى بشرح أحوال المخلصين الصادقين الصديقين وهو المذكور في هذه الآية. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنا نحتاج في تفسير هذه الآية إلى أن نبين أن الولي من هو؟ ثم نبين تفسير نفي الخوف والحزن عنه. فنقول: أما إن الوحي من هو؟ فيدل عليه القرآن والخبر والأثر والمعقول. أما القرآن، فهو قوله في هذه الآية: * (الذين آمنوا وكانوا يتقون) * فقوله: * (آمنوا) * إشارة إلى كمال حال القوة النظرية وقوله: * (وكانوا يتقون) * إشارة إلى كمال حال القوة العملية. وفيه قيام آخر، وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل، ثم نصف الولي بأنه كان متقيا في الكل. أما التقوى في موقف العلم فلأن جلال الله أعلى من أن يحيط به عقل البشر، فالصديق إذا وصف الله سبحانه بصفة من صفات الجلال، فهو يقدس الله عن أن يكون كماله وجلاله مقتصرا على ذلك المقدار الذي عرفه ووصفه به، وإذا عبد الله تعالى فهو يقدس الله تعالى عن أن تكون الخدمة اللائقة بكبريائه متقدرة بذلك المقدار فثبت أنه أبدا يكون في مقام الخوف والتقوى. وأما الأخبار فكثيرة روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس " ثم قرأ هذه الآية، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هم الذين يذكر الله تعالى برؤيتهم " قال أهل التحقيق: السبب فيه أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما يشاهد فيهم من آيات الخشوع والخضوع، ولما ذكر الله تعالى سبحانه في قوله: * (سيماهم في وجوههم من
125

أثر السجود) * (الفتح: 29) وأما الأثر، فقال أبو بكر الأصم: أولياء الله هم الذين تولى الله تعالى هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبودية الله تعالى والدعوة إليه، وأما المعقول فنقول: ظهر في علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب، فولى كل شيء هو الذي يكون قريبا منه، والقرب من الله تعالى بالمكان والجهة محال، فالقرب منه إنما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معرفة الله تعالى سبحانه، فإن رأى رأى دلائل قدرة الله، وإن سمع سمع آيات الله وإن نطق نطق بالثناء على الله، وإن تحرك تحرك تحرك في خدمة الله، وإن اجتهد اجتهد في طاعة الله، فهنالك يكون في غاية القرب من الله، فهذا الشخص يكون وليا لله تعالى، وإذا كان كذلك كان الله تعالى وليا له أيضا كما قال الله تعالى: * (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) * (البقرة: 257) ويجب أن يكون الأمر كذلك، لأن القرب لا يحصل إلا من الجانبين. وقال المتكلمون: ولي الله من يكون آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ويكون آتيا بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة، فهذا كلام مختصر في تفسير الولي.
وأما قوله تعالى في صفتهم: * (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * ففيه بحثان:
البحث الأول: أن الخوف إنما يكون في المستقبل بمعنى أنه يخاف حدوث شيء في المستقبل من المخوف، والحزن إنما يكون على الماضي إما لأجل أنه كان قد حصل في الماضي ما كرهه أو لأنه فات شيء أحبه.
البحث الثاني: قال بعض المحققين: إن نفي الحزن والخوف إما أن يحصل للأولياء حال كونهم في الدنيا أو حال انتقالهم إلى الآخرة والأول باطل لوجوه: أحدها: أن هذا لا يحصل في دار الدنيا لأنها دار خوف وحزن والمؤمن خصوصا لا يخلو من ذلك على ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " وعلى ما قال: " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " وثانيها: أن المؤمن، وإن صفا عيشه في الدنيا، فإنه لا يخلو من هم بأمر الآخرة شديد، وحزن على ما يفوته من القيام بطاعة الله تعالى، وإذا بطل هذا القسم وجب حمل قوله تعالى: * (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * على أمر الآخرة، فهذا كلام محقق، وقال بعض العارفين: إن الولاية عبارة عن القرب، فولى الله تعالى هو الذي يكون في غاية القرب من الله تعالى، وهذا التقرير قد فسرناه باستغراقه في معرفة الله تعالى بحيث لا يخطر بباله في تلك اللحظة شيء مما سوى الله، ففي هذه الساعة تحصل الولاية التامة، ومتى كانت هذه الحالة حاصلة فإن صاحبها لا يخاف شيئا، ولا يحزن بسبب شيء، وكيف يعقل ذلك والخوف من الشيء والحزن على الشيء لا يحصل إلا بعد الشعور به، والمستغرق في نور جلال الله غافل عن كل ما سوى الله تعالى، فيمتنع أن يكون له خوف أو حزن؟
126

وهذه درجة عالية، ومن لم يذقها لم يعرفها، ثم إن صاحب هذه الحالة قد تزول عنه الحالة، وحينئذ يحصل له الخوف والحزن والرجاء والرغبة والرهبة بسبب الأحوال الجسمانية، كما يحصل لغيره، وسمعت أن إبراهيم الخواص كان بالبادية ومعه واحد يصحبه، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له، فجلس في موضعه وجاءت السباع ووقفوا بالقرب منه، والمريد تسلق على رأس شجرة خوفا منها والشيخ ما كان فازعا من تلك السباع، فلما أصبح وزالت تلك الحالة ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على يده فأظهر الجزع من تلك البعوضة، فقال المريد: كيف تليق هذه الحالة بما قبلها؟ فقال الشيخ: إنا إنما تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي، فلما غاب ذلك الوارد فأنا أضعف خلق الله تعالى. المسألة الثانية: قال أكثر المحققين: إن أهل الثواب لا يحصل لهم خوف في محفل القيامة واحتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى: * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * وبقوله تعالى: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة) * (الأنبياء: 103) وأيضا فالقيامة دار الجزاء فلا يليق به إيصال الخوف ومنهم من قال: بل يحصل فيه أنواع من الخوف، وذكروا فيه أخبارا تدل عليه إلا أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد.
وأما قوله: * (الذين آمنوا وكانوا يتقون) * ففيه ثلاثة أوجه: الأول: النصب بكونه صفة للأولياء. والثاني: النصب على المدح. والثالث: الرفع على الابتداء وخبره لهم البشرى.
وأما قوله تعالى: * (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) * ففيه أقوال: الأول: المراد منه الرؤيا الصالحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " وعنه عليه الصلاة والسلام: " ذهبت النبوة وبقيت المبشرات " وعنه عليه الصلاة والسلام: " الرؤيا الصالحة من
الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرات فإنه لا يضره " وعنه صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " وعن ابن مسعود، الرؤيا ثلاثة: الهم يهم به الرجل من النهار فيراه في الليل، وحضور الشيطان، والرؤيا التي هي الرؤيا الصادقة. وعن إبراهيم الرؤيا ثلاثة، فالمبشرة من الله جزء من سبعين جزءا من النبوة والشيء يهم به أحدكم بالنهار فلعله يراه بالليل والتخويف من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يحزنه فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة الله من شر رؤياي التي رؤيتها أن تضرني في دنياي أو في آخرتي.
واعلم أنا إذا حملنا قوله: * (لهم البشرى) * على الرؤيا الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحصل هذه الحالة إلا لهم والعقل أيضا يدل عليه، وذلك لأن ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب
127

والروح بذكر الله، ومن كان كذلك فهو عند النوم لا يبقى في روحه إلا معرفة الله، ومن المعلوم أن معرفة الله ونور جلال الله لا يفيده إلا الحق والصدق، وأما من يكون متوزع الفكر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم، فإنه إذا نام يبقى كذلك، فلا جرم لا اعتماد على رؤياه، فلهذا السبب قال: * (لهم البشرى في الحياة الدنيا) * على سبيل الحصر والتخصيص.
القول الثاني: في تفسير البشرى، أنها عبارة عن محبة الناس له وعن ذكرهم إياه بالثناء الحسن عن أبي ذر. قال؟ قلت: يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس. فقال: " تلك عاجل بشرى المؤمن ".
واعلم أن المباحث العقلية تقوي هذا المعنى، وذلك أن الكمال محبوب لذاته لا لغيره، وكل من اتصف بصفة من صفات الكمال، صار محبوبا لكل أحد، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة الله، مستغرق اللسان بذكر الله، مستغرق الجوارح والأعضاء بعبودية الله، فإذا ظهر عليه أمر من هذا الباب، صارت الألسنة جارية بمدحه، والقلوب مجبولة على حبه، وكلما كانت هذه الصفات الشريفة أكثر، كانت هذه المحبة أقوى، وأيضا فنور معرفة الله مخدوم بالذات، ففي أي قلب حضر صار ذلك الإنسان مخدوما بالطبع ألا ترى أن البهائم والسباع قد تكون أقوى من الإنسان، ثم إنها إذا شاهدت الإنسان هابته وفرت منه وما ذاك إلا لمهابة النفس الناطقة.
والقول الثالث: في تفسير البشرى أنها عبارة عن حصول البشرى لهم عند الموت قال تعالى: * (تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة) * (فصلت: 30) وأما البشرى في الآخرة فسلام الملائكة عليهم كما قال تعالى: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) * (الرعد: 23) وسلام الله عليهم كما قال: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) ويندرج في هذا الباب ما ذكره الله في هذا الكتاب الكريم من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يلقون فيها من الأحوال السارة فكل ذلك من المبشرات.
والقول الرابع: إن ذلك عبارة عما بشر الله عباده المتقين في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه. ودليله قوله: * (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان) * (التوبة: 21).
واعلم أن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية، ومجموع الأمور المذكورة مشتركة في هذه الصفة، فيكون الكل داخلا فيه فكل ما يتعلق من هذه الوجوه بالدنيا فهو داخل تحت قوله: * (لهم البشرى في الحياة الدنيا) * وكل ما يتعلق بالآخرة فهو داخل تحت قوله: * (وفي الآخرة) * ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أولياء الله وشرح أحوالهم
128

قال تعالى: * (لا تبديل لكلمات الله) * والمراد أنه لا خلف فيها، والكلمة والقول سواء. ونظيره قوله: * (ما يبدل القول لدي) * (ق: 29) وهذا أحد ما يقوي أن المراد بالبشرى وعد الله بالثواب والكرامة لمن أطاعه بقوله: * (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان) * ثم بين تعالى أن: * (ذلك هو الفوز العظيم) * وهو كقوله تعالى: * (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) * (الإنسان: 20) ثم قال القاضي: قوله: * (لا تبديل لكلمات الله) * يدل على أنها قابلة للتبديل، وكل ما قبل العدم امتنع أن يكون قديما. ونظير هذا الاستدلال بحصول النسخ على أن حكم الله تعالى لا يكون قديما وقد سبق الكلام على أمثال هذه الوجوه.
قوله تعالى
* (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم * ألا إن الله من فى السماوات ومن فى الارض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركآء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) *.
اعلم أن القوم لما أوردوا أنواع الشبهات التي حكاها الله تعالى عنهم فيما تقدم من هذه السورة وأجاب الله عنها بالأجوبة التي فسرناها وقررناها، عدلوا إلى طريق آخر، وهو أنهم هددوه وخوفوه وزعموا أنا أصحاب التبع والمال، فنسعى في قهرك وفي إبطال أمرك، والله سبحانه أجاب عن هذا الطريق بقوله: * (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا) *.
واعلم أن الإنسان إنما يحزن من وعيد الغير وتهديده ومكره وكيده، لو جوز كونه مؤثرا في حاله، فإذا علم من جهة علام الغيوب أن ذلك لا يؤثر، خرج من أن يكون سببا لحزنه. ثم إنه تعالى كما أزال عن الرسول حزن الآخرة بسبب قوله: * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (يونس: 62) فكذلك أزال حزن الدنيا بقوله: * (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا) * فإذا كان الله تعالى هو الذي أرسله إلى الخلق وهو الذي أمره بدعوتهم إلى هذا الدين كان لا محالة ناصرا له ومعينا، ولما ثبت أن العزة والقهر والغلبة ليست إلا له، فقد حصل الأمن وزال الخوف.
129

فإن قيل: فكيف آمنه من ذلك ولم يزل خائفا حتى احتاج إلى الهجرة والهرب، ثم من بعد ذلك يخاف حالا بعد حال؟
قلنا: إن الله تعالى وعده الظفر والنصرة مطلقا والوقت ما كان معينا، فهو في كل وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقت المعين ذلك الوقت، فحينئذ يحصل الانكسار والانهزام في هذا الوقت.
وأما قوله تعالى: * (إن العزة لله جميعا) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: قال القاضي: إن العزة بالألف المكسورة وفي فتحها فساد يقارب الكفر لأنه يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون: * (إن العزة لله جميعا) * وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحزنه ذلك. أما إذا كسرت الألف كان ذلك استئنافا، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب. قال صاحب " الكشاف ": وقرأ أبو حياة * (أن العزة) * بالفتح على حذف لام العلة يعني: لأن العزة على صريح التعليل.
البحث الثاني: فائدة * (إن العزة لله) * في هذا المقام أمور: الأول: المراد منه أن جميع العزة والقدرة هي لله تعالى يعطي ما يشاء لعباده، والغرض منه أنه لا يعطي الكفار قدرة عليه، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو بذلك أعز منهم، فآمنه الله تعالى بهذا القول من إضرار الكفار به بالقتل والإيذاء، ومثله قوله تعالى: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * (المجادلة: 21) * (إنا لننصر رسلنا) * (غافر: 51) الثاني: قال الأصم: المراد أن المشركين يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم ويخوفونك بها وتلك الأشياء كلها لله تعالى فهو القادر على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء وأن ينصرك وينقل أموالهم وديارهم إليك.
فإن قيل: قوله: * (إن العزة لله جميعا) * كالمضادة لقوله تعالى: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * (المنافقون: 8).
قلنا: لا مضادة، لأن عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله فهي لله.
أما قوله: * (هو السميع العليم) * أي يسمع ما يقولون ويعلم ما يعزمون عليه وهو يكافئهم بذلك.
وأما قوله: * (ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض) * ففيه وجهان: الأول: أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة * (ألا إن لله ما في السماوات والأرض) * وهذا يدل على أن كل ما لا يعقل فهو ملك لله تعالى وملك له، وأما ههنا فكلمة * (من) * مختصة بمن يعقل، فتدل على أن كل العقلاء داخلون تحت ملك الله وملكه فيكون مجموع الآيتين دالا على أن الكل ملكه وملكه. والثاني: أن المراد * (من في السماوات) * العقلاء المميزون وهم الملائكة والثقلان. وإنما خصهم بالذكر ليدل على أن
130

هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه فالجمادات أولى بهذه العبودية فيكون ذلك قدحا في جعل الأصنام شركاء لله تعالى.
ثم قال تعالى: * (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن) * وفي كلمة * (ما) * قولان: الأول: أنه نفي وجحد، والمعنى أنهم ما اتبعوا شريك الله تعالى إنما اتبعوا شيئا ظنوه شريكا لله تعالى. ومثاله أن أحدنا لو ظن أن زيدا في الدار وما كان فيها، فخاطب إنسانا في الدار ظنه زيدا فإنه لا يقال: إنه خاطب زيدا بل يقال خاطب من ظنه زيدا. الثاني: أن * (ما) * استفهام، كأنه قيل: أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، والمقصود تقبيح فعلهم يعني أنهم ليسوا على شيء.
ثم قال تعالى: * (إن يتبعون إلا الظن) * والمعنى أنهم إنما اتبعوا ظنونهم الباطلة وأوهامهم الفاسدة، ثم بين أن هذا الظن لا حكم له * (وإن هم إلا يخرصون) * وذكرنا معنى الخرص في سورة الأنعام عند قوله: * (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) * (الأنعام: 16).
قوله تعالى
* (هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذالك لآيات لقوم يسمعون) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر قوله: * (إن العزة لله جميعا) * احتج عليه بهذه الآية، والمعنى أنه تعالى جعل الليل ليزول التعب والكلال بالسكون فيه، وجعل النهار مبصرا أي مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم بالأبصار، والمبصر الذي يبصر، والنهار يبصر فيه، وإنما جعله مبصرا على طريق نقل الاسم من السبب إلى المسبب.
فإن قيل: إن قوله: * (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) * يدل على أنه تعالى ما خلقه إلا لهذا الوجه، وقوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) * يدل على أنه تعالى أراد بتخليق الليل والنهار أنواعا كثيرة من الدلائل.
قلنا: إن قوله تعالى: * (لتسكنوا) * لا يدل على أنه لا حكمة فيه إلا ذلك، بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة.
131

أما قوله تعالى: * (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) * فالمراد يتدبرون ما يسمعون ويعتبرون به.
قوله تعالى
* (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما فى السماوات وما فى الارض إن عندكم من سلطان بهذآ أتقولون على الله ما لا تعلمون) *.
اعلم أن هذا نوع آخر من الأباطيل التي حكاها الله تعالى عن الكفار وهي قولهم: * (اتخذ الله ولدا) * ويحتمل أن يكون المراد حكاية قول من يقول: الملائكة بنات الله، ويحتمل أن يكون المراد قول من يقول: الأوثان أولاد الله، ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قوم من النصارى قالوا ذلك ثم إنه تعالى لما استنكر هذا القول قال بعده: * (هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض) *.
واعلم أن كونه تعالى غنيا مالكا لكل ما في السماوات والأرض يدل على أنه يستحيل أن يكون له ولد، وبيان ذلك من وجوه: الأول: أنه سبحانه غني مطلقا على ما في
هذه الآية، والعقل أيضا يدل عليه، لأنه لو كان محتاجا لافتقر إلى صانع آخر، وهو محال وكل من كان غنيا فإنه لا بد أن يكون فردا منزها عن الأجزاء والأبعاض، وكل من كان كذلك امتنع أن ينفصل عنه جزء من أجزائه، والولد عبارة عن أن ينفصل جزء من أجزاء الإنسان، ثم يتولد عن ذلك الجزء مثله، وإذا كان هذا محالا ثبت أن كونه تعالى غنيا يمنع ثبوت الولد له.
الحجة الثانية: أنه تعالى غني وكل من كان غنيا كان قديما أزليا باقيا سرمديا، وكل من كان كذلك، امتنع عليه الانقراض والانقضاء، والولد إنما يحصل للشيء الذي ينقضي، وينقرض، فيكون ولده قائما مقامه، فثبت أن كونه تعالى غنيا، يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد.
الحجة الثالثة: أنه تعالى غني وكل من كان غنيا فإنه يمتنع أن يكون موصوفا بالشهوة واللذة وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون له صاحبة وولد.
الحجة الرابعة: أنه تعالى غني، وكل من كان غنيا امتنع أن يكون له ولد، لأن اتخاذ الولد إنما يكون في حق من يكون محتاجا حتى يعينه ولده على المصالح الحاصلة والمتوقعة، فمن كان غنيا مطلقا امتنع عليه اتخاذ الولد.
132

الحجة الخامسة: ولد الحيوان إنما يكون ولدا له بشرطين: إذا كان مساويا له في الطبيعة والحقيقة، ويكون ابتداء وجوده وتكونه منه، وهذا في حق الله تعالى محال، لأنه تعالى غني مطلقا، وكل من كان غنيا مطلقا كان واجب الوجود لذاته، فلو كان لواجب الوجود ولد، لكان ولده مساويا له. فيلزم أن يكون ولد واجب الوجود أيضا واجب الوجود، لكن كونه واجب الوجود يمنع من تولده من غيره، وإذا لم يكن متولدا من غيره لم يكن ولدا، فثبت أن كونه تعالى غنيا من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا ولد له، وهذه الثلاثة مع الثلاثة الأول في غاية القوة.
الحجة السادسة: أنه تعالى غني، وكل من كان غنيا امتنع أن يكون له أب وأم، وكل من تقدس عن الوالدين وجب أن يكون مقدسا عن الأولاد.
فإن قيل: يشكل هذا بالوالد الأول؟
قلنا: الوالد الأول لا يمتنع كونه ولدا لغيره، لأنه سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق الوالد الأول من أبوين يقدمانه أما الحق سبحانه فإنه يمتنع افتقاره إلى الأبوين، وإلا لما كان غنيا مطلقا.
الحجة السابعة: إنه تعالى غني مطلقا، وكل من كان غنيا مطلقا امتنع أن يفتقر في إحداث الأشياء إلى غيره.
إذا ثبت هذا فنقول: هذا الولد، إما أن يكون قديما أو حادثا، فإن كان قديما فهو واجب الوجود لذاته، إذ لو كان ممكن الوجود لافتقر إلى المؤثر، وافتقار القديم إلى المؤثر يقتضي إيجاد الموجود وهو محال، وإذا كان واجب الوجود لذاته لم يكن ولدا لغيره، بل كان موجودا مستقلا بنفسه، وأما إن كان هذا الولد حادثا والحق سبحانه غني مطلقا فكان قادرا على إحداثه ابتداء من غير تشريك شيء آخر، فكان هذا عبدا مطلقا، ولم يكن ولدا، فهذه جملة الوجوه المستنبطة من قوله: * (هو الغني) * الدالة على أنه يمتنع أن يكون له ولد.
أما قوله: * (له ما في السماوات وما في الأرض) * فاعلم أنه نظير قوله: * (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * (مريم: 93) وحاصله يرجع إلى أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن، وكل ممكن محتاج، وكل محتاج محدث، فكل ما سوى الواحد الأحد الحق محدث، والله تعالى محدثه وخالقه وموجده وذلك يدل على فساد القول بإثبات الصاحبة والولد، ولما بين تعالى بالدليل الواضح امتناع ما أضافوا إليه، عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ فقال: * (إن عندكم من سلطان بهذا) * منبها بهذا على أنه لا حجة عندهم في ذلك البتة. ثم بالغ في ذلك الإنكار فقال: * (أتقولون على الله ما لا تعلمون) * وقد
133

ذكرنا أن هذه الآية يحتج بها في إبطال التقليد في أصول الديانات ونفاة القياس وأخبار الآحاد قد يحتجون بها في إبطال هذين الأصلين وقد سبق الكلام فيه.
قوله تعالى
* (قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل القاهر أن إثبات الولد لله تعالى قول باطل ثم بين أنه ليس لهذا القائل دليل على صحة قوله، فقد ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله ونسبه لما لا يليق به إليه، فبين أن من هذا حاله فإنه لا يفلح البتة ألا ترى أنه تعالى قال في أول سورة المؤمنون: * (قد أفلح المؤمنون) * (المؤمنون: 1) وقال في آخر هذه السورة: * (إنه لا يفلح الكافرون) * (المؤمنون: 117).
واعلم أن قوله: * (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) * يدخل فيه هذه الصورة ولكنه لا يختص بهذه الصورة بل كل من قال في ذات الله تعالى وفي صفاته قولا بغير علم وبغير حجة بينة كان داخلا في هذا الوعيد، ومعنى قوله: * (لا يفلح) * قد ذكرناه في أول سورة البقرة في قوله تعالى: * (وأولئك هم المفلحون) * (آل عمران: 104) وبالجملة فالفلاح عبارة عن الوصول إلى المقصود والمطلوب، فمعنى أنه لا يفلح هو أنه لا ينجح في سعيه ولا يفوز بمطلوبه بل خاب وخسر، ومن الناس من إذا فاز بشيء من المطالب العاجلة والمقاصد الخسيسة، ظن أنه قد فاز بالمقصد الأقصى، والله سبحانه أزال هذا الخيال بأن قال: إن ذلك المقصود الخسيس متاع قليل في الدنيا، ثم لا بد من الموت، وعند الموت لا بد من الرجوع إلى الله وعند هذا الرجوع لا بد من أن يذيقه العذاب الشديد بسبب ذلك الكفر المتقدم، وهذا كلام في غاية الانتظام ونهاية الحسن والجزالة. والله أعلم.
قوله تعالى
* (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركآءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم قضوا
إلى
134

ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين) *.
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات، وفي الجواب عن الشبه والسؤالات، شرع بعد ذلك في بيان قصص الأنبياء عليهم السلام لوجوه: أحدها: أن الكلام إذا أطال في تقرير نوع من أنواع العلوم، فربما حصل نوع من أنواع الملالة فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر، انشرح صدره وطاب قلبه ووجد في نفسه رغبة جديدة وقوة حادثة وميلا قويا. وثانيها: ليكون للرسول عليه الصلاة والسلام ولأصحابه أسوة بمن سلف من الأنبياء، فإن الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكفار مع الكل الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه خف ذلك على قلبه، كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت. وثالثها: أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص، وعلموا أن الجهال، وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدمين إلا أن الله تعالى أعانهم بالآخرة ونصرهم وأيدهم وقهر أعداءهم، كان سماع هؤلاء الكفار لأمثال هذه القصص سببا لانكسار قلوبهم، ووقوع الخوف والوجل في صدورهم، وحينئذ يقللون من أنواع الإيذاء والسفاهة. ورابعها: أنا قد دللنا على أن محمدا عليه الصلاة والسلام لما لم يتعلم علما، ولم يطالع كتابا ثم ذكر هذه الأقاصيص من غير تفاوت، ومن غير زيادة ومن غير نقصان، دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عرفها بالوحي والتنزيل.
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة من قصص الأنبياء عليهم السلام ثلاثة.
فالقصة الأولى: قصة نوح عليه السلام، وهي المذكورة في هذه الآية، وفيها وجهان من الفائدة: الأول: أن قوم نوح عليهم السلام لما أصروا على الكفر والجحد عجل الله هلاكهم بالغرق فذكر الله تعالى قصتهم لتصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار، وداعية إلى مفارقة الجحد بالتوحيد والنبوة. والثاني: أن كفار مكة كانوا يستعجلون العذاب الذي يذكره الرسول عليه
135

السلام لهم وكانوا يقولون له كذبت، فإنه ما جاءنا هذا العذاب، فالله تعالى ذكر لهم قصة نوح عليه السلام لأنه عليه السلام كان يخوفهم بهذا العذاب وكانوا يكذبونه فيه، ثم بالآخرة وقع كما أخبر فكذا ههنا.
المسألة الثانية: أن نوحا عليه السلام قال لقومه: * (إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت) * وهذا جملة من الشرط والجزاء، أما الشرط فهو مركب من قيدين:
القيد الأول: قوله: * (إن كان كبر عليكم مقامي) * قال الواحدي في " البسيط ": يقال كبر يكبر كبرا في السن، وكبر الأمر والشيء إذا عظم يكبر كبرا وكبارة. قال ابن عباس: ثقل عليكم وشق عليكم وعظم أمره عندكم والمقام بفتح الميم مصدر كالإقامة. يقال: أقام بين أظهرهم مقاما وإقامة، والمقام بضم الميم الموضع الذي يقام فيه، وأراد بالمقام ههنا مكثه ولبثه فيهم وبالجملة فقوله: * (كبر عليكم مقامي) * جار مجرى قولهم: فلان ثقيل الظل.
واعلم أن سبب هذا الثقل أمران: أحدهما: أنه عليه السلام مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما. والثاني: أن أولئك الكفار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة والطرائق الباطلة والغالب أن من ألف طريقة في الدين فإنه يثقل عليه أن يدعى إلى خلافها، ويذكر له ركاكتها، فإن اقترن بذلك طول مدة الدعاء كان أثقل وأشد كراهية، فإن اقترن به إيراد الدلائل القاهرة على فساد تلك المذهب كانت النفرة أشد فهذا هو السبب في حصول ذلك الثقل.
والقيد الثاني: هو قوله: * (وتذكيري بآيات الله) *. واعلم أن الطباع المشغوفة بالدنيا الحريصة على طلب اللذات العاجلة تكون شديدة النفرة عن الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والمنكرات، قوية الكراهة لسماع ذكر الموت وتقبيح صورة الدنيا ومن كان كذلك فإنه يستثقل الإنسان الذي يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون قوله: * (إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله) * معناه أنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم ظاهرا وكلامهم مسموعا، كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود.
واعلم أن هذا هو الشرط المذكور في هذه الآية، أما الجزاء ففيه قولان:
القول الأول: أن الجزاء هو قوله: * (فعلى الله توكلت) * يعني أن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على الله.
136

واعلم أنه عليه السلام كان أبدا متوكلا على الله تعالى، وهذا اللفظ يوهم أنه توكل على الله في هذه الساعة، لكن المعنى أنه إنما توكل على الله في دفع هذا الشر في هذه الساعة.
والقول الثاني: وهو قول الأكثرين إن جواب الشرط هو قوله: * (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) * وقوله: * (فعلى الله توكلت) * كلام اعترض به بين الشرط وجوابه كما تقول في الكلام إن كنت أنكرت علي شيئا فالله حسبي فاعمل ما تريد واعلم أن جواب هذا الشرط مشتمل على قيود خمسة على الترتيب.
القيد الأول: قوله: * (فأجمعوا أمركم) * وفيه بحثان:
البحث الأول: قال الفراء: الإجماع الإعداد والعزيمة على الأمر وأنشد: فيا ليت شعري والمنى لا ينفع * هل اغدون يوما وأمري مجمع
فإذا أردت جمع التفرق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون، وقال أبو الهيثم: أجمع أمره، أي جعله جميعا بعد ما كان متفرقا، قال: وتفرقه، أي جعل يتدبره فيقول: مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه، أي جعله جميعا فهذا هو الأصل في الإجماع، ومنه قوله تعالى: * (وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم) * (يوسف: 102) ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى فقيل: أجمعت على الأمر، أي عزمت عليه، والأصل أجمعت الأمر.
البحث الثاني: روى الأصمعي عن نافع * (فاجمعوا أمركم) * بوصل الألف من الجمع وفيه وجهان: الأول: قال أبو علي الفارسي: فاجمعوا ذوي الأمر منكم فحذف
المضاف، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت. الثاني: قال ابن الأنباري: المراد من الأمر ههنا وجوه كيدهم ومكرهم، فالتقدير: ولا تدعوا من أمركم شيئا إلا أحضرتموه.
والقيد الثاني: قوله: * (وشركاءكم) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: الواو ههنا بمعنى مع، والمعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم، ونظيره قولهم لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها، ولو خليت نفسك والأسد لأكلك.
البحث الثاني: يحتمل أن يكون المراد من الشركاء الأوثان التي سموها بالآلهة، ويحتمل أن يكون المراد منها من كان على مثل قولهم ودينهم، فإن كان المراد هو الأول فإنما حث الكفار على الاستعانة بالأوثان بناء على مذهبهم من أنها تضر وتنفع، وإن كان المراد هو الثاني فوجه الاستعانة بها ظاهر.
البحث الثالث: قرأ الحسن وجماعة من القراء * (وشركاؤكم) * بالرفع عطفا على الضمير
137

المرفوع، والتقدير: فأجمعوا أنتم وشركاؤكم. قال الواحدي: وجاز ذلك من غير تأكيد الضمير كقوله: * (أسكن أنت وزوجك الجنة) * (البقرة: 35) لأن قوله: * (أمركم) * فصل بين الضمير وبين المنسوق، فكان كالعوض من التوكيد وكان الفراء يستقبح هذه القراءة، لأنها توجب أن يكتب وشركاؤكم بالواو وهذا الحرف غير موجود في المصاحف.
القيد الثالث: قوله: * (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) * قال أبو الهيثم: أي مبهما من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التبس قال طرفة: فلعمري ما أمري علي بغمة * نهاري ولا ليلي علي بسرمد
وقال الليث: إنه لفي غمة من أمره إذا لم يهتد له. قال الزجاج: أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا.
القيد الرابع: قوله: * (ثم اقضوا إلي) * وفيه بحثان:
البحث الأول: قال ابن الأنباري معناه ثم امضوا إلي بمكروهكم وما توعدونني به، تقول العرب: قضى فلان، يريدون مات ومضى، وقال بعضهم: قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه وبه يسمى القاضي، لأنه إذا حكم فقد فرغ فقوله: * (ثم اقضوا إلي) * أي افرغوا من أمركم وامضوا ما في أنفسكم واقطعوا ما بيني وبينكم، ومنه قوله تعالى: * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) * (الإسراء: 4) أي أعلمناهم إعلاما قاطعا، قال تعالى: * (وقضينا إليه ذلك الأمر) * (الحجر: 66) قال القفال رحمه الله تعالى ومجاز دخول كلمة * (إلى) * في هذا الموضع من قولهم برئت إليك وخرجت إليك من العهد، وفيه معنى الإخبار فكأنه تعالى قال: ثم اقضوا ما يستقر رأيكم عليه محكما مفروغا منه.
البحث الثاني: قرىء ثم أفضوا إلي بالفاء بمعنى ثم انتهوا إلى بشركم، وقيل: هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء، أي أصحروا به إلي وأبرزوه إلي.
القيد الخامس: قوله: * (ولا تنظرون) * معناه لا تمهلون بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه فهذا هو تفسير هذه الألفاظ، وقد نظم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه فقال إنه عليه السلام قال: " في أول الأمر فعلى الله توكلت فإني واثق بوعد الله جازم بأنه لا يخلف الميعاد ولا تظنوا أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى الله تعالى " ثم إنه عليه السلام أورد ما يدل على صحة دعوته فقال: " فأجمعوا أمركم " فكأنه يقول لهم أجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضموا إلى أنفسهم شركائهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانتهم وبالتقرب إليهم، ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثا وهو قوله: * (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) * وأراد أن يبلغوا فيه كل غاية في المكاشفة والمجاهرة، ثم لم يقتصر على ذلك حتى
138

ضم إليها: رابعا فقال: * (ثم اقضوا إلي) * والمراد أن وجهوا كل تلك الشرور إلي، ثم ضم إلى ذلك خامسا. وهو قوله: * (ولا تنظرون) * أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من عير أنظار فهذا آخر هذا الكلام ومعلوم أن مثل هذا الكلام يدل على أنه عليه السلام كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله تعالى وأنه كان قاطعا بأن كيدهم لا يصل إليه ومكرهم لا ينفذ فيه.
وأما قوله تعالى: * (فإن توليتم فما سألتكم من أجر) * فقال المفسرون: هذا إشارة إلى أنه ما أخذ منهم مالا على دعوتهم إلى دين الله تعالى ومتى كان الإنسان فارغا من الطمع كان قوله أقوى تأثيرا في القلب. وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال: إنه عليه السلام بين أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه وذلك لأن الخوف إنما يحصل بأحد شيئين إما بإيصال الشر أو بقطع المنافع، فبين فيما تقدم أنه لا يخاف شرهم وبين بهذه الآية أنه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعوا عنه خيرا، لأنه ما أخذ منهم شيئا فكان يخاف أن يقطعوا منه خيرا.
ثم قال: * (إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين) * وفيه قولان: الأول: أنكم سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوا، فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام. والثاني: أني مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إلي لأجل هذه الدعوة. وهذا الوجه أليق بهذا الموضع، لأنه لما قال: * (ثم اقضوا إلي) * بين لهم أنه مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إليه في هذا الباب، والله أعلم.
قوله تعالى
* (فكذبوه فنجيناه ومن معه فى الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى الكلمات التي جرت بين نوح وبين أولئك الكفار، ذكر ما إليه رجعت عاقبة تلك الواقعة، أما في حق نوح وأصحابه فأمران: أحدهما: أنه تعالى نجاهم من الكفار. الثاني: أنه جعلهم خلائف بمعنى أنهم يخلفون من هلك بالغرق، وأما في حق الكفار فهو أنه تعالى أغرقهم وأهلكهم. وهذه القصة إذا سمعها من
صدق الرسول ومن كذب به كانت زجرا للمكلفين من حيث يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح وتكون داعية للمؤمنين على الثبات على الإيمان، ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح، وهذه الطريقة في الترغيب والتحذير إذا جرت على
139

سبيل الحكاية عمن تقدم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ وعلى هذا الوجه ذكر تعالى أقاصيص الأنبياء عليهم السلام.
وأما تفاصيل هذه القصة فهي مذكورة في سائر السور.
قوله تعالى
* (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) *.
اعلم أن المراد: ثم بعثنا من بعد نوح رسلا ولم يسمهم، وكان منهم هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب صلوات الله عليهم أجمعين بالبينات، وهي المعجزات القاهرة، فأخبر تعالى عنهم أنهم جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب، ولم يزجرهم ما بلغهم من إهلاك الله تعالى المكذبين من قوم نوح عن ذلك، فلهذا قال: * (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) * وليس المراد عين ما كذبوا به، لأن ذلك لم يحصل في زمانه بل المراد بمثل ما كذبوا به من البينات، لأن البينات الظاهرة على الأنبياء عليهم السلام أجمع كأنها واحدة.
ثم قال تعالى: * (كذلك نطبع على قلوب المعتدين) * واحتج أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع المكلف عن الإيمان بهذه الآية وتقريره ظاهر. قال القاضي: الطبع غير مانع من الإيمان بدليل قوله تعالى: * (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) * (النساء: 155) ولو كان هذا الطبع مانعا لما صح هذا الاستثناء؟
والجواب: أن الكلام في هذه المسألة قد سبق على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) * (البقرة: 7) فلا فائدة في الإعادة.
140

القصة الثانية
قصة موسى عليه السلام
قوله تعالى
* (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جآءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون) *.
اعلم أن هذا الكلام غني عن التفسير وفيه سؤال واحد، وهو أن القوم لما قالوا: * (إن هذا لسحر مبين) * فكيف حكى موسى عليه السلام أنهم قالوا: * (أسحر هذا) * على سبيل الاستفهام؟
وجوابه: أن موسى عليه السلام ما حكى عنهم أنهم قالوا: * (أسحر هذا) * بل قال: * (أتقولون للحق لما جاءكم) * ما تقولون، ثم حذف عنه مفعول * (أتقولون) * لدلالة الحال عليه، ثم قال مرة أخرى * (أسحر هذا) * وهذا استفهام على سبيل الإنكار، ثم احتج على أنه ليس بسحر، وهو قوله: * (ولا يفلح الساحرون) * يعني أن حاصل صنعهم تخييل وتمويه * (ولا يفلح الساحرون) * وأما قلب العصا حية وفلق البحر، فمعلوم بالضرورة أنه ليس من باب التخييل والتمويه فثبت أنه ليس بسحر.
141

قوله تعالى
* (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه ءاباءنا وتكون لكما الكبريآء فى الارض وما نحن لكما بمؤمنين * وقال فرعون ائتونى بكل ساحر عليم * فلما جآء السحرة قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون * فلمآ ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى حكى عن فرعون وقومه أنهم لم يقبلوا دعوة موسى عليه السلام، وعللوا عدم القبول بأمرين: الأول: قوله: * (أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آبائنا) * قال الواحدي: اللفت في أصل اللغة الصرف عن أمر، وأصله اللي يقال: لفت عنقه إذا لواها، ومن هذا يقال: التفت إليه، أي أمال وجهه إليه. قال الأزهري: لفت الشيء وفتله إذا لواه، وهذا من المقلوب.
واعلم أن حاصل هذا الكلام أنهم قالوا: لا نترك الدين الذي نحن عليه، لأنا وجدنا آبائنا عليه، فقد تمسكوا بالتقليد ودفعوا الحجة الظاهرة بمجرد الإصرار.
والسبب الثاني: في عدم القبول قوله: * (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) * قال المفسرون: المعنى ويكون لكما الملك والعز في أرض مصر، والخطاب لموسى وهارون. قال الزجاج: سمى الملك كبرياء، لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضا فالنبي إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه، فصار أكبر القوم.
واعلم أن السبب الأول: إشارة إلى التمسك بالتقليد، والسبب الثاني: إشارة إلى الحرص على طلب
142

الدنيا، والجد في بقاء الرياسة، ولما ذكر القوم هذين السببين صرحوا بالحكم وقالوا: * (وما نحن لكما بمؤمنين) *.
واعلم أن القوم لما ذكروا هذه المعاني حاولوا بعد ذلك، وأرادوا أن يعارضوا معجزة موسى عليه السلام بأنواع من السحر، ليظهروا عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السحر، فجمع فرعون السحرة وأحضرهم، * (فقال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون) *.
فإن قيل: كيف أمرهم بالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر؟
قلنا: إنه عليه السلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصي، ليظهر للخلق أن ما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل، لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر، فلما ألقوا حبالهم وعصيهم قال لهم موسى ما جئتم به هو السحر الباطل، والغرض منه أن القوم قالوا لموسى: إن ما جئت به سحر، فذكر موسى عليه السلام أن ما ذكرتموه باطل، بل الحق أن الذي جئتم به هو السحر والتمويه الذي يظهر بطلانه، ثم أخبرهم بأن الله تعالى يحق الحق ويبطل الباطل، وقد أخبر الله تعالى في سائر السور أنه كيف أبطل ذلك السحر، وذلك بسبب أن ذلك الثعبان قد تلقف كل تلك الجبال والعصي.
المسألة الثانية: قوله: * (ما جئتم به السحر) * ما ههنا موصولة بمعنى الذي وهي مرتفعة بالابتداء، وخبرها السحر، قال الفراء: وإنما قال: * (السحر) * بالألف واللام، لأنه جواب كلام سبق ألا ترى أنهم قالوا: لما جاءهم موسى هذا سحر، فقال لهم موسى: بل ما جئتم به السحر، فوجب دخول الألف واللام، لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة، يقول الرجل لغيره: لقيت رجلا فيقول له من الرجل فيعيده بالألف واللام، ولو قال له من رجل لم يقع في فهمه أنه سأله عن الرجل الذي ذكره له. وقرأ أبو عمرو: * (آلسحر) * بالاستفهام، وعلى هذه القراءة ما استفهامية مرتفع بالابتداء، وجئتم به في موضع الخبر كأنه قيل: أي شيء جئتم به. ثم قال على وجه التوبيخ والتقريع: * (آلسحر) * كقوله تعالى: * (أأنت قلت للناس) * (المائدة: 116) والسحر بدل من المبتدأ، ولزم أن يلحقه الاستفهام ليساوي المبدل منه في أنه استفهام، كما تقول كم مالك أعشرون أم ثلاثون؟ فجعلت أعشرون بدلا من كم، ولا يلزم أن يضمر للسحر خبر، لأنك إذا أبدلته من المبتدأ صار في موضعه وصار ما كان خبرا عن المبدل منه خبرا عنه.
ثم قال تعالى: * (إن الله سيبطله) * أي سيهلكه ويظهر فضيحة صاحبه * (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) * أي لا يقويه ولا يكمله.
ثم قال: * (ويحق الله الحق) * ومعنى إحقاق الحق إظهاره وتقويته. وقوله: * (بكلماته) * أي بوعده
143

موسى. وقيل بما سبق من قضائه وقدره، وفي كلمات الله أبحاث غامضة عميقة عالية، وقد ذكرناها في بعض مواضع من هذا الكتاب.
قوله تعالى
* (فمآ ءامن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الارض وإنه لمن المسرفين) *.
واعلم أنه تعالى بين فيما تقدم ما كان من موسى عليه السلام من المعجزات العظيمة وما ظهر من تلقف العصا لكل ما أحضروه من آلات السحر، ثم إنه تعالى بين أنهم مع مشاهدة المعجزات العظيمة ما آمن به منهم إلا ذرية من قومه، وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يغتم بسبب إعراض القوم عنه واستمرارهم على الكفر، فبين أن له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة، لأن الذي ظهر من موسى عليه السلام كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم، ومع ذلك فما آمن به منهم إلا ذرية. واختلفوا في المراد بالذرية على وجوه: الأول: أن الذرية ههنا معناها تقليل العدد. قال ابن عباس: لفظ الذرية يعبر به عن القوم على وجه التحقير والتصغير، ولا سبيل إلى حمله على التقدير على وجه الإهانة في هذا الموضع فوجب حمله على التصغير بمعنى قلة العدد. الثاني: قال بعضهم: المراد أولاد من دعاهم، لأن الآباء استمروا على الكفر، إما لأن قلوب الأولاد ألين أو دواعيهم على الثبات على الكفر أخف. الثالث: أن الذرية قوم كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل. الرابع: الذرية من آل فرعون آسية امرأة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وماشطتها. وأما الضمير في قوله: * (من قومه) * فقد اختلفوا أن المراد من قوم موسى أو من قوم فرعون، لأن ذكرهما جميعا قد تقدم والأظهر أنه عائد إلى موسى، لأنه أقرب المذكورين ولأنه نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل.
أما قوله: * (على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: أن أولئك الذين آمنوا بموسى كانوا خائفين من فرعون جدا، لأنه كان شديد البطش وكان قد أظهر العداوة مع موسى، فإذا علم ميل القوم إلى موسى كان يبالغ في إيذائهم، فلهذا السبب كانوا خائفين منه.
144

البحث الثاني: إنما قال: * (وملئهم) * مع أن فرعون واحد لوجوه: الأول: أنه قد يعبر عن الواحد بلفظ الجمع، والمراد التعظيم قال الله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * (الحجر: 9) الثاني: أن المراد بفرعون آل فرعون. الثالث: أن هذا من باب حذف المضاف كأنه أريد بفرعون آل فرعون.
ثم قال: * (أن يفتنهم) * أي يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم.
ثم قال: * (وإن فرعون لعال في الأرض) * أي لغالب فيها قاهر * (وإنه لمن المسرفين) * قيل: المراد أنه كثير القتل كثير التعذيب لمن يخالفه في أمر من الأمور، والغرض منه بيان السبب في كون أولئك المؤمنين خائفين، وقيل: إنما كان مسرفا لأنه كان من أخس العبيد فادعى الإلهية.
قوله تعالى
* (وقال موسى يا قوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أن قوله: * (إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) * جزاء معلق على شرطين: أحدهما متقدم والآخر متأخر، والفقهاء قالوا: المتأخر يجب أن يكون متقدما والمتقدم يجب أن يكون متأخرا ومثاله أن يقول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا وإنما كان الأمر كذلك، لأن مجموع قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، صار مشروطا بقوله إن كلمت زيدا، والمشروط متأخر عن الشرط، وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متقدما في المعنى، وأن
يكون المتقدم في اللفظ متأخرا في المعنى والتقدير: كأنه يقول لامرأته حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق، فلو حصل هذا التعليق قبل إن كلمت زيدا لم يقع الطلاق.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) * يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين بقوله: * (إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا) * فكأنه
145

تعالى يقول للمسلم حال إسلامه إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل، والأمر كذلك، لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام، وهو إشارة إلى الانقياد للتكاليف الصادرة عن الله تعالى وإظهار الخضوع وترك التمرد، وأما الإيمان فهو عبارة عن صيرورة القلب عارفا بأن واجب الوجود لذاته واحد وأن ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه، وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على الله فهذه الآية من لطائف الأسرار، والتوكل على الله عبارة عن تفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأحوال على الله تعالى.
واعلم أن من توكل على الله في كل المهمات كفاه الله تعالى كل الملمات لقوله: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * (الطلاق: 3).
المسألة الثانية: أن هذا الذي أمر موسى قومه به وهو التوكل على الله هو الذي حكاه الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال: * (فعلى الله توكلت) * (يونس: 71) وعند هذا يظهر التفاوت بين الدرجتين لأن نوحا عليه السلام وصف نفسه بالتوكل على الله تعالى، وموسى عليه السلام أمر قومه بذلك فكان نوحا عليه السلام تاما، وكان موسى عليه السلام فوق التمام. المسألة الثالثة: إنما قال: * (فعليه توكلوا) * ولم يقل توكلوا عليه، لأن الأول يفيد الحصر كأنه عليه السلام أمرهم بالتوكل عليه ونهاهم عن التوكل على الغير، والأمر كذلك، لأنه لما ثبت أن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وتسخيره وتحت حكمه وتدبيره، امتنع في العقل أن يتوكل الإنسان على غيره، فلهذا السبب جاءت هذ الكلمة بهذه العبارة، ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام لما أمرهم بذلك قبلوا قوله: * (وقالوا على الله توكلنا) * أي توكلنا عليه، ولا نلتفت إلى أحد سواه، ثم لما فعلوا ذلك اشتغلوا بالدعاء، فطلبوا من الله تعالى شيئين: أحدهما: أن قالوا: * (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) * وفيه وجوه: الأول: أن المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا لوقع في قلوبهم أنا لو كنا على الحق لما سلطتهم علينا، فيصير ذلك شبهة قوية في إصرارهم على الكفر فيصير تسليطهم علينا فتنة لهم. الثاني: أنك لو سلطتهم علينا لاستوجبوا العقاب الشديد في الآخرة وذلك يكون فتنة لهم. الثالث: * (لا تجعلنا فتنة لهم) * أي موضع فتنة لهم، أي موضع عذاب لهم. الرابع: أن يكون المراد من الفتنة المفتون، لأن إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز، كالخلق بمعنى المخلوق، والتكوين بمعنى المكون، والمعنى: لا تجعلنا مفتونين، أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالظلم والقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه، وهذا التأويل متأكد بما ذكره الله
146

تعالى قبل هذه الآية وهو قوله: * (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) * وأما المطلوب الثاني في هذا الدعاء فهو قوله تعالى: * (ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) *.
واعلم أن هذا الترتيب يدل على أنه كان اهتمام هؤلاء بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم، وذلك لأنا إن حملنا قولهم: * (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) * على أنهم إن سلطوا على المسلمين صار ذلك شبهة لهم في أن هذا الدين باطل فتضرعوا إلي تعالى في أن يصون أولئك الكفار عن هذه الشبهة وقدموا هذا الدعاء على طلب النجاة لأنفسهم، وذلك يدل على أن عنايتهم بمصالح دين أعدائهم فوق عنايتهم بمصالح أنفسهم وإن حملناه على أن لا يمكن الله تعالى أولئك الكفار من أن يحملوهم على ترك هذا الدين كان ذلك أيضا دليلا على أن اهتمامهم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم وعلى جميع التقديرات فهذه لطيفة شريفة.
قوله تعالى
* (وأوحينآ إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلواة وبشر المؤمنين) *.
اعلم أنه لما شرح خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر منهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهارون باتخاذ المساجد والإقبال على الصلوات يقال: تبوأ المكان، أي اتخذه مبوأ كقوله توطنه إذا اتخذه موطنا، والمعنى: اجعلا بمصر بيوتا لقومكما ومرجعا ترجعون إليه للعبادة والصلاة.
ثم قال: * (واجعلوا بيوتكم قبلة) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: من الناس من قال: المراد من البيوت المساجد كما في قوله تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) * (النور: 36) ومنهم من قال: المراد مطلق البيوت، أما الأولون فقد فسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة، ثم قالوا: والمراد من قوله: * (واجعلوا بيوتكم قبلة) * أي اجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة، وقال الفراء: واجعلوا بيوتكم قبلة، أي إلى القبلة، وقال ابن الأنباري: واجعلوا بيوتكم قبلة أي قبلا يعني مساجد فأطلق لفظ الوحدان، والمراد الجمع، واختلفوا في أن هذه القبلة أين كانت؟ فظاهر أن لفظ القرآن لا يدل على تعيينه، إلا أنه نقل عن
147

ابن عباس أنه قال: كانت الكعبة قبلة موسى عليه السلام. وكان الحسن يقول: الكعبة قبلة كل الأنبياء، وإنما وقع العدول عنها بأمر الله تعالى في أيام الرسول عليه السلام بعد الهجرة. وقال آخرون: كانت تلك القبلة جهة بيت المقدس. وأما القائلون بأن المراد من لفظ البيوت المذكورة في هذه الآية مطلق البيت، فهؤلاء لهم في تفسير قوله: * (قبلة) * وجهان: الأول: المراد بجعل تلك البيوت قبلة أي متقابلة، والمقصود منه حصول الجمعية واعتضاد البعض بالبضع. وقال آخرون: المراد واجعلوا دوركم قبلة، أي صلوا في بيوتكم.
البحث الثاني: أنه تعالى خص موسى وهارون في أول هذه الآية بالخطاب فقال: * (أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا) * ثم عمم هذا الخطاب فقال: * (واجعلوا بيوتكم قبلة) * والسبب فيه أنه تعالى أمر موسى وهارون أن يتبوآ لقومهما بيوتا للعبادة، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء، ثم جاء الخطاب بعد ذلك عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الكل، ثم خص موسى عليه السلام في آخر الكلام بالخطاب فقال: * (وبشر المؤمنين) * وذلك لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة، فخص الله تعالى موسى بها، ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى عليه السلام وأن هارون تبع له.
البحث الثالث: ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوها ثلاثة: الأول: أن موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أول الإسلام في مكة. الثاني: قيل: إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفا من فرعون. الثالث: أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل تعالى أنه يصونهم عن شر الأعداء.
قوله تعالى
* (وقال موسى ربنآ إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة وأموالا فى الحيواة الدنيا ربنا
148

ليضلوا عن سبيلك ربنا طمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون) *.
اعلم أن موسى لما بالغ في إظهار المعجزات الظاهرة القاهرة ورأى القوم مصرين على الجحود والعناد والإنكار، أخذ يدعو عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أولا سبب إقدامه على تلك الجرائم، وكان جرمهم هو أنهم لأجل حبهم الدنيا تركوا الدين، فلهذا السبب قال موسى عليه السلام: * (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا) * والزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب، وأثاث البيت والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصامت والناطق.
ثم قال: * (ليضلوا عن سبيلك) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وعاصم * (ليضلوا) * بضم الياء وقرأ الباقون بفتح الياء.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يضل الناس ويريد إضلالهم وتقريره من وجهين: الأول: أن اللام في قوله: * (ليضلوا) * لام التعليل، والمعنى: أن موسى قال يا رب العزة إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا، فدل هذا على أنه تعالى قد يريد إضلال المكلفين. الثاني: أنه قال: * (واشدد على قلوبهم) * فقال الله تعالى: * (قد أجيبت دعوتكما) * وذلك أيضا يدل على المقصود. قال القاضي: لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ويدل عليه وجوه: الأول: أنه ثبت أنه تعالى منزه عن فعل القبيح وإرادة الكفر قبيحة. والثاني: أنه لو أراد ذلك لكان الكفار مطيعين لله تعالى بسبب كفرهم، لأنه لا معنى للطاعة إلا الإتيان بما يوافق الإرادة ولو كانوا كذلك لما استحقوا الدعاء عليهم بطمس الأموال وشد القلوب، والثالث: أنا لو جوزنا أن يريد إضلال العباد، لجوزنا أن يبعث الأنبياء عليهم السلام للدعاء إلى الضلال، ولجاز أن يقوي الكذابين الضالين المضلين بإظهار المعجزات عليهم، وفيه هدم الدين وإبطال الثقة بالقرآن والرابع: أنه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون عليهما السلام: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) وأن يقول: * (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون) * (الأعراف: 130) ثم إنه تعالى أراد الضلالة منهم وأعطاهم النعم لكي يضلوا، لأن ذلك كالمناقضة، فلا بد من حمل أحدهما
149

على موافقة الآخر. الخامس: أنه لا يجوز أن يقال: إن موسى عليه السلام دعا ربه بأن يطمس على أموالهم لأجل أن لا يؤمنوا مع تشدده في إرادة الإيمان.
واعلم أنا بالغنا في تكثير هذه الوجوه في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
وإذا ثبت هذا فنقول: وجب تأويل هذه الكلمة وذلك من وجوه: الأول: أن اللام في قوله * (ليضلوا) * لام العاقبة كقوله تعالى: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) ولما كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال، وقد أعلمه الله تعالى، لا جرم عبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ. الثاني: أن قوله: * (ربنا ليضلوا عن سبيلك) * أي لئلا يضلوا عن سبيلك، فحذف لا لدلالة المعقول عليه كقوله: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * (النساء: 176) والمراد أن لا تضلوا، وكقوله تعالى: * (قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة) * (الأعراف: 172) والمراد لئلا تقولوا، ومثل هذا الحذف كثير في الكلام. الثالث: أن يكون موسى عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التعجب المقرون بالإنكار والتقدير كأنك آتيتهم ذلك الغرض فإنهم لا ينفقون هذه الأموال إلا فيه وكأنه قال: آتيتهم زينة وأموالا لأجل أن يضلوا عن سبيل الله ثم حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا
أراد أكذبتك فكذا ههنا. الرابع: قال بعضهم: هذه اللام لام الدعاء وهي لام مكسورة تجزم المستقل ويفتتح بها الكلام، فيقال ليغفر الله للمؤمنين وليعذب الله الكافرين، والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك. الخامس: أن هذه اللام لام التعليل لكن بحسب ظاهر الأمر لا في نفس الحقيقة وتقريره أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال وصارت تلك الأموال سببا لمزيد البغي والكفر، أشبهت هذه الحالة حالة من أعطى المال لأجل الإضلال فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى. السادس: بينا في تفسير قوله تعالى: * (يضل به كثيرا) * في أول سورة البقرة إن الضلال قد جاء في القرآن بمعنى الهلاك يقال: الماء في اللبن أي هلك فيه.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (ربنا ليضلوا عن سبيلك) * معناه: ليهلكون ويموتوا، ونظيره قوله تعالى: * (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) * (التوبة: 55) فهذا جملة ما قيل في هذا الباب.
واعلم أنا قد أجبنا عن هذه الوجوه مرارا كثيرة في هذا الكتاب، ولا بأس بأن نعيد بعضها في هذا المقام فنقول: الذي يدل على أن حصول الإضلال من الله تعالى وجوه: الأول: أن العبد لا يقصد إلا حصول الهداية، فلما لم تحصل الهداية بل حصل الضلال الذي لا يريده، علمنا أن حصوله ليس من العبد بل من الله تعالى.
150

فان قالوا: إنه ظن بهذا الضلال أنه هدى؟ فلا جرم قد أوقعه وأدخله في الوجود فنقول:
فعلى هذا يكون إقدامه على تحصيل هذا الجهل بسبب الجهل السابق، فلو كان حصول ذلك الجهل
السابق بسبب جهل آخر لزم التسلسل وهو محال، فثبت أن هذه الجهالات والضلالات لابد من
انتهائها إلى جهل أول وضلال أول، وذلك لا يمكن أن يكون باحداث العبد وتكوينه لأنه كرهه
وإنما أراد ضده، فوجب أن يكون من الله تعالى. الثاني: أنه تعالى لما خلق الخلق بحيث يحبون
المال والجاه حبا شديدا لا يمكنه إذالة هذا الحب عن نفسه البتة، وكان حصول هذا الحب يوجب
الاعراض عمن يستخدمه ويوجب التكبر عليه وترك الالتفات إلى قوله وذلك يوجب الكفر، فهذه
الأشياء بعضها يتأدى إلى البعض تأديا على سبيل اللزوم وجب أن يكون فاعل هذا الكفر هو الذي
خلق الانسان مجبولا على حب المال والجاء. الثالث: وهو الحجة الكبرى أن القدرة بالنسبة إلى
الضدين على السوية. فلا يترجح أحد الطرفين على الثاني الا لمرجح، وذلك المرجح ليس من العبد
والا لعاد الكلام فيه، فلا بد وأن يكون من الله تعالى، وإذا كان كذلك كانت الهداية والاضلال
من الله تعالى. الرابع: أنه تعالى أعطي فرعون وقومه زينة وأموالا وقوى حب ذلك المال
والجاه في قلوبهم. وأودع في طباعهم نفرة شديدة عن خدمة موسى عليه السلام والانقياد له، لا سيما
وكان فرعون كالمنعم في حقه المربي له والنقرة عن خدمة من هذا شأنه واسعة في القلوب، وكل ذلك
يوجب اعراضهم عن قبول دعوة موسى عليه السلام وإصرارهم على انكار صدقة، فثبت بالدليل
العقلي أن إعطاء الله تعالى فرعون وقومه زينة الدنيا وأموال الدنيا لابد وأن يكون موجبا لضلالهم
فثبت أن ما أشعر به ظاهر اللفظ فقد ثبت صحته بالعقل الصريح فكيف يمكن ترك ظاهر اللفظ في
مثل هذا المقام وكيف يحسن حمل الكلام على الوجوه المتكلفة الضعيفة جدا.
إذا عرفت هذا فنقول:
(أما الوجه الأول) وهو حمل اللام على لام العاقبة فضعيف، لان موسى عليه السلام ما كان
عالما بالعواقب.
فان قالوا: إن الله تعالى أخبره بذلك؟
قلنا: فلما أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون كان صدور الايمان منهم محالا، لان ذلك يستلزم
انقلاب خبر الله كذبا وهو محال والمفضي إلى المحال محال.
(وأما الوجه الثاني) وهو قولهم يحمل قوله (ليضلوا عن سبيلك) على أن المراد لئلا يضلوا عن
سبيلك فنقول: إن هذا التأويل ذكره أبو على الجبائي في تفسيره. وأقول: إنه لما شرع في تفسيره
151

قوله تعالى: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * ثم نقل عن بعض أصحابنا أنه قرأ * (فمن نفسك) * على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنه استبعد هذه القراءة وقال إنها تقتضي تحريف القرآن وتغييره وتفتح باب تأويلات الباطنية وبالغ في إنكار تلك القراءة وهذا الوجه الذي ذكره ههنا شر من ذلك، لأنه قلب النفي إثباتا والإثبات نفيا وتجويزه يفتح باب أن لا يبقى الاعتماد على القرآن لا في نفيه ولا في إثباته وحينئذ يبطل القرآن بالكلية هذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد منه الاستفهام بمعنى الإنكار، فإن تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواطن، فلعله تعالى إنما قال: * (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * على سبيل الإنكار والتعجب وأما بقية الجوابات فلا يخفى ضعفها.
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه قال: * (ربنا اطمس على أموالهم) * وذكرنا معنى الطمس عند قوله تعالى: * (من قبل أن نطمس وجوها) * (النساء: 47) والطمس هو المسخ. قال ابن عباس رضي الله عنهما: بلغنا أن الدراهم والدنانير، صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا، وجعل سكرهم حجارة.
ثم قال: * (واشدد على قلوبهم) * ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان. قال الواحدي: وهذا دليل على أن الله تعالى يفعل ذلك بمن يشاء، ولولا ذلك لما حسن من موسى عليه السلام هذا السؤال.
ثم قال: * (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) * وفيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يكون معطوفا على قوله: * (ليضلوا) * والتقدير: ربنا ليضلوا عن سبيلك
فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وقوله: * (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) * يكون اعتراضا. والثاني: يجوز أن يكون جوابا لقوله: * (واشدد) * والتقدير: اطبع على قلوبهم وقسها حتى لا يؤمنوا، فإنها تستحق ذلك.
ثم قال تعالى: * (قد أجيبت دعوتكما) * وفيه وجهان: الأول: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن موسى كان يدعو وهارون كان يؤمن، فلذلك قال: * (قد أجيبت دعوتكما) * وذلك لأن من يقول عند دعاء الداعي آمين فهو أيضا داع، لأن قوله آمين تأويله استجب فهو سائل كما أن الداعي سائل أيضا. الثاني: لا يبعد أن يكون كل واحد منهما، ذكر هذا الدعاء غاية ما في الباب أن يقال: إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله: * (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا) * إلا أن هذا لا ينافي أن يكون هارون قد ذكر ذلك الدعاء أيضا.
وأما قوله: * (فاستقيما) * يعني فاستقيما على الدعوة والرسالة، والزيادة في إلزام الحجة فقد لبث
152

نوح في قومه ألف سنة إلا قليلا فلا تستعجلا، قال ابن جريج: إن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة.
وأما قوله: * (ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) * ففيه بحثان:
البحث الأول: المعنى: لا تتبعان سبيل الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجابا كان المقصود حاصلا في الحال، فربما أجاب الله تعالى دعاء إنسان في مطلوبه، إلا أنه إنما يوصله إليه في وقته المقدر، والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال، وهذا كما قال لنوح عليه السلام: * (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) * (هود: 46).
واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام كما أن قوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) لا يدل على صدور الشرك منه.
البحث الثاني: قال الزجاج: قوله: * (ولا تتبعان) * موضعه جزم، والتقدير: ولا تتبعا، إلا أن النون الشديدة دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها، وسكون النون التي قبلها فاختير لها الكسرة، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية، وقرأ ابن عامر * (ولا تتبعان) * بتخفيف النون.
قوله تعالى
* (وجاوزنا ببنى إسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إله إلا الذى ءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين * ءالآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية وإن كثيرا من الناس عن ءاياتنا لغافلون) *.
153

اعلم أن تفسير اللفظ في قوله: * (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) * مذكور في سورة الأعراف، والمعنى: أنه تعالى لما أجاب دعاءهما أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ويسر لهم أسبابه، وفرعون كان غافلا عن ذلك، فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج على عقبهم وقوله: * (فأتبعهم) * أي لحقهم يقال: أتبعه حتى لحقه، وقوله: * (بغيا وعدوا) * البغي طلب الاستعلاء بغير حق، والعدو الظلم، روي أن موسى عليه السلام لما خرج مع قومه وصلوا إلى طرف البحر وقرب فرعون مع عسكره منهم، فوقعوا في خوف شديد، لأنهم صاروا بين بحر مغرق وجند مهلك، فأنعم الله عليهم بأن أظهر لهم طريقا في البحر على ما ذكر الله تعالى هذه القصة بتمامها في سائر السور، ثم إن موسى عليه السلام مع أصحابه دخلوا وخرجوا وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبسا، ليطمع فرعون وجوده في التمكن من العبور، فلما دخل مع جمعه أغرقه الله تعالى بأن أوصل أجزاء الماء ببعضها وأزال الفلق، فهو معنى قوله: * (فأتبعهم فرعون وجنوده) * وبين ما كان في قلوبهم من البغي وهي محبة الإفراط في قتلهم وظلمهم، والعدو وهو تجاوز الحد، ثم ذكر تعالى أنه لما أدركه الغرق أظهر كلمة الإخلاص ظنا منه أنه ينجيه من تلك الآفات وههنا سؤالان:
السؤال الأول: أن الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفظ بهذا اللفظ فكيف حكى الله تعالى عنه أنه ذكر ذلك؟
والجواب: من وجهين: الأول: أن مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو كلام النفس لا كلام اللسان فهو إنما ذكر هذا الكلام بالنفس، لا بكلام اللسان، ويمكن أن يستدل بهذه الآية على إثبات كلام النفس لأنه تعالى حكى عنه أنه قال هذا الكلام، وثبت بالدليل أنه ما قاله باللسان، فوجب الاعتراف بثبوت كلام غير كلام اللسان وهو المطلوب. الثاني: أن يكون المراد من الغرق مقدماته.
السؤال الثاني: أنه آمن ثلاث مرات أولها قوله: * (آمنت) * وثانيها قوله: * (لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) * وثالثها قوله: * (وأنا من المسلمين) * فما السبب في عدم القبول والله تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ وحقد حتى يقال: إنه لأجل ذلك الحقد لم يقبل منه هذا الإقرار؟
والجواب: العلماء ذكروا فيه وجوها:
الوجه الأول: أنه إنما آمن عند نزول العذاب، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول، لأن عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء، وفي هذا الحال لا تكون التوبة مقبولة، ولهذا السبب قال تعالى: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * (غافر: 85).
الوجه الثاني: هو أنه إنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة والمحنة الناجزة، فما كان مقصوده من هذه الكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى، والاعتراف بعزة الربوبية
154

وذلة العبودية، وعلى هذا التقدير فما كان ذكر هذه الكلمة مقرونا بالإخلاص، فلهذا السبب ما كان مقبولا.
الوجه الثالث: هو أن ذلك الإقرار كان مبنيا على محض التقليد، ألا ترى أنه قال: * (لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) * فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله، إلا أنه سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلها، فهو أقر بذلك الإله الذي سمع من بني إسرائيل أنهم أقروا بوجوده، فكان هذا محض التقليد، فلهذا السبب لم تصر الكلمة مقبولة منه، ومزيد التحقيق فيه أن فرعون على ما بيناه في سورة * (طه) * كان من الدهرية، وكان من المنكرين لوجود الصانع تعالى، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته، إلا بنو الحجج القطعية، والدلائل اليقينية، وأما بالتقليد المحض فهو لا يفيد، لأنه يكون ضما لظلمة التقليد إلى ظلمة الجهل السابق.
الوجه الرابع: رأيت في بعض الكتب أن بعض أقوام من بني إسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل، فلما قال فرعون * (آمنت أنه لا إله إلا الذين آمنت به بنو إسرائيل) * انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت، فكانت هذه الكلمة في حقه سببا لزيادة الكفر.
الوجه الخامس: أن اليهود كانت قلوبهم مائلة إلى التشبيه والتجسيم ولهذا السبب اشتغلوا بعبادة العجل لظنهم أنه تعالى حل في جسد ذلك العجل ونزل فيه، فلما كان الأمر كذلك وقال فرعون * (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) * فكأنه آمن بالإله الموصوف بالجسمية والحلول والنزول، وكل من اعتقد ذلك كان كافرا فلهذا السبب ما صح إيمان فرعون.
الوجه السادس: لعل الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى، والإقرار بنبوة موسى عليه السلام. فههنا لما أقر فرعون بالوحدانية ولم يقر بالنبوة لا جرم لم يصح إيمانه. ونظيره أن الواحد من الكفار لو قال ألف مرة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمان إلا إذا قال معه وأشهد أن محمدا رسول الله، فكذا ههنا.
الوجه السابع: روى صاحب " الكشاف " أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا فيها ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته، فكفر نعمته وجحد حقه، وادعى السيادة دونه، فكتب فرعون فيها يقول أبو العباس الوليد بن مصعب جزاء العبد الخارج على سيده الكافر بنعمته أن يغرق في البحر، ثم إن فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه.
أما قوله تعالى: * (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: من القائل له * (آلآن وقد عصيت قبل) *.
155

الجواب: الأخبار دالة على أن قائل هذا القول هو جبريل، وإنما ذكر قوله: * (وكنت من المفسدين) * في مقابلة قوله: * (وأنا من المسلمين) * ومن الناس من قال: إن قائل هذا القول هو الله تعالى، لأنه ذكر بعده * (فاليوم ننجيك ببدنك) * إلى قوله: * (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) * وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى.
السؤال الثاني: ظاهر اللفظ يدل على أنه إنما لم تقبل توبته للمعصية المتقدمة والفساد السابق، وصحة هذا التعليل لا تمنع من قبول التوبة. والجواب: مذهب أصحابنا أن قبول التوبة غير واجب عقلا، وأحد دلائلهم على صحة ذلك هذه الآية. وأيضا فالتعليل ما وقع بمجرد المعصية السابقة، بل بتلك المعصية مع كونه من المفسدين.
السؤال الثالث: هل يصح أن جبريل عليه السلام أخذ يملأ فمه من الطين لئلا يتوب غضبا عليه.
والجواب: الأقرب أنه لا يصح، لأن في تلك الحالة إما أن يقال التكليف كان ثابتا أو ما كان ثابتا، فإن كان ثابتا لم يجز على جبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة، بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة، لقوله تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * (المائدة: 2) وأيضا فلو منعه بما ذكروه لكانت التوبة ممكنة، لأن الأخرس قد يتوب بأن يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح، وحينئذ لا يبقى لما فعله جبريل عليه السلام فائدة، وأيضا لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرضا بالكفر كفر، وأيضا فكيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهارون عليهما السلام: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) ثم يأمر جبريل عليه السلام بأن يمنعه من الإيمان، ولو قيل: إن جبريل عليه السلام إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله تعالى، فهذا يبطله قول جبريل * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * (مريم: 64) وقوله تعالى في صفتهم: * (وهم من خشيته مشفقون) * (الأنبياء: 28) وقوله: * (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * (الأنبياء: 27) وأما إن قيل: إن التكليف كان زائلا عن فرعون في ذلك الوقت، فحينئذ لا يبقى لهذا الفعل الذي نسب جبريل إليه فائدة أصلا.
ثم قال تعالى: * (فاليوم ننجيك ببدنك) * وفيه وجوه: الأول: * (ننجيك ببدنك) * أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع. الثاني: نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر، ولكن بعد أن تغرق. وقوله: * (ببدنك) * في موضع الحال، أي في الحال التي أنت فيه حينئذ لا روح فيك. الثالث: أن هذا وعد له بالنجاة على سبيل التهكم، كما في قوله: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21) كأنه قيل له ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك، ومثل هذا الكلام قد
156

يذكر على سبيل الاستهزاء كما يقال: نعتقك ولكن بعد الموت، ونخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت. الرابع: قرأ بعضهم * (ننجيك) * بالحاء المهملة، أي نلقيك بناحية مما يلي البحر، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب من جوانب البحر. قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور.
وأما قوله: * (ببدنك) * ففيه وجوه: الأول: ما ذكرنا أنه في موضع الحال، أي في الحال التي كنت بدنا محضا من غير روح. الثاني: المراد ننجيك ببدنك كاملا سويا لم تتغير. الثالث: * (ننجيك ببدنك) * أي نخرجك من البحر عريانا من غير لباس. الرابع: * (ننجيك ببدنك) * أي بدرعك، قال الليث: البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين، فقوله: * (ببدنك) * أي بدرعك، وهذا منقول عن ابن عباس قال: كان عليه درع من ذهب يعرف بها، فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف. أقول: إن صح هذا فقد كان ذلك معجزة لموسى عليه السلام.
وأما قوله: * (لتكون لمن خلفك آية) * ففيه وجوه: الأول: أن قوما ممن اعتقدوا فيه الإلهية لما لم يشاهدوا غرقه كذبوا بذلك وزعموا أن مثله لا يموت، فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى شاهدوه وزالت الشبهة عن قلوبهم. وقيل كان مطرحه على ممر بني إسرائيل. الثاني: لا يبعد أنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله * (أنا ربكم الأعلى) * (النازعات: 24) ليكون ذلك زجرا للخلق عن مثل طريقته، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة ثم آل أمره إلى ما يرون. الثالث: قرأ بعضهم * (لمن خلقك) * بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته. الرابع: أنه تعالى لما أغرقه مع جميع قومه ثم إنه تعالى ما أخرج أحدا منهم من قعر البحر، بل خصه بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة العجيبة دالا على كمال قدرة الله تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة.
وأما قوله: * (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) * فالأظهر أنه تعالى لما ذكر قصة موسى وفرعون وذكر حال عاقبة فرعون وختم ذلك بهذا الكلام وخاطب به محمدا عليه الصلاة والسلام فيكون ذلك زاجرا لأمته عن الإعراض عن الدلائل، وباعثا لهم على التأمل فيها والاعتبار بها، فإن المقصود من ذكر هذه القصص حصول الاعتبار، كما قال تعالى: * (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) * (يوسف: 111).
157

قوله تعالى
* (ولقد بوأنا بنى إسراءيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جآءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده، ذكر أيضا في هذه الآية ما وقع عليه الختم في أمر بني إسرائيل، وههنا بحثان:
البحث الأول: أن قوله: * (بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) * أي أسكناهم مكان صدق أي مكانا محمودا، وقوله: * (مبوأ صدق) * فيه وجهان: الأول: يجوز أن يكون مبوأ صدق مصدرا، أي بوأناهم تبوأ صدق. الثاني: أن يكون المعنى منزلا صالحا مرضيا، وإنما وصف المبوأ بكونه صدقا، لأن عادة العرب أنها إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق تقول: رجل صدق، وقدم صدق. قال تعالى: * (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) * (الإسراء: 80) والسبب فيه أن ذلك الشيء إذا كان كاملا في وقت صالحا للغرض المطلوب منه، فكل ما يظن فيه من الخبر، فإنه لا بد وأن يصدق ذلك الظن.
البحث الثاني: اختلفوا في أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية أهم اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام أم الذين كانوا في زمن محمد عليه السلام.
أما القول الأول: فقد قال به قوم ودليلهم أنه تعالى لما ذكر هذه الآية عقيب قصة موسى عليه السلام كان حمل هذه الآية على أحوالهم أولى، وعلى هذا التقدير: كان المراد بقوله: * (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) * الشام ومصر، وتلك البلاد فإنها بلاد كثيرة الخصب. قال تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) * (الإسراء: 1) والمراد من قوله: * (ورزقناهم من الطيبات) * تلك المنافع، وأيضا المراد منها أنه تعالى أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق والصامت والحرث والنسل، كما قال: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) * (الأعراف: 137).
ثم قال تعالى: * (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم) * والمراد أن قوم موسى عليه السلام بقوا على ملة واحدة ومقالة واحدة من غير اختلاف حتى قرؤا التوراة، فحينئذ تنبهوا للمسائل والمطالب ووقع
158

الاختلاف بينهم. ثم بين تعالى أن هذا النوع من الاختلاف لا بد وأن يبقى في دار الدنيا، وأنه تعالى يقضي بينهم يوم القيامة.
وأما القول الثاني: وهو أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية اليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام فهذا قال به قوم عظيم من المفسرين. قال ابن عباس: وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من الطيبات، والمراد ما في تلك البلاد من الرطب والتمر التي ليس مثلها طيبا في البلاد، ثم إنهم بقوا على دينهم، ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم العلم، والمراد من العلم القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما سماه علما، لأنه سبب العلم وتسمية السبب باسم المسبب مجاز مشهور. وفي كون القرآن سببا لحدوث الاختلاف وجهان: الأول: أن اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام ويفتخرون به على سائر الناس، فلما بعثه الله تعالى كذبوه حسدا وبغيا وإيثارا لبقاء الرياسة وآمن به طائفة منهم، فبهذا الطريق صار نزول القرآن سببا لحدوث الاختلاف فيهم. الثاني: أن يقال: إن هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفارا محضا بالكلية وبقوا على هذه الحالة حتى جاءهم العلم، فعند ذلك اختلفوا فآمن قوم وبقي أقوام آخرون على كفرهم.
وأما قوله تعالى: * (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * فالمراد منه أن هذا النوع من الاختلاف لا حيلة في إزالته في دار الدنيا، وأنه تعالى في الآخرة يقضي بينهم، فيتميز المحق من المبطل والصديق من الزنديق.
قوله تعالى
* (فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد
159

جآءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين * إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جآءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الاليم) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل اختلافهم عند ما جاءهم العلم أورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ما يقوي قلبه في صحة القرآن والنبوة، فقال تعالى:
* (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي الشك في وضع اللغة، ضم بعض الشيء إلى بعض، يقال: شك الجواهر في العقد إذا ضم بعضها إلى بعض. ويقال شككت الصيد إذا رميته فضممت يده أو رجله إلى رجله والشكائك من الهوادج ما شك بعضها ببعض والشكاك البيوت المصطفة والشكائك الأدعياء، لأنهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم، أي يضمون، وشك الرجل في السلاح، إذا دخل فيه وضمه إلى نفسه وألزمه إياها، فإذا قالوا: شك فلان في الأمور أرادوا أنه وقف نفسه بين شيئين، فيجوز هذا، ويجوز هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر خلافه.
المسألة الثانية: اختلف المفسرون: في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو؟ فقيل النبي عليه الصلاة والسلام. وقيل غيره، أما من قال بالأول: فاختلفوا على وجوه.
الوجه الأول: أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر، والمراد غيره كقوله تعالى: * (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) * (الأحزاب: 1) وكقوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) وكقوله: * (يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس) * (المائدة: 116) ومن الأمثلة المشهورة: إياك أعني واسمعي يا جاره.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه: الأول: قوله تعالى في آخر السورة * (يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني) * (يونس: 104) فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني: أن الرسول لو كان شاكا في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية. والثالث: أن بتقدير أن يكون شاكا في نبوة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار، وإن حصل فيهم من كان مؤمنا إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل، فالكل مصحف محرف، فثبت أن الحق هو أن الخطاب، وإن كان في الظاهر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد هو الأمة، ومثل هذا معتاد، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير،
160

وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص، فإنه لا يوجه خطابه عليهم، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميرا عليهم، ليكون ذلك أقوى تأثيرا في قلوبهم.
الوجه الثاني: أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام، فإنه يصرح ويقول: " يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة " ونظيره قوله تعالى للملائكة: * (أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * (سبأ: 40) أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا: * (سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) * (سبأ: 41) وكما قال لعيسى عليه السلام: * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * (المائدة: 116) والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا.
الوجه الثالث: هو أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان من البشر، وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس، ونظيره قوله تعالى: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك) * (هود: 12) وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله: * (فإن كنت في شك) * فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها البتة بأن الشرط وقع أو لم يقع. ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط، والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين، فهو كلام حق، لأن معناه أن كون الخمسة زوجا يستلزم كونها منقسمة بمتساويين، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية، تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع، فليس في الآية دلالة عليه، والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر، ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة.
والوجه الرابع: في تقرير هذا المعنى أن تقول: المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات، وذلك الاستحياء صار مانعا لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى: * (فإن كنت في شك) * من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل، يعني أولى الناس بأن لا يشك
161

في نبوته هو نفسه، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلا على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب. ولا يحصل بسببه نقصان، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات.
الوجه الخامس: أن يكون التقدير أنك لست شاكا البتة. ولو كنت شاكا لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعا، لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا. ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة.
الوجه السادس: قال الزجاج: إن الله خاطب الرسول في قوله: * (فإن كنت في شك) * وهو شامل للخلق وهو كقوله: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * (الطلاق: 1) قال: وهذا أحسن الأقاويل، قال القاضي: هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلا تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال، سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن
جاز أن يراد هو مع غيره، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر، ثم قال: ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل.
الوجه السابع: هو أن لفظ * (إن) * في قوله: * (إن كنت في شك) * للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقينا.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقا ثلاثة، المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع، كما في قوله: * (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك) * (الانفطار: 6، 7) و * (يا أيها الإنسان إنك كادح) * (الانشقاق: 6) وقوله: * (فإذا مس الإنسان ضر) * (الزمر: 49) ولم يرد في جميع هذه الآيات إنسانا بعينه، بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال: * (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين) *.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن المسؤول منه في قوله: * (فاسأل الذين يقرؤن الكتاب) * من هم؟ فقال المحققون هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وعبد الله بن صوريا، وتميم
162

الداري، وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم، ومنهم من قال: الكل سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار، لأنهم إذا بلغوا عدد التواتر ثم قرؤا آية من التوراة والإنجيل، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرض.
فإن قيل: إذا كان مذهبكم أن هذه الكتب قد دخلها التحريف والتغيير، فكيف يمكن التعويل عليها.
قلنا: إنهم إنما حرفوها بسبب إخفاء الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته كان ذلك من أقوى الدلائل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، لأنها لما بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دل ذلك على أنها كانت في غاية الظهور، وأما أن المقصود من ذلك السؤال معرفة أي الأشياء، ففيه قولان: الأول: أنه القرآن ومعرفة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه رجع ذلك إلى قوله تعالى: * (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم) * (يونس: 93) والأول أولى، لأنه هو الأهم والحاجة إلى معرفته أتم. واعلم أنه تعالى لما بين هذا الطريق قال بعده: * (لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله) * أي فأثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك، وانتفاء التكذيب بآيات الله، ويجوز أن يكون ذلك على طريق التهييج وإظهار التشدد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام عند نزوله " لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق ".
ثم قال: * (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكونن من الخاسرين) *.
واعلم أن فرق المكلفين ثلاثة، إما أن يكون من المصدقين بالرسول، أو من المتوقفين في صدقه، أو من المكذبين، ولا شك أن أمر المتوقف أسهل من أمر المكذب، لا جرم قد ذكر المتوقف بقوله: * (ولا تكونن من الممترين) * ثم أتبعه بذكر المكذب، وبين أنه من الخاسرين، ثم إنه تعالى لما فصل هذا التفصيل، بين أن له عبادا قضى عليهم بالشقاء فلا يتغيرون وعبادا قضى لهم بالكرامة، فلا يتغيرون، فقال: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر: كلمات على الجمع، وقرأ الباقون: كلمة على لفظ الواحد، وأقول إنها كلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة واحدة بحسب الواحدة الجنسية.
المسألة الثانية: المراد من هذه الكلمة حكم الله بذلك وإخباره عنه، وخلقه في العبد مجموع القدرة والداعية، الذي هو موجب لحصول ذلك الأثر، أما الحكم والأخبار والعلم فظاهر، وأما مجموع
163

القدرة والداعي فظاهر أيضا، لأن القدرة لما كانت صالحة للطرفين لم يترجح أحد الجانبين على الآخر إلا لمرجح، وذلك المرجح من الله تعالى قطعا للتسلسل، وعند حصول هذا المجموع يجب الفعل، وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب وهو حق وصدق ولا محيص عنه.
ثم قال تعالى: * (ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) * والمراد أنهم لا يؤمنون البتة، ولو جاءتهم الدلائل التي لا حد لها ولا حصر، وذلك لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى فإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل.
القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، قصة يونس عليه السلام
قوله تعالى
* (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس لمآ ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيوة الدنيا ومتعناهم إلى حين) *.
اعلم أنه تعالى لما بين من قبل * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) * (يونس: 96، 97) أتبعه بهذه الآية، لأنها دالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم وانتفعوا بذلك الإيمان، وذلك يدل على أن الكفار فريقان: منهم من حكم عليه بخاتمة الكفر، ومنهم من حكم عليه بخاتمة الإيمان وكل ما قضى الله به فهو واقع. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كلمة * (لولا) * في هذه الآية طريقان: الطريق الأول: أن معناه النفي، روى الواحدي في " البسيط " قال: قال أبو مالك صاحب ابن عباس كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر لولا، فمعناه هلا، إلا حرفين، * (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها) * معناه فما كانت قرية آمنت، فنفعها إيمانها، وكذلك * (
فلولا كان من القرون من قبلكم) * (هود: 116) معناه، فما كان من القرون، فعلى هذا تقدير الآية، فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس. وانتصب قوله: * (إلا قوم يونس) * على أنه استثناء منقطع عن الأول، لأن أول الكلام جرى على القرية، وإن كان المراد أهلها ووقع استثناء القول من القرية، فكان كقوله:
164

وما بالربع من أحد * ألا أواري
وقرئ أيضا بالرفع على البدل.
الطريق الثاني: أن * (لولا) * معناه هلا، والمعنى هلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر وأخلصت في الإيمان قبل معاينة العذاب إلا قوم يونس. وظاهر اللفظ يقتضي استثناء قوم يونس من القرى، إلا أن المعنى استثناء قوم يونس من أهل القرى، وهو استثناء منقطع بمعنى ولكن قوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا.
المسألة الثانية: روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا، فلما فقدوه خافوا نزول العقاب، فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة، وكان يونس قال لهم إن أجلكم أربعون ليلة. فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون ليلة ظهر في السماء غيم أسود شديد السواد، فظهر منه دخان شديد وهبط ذلك الدخان حتى وقع في المدينة وسود سطوحهم فخرجوا إلى الصحراء، وفرقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها فحن بعضها إلى بعض فعلت الأصوات، وكثرت التضرعات وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة وعن ابن مسعود بلغ من توبتهم أن يردوا المظالم حتى أن الرجل كان يقلع الحجر بعد أن وضع عليه بناء أساسه فيرده إلى مالكه، وقيل خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم قولوا يا حي حين لاحي. ويا حي يا محيي الموتى. ويا حي لا إله إلا أنت، فقالوا فكشف الله العذاب عنهم، وعن الفضل بن عباس أنهم قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله.
المسألة الثالثة: إن قال قائل إنه تعالى حكى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته وحكى عن قوم يونس أنهم تابوا وقبل توبتهم فما الفرق؟
والجواب: أن فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب، وأما قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك فإنهم لما ظهرت لهم أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن شاهدوا فظهر الفرق.
قوله تعالى
* (ولو شآء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا
165

مؤمنين * وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) *.
اعلم أن هذه السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان حكاية شبهات الكفار في إنكار النبوة مع الجواب عنها، وكانت إحدى شبهاتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهددهم بنزول العذاب مع الكافرين، وبعد اتباعه إن الله ينصرهم ويعلي شأنهم ويقوي جانبهم، ثم إن الكفار ما رأوا ذلك فجعلوا ذلك شبهة في الطعن في نبوته، وكانوا يبالغون في استعجال ذلك العذاب على سبيل السخرية، ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد، ثم ضرب لهذا أمثلة وهي واقعة نوح وواقعة موسى عليهما السلام مع فرعون وامتدت هذه البيانات إلى هذه المقامات، ثم في هذه الآية بين أن جد الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفع ومبالغته في تقرير الدلائل، وفي الجواب عن الشبهات لا تفيد، لأن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته، فإذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمان، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن جميع الكائنات بمشيئة الله تعالى، فقالوا كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله: * (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم) * يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل، أجاب الجبائي والقاضي وغيرهما بأن المراد مشيئة الإلجاء، أي لو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه ولصح ذلك منه، ولكنه ما فعل ذلك، لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة، ثم قال الجبائي: ومعنى إلجاء الله تعالى إياهم إلى ذلك، أن يعرفهم اضطرارا أنهم لو حاولوا تركه، حال الله بينهم وبين ذلك وعند هذا لا بد وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه كما أن من علم منا أنه إن حاول قتل ملك فإنه يمنعه منه قهرا لم يكن تركه لذلك الفعل سببا لاستحقاق المدح والثواب فكذا ههنا.
واعلم أن هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه: الأول: أن الكافر كان قادرا على الكفر فهل كان قادرا على الإيمان، أو ما كان قادرا عليه؟ فإن قدر على الكفر ولم يقدر على الإيمان فحينئذ تكون القدرة على الكفر مستلزمة للكفر، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم
166

أن يقال إنه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر فوجب أن يقال إنه أراد منه الكفر وأما إن كانت القدرة صالحة للضدين كما هو مذهب القوم، فرجحان أحد الطرفين على الآخر إن لم يتوقف على المرجح فقد حصل الرجحان لا لمرجح وهذا باطل، وإن توقف على مرجح فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من الله فإن كان من العبد عاد التقسيم فيه ولزم التسلسل وهو محال، وإن كان من الله تعالى فحينئذ يكون مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية موجبا لذلك الكفر فإذا كان خالق القدرة والداعية هو الله تعالى فحينئذ عاد الإلزام. الثاني: أن قوله: * (ولو شاء ربك) * لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يطلب أن يحصل لهم إيمان لا يفيدهم في الآخرة، فبين تعالى أنه لا قدرة للرسول على تحصيل هذا الإيمان، ثم قال: * (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا) * فوجب أن يكون المراد من الإيمان المذكور في هذه الآية هو هذا الإيمان النافع حتى يكون الكلام منتظما، فأما حمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء فإنه لا يليق بهذا الموضع. الثالث:
المراد بهذا الإلجاء، إما أن يكون هو أن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها، ثم يأتي بالإيمان عندها. وإما أن يكون المراد خلق الإيمان فيهم. والأول باطل، لأنه تعالى بين فيما قبل هذه الآية أن إنزال هذه الآيات لا يفيد وهو قوله: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) * (يونس: 96، 97) وقال أيضا: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) * (الأنعام: 111) وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان، بل كان ذلك عبارة عن خلق الإيمان فيهم، ثم يقال لكنه ما خلق الإيمان فيهم، فدل على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم وهذا عين مذهبنا.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال: * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) * والمعنى أنه لا قدرة لك على التصرف في أحد، والمقصود منه بيان أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا على صحة قولهم أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع بقوله: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) * قالوا وجه الاستدلال به أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان، ثم قالوا: والذي يدل عليه من جهة العقل وجوه: الأول: أن معرفة الله تعالى والاشتغال بشكره والثناء عليه لا يدل العقل على حصول نفع فيه، فوجب أن لا يجب ذلك بحسب العقل، بيان الأول أن ذلك النفع إما أن يكون عائدا إلى المشكور أو إلى الشاكر والأول باطل لأن
167

في الشاهد المشكور ينتفع بالشكر فيسره الشكر ويسوءه الكفران، فلا جرم كان الشكر حسنا والكفران قبيحا، أما الله سبحانه فإنه لا يسره الشكر ولا يسوءه الكفران، فلا ينتفع بهذا الشكر أصلا. والثاني: أيضا باطل لأن الشاكر يتعب في الحال بذلك الشكر ويبذل الخدمة مع أن المشكور لا ينتفع به البتة ولا يمكن أن يقال إن ذلك الشكر علة الثواب، لأن الاستحقاق على الله تعالى محال فإن الاستحقاق على الغير إنما يعقل إذا كان ذلك الغير بحيث لو لم يعط لأوجب امتناعه من إعطاء ذلك الحق حصول نقصان في حقه، ولما كان الحق سبحانه منزها عن النقصان والزيادة لم يعقل ذلك في حقه، فثبت أن الاشتغال بالإيمان وبالشكر، لا يفيد نفعا بحسب العقل المحض وما كان كذلك امتنع أن يكون العقل موجبا له، فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) * قال القاضي: المراد أن الإيمان لا يصدر عنه إلا بعلم الله أو بتكليفه أو بإقداره عليه.
وجوابنا: أن حمل الإذن على ما ذكرتم ترك للظاهر وذلك لا يجوز، لا سيما وقد بينا أن الدليل القاطع العقلي يقوي قولنا.
المسألة الثالثة: قرأ أبو بكر عن عاصم * (ونجعل) * بالنون وقرأ الباقون بالياء كناية عن اسم الله تعالى.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى: * (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) * وتقريره أن الرجس قد يراد به العمل القبيح قال تعالى: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (الأحزاب: 33) والمراد من الرجس ههنا العمل القبيح، سواء كان كفرا أو معصية، وبالتطهير نقل العبد من رجس الكفر والمعصية إلى طهارة الإيمان والطاعة، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه، ذكر بعده أن الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه. والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر، فثبت دلالة هذه الآية على أن الكفر والإيمان من الله تعالى.
أجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال: الرجس، يحتمل وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون المراد منه العذاب، فقوله: * (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) * أي يلحق العذاب بهم كما قال: * (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) * (الفتح: 6) والثاني: أنه تعالى يحكم عليهم بأنهم رجس كما قال: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) والمعنى أن الطهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم.
والجواب: أنا قد بينا بالدليل العقلي أن الجهل لا يمكن أن يكون فعلا للعبد لأنه لا يريده ولا يقصد
168

إلى تكوينه، وإنما يريد ضده، وإنما قصد إلى تحصيل ضده، فلو كان به لما حصل إلا ما قصده وأوردنا السؤالات على هذه الحجة وأجبنا عنها فيما سلف من هذا الكتاب. وأما حمل الرجس على العذاب، فهو باطل، لأن الرجس عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره، فحمل هذا اللفظ على جهلهم وكفرهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقا صدقا صوابا، وأما حمل لفظ الرجس على حكم الله برجاستهم، فهو في غاية البعد، لأن حكم الله تعالى بذلك صفته، فكيف يجوز أن يقال إن صفة الله رجس، فثبت أن الحجة التي ذكرناها ظاهرة.
قوله تعالى
* (قل انظروا ماذا فى السماوات والارض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة * (قل انظروا) * بكسر اللام لالتقاء الساكنين والأصل فيه الكسر، والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللام.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات السالفة أن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته، أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض. فقال: * (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) *.
واعلم أن هذا يدل على مطلوبين: الأول: أنه لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بالتدبر في الدلائل كما قال عليه الصلاة والسلام: " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في
الخلق " والثاني: وهو أن الدلائل إما أن تكون من عالم السماوات أو من عالم الأرض، أما الدلائل السماوية، فهي حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها وما فيها من الشمس والقمر والكواكب، وما يختص به كل واحد منها من المنافع والفوائد، وأما الدلائل الأرضية، فهي النظر في أحوال العناصر العلوية، وفي أحوال المعادن وأحوال النبات وأحوال الإنسان خاصة، ثم ينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها. ولو أن الإنسان أخذ يتفكر في كيفية حكمة الله سبحانه في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقله قبل أن يصل إلى أقل مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد. ولا شك أن الله سبحانه أكثر من ذكر هذه الدلائل في القرآن المجيد، فلهذا السبب ذكر قوله: * (قل انظروا ماذا في السماوات
169

والأرض) * ولم يذكر التفصيل، فكأنه تعالى نبه على القاعدة الكلية، حتى أن العاقل يتنبه لأقسامها وحينئذ يشرع في تفصيل حكمة كل واحد منها بقدر القوة العقلية والبشرية، ثم إنه تعالى لما أمر بهذا التفكر والتأمل بين بعد ذلك أن هذا التفكر والتدبر في هذه الآيات لا ينفع في حق من حكم الله تعالى عليه في الأزل بالشقاء والضلال، فقال: * (وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال النحويون: * (ما) * في هذا الموضع تحتمل وجهين: الأول: أن تكون نفيا بمعنى أن هذه الآيات والنذر لا تفيد الفائدة في حق من حكم الله عليه بأنه لا يؤمن، كقولك: ما يغني عنك المال إذا لم تنفق. والثاني: أن تكون استفهاما كقولك: أي شيء يغني عنهم، وهو استفهام بمعنى الإنكار.
المسألة الثانية: الآيات هي الدلائل، والنذر الرسل المنذرون أو الإنذارات.
المسألة الثالثة: قرىء * (وما يغني) * بالياء من تحت.
قوله تعالى
* (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إنى معكم من المنتظرين * ثم ننجى رسلنا والذين ءامنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) *.
واعلم أن المعنى هل ينتظرون إلا أياما مثل أيام الأمم الماضية، والمراد أن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كانوا يتوعدون كفار زمانهم بمجيء أيام مشتملة على أنواع العذاب، وهم كانوا يكذبون بها ويستعجلونها على سبيل السخرية، وكذلك الكفار الذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا كانوا يفعلون. ثم إنه تعالى أمره بأن يقول لهم: * (فانتظروا إني معكم من المنتظرين) * ثم إنه تعالى قال: * (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الكسائي في رواية نصير * (ننجي) * خفيفة، وقرأ الباقون: مشددة وهما لغتان وكذلك في قوله: * (ننجي المؤمنين) *.
170

المسألة الثانية: ثم حرف عطف، وتقدير الكلام كانت عادتنا فيما مضى أن نهلكهم سريعا ثم ننجي رسلنا.
المسألة الثالثة: لما أمر الرسول في الآية الأولى أن يوافق الكفار في انتظار العذاب ذكر التفصيل فقال: العذاب لا ينزل إلا على الكفار وأما الرسول وأتباعه فهم أهل النجاة.
ثم قال: * (كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": أي مثل ذلك الإنجاء ننصر المؤمنين ونهلك المشركين وحقا علينا اعتراض، يعني حق ذلك علينا حقا.
المسألة الثانية: قال القاضي قوله: * (حقا علينا) * المراد به الوجوب، لأن تخليص الرسول والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب ولولاه لما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشاقة وإذا ثبت وجوبه لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدم.
والجواب: أنا نقول إنه حق بسبب الوعد والحكم، ولا نقول إنه حق بسبب الاستحقاق، لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئا.
قوله تعالى
* (قل ياأيها الناس إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذى يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين * وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين * ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) *.
171

واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على أقصى الغايات وأبلغ النهايات، أمر رسوله بإظهار دينه وبإظهار المباينة عن المشركين، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره وتخرج عبادة الله من طريقة السر إلى الإظهار فقال: * (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني) * واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن هؤلاء الكفار ما كانوا يعرفون دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الخبر إنهم كانوا يقولون فيه قد صبأ وهو صابئ فأمر الله تعالى أن يبين لهم أنه على دين إبراهيم حنيفا مسلما لقوله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا) * (النحل: 120) ولقوله: * (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا) * (الأنعام: 79) ولقوله: * (لا أعبد ما تعبدون) * (الكافرون: 2) والمعنى: أنكم إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل ثم ذكر فيه أمورا.
فالقيد الأول: قوله: * (فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله) * وإنما وجب تقديم هذا النفي لما ذكرنا أن إزالة النقوش الفاسدة عن اللوح لا بد وأن تكون مقدمة على إثبات النقوش الصحيحة في ذلك اللوح، وإنما وجب هذا النفي لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا بمن حصلت له غاية الجلال والإكرام، وأما الأوثان فإنها أحجار والإنسان أشرف حالا منها، وكيف يليق بالأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس.
القيد الثاني: قوله: * (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم) * والمقصود أنه لما بين أنه يجب ترك عبادة غير الله، بين أنه يجب الاشتغال بعبادة الله.
فإن قيل: ما الحكمة في ذكر المعبود الحق في هذا المقام بهذه الصفة وهي قوله: * (الذي يتوفاكم) *.
قلنا فيه وجوه الأول: يحتمل أن يكون المراد أني أعبد الله الذي خلقكم أولا ثم يتوفاكم ثانيا ثم يعيدكم ثالثا، وهذه المراتب الثلاثة قد قررناها في القرآن مرارا وأطوارا فههنا اكتفى بذكر التوفي منها لكونه منبها على البواقي. الثاني: أن الموت أشد الأشياء مهابة، فنخص هذا الوصف بالذكر في هذا المقام، ليكون أقوى في الزجر والردع. الثالث: أنهم لما استعجلوا نزول العذاب قال تعالى: * (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين * ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا) * (يونس: 102، 103) فهذه الآية تدل على أنه تعالى يهلك أولئك الكفار ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم فلما كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا: * (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم) * وهو إشارة إلى ما قرره وبينه في تلك الآية كأنه يقول: أعبد ذلك الذي وعدني بإهلاكهم وبإبقائي.
والقيد الثالث: من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله: * (وأمرت أن أكون من المؤمنين) *
172

واعلم أنه لما ذكر العبادة وهي من جنس أعمال الجوارح انتقل منها إلى الإيمان والمعرفة، وهذا يدل على أنه ما لم يصر الظاهر مزينا بالأعمال الصالحة، فإنه لا يحصل في القلب نور الإيمان والمعرفة.
والقيد الرابع: قوله: * (وأن أقم وجهك للدين حنيفا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الواو في قوله: * (وأن أقم وجهك) * حرف عطف وفي المعطوف عليه وجهان: الأول: أن قوله: * (وأمرت أن أكون) * قائم مقام قوله وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه * (وأن أقم وجهك) * الثاني: أن قوله: * (وأن أقم وجهك) * قائم مقام قوله: * (وأمرت) * بإقامة الوجه، فصار التقدير وأمرت بأن أكون من المؤمنين وبإقامة الوجه للدين حنيفا.
المسألة الثانية: إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكلية إلى طلب الدين، لأن من يريد أن ينظر إلى شيء نظرا بالاستقصاء، فإنه يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يصرفه عنه لا بالقليل ولا بالكثير، لأنه لو صرفه عنه، ولو بالقليل فقد بطلت تلك المقابلة، وإذا بطلت تلك المقابلة، فقد اختل الأبصار، فلهذا السبب حسن جعل إقامة الوجه للدين كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين، وقوله: * (حنيفا) * أي مائلا إليه ميلا كليا معرضا عما سواه إعراضا كليا، وحاصل هذا الكلام هو الإخلاص التام، وترك الالتفات إلى غيره، فقوله أولا: * (وأمرت أن أكون من المؤمنين) * إشارة إلى تحصيل أصل الإيمان، وقوله: * (وأن أقم وجهك للدين حنيفا) * إشارة إلى الاستغراق في نور الإيمان والإعراض بالكلية عما سواه.
والقيد الخامس: قوله: * (ولا تكونن من المشركين) *.
واعلم أنه لا يمكن أن يكون هذا نهيا عن عبادة الأوثان، لأن ذلك صار مذكورا بقوله تعالى في هذه الآية: * (فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله) * فوجب حمل هذا الكلام على فائدة زائدة وهو أن من عرف مولاه، فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركا، وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي.
والقيد السادس: قوله تعالى: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) * والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق، وإذا كان كذلك فما سوى الحق فلا وجود له إلا إيجاد الحق، وعلى هذا التقدير فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا الحق، فكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك، فلا حكم إلا لله ولا رجوع في الدارين إلا إلى الله. ثم قال في آخر الآية: * (فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) * يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الظالمين، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه، فإذا كان ما سوى
173

الحق معزولا عن التصرف، كانت إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعا للشيء في غير موضعه فيكون ظلما.
فإن قيل: فطلب الشبع من الأكل والري من الشرب هل يقدح في ذلك الإخلاص؟
قلنا: لا لأن وجود الخبز وصفاته كلها بإيجاد الله وتكوينه، وطلب الانتفاع بشيء خلقه الله للانتفاع به لا يكون منافيا للرجوع بالكلية إلى الله، إلا أن شرط هذا الإخلاص أن لا يقع بصر عقله على شيء من هذه الموجودات إلا ويشاهد بعين عقله أنها معدومة بذواتها وموجودة بإيجاد الحق وهالكة بأنفسها وباقية بإبقاء الحق، فحينئذ يرى ما سوى الحق عدما محضا بحسب أنفسها ويرى نور وجوده وفيض إحسانه عاليا علي الكل.
قوله تعالى
* (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشآء من عباده وهو الغفور الرحيم) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه سبحانه وتعالى قرر في آخر هذه السورة أن جميع الممكنات مستندة إليه وجميع الكائنات محتاجة إليه، والعقول والهة فيه، والرحمة والجود والوجود فائض منه.
واعلم أن الشيء إما أن يكون ضارا وإما أن يكون نافعا، وإما أن يكون لا ضارا ولا نافعا، وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير، ولما كان الضر أمرا وجوديا لا جرم قال فيه: * (وإن يمسسك الله بضر) * ولما كان الخير قد يكون وجوديا وقد يكون عدميا، لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال: * (وإن يردك بخير) * والآية دالة على أن الضر والخير واقعان بقدرة الله تعالى وبقضائه فيدخل فيه الكفر والإيمان والطاعة والعصيان والسرور والآفات والخيرات والآلام واللذات والراحات والجراحات، فبين سبحانه وتعالى أنه إن قضى لأحد شرا فلا كاشف له إلا هو، وإن قضى لأحد خيرا فلا راد لفضله البتة ثم في الآية دقيقة أخرى، وهي أنه تعالى رجح جانب الخير على جانب الشر من ثلاثة أوجه: الأول: أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو، وذلك يدل على أنه تعالى يزيل المضار، لأن
الاستثناء من النفي إثبات، ولما ذكر الخير لم
174

يقل بأنه يدفعه بل قال إنه لا راد لفضله، وذلك يدل على أن الخير مطلوب بالذات، وأن الشر مطلوب بالعرض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم رواية عن رب العزة أنه قال: " سبقت رحمتي غضبي " الثاني: أنه تعالى قال في صفة الخير: * (يصيب به من يشاء من عباده) * وذلك يدل على أن جانب الخير والرحمة أقوى وأغلب. والثالث: أنه قال: * (وهو الغفور الرحيم) * وهذا أيضا يدل على قوة جانب الرحمة وحاصل الكلام في هذه الآية أنه سبحانه وتعالى بين أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتكوين والإبداع، وأنه لا موجد سواه ولا معبود إلا إياه، ثم نبه على أن الخير مراد بالذات، والشر مراد بالعرض وتحت هذا الباب أسرار عميقة، فهذا ما نقوله في هذه الآية.
المسألة الثانية: قال المفسرون: إنه تعالى لما بين في الآية الأولى في صفة الأصنام أنها لا تضر ولا تنفع، بين في هذه الآية أنها لا تقدر أيضا على دفع الضرر الواصل من الغير، وعلى الخير الواصل من الغير. قال ابن عباس رضي الله عنهما: * (إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) * يعني بمرض وفقر فلا دافع له إلا هو.
وأما قوله: * (وإن يردك بخير) * فقال الواحدي: هو من المقلوب معناه وإن يرد بك الخير ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر، وأقول التقديم في اللفظ يدل على زيادة العناية فقوله: * (وإن يردك بخير) * يدل على أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله، فهذه الدقيقة لا تستفاد إلا من هذا التركيب.
قوله تعالى
* (قل يا أيها الناس قد جآءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنا عليكم بوكيل) *.
واعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل المذكورة في التوحيد والنبوة والمعاد وزين آخر هذه السورة بهذه البيانات الدالة على كونه تعالى مستبدا بالخلق والإبداع والتكوين والاختراع، ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية، وفي تفسيرها وجهان: الأول: أنه من حكم له في الأزل بالاهتداء، فسيقع له ذلك، ومن حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه. الثاني: وهو الكلام اللائق بالمعتزلة قال القاضي: إنه تعالى بين أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة * (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن
175

واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين (109)
ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل) * فلا يجب علي من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم، وفي تخليصكم من العذاب الأليم أزيد مما فعلت. قال ابن عباس: هذه الآية منسوخة بآية القتال.
ثم إنه تعالى ختم هذه الخاتمة بخاتمة أخرى لطيفة فقال: * (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) *.
والمعنى أنه تعالى أمره باتباع الوحي والتنزيل، فإن وصل إليه بسبب ذلك الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم الله فيه وهو خير الحاكمين. وأنشد بعضهم في الصبر شعرا فقال:
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري... وأصبر حتى يحكم الله في أمري
أصبر حتى يعلم الصبر أنني... صبرت على شيء أمر من الصبر
ثم تفسير هذا السورة والله أعلم بمراده وبأسرار كتابه بعون الله وحسن توفيقه. يقول جامع هذا
الكتاب: ختمت تفسير هذا السورة يوم السبت من شهر الله الأصم رجب سنة إحدى وستمائة
وكنت ضيق الصدر كثير الحزن بسبب وفاة الوالد الصالح محمد أفاض الله على روحه وجسده أنواء
المغفرة والرحمة، وأنا ألتمس من كل من يقرأ هذا الكتاب وينتفع به من المسلمين أن يخص ذلك
المسكين. وهذا المسكين بالدعاء والرحمة والغفران، والحمد لله رب العالمين، وصلاته على خير خلقه
محمد وآله وصحبه أجمعين.
176

سورة هود
مكية، إلا الآيات: 12 و 17 و 114 فمدنية وآياتها 123 نزلت بعد سورة يونس
بسم الله الرحمن الرحيم
* (الر كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله * (الر) * اسم للسورة وهو مبتدأ. وقوله * (كتاب) * خبره، وقوله: * (أحكمت آياته ثم فصلت) * صفة للكتاب. قال الزجاج: لا يجوز أن يقال: * (الر) * مبتدأ، وقوله: * (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) * خبر، لأن * (الر) * ليس هو الموصوف بهذه الصفة وحده؛ وهذا الاعتراض فاسد، لأنه ليس من شرط كون الشيء مبتدأ أن يكون خبره محصورا فيه، ولا أدري كيف وقع للزجاج هذا السؤال، ثم إن الزجاج اختار قولا آخر وهو أن يكون التقدير
: الر هذا كتاب أحكمت آياته، وعندي أن هذا القول ضعيف لوجهين: الأول: أن على هذا التقدير يقع قوله: * (الر) * كلاما باطلا لا فائدة فيه، والثاني: أنك إذا قلت هذا كتاب، فقوله: " هذا " يكون إشارة إلى أقرب المذكورات، وذلك هو قوله: * (الر) * فيصير حينئذ * (الر) * مخبرا عنه بأنه كتاب أحكمت
177

آياته، فيلزمه على هذا القول ما لم يرض به في القول الأول، فثبت أن الصواب ما ذكرناه.
المسألة الثانية: في قوله: * (أحكمت آياته) * وجوه: الأول: * (أحكمت آياته) * نظمت نظما رصيفا محكما لا يقع فيه نقص ولا خلل، كالبناء المحكم المرصف. الثاني: أن الإحكام عبارة عن منع الفساد من الشيء. فقوله: * (أحكمت آياته) * أي لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها.
واعلم أن على هذا الوجه لا يكون كل الكتاب محكما، لأنه حصل فيه آيات منسوخة، إلا أنه لما كان الغالب كذلك صح إطلاق هذا الوصف عليه إجراء للحكم الثابت في الغالب مجرى الحكم الثابت في الكل. الثالث: قال صاحب " الكشاف " * (أحكمت) * يجوز أن يكون نقلا بالهمزة من حكم بضم الكاف إذا صار حكيما، أي جعلت حكيمة، كقوله: * (آيات الكتاب الحكيم) * (يونس: 1) الرابع: جعلت آياته محكمة في أمور: أحدها: أن معاني هذا الكتاب هي التوحيد، والعدل، والنبوة، والمعاد، وهذه المعاني لا تقبل النسخ، فهي في غاية الإحكام، وثانيها: أن الآيات الواردة فيه غير متناقضة، والتناقض ضد الإحكام فإذا خلت آياته عن التناقض فقد حصل الإحكام. وثالثها: أن ألفاظ هذه الآيات بلغت في الفصاحة والجزالة إلى حيث لا تقبل المعارضة، وهذا أيضا مشعر بالقوة والإحكام. ورابعها: أن العلوم الدينية إما نظرية وإما عملية. أما النظرية فهي معرفة الإله تعالى ومعرفة الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، وهذا الكتاب مشتمل على شرائف هذه العلوم ولطائفها، وأما العملية فهي إما أن تكون عبارة عن تهذيب الأعمال الظاهرة وهو الفقه، أو عن تهذيب الأحوال الباطنة وهي علم التصفية ورياضة النفس، ولا نجد كتابا في العالم يساوي هذا الكتاب في هذه المطالب، فثبت أن هذا الكتاب مشتمل على أشرف المطالب الروحانية وأعلى المباحث الإلهية، فكان كتابا محكما غير قابل للنقض والهدم. وتمام الكلام في تفسير المحكم ذكرناه في تفسير قوله تعالى: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) * (آل عمران: 7).
المسألة الثالثة: في قوله: * (فصلت) * وجوه: أحدها: أن هذا الكتاب فصل كما تفصل الدلائل بالفوائد الروحانية، وهي دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص. والثاني: أنها جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية. الثالث: * (فصلت) * بمعنى أنها فرقت في التنزيل وما نزلت جملة واحدة، ونظيره قوله تعالى: * (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات) * (الأعراف: 133) والمعنى مجيء هذه الآيات متفرقة متعاقبة. الرابع: فصل ما يحتاج إليه العباد أي جعلت مبينة ملخصة. الخامس: جعلت فصولا حلالا وحراما، وأمثالا وترغيبا، وترهيبا ومواعظ، وأمرا ونهيا لكل معنى فيها فصل، قد أفرد به غير مختلط بغيره حتى تستكمل فوائد كل واحد منها،
178

ويحصل الوقوف على كل باب واحد منها على الوجه الأكمل.
المسألة الرابعة: معنى * (ثم) * في قوله: * (ثم فصلت) * ليس للتراخي في الوقت، لكن في الحال كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وكما تقول: فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
المسألة الخامسة: قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (أحكمت آياته ثم فصلت) * أي أحكمتها أنا ثم فصلتها، وعن عكرمة والضحاك * (ثم فصلت) * أي فرقت بين الحق والباطل.
المسألة السادسة: احتج الجبائي بهذه الآية على أن القرآن محدث مخلوق من ثلاثة أوجه: الأول: قال المحكم: هو الذي أتقنه فاعله، ولولا أن الله تعالى يحدث هذا القرآن وإلا لم يصح ذلك لأن الإحكام لا يكون إلا في الأفعال، ولا يجوز أن يقال: كان موجودا غير محكم ثم جعله الله محكما، لأن هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكما أن يكون محدثا، ولم يقل أحد بأن القرآن بعضه قديم وبعضه محدث. الثاني: أن قوله: * (ثم فصلت) * يدل على أنه حصل فيه انفصال وافتراق، ويدل على أن ذلك الانفصال والافتراق إنما حصل بجعل جاعل، وتكوين مكون، وذلك أيضا يدل على المطلوب. الثالث: قوله: * (من لدن حكيم خبير) * والمراد من عنده، والقديم لا يجوز أن يقال: إنه حصل من عند قديم آخر، لأنهما لو كانا قديمين لم يكن القول بأن أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس.
أجاب أصحابنا بأن هذه النعوت عائدة إلى هذه الحروف والأصوات ونحن معترفون بأنها محدثة مخلوقة، وإنما الذي ندعي قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات.
المسألة السابعة: قال صاحب " الكشاف " قوله: * (من لدن حكيم خبير) * يحتمل وجوها: الأول: أنا ذكرنا أن قوله: * (كتاب) * خبر و * (أحكمت) * صفة لهذا الخبر، وقوله: * (من لدن حكيم خبير) * صفة ثانية والتقدير: الر كتاب من لدن حكيم خبير. والثاني: أن يكون خبرا بعد خبر والتقدير: الر من لدن حكيم خبير. والثالث: أن يكون ذلك صفة لقوله: * (أحكمت. وفصلت) * أي أحكمت وفصلت من لدن حكيم خبير، وعلى هذا التقدير فقد حصل بين أول هذه الآية وبين آخرها نكتة لطيفة كأنه يقول أحكمت آياته من لدن حكيم وفصلت من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور.
قوله تعالى
* (ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير * وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه
179

يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير * إلى الله مرجعكم وهو على كل شىء قدير) *.
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن في قوله: * (ألا تعبدوا إلا الله) * وجوها: الأول: أن يكون مفعولا له والتقدير: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل ألا تعبدوا إلا الله
وأقول هذا التأويل يدل على أنه لا مقصود من هذا الكتاب الشريف إلا هذا الحرف الواحد، فكل من صرف عمره إلى سائر المطالب، فقد خاب وخسر. الثاني: أن تكون * (أن) * مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول والحمل على هذا أولى، لأن قوله: * (وأن استغفروا) * معطوف على قوله: * (ألا تعبدوا) * فيجب أن يكون معناه: أي لا تعبدوا ليكون الأمر معطوفا على النهي، فإن كونه بمعنى لئلا تعبدوا يمنع عطف الأمر عليه. والثالث: أن يكون التقدير: الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ليأمر الناس أن لا يعبدوا إلا الله ويقول لهم، إنني لكم منه نذير وبشير والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية مشتملة على التكليف من وجوه: الأول: أنه تعالى أمر بأن لا يعبدوا إلا الله، وإذا قلنا: الاستثناء من النفي إثبات، كان معنى هذا الكلام النهي عن عبادة غير الله تعالى، والأمر بعبادة الله تعالى، وذلك هو الحق، لأنا بينا أن ما سوى الله فهو محدث مخلوق مربوب، وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده، والعبادة عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهاية التواضع والتذلل وهذا لا يليق إلا بالخالق المدبر الرحيم المحسن، فثبت أن عبادة غير الله منكرة، والإعراض عن عبادة الله منكر.
واعلم أن عبادة الله مشروطة بتحصيل معرفة الله تعالى قبل العبادة، لأن من لا يعرف معبوده لا ينتفع بعبادته فكان الأمر بعبادة الله أمرا بتحصيل المعرفة أولا. ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) * (البقرة: 21) ثم أتبعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وهو قوله: * (الذي
180

خلقكم والذين من قبلكم) * (البقرة: 21) إنما حسن ذلك لأن الأمر بالعبادة يتضمن الأمر بتحصيل المعرفة فلا جرم ذكر ما يدل على تحصيل المعرفة.
ثم قال: * (إنني لكم منه نذير وبشير) * وفيه مباحث:
البحث الأول: أن الضمير في قوله: * (منه) * عائد إلى الحكيم الخبير، والمعنى: إنني لكم نذير وبشير من جهته.
البحث الثاني: أن قوله: * (ألا تعبدوا إلا الله) * مشتمل على المنع عن عبادة غير الله، وعلى الترغيب في عبادة الله تعالى، فهو عليه الصلاة والسلام نذير على الأول بإلحاق العذاب الشديد لمن لم يأت بها وبشير على الثاني بإلحاق الثواب العظيم لمن أتى بها.
واعلم أنه صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا لهذين الأمرين، وهو الإنذار على فعل ما لا ينبغي، والبشارة على فعل ما ينبغي.
المرتبة الثانية: من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله: * (وأن استغفروا ربكم) *.
والمرتبة الثالثة: قوله: * (ثم توبوا إليه) * واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه:
الوجه الأول: أن معنى قوله: * (وأن استغفروا) * اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم، ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة، فقال: * (ثم توبوا إليه) * لأن الداعي إلى التوبة والمحرض عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة وهذا يدل على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة، والأمر في الحقيقة كذلك، لأن المذنب معرض عن طريق الحق، والمعرض المتمادي في التباعد ما لم يرجع عن ذلك الإعراض لا يمكنه التوجه إلى المقصود بالذات، فالمقصود بالذات هو التوجه إلى المطلوب إلا أن ذلك لا يمكن إلا بالإعراض عما يضاده، فثبت أن الاستغفار مطلوب بالذات، وأن التوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار، وما كان آخرا في الحصول كان أولا في الطلب، فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة.
الوجه الثاني: في فائدة هذا الترتيب أن المراد: استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا إليه في المستأنف.
الوجه الثالث: وأن استغفروا من الشرك والمعاصي، ثم توبوا من الأعمال الباطلة.
الوجه الرابع: الاستغفار طلب من الله لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي، فقدم الاستغفار ليدل على أن المرء يجب أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي
181

يقدر على تحصيله، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه والاستعانة بفضل الله تعالى مقدمة على الاستعانة بسعي النفس.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يترتب عليها من الآثار النافعة والنتائج المطلوبة، ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين، لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة، أما المنافع الدنيوية: فهي المراد من قوله: * (يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى) * وهذا يدل على أن المقبل على عبادة الله والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " وقال أيضا: " خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء تم الأمثل فالأمثل " وقال تعالى: * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) * (الزخرف: 33) فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية. ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما؟
الجواب: من وجوه. الأول: المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا. الثاني: أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان، وإليه الإشارة بقوله: * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك) * (طه: 132) الثالث: وهو الأقوى عندي أن يقال إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر، كان الابتهاج والسرور أتم، لأنه أمن من تغير مطلوبه، وأمن من زوال محبوبه، فأما من كان مشتغلا بحب غير الله، كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله، فكان عيشه منغصا وقلبه مضطربا، ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته * (فلنحيينه حياة طيبة) * (النحل: 97).
السؤال الثاني: هل يدل قوله: * (إلى أجل مسمى) * على أن للعبد أجلين، وأنه يقع في ذلك التقديم والتأخير؟
والجواب: لا. ومعنى الآية أنه تعالى حكم بأن هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر، لكنه تعالى عالم بأنه لو اشتغل بالعبادة أم لا فإن أجله ليس إلا في ذلك الوقت المعين، فثبت أن لكل إنسان أجلا واحدا فقط.
السؤال الثالث: لم سمى منافع الدنيا بالمتاع؟
182

الجواب: لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها، ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى: * (إلى أجل مسمى) * فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية، ثم لما بين تعالى ذلك قال: * (ويؤت كل ذي فضل فضله) * والمراد منه السعادات الأخروية، وفيها لطائف وفوائد.
الفائدة الأولى: أن قوله: * (ويؤت كل ذي فضل فضله) * معناه ويؤت كل ذي فضل موجب فضله ومعلوله والأمر كذلك وذلك لأن الإنسان إذا كان في نهاية البعد عن الاشتغال بغير الله وكان في غاية الرغبة في تحصيل أسباب معرفة الله تعالى فحينئذ يصير قلبه فصا لنقش الملكوت ومرآة يتجلى بها قدس اللاهوت، إلا أن العلائق الجسدانية الظلمانية تكدر تلك الأنوار الروحانية، فإذا زالت هذه العلائق أشرقت تلك الأنوار وتلألأت تلك الأضواء وتوالت موجبات السعادات، فهذا هو المراد من قوله: * (ويؤت كل ذي فضل فضله) *.
الفائدة الثانية: أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية، فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية، فلهذا السبب قال: * (ويؤت كل ذي فضل فضله) *.
الفائدة الثالثة: أنه تعالى قال في منافع الدنيا: * (يمتعكم متاعا حسنا) * وقال في سعادات الآخرة * (ويؤت كل ذي فضل فضله) * وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وجوده. وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول: لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب، فأكثر الناس عقولهم ضعيفة واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه، فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة علموا أن ما سواه ممكن لذاته موجود بإيجاده، فانقطع نظرهم عما سواه وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع والمعطي والمانع. ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال: * (وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) * والأمر كذلك، لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى، * (من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) * (الإسراء: 72) والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها، فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام وصار عاجزا عن الوصول إلى محبوبه، فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء، فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم، وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية. ثم
183

بين أنه لا بد من الرجوع إلى الله تعالى بقوله: * (إلى الله مرجعكم وهو على شيء قدير) *.
واعلم أن قوله: * (إلى الله مرجعكم) * فيه دقيقة، وهي: أن هذا اللفظ يفيد الحصر، يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره، فيدل هذا على أن لا مدبر ولا متصرف هناك إلا هو والأمر كذلك أيضا في هذه الحياة الدنيوية، إلا أن أقواما اشتغلوا بالنظر إلى الوسائط فعجزوا عن الوصول إلى مسبب الأسباب، فظنوا أنهم في دار الدنيا قادرون على شيء، وأما في دار الآخرة، فهذا الحال الفاسد زائل أيضا، فلهذا المعنى بين هذا الحصر بقوله: * (إلى الله مرجعكم) *.
ثم قال: * (وهو على كل شيء قدير) * وأقول إن هذا تهديد عظيم من بعض الوجوه وبشارة عظيمة من سائر الوجوه. أما إنه تهديد عظيم فلأن قوله تعالى: * (إلى الله مرجعكم) * يدل على أنه ليس مرجعنا إلا إليه، وقوله: * (وهو على كل شيء قدير) * يدل على أنه قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته والرجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذنوب العظيمة مشكل وأما أنه بشارة عظيمة فلأن ذلك يدل على قدرة غالبة وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف تام وعجز عظيم لهذا العبد، والملك القاهر العالي الغالب إذا رأى عاجزا مشرفا على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك، ومنه المثل المشهور: ملكت فاسجح.
يقول مصنف هذا الكتاب: قد أفنيت عمري في خدمة العلم والمطالعة للكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور والكريم إذا قدر غفر، وأسألك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين ومجيب دعوة المضطرين أن تفيض سجال رحمتك على ولدي وفلذة كبدي وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم.
قوله تعالى
* (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (وإن تولوا) * يعني عن عبادته وطاعته * (فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) * بين بعده أن التولي عن ذلك باطنا كالتولي عنه ظاهرا فقال: * (ألا إنهم) * يعني الكفار من قوم محمد صلى الله عليه وسلم يثنون صدورهم ليستخفوا منه.
184

واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء الكفار شيئين: الأول: أنه يثنون صدورهم يقال: ثنيت الشيء إذا عطفته وطويته، وفي الآية وجهان:
الوجه الأول: روي أن طائفة من المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا وأرسلنا ستورنا، واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد، فكيف يعلم بنا؟ وعلى هذا التقدير: كان قوله: * (يثنون صدورهم) * كناية عن النفاق، فكأنه قيل: يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى، ثم نبه بقوله: * (ألا حين يستغشون
ثيابهم) * على أنهم يستخفون منه حين يستغشون ثيابهم.
الوجه الثاني: روي أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه، والتقدير كأنه قيل: إنهم يتصرفون عنه ليستخفوا منه حين يستغشون ثيابهم، لئلا يسمعوا كلام رسول الله وما يتلو من القرآن، وليقولوا في أنفسهم ما يشتهون من الطعن. وقوله: * (ألا) * للتنبيه، فنبه أولا على أنهم ينصرفوا عنه ليستخفوا ثم كرر كلمة * (ألا) * للتنبيه على ذكر الاستخفاء لينبه على وقت استخفائهم، وهو حين يستغشون ثيابهم، كأنه قيل: ألا إنهم ينصرفون عنه ليستخفوا من الله، ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم. ثم ذكر أنه لا فائدة لهم في استخفائهم بقوله: * (يعلم ما يسرون وما يعلنون) *.
قوله تعالى
* (وما من دآبة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل فى كتاب مبين) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه * (يعلم ما يسرون وما يعلنون) * أردفه بما يدل على كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، فثبت أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى، فلو لم يكن عالما بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: الدابة اسم لكل حيوان، لأن الدابة اسم مأخوذ من الدبيب، وبنيت هذه اللفظة على هاء التأنيث، وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكرا كان أو أنثى، إلا أنه بحسب عرف العرب اختص بالفرس، والمراد بهذا اللفظ في هذه الآية الموضوع الأصلي اللغوي فيدخل فيه جميع الحيوانات، وهذا متفق عليه بين المفسرين، ولا شك أن أقسام الحيوانات
185

وأنواعها كثيرة، وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال، والله يحصيها دون غيره، وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها، وما يوافقها وما يخالفها، فالإله المدبر لإطباق السماوات والأرضين؛ وطبائع الحيوان والنبات، كيف لا يكون عالما بأحوالها؟ روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي إليه تعلق قلبه بأحوال أهله، فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة ثانية؛ ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، ورفع الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني.
المسألة الثانية: تعلق بعضهم بأنه يجب على الله تعالى بعض الأشياء بهذه الآية وقال: إن كلمة * (على) * للوجوب، وهذا يدل على أن إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله.
وجوابه: أنه واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان.
المسألة الثالثة: تعلق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أن الرزق قد يكون حراما، قالوا لأنه ثبت أن إيصال كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد وبحسب الاستحقاق، والله تعالى لا يحل بالواجب، ثم قد نرى إنسانا لا يأكل من الحلال طول عمره، فلو لم يكن الحرام رزقا لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه، فيكون تعالى قد أخل بالواجب وذلك محال، فعلمنا أن الحرام قد يكون رزقا، وأما قوله: * (ويعلم مستقرها ومستودعها) * فالمستقر هو مكانه من الأرض والمستودع حيث كان مودعا قبل الاستقرار في صلب أو رحم أو بيضة، وقال الفراء: مستقرها حيث تأوي إليه ليلا أو نهارا، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه، وقد مضى استقصاء تفسير المستقر والمستودع في سورة الأنعام، ثم قال: * (كل في كتاب مبين) * قال الزجاج: المعنى أن ذلك ثابت في علم الله تعالى، ومنهم من قال: في اللوح المحفوظ، وقد ذكرنا ذلك في قوله: * (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) * (الأنعام: 59).
قوله تعالى
* (وهو الذى خلق السماوات والارض فى ستة أيام وكان عرشه على المآء
186

ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذآ إلا سحر مبين) *.
واعلم أنه تعالى لما أثبت بالدليل المتقدم كونه عالما بالمعلومات، أثبت بهذا الدليل كونه تعالى قادرا على كل المقدورات وفي الحقيقة فكل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته.
واعلم أن قوله تعالى: * (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) * قد مضى تفسيره في سورة يونس على سبيل الاستقصاء. بقي ههنا أن نذكر * (وكان عرشه على الماء) * قال كعب خلق الله تعالى ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء، قال أبو بكر الأصم: معنى قوله: * (وكان عرشه على الماء) * كقولهم: السماء على الأرض. وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقا بالآخر وكيف كانت الواقعة فذلك يدل على أن العرش والماء كانا قبل السماوات والأرض، وقالت المعتزلة: في الآية دلالة على وجود الملائكة قبل خلقهما، لأنه لا يجوز أن يخلق ذلك ولا أحد ينتفع بالعرض والماء، لأنه تعالى لما خلقهما فإما أن يكون قد خلقهما لمنفعة أو لا لمنفعة والثاني عبث، فبقي الأول وهو أنه خلقهما لمنفعة، وتلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله وهو محال لكونه متعاليا عن النفع والضرر أو إلى الغير فوجب أن يكون ذلك الغير حيا، لأن غير الحي لا ينتفع. وكل من قال بذلك قال ذلك الحي كان من جنس الملائكة، وأما أبو مسلم الأصفهاني فقال معنى قوله: * (وكان عرشه على الماء) * أي بناؤه السماوات كان على الماء، وقد مضى تفسير ذلك في سورة يونس، وبين أنه تعالى إذا بنى السماوات على الماء كانت أبدع وأعجب، فإن البناء الضعيف إذا لم يؤسس على أرض صلبة لم يثبت، فكيف بهذا الأمر العظيم إذا
بسط على الماء؟ وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في ذكر أن عرشه كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض؟
والجواب: فيه دلالة على كمال القدرة من وجوه: الأول: أن العرش كونه مع أعظم من السماوات والأرض كان على الماء فلولا أنه تعالى قادر على إمساك الثقيل بغير عمد لما صح ذلك، والثاني: أنه تعالى أمسك الماء لا على قرار وإلا لزم أن يكون أقسام العالم غير متناهية، وذلك يدل على ما ذكرناه. والثالث: أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع
187

سماوات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، وذلك يدل أيضا على ما ذكرنا.
السؤال الثاني: هل يصح ما يروى أنه قيل يا رسول الله، أين كان ربنا قبل خلق السماوات والأرض؟ فقال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء.
والجواب: أن هذه الرواية ضعيفة، والأولى أن يكون الخبر المشهور أولى بالقبول وهو قوله صلى الله عليه وسلم كان الله وما كان معه شيء، ثم كان عرشه على الماء.
السؤال الثالث: اللام في قوله: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * يقتضي أنه تعالى خلق السماوات والأرض لابتلاء المكلف فكيف الحال فيه؟ والجواب ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى خلق هذا العالم الكثير لمصلحة المكلفين، وقد قال بهذا القول طوائف من العقلاء، ولكل طائفة فيه وجه آخر سوى الوجه الذي قال به الآخرون، وشرح تلك المقالات لا يليق بهذا الكتاب. والذين قالوا إن أفعاله وأحكامه غير معللة بالمصالح قالوا: لام التعليل وردت على ظاهر الأمر، ومعناه أنه تعالى فعل فعلا لو كان يفعله من تجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض.
السؤال الرابع: الابتلاء إنما يصح على الجاهل بعواقب الأمور وذلك عليه تعالى محال، فكيف يعقل حصول معنى الابتلاء في حقه؟
والجواب: أن هذا الكلام على سبيل الاستقصاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى في أول سورة البقرة: * (لعلكم تتقون) * (البقرة: 21).
واعلم أنه تعالى لما بين أنه خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم فهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر، لأن الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة والثواب وتخصيص المسئ بالعقاب، وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بالمعاد والقيامة، فعند هذا خاطب محمدا عليه الصلاة والسلام وقال: * (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) * ومعناه أنهم ينكرون هذا الكلام ويحكمون بفساد القول بالبعث.
فإن قيل: الذي يمكن وصفه بأنه سحر ما يكون فعلا مخصوصا، وكيف يمكن وصف هذا القول بأنه سحر؟
قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: قال القفال: معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازا لهم إلى الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم. الثاني: أن معنى قوله: * (إن هذا إلا سحر مبين) * هو أن السحر أمر باطل، قال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام * (ما جئتم به السحر إن الله سيبطله) * (يونس: 81) فقوله: * (إن هذا إلا سحر مبين) * أي باطل مبين. الثالث: أن
188

القرآن هو الحاكم بحصول البعث وطعنوا في القرآن بكونه سحرا لأن الطعن في الأصل يفيد الطعن في الفرع. الرابع: قرأ حمزة والكسائي * (إن هذا إلا ساحر) * يريدون النبي صلى الله عليه وسلم والساحر كاذب.
قوله تعالى
* (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) *.
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم: * (إن هذا إلا سحر مبين) * فحكى عنهم في هذه الآية نوعا آخر من أباطيلهم وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم به أخذوا في الاستهزاء ويقولون: ما السبب الذي حبسه عنا؟
فأجاب الله تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزؤن به لم ينصرف ذلك العذاب عنهم وأحاط بهم ذلك العذاب. بقي ههنا سؤالات:
السؤال الأول: المراد من هذا العذاب هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة؟
الجواب: للمفسرين فيه وجوه: الأول: قال الحسن: معنى حكم الله في هذه الآية أنه لا يعذب أحدا منهم بعذاب الاستئصال وأخر ذلك إلى يوم القيامة، فلما أخر الله عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء ما الذي حبسه عنا؟ والثاني: أن المراد الأمر بالجهاد وما نزل بهم يوم بدر، وعلى هذا الوجه تأولوا قوله: * (وحاق بهم) * أي نزل بهم هذا العذاب يوم بدر.
السؤال الثاني: ما المراد بقوله: * (إلى أمة معدودة) *.
الجواب من وجهين: الأول: أن الأصل في الأمة هم الناس والفرقة فإذا قلت: جاءني أمة من الناس، فالمراد طائفة مجتمعة قال تعالى: * (وجد عليه أمة من الناس يسقون) * (القصص: 23) وقوله: * (وادكر بعد أمة) * (يوسف: 45) أي بعد انقضاء أمة وفنائها فكذا ههنا قوله: * (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) * أي إلى حين تنقضي أمة من الناس انقرضت بعد هذا الوعيد بالقول، لقالوا ماذا يحبسه عنا وقد انقرض من الناس الذين كانوا متوعدين بهذا الوعيد؟ وتسمية الشيء باسم ما يحصل فيه كقولك: كنت عند فلان صلاة العصر، أي في ذلك الحين. الثاني: أن اشتقاق الأمة من الأم، وهو القصد، كأنه يعني الوقت المقصود بإيقاع هذا الموعود فيه.
189

السؤال الثالث: لم قال: * (وحاق) * على لفظ الماضي مع أن ذلك لم يقع؟
والجواب: قد مر في هذا الكتاب آيات كثيرة من هذا الجنس، والضابط فيها أنه تعالى أخبر عن أحوال القيامة بلفظ الماضي مبالغة في التأكيد والتقرير.
قوله تعالى
* (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن عذاب أولئك الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بد وأن يحيق بهم، ذكر بعده ما يدل على كفرهم، وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب. فقال: * (ولئن أذقنا الإنسان) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لفظ * (الإنسان) * في هذه الآية فيه قولان:
القول الأول: أن المراد منه مطلق الإنسان ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى استثنى منه قوله: * (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) * والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فثبت أن الإنسان المذكور في هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر، وذلك يدل على ما قلناه. الثاني: أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله تعالى: * (والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (العصر: 1 - 3) وموافقة أيضا لقوله تعالى: * (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا) * (المعارج: 19 - 21) الثالث: أن مزاج الإنسان مجبول على الضعف والعجز. قال ابن جريج في تفسير هذه الآية يا ابن آدم إذا نزلت لك نعمة من الله فأنت كفور، فإذا نزعت منك فيؤوس قنوط.
والقول الثاني: أن المراد منه الكافر، ويدل عليه وجوه: الأول: ن الأصل في المفرد المحلى بالألف واللام أن يحمل على المعهود السابق لولا المانع، وههنا لا مانع فوجب حمله عليه
190

والمعهود السابق هو الكافر المذكور في الآية المتقدمة. الثاني: أن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر لأنه وصفه بكونه يؤسا، وذلك من صفات الكافر لقوله تعالى: * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) * (يوسف: 87) ووصفه أيضا بكونه كفورا، وهو تصريح بالكفر ووصفه أيضا بأنه عند وجدان الراحة يقول: ذهب السيئات عني، وذلك جراءة على الله تعالى، ووصفه أيضا بكونه فرحا و * (الله لا يحب الفرحين) * (القصص: 76) ووصفه أيضا بكونه فخورا، وذلك ليس من صفات أهل الدين. ثم قال الناظرون لهذا القول: وجب أن يحمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع حتى لا تلزمنا هذه المحذورات.
المسألة الثانية: لفظ الإذاقة والذوق يفيد أقل ما يوجد به الطعم، فكان المراد أن الإنسان بوجدان أقل القليل من الخيرات العاجلة يقع في التمرد والطغيان، وبإدراك أقل القليل من المحنة والبلية يقع في اليأس والقنوط والكفران فالدنيا في نفسها قليلة، والحاصل منها للإنسان الواحد قليل، والإذاقة من ذلك المقدار خير قليل ثم إنه في سرعة الزوال يشبه أحلام النائمين وخيالات الموسوسين، فهذه الإذاقة من قليل، ومع ذلك فإن الإنسان لا طاقة له بتحملها ولا صبر له على الإتيان بالطريق الحسن معها. وأما النعماء فقال الواحدي: إنها إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء مضرة يظهر أثرها على صاحبها، لأنها خرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حمراء وعوراء، وهذا هو الفرق بين النعمة والنعماء، والمضرة والضراء.
المسألة الثالثة: اعلم أن أحوال الدنيا غير باقية، بل هي أبدا في التغير والزوال، والتحول والانتقال، إلا أن الضابط فيه أنه إما أن يتحول من النعمة إلى المحنة، ومن اللذات إلى الآفات وإما أن يكون بالعكس من ذلك، وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب، ومن المحرمات إلى الطيبات.
أما القسم الأول: فهو المراد من قوله: * (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور) * وحاصل الكلام أنه تعالى حكم على هذا الإنسان بأنه يؤوس كفور. وتقريره أن يقال: أنه حال زوال تلك النعمة يصير يؤسا، وذلك لأن الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي، ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة فيقع في اليأس. وأما المسلم الذي يعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من الله تعالى وفضله وإحسانه وطوله فإنه لا يحصل له اليأس، بل يقول لعله تعالى يردها إلى بعد ذلك أكمل وأحسن وأفضل مما كانت، وأما حال كون تلك النعمة حاصلة فإنه يكون كفورا لأنه لما اعتقد أن
191

حصولها إنما كان على سبيل الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة. فالحاصل أن الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يؤوسا وعند حصولها يكون كفورا.
وأما القسم الثاني: وهو أن ينتقل الإنسان من المكروه إلى المحبوب، ومن المحنة إلى النعمة، فههنا الكافر يكون فرحا فخورا. أما قوة الفرح فلأن منتهى طمع الكافر هو الفوز بهذه السعادات الدنيوية وهو منكر للسعادات الأخروية الروحانية، فإذا وجد الدنيا فكأنه قد فاز بغاية السعادات فلا جرم يعظم فرحه بها، وأما كونه فخورا فلأنه لما كان الفوز بسائر المطلوب نهاية السعادة لا جرم يفتخر به، فحاصل الكلام أنه تعالى بين أن الكافر عند البلاء لا يكون من الصابرين، وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين. ثم لما قرر ذلك قال: * (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) * والمراد منه ضد ما تقدم فقوله: * (إلا الذين صبروا) * المراد منه أن يكون عند البلاء من الصابرين، وقوله: * (وعملوا الصالحات) * المراد منه أن يكون عند الراحة والخير من الشاكرين. ثم بين حالهم فقال: * (أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) * فجمع لهم بين هذين المطلوبين. أحدهما: زوال العقاب والخلاص منه وهو المراد من قوله: * (لهم مغفرة) * والثاني: الفوز بالثواب وهو المراد من قوله: * (
وأجر كبير) * ومن وقف على هذا التفصيل الذي ذكرناه علم أن هذا الكتاب الكريم كما أنه معجز بحسب ألفاظه فهو أيضا معجز بحسب معانيه.
قوله تعالى
* (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضآئق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جآء معه ملك إنمآ أنت نذير والله على كل شىء وكيل) *.
اعلم أن هذا نوع آخر من كلمات الكفار، والله تعالى بين أن قلب الرسول ضاق بسببه، ثم إنه تعالى قواه وأيده بالإكرام والتأييد، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة قالوا: يا محمد اجعل لنا
192

جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا، وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك. فقال: لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية. واختلفوا في المراد بقوله: * (تارك بعض ما يوحى إليك) * قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: " ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بك، وقال الحسن اطلبوا منه لا يقول: * (إن الساعة آتية) * (طه: 15) وقال بعضهم: المراد نسبتهم إلى الجهل والتقليد والإصرار على الباطل. المسألة الثانية: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخون في الوحي والتنزيل وأن يترك بعض ما يوحى إليه، لأن تجويزه يؤدي إلى الشك في كل الشرائع والتكاليف وذلك يقدح في النبوة وأيضا فالمقصود من الرسالة تبليغ تكاليف الله تعالى وأحكامه فإذا لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها المطلوبة منها، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) * شيئا آخر سوى أنه عليه السلام فعل ذلك وللناس فيه وجوه: الأول: لا يمتنع أن يكون في معلوم الله تعالى أنه إنما ترك التقصير في أداء الوحي والتنزيل لسبب يرد عليه من الله تعالى أمثال هذه التهديدات. البليغة الثاني: أنهم كانوا لا يعتقدون بالقرآن ويتهاونون به، فكان يضيق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فهيجه الله تعالى لأداء الرسالة وطرح المبالاة بكلماتهم الفاسدة وترك الالتفات إلى استهزائهم، والغرض منه التنبيه على أنه إن أدى ذلك الوحي وقع في سخريتهم وسفاهتهم وإن لم يؤد ذلك الوحي إليهم وقع في ترك وحي الله تعالى وفي إيقاع الخيانة فيه، فإذا لا بد من تحمل أحد الضررين وتحمل سفاهتهم أسهل من تحمل إيقاع الخيانة في وحي الله تعالى، والغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة، لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك يشتمل على ضرر عظيم، ثم علم أن الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف، فالمقصود من ذكر هذا الكلام ما ذكرناه.
فإن قيل: قوله: * (فلعلك) * كلمة شك فما الفائدة فيها؟
قلنا: المراد منه الزجر، والعرب تقول للرجل إذا أرادوا إبعاده عن أمر لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنه لا شك فيه، ويقول لولده لو أمره لعلك تقصر فيما أمرتك به ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك.
وأما قوله: * (وضائق به صدرك) * فالضائق بمعنى الضيق، قال الواحدي: الفرق بينهما أن الضائق يكون بضيق عارض غير لازم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدرا، ومثله قولك: زيد سيد جواد تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين، فإذا أردت الحدوث قلت: سائد
193

وجائد، والمعنى: ضائق صدرك لأجل أن يقولوا: * (لولا أنزل عليه) *.
فإن قيل: الكنز كيف ينزل؟
قلنا: المراد ما يكنز وجرت العادة على أنه يسمي المال الكثير بهذا الاسم، فكأن القوم قالوا: إن كنت صادقا في أنك رسول الإله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وإنك عزيز عنده فهلا أنزل عليك ما تستغني به وتغني أحبابك من الكد والعناء وتستعين به على مهماتك وتعين أنصارك وإن كنت صادقا فهلا أنزل الله معك ملكا يشهد لك على صدق قولك ويعينك على تحصيل مقصودك فتزول الشبهة في أمرك، فلما لم يفعل إلهك ذلك فأنت غير صادق، فبين تعالى أنه رسول منذر بالعقاب ومبشر بالثواب ولا قدرة له على إيجاد هذه الأشياء. والذي أرسله هو القادر على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه في فعله وفي حكمه. ومعنى * (وكيل) * حفيظ أي يحفظ عليهم أعمالهم، أي يجازيهم بها ونظير هذه الآية، قوله تعالى: * (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا) * (الفرقان: 10) وقوله: * (قالوا لن نؤمن لك) * إلى قوله: * (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) * (الإسراء: 90 - 93).
قوله تعالى
* (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) *.
اعلم أن القول لما طلبوا منه المعجز قال معجزي هذا القرآن ولما حصل المعجز الواحد كان طلب الزيادة بغيا وجهلا، ثم قرر كونه معجزا بأن تحداهم بالمعارضة، وتقرير هذا الكلام بالاستقصاء قد تقدم في البقرة وفي سورة يونس وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الضمير في قوله: * (افتراه) * عائد إلى ما سبق من قوله: * (يوحى إليك) * أي إن قالوا إن هذا الذي يوحى إليك مفترى فقل لهم حتى يأتوا بعشر سور مثله مفتريات وقوله مثله بمعنى أمثاله حملا على كل واحد من تلك السور ولا يبعد أيضا أن يكون المراد هو المجموع، لأن مجموع السور العشرة شيء واحد.
المسألة الثانية: قال ابن عباس: هذه السورة التي وقع بها هذا التحدي معينة، وهي سورة
194

البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة ويونس وهود عليهما السلام، وقوله: * (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) * إشارة إلى السور
المتقدمة على هذه السورة، وهذا فيه إشكال، لأن هذه السورة مكية، وبعض السور المتقدمة على هذه السورة مدنية، فكيف يمكن أن يكون المراد من هذه العشر سور التي ما نزلت عند هذا الكلام، فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور التي يظهر فيها قوة تركيب الكلام وتأليفه.
واعلم أن التحدي بعشر سور لا بد وأن يكون سابقا على التحدي بسورة واحدة، وهو مثل أن يقول الرجل لغيره أكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب، فإذا ظهر عجزه عنه قال: قد اقتصرت منها على سطر واحد مثله.
إذا عرفت هذا فنقول: التحدي بالسورة الواحدة ورد في سورة البقرة، وفي سورة يونس كما تقدم، أما تقدم هذه السورة على سورة البقرة فظاهر، لأن هذه السورة مكية وسورة البقرة مدنية، وأما في سورة يونس فالإشكال زائل أيضا، لأن كل واحدة من هاتين السورتين مكية، والدليل الذي ذكرناه يقتضي أن تكون سورة هود متقدمة في النزول على سورة يونس حتى يستقيم الكلام الذي ذكرناه.
المسألة الثالثة: اختلف الناس في الوجه الذي لأجله كان القرآن معجزا، فقال بعضهم: هو الفصاحة، وقال بعضهم: هو الأسلوب، وقال ثالث: هو عدم التناقض، وقال رابع: هو اشتماله على العلوم الكثيرة، وقال خامس: هو الصرف، وقال سادس: هو اشتماله على الإخبار عن الغيوب، والمختار عندي وعند الأكثرين أنه معجز بسبب الفصاحة، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية لأنه لو كان وجه الإعجاز هو كثرة العلوم أو الأخبار عن الغيوب أو عدم التناقض لم يكن لقوله: * (مفتريات) * معنى أما إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الفصيح تظهر بالكلام، سواء كان الكلام صدقا أو كذبا، وأيضا لو كان الوجه في كونه معجزا هو الصرف لكان دلالة الكلام الركيك النازل في الفصاحة على هذا المطلوب أوكد من دلالة الكلام العالي في الفصاحة ثم إنه تعالى لما قرر وجه التحدي قال: * (وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) * والمراد إن كنتم صادقين في ادعاء كونه مفترى كما قال: * (أم يقولون افتراه) *.
واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه لا بد في إثبات الدين من تقرير الدلائل والبراهين، وذلك لأنه تعالى أورد في إثبات نبوة محمد عليه السلام هذا الدليل وهذه الحجة، ولولا أن الدين لا يتم إلا بالدليل لم يكن في ذكره فائدة.
195

قوله تعالى
* (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنمآ أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون) *.
اعلم أن الآية المتقدمة اشتملت على خطابين: أحدهما: خطاب الرسول، وهو قوله: * (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) * والثاني: خطاب الكفار وهو قوله: * (وادعوا من استطعتم من دون الله) * (يونس: 38) فلما أتبعه بقوله: * (فإن لم يستجيبوا لكم) * احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لتعذرها عليهم، واحتمل أن من يدعونه من دون الله لم يستجيبوا، فلهذا السبب اختلف المفسرون على قولين: فبعضهم قال: هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، والمراد أن الكفار إن لم يستجيبوا لكم في الإتيان بالمعارضة، فاعلموا أنما أنزل بعلم الله. والمعنى: فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقينا وثبات قدم على أنه منزل من عند الله، ومعنى قوله: * (فهل أنتم مسلمون) * أي فهل أنتم مخلصون، ومنهم من قال فيه إضمار، والتقدير: فقولوا أيها المسلمون للكفار اعلموا أنما أنزل بعلم الله.
والقول الثاني: أن هذا خطاب مع الكفار، والمعنى أن الذين تدعونهم من دون الله إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة، فاعلموا أيها الكفار أن هذا القرآن إنما أنزل بعلم الله فهل أنتم مسلمون بعد لزوم الحجة عليكم، والقائلون بهذا القول قالوا هذا أولى من القول الأول، لأنكم في القول الأول احتجتم إلى أن حملتم قوله: * (فاعلموا) * على الأمر بالثبات أو على إضمار القول، وعلى هذا الاحتمال لا حاجة فيه إلى إضمار، فكان هذا أولى، وأيضا فعود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب، وأقرب المذكورين في هذه الآية هو هذا الاحتمال الثاني، وأيضا أن الخطاب الأول كان مع الرسول عليه الصلاة والسلام وحده بقوله: * (قل فأتوا بعشر سور) * (هود: 13) والخطاب الثاني كان مع جماعة الكفار بقوله: * (وادعوا من استطعتم من دون الله) * (يونس: 38) وقوله: * (فإن لم يستجيبوا لكم) * خطاب مع الجماعة فكان حمله على هذا الذي قلناه أولى. بقي في الآية سؤالات:
السؤال الأول: ما الشيء الذي لم يستجيبوا فيه؟
الجواب: المعنى فإن لم يستجيبوا لكم في معارضة القرآن، وقال بعضهم فإن لم يستجيبوا لكم في جملة الإيمان وهو بعيد.
196

السؤال الثاني: من المشار إليه بقوله: * (لكم) *؟
والجواب: إن حملنا قوله: * (فإن لم يستجيبوا لكم) * على المؤمنين فذلك ظاهر، وإن حملناه على الرسول فعنه جوابان: الأول: المراد فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين، لأن الرسول عليه السلام والمؤمنين كانوا يتحدونهم، وقال في موضع آخر فإن لم يستجيبوا لك فاعلم. والثاني: يجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السؤال الثالث: أي تعلق بين الشرط المذكور في هذه الآية وبين ما فيها من الجزاء.
والجواب: أن القوم ادعوا كون القرآن مفترى على الله تعالى، فقال: لو كان مفترى على الله لوجب أن يقدر الخلق على مثله ولما لم يقدروا عليه، ثبت أنه من عند الله، فقوله: * (إنما أنزل بعلم الله) * كناية عن كونه من عند الله ومن قبله، كما يقول الحاكم هذا الحكم جرى بعلمي.
السؤال الرابع: أي تعلق لقوله: * (وأن لا إله إلا هو) * يعجزهم عن المعارضة.
والجواب فيه من وجوه: الأول: أنه تعالى لما أمر محمدا صلى الله عليه وسلم حتى يطلب من الكفار أن يستعينوا بالأصنام في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب البتة، ومتى كان كذلك، فقد بطل القول بإثبات كونهم آلهة، فصار عجز القوم المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلا لإلهية الأصنام ودليلا على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان قوله: * (وأن لا إله إلا هو) * إشارة إلى ما ظهر من فساد القول بإلهية الأصنام: الثاني: أنه ثبت في علم الأصول أن القول بنفي الشريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباتها بقول الرسول عليه السلام، وعلى هذا فكأنه قيل: لما ثبت عجز الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقا، وثبت كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقا في دعوى الرسالة، ثم إنه كان يخبر عن أنه لا إله إلا الله فلما ثبت كونه محقا في دعوى النبوة ثبت قوله: * (أن لا إله إلا هو) * الثالث: أن ذكر قوله * (وأن لا إله إلا هو) * جار مجرى التهديد، كأنه قيل: لما ثبت بهذا الدليل كون محمد عليه السلام صادقا في دعوى الرسالة وعلمتم إنه لا إله إلا الله، فكونوا خائفين من قهره وعذابه واتركوا الإصرار على الكفر واقبلوا الإسلام ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة عند ذكر آية التحدي: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) * (البقرة: 24).
وأما قوله: * (فهل أنتم مسلمون) *.
فإن قلنا: إنه خطاب مع المؤمنين كان معناه الترغيب في زيادة الإخلاص. وإن قلنا: إنه خطاب مع الكفار كان معناه الترغيب في أصل الإسلام.
197

قوله تعالى
* (من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم فى الاخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) *.
اعلم أن الكفار كانوا ينازعون محمدا صلى الله عليه وسلم في أكثر الأحوال، فكانوا يظهرون من أنفسهم أن محمدا مبطل ونحن محقون، وإنما نبالغ في منازعته لتحقيق الحق وإبطال الباطل، وكانوا كاذبين فيه، بل كان غرضهم محض الحسد والاستنكاف من المتابعة، فأنزل الله تعالى هذه الآية لتقرير هذا المعنى. ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) * (الإسراء: 18) وقوله: * (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب) * (الشورى: 20) وفيه الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن في الآية قولين:
القول الأول: أنها مختصة بالكفار، لأن قوله: * (من كان يريد الحياة الدنيا) * يندرج فيه المؤمن والكافر والصديق والزنديق، لأن كل أحد يريد التمتع بلذات الدنيا وطيباتها والانتفاع بخيراتها وشهواتها، إلا أن آخر الآية يدل على أن المراد من هذا العام الخاص وهو الكافر، لأن قوله تعالى: * (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) * لا يليق إلا بالكفار، فصار تقدير الآية: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط، أي تكون إرادته مقصورة على حب الدنيا وزينتها ولم يكن طالبا لسعادات الآخرة، كان حكمه كذا وكذا، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فيه، فمنهم من قال: المراد منهم منكرو البعث فإنهم ينكرون الآخرة ولا يرغبون إلا في سعادات الدنيا، وهذا قول الأصم وكلامه ظاهر.
القول الثاني: أن الآية نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول عليه السلام الغنائم من دون أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها.
والقول الثالث: أن المراد: اليهود والنصارى؛ وهو منقول عن أنس.
والقول الرابع: وهو الذي اختاره القاضي أن المراد: من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا
198

وزينتها، وعمل الخير قسمان: العبادات، وإيصال المنفعة إلى الحيوان، ويدخل في هذا القسم الثاني البر وصلة الرحم والصدقة وبناء القناطر وتسوية الطرق والسعي في دفع الشرور وإجراء الأنهار. فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافر لأجل الثناء في الدنيا، فإن بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين، فكلها تكون من أعمال الخير، فلا جرم هذه الأعمال تكون طاعات سواء صدرت من الكافر أو المسلم. وأما العبادات: فهي إنما تكون طاعات بنيات مخصوصة، فإذا لم يؤت بتلك النية، وإنما أتى فاعلها بها على طلب زينة الدنيا، وتحصيل الرياء والسمعة فيها صار وجودها كعدمها فلا تكون من باب الطاعات.
وإذا عرفت هذا فنقول قوله: * (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) * المراد منه الطاعات التي يصح صدورها من الكافر.
القول الثاني: وهو أن تجري الآية على ظاهرها في العموم، ونقول: إنه يندرج فيه المؤمن الذي يأتي بالطاعات على سبيل الرياء والسمعة، ويندرج فيه الكافر الذي هذا صفته، وهذا القول مشكل، لأن قوله: * (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) * لا يليق المؤمن إلا إذا قلنا المراد * (أولئك الذين ليس في الآخرة إلا النار) * بسبب هذه الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة المقرونة بالرياء، ثم القائلون بهذا القول ذكروا أخبارا كثيرة في هذا الباب. روي أن الرسول عليه السلام قال: " تعوذوا بالله من جب الحزن قيل وما جب الحزن؟ قال عليه الصلاة والسلام: " واد في جهنم يلقى فيه القراء المراؤون " وقال عليه الصلاة والسلام: " أشد الناس عذابا يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيرا ولا خير فيه " وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جمع القرآن، فيقال له ما عملت فيه؟ فيقول يا رب قمت به آناء الليل والنهار فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال: فلان قارئ، وقد قيل ذلك، ويؤت بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك فماذا عملت فيما آتيتك فيقول: وصلت الرحم وتصدقت، فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد، وقد قيل ذلك ويؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء وقد قيل ذلك " قال أبو هريرة رضي الله عنه ثم ضرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ركبتي وقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه ذكر هذا الحديث عند معاوية قال الراوي فبكى حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق وقال صدق الله ورسوله * (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) *.
199

المسألة الثانية: المراد من توفية أجور تلك الأعمال هو أن كل ما يستحقون بها من الثواب فإنه يصل إليهم حال كونهم في دار الدنيا، فإذا خرجوا من الدنيا لم يبق معهم من تلك الأعمال أثر من آثار الخيرات، بل ليس لهم منها إلا النار.
واعلم أن العقل يدل عليه قطعا، وذلك لأن من أتى بالأعمال لأجل طلب الثناء في الدنيا ولأجل الرياء، فذلك لأجل أنه غلب على قلبه حب الدنيا، ولم يحصل في قلبه حب الآخرة، إذ لو عرف حقيقة الآخرة وما فيها من السعادات لامتنع أن يأتي بالخيرات لأجل الدنيا وينسى أمر الآخرة، فثبت أن الآتي بأعمال البر لأجل الدنيا لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الدنيا عديم الطلب للآخرة ومن كان كذلك فإذا مات فإنه يفوته جميع منافع الدنيا ويبقى عاجزا عن وجدانها غير قادر على تحصيلها، ومن أحب شيئا ثم حيل بينه وبين المطلوب فإنه لا بد وأن تشتعل في قلبه نيران الحسرات فثبت بهذا البرهان العقلي، أن كل من أتى بعمل من الأعمال لطلب الأحوال الدنيوية فإنه يجد تلك المنفعة الدنيوية اللائقة بذلك العمل، ثم إذا مات فإنه لا يحصل له منه إلا النار ويصير ذلك العمل في الدار الآخرة محبطا باطلا عديم الأثر.
قوله تعالى
* (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده فلا تك فى مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) *.
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر والتقدير: أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار، إلا أنه حذف الجواب لظهوره ومثله في القرآن كثير كقوله تعالى: * (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء) * (فاطر: 8) وقوله: * (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما) * (الزمر: 9) وقوله: * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (الزمر: 9).
واعلم أن أول هذه الآية مشتمل على ألفاظ أربعة كل واحد محتمل. فالأول: أن هذا الذي
200

وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو. والثاني: أنه ما المراد بهذه البينة. والثالث: أن المراد بقوله: * (يتلوه) * القرآن أو كونه حاصلا عقيب غيره. والرابع: أن هذا الشاهد ما هو؟ فهذه الألفاظ الأربعة مجملة فلهذا كثر اختلاف المفسرين في هذه الآية.
أما الأول: وهو أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو؟ فقيل: المراد به النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: المراد به من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، وهو الأظهر لقوله تعالى في آخر الآية: * (أولئك يؤمنون به) * وهذا صيغة جمع، فلا يجوز رجوعه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالبينة هو البيان والبرهان الذي عرف به صحة الدين الحق والضمير في * (يتلوه) * يرجع إلى معنى البينة، وهو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن، ومنه أي من الله ومن قبله كتاب موسى، أي ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى.
واعلم أن كون كتاب موسى تابعا للقرآن ليس في الوجود بل في دلالته على هذا المطلوب و * (إماما) * نصب على الحال، فالحاصل أنه يقول اجتمع في تقرير صحة هذا الدين أمور ثلاثة أولها: دلالة البينات العقلية على صحته. وثانيها: شهادة القرآن بصحته. وثالثها: شهادة التوراة بصحته، فعند اجتماع هذه الثلاثة لا يبقى في صحته شك ولا ارتياب، فهذا القول أحسن الأقاويل في هذه الآية وأقربها إلى مطابقة اللفظ وفيها أقوال أخر. فالقول الأول: أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه هو محمد عليه السلام والبينة هو القرآن، والمراد بقوله: * (يتلوه) * هو التلاوة بمعنى القراءة وعلى هذا التقدير فذكروا في تفسير الشاهد وجوها: أحدها: أنه جبريل عليه السلام، والمعنى: أن جبريل عليه السلام يقرأ القرآن على محمد عليه السلام. وثانيها: أن ذلك الشاهد هو لسان محمد عليه السلام وهو قول الحسن ورواية عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنهما قال: قلت لأبي أنت التالي قال: وما معنى التالي قلت قوله: * (ويتلوه شاهد منه) * قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما كان الإنسان إنما يقرأ القرآن ويتلوه بلسانه لا جرم جعل اللسان تاليا على سبيل المجاز كما يقال: عين باصرة وأذن سامعة ولسان ناطق. وثالثها: أن المراد هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمعنى أنه يتلو تلك البينة وقوله: * (منه) * أي هذا الشاهد من محمد وبعض منه، والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنه بعض من محمد عليه السلام. ورابعها: أن لا يكون المراد بقوله: * (ويتلوه) * القرآن بل حصول هذا الشاهد عقيب تلك البينة، وعلى هذا الوجه قالوا إن المراد أن صورة النبي عليه السلام ووجهه ومخايله كل ذلك يشهد بصدقه، لأن من نظر إليه بعقله علم أنه ليس بمجنون
201

ولا كاهن ولا ساحر ولا كذاب والمراد بكون هذا الشاهد منه كون هذه الأحوال متعلقة بذات النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة هم المؤمنون وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالبينة القرآن * (ويتلوه) * أي ويتلو الكتاب الذي هو الحجة يعني ويعقبه شاهد من الله تعالى، وعلى هذا القول اختلفوا في ذلك الشاهد فقال بعضهم: إنه محمد عليه السلام وقال آخرون: بل ذلك الشاهد هو كون القرآن واقعا على وجه يعرف كل من نظر فيه أنه معجزة وذلك الوجه هو اشتماله على الفصاحة التامة والبلاغة الكاملة وكونه بحيث لا يقدر البشر على الإتيان بمثله، وقوله: * (شاهد منه) * أي من تلك البينة لأن أحوال القرآن وصفاته من القراءات متعلقة به. وثالثها: قال الفراء: * (ويتلوه شاهد منه) * يعني الإنجيل يتلو القرآن وإن كان قد أنزل قبله، والمعنى أنه يتلوه في التصديق، وتقريره: أنه تعالى ذكر محمدا صلى الله عليه وسلم في الإنجيل، وأمر بالإيمان به.
واعلم أن هذين القولين وإن كانا محتملين إلا أن القول الأول أقوى وأتم.
واعلم أنه تعالى وصف كتاب موسى عليه السلام بكونه إماما ورحمة، ومعنى كونه إماما أنه كان مقتدى العالمين، وإماما لهم يرجعون إليه في معرفة الدين والشرائع، وأما كونه رحمة فلأنه يهدي إلى الحق في الدنيا والدين، وذلك سبب لحصول الرحمة والثواب فلما كان سببا للرحمة أطلق اسم الرحمة عليه إطلاقا لاسم المسبب على السبب.
ثم قال تعالى: * (أولئك يؤمنون به) * والمعنى: أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم في صحة هذا الدين يؤمنون.
واعلم أن المطالب على قسمين منها ما يعلم صحتها بالبديهة، ومنها ما يحتاج في تحصيل العلم بها إلى طلب واجتهاد، وهذا القسم الثاني على قسمين، لأن طريق تحصيل المعارف إما الحجة والبرهان المستنبط بالعقل وإما الاستفادة من الوحي والإلهام، فهذا الطريقان هما الطريقان اللذان يمكن الرجوع إليهما في تعريف المجهولات، فإذا اجتمعا واعتضد كل واحد منهما بالآخر بلغا الغاية في القوة والوثوق، ثم إن في أنبياء الله تعالى كثرة، فإذا توافقت كلمات الأنبياء على صحته، وكان البرهان اليقيني قائما على صحته، فهذه المرتبة قد بلغت في القوة إلى حيث لا يمكن الزيادة فقوله: * (أفمن كان على بينة من ربه) * المراد بالبينة الدلائل العقلية اليقينية، وقوله: * (ويتلوه شاهد منه) * إشارة إلى الوحي الذي حصل لمحمد عليه السلام، وقوله: * (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) *
202

إشارة إلى الوحي الذي حصل لموسى عليه السلام، وعند اجتماع هذه الثلاثة قد بلغ هذا اليقين في القوة والظهور والجلاء إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه.
ثم قال تعالى: * (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) * والمراد من الأحزاب أصناف الكفار، فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس. روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار " قال أبو موسى: فقلت في نفسي إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن، فوجدت الله تعالى يقول: * (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) * وقال بعضهم: لما دلت الآية على أن من يكفر به فالنار موعده، دلت على أن من لا يكفر به لم تكن النار موعده.
ثم قال تعالى: * (فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك) * ففيه قولان: الأول: فلا تك في مرية من صحة هذا الدين، ومن كون القرآن نازلا من عند الله تعالى، فكان متعلقا بما تقدم من قوله تعالى: * (أم يقولون افتراه) * (السجدة: 3) الثاني: فلا تك في مرية من أن موعد الكافر النار. وقرئ * (مرية) * بضم الميم.
ثم قال: * (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) * والتقدير: لما ظهر الحق ظهورا في الغاية، فكن أنت متابعا له ولا تبال بالجهال سواء آمنوا أو لم يؤمنوا، والأقرب أن يكون المراد لا يؤمنون بما تقدم ذكره من وصف القرآن.
قوله تعالى
* (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة هم كافرون) *.
اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة وطرق مختلفة، فمنها شدة حرصهم على الدنيا ورغبتهم في تحصيلها، وقد أبطل الله هذه الطريقة بقوله: * (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) * (هود: 15) إلى آخر الآية،
203

ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقدحون في معجزاته، وقد أبطل الله تعالى بقوله: * (أفمن كان على بينة من ربه) * (محمد: 14) ومنها أنهم كانوا يزعمون في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله، وقد أبطل الله تعالى ذلك بهذه الآية، وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله تعالى، فلما بين وعيد المفترين على الله، فقد دخل فيه هذا الكلام.
واعلم أن قوله: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * إنما يورد في معرض المبالغة. وفيه دلالة على أن الافتراء على الله تعالى أعظم أنواع الظلم.
ثم إنه تعالى بين وعيد هؤلاء بقوله: * (أولئك يعرضون على ربهم) * وما وصفهم بذلك لأنهم مختصون بذلك العرض، لأن العرض عام في كل العباد كما قال: * (وعرضوا على ربك صفا) * (الكهف: 48) وإنما أراد به أنهم يعرضون فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم * (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) * فحصل لهم من الخزي والنكال مالا مزيد عليه، وفيه سؤالات:
السؤال الأول: إذا لم يجز أن يكون الله تعالى في مكان، فكيف قال: * (يعرضون على ربهم) * والجواب: أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال، ويجوز أيضا أن يكون ذلك عرضا على من شاء الله من الخلق بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
السؤال الثاني: من الأشهاد الذين أضيف إليهم هذا القول؟
الجواب قال مجاهد: هم الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا. وقال قتادة ومقاتل: * (الأشهاد) * الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد، يعني على رؤوس الناس. وقال الآخرون: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قال الله تعالى: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) * (الأعراف: 6) والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة.
السؤال الثالث: الأشهاد جمع فما واحده؟
والجواب: يجوز أن يكون جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب، وناصر وأنصار، ويجوز أن يكون جمع شهيد مثل شريف وأشراف. قال أبو علي الفارسي: وهذا كأنه أرجح، لأن ما جاء من ذلك في التنزيل جاء على فعيل، كقوله: * (ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143) * (جئنا بك على هؤلاء شهيدا) * (النساء:
41) ثم لما أخبر عن حالهم في عذاب القيامة أخبر عن حالهم في الحال فقال: * (ألا لعنة الله على الظالمين) * وبين أنهم في الحال لملعونون من عند الله، ثم ذكر من صفاتهم أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا يعني أنهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر والضلال، فقد أضافوا إليه المنع من الدين الحق وإلقاء الشبهات، وتعويج الدلائل المستقيمة، لأنه لا يقال في العاصي يبغي
204

عوجا، وإنما يقال ذلك فيمن يعرف كيفية الاستقامة، وكيفية العوج بسبب إلقاء الشبهات وتقرير الضلالات.
ثم قال: * (وهم بالآخرة هم كافرون) * قال الزجاج: كلمة " هم " كررت على جهة التوكيد لثبتهم في الكفر.
قوله تعالى
* (أولئك لم يكونوا معجزين فى الارض وما كان لهم من دون الله من أوليآء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون * أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون * لا جرم أنهم فى الاخرة هم الاخسرون) *.
اعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم.
الصفة الأولى: كونهم مفترين على الله، وهي قوله: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * (الأنعام: 93).
والصفة الثانية: أنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال وهي قوله: * (أولئك يعرضون على ربهم) * (هود: 18).
والصفة الثالثة: حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة وهي قوله: * (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) * (هود: 18).
والصفة الرابعة: كونهم ملعونين من عند الله، وهي قوله: * (ألا لعنة الله على الظالمين) * (هود: 18).
والصفة الخامسة: كونهم صادين عن سبيل الله مانعين عن متابعة الحق، وهي قوله: * (الذين يصدون عن سبيل الله) * (الأعراف: 45).
والصفة السادسة: سعيهم في إلقاء الشبهات، وتعويج الدلائل المستقيمة، وهي قوله: * (ويبغونها عوجا) * (الأعراف: 45).
205

والصفة السابعة: كونهم كافرين، وهي قوله: * (وهم بالآخرة هم كافرون) * (هود: 19).
والصفة الثامنة: كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله، وهي قوله: * (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض) * قال الواحدي: معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد. يقال أعجزني فلان أي منعني عن مرادي، ومعنى معجزين في الأرض أي لا يمكنهم أن يهربوا من عذابنا فإن هرب العبد من عذاب الله محال، لأنه سبحانه وتعالى قادر على جميع الممكنات، ولا تتفاوت قدرته بالبعد والقرب والقوة والضعف.
والصفة التاسعة: أنهم ليس لهم أولياء يدفعون عذاب الله عنهم، والمراد منه الرد عليهم في وصفهم الأصنام بأنها شفعاؤهم عند الله والمقصود أن قوله: * (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض) * دل على أنهم لا قدرة لهم على الفرار وقوله: * (وما كان لهم من دون الله من أولياء) * هو أن أحدا لا يقدر على تخليصهم من ذلك العذاب، فجمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة، ثم اختلفوا فقال قوم المراد إن عدم نزول العذاب ليس لأجل أنهم قدروا على منع الله من إنزال العذاب ولا لأجل أن لهم ناصرا يمنع ذلك العذاب عنهم، بل إنما حصل ذلك الإمهال لأنه تعالى أمهلهم كي يتوبوا فيزولوا عن كفرهم فإذا أبوا إلا الثبات عليه فلا بد من مضاعفة العذاب في الآخرة، وقال بعضهم: بل المراد أن يكونوا معجزين لله عما يريد إنزاله عليهم من العذاب في الآخرة أو في الدنيا ولا يجدون وليا ينصرهم ويدفع ذلك عنهم.
والصفة العاشرة: قوله تعالى: * (يضاعف لهم العذاب) * قيل سبب تضعيف العذاب في حقهم أنهم كفروا بالله وبالبعث وبالنشور، فكفرهم بالمبدأ والمعاد صار سببا لتضعيف العذاب، والأصوب أن يقال إنهم مع ضلالهم الشديد، سعوا في الإضلال ومنع الناس عن الدين الحق، فلهذا المعنى حصل هذا التضعيف عليهم.
الصفة الحادية عشرة: قوله: * (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) * والمراد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلب وعمى النفس، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يخلق في المكلف ما يمنعه الإيمان، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إنه تعالى منع الكافر من الإيمان في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا ففي قوله تعالى: * (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) * وأما في الآخرة فهو قوله: * (يدعون إلى السجود فلا يستطيعون) * (القلم: 42) وحاصل الكلام في هذا الاستدلال أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا يستطيعون السمع، فإما أن يكون المراد أنهم ما كانوا يستطيعون سمع الأصوات والحروف، وإما أن يكون المراد
206

كونهم عاجزين عن الوقوف على دلائل الله تعالى، والقول الأول باطل لأن البديهة دلت على أنهم كانوا يسمعون الأصوات والحروف، وجب حمل اللفظ على الثاني أجاب الجبائي عنه بأن السمع إما أن يكون عبارة عن الحاسة المخصوصة، أو عن معنى يخلقه الله تعالى في صماخ الأذن، وكلاهما لا يقدر العبد عليه، لأنه لو اجتهد في أن يفعل ذلك أو يتركه لتعذر عليه، وإذا ثبت هذا كان إثبات الاستطاعة فيه محالا، وإذا كان إثباتها محالا كان نفي الاستطاعة عنه هو الحق، فثبت أن ظاهر الآية لا يقدح في قولنا. ثم قال المراد بقوله: * (ما كانوا يستطيعون السمع) * إهمالهم له ونفورهم عنه كما يقول القائل: هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه، وهذا مما يمجه سمعي وذكر غير الجبائي عذرا آخر، فقال إنه تعالى نفى أن يكون لهم أولياء والمراد الأصنام ثم بين نفي كونهم أولياء بقوله: * (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) * فكيف يصلحون للولاية.
والجواب: أما حمل الآية على أنه لا قدرة لهم على خلق الحاسة وعلى خلق المعنى فيها فباطل، لأن هذه الآية وردت في معرض الوعيد فلا بد وأن يكون ذلك معنى
مختصا بهم، والمعنى الذي قالوه حاصل في الملائكة والأنبياء فكيف يمكن حمل اللفظ عليه، وأما قوله إن ذلك محمول على أنهم كانوا يستثقلون سماع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبصار صورته.
فالجواب أنه تعالى نفى الاستطاعة فحمله على معنى آخر خلاف الظاهر، وأيضا أن حصول ذلك الاستثقال إما أن يمنع من الفهم والوصول إلى الغرض أو لم يمنع، فإن منع فهو المقصود، وإن لم يمنع منه فحينئذ كان ذلك سببا أجنبيا عن المعاني المعتبرة في الفهم والإدراك، ولا تختلف أحوال القلب في العلم والمعرفة بسببه، فكيف يمكن جعله ذما لهم في هذا المعرض، وأيضا قد بينا مرارا كثيرة في هذا الكتاب أن حصول الفعل مع قيام الصارف محال، فلما بين تعالى كون هذا المعنى صارفا عن قبول الدين الحق وبين فيه أنه حصل حصولا على سبيل اللزوم بحيث لا يزول البتة في ذلك الوقت كان المكلف في ذلك الوقت ممنوعا عن الإيمان، وحينئذ يحصل المطلوب، وأما قوله فإنا نجعل هذه الصفة من صفة الأوثان فبعيد لأنه تعالى قال: * (يضاعف لهم العذاب) * ثم قال: * (ما كانوا يستطيعون السمع) * فوجب أن يكون الضمير في هذه الآية المتأخرة عائدا إلى عين ما عاد إليه الضمير المذكور في هذه الآية الأولى. وأما قوله: * (وما كانوا يبصرون) * فقيل: المراد منه البصيرة، وقيل: المراد منه أنهم عدلوا عن إبصار ما يكون حجة لهم.
الصفة الثانية عشرة: قوله: * (أولئك الذين خسروا أنفسهم) * ومعناه أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران.
207

الصفة الثالثة عشرة: قوله: * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * والمعنى أنهم لما باعوا الدين بالدنيا فقد خسروا، لأنهم أعطوا الشريف، ورضوا بأخذ الخسيس، وهذا عين الخسران في الدنيا ثم في الآخرة فهذا الخسيس يضيع ويهلك ولا يبقى منه أثر، وهو المراد بقوله: * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) *.
الصفة الرابعة عشرة: قوله: * (لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون) * وتقريره ما تقدم، وهو أنه لما أعطى الشريف الرفيع ورضي بالخسيس الوضيع فقد خسر في التجارة. ثم لما كان هذا الخسيس بحيث لا يبقى بل لا بد وأن يهلك ويفنى انقلبت تلك التجارة إلى النهاية في صفة الخسارة، فلهذا قال: * (لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون) * وقوله * (لا جرم) * قال الفراء: إنها بمنزلة قولنا لا بد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا، تقول العرب: لا جرم أنك محسن، على معنى حقا إنك محسن، وأما النحويون فلهم فيه وجوه: الأول: لا حرف نفي وجزم، أي قطع، فإذا قلنا: لا جرم معناه أنه لا قطع قاطع عنهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. الثاني: قال الزجاج إن كلمة * (لا) * نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، و * (جرم) * معناه كسب ذلك الفعل، والمعنى: لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة، وذكرنا * (جرم) * بمعنى كسب في تفسير قوله تعالى: * (لا يجرمنكم شنئان قوم) * (المائدة: 2) قال الأزهري، وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب، الثالث: قال سيبويه والأخفش: * (لا) * رد على أهل الكفر كما ذكرنا وجرم معناه حق وصحح، والتأويل أنه حق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم. واحتج سيبويه بقول الشاعر: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة * جرمت فزاة بعدها أن يغضبوا
أراد حقت الطعنة فزارة أن يغضبوا.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم، أتبعه بذكر أحوال المؤمنين، والإخبات هو الخشوع والخضوع وهو مأخوذ من الخبت وهو الأرض المطمئنة وخبت ذكره أي خفي،
208

فقوله: " أخبت " أي دخل في الخبت، كما يقال فيمن صار إلى نجد أنجد وإلى تهامة أتهم، ومنه المخبت من الناس الذي أخبت إلى ربه أي اطمأن إليه، ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام، فإذا قلنا: أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه، وإذا قلنا أخبت له فمعناه خشع له.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة، وقوله * (وأخبتوا) * إشارة إلى أن هذه الأعمال لا تنفع في الآخرة إلا مع الأحوال القلبية ثم إن فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان المراد أنهم يعبدون الله وكانت قلوبهم عند أداء العبادات مطمئنة بذكر الله فارغة عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى أو يقال إنما قلوبهم صارت مطمئنة إلى صدق الله بكل ما وعدهم من الثواب والعقاب، وأما إن فسرنا الإخبات بالخشوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفين وجلين من أن يكونوا أتوا بها مع وجود الإخلال والتقصير، ثم بين أن من حصل له هذه الصفات الثلاثة فهم أصحاب الجنة، ويحصل لهم الخلود في الجنة.
قوله تعالى
* (مثل الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون) *.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين ذكر فيهما مثالا مطابقا ثم اختلفوا فقيل: إنه راجع إلى من ذكر آخرا من المؤمنين والكافرين من قبل، وقال آخرون: بل رجع إلى قوله: * (أفمن كان على بينة من ربه) * (هود: 17) ثم ذكر من بعده الكافرين ووصفهم بأنهم لا يستطيعون السمع ولا يبصرون، والسميع والبصير هم الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم.
واعلم أن وجه التشبيه هو أنه سبحانه خلق الإنسان مركبا من الجسد ومن النفس، وكما أن للجسد بصرا وسمعا فكذلك حصل لجوهر الروح سمع وبصر، وكما أن الجسد إذا كان أعمى أصم بقي متحيرا لا يهتدي إلى شيء من المصالح، بل يكون كالتائه في حضيض الظلمات لا يبصر نورا يهتدي به ولا يسمع صوتا، فكذلك الجاهل الضال المضل، يكون أعمى وأصم القلب، فيبقى في ظلمات الضلالات حائرا تائها.
ثم قال تعالى: * (أفلا تذكرون) * منبها على أنه يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصمم، وإذا كان
209

العلاج ممكنا من الضرر الحاصل بسبب حصول هذا العمى وهذا الصمم وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان.
واعلم أنه قد جرت العادة بأنه تعالى إذا ورد على الكافر أنواع الدلائل أتبعها بالقصص، ليصير ذكرها مؤكدا لتلك الدلائل على ما قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة، وفي هذه السورة ذكر أنواعا من القصص. القصة الأولى قصة نوح عليه السلام
قوله تعالى
* (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم) *.
اعلم أنه تعالى قد بدأ بذكر هذه القصة في سورة يونس وقد أعادها في هذه السورة أيضا لما فيها من زوائد الفوائد وبدائع الحكم، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي * (أني) * بفتح الهمزة، والمعنى: أرسلنا نوحا بأني لكم نذير مبين، ومعناه أرسلناه ملتبسا بهذا الكلام وهو قوله: * (أني لكم نذير مبين) * فلما اتصل به حرف الجر وهو الباء فتح كما فتح في كان، وأما سائر القراء فقرؤا * (إني) * بالكسر على معنى قال * (إني لكم نذير مبين) *.
المسألة الثانية: قال بعضهم: المراد من النذير كونه مهددا للعصاة بالعقاب، ومن المبين كونه مبينا ما أعد الله للمطيعين من الثواب، والأولى أن يكون المعنى أنه نذير للعصاة من العقاب وأنه مبين بمعنى أنه بين ذلك الإنذار على الطريق الأكمل والبيان الأقوى الأظهر، ثم بين تعالى أن ذلك الإنذار إنما حصل في النهي عن عبادة غير الله وفي الأمر بعبادة الله لأن قوله: * (أن لا تعبدوا إلا الله) * استثناء من النفي وهو يوجب نفي غير المستثنى.
واعلم أن تقدير الآية كأنه تعالى قال ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه بهذا الكلام وهو قوله: * (إني لكم نذير مبين) *.
210

ثم قال: * (أن لا تعبدوا إلا الله) * فقوله: * (أن لا تعبدوا إلا الله) * بدل من قوله: * (إني لكم نذير) * ثم إنه أكد ذلك بقوله: * (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * والمعنى أنه لما حصل الألم العظيم في ذلك اليوم أسند ذلك الألم إلى اليوم، كقولهم نهارك صائم، وليلك قائم.
قوله تعالى
* (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوته بثلاثة أنوع من الشبهات.
فالشبهة الأولى: أنه بشر مثلهم، والتفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة لجميع العالمين.
والشبهة الثانية: كونه ما أتبعه إلا أراذل من القوم كالحياكة وأهل الصنائع الخسيسة، قالوا ولو كنت صادقا لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء * (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) * (الشعراء: 111).
والشبهة الثالثة: قوله تعالى: * (وما نرى لكم علينا من فضل) * والمعنى: لا نرى لكم علينا من فضل لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل فإذا لم نشاهد فضلك علينا في شيء من هذه الأحوال الظاهرة فكيف نعترف بفضلك علينا في أشرف الدرجات وأعلى المقامات، فهذا خلاصة الكلام في تقرير هذه الشبهات.
واعلم أن الشبهة الأولى لا تليق إلا بالبراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق، أما الشبهتان الباقيتان فيمكن أن يتمسك بهما من أقر بنبوة سائر الأنبياء، وفي لفظ الآية مسائل:
المسألة الأولى: الملأ الأشراف وفي اشتقاقه وجوه: الأول: أنه مأخوذ من قولهم مليء بكذا إذا كان مطيقا له وقد ملؤا بالأمر، والسبب في إطلاق هذا اللفظ عليهم أنهم ملؤا بترتيب المهمات
211

وأحسنوا في تدبيرها. الثاني: أنهم وصفوا بذلك لأنهم يتمالؤون أي يتظاهرون عليه. الثالث: وصفوا بذلك لأنهم يملؤون القلوب هيبة والمجالس أبهة. الرابع: وصفوا به لأنهم ملؤوا العقول الراجحة والآراء الصائبة.
ثم حكى الله تعالى عنهم الشبهة الأولى، وهي قولهم: * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * وهو مثل ما حكى الله تعالى عن بعض العرب أنهم قالوا: * (لولا أنزل عليه ملك) * (الأنعام: 8) وهذا جهل، لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدليل والبرهان والتثبت والحجة، لا بالصورة والخلقة، بل نقول: إن الله تعالى لو بعث إلى البشر ملكا لكانت الشبهة أقوى في الطعن عليه في رسالته لأنه يخطر بالبال أن هذه المعجزات التي ظهرت لعل هذا الملك هو الذي أتى بها من عند نفسه بسبب أن قوته أكمل وقدرته أقوى، فلهذه الحكمة ما بعث الله إلى البشر رسولا إلا من البشر.
ثم حكى الشبهة الثانية وهي قوله: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) * والمراد منه قلة ما لهم وقلة جاههم ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أيضا جهل، لأن الرفعة في الدين لا تكون بالحسب والمال والمناصب العالية، بل الفقر أهون على الدين من الغنى، بل نقول: الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف تجعل قلة المال في الدنيا طعنا في النبوة والرسالة.
ثم حكى الله تعالى الشبهة الثالثة وهي قوله: * (وما نرى لكم علينا من فضل) * وهذا أيضا جهل، لأن الفضيلة المعتبرة عند الله ليست إلا بالعلم والعمل، فكيف اطلعوا
على بواطن الخلق حتى عرفوا نفي هذه الفضيلة، ثم قالوا بعد ذكر هذه الشبهات لنوح عليه السلام ومن اتبعه * (بل نظنكم كاذبين) * وفيه وجهان: الأول: أن يكون هذا خطابا مع نوح ومع قومه، والمراد منه تكذيب نوح في دعوى الرسالة. والثاني: أن يكون هذا خطابا مع الأراذل فنسبوهم إلى أنهم كذبوا في أن آمنوا به واتبعوه.
المسألة الثانية: قال الواحدي: الأرذل جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته ورجل رذل الثياب والفعل. والأراذل جمع الأرذل، كقولهم أكابر مجرميها، وقوله عليه الصلاة والسلام: " أحاسنكم أخلاقا " فعلى هذا الأراذل جمع الجمع، وقال بعضهم: الأصل فيه أن يقال: هو أرذل من كذا ثم كثر حتى قالوا: هو الأرذل فصارت الألف واللام عوضا عن الإضافة وقوله: * (بادي الرأي) * البادي هو الظاهر من قولك: بدا الشيء إذا ظهر، ومنه يقال: بادية لظهورها وبروزها للناظر، واختلفوا في بادي الرأي وذكروا فيه وجوها: الأول: اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه، والثاني: يجوز أن يكون المراد اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي وما احتاطوا في
212

ذلك الرأي وما أعطوه حقه من الفكر الصائب والتدبر الوافي. الثالث: أنهم لما وصفوا القوم بالرذالة قالوا: كونهم كذلك بادي الرأي أمر ظاهر لكل من يراهم، والرأي على هذا المعنى من رأي العين لا من رأي القلب ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه كان يقرأ * (إلا الذين هم أراذلنا بادي رأي العين) *.
المسألة الثالثة: قرأ أبو عمرو ونصير عن الكسائي * (بادئ) * بالهمزة والباقون بالياء غير مهموز فمن قرأ * (بادئ) * بالهمزة فالمعنى أول الرأي وابتداؤه ومن قرأ بالياء غير مهموز كان من بدا يبدو أي ظهر و * (بادي) * نصب على المصدر كقولك: ضربت أول الضرب.
قوله تعالى
* (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما حكى شبهات منكري نبوة نوح عليه الصلاة والسلام حكى بعده ما يكون جوابا عن تلك الشبهات.
فالشبهة الأولى: قولهم: * (ما أنت إلا بشر مثلنا) * فقال نوح حصول المساواة في البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه، فقال: * (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) * من معرفة ذات الله وصفاته وما يجب وما يمتنع وما يجوز عليه، ثم إنه تعالى أتاني رحمة من عنده، والمراد بتلك الرحمة إما النبوة وإما المعجزة الدالة على النبوة * (فعميت عليكم) * أي صارت مظنة مشتبهة ملتبسة في عقولكم، فهل أقدر على أن أجعلكم بحيث تصلون إلى معرفتها شئتم أم أبيتم؟ والمراد أني لا أقدر على ذلك البتة، وعن قتادة: والله لو استطاع نبي الله لألزمها ولكنه لم يقدر عليه، وحاصل الكلام أنهم لما قالوا: * (وما نرى لكم علينا من فضل) * (هود: 27) ذكر نوح عليه السلام أن ذلك بسبب أن الحجة عميت عليكم واشتبهت، فأما لو تركتم العناد واللجاج ونظرتم في الدليل لظهر المقصود، وتبين أن الله تعالى آتانا عليكم فضلا عظيما.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (فعميت عليكم) * بضم العين وتشديد
213

الميم على ما لم يسم فاعله، بمعنى ألبست وشبهت والباقون بفتح العين مخففة الميم، أي التبست واشتبهت.
واعلم أن الشيء إذا بقي مجهولا محضا أشبه المعمي، لأن العلم نور البصيرة الباطنة والأبصار نور البصر الظاهر فحسن جعل كل واحد منها مجازا عن الآخر وتحقيقه أن البينة توصف بالأبصار قال تعالى: * (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) * (النمل: 13) وكذلك توصف بالعمى، قال تعالى: * (فعميت عليهم الأنباء) * (القصص: 66) وقال في هذه الآية: * (فعميت عليكم) *.
المسألة الثالثة: * (أنلزمكموها) * فيه ثلاث مضمرات: ضمير المتكلم وضمير الغائب وضمير المخاطب، وأجاز الفراء إسكان الميم الأولى، وروي ذلك عن أبي عمرو قال: وذلك أن الحركات توالت فسكنت الميم وهي أيضا مرفوعة وقبلها كسرة والحركة التي بعدها ضمة ثقيلة، قال الزجاج: جميع النحوين البصريين لا يجيزون إسكان حرف الإعراب إلا في ضرورة الشعر وما يروى عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه الفراء، وروي عن سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها، وهذا هو الحق وإنما يجوز الإسكان في الشعر كقول امرئ القيس:
قوله تعالى
* (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله ومآ أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم ملاقو ربهم ولكنى أراكم قوما تجهلون * وياقوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندى خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما فى أنفسهم إنى إذا لمن الظالمين) *.
في الآية مسائل:
214

المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو الجواب عن الشبهة الثانية وهي قولهم لا يتبعك إلا الأراذل من الناس وتقرير هذا الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: " أنا لا أطلب على تبليغ دعوة الرسالة مالا حتى يتفاوت الحال بسبب كون المستجيب فقيرا أو غنيا وإنما أجري على هذه الطاعة الشاقة على رب العالمين " وإذا كان الأمر كذلك فسواء كانوا فقراء أو أغنياء لم يتفاوت الحال في ذلك.
الوجه الثاني: كأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيرا وظننتم أني إنما اشتغلت بهذه الحرفة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم
وهذا الظن منكم خطأ فإني لا أسئلكم على تبليغ الرسالة أجرا إن أجري إلا على رب العالمين فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد.
والوجه الثالث: في تقرير هذا الجواب أنهم قالوا: * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * إلى قوله: * (وما نرى لكم علينا من فضل) * (هود: 27) فهو عليه السلام بين أنه تعالى أعطاه أنواعا كثيرة توجب فضله عليهم ولذلك لم يسع في طلب الدنيا، وإنما يسعى في طلب الدين، والإعراض عن الدنيا من أمهات الفضائل باتفاق الكل، فلعل المراد تقرير حصول الفضيلة من هذا الوجه.
فأما قوله: * (وما أنا بطارد الذين آمنوا) * فهذا كالدليل على أن القوم سألوه طردهم رفعا لأنفسهم عن مشاركة أولئك الفقراء. روى ابن جريج أنهم قالوا: إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم فقال عليه الصلاة والسلام: * (وما أنا بطارد الذين آمنوا) * وقوله تعالى حكاية عنهم أنهم قالوا: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي) * (هود: 27) كالدليل على أنهم طلبوا منه طردهم لأنه كالدليل على أنهم كانوا يقولون: لو اتبعك أشراف القوم لوافقناهم، ثم إنه تعالى حكى عنه أنه ما طردهم، وذكر في بيان ما يوجب الامتناع من هذا الطرد أمورا: الأول: أنهم ملاقو ربهم وهذا الكلام يحتمل وجوها منها أنهم قالوا هم منافقون فيما أظهروا فلا تغتر بهم فأجاب بأن هذا الأمر ينكشف عند لقاء ربهم في الآخرة. ومنها أنه جعله علة في الامتناع من الطرد وأراد أنهم ملاقوا ما وعدهم ربهم، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة، ومنها أنه نبه بذلك الأمر على أنا نجتمع في الآخرة فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني، ثم بين أنهم يبنون أمرهم على الجهل بالعواقب والاغترار بالظواهر فقال * (ولكني أراكم قوما تجهلون) *.
ثم قال بعده * (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون) * والمعنى: أن العقل والشرع تطابقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر التقي ومن إهانة الفاجر الكافر، فلو قلبت القصة
215

وعكست القضية وقربت الكافر الفاجر على سبيل التعظيم، وطردت المؤمن التقي على سبيل الإهانة كنت على ضد أمر الله تعالى، وعلى عكس حكمه وكنت في هذا الحكم على ضد ما أمر الله تعالى من إيصال الثواب إلى المحقين، والعقاب إلى المبطلين وحينئذ أصير مستوجبا للعقاب العظيم فمن ذا الذي ينصرني من الله تعالى ومن الذي يخلصني من عذاب الله أفلا تذكرون فتعلمون أن ذلك لا يصح ثم أكد هذا البيان بوجه ثالث فقال: * (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) * أي كما لا أسألكم فكذلك لا أدعي أني أملك مالا ولا لي غرض في المال لا أخذا ولا دفعا، ولا أعلم الغيب حتى أصل به إلى ما أريد لنفسي ولا أتباعي ولا أقول إني ملك حتى أتعظم بذلك عليكم، بل طريقي الخضوع والتواضع ومن كان هذا شأنه وطريقه فإنه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين، ولا يطلب مجالسة الأمراء والسلاطين وإنما شأنه طلب الدين وسيرته مخالطة الخاضعين والخاشعين فلما كانت طريقتي توجب مخالطة الفقراء فكيف جعلتم ذلك عيبا علي، ثم إنه أكد هذا البيان بطريق رابع فقال: * (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم) * وهذا كالدلالة على أنهم كانوا ينسبون أتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق فقال: إني لا أقول ذلك، لأنه من باب الغيب والغيب لا يعلمه إلا الله، فربما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله ملك الآخرة فأكون كاذبا فيما أخبرت به، فإني إن فعلت ذلك كنت من الظالمين لنفسي ومن الظالمين لهم في وصفهم بأنهم لا خير لهم مع أن الله تعالى آتاهم الخير في الآخرة.
المسألة الثانية: احتج قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء وقالوا: إن الإنسان إذا قال: أنا لا أدعي كذا وكذا، فهذا إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل فلما كان قائل هذا القول هو نوح عليه السلام وجب أن تكون درجة الملائكة أعلى وأشرف من درجات الأنبياء، ثم قالوا: وكيف لا يكون الأمر كذلك والملائكة داوموا على عبادة الله تعالى طول الدنيا مذ خلقوا إلى أن تقوم الساعة، وتمام التقرير أن الفضائل الحقيقية الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء: أولها: الاستغناء المطلق وجرت العادة في الدنيا أن من ملك المال الكثير فإنه يوصف بكونه غنيا فقوله: * (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) * إشارة إلى أني لا أدعي الاستغناء المطلق وثانيها: العلم التام وإليه الإشارة بقوله: * (ولا أعلم الغيب) * وثالثها: القدرة التامة الكاملة، وقد تقرر في الخواطر أن أكمل المخلوقات في القدرة والقوة هم الملائكة وإليه الإشارة بقوله: * (ولا أقول إني ملك) * والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة بيان أن ما حصل عندي من هذه المراتب الثلاثة إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية، فأما الكمال المطلق فأنا لا أدعيه وإذا كان الأمر كذلك
216

فقد ظهر أن قوله: * (ولا أقول إني ملك) * يدل على أنهم أكمل من البشر، وأيضا يمكن جعل هذا الكلام جوابا عما ذكروه من الشبهة فإنهم طعنوا في أتباعه بالفقر فقال: * (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) * حتى أجعلهم أغنياء وطعنوا فيهم أيضا بأنهم منافقون فقال: * (ولا أعلم الغيب) * حتى أعرف كيفية باطنهم وإنما أجري الأحوال على الظواهر وطعنوا فيهم بأنهم قد يأتون بأفعال لا كما ينبغي فقال: * (ولا أقول إني ملك) * حتى أكون مبرأ عن جميع الدواعي الشهوانية والبواعث النفسانية.
المسألة الثالثة: احتج قوم بهذه الآية على صدور الذنب من الأنبياء فقالوا: إن هذه الآية دلت على أن طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي، ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم طرد فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله تعالى في قوله: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) * (الأنعام: 52) وذلك يدل على إقدام محمد صلى الله عليه وسلم على الذنب.
والجواب: يحمل الطرد المذكور في هذه الآية على الطرد المطلق على سبيل التأبيد، والطرد المذكور في واقعة محمد صلى الله عليه وسلم، على التقليل في أوقات معينة لرعاية المصالح.
المسألة الرابعة: احتج الجبائي على أنه لا تجوز الشفاعة عند الله في دفع العقاب بقول نوح عليه السلام * (من ينصرني من الله إن طردتهم) * معناه إن كان هذا الطرد
محرما فمن ذا الذي ينصرني من الله، أي من الذي يخلصني من عقابه ولو كانت الشفاعة جائزة لكانت في حق نوح عليه السلام أيضا جائزة وحينئذ يبطل قوله: * (من ينصرني من الله) * واعلم أن هذا الاستدلال يشبه استدلالهم في هذه المسألة بقوله تعالى: * (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * إلى قوله: * (ولا ينصرون) * (البقرة: 48) والجواب المذكور هناك هو الجواب عن هذا الكلام.
قوله تعالى
* (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به لله إن شآء ومآ أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله
217

يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الكفار لما أوردوا تلك الشبهة.
وأجاب نوح عليه السلام عنها بالجوابات الموافقة الصحيحة أورد الكفار على نوح كلامين: الأول: أنهم وصفوه بكثرة المجادلة فقالوا: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد أكثر في الجدال معهم، وذلك الجدال ما كان إلا في إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، وهذا يدل على أن الجدال في تقرير الدلائل وفي إزالة الشبهات حرفة الأنبياء، وعلى أن التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار. والثاني: أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به، فقالوا: * (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) * ثم إنه عليه السلام أجاب عنه بجواب صحيح فقال: * (إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين) * والمعنى أن إنزال العذاب ليس إلي وإنما هو خلق الله تعالى فيفعله إن شاء كما شاء، وإذا أراد إنزال العذاب فإن أحدا لا يعجزه، أي لا يمنعه منه، والمعجز هو الذي يفعل ما عنده لتعذر مراد الغير فيوصف بأنه أعجزه، فقوله: * (وما أنتم بمعجزين) * أي لا سبيل لكم إلى فعل ما عنده، فلا يمتنع على الله تعالى ما يشاء من العذاب إن أراد إنزاله بكم، وقد قيل معناه: وما أنتم بمانعين، وقيل: وما أنتم بمصونين، وقيل: وما أنتم بسابقين إلى الخلاص، وهذه الأقوال متقاربة.
واعلم أن نوحا عليه السلام لما أجاب عن شبهاتهم ختم الكلام بخاتمة قاطعة، فقال: * (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم) * أي إن كان الله يريد أن يغويكم فإنه لا ينفعكم نصحي البتة، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يريد الكفر من العبد، وأنه إذا أراد منه ذلك فإنه يمتنع صدور الإيمان منه، قالوا: إن نوحا عليه السلام قال: * (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) * والتقدير: لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم ويضلكم، وهذا صريح في مذهبنا، أما المعتزلة فإنهم قالوا ظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إن أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول، وهذا مسلم، فإنا نعرف أن الله تعالى لو أراد إغواء عبد فإنه لا ينفعه نصح الناصحين، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء فإن النزاع ما وقع إلا فيه، بل نقول إن نوحا عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام ليدل على أنه تعالى ما أغواهم، بل فوض الاختيار إليهم وبيانه من وجهين الأول: أنه عليه السلام بين أنه تعالى لو أراد إغوائهم لما بقي في النصح فائدة فلو لم يكن فيه فائدة لما أمره بأن ينصح الكفار، وأجمع المسلمون على أنه عليه السلام مأمور
218

بدعوة الكفار ونصيحتهم، فعلمنا أن هذا النصح غير خال عن الفائدة، وإذا لم يكن خاليا عن الفائدة وجب القطع بأنه تعالى ما أغواهم، فهذا صار حجة لنا من هذا الوجه. الثاني: أنه لو ثبت الحكم عليهم بأن الله تعالى أغواهم لصار هذا عذرا لهم في عدم إتيانهم بالإيمان ولصار نوح منقطعا في مناظرتهم، لأنهم يقولون له إنك سلمت أن الله أغوانا فإنه لا يبقى في نصحك ولا في جدنا واجتهادنا فائدة، فإذا ادعيت بأن الله تعالى قد أغوانا فقد جعلتنا معذورين فلم يلزمنا قبول هذه الدعوة، فثبت أن الأمر لو كان كما قاله الخصم، لصار هذا حجة للكفار على نوح عليه السلام، ومعلوم أن نوحا عليه السلام لا يجوز أن يذكر كلاما يصير بسببه مفحما ملزما عاجزا عن تقرير حجة الله تعالى، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية لا تدل على قول المجبرة، ثم إنهم ذكروا وجوها من التأويلات: الأول: أولئك الكفار كانوا مجبرة، وكانوا يقولون إن كفرهم بإرادة الله تعالى، فعند هذا قال نوح عليه السلام: إن نصحه لا ينفعهم إن كان الأمر كما قالوا، ومثاله أن يعاقب الرجل ولده على ذنبه فيقول الولد: لا أقدر على غير ما أنا عليه، فيقول الوالد فلن ينفعك إذا نصحي ولا زجري، وليس المراد أنه يصدقه على ما ذكره بل على وجه الإنكار لذلك. الثاني: قال الحسن معنى * (يغويكم) * أي يعذبكم، والمعنى: لا ينفعكم نصحي اليوم إذا نزل بكم العذاب فآمنتم في ذلك الوقت، لأن الإيمان عند نزول العذاب لا يقبل، وإنما ينفعكم نصحي إذا آمنتم قبل مشاهدة العذاب. الثالث: قال الجبائي: الغواية هي الخيبة من الطلب بدليل قوله تعالى: * (فسوف يلقون غيا) * (مريم: 59) أي خيبة من خير الآخرة قال الشاعر: ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
الرابع: أنه إذا أصر على الكفر وتمادى فيه منعه الله تعالى الألطاف وفوضه إلى نفسه، فهذا شبيه ما إذا أراد إغواءه فلهذا السبب حسن أن يقال إن الله تعالى أغواه هذا جملة كلمات المعتزلة في هذا الباب. والجواب عن أمثال هذه الكلمات قد ذكرناه مرارا وأطوارا فلا فائدة في الإعادة. المسألة الثانية: قوله: * (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) * جزاء معلق على شرط بعده شرط آخر وهذا يقتضي أن يكون الشرط المؤخر في اللفظ مقدما في الوجود وذلك لأن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار، كان المفهوم كون ذلك الطلاق من لوازم ذلك الدخول، فإذا ذكر بعده شرطا آخر مثل أن يقول: إن أكلت الخبز كان المعنى أن تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول مشروط بحصول هذا الشرط الثاني والشرط مقدم على المشروط في الوجود فعلى هذا إن حصل الشرط الثاني تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول إما إن
219

لم يوجد الشرط المذكور ثانيا لم يتعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول، هذا هو التحقيق في هذا التركيب، فلهذا المعنى قال الفقهاء: إن الشرط المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى، والمقدم في اللفظ مؤخر في المعنى.
واعلم أن نوحا عليه السلام لما قرر هذه المعاني قال: * (هو ربكم وإليه ترجعون) * وهذا نهاية الوعيد أي هو إلهكم الذي خلقكم ورباكم ويملك التصرف في ذواتكم وفي صفاتكم قبل الموت وعند الموت وبعد الموت مرجعكم إليه وهذا يفيد نهاية التحذير.
قوله تعالى
* (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامى وأنا برىء مما تجرمون) *.
اعلم أن معنى افتراه اختلقه وافتعله وجاء به من عند نفسه، والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم، وقوله: * (فعلي إجرامي) * الإجرام اقتراح المحظورات واكتسابها، وهذا من باب حذف المضاف، لأن المعنى: فعلي عقاب إجرامي، وفي الآية محذوف آخر وهو أن المعنى: إن كنت افتريته فعلي عقاب جرمي، وإن كنت صادقا وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه، كقوله: * (أمن هو قانت آناء الليل) * (الزمر: 9) ولم يذكر البقية، وقوله: * (وأنا بريء مما تجرمون) * أي أنا بريء من عقاب جرمكم، وأكثر المفسرين على أن هذا من بقية كلام نوح عليه السلام، وهذه الآية وقعت في قصة محمد صلى الله عليه وسلم في أثناء حكاية نوح، وقولهم بعيد جدا، وأيضا قوله: * (قل إن افتريته فعلي إجرامي) * لا يدل على أنه كان شاكا، إلا أنه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس من القبول.
* (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما جاء هذا من عند الله تعالى دعا على
220

قومه فقال: * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * (نوح: 26) وقوله: * (فلا تبتئس) * أي لا تحزن، قال أبو زيد: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، وأنشد أبو عبيدة:
ما يقسم الله أقبل غير مبتئس * به وأقعد كريما ناعم البال
أي غير حزين ولا كاره.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في القضاء والقدر وقالوا: إنه تعالى أخبر عن قومه أنهم لا يؤمنون بعد ذلك، فلو حصل إيمانهم لكان إما مع بقاء هذا الخبر صدقا، ومع بقاء هذا العلم علما أو مع انقلاب هذا الخبر كذبا ومع انقلاب هذا العلم جهلا والأول ظاهر البطلان لأن وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدم الإيمان صدقا، ومع كون العلم بعدم الإيمان حاصلا حال وجود الإيمان جمع بين النقيضين، والثاني أيضا باطل، لأن انقلاب خبر الله كذبا وعلم الله جهلا محال، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بد وأن يكون على هذين القسمين وثبت أن كل واحد منهما محال كان صدور الإيمان منهم محالا مع أنهم كانوا مأمورين به، وأيضا القوم كانوا مأمورين بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه. ومنه قوله: * (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) * (هود: 36) فيلزم أن يقال: إنهم كانوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون البتة. وذلك تكليف الجمع بين النقيضين، وتقرير هذا الكلام قد مر في هذا الكتاب مرارا وأطوارا.
المسألة الثالثة: اختلف المعتزلة في أنه هل يجوز أن ينزل الله تعالى عذاب الاستئصال على قوم كان في المعلوم أن فيهم من يؤمن أو كان في أولادهم من يؤمن، فقال قوم: إنه لا يجوز. واحتجوا بما حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال: * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * (نوح: 26، 27) وهذا يدل على أنه إنما حسن منه تعالى إنزال عذاب الاستئصال عليهم، لأجل أنه تعالى علم أنه ليس من يؤمن، ولا في أولادهم أحد يؤمن. قال القاضي وقال كثير من علمائنا: إن ذلك من الله تعالى جائز وإن كان منهم من يؤمن. وأما قول نوح عليه السلام: * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * فذلك يدل على أنه إنما سأل ذلك من حيث إنه كان في المعلوم أنهم يضلون عباده ولا يلدون إلا فاجرا كفارا وذلك يدل على أن ذلك الحكم كان قولا بمجموع هاتين العلتين، وأيضا فلا دليل فيه على أنهما لو لم يحصلا لما جاز إنزال الإهلاك، والأقرب أن يقال: إن نوحا عليه السلام لشدة محبته لإيمانهم كان سأل ربه أن يبقيهم، فأعلمه أنه لا يؤمن منهم أحد ليزول عن قلبه ما كان قد حصل
221

فيه من تلك المحبة، ولذلك قال تعالى من بعد: * (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) * أي لا تحزن من ذلك ولا تغتم ولا تظن أن في ذلك مذلة، فإن الدين عزيز، وإن قل عدد من يتمسك به، والباطل ذليل وإن كثر عدد من يقول به.
قوله تعالى
* (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون) *
قوله تعالى:
* (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) *.
واعلم أن قوله تعالى: * (إنه لن يؤمن قومك إلا من قد آمن) * يقتضي تعريف نوح عليه السلام أنه معذبهم ومهلكهم، فكان يحتمل أن يعذبهم بوجوه التعذيب، فعرفه
الله تعالى أنه يعذبهم بهذا الجنس الذي هو الغرق، ولما كان السبيل الذي به يحصل النجاة من الغرق تكوين السفينة. لا جرم أمر الله تعالى بإصلاح السفينة وإعدادها، فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر.
فإن قيل: قوله تعالى: * (واصنع الفلك) * أمر إيجاب أو أمر إباحة.
قلنا: الأظهر أنه أمر إيجاب، لأنه لا سبيل له إلى صون روح نفسه وأرواح غيره عن الهلاك إلا بهذا الطريق وصون النفس عن الهلاك واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويحتمل أن لا يكون ذلك الأمر أمر إيجاب بل كان أمر إباحة، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسان لنفسه دارا ليسكنها ويقيم بها.
أما قوله: * (بأعيننا) * فهذا لا يمكن أجراؤه على ظاهره من وجوه: أحدها: أنه يقتضي أن يكون لله تعالى أعين كثيرة. وهذا يناقض ظاهر قوله تعالى: * (ولتصنع على عيني) * وثانيها: أنه يقتضي أن يصنع نوح عليه السلام ذلك الفلك بتلك الأعين، كما يقال: قطعت بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أن ذلك باطل. وثالثها: أنه ثبت بالدلائل القطعية العقلية كونه تعالى منزها عن الأعضاء والجوارح والأجزاء والأبعاض، فوجب المصير فيه إلى التأويل، وهو من وجوه: الأول: أن معنى * (بأعيننا) * أي بعين الملك الذي كان يعرفه كيف يتخذ السفينة، يقال فلان عين على فلان نصب عليه ليكون منفحصا عن أحواله ولا تحول عنه عينه. الثاني: أن من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه، فلما كان وضع العين على الشيء سببا لمبالغة الاحتياط والعناية جعل العين كناية
222

عن الاحتياط، فلهذا قال المفسرون معناه بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك، وحاصل الكلام أن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين أحدهما: أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل. والثاني: أن يكون عالما بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه، وقوله: * (ووحينا) * إشارة إلى أنه تعالى يوحي إليه أنه كيف ينبغي عمل السفينة حتى يحصل منه المطلوب.
وأما قوله: * (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم غرقون) * ففيه وجوه: الأول: يعني لا تطلب مني تأخير العذاب عنهم فإني قد حكمت عليهم بهذا الحكم، فلما علم نوح عليه السلام ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال: * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * (نوح: 26) الثاني: * (ولا تخاطبني) * في تعجيل ذلك العقاب على الذين ظلموا، فإني لما قضيت إنزال ذلك العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعا، الثالث: المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان.
قوله تعالى
* (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) *.
أما قوله تعالى: * (ويصنع الفلك) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في قوله: * (ويصنع الفلك) * قولان: الأول: أنه حكاية حال ماضية أي في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. الثاني: التقدير وأقبل يصنع الفلك فاقتصر على قوله: * (ويصنع الفلك) *.
المسألة الثانية: ذكروا في صفة السفينة أقوالا كثيرة: فأحدها: أن نوحا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وقيل في أربع سنين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاث بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وفي البطن الأعلى جلس هو ومن كان معه مع ما احتاجوا إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام، وثانيها: قال الحسن
223

كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع.
واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها البتة ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلا وكان الخوض فيها من باب الفضول لا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجانب الصحيح والذي نعلمه إنه كان في السعة بحيث يتسع للمؤمنين من قومه ولما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان، لأن هذا القدر مذكور في القرآن، فأما غير ذلك القدر فغير مذكور.
أما قوله تعالى: * (وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه) * ففي تفسير الملأ وجهان قيل جماعة وقيل طبقة من أشرافهم وكبرائهم واختلفوا فيما لأجله كانوا يسخرون وفيه وجوه أحدهما: أنهم كانوا يقولون: يا نوح كنت تدعي رسالة الله تعالى فصرت بعد ذلك نجارا. وثانيها: أنهم كانوا يقولون له: لو كنت صادقا في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق. وثالثها: أنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها وكانوا يتعجبون منه ويسخرون. ورابعها: أن تلك السفينة كانت كبيرة وهو كان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدا وكانوا يقولون: ليس ههنا ماء ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار، فكانوا يعدون ذلك من باب السفه والجنون. وخامسها: أنه لما طالت مدته مع القوم وكان ينذرهم بالغرق وما شاهدوا من ذلك المعنى خبرا ولا أثرا غلب على ظنونهم كونه كاذبا في ذلك المقال فلما اشتغل بعمل السفينة لا جرم سخروا منه وكل هذه الوجوه محتملة.
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه كان يقول: * (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) * وفيه وجوه: الأول: التقدير إن تسخروا منا في هذه الساعة فإنا نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والخزي في الآخرة. الثاني: إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله تعالى وعذابه فأنتم أولى بالسخرية منا. الثالث: أن تستجهلونا فإنا نستجهلكم واستجهالكم أقبح وأشد، لأنكم لا تستجهلون إلا لأجل الجهل بحقيقة الأمر والاغترار بظاهر الحال كما هو عادة الأطفال والجهال.
فإن قيل: السخرية من آثار المعاصي فكيف يليق ذلك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قلنا: إنه تعالى سمى المقابلة سخرية كما في قوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40).
أما قوله تعالى: * (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه) * أي فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة، وفي قوله: * (من يأتيه) * وجهان: أحدهما: أن يكون استفهاما بمعنى أي كأنه قيل: فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب، وعلى هذا الوجه فمحل " من " رفع بالابتداء. والثاني: أن
224

يكون بمعنى الذي ويكون في محل النصب، وقوله تعالى: * (ويحل عليه عذاب مقيم) * أي يجب عليه وينزل به.
قوله تعالى
* (حتى إذا جآء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن ومآ ءامن معه إلا قليل) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف " * (حتى) * هي التي يبتدأ بعدها الكلام أدخلت على الجملة من الشرط والجزاء ووقعت غاية لقوله: * (ويصنع الفلك) * أي فكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد.
المسألة الثانية: الأمر في قوله تعالى: * (حتى إذا جاء أمرنا) * يحتمل وجهين: الأول: أنه تعالى بين أنه لا يحدث شيء إلا بأمر الله تعالى كما قال: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) فكان المراد هذا. والثاني: أن يكون المراد من الأمر ههنا هو العذاب الموعد به.
المسألة الثالثة: في التنور قولان: أحدهما: أنه التنور الذي يخبز فيه. والثاني: أنه غيره، أما الأول وهو أنه التنور الذي يخبز فيه فهو قول جماعة عظيمة من المفسرين كابن عباس والحسن ومجاهد. وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من قال: إنه تنور لنوح عليه السلام، وقيل: كان لآدم قال الحسن: كان تنورا من حجارة، وكان لحواء حتى صار لنوح عليه السلام، واختلفوا في موضعه فقال الشعبي: إنه كان بناحية الكوفة، وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة، قال: وقد صلى فيه سبعون نبيا، وقيل بالشام بموضع يقال له: عين وردان وهو قول مقاتل وقيل: فار التنور بالهند، وقيل: إن امرأته كانت تخبز في ذلك التنور فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في الحال بوضع تلك الأشياء في السفينة.
القول الثاني: ليس المراد من التنور تنور الخبز، وعلى هذا التقدير ففيه أقوال: الأول: أنه انفجر الماء من وجه الأرض كما قال: * (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) * والعرب تسمي وجه الأرض تنورا. الثاني: أن التنور أشرف موضع في الأرض وأعلى مكان فيها وقد أخرج إليه الماء من ذلك الموضع ليكون ذلك معجزة له، وأيضا
225

المعنى أنه لما نبع الماء من أعالي الأرض، ومن الأمكنة المرتفعة فشبهت لارتفاعها بالتنانير. الثالث: * (فار التنور) * أي طلع الصبح وهو منقول عن علي رضي الله عنه. الرابع: * (فار التنور) * يحتمل أن يكون معناه أشد الأمر كما يقال: حمي الوطيس ومعنى الآية إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فانج بنفسك ومن معك إلى السفينة.
فإن قيل: فما الأصح من هذه أقوال؟
قلنا: الأصل حمل الكلام على حقيقته ولفظ التنور حقيقة في الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه ولا امتناع في العقل في أن يقال: إن الماء نبع أولا من موضع معين وكان ذلك الموضع تنورا.
فإن قيل: ذكر التنور بالألف واللام وهذا إنما يكون معهود سابق معين معلوم عند السامع وليس في الأرض تنور هذا شأنه، فوجب أن يحمل ذلك على أن المراد إذا رأيت الماء يشتد نبوعه والأمر يقوى فانج بنفسك وبمن معك.
قلنا: لا يبعد أن يقال: إن ذلك التنور كان لنوح عليه السلام بأن كان تنور آدم أو حواء أو كان تنورا عينه الله تعالى لنوح عليه السلام وعرفه أنك إذا رأيت الماء يفور فاعلم أن الأمر قد وقع، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى صرف الكلام عن ظاهره.
المسألة الرابعة: معنى * (فار) * نبع على قوة وشدة تشبيها بغليان القدر عند قوة النار ولا شبهة في أن نفس التنور لا يفور فالمراد فار الماء من التنور، والذي روى أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة، وقد وعد الله تعالى المؤمنين النجاة فلا بد وأن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين، فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة.
المسألة الخامسة: قال الليث: التنور لفظة عمت بكل لسان وصاحبه تنار، قال الأزهري: وهذا يدل على أن الاسم قد يكون أعجميا فتعربه العرب فيصير عربيا، والدليل على ذلك أن الأصل تنار ولا يعرف في كلام العرب تنور قبل هذا، ونظيره ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الديباج والدينار والسندس والاستبرق فإن العرب لما تكلموا بهذه الألفاظ صارت عربية.
واعلم أنه لما فار التنور فعند ذلك أمره الله تعالى بأن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء. فالأول: قوله: * (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) * قال الأخفش: تقول الاثنان هما زوجان قال تعالى: * (ومن كل شيء خلقنا زوجين) * (الذاريات: 49) فالسماء زوج والأرض زوج والشتاء زوج والصيف زوج والنهار زوج والليل زوج، وتقول للمرأة هي زوج وهو زوجها قال تعالى: * (وخلق منها زوجها) * (النساء: 1)
226

يعني المرأة، وقال: * (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى) * (النجم: 45) فثبت أن الواحد قد يقال له: زوج ومما يدل على ذلك قوله تعالى: * (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) * (الأنعام: 143).
إذا عرفت هذا فنقول: الزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكرا والآخر أنثى والتقدير كل شيئين هما كذلك فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر والآخر أنثى، ولذلك قرأ حفص * (من كل) * بالتنوين وأرادوا حمل من كل شيء زوجين اثنين الذكر زوج والأنثى زوج لا يقال عليه إن الزوجين لا يكونان إلا اثنين فما الفائدة في قوله: * (زوجين اثنين) * لأنا نقول هذا على مثال قوله: * (لا تتخذوا إلهين اثنين) * (النحل: 51) وقوله: * (نفخة واحدة) * (الحاقة: 13) وأما على القراءة المشهورة، فهذا السؤال غير وارد واختلفوا في أنه هل دخل في قوله: * (زوجين اثنين) * غير الحيوان أم لا؟ فنقول: أما الحيوان فداخل لأن قوله: * (من كل زوجين اثنين) * يدخل فيه كل الحيوانات، وأما النبات فاللفظ لا يدل عليه، إلا أنه بحسب قرينة الحال لا يبعد بسبب أن الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه، وجاء في الروايات عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال: لم يستطع نوح عليه السلام أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى وذلك أن نوحا عليه السلام قال: يا رب فمن أين أطعم الأسد إذا حملته قال تعالى: " فسوف أشغله عن الطعام " فسلط الله تعالى عليه الحمى وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها، فإن حاجة الفيل إلى الطعام أكثر وليس به حمى. الثاني: من الأشياء التي أمر الله نوحا عليه السلام بحملها في السفينة.
قوله تعالى: * (وأهلك إلا من سبق عليه القول) * قالوا: كانوا سبعة نوح عليه السلام وثلاثة أبناء له وهم سام وحام ويافث، ولكل واحد منهم زوجة، وقيل أيضا كانوا ثمانية، هؤلاء وزوجة نوح عليه السلام.
وأما قوله: * (إلا من سبق عليه القول) * فالمراد ابنه وامرأته وكانا كافرين، حكم الله تعالى عليهم بالهلاك.
فإن قيل: الإنسان أشرف من جميع الحيوانات فما السبب أنه وقع الابتداء بذكر الحيوانات؟
قلنا: الإنسان عاقل وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه، فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب، بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات، فلهذا السبب وقع الابتداء به.
واعلم أن أصحابنا احتجوا بقوله: * (إلا من سبق عليه القول) * في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب، قالوا: لأن قوله: * (سبق عليه القول) * مشعر بأن كل من سبق عليه القول فإنه لا يتغير عن حاله وهو كقوله عليه الصلاة والسلام: " السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه ".
227

النوع الثالث: من تلك الأشياء قوله: * (ومن آمن) * قالوا كانوا ثمانين. قال مقاتل: في ناحية الموصل قرية يقال لها قرية الثمانين سميت بذلك، لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها، فسميت بهذا الاسم وذكروا ما هو أزيد منه وما هو أنقص منه وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا أن الله تعالى وصفهم بالقلة وهو قوله تعالى: * (وما آمن معه إلا قليل) *.
فإن قيل: لما كان الذين آمنوا معه ودخلوا في السفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله: * (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) * (الشعراء: 54).
قلنا: كلا اللفظين جائز، والتقدير ههنا وما آمن معه إلا نفر قليل، فأما الذي يروي أن إبليس دخل السفينة فبعيد، لأنه من الجن وهو جسم ناري أو هوائي وكيف يؤثر الغرق فيه، وأيضا كتاب الله تعالى لم يدل عليه وخبر صحيح ما ورد فيه، فالأولى ترك الخوض فيه.
قوله تعالى
* (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم) *.
أما قوله: * (وقال) * يعني نوح عليه السلام لقومه: * (اركبوا) * والركوب العلو على ظهر الشيء ومنه ركوب الدابة وركوب السفينة وركوب البحر وكل شيء علا شيئا فقد ركبه، يقال ركبه الدين قال الليث: وتسمي العرب من يركب السفينة راكب السفينة. وأما الركبان والركب من ركبوا الدواب والإبل. قال الواحدي: ولفظة (في) في قوله: * (اركبوا فيها) * لا يجوز أن تكون من صلة الركوب، لأنه يقال ركبت السفينة ولا يقال ركبت في السفينة، بل الوجه أن يقال مفعول اركبوا محذوف والتقدير اركبوا الماء في السفينة، وأيضا يجوز أن يكون فائدة هذه الزيادة، أنه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال اركبوها: لتوهموا أنه أمرهم أن يكونوا على ظهر السفينة.
أما قوله تعالى: * (بسم الله مجريها ومرساها) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم مجريها بفتح الميم والباقون بضم الميم واتفقوا في مرساها أنه بضم الميم، وقال صاحب " الكشاف ": قرأ مجاهد * (مجريها ومرسيها) * بلفظ اسم الفاعل مجروري المحل صفتين لله تعالى. قال الواحدي: المجرى مصدر كالإجراء، ومثله قوله: * (منزلا مباركا) * (المؤمنون: 29) * (أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) * (الإسراء: 80) وأما من قرأ * (مجريها) * بفتح الميم، فهو أيضا مصدر، مثل الجري. واحتج صاحب هذه القراءة بقوله: * (وهي تجري بهم) * (هود: 42) ولو كان مجراها لكان وهي تجريهم، وحجة من ضم الميم أن جرت بهم وأجرتهم يتقاربان في المعنى، فإذا قال: * (تجري
228

بهم) * فكأنه قال: تجريهم، وأما المرسي فهو أيضا مصدر كالإرساء. يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غيره، قال تعالى: * (والجبال أرساها) * (النازعات: 32) قال ابن عباس: يريد تجري بسم الله وقدرته، وترسو بسم الله وقدرته، وقيل: كان إذا أراد أن تجري بهم قال: * (بسم الله مجريها) * فتجري،
وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله مرساها فترسو.
المسألة الثانية: ذكروا في عامل الإعراب في * (بسم الله) * وجوها: الأول: اركبوا بسم الله، والثاني: ابدؤا بسم الله، والثالث: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، وقيل: إنها سارت لأول يوم من رجب، وقيل: لعشر مضين من رجب، فصارت ستة أشهر، واستوت يوم العاشر من المحرم على الجودي.
المسألة الثالثة: في الآية احتمالان:
الاحتمال الأول: أن يكون مجموع قوله: * (وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها) * كلاما واحدا، والتقدير: وقال اركبوا فيها بسم مجريها ومرساها، يعني ينبغي أن يكون الركوب مقرونا بهذا الذكر.
والاحتمال الثاني: أن يكونا كلامين، والتقدير: أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجريها ومرساها ليس إلا بسم الله وأمره وقدرته.
فالمعنى الأول: يشير إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يشرع في أمر من الأمور إلا ويكون في وقت الشروع فيه ذاكرا لاسم الله تعالى بالأذكار المقدسة حتى يكون ببركة ذلك الذكر سببا لتمام ذلك المقصود.
والمعنى الثاني: يدل على أنه لما ركب السفينة أخبر القوم بأن السفينة ليست سببا لحصول النجاة بل الواجب ربط الهمة وتعليق القلب بفضل الله تعالى، وأخبرهم أنه تعالى هو المجري والمرسي للسفينة، فإياكم أن تعولوا على السفينة، بل يجب أن يكون تعويلكم على فضل الله فإنه هو المجري والمرسي لها، فعلى التقدير الأول كان نوح عليه السلام وقت ركوب السفينة في مقام الذكر، وعلى التقدير الثاني كان في مقام الفكر والبراءة عن الحول والقوة وقطع النظر عن الأسباب واستغراق القلب في نور جلال مسبب الأسباب.
واعلم أن الإنسان إذا تفكر في طلب معرفة الله تعالى بالدليل والحجة فكأنه جلس في سفينة التفكر والتدبر، وأمواج الظلمات والضلالات قد علت تلك الجبال وارتفعت إلى مصاعد القلال، فإذا ابتدأت سفينة الفكرة والروية بالحركة وجب أن يكون هناك اعتماده على الله تعالى وتضرعه
229

إلى الله تعالى وأن يكون بلسان القلب ونظر العقل. يقول: بسم الله مجريها ومرساها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل النجاة وتتخلص عن أمواج الضلالات.
وأما قوله: * (إن ربي لغفور رحيم) * ففيه سؤال وهو أن ذلك الوقت وقت الإهلاك وإظهار القهر فكيف يليق به هذا الذكر؟
وجوابه: لعل القوم الذين ركبوا السفينة اعتقدوا في أنفسهم أنا إنما نجونا ببركة علمنا فالله تعالى نبههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب منهم، فإن الإنسان لا ينفك عن أنواع الزلات وظلمات الشهوات، وفي جميع الأحوال فهو محتاج إلى إعانة الله وفضله وإحسانه، وأن يكون رحيما لعقوبته غفورا لذنوبه.
قوله تعالى
* (وهى تجرى بهم فى موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان فى معزل يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوى إلى جبل يعصمنى من المآء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) *.
واعلم أن قوله: * (وهي تجري بهم في موج كالجبال) * مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وهي تجري بهم في موج) * متعلق بمحذوف، والتقدير: وقال اركبوا فيها، فركبوا فيها يقولون: بسم الله وهي تجري بهم في موج كالجبال.
المسألة الثانية: الأمواج العظيمة إنما تحدث عند حصول الرياح القوية الشديدة العاصفة فهذا يدل على أنه حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة شديدة، والمقصود منه: بيان شدة الهول والفزع.
المسألة الثالثة: الجريان في الموج، هو أن تجري السفينة داخل الموج، وذلك يوجب الغرق،
230

فالمراد أن الأمواج لما أحاطت بالسفينة من الجوانب، شبهت تلك السفينة بما إذا جرت في داخل تلك الأمواج.
ثم حكى الله تعالى عنه أنه نادى ابنه، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أنه كان ابنا له، وفيه أقوال:
القول الأول: أنه ابنه في الحقيقة، والدليل عليه: أنه تعالى نص عليه فقال: * (ونادى نوح ابنه) * ونوح أيضا نص عليه فقال: * (يا بني) * وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز، والذين خالفوا هذا الظاهر إنما خالفوه لأنهم استبعدوا أن يكون ولد الرسول المعصوم كافرا، وهذا بعيد، فإنه ثبت أن والد رسولنا صلى الله عليه وسلم كان كافرا، ووالد إبراهيم عليه السلام كان كافرا بنص القرآن، فكذلك ههنا، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام لما قال: * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * (نوح: 26) فكيف ناداه مع كفره؟
فأجابوا عنه من وجوه: الأول: أنه كان ينافق أباه فظن نوح أنه مؤمن فلذلك ناداه ولولا ذلك لما أحب نجاته. والثاني: أنه عليه السلام كان يعلم أنه كافر، لكنه ظن أنه لما شاهد الغرق والأهوال العظيمة فإنه يقبل الإيمان فصار قوله: * (يا بني اركب معنا) * كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان وتأكد هذا بقوله: * (ولا تكن مع الكافرين) * أي تابعهم في الكفر واركب معنا. والثالث: أن شفقة الأبوة لعلها حملته على ذلك النداء، والذي تقدم من قوله: * (إلا من سبق عليه القول) * كان كالمجمل فلعله عليه السلام جوز أن لا يكون هو داخلا فيه.
القول الثاني: أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر وقول الحسن البصري ويروى أن عليا رضي الله عنه قرأ * (ونادى نوح ابنها) * والضمير لامرأته. وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير * (ابنه) * بفتح الهاء يريد أن ابنها إلا أنهما اكتفيا بالفتحة عن الألف، وقال قتادة سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه فقلت: إن الله حكى عنه أنه قال: * (إن ابني من أهلي) * وأنت تقول: ما كان ابنا له، فقال: لم يقل: إنه مني ولكنه قال من أهلي وهذا يدل على قولي.
القول الثالث: أنه ولد على فراشه لغير رشدة، والقائلون بهذا القول احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط فخانتاهما وهذا قول خبيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لا سيما وهو على خلاف نص القرآن. أما قوله تعالى * (فخانتاهما) * فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه. قبل لابن عباس رضي الله عنهما: ما كانت تلك الخيانة، فقال:
231

كانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به. ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب قوله تعالى: * (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) * (النور: 26) وأيضا قوله تعالى: * (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) * (النور: 3) وبالجملة فقد دللنا على أن الحق هو مقول الأول.
وأما قوله: * (وكان في معزل) * فاعلم أن المعزل في اللغة معناه: موضع منقطع عن غيره، وأصله من العزل، وهو التنحية والإبعاد. تقول: كنت بمعزل عن كذا، أي بموضع قد عزل منه.
واعلم أن قوله: * (وكان في معزل) * لا يدل على أنه في معزل من أي شيء فلهذا السبب ذكروا وجوها: الأول: أنه كان في معزل من السفينة لأنه كان يظن أن الجبل يمنعه من الغرق: الثاني: أنه كان في معزل عن أبيه وإخوته وقومه: الثالث: أنه كان في معزل من الكفار كأنه انفرد عنهم فظن نوح عليه السلام أن ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم.
أما قوله: * (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) * فنقول: قرأ حفص عن عاصم * (يا بني) * بفتح الياء في جميع القرآن والباقون بالكسر. قال أبو علي: الوجه الكسر وذلك أن اللام من ابن ياء أو واو فإذا صغرت ألحقت ياء التحقير، فلزم أن ترد اللام المحذوفة وإلا لزم أن تحرك ياء التحقير بحركات الإعراب لكنها لا تحرك لأنها لو حركت لزم أن تنقلب كما تنقلب سائر حروف المد واللين إذا كانت حروف إعراب، نحو عصا وقفا ولو انقلبت بطلت دلالتها على التحقير ثم أضفت إلى نفسك اجتمعت ثلاث آيات. الأولى: منها للتحقير. والثانية: لام الفعل. والثالثة: التي للإضافة تقول: هذا بني فإذا ناديته صار فيه وجهان: إثبات الياء وحذفها والاختيار حذف الياء التي للإضافة وإبقاء الكسرة دلالة عليه نحو يا غلام ومن قرأ * (يا بني) * بفتح الياء فإنه أراد الإضافة أيضا كما أرادها من قرأ بالكسر لكنه أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف تخفيفا فصار يا بنيا كما قال: يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
ثم حذف الألف للتخفيف.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعاه إلى أن يركب السفينة حكى عن ابنه أنه قال: * (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) * وهذا يدل على أن الابن كان متماديا في الكفر مصرا عليه مكذبا لأبيه فيما أخبر عنه فعند هذا قال نوح عليه السلام: * (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) * وفيه سؤال، وهو أن الذي رحمه الله معصوم، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم وهو قوله: * (لا عاصم اليوم من أمر الله) * وذكروا في الجواب طرقا كثيرة.
232

الوجه الأول: أنه تعالى قال قبل هذه الآية: * (وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم) * (هود: 41) فبين أنه تعالى رحيم وأنه برحمته يخلص هؤلاء الذين ركبوا السفينة من آفة الغرق.
إذا عرفت هذا فنقول: إن ابن نوح عليه السلام لما قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح عليه السلام أخطأت * (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) * والمعنى: إلا ذلك الذي ذكرت أنه برحمته يخلص هؤلاء من الغرق فصار تقدير الآية: لا عاصم اليوم من عذاب الله إلا الله الرحيم وتقديره: لا فرار من الله إلا إلى الله، وهو نظير قوله عليه السلام في دعائه: " وأعوذ بك منك " وهذا تأويل في غاية الحسن.
الوجه الثاني: في التأويل وهو الذي ذكره صاحب " حل العقد " أن هذا الاستثناء وقع من مضمر هو في حكم الملفوظ لظهور دلالة اللفظ عليه، والتقدير: لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا من رحم وهو كقولك لا نضرب اليوم إلا زيدا، فإن تقديره لا تضرب أحدا إلا زيدا إلا أنه ترك التصريح به لدلالة اللفظ عليه فكذا ههنا.
الوجه الثالث: في التأويل أن قوله: * (لا عاصم) * أي لاذا عصمة كما قالوا: رامح ولابن ومعناه ذو رمح، وذو لبن وقال تعالى: * (من ماء دافق) * (الطارق: 6) و * (عيشة راضية) * (الحاقة: 21) ومعناه ما ذكرنا فكذا ههنا، وعلى هذا التقدير: العاصم هو ذو العصمة، فيدخل فيه المعصوم، وحينئذ يصح استثناء قوله: * (إلا من رحم) * منه.
الوجه الرابع: قوله: * (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) * عنى بقوله إلا من رحم نفسه، لأن نوحا وطائفته هم الذين خصهم الله تعالى برحمته، والمراد: لا عاصم لك إلا الله بمعنى أن بسببه تحصل رحمة الله، كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام في قوله: * (وأحيي الموتى) * (آل عمران: 49) لأجل أن الإحياء حصل بدعائه.
الوجه الخامس: أن قوله: * (إلا من رحم) * استثناء منقطع، والمعنى لكن من رحم الله معصوم ونظيره قوله تعالى: * (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) * (النساء: 157) ثم إنه تعالى بين بقوله: * (وحال بينهم الموج) * أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح * (فكان من المغرقين) *.
قوله تعالى
* (وقيل يا أرض ابلعى مآءك ويا سمآء أقلعى وغيض المآء وقضى الامر واستوت
233

على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين) *.
اعلم أن المقصود من هذا الكلام وصف آخر لواقعة الطوفان، فكان التقدير أنه لما انتهى أمر الطوفان قيل كذا وكذا * (يا أرض ابلعي ماءك) * يقال بلع الماء يبلعه بلعا إذا شربه وابتلع الطعام ابتلاعا إذا لم يمضغه، وقال أهل اللغة: الفصيح بلع بكسر اللام يبلع بفتحها * (ويا سماء أقلعي) * يقال أقلع الرجل عن عمله إذا كف عنه، وأقلعت السماء بعدما مطرت إذا أمسكت * (وغيض الماء) * يقال غاض الماء يغيض غيضا ومغاضا إذا نقص وغضته أنا وهذا من باب فعل الشيء وفعلته أنا ومثله جبر العظم وجبرته وفغر الفم وفغرته، ودلع اللسان ودلعته، ونقص الشيء ونقصته، فقوله: * (وغيض الماء) * أي نقص وما بقي منه شيء.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ كثيرة كل واحد منها دال على عظمة الله تعالى وعلو كبريائه: فأولها: قوله: * (وقيل) * وذلك لأن هذا يدل على أنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة، بحيث أنه متى قيل قيل لم ينصرف العقل إلا إليه ولم يتوجه الفكر إلا إلى أن ذلك القائل هو هو وهذا تنبيه من هذا الوجه، على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والعالم السفلي إلا هو. وثانيها: قوله: * (يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) * فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام وشدتها وقوتها فإذا شعر العقل بوجود موجود قاهر لهذه الأجسام مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد، صار ذلك سببا لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلو قهره، وكمال قدرته ومشيئته. وثالثها: أن السماء والأرض من الجمادات فقوله: * (يا أرض - ويا سماء) * مشعر بحسب الظاهر، على أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات فعند هذا يحكم الوهم بأنه لما كان الأمر كذلك فلأن يكون أمره نافذا على العقلاء كان أولى وليس مرادي منه أنه تعالى يأمر الجمادات فإن ذلك باطل بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم نوع عظمته وجلاله تقريرا كاملا.
وأما قوله: * (وقضي الأمر) * فالمراد أن الذي قضى به وقدره في الأزل قضاء جزما حتما فقد وقع تنبيها على أن كل ما قضى الله تعالى فهو واقع في وقته وأنه لا دافع لقضائه ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه.
فإن قيل: كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يغرق الأطفال بسبب جرم الكفار؟
234

قلنا: الجواب عنه من وجهين: الأول: أن كثيرا من المفسرين يقولون إن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ سنه إلى الأربعين.
ولقائل أن يقول: لو كان الأمر على ما ذكرتم، لكان ذلك آية عجيبة قاهرة. ويبعد مع ظهورها استمرارهم على الكفر، وأيضا فهب أنكم ذكرتم ما ذكرتم فما قولكم في إهلاك الطير والوحش مع أنه لا تكليف عليها البتة.
والجواب الثاني: وهو الحق أنه لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * (الأنبياء: 23) وأما المعتزلة فهم يقولون إنه تعالى أغرق الأطفال والحيوانات، وذلك يجري مجرى إذنه تعالى في ذبح هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة الشديدة.
وأما قوله تعالى: * (واستوت على الجودي) * فالمعنى واستوت السفينة على جبل بالجزيرة يقال له الجودي، وكان ذلك الجبل جبلا منخفضا، فكان استواء السفينة عليه دليلا على انقطاع مادة ذلك الماء وكان ذلك الاستواء يوم عاشوراء.
وأما قوله تعالى: * (وقيل بعدا للقوم الظالمين) * ففيه وجهان: الأول: أنه من كلام الله تعالى قال لهم ذلك على سبيل اللعن والطرد. والثاني: أن يكون ذلك من كلام نوح عليه السلام وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق.
235