الكتاب: تفسير الثعلبي
المؤلف: الثعلبي
الجزء: ١
الوفاة: ٤٢٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور ، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠٢م
المطبعة: بيروت - لبنان - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

تفسير فاتحة الكتاب
[أسماؤها]
أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان وأخبرنا محمد بن أحمد بن عبدوس أخبرنا محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى حدثنا الفضل بن محمد بن المسيب حدثنا خلف بن هشام حدثنا محمد بن حسان عن المعافي ابن عمران عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله رب العالمين سبع آيات أولهن (بسم الله الرحمن الرحيم) وهي السبع المثاني وهي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب)). نزولها:
واختلفوا في نزولها؛ أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر قراءة أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمود بن عبد الله المروزي قال: حدثنا عبد الله بن محمود السعدي حدثنا أبو يحيى القصري حدثنا مروان بن معاوية عن الولاء بن المسيب عن الفضل بن عمرو عن علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: ((نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش)). وعلى هذا أكثر العلماء.
يدل عليه ما أخبرنا الحسن بن محمد بن جعفر حدثنا محمد بن محمود حدثنا أبو لبابة محمد بن مهدي حدثنا أبي عن صدقة بن عبد الرحمن عن روح بن القاسم [العبري] عن عمر ابن شرحبيل قال: إن أول ما نزل من القرآن * (الحمد لله رب العالمين) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى خديجة (رض) وقال: ((لقد خشيت أن يكون خالطني شيء)). فقالت: وما ذاك؟ قال: ((إني إذا خلوت سمعت النداء فأفر)) قال: فانطلق به أبو بكر إلى ورقة بن نوفل فقال له ورقة: إذا أتاك فاجث له. فأتاه جبريل فقال له: ((قل * (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين) *.
89

وحدثنا الحسن بن جعفر حدثنا محمد بن محمود حدثنا عمرو بن صالح عن ابن عباس حدثنا أبي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقال: * (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين) *. فقالت قريش: دق الله فاك.
وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب حدثنا أبو زيد حدثنا أبو حاتم بن محبوب الشامي أخبرنا عبد الجبار العلاء عن معن عن منصور عن مجاهد قال: ((فاتحة الكتاب أنزلت في المدينة)).
وقال الحسن بن الفضل: لكل عالم هفوة وهذه منكرة من مجاهد لأنه تفرد بها والعلماء على خلافه وصح الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب أنها من: أول ما نزل من القرآن)) وأنها: ((السبع المثاني)) وسورة الحجر مكية بلا اختلاف. ومعلوم أن الله تعالى لم يمتن عليه بإتيانه السبع المثاني وهو بمكة ثم أنزلها بالمدينة ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بمكة يصلي عشر [سنوات] بلا فاتحة الكتاب هذا مما لا تقبله العقول.
قال الأستاذ: وقلت: قال بعض العلماء وقد لفق بين هذين القولين: أنها مكية ومدنية نزل بها جبرئيل مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة حين حلها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما وتفضيلا لهذه السورة على ما سواها ولذلك سميت مثاني والله أعلم.
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي الفرات أخبرنا أبو موسى عمران بن موسى حدثنا جعفر ابن محمد بن سوار أخبرنا أحمد بن نصر أخبرنا سعيد بن منصور حدثنا سلام عن زيد العمي عن ابن سيرين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فاتحة الكتاب شفاء من السم)).
وأخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أيوب حدثنا أبو عبد الله محمد بن صاحب حدثنا المأمون بن أحمد حدثنا أحمد بن عبد الله حدثنا أبو معاوية الضرير عن أبي مالك الأشجعي عن ابن حمران عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرا صبي من صبيانهم في الكتاب: ((الحمد لله رب العالمين)) فيسمعه الله عز وجل فيرفع عنهم ذلك العذاب أربعين سنة)).
90

وحدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن هاني حدثنا الحسين بن الفضل حدثنا عفان بن مسلم الصفار عن الربيع بن صبيح عن الحسن قال: أنزل الله عز وجل مائة وأربعة كتب من السماء أودع علومها أربعة: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم هذه الأربعة الفرقان ثم أودع علوم القرآن المفصل ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب. فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. في فضل التسمية
حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا جعفر بن محمد بن صالح وحدثنا محمد بن القاسم الفارسي حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الشيباني أخبرنا أحمد بن كامل بن خلف حدثنا علي بن حماد بن السكن أخبرنا أحمد بن عبد الله الهروي حسام بن سليمان المخزومي عن أبي مليكة عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلمون؛ فكلما خلق الدين جددوه. أعطوهم ولا تستأجروهم فتحرجوهم فإن المعلم إذا قال للصبي: قل: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فقال الصبي: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * كتب الله براءة للصبي وبراءة لأبويه وبراءة للمعلم من النار)).
وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل المولى أخبرنا أبو علي الأسفرائيني الحافظ حدثنا ابن الحسن البصري حدثنا محمد بن مروان أبو جعفر حدثنا أبي: حدثنا عمر بن ذر عن عطاء عن جابر قال: (لما نزلت * (بسم الله الرحمن الرحيم) * هرب الغيم إلى المشرق وسكنت الرياح وهاج البحر وأصغت البهائم بآذانها ورجمت الشياطين من السماء وحلف الله بعزته أن لا يسمى اسمه على شيء إلا شفاه ولا يسمى اسمه على شيء إلا بارك عليه ومن قرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * دخل الجنة).
وأخبرنا الحسن بن محمد بن الحسن حدثنا محمد بن محمد بن الحسن أخبرنا الحسن ابن علي بن نصر حدثنا عبد الله بن هاشم أخبرنا وكيع بن الجراح عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: (من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فإنها تسعة عشر حرفا ليجعل الله له بكل حرف منها جنة من كل واحد)
91

التفسير وبالله التوفيق
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
إعلم أن هذه الباء زائدة وهي تسمى باء التضمين أو باء الإلصاق كقولك: كتبت بالقلم فالكتابة لاصقة بالقلم. وهي مكسورة أبدا؛ والعلة في ذلك أن الباء حرف ناقص ممال. والإمالة من دلائل الكسر قال سيبويه: لما لم يكن للباء عمل إلا الكسر كسرت.
وقال المبرد: العلة في كسرها ردها إلى الأصل ألا ترى إذا أخبرت عن نفسك فإنك قلت: بيبيت فرددتها إلى الياء والياء أخت الكسرة كما أن الواو أخت الضمة والألف أخت الفتحة وهي خافضة لما بعدها فلذلك كسرت ميم الاسم.
وطولت هاهنا وشبهت بالألف واللام؛ لأنهم لم يريدوا أن يفتتحوا كتاب الله إلا بحرف مفخم معظم. قاله القيسي.
قال: وكان عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) يقول لكتابه: (طولوا الباء وأظهروا السين وفرجوا بينهما ودوروا الميم تعظيما لكلام الله تعالى).
وقال أبو.... خالد بن يزيد المرادي: العلة فيها إسقاط الألف من الاسم فلما أسقطوا الألف ردوا طول الألف إلى الباء ليكون دالا على سقوط الألف منها. ألا ترى أنهم لما كتبوا: * (اقرأ باسم ربك) * بالألف ردوا الباء إلى صيغتها فإنما حذفوا الألف من (اسم) هنا فالكثرة دورها على الألسن عملا بالخفة ولما لم يكثر أضرابها كثرتها أثبتوا الألف بها.
وفي الكلام إضمار واختصار تقديره: قل أو ابدأ بسم الله.
وقال آدم: الاسم فيه صلة مجازة: بالله الرحمن الرحيم هو واحتجوا بقول لبيد:
* تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما
* وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
*
* إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
* ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
*
92

أي ثم السلام عليكما.
ومعناه: بالله تكونت الموجودات وبه قامت المخلوقات. وأدخلوا الاسم فيه ليكون فرقا بين المتيمن والمتيمن به. فأما معنى الاسم فهو المسمى وحقيقة الموجود وذات الشيء وعينه ونفسه واسمه وكلها تفيد معنى واحدا. والدليل على أن الاسم عين المسمى قوله تعالى: * (إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى) * فأخبر أن اسمه يحيى ثم نادى الاسم وخاطبه فقال: * (يا يحيى) *. فيحيى هو الاسم والاسم هو يحيى.
وقوله تعالى: * (وما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها) * وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسميات.
وقوله تعالى: * (سبح اسم ربك الأعلى) * و * (تبارك اسم ربك) *
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلى الله عليه وسلم لتضربن مضر عباد الله حتى لا يعبد له اسم)) أي حتى لا يعبد هو.
ثم يقال: رأينا للتسمية اسم واستعمالها في التسمية أشهر وأكثر من استعمالها في المسمى ولعل الاسم أشهر وجمعه: أسماء مثل قنو وأقناء وحنو وأحناء فحذفت الواو للاستثقال ونقلت حركة الواو إلى الميم فأعربت الميم ونقل سكون الميم إلى السين فسكنت ثم أدخلت ألف مهموزة لسكون السين؛ لأجل الابتداء يدلك عليه التصغير والتصريف يقال: سمي وسمية؛ لأن كل ما سقط في التصغير والتصريف فهو غير أصلي. واشتقاقه من (سما) (يسمو) فكأن المخبر عنه بأنه معدوم ما دام معدوما فهو في درجة يرتفع عنها إذ وجد ويعلو بدرجة وجوده على درجة عدمه. والاسم الذي هو العبارة والتسمية للمخبر والصفة للمنظر. وأصل الصفة ظهور الشيء وبروزه والله أعلم.
فأما ما ورد في تفسيرها بتفصيلها فكثير ذكرت جل أقاويلها في حديث وحكاية.
أخبرنا الأستاذ أبو القاسم بن محمد بن الحسن المفسر حدثنا أبو الطيب محمد بن أحمد ابن حمدون المذكر أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد بن يزيد حدثنا أحمد بن هشام الأنطاكي حدثنا الحكم بن نافع عن إسماعيل بن عباس عن إسماعيل عن يحيى عن أبي مليكة عن مسعود بن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عيسى بن
93

مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليتعلم فقال له المعلم: قل باسم الله. قال عيسى: وما باسم الله؟ فقال له المعلم: ما أدري. قال: الباء: بهاء الله والسين: سناء الله والميم: مملكة الله)).
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا إسحاق بن ميثم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو يقول: سمعت أبا عبد الله ختن أبي بكر الوراق يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عمر الوراق يقول في (بسم الله): إنها روضة من رياض الجنة لكل حرف منها تفسير على حدة:
فالباء على ستة أوجه:
بارىء خلقه من العرش إلى الثرى ببيان قوله:
* (إنه هو البر الرحيم) *
بصير بعباده من العرش إلى الثري بيانه: * (إنه على كل شيء بصير).
باسط الرزق من العرش إلى الثري بيانه: * (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) *.
وباق بعد فناء خلقه من العرش إلى الثري: بيانه: * (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) *.
باعث الخلق بعد الموت للثواب والعقاب بيانه: * (وأن الله يبعث من في القبور) *.
بار بالمؤمنين من العرش إلى الثرى بيانه قوله: * (أنه هو البر الرحيم) *
والسين على خمسة أوجه:
سميع لأصوات خلقه من العرش إلى الثري بيانه قوله تعالى: * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون.
سيد قد بلغ سؤدده من العرش إلى الثري بيانه: * (الله الصمد) *.
سريع الحساب مع خلقه من العرش إلى الثري بيانه: * (والله سريع الحساب) *
سلم خلقه من ظلمه من العرش إلى الثرى بيانه: * (السلام المؤمن) *.
94

غافر ذنوب عباده من العرش إلى الثرى بيانه: قوله: * (غافر الذنب وقابل التوب) *.
والميم على اثني عشر وجها.
ملك الخلق من العرش إلى الثري بيانه: * (الملك القدوس) *.
مالك خلقه من العرش إلى الثرى بيانه: * (قل اللهم مالك الملك) *.
منان على خلقه من العرش إلى الثرى بيانه: * (بل الله يمن عليكم) *.
مجيد على خلقه من العرش إلى الثرى بيانه: * (ذو العرش المجيد) *.
مؤمن آمن خلقه من العرش إلى الثرى بيانه قوله: * (وآمنهم من خوف) *.
مهيمن اطلع على خلقه من العرش إلى الثرى بيانه: * (المؤمن المهيمن) *.
مقتدر على خلقه من العرش إلى الثري بيانه: * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) *.
مقيت على خلقه من العرش إلى الثرى بيانه: * (وكان الله على كل شيء مقيتا) *.
متكرم على خلقه من العرش إلى الثري بيانه: * (ولقد كرمنا بني آدم) *.
منعم على خلقه من العرش إلى الثري بيانه قوله: * (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة).
متفضل على خلقه من العرش إلى الثرى بيانه: * (ولكن الله ذو فضل على العالمين) *.
مصور خلقه من العرش إلى الثرى بيانه: * (الخالق البارىء المصور) *.
وقال أهل الحقائق:..... في * (بسم الله) * التيمن والتبرك وحث الناس على الابتداء في أقوالهم وأفعالهم ب * (بسم الله) * لما افتتح الله عز وجل كتابه به والله أعلم.
* (الله) * اعلم أن أصل هذه الكلمة * (إله) في قول أهل الكوفة فأدخلت الألف واللام فيها تفخيما وتعظيما لما كان اسم الله عز وجل فصار (الإله) * فحذفت الهمزة استثقالا لكثرة جريانها على الألسن وحولت هويتها إلى لام التعظيم فالتقى لأمان فأدغمت الأولى في الثانية فقالوا (الله).
95

وقال أهل البصرة: أصلها (لاه) فألحقت بها الألف واللام فقالوا: (الله) وأنشدوا: كحلفة من أبي رباح
* يسمعها الآهه الكبار
*
فأخرجه على الأصل.
وقال بعضهم: أدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة المحذوفة في (إله) فلزمتا الكلمة لزوم تلك الهمزة لو أجريت على الأصل ولهذا لم يدخل عليه في النداء ما يدخل على الأسماء المعرفة من حروف التشبيه فلم يقولوا: يا أيها الله.
دفع أقاويل أهل التأويل في هذا الاسم مبنية على هذين القولين... ثمة واختلفوا فيه؛ فقال الخليل بن أحمد وجماعة: (الله) اسم علم موضوع غير مشتق بوجه ولو كان مشتقا من صفة كما لو كان موصوفا بتلك الصفة أو بعضها قال الله: * (هل تعلم له سميا) *.
الله): اسم موضوع لله تعالى لا يشركه فيه أحد قال الله تعالى: * (هل تعلم له سميا) *. يعني: أن كل اسم مشترك بينه وبين غيره؛ له على الحقيقة ولغيره على المجاز إلا هذا الاسم فإنه مختص به لأن فيه معنى الربوبية. والمعاني كلها تحته ألا ترى أنك إذا أسقطت منه الألف بقي لله وإذا أسقطت من لله اللام الأولى بقي (له) وإذا أسقطت من (له) اللام بقي هو.
قالوا: وإذا أطلق هذا الاسم على غير الله فإنما يقال بالإضافة كما يقال: لاه كذا أو ينكر فيقال: لله كما قال تعالى إخبارا عن قوم موسى ج: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) *. وأما (الله) و (الإله) فمخصوصان لله تعالى.
وقال قوم: أصله (لاها) بالسريانية وذلك أن في آخر أسمائهم مدة كقولهم للروح: (روحا) وللقدس: (قدسا) وللمسيح: (مسيحا) وللابن: (ابنا) فلما طرحوا المدة بقي (لاه) فعربه العرب وأقروه.
ولا اشتقاق له وأكثر العلماء على أنه مشتق؛ واختلفوا في اشتقاقه فقال النضر بن إسماعيل: هو من التأله وهو التنسك والتعبد قال رؤبة:
* لله در الغانيات المدة
* سبحن واسترجعن من تألهي
*
ويقال: أله إلاهة كما يقال: عبد عبادة. وقرأ بن عباس: (ويذرك وإلهتك) * أي عبادتك؛ فمعناه عبادتك المعبود الذي تحق له العبادة.
96

وقال قوم هو من (الإله) وهو الاعتماد يقال: ألهت إلى فلان آله إلها أي فزعت إليه واعتمدت عليه قال الشاعر:
* ألهت إليها والركائب وقف
*
ومعناه: أن الخلق يفزعون ويتضرعون إليه في الحوادث والحوائج فهو يألههم أي يجيرهم فسمي إلها كما يقال: إمام للذي يؤتم به ولحاف ورداء وإزار وكساء للثوب الذي يلتحف به ويرتدي به وهذا معنى قول ابن عباس والضحاك.
وقال أبو عمرو بن العلاء: هو من (ألهت في الشيء) إذا تحيرت فيه فلم تهتد إليه قال زهير:
*..... يأله العين وسطها مخففة
*
وقال الأخطل:
* ونحن قسمنا الأرض نصفين نصفها
* لنا ونرامي أن تكون لنا معا
*
* بتسعين ألفا تأله العين وسطها
* متى ترها عين الطرامة تدمعا
*
ومعناه: أن العقول تتحير في كنه صفته وعظمته والإحاطة بكيفيته فهو إله كما قيل للمكتوب: كتاب وللمحسوب: حساب.
وقال المبرد: هو من قول العرب: (ألهت إلى فلان) أي سكنت إليه قال الشاعر: ألهت إليها والحوادث جمة
فكأن الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره قال الله تعالى: * (إلا بذكر الله تطمئن لقلوب) *.
وسمعت أبا القاسم الحسن: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الرحيم القناد يقول: أصله من (الوله) وهو ذهاب العقل لفقدان من يعز عليك. وأصله (أله) - بالهمزة - فأبدل من الألف واو فقيل الوله مثل (إشاح ووشاح) و (وكاف وإكاف) و (أرخت الكتاب وورخته) و (ووقتت وأقتت). قال الكميت:
97

* ولهت نفسي الطروب إليهم
* ولها حال دون طعم الطعام
*
فكأنه سمي بذلك؛ لأن القلوب توله لمحبته وتضطرب وتشتاق عند ذكره.
وقيل: معناه: محتجب؛ لأن العرب إذا عرفت شيئا ثم حجب عن أبصارها سمته إلها قال: لاهت العروس تلوه لوها إذ حجبت.
قال الشاعر:
* لاهت فما عرفت يوما بخارجة
* يا ليتها خرجت حتى رأيناها
*
والله تعالى هو الظاهر بالربوبية [بالدلائل والأعلام] وهو المحتجب من جهة الكيفية عن الأوهام.
وقيل: معناه المتعالي يقال: (لاه) أي ارتفع.
وقد قيل: من [إلا هتك] فهو كما قال الشاعر:
* تروحنا من اللعباء قصرا
* وأعجلنا الألاهة أن تؤوبا
*
وقيل: هو مأخوذ من قول العرب: ألهت بالمكان إذا أقمت فيه قال الشاعر:
* ألهنا بدار ما تبين رسومها
* كأن بقاياها وشام على اليد
*
فكأن معناه: الدائم الثابت الباقي.
وقال قوم: [أن يقال] ذاته وهي قدرته على الإخضاع.
وقال الحارث بن أسد المجلسي أبو عبد الله البغدادي: الله من (ألههم) أي أحوجهم فالعباد مولوهون إلى بارئهم أي محتاجون إليه في المنافع والمضار كالواله المضطر المغلوب.
وقال شهر بن حوشب: الله خالق كل شيء وقال أبو بكر الوراق: هو.
وغلظ بعض بقراءة اللام من قوله: (الله) حتى طبقوا اللسان به الحنك لفخامة ذكره وليصرف عند الابتداء بذكره وهو الرب.
* (الرحمن الرحيم) * قال قوم: هما بمعنى واحد مثل (ندمان ونديم) و (سلمان
98

وسليم) وهوان وهوين. ومعناهما: ذو الرحمة والرحمة: إرادة الله الخير بأهله وهي على هذا القول صفة ذات. وقيل: هي ترك عقوبة من يستحق العقوبة [وفعل] الخير إلى من لم يستحق وعلى هذا القول صفة فعل يجمع بينهما للاتساع كقول العرب: جاد مجد. قال طرفة.
* فما لي أراني وابن عمي مالكا
* متى أدن منه ينأ عني ويبعد
*
وقال آخر:
* وألفي قولها كذبا ومينا
*
وفرق الآخرون بينهما فقال: بعضهم الرحمن على زنة فعلان وهو لا يقع إلا على مبالغة القول. وقولك: رجل غضبان للممتلئ غضبا وسكران لمن غلب عليه الشراب فمعنى (الرحمن): الذي وسعت رحمته كل شيء,
وقال بعضهم: (الرحمن) العاطف على جميع خلقه؛ كافرهم ومؤمنهم برهم وفاجرهم بأن خلقهم ورزقهم قال الله تعالى: * (ورحمتي وسعت كل شيء و) * (الرحيم) بالمؤمنين خاصة بالهداية والتوفيق في الدنيا والجنة والرؤية في العقبى قال تعالى: * (وكان بالمؤمنين حيما) *. ف (الرحمن) خاص اللفظ عام المعنى و (الرحيم) عام اللفظ خاص المعنى. و (الرحمن) خاص من حيث إنه لا يجوز أن يسمى به أحد إلا الله تعالى عام من حيث إنه يشمل الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع والدفع. و (الرحيم) عام من حيث اشتراك المخلوقين في المسمى به خاص من طريق المعنى؛ لأنه يرجع إلى اللطف والتوفيق. وهذا قول جعفر بن محمد الصادق (رضي الله عنه).
الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة وقول ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر.
وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسر حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الدقاق حدثنا الحسن بن محمد بن جابر حدثنا عبد الله بن هاشم أخبرنا وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال: الرحمن بأهل الدنيا والرحيم بأهل الآخرة. وجاء في الدعاء: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة.
وقال الضحاك: الرحمن بأهل السماء حين أسكنهم السماوات وطوقهم الطاعات
99

وجنبهم الآفات وقطع عنهم المطاعم واللذات. والرحيم بأهل الأرض حين أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب وأعذر إليهم في النصيحة وصرف عنهم البلايا.
وقال عكرمة: الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة وهذا المعنى قد اقتبسه من قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي حدثناه أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو حدثنا أبو هريرة وأحمد بن محمد بن شاردة الكشي حدثنا جارود ابن معاذ أخبرنا عمير بن مروان عن عبد الملك أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وأخر تسعة وتسعين لنفسه يرحم بها عبادة يوم القيامة)).
وفي رواية أخرى: ((إن الله تعالى قابض هذه إلى تلك فمكملها مائة يوم القيامة يرحم بها عبادة)).
وقال ابن المبارك: (الرحمن: الذي إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل غضب. يدل عليه ما حدثنا أبو القاسم المفسر حدثنا أبو يوسف رافع بن عبد الله بمرو الروذ حدثنا خلف ابن موسى: حدثنا محمود بن خداش حدثنا هارون بن معاوية حدثنا أبو الملج وليس الرقي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من لم يسأل الله يغضب عليه نضمه الشاعر فقال:
* إن الله يغضب إن تركت سؤاله
* وبني آدم حين يسأل يغضب
*
وسمعت الحسن بن محمد يقول: سمعت إبراهيم بن محمد النسفي يقول: سمعت أبا عبد الله - وهو ختن أبي بكر الوراق - يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عمر الوراق يقول: (الرحمن: بالنعماء وهي ما أعطي وحبا والرحيم بالآلاء وهي ما صرف وزوي).
وقال محمد بن علي المزيدي: الرحمن بالإنقاذ من النيران وبيانه قوله تعالى: * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) * والرحيم بإدخالهم الجنان بيانه: * (ادخلوها بسلام آمنين).
وقال المحاسبي: (الرحمن: برحمة النفوس والرحيم برحمة القلوب).
100

وقال السري بن مغلس: (الرحمن بكشف الكروب والرحيم بغفران الذنوب).
وقال عبد الله بن الجراح: (الرحمن ب.... الطريق والرحيم بالعصمة والتوفيق).
وقال مطهر بن الوراق: (الرحمن بغفران السيئات وإن كن عظيمات والرحيم بقبول الطاعات وإن كن [قليلات].
وقال يحيى بن معاذ الرازي: (الرحمن بمصالح معاشهم والرحيم بمصالح معادهم).
وقال الحسين بن الفضل: (الرحمن الذي يرحم العبد على كشف الضر ودفع الشر والرحيم الذي يرق وربما لا يقدر على الكشف).
وقال أبو بكر الوراق أيضا: (الرحمن بمن جحده والرحيم بمن وحده والرحمن بمن كفر والرحيم بمن شكر والرحمن بن قال ندا والرحيم بمن قال فردا). في أن التسمية من الفاتحة أو لا؟
واختلف الناس في أن التسمية؟ هل هي من الفاتحة؟ فقال قراء المدينة والبصرة وقراء الكوفة: إنها افتتاح التيمن والتبرك بذكره وليست من الفاتحة ولا من غيرها من السور ولا تجب قراءتها وأن الآية السادسة قوله تعالى: * (أنعمت عليهم) * وهو قول مالك بن أنس والأوزاعي وأبي حنيفة - رحمهم الله - ورووا ذلك عن أبي هريرة.
أخبرنا أبو القاسم الحسين بن محمد بن الحسن النيسابوري حدثنا أبو الحسن محمد بن الحسن الكابلي أخبرنا علي بن عبد العزيز الحلي حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي حدثنا الحجاج عن أبي سعيد الهذلي عن.... عن أبي هريرة قال (أنعمت عليهم) الآية السادسة فزعمت فرقة أنها آية من أم القرآن وفي سائر السور فصل فليست هاهنا أنها يجب قراءتها.
[وقال قوم: إنها آية من فاتحة الكتاب] رووا ذلك عن سعيد بن المسيب وبه قال قراء مكة والكوفة وأكثر قراء الحجاز ولم يعدوا * (أنعمت عليهم) * آية.
وقال الشافعي والشعبي وهو رأي عبد الله أنها نزلت في الآية الأولى من فاتحة الكتاب
101

وهي من كل سورة آية إلا التوبة. والدليل عليه الكتاب والسنة؛ أما الكتاب سمعت أبا عثمان بن أبي بكر الزعفراني يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن موسى يقول: سمعت الحسن بن المفضل يقول: رأيت الناس...... في النمل أن * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فيها من القرآن فوجدتها بخطها ولو أنها مكررات في القرآن فعرفنا أماكنها منه بل حتى * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * * (ويل يومئذ للمكذبين) * لما كانا في القرآن كانت مكرراتهما من القرآن.
وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في بدء الأمر على رسم قريش: ((باسمك اللهم)) حتى نزلت: * (وقال اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها) *
فكتب: * (بسم الله) * حتى نزلت: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * فكتب: ((بسم الله الرحمن)) حتى نزلت: * (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) * فكتب مثلها فلما كانت....... هذه...... وحيث أن يكون...... منه ثم افتخر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية وحق له ذلك.
حدثنا عبد الله بن حامد بن محمد الوراق: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه حدثنا محمد ابن يحيى بن سهل حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا سلمة بن الأحمر عن يزيد بن أبي خالد عن عبد الكريم بن أمية عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟)). فقلت: بلى. قال: ((بأي شيء تفتتح إذا افتتحت القرآن)). قلت: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فقال: ((هي هي)).
وفي هذا الحديث دل دليل على كون التسمية آية تامة من الفاتحة وفواتح السور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين لفظ الآية كلها والتي في سورة النمل ليست بآية وإنما هي بعض الآية وبالله التوفيق.
وأما الأخبار الواردة فيه فأخبرنا أبو القاسم السدوسي حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد ابن عبد الله العنبري حدثنا إبراهيم بن إسحاق الأنماطي حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا أبو سفيان المعمري عن إبراهيم بن يزيد قال قلت لعمرو بن دينار: إن الفضل الرقاشي زعم أن * (بسم الله الرحمن الرحيم) * ليس من القرآن؟ قال: سبحان الله! ما أجرأ هذا الرجل! سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت آية * (بسم الله الرحمن الرحيم) * علم أن السورة قد ختمت وفتح غيرها.
102

وحدثنا الحسن بن محمد: حدثنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي: حدثنا أبو محمد إسماعيل ابن عيسى الواسطي: حدثنا عبد الله بن نافع عن جهم بن عثمان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟)) قال: أقول: الحمد لله رب العالمين. قال: ((قل: * (بسم الله الرحمن الرحيم) *.
وحدثنا الحسن بن محمد أخبرنا أبو الحسين....... حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا أبو عبيد حدثنا عمر بن هارون البلخي عن أبي صالح عن أبي مليكة عن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: * (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) * يعني يقطعها آية آية حتى عد سبع آيات عد الأعراب.
أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد حدثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ حدثنا محمد ابن جعفر حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثنا الحسين بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وكان يقول: ((من ترك قراءتها فقد نقص)). وكان يقول: ((هي تمام السبع المثاني والقرآن العظيم)).
وأخبرنا الحسين بن محمد بن جعفر حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي حدثنا جعفر بن حيان عن عبد الملك بن جريح عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) * قال: فاتحة الكتاب.
وقيل لابن عباس: أين السابعة؟ قال: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وعدها في يديه ثم قال: أخرجها لكم وما أجد فيها أمركم.
أخبرنا [محمد بن الحسين] حدثنا عبد الله بن محمد بن مسلم حدثنا يزيد بن سنان حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا نوح بن أبي بلال قال: سمعت المقبري عن أبي هريرة أنه قال: إذا قرأتم أم القرآن فلا تبرحوا * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فإنها إحدى آياتها وإنها السبع المثاني.
وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري حدثنا جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ حدثنا أحمد بن نصر حدثنا آدم بن إياس عن أبي سمعان عن العلا عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله: قسمت الصلاة
103

بيني وبين عبادي نصفين؛ فإذا قال العبد: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * قال الله:: مجدني عبدي وإذا قال العبد * (الحمد لله رب العالمين) * قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: * (الرحمن الرحيم) * قال: أثنى علي عبدي وإذا قال: * (مالك يوم الدين) * قال الله: فوض إلي أمره عبدي وإذا قال: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * قال الله: هذا بيني وبين عبدي وإذا قال: * (اهدنا الصراط المستقيم) * قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)).
وأخبرنا علي بن محمد بن الحسن المقري أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد القصار حدثنا محمد بن بكر البصري حدثنا محمد بن علي الجوهري حدثنا...... حدثني أبو إسماعيل بن يحيى..... حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه؛ إذ دخل رجل يصلي وافتتح الصلاة وتعوذ ثم قال: * (الحمد لله رب العالمين) *. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رجل قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن (بسم الله الرحمن الرحيم) * من الحمد؟ فمن تركها فقد ترك آية ومن ترك آية منه فقد قطعت عليه صلاته)). لا تكون الصلاة إلا بفاتحة الكتاب ومن ترك آية فقد بطلت صلاته.
وأخبرنا أبو الحسين علي بن محمد الجرجاني حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي حدثنا أبو بكر محمد بن عمر بن هشام أخبرنا محمد بن يحيى حدثنا حكيم بن الحسين حدثنا سليمان بن مسلم المكي عن نافع عن أبي مليكة عن طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: ((من ترك * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فقد ترك آية من كتاب الله.
وقد عدها علي ج فيما عد من أم الكتاب.
وأما الإجماع فأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الوراق أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الضبعي حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن يحيى حدثنا علي بن المديني حدثنا عبد الوهاب بن فليح عن عبد الله بن ميمون عن عبيد بن رفاعة أن معاوية بن أبي سفيان قدم المدينة فصلى بالناس صلاة يجهر فيها ولما قرا أم القرآن ولم يقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وقضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية: أنسيت! أين * (بسم الله الرحمن الرحيم) * حين استفتحت القرآن؟ فأعادها لهم معاوية فقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
104

الكلام في جزئية البسملة من باقي السور
هذا في الفاتحة فأما في غيرها من السور فأخبرنا أبو القاسم الحبيبي حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج عن عبد الله بن عثمان بن خيثم أن أبا بكر بن حفص بن عاصم قال: صلى معاوية بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة وقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * لأم القرآن ولم يقرا للسورة التي بعدها حتى قضى صلاته فلما سلم ناداه المهاجرون من كل مكان: يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فصلى بهم صلاة أخرى وقرأ فيها للسورة التي بعدها.
وما....... النظر بآيات [السور] مقاطع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة. والمتشاكلة نحو ما في سورة القمر والرحمن وأمثالهما والمتقاربة قيل: في سورة * (ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب) * وما ضاهاها. ثم نظرنا في قوله: * (قبلهم) * فلم يكن من المتشاكلة ولا من المتقاربة ووجدنا أواخر أي القرآن على حرفين: ميم ونون أو حرف صحيح قبلها نا مكسورة فأولها أو واو مضموم ما قبلها أو ألف مفتوح ما قبلها ووجدنا سبيلهم هو هو مخالف لنظم الكتاب هذا ولم نر غير مبتدأ آية في كتاب الله........ إذ يقول أيضا: إن التسمية لا [تخلو] إما أن تكون مكتوبة للفصل بين السور أو في آخر السور أو في أوائلها أو حين نزلت كتبت وحيث لم تنزل لم تكتب فلو كتبت للفصل لكتبت. وتراخ ولو كتبت في الابتدا لكتبت في (براءة) ولو كتبت في الانتهاء لكتبت في آخر * (قل أعوذ برب الناس) *. فلما أبطلت هذه الوجوه علمنا أنها كتبت حيث نزلت وحيث لم تنزل لم تكتب.
يقول أيضا: إنا وجدناهم كتبوا ما كان غير قرآن من الآي والأخرى أو خضرة وكتبوا التسمية بالسواد فعلمنا أنها قرآن وبالله التوفيق. حكم الجهر بالبسملة في الصلاة
ثم الجهر بها في الصلاة سنة لقول الله تعالى: * (اقرأ باسم ربك) * [فأمر] رسوله أن يقرأ القرآن بالتسمية وقال: * (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) * فأوجب الفلاح لمن صلى بالتسمية
105

وأخبرنا أبو القاسم [الحسن بن محمد بن جعفر] حدثنا أبو صخر محمد بن مالك السعدي بمرو حدثنا عبد الصمد بن الفضل الآملي حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي بغوطة [دمشق] قال: صليت خلف المهدي أمير المؤمنين فجهر ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فقلت: ما هذه القراءة يا أمير المؤمنين؟ [فقال:] حدثني أبي عن أبيه عن عبد الله بن عباس ان النبي
* صلى الله عليه وسلم هر ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) قلت: أآثرها عنك؟ قال: نعم
وحدثنا الحسن بن محمد بن الحسن قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن قريش بن حابس بمرو الروذ إملاء حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الديري حدثنا عبد الرزاق عن عمر بن دينار أن ابن عمر وابن عباس كانا يجهران ب * (بسم الله الرحمن الرحيم وحدثنا الحسن بن محمد بن زكريا العنبري حدثنا محمد بن عبد السلام حدثنا إسحاق ابن إبراهيم أخبرنا خيثمة بن سليمان قال سمعت ليثا قال كان عطاء وطاووس ومجاهد يجهرون ب بسم الله الرحمن الرحيم) *.
وحدثنا الحسن بن محمد: حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن المروزي حدثنا الحسن ابن علي بن نصير الطوسي حدثنا أبو ميثم سهل بن محمد حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخزاعي عن عمار بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان أن العبادلة كانوا يستفتحون القراءة ب بسم * (الله الرحمن الرحيم) * يجهرون بها: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن صفوان.
وحدثنا الحسن بن محمد حدثنا أبو نصر منصور بن عبد الله الاصفهاني حدثنا أبو القاسم الإسكندراني حدثنا أبو جعفر الملطي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد أنه قال: ((اجتمع آل محمد على الجهر ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وعلى أن يقضوا ما فاتهم من صلاة الليل بالنهار وعلى أن يقولوا في أبي بكر وعمر أحسن القول وفي صاحبهما)).
وبهذا الإسناد قال: سئل الصادق عن الجهر بالتسمية فقال: ((الحق الجهر به وهي التي التي ذكر الله عز وجل: * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا).
وحدثنا الحسن حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن كعب العدل حدثنا الحسين ابن أحمد بن الليث حدثنا محمد بن المعلى المرادي حدثنا أبو نعيم عن خالد بن
106

إياس عن سعيد ابن أبي سعيد المقرئ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فعلمني الصلاة)) ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وكبر فجهر ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
وحدثنا الحسن بن محمد حدثنا أبو الطيب محمد بن أحمد بن حمدون حدثنا الشرقي حدثنا محمد بن يحيى حدثنا ابن أبي مريم عن يحيى بن أيوب ونافع بن أيوب قالا: حدثنا عقيل عن الزهري قال: من سنة الصلاة أن تقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * في فاتحة الكتاب [فإن] لم يقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * لم يقرأ السورة. وقال: إن أول من ترك * (بسم الله الرحمن الرحيم) * عمرو ابن سعيد بن العاص بالمدينة واحتج من أن إتيان التسمية أنها من الفاتحة والجهر بها في الصلاة بما أخبرنا
عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن الحسين بن الحسن بن الخليل النيسابوري القطان حدثنا محمد بن إبراهيم الجرجاني حدثنا إبراهيم بن عمار عن سعيد بن أبي عروبة عن الحجاج بن الحجاج عن قتادة عن أنس بن مالك قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم).
وأخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن إسماعيل العماري حدثنا يزيد بن أحمد بن يزيد حدثنا أبو عمرو حدثنا محمد بن عثمان حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يجهرون ويخفون * (بسم الله الرحمن الرحيم) *.
فعلم بهذا الحديث أنه لم ينف كون هذه الآية من جملة السورة لكنه تعرض لترك الجهر فقط على أنه أراد بقوله: (لا يجهرون): أنهم لا يتكلفون في رفع الصوت ولم يرد الإسراء. والتخافت أو تركها أصلا.
ويدل عليه ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري حدثنا محمد بن عبد السلام الوراق وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن قالا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا يحيى بن آدم أخبرنا شريك عن ياسر عن سالم الأفطس عن ابن أبي ليلى عن سعيد عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * جهر بها صوته فكان المشركون يهزؤون بمكة ويقولون: يذكر إله اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب ويسمونه الرحمن فأنزل الله: * (ولا تجهر بصلاتك) * فيسمع المشركون فيهزؤون * (ولا تخافت) * عن أمتك ولا تسمعهم * (وابتغ بين ذلك سبيلا) *
واحتجوا أيضا بما أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن جعفر المطيري حدثنا بشر
107

ابن مطر [عن سفيان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة] عن أبيه عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون القراءة ب * (الحمد لله رب العالمين) * وإنما عني بها أنهم كانوا يستفتحون الصلاة بسورة (الحمد) فعبر بهذه الآية عن جميع السورة كما يقول: قرأت * (الحمد لله) * و (البقرة) أي سورة * (الحمد لله) * وسورة (البقرة)..... أي رويناها نحكم على هذين الحديثين وأمثالهما وبالله التوفيق.
قوله تعالى: * (الحمد لله) *.
........ على نفسه نعيما منه على خلقه. ولفظه خبر ومعناه أمر تقريره: قولوا: الحمد لله. قال ابن عباس: يعني: الشكر منه وهو من الحمد..... والحمد لله نقيض الذم وقال ابن الأنباري: هو مقلوب عن المدح كقوله: جبل وجلب و: بض وضب.
واختلف العلماء في الفرق بين الحمد والشكر فقال بعضهم: الحمد: الثناء على الرجل بما فيه من الخصال الحميدة تقول: حمدت الرجل إذا أثنيت عليه بكرم أو [حلم] أو شجاعة أو سخاوة ونحو ذلك. والشكر له: الثناء عليه أو لآله.
فالحمد: الثناء عليه بما هو به والشكر: الثناء عليه بما هو منه.
وقد يوضع الحمد موضع الشكر فيقال: حمدته على معروفه عندي كما يقال: شكرته ولا يوضع الشكر موضع الحمد [ف] لا يقال: شكرته على علمه وحلمه.
والحمد أعم من الشكر؛ لذلك ذكره الله فأمر به فمعنى الآية: الحمد لله على صفاته العليا وأسمائه الحسنى وعلى جميع صنعه وإحسانه إلى خلقه.
وقيل: الحمد باللسان قولا قال الله: * (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) * وقال: * (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) * والشكر بالأركان فعلا قال الله تعالى: * (اعملوا آل داود شكرا) *.
وقيل: الحمد لله على ما حبا وهو النعماء والشكر على ما زوى وهو اللأواء.
وقيل: الحمد لله على النعماء الظاهرة والشكر على النعماء الباطنة قال الله تعالى: * (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) *.
108

وقيل: الحمد ابتداء والشكر.
حدثنا الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري لفظا حدثنا إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي حدثنا محمد بن علي الترمذي حدثنا عبد الله بن العباس الهاشمي حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو [بن العاص] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: ((الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده)).
وحدثنا الحسن بن محمد أخبرنا أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه حدثنا عبد الله بن محمود السعدي حدثنا علي بن حجر حدثنا شعيب بن صفوان عن مفضل بن فضالة عن علي بن يزيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه سئل عن * (الحمد لله) * قال: كلمة شكر أهل الجنة. في إعراب * (الحمد لله) *
الحمد لله رب العالمين الرحمان الرحيم 3
وقد اختلف القراء في قوله: * (الحمد لله) * فقرأت العامة بضم الدال على الابتداء وخبره فيما بعده. وقيل: على التقديم والتأخير أي لله الحمد.
وقيل: على الحكاية. وقرأ هارون بن موسى الأعور ورؤبة بن العجاج بنصب الدال على الإضمار أي أحمد الحمد؛ لأن الحمد مصدر لا يثنى ولا يجمع. وقرأ الحسن البصري بكسر الدال أتبع الكسرة الكسرة. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة الشامي بضم الدال واللام أتبع الضمة الضمة.
* (رب العالمين) * قرأ زيد بن علي: * (رب العالمين) * بالنصب على المدح وقال أبو سعيد ابن أوس الأنصاري: على معنى أحمد رب العالمين. وقرأ الباقون * (رب العالمين) * بكسر الباء أي خالق الخلق أجمعين ومبدئهم ومالكهم والقائم بأمورهم والرب بمعنى السيد قال الله تعالى: * (اذكرني عند ربك) * أي سيدك قال
الأعشى.
* واهلكن يوما رب كندة وابنه
* ورب معبين خبت وعرعر)
109

* ورب عمر والرومي من رأس حضية
* وأنزلن بالأسباب رب المشقرة
*
يعني: رئيسها وسيدها.
ويكون بمعنى المالك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أرب إبل أنت أم رب غنم؟)). فقال: من كل قد آتاني الله فأكثر وأطنب وقال طرفة:
* كقنطرة الرومي أقسم ربها
* لتكتنفن حتى تشاد بقرمد
*
وقال النابغة:
* وإن يك رب أذواد فحسبي
* أصابوا من لقائك ما أصابوا
*
ويكون بمعنى الصاحب قال أبو ذؤيب:
* فدنا له رب الكلاب بكفه
* بيض رهاب ريشهن مقزع
*
ويكون بمعنى المرعى يقول: رب يرب ربابة وربوبا فهو رب مثل بر وطب قال الشاعر:
* يرب الذي يأتي من العرف إنه
* إذا سئل المعروف زاد وتمما
*
ويكون بمعنى المصلح للشيء قال الشاعر:
* كانوا كسالئه حمقاء إذحقنت
* سلاءها في أديم غير مربوب
*
أي غير مصلح.
وقال الحسين بن الفضل: الرب: اللبث من غير إثبات أحد يقال: رب بالمكان وأرب ولبث وألبث إذا أقام وفي الحديث أنه كان يتعوذ بالله من فقر ضرب أو قلب قال الشاعر:
* رب بأرض تخطاها الغنم لب بأرض ما تخطاها الغنم
*
وهو الاختيار؛ لأن المتكلمين أجمعوا على أن الله لم يزل ربا وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو بكر محمد بن موسى الواسطي عن الرب فقال: هو الخالق ابتداء والمربي غذاء والغافر انتهاء. ولا يقال للمخلوق: هو الرب معرفا بالألف
110

واللام وإنما يقال على الإضافة: هو رب كذا؛ لأنه لا يملك الكل غير الله والألف واللام تدلان على العموم. وأما العالمون فهم جمع عالم ولا واحد له من لفظة كالأنام والرهط والجيش ونحوها.
واختلفوا في معناه حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن أخبرنا أبو إسحاق بن أسعد بن الحسن بن سفيان عن جده عن أبي نصر ليث بن مقاتل عن أبي معاذ الفضل بن خالد عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم عن الربيع بن أنس عن شهر بن حوشب عن أبي بن كعب قال العالمون هم الملائكة وهم ثمانية عشر ألف ملكا منهم أربعة آلاف وخمسمائة ملك بالمشرق وأربعة آلاف وخمسمائة ملك بالمغرب وأربعة آلاف وخمسمائة ملك بالكهف الثالث من الدنيا وأربعة آلاف وخمسمائة ملك في الكهف الرابع من
الدنيا مع كل ملك من الأعوان ما لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل ومن ورائهم أرض بيضاء كالرخام..... مسير الشمس أربعين يوما طولها لا يعلمه إلا الله عز وجل مملوءة ملائكة يقال لهم الروحانيون لهم زجل بالتسبيح والتهليل لو كشف عن صوت أحدهم لهلك أهل الأرض من هول صوته فهم العالمون منتهاهم إلى حملة العرش.
وقال أبو معاذ [النحوي]: هم بنو آدم.
وقال أبو هيثم خالد بن يزيد: هم الجن والإنس؛ لقوله تعالى: * (ليكون للعالمين نذيرا) * وهي رواية عطية العوفي وسعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقال الحسين بن الفضل: العالمون: الناس واحتج بقوله تعالى: * (أتأتون الذكران من العالمين) *.
وقال العجاج: بخلاف هذا العالم.
وقال الفراء وأبو عبيدة: هو عبارة عمن يعقل وهم أربع أمم: الملائكة والجن والإنس والشياطين لا يقال للبهائم: عالم. وهو مشتق من العلم قال الشاعر:
* ما إن سمعت بمثلهم في العالمينا
*
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: هم أهل التنزية من الخلق. وقال عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم: هم المرتزقون. وقال الخضر بن إسماعيل: هو اسم الجمع الكثير قال ابن الزبعري:
111

* إني وجدتك يا محمد عصمة
* للعالمين من العذاب الكارث
*
وقال أبو عمرو بن العلاء: هم الروحانيون. وهو معنى قول ابن عباس: كل ذي روح دب على وجه الأرض. وقال سفيان بن عيينة: هو جمع للأشياء المختلفة. وقال جعفر بن محمد الصادق: ((العالمون: أهل الجنة وأهل النار)). وقال الحسن وقتادة ومجاهد: هو عبارة عن جميع المخلوقات واحتجوا بقوله: * (قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما) *.
واشتقاقه على هذا القول من (العلم) و (العلامة)؛ لظهورهم ولظهور أثر الصنعة فيهم ثم اختلفوا في مبلغ العالمين وكيفيتهم فقال: سعيد بن المسيب: لله ألف عالم؛ منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر. وقال الضحاك: فمنهم ثلاثمائة وستون عالما حفاة عراة لا يعرفون من خالقهم وستون عالما يلبسون الثياب. وقال وهب: لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها وما العمارة في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء. وقال أبو سعيد الخدري: إن لله أربعين ألف عالم الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد. وقال أبو القاسم مقاتل بن حيان: العالمون ثمانون ألف عالم؛ أربعون ألفا في البر وأربعون ألفا في البحر. وقال مقاتل بن سليمان: لو فسرت * (العالمين) * لاحتجت إلى ألف جلد كل جلد ألف ورقة. وقال كعب الأحبار: لا يحصي عدد العالمين إلا الله قال الله: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * [مالك يوم الدين مالك يوم الدين]
اختلف القراء فيه من عشرة أوجه:
الوجه الأول: مالك - بالألف وكسر الكاف - على النعت وهو قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وابن عباس وأبي ذر وأبي هريرة وأنس ومعاوية ومن التابعين وأتباعهم عمر بن عبد العزيز ومحمد بن شهاب الزهري ومسلمة بن زيد والأسود بن يزيد وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير وأبو رزين وإبراهيم وطلحة بن عوف وعاصم بن أبي النجود و..... بن عمر
112

الهمذاني وشيبان ابن عبد الرحمن وعلي بن صالح بن حي وابن أبي ليلى وعبد الله بن إدريس وعلي بن حمزة الكسائي وخلف بن هشام والحسين بن أبي الحسن البصري من أهل البصرة وأبو رجاء العطاردي ومحمد بن سيرين وبكر بن عبد الله المزني وقتادة بن دعامة السدوسي ويحيى بن يعمر..... وعيسى بن عمر النفعي وسلام بن سليمان أبو المنذر ويعقوب بن أعين الحضرمي وأيوب بن المتوكل وأبو عبيدة و..... وسعيد بن مسعدة الأخفش وخالد بن معدان والضحاك بن مزاحم.
أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد أخبرنا أحمد بن محمد بن علي حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب وأخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا ابن عبد الحكم: حدثنا: بن سويد الحميري عن يونس عن يزيد عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يقرؤون: * (مالك يوم الدين) *.
وأخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم أخبرنا محمد بن محمد بن خلف العطار حدثنا المنذر بن المنذر الفارسي حدثنا هارون بن حاتم حدثنا إسحاق بن منصور الأسدي عن أبي إسحاق..... عن مالك بن دينار عن أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا يقرؤون: * (مالك يوم الدين) * وأول من قرأها: (ملك يوم الدين) * مروان بن الحكم.
والوجه الثاني: ملك بغير ألف وكسر الكاف على التفسير أيضا وهو قراءة زيد بن ثابت وأبي الدرداء وشعيب بن يزيد والمسور بن المخرمة ومن التابعين وأتباعهم عروة بن الزبير وأبو بكر بن عمر بن حزم ومروان بن الحكم و...... وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وأبان بن عثمان وأبو جعفر يزيد بن المفضل ونسيبة بن نصاح ونافع بن نعيم ومجاهد وابن كثير وابن محسن وحميد بن معين ويحيى بن وثاب وحمزة بن حبيب ومحمد بن سيرين وعبد الله بن عمر وأبو عمرو بن العلاء وعمرو بن..
.... وعبد الله بن عامر النصيبي.
وروي ذلك أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وعن عثمان وعلي عليه السلام.
أخبرنا ابن حمدوية أخبرنا أبن أيوب [المنقري]: أخبرنا ابن حامد وابن... قالا: أخبرنا حامد بن محمد حدثنا وأخبرنا ابن عمر حدثنا الرفاء قالوا: حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا أبو عبيد حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا عبد الملك بن جريج عن عبد الله
113

ابن أبي مليكة عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءة: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين) *.
والوجه الثالث: ملك - بجزم اللام - على النعت وهو رواية الحسن بن علي الجعفي وعبد الوارث بن سعيد وروي عن ابن عمر.
والوجه الرابع: أن مالك - بالألف ونصب الكاف - على النداء وهي قراءة الأعمش ومحمد بن [السميقع] وعبد الملك قاضي الجند وروي ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم قال في بعض غزواته: ((يا مالك يوم الدين)).
والوجه الخامس: ملك - بنصب الكاف من غير ألف - على النداء أيضا وهي قراءة عطية........
والوجه السادس: مالك - بالألف ورفع الكاف - على النداء أيضا وهي قراءة عطية
والوجه السادس: مالك - بالألف ورفع الكاف - على معنى: هو مالك وهي قراءة عزير العقيلي.
والوجه السابع: ملك - برفع الكاف من غير ألف - وهي قراءة أبي حمزة وابن سيرين.
والوجه الثامن: مالك بالإمالة والإضجاع البليغ. روي ذلك عن يحيى بن يعمر. وعن أيوب السختياني بين الإمالة والتفخيم..... عن..... عن الكلبي.
والوجه التاسع: (ملك يوم الدين) على الفعل وهي قراءة الحسن ويحيى بن يعمر وأبي حمزة وأبي حنيفة. الفرق بين ملك ومالك
[أما] الفرق بين مالك وملك فقال قوم: هما لغتان بمعنى واحد مثل (فرهين) و (فارهين) و (حذرين) و (حاذرين) و (فكهين) و (فاكهين)..... بينهما فقال أبو عبيدة والأصمعي وأبو سالم والأخفش وأبو الهيثم: مالك أجمع وأوسع وأمدح ألا ترى أنه يقال: الله مالك الطير والدواب والوحش وكل شيء ولا يقال: ملك كل شيء وإنما يقال: ملك الناس؟ قالوا: ولا يكون مالك الشيء إلا هو يملكه ويكون ملك الشيء وهو لا يملكه كقولهم: ملك العرب والعجم والروم.
114

وقالوا أيضا: (إن (المالك) يجمع الفعل والاسم.
وقال بعضهم: في (مالك)...... ومالك قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات)).
وقال أبو عبيد: الذي نختار ملك....... مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أثبت. ومن قرأ بها من أهل العلم أكثر. وهي مع هذا في المعنى أصح لقوله تعالى * (فتعالى الله الملك الحق) * و: * (الملك القدوس) * و: * (ملك الناس) * و: * (لمن الملك اليوم) * ولم يقل: لمن الملك اليوم؟
والملك مصدر الملك وغيره وملك يصلح للمالك والمليك يقال: ملك الشيء يملكه ملكا فهو مالك ومليك و: ملكه يملكه ملكا فهو ملك لا غير. وهما بعد الناس ومعناهما الرب؛ لأن العرب تقول: رب الدار والعبد والضيعة بمعنى أنه مالكها ولا يفرقون بين قولهم: ربها ومالكها ومن...... قال: إن المالك والملك هو القادر على استخراج الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر في الحقيقة على إخراجها إلا الله المالك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ملك إلا الله)). فأما غيره فيسمى مالكا وملكا على المجاز.
والمراد بذلك: أنه مأذون له في التصرف فيه.
وقال عبد العزيز بن يحيى: المالك يمكن بما يملكه منفرد به عن أبناء جنسه تعود منافعه إليه والمالك الثاني الذي بيده الشيء ويستولي عليه ويصرفه فيما يريده. تقول العرب: ملكك زمام البعير وملكت العجين إذا شددته وأملكت المرأة إملاكا قال الشاعر:
* وجبرئيل أمين الله املكها
*
معنى قوله: * (الدين) *
وأما معنى قوله: * (مالك يوم الدين) * فقال ابن عباس والسدي ومقاتل: قاضي يوم الحساب. ودليله قوله عز وجل: * (ذلك الدين القيم) * أي الحساب المستقيم.
الضحاك وقتادة: الدين: الجزاء يعني: يوم يدين الله العباد بأعمالهم دليله قوله: * (أئنا لمدينون) * أي مجربون. قال لبيد:
115

* حصادك يوما ما زرعت وإنما
* يدان الفتى يوما كما هو دائن
*
وقال عثمان بن زيات: يوم القهر والغلبة تقول العرب: مدان فدان أي قهرته فخضع وذل وقال الأعشى:
* هو دان الرباب إذ كرهو الدين
* دراكا بغزوة وارتحال ثم دانت بعد الرباب وكانت
* كعذاب عقوبة الأقوال
*
وسمعت أبا القاسم الحسين بن محمد الأديب يقول: سمعت أبا المضر محمد بن أحمد ابن منصور يقول: سمعت أبا عمر غلام ثعلب يقول: كان الرجل إذا أطاع ودان إذا عصى ودان إذا عز وكان إذا ذل ودان إذا قهر.
وقال الحسن بن الفضل: يوم الإطاعة قال زهير:
* لئن حللت بواد في بني أسد
* في دين عمرو وحالت بيننا فدك
*
أي في طاعة وكل ما أطيع الله فيه فهو دين.
وقال بعضهم: يوم العمل قال الفراء: دين الرجل خلقه وعمله وعادته وقال المثقب العبدي:
* تقول إذا درات وضيني لها
* أهذا دينه أبدا وديني
*
وقال محمد بن كعب القرضي: * (مالك يوم) * لا ينفع فيه وحالت بيننا فدك
*
أي في طاعة وكل ما أطيع الله فيه فهو دين
وقال بعضهم: يوم العمل قال الفراء: دين الرجل خلقه وعمله وعادته وقال المثقب العبدي:
* تقول إذا درات وضيني لها
* أهذا دينه أبدا وديني
*
وقال محمد بن كعب القرضي: * (مالك يوم) * لا ينفع فيه إلا * (الدين) * وهذه من قول الله تعالى: * (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) * وقوله: * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا) *.
وإنما خص يوم الدين بكونه مالكا له؛ لأن الأملاك في ذلك اليوم زائلة [فينفرد تعالى بذلك) وهي باطلة والأملاك خاصة. وقيل: خص يوم الدين بالمالك فيه؛ لأن ملك الدنيا قد اندرج في قوله: * (رب العالمين) * فأثبت أنه مالك الآخرة بقوله: * (مالك يوم الدين) *؛ ليعلم أن الملك له في الدارين. وقيل: إنما خص يوم الدين بالذكر؛ تهويلا وتعظيما لشأنه كما قال تعالى: * (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء) * ولا خفاء بهم في كل الأوقات عن الله عز وجل.
116

[سورة الفاتحة من الآية 5] * (إياك نعبد وإياك نستعين) * رجع من الخبر إلى الخطاب على التلوين. وقيل فيه إضمار أي قولوا: * (إياك) *. و * (إيا) * كلمة ضمير لكنه لا يكون إلا في موضع النصب والكاف في محل الخفض بإضافة إيا إليها وخص بالإضافة إلى الضمير؛ لأنه يضاف إلى الاسم المضمر إلا يقول الشاعر:
* فدعني وإيا خالد
* لأقطعن عري نياطه
*
وحكى الخليل عن العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإياكم.
ويستعمل مقدما على الفعل مثل (إياك أعني) و (إياك أسأل) ولا يستعمل مؤخرا على الفعل إلا أن...... به حين الفعل فيقال: ما عبدت إلا إياك ونحوها. وقال أبو ميثم سهل ابن محمد: إياك ضمير منفصل والضمير ثلاثة أقسام:
ضمير متصل نحو الكاف والهاء والياء في قولك: أكرمك وأكرمه وأكرمني. سمي بذلك لاتصاله بالفعل.
وضمير منفصل نحو إياك وإياه وإياي. سمي بذلك لانفصاله عن الفعل.
وضمير مستكن كالضمير في قولك قعد وقام. سمي بذلك لأنه استكن في الفعل ولم يستبق في اللفظ ويعم أن فيه ضمير الفاعل؛ لأن الفعل لا يقوم إلا بفاعل ظاهر أو مضمر.
وقال أبو زيد: إنما هما ياءان: الأولى للنسبة والثانية للنداء تقديرها: (أي يا) فأدغمت وكسرت الهمزة لسكون الياء. وقال أبو عبيد: أصله (أو ياك) فقلبت الواو ياء فأدغموه وأصله من (آوى يؤوي إيواء) كأن فيه معنى الانقطاع والقصد. وقرأ الفضل الرقاشي (أياك) بفتح الألف وهي لغة.
وإنما لم يقل: نعبدك [لأنه] يصح في العبارة وأحسن الإشارة؛ لأنهم إذا قالوا: إياك نعبد كان نظرهم منه إلى العبادة لا من العبادة إليه. وقوله: * (نعبد) * أي نوحد ونخلص ونطيع ونخضع والعبادة رياضة النفس على حمل المشاق في الطاعة. وأصلها الخضوع والانقياد والطاعة والذلة يقال: طريق معبد إذا كان مذللا موطوءا بالأقدام. قال طرفة:
* تباري عتاقا ناجيات وأتبعت
* وظيفا وظيفا فوق مور معبد
*
117

وبعير معبد إذا كان مطليا بالقطران قال طرفة:
* إلى أن تحامتني العشيرة كلها
* وأفردت إفراد البعير المعبد
*
وسمي العبد عبدا لذلته وانقياده لمولاه.
* (وإياك نستعين) *: نستوفي ونطلب المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلها يقال: استعنته واستعنت به وقرأ يحيى بن رئاب: (نستعين) بكسر النون. قال الفراء: تميم وقيس وأسد وربيعة يكسرون علامات المستقبل إلا الياء فيقولون إستعين ونستعين ونحوها ويفتحون الياء لأنها أخت الكسرة. وقريش وكنانة يفتحونها كلها وهي الأفصح والأشهر.
وإنما كرر * (إياك) *؛ ليكون أدل على الإخلاص والاختصاص والتأكيد لقول الله تعالى خبرا عن موسى: * (كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) * ولم يقل: كي نسبحك ونذكرك كثيرا.
وقال الشاعر:
* وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به
* بين النهار وبين الليل قد فصلا
*
ولم يقل بين النهار والليل. وقال الآخر:
* بين الأشج وبين قيس باذخ
* بخ بخ لوالده وللمولود
*
وقال أبو بكر الوراق: إياك نعبد لأنك خلقتنا وإياك نستعين لأنك هديتنا وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الرحمن الفران وقد سئل عن الآية فقال: * (إياك نعبد) * لأنك الصانع و * (إياك نستعين) * لأن المصنوع لا غنى به عن الصانع * (إياك نعبد) * لتدخلنا الجنان و * (إياك نستعين) * لتنقذنا من النيران * (إياك نعبد) * لأنا عبيد و * (إياك ستعين) * لأنك كريم مجيد * (إياك نعبد) * لأنك المعبود بالحقيقة و * (إياك نستعين) * لأننا العباد بالوثيقة. [اهدنا الصراط المستقيم]
* (اهدنا) * قال علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) وأبي بن كعب: أرشدتنا فهذا كما يقال للرجل الذي يأكل: كل والذي يقرأ: إقرأ وللقائم قم لي حتى أعود لك أي دم على ما أنت
118

عليه. وقال السدي ومقاتل: أرشدنا يقال: هديته للدين وهديته إلى الدين هدى وهداية قال الحسن بن الفضل: الهدى في القرآن على وجهين:
الوجه الأول: هدى دعاء وبيان كقوله:
* وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * وقوله: * (ولكل قوم هاد) * و * (وأما ثمود فهديناهم) *.
الوجه الثاني: هدى توفيق وتسديد كقوله: * (يضل من يشاء ويهدي من يشاء) * (وقوله) * (إنك لا تهدي من أحببت) * (و) * (الصراط المستقيم) * الطريق الواضح المستوي قال عامر بن الطفيل:
* خشونا أرضهم بالخيل حتى
* تركناهم أذل من الصراط) *
وقال جرير:
* أمير المؤمنين على صراط
* إذا اعوج الموارد مستقيم) * الاختلاف في قراءة الصراط
وفي الصراط خمس قراءات: بالسين وهو الأصل سمي الطريق سراطا لأنه يسترط المارة. أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن حمدوية حدثنا محمود بن آدم حدثنا سفيان عن عمر عن ثابت قال: سمعت ابن عباس قرا السراط بالسين وبه قرأ ابن كثير [من] طريق..... ويعقوب [من] طريق....
وبإشمام السين وهي رواية أبي حمدون عن الكسائي وبالزاي وهي رواية أبي حمدون عن سليم عن حمزة.
وبإشمام الزاي وهي قراءة حمزة في أكثر الروايات والكسائي في رواية نهشل والشيرازي. وبالصاد قراءة الباقين من القراء.
وكلها لغات فصيحة صحيحة إلا إن الاختيار الصاد؛ لموافقة المصحف لأنها كتبت في جميع المصاحف بالصاد. ولأن آخرتها بالطاء لأنهما موافقتان في الاطباق والاستعلاء.
واختلف المفسرون في * (الصراط المستقيم) * فأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد وأبو
119

القاسم الحسن بن محمد النيسابوري قالا: أخبرنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا الحسين بن علي عن حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن [ابن] أبي أخ الحرث الأعسر عن الحرث عن علي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم [يقول]: ((الصراط المستقيم كتاب الله عز وجل)).
وأخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا حامد بن محمد حدثنا محمد بن شاذان الجوهري حدثنا زكريا بن عدي عن مقتضي عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال: الصراط المستقيم كتاب الله عز وجل.
وأخبرنا عبد الله أخبرنا عبد الرحمن بن محمد حدثنا ليث حدثنا عقبة بن سليمان حدثنا الحسين بن صالح عن أبي عقيل عن جابر قال: الصراط المستقيم الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض [وإنما كان الصراط] المستقيم الإسلام لأن كل دين وطريق [غير] الإسلام فليس بمستقيم.
وروي عاصم الأحول عن أبي العالية الرياحي: هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه.
قال عاصم: فذكرت ذلك للحسن فقال: صدق أبو العالية ونصح.
وقال بكر بن عبد الله المزني: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فسألته عن الصراط المستقيم فقال: سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي.
وقال سعيد بن جبير: يعني طريق [الحق].
وقال السدي: أرشدنا إلى دين يدخل صاحبه به الجنة ولا يعذب في النار أبدا ويكون خروجه من قبره إلى الجنة.
وقال محمد بن الحنفية: هو دين [الله] الذي لا يقبل من عباده غيره أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله العايني حدثنا أبو الحسين محمد بن. عثمان النصيبي ببغداد حدثنا أبو القاسم [.....] ابن نهار حدثنا أبو حفص المستملي حدثنا أبي حدثنا حامد بن سهل حدثنا عبد الله بن محمد العجلي حدثنا إبراهيم بن جابر عن مسلم بن حيان عن أبي بريدة في قول الله تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) * قال: صراط محمد صلى الله عليه وسلم وآله (عليهم السلام).
120

وقال عبد العزيز بن يحيى: يعني طريق السواد الأعظم. [وقال] أبو بكر الوراق: يعني صراطا لا تزيغ به الأهواء يمينا وشمالا. وقال محمد بن علي النهدي: يعني طريق الخوف والرجاء. وقال أبو عثمان الداراني: [يعني] طريق العبودية.
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله بهرات يقول: سمعت أبا الحسن عمر بن واصل العنبري يقول: سمعت [سهل] بن عبد الله التستري يقول: طريق السنة والجماعة لأن البدعة لا تكون مستقيمة.
وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسر: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم: حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي: أخبرنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن أبي وائل عن عبد الله قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطين خطأ عن يمينه وخطا عن شماله ثم قال: ((هذه السبل وعلى كل سبيل منهما شيطان يدعو إليه وهذا سبيل الله)) ثم قرأ * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) *.
وأخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف حدثنا معمر بن سفيان الصغير حدثنا يعقوب بن سفيان الكبير حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح حدثنا معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير بن نصر حدثه عن أبيه جبير عن نواس بن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ضرب الله مثلا (صراطا مستقيما) * وعلى جانبي الصراط ستور مرخاة فيها أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط ولا تعوجوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجه بالصراط: الإسلام. والستور حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على الصراط كتاب الله عز وجل والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم)). [صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين]
* (صراط) * بدل من الأول * (الذين أنعمت عليهم) * يعني: طريق الذين أنعمت عليهم بالتوفيق والرعاية والتوحيد والهداية وهم الأنبياء والمؤمنون الذين ذكرهم الله
تعالى في قوله: * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) *.
121

قال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى من قبل أن يغيروا نعم الله عليهم.
وقال شهر بن حوشب هم أصحاب الرسول صلى الله عليه ورضي عنهم وأهل بيته (عليهم السلام). وقال عكرمة: * (أنعمت ليهم) * بالثبات على الإيمان والاستقامة.
وقال علي بن الحسين بن داود: * (أنعمت عليهم) * بالشكر على السراء والصبر على الضراء. وقال...... بن...... بما قد سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الحسين بن الفضل: يعني أتممت عليهم النعمة فكم من منعم عليه....
وأصل النعمة المبالغة والزيادة يقال: دققت الدواء فأنعمت دقة أي بالغت في دقة ومنه قول العرب النبي صلى الله عليه وسلم ((إن أهل الجنة يتراءون الغرفة منها كما يتراءون الكوكب الدري الشرقي أو الغربي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما)).
أي زادا عليه. وقال أبو عمرو: بالغا في الخير.
وقرأ الصادق: (صراط من أنعمت عليهم) وبه قرأ عمرو بن الزبير وعلي حرف اللام يجر ما بعده. وفي * (عليهم) * سبع قراءات:
الأولى: عليهم - بكسر الهاء وجزم الميم - وهي قراءة العامة.
والثانية: عليهم - بضم الهاء وجزم الميم - وهي قراءة الأعمش وحمزة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر (رضي الله عنه).
والثالثة: عليهم - بضم الهاء والميم وإلحاق الواو - وهي قراءة عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق.
والرابعة: عليهمو - بكسر الهاء وضم الميم وإلحاق الواو - وهي قراءة ابن كثير والأعرج.
والخامسة: عليهم - بكسر الهاء والميم وإلحاق الياء - وهي قراءة الحسن.
والسادسة: عليهم - بكسر الهاء وضم الميم مضمومة مختلسة - وهي رواية عبد الله بن عطاء الخفاف عن أبي عمرو.
والسابعة: عليهم - بكسر الهاء والميم - وهي قراءة عمرو بن حامد.
122

فمن ضم الهاء رده إلى الأصل لأنه لو أفرد كان مضموما عند الابتداء به ومن كسره فلأجل الياء الساكنة. ومن كسر الهاء وجزم الميم فإنه يستثقل الضم مع مجاورة الياء الساكنة والياء أخت الكسرة والخروج من الضم إلى الكسر ثقيل. ومن ضم الهاء والميم أتبع فيه الضمة. ومن كسر الهاء وضم الميم فإنه كسر الهاء لأجل الياء وضم الميم على الأصل والأختلاس للاستخفاف وإلحاق الواو والياء للاتباع والله أعلم. قال الشاعر في الميم المختلسة:
* والله لولا شعبة من الكرم
* وسطة في الحي من خال وعم
*
* لكنت فيهم رجلا بلا قدم
*
* (غير المغضوب) * غير: صفة الذين. والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف إلا إن الذين ليس بمعرفة موقتة ولكنه بمنزلة قولك: إني لأمر بالصادق غير الكاذب كأنك قلت: من يصدق لا من يكذب. ولا يجوز: مررت بعبد الله غير الظريف.
ومعنى كلامه: غير صراط الذين غضبت * (عليهم) *. في معنى الغضب
واختلفوا في معنى الغضب من الله عز وجل فقال قوم: هو إرادة الانتقام من العصاة. وقيل: هو جنس من العقاب يضاد والرضا. وقيل هو ذم العصاة على قبح أفعالهم.
ولا يلحق غضب الله تعالى العصاة من المؤمنين بل يلحق الكافرين.
* (ولا الضالين) * عن الهدى.
وأصل الضلال الهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا خفي وذهب و: رجل ضال إذا أخطأ الطريق و مضلل إذا لم يتوجه لخير قال الشاعر:
* ألم تسأل فتخبرك الديار
* عن الحي المضلل أين ساروا
*
قال الزجاج وغيره: وإنما جاز أن يعطف ب (لا) على غير؛ لأن غير متضمن معنى النفي؛ فهو بمعنى لا مجازه: غير المغضوب عليهم وغير الضالين كما تقول: فلان غير محسن ولا مجمل. فإذا كان (غير) بمعنى سوى لم يجز أن يعطف عليها ب (لا)؛ لأنه لا يجوز في الكلام عندي سوى عبد الله ولا زيد. وروى الخليل بن أحمد عن ابن كثير: * (غير المغضوب) * نصبا.
وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -: (وغير الضالين) وقرأ السختياني (ولا الضالئين) بالهمزة؛ لالتقاء الساكنين والله أعلم.
123

فأما التفسير:
فأخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان أخبرنا أحمد بن حنبل ومحمد بن دينار قالا: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سماك قال: سمعت عباد بن حبيش عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم: * (غير المغضوب عليهم) * قال: ((اليهود)) * (ولا الضالين) * قال: ((النصارى)).
وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي أخبرنا أبو زكريا العنبري حدثنا محمد بن عبد الله الوراق أخبرنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن بديل العقيلي عن عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرسه فسأله رجل من القين فقال: يا رسول الله من هؤلاء الذين يقاتلونك؟ قال: ((المغضوب عليهم)) وأشار إلى اليهود فقال: من هؤلاء الطائفة الأخرى؟ فقال: ((الضالون)) وأشار إلى النصارى.
وتصديق هذا الحديث حكم الله تعالى بالغضب على اليهود في قوله: * (هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه) * وحكم الضلال على النصارى في قوله: * (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا) *.
وقال الواقدي: * (غير المغضوب عليهم) * بالمخالفة والعصيان * (ولا الضالين) * عن الدين والإيمان.
وقال التستري: * (غير المغضوب عليهم) * البدعة * (ولا الضالين) * عن السنة. فصل في آمين
والسنة المستحبة أن يقول القارئ بعد فراغه من قراءة فاتحة الكتاب: آمين؛ سواء كان في الصلاة أو غير الصلاة؛ لما أخبرنا عبد الله بن حامد الاصفهاني أخبرنا محمد بن جعفر المطيري حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري حدثنا أبو داود عن سفيان وأخبرنا عبد الله قال: وأخبرنا عبدوس بن الحسين حدثنا أبو حاتم الرازي حدثنا ابن كثير أخبرنا سفيان عن سلمة عن حجر أبي العنبس الحضرمي عن أبي قايل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: * (ولا الضالين) * قال: (آمين)) ورفع بها صوته.
124

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لقنني جبرائيل صلى الله عليه وسلم آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب)).
وقال ((إنه كالخاتم على الكتاب)) وفيه لغتان: أمين بقصر الألف وأنشد:
*) تباعد مني فعطل إذ سألته
* أمين فزاد الله ما بيننا بعدا) *
وآمين بمد الألف وأنشد:
يا رب لا تسلبني حبها أبدا
* ويرحم الله عبدا قال آمينا
*
وهو مبني على الفتح مثل أين.
واختلفوا في تفسيره فأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن أيوب أخبرنا الحسن بن علي بن زياد حدثنا عبيد بن يعيش عن محمد ابن الفضل عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله صلى الله عليه وسلم عن معنى ((آمين)) قال: ((رب افعل)).
وقال ابن عباس وقتادة: معناه: كذلك يكون.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان أخبرنا مكي بن عبدان حدثنا عبد الله بن حاتم حدثنا عبد الله بن نمير أخبرنا سفيان عن منصور عن هلال بن يساف قال: آمين اسم من أسماء الله تعالى و [بذلك] قال مجاهد.
وقال سهل بن عبد الله: معناه: لا يقدر على هذا أحد سواك. وقال محمد بن علي النهدي: معناه لا تخيب رجانا.
وقال عطية العوفي: آمين كلمة ليست بعربية إنما هي عبرية أو سريانية ثم تكلمت به العرب فصار لغة لها. وقال عبد الرحمن بن زيد: آمين كنز من كنوز العرش لا يعلم تأويله أحد إلا الله عز وجل.
وقال أبو بكر الوراق: آمين قوة للدعاء واستنزال للرحمة.
وقال الضحاك بن مزاحم: آمين أربعة أحرف مقتطعة من أسماء الله تعالى وهو خاتم رب العالمين يختم به براءة أهل الجنة وبراءة أهل النار وهي الجائزة التي منها يجوزون إلى الجنة والنار.
125

يدل عليه ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر حدثنا أبو الحسن محمد بن محمود بن عبد الله حدثنا محمد بن علي الحافظ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه حدثنا سعيد بن جبير حدثنا المؤمل بن عبد الرحمن بن عياش الثقفي عن أبي أمية بن يعلي الثقفي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((
آمين خاتم رب العالمين على عبادة المؤمنين)).
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون بن الفضل بقراءتي عليه في صفر سنة ثمان وأربعمائة أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين بن الشرقي حدثنا محمد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر وأحمد بن يوسف قالوا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافق إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه)).
وحدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر أخبرنا محمد أبو الحسن محمد بن الحسن بهراة حدثنا رجاء بن عبد الله حدثنا مالك بن سليم عن سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء قال: آمين دعاء [وعنه عن] النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حسدكم اليهود على شيء كما حسدوكم على آمين وتسليم بعضكم على بعض)).
وقال وهب بن منبه: آمين على أربع أحرف يخلق الله تعالى من كل حرف ملكا يقول: اللهم أغفر لمن قال: آمين: فصل في أسماء هذه السورة
هي عشرة وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى:
الأول: فاتحة الكتاب سميت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم والقراءة في الصلاة وهي مفتتحة بالآية التي تفتتح بها الأمور تيمنا وتبركا وهي التسمية. وقيل: سميت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن: وقال الحسين بن الفضل: لأنها أول سورة نزلت من السماء.
والثاني: سورة الحمد لأن فيها ذكر الحمد كما قيل: سورة (الأعراف) و (الأنفال) و (التوبة) ونحوها.
والثالث: أم الكتاب والقرآن؛ سميت بذلك لأنها أول القرآن والكتب المنزلة فجميع ما
126

أودعها من العلوم مجموع في هذه السورة؛ فهي أصل لها كالأم للطفل وقيل: سميت بذلك؛ لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة سميت أم القرى لأنها أشرف البلدان. وقيل: سميت بذلك لأنها مقدمة على سور القرآن فهي أصل وإمام لما يتلوها من السور كما أن أم القرى أصل جميع البلدان دحيت الأرض من تحتها. وقيل: سميت بذلك لأنها مجمع العلوم والخيرات كما أن الدماغ يسمى أم الرأس لأنها مجمع الحواس والمنافع.
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد المفسر يقول: سمعت أبا بكر القفال يقول: سمعت أبا بكر البريدي يقول: الأم في كلام العرب: الراية ينصبها العسكر.
قال قيس بن الخطيم:
* نصبنا أمنا حتى ابذعروا
* وصاروا بعد إلفتهم شلالا
*
فسميت أم القرآن لأن مفزع أهل الإيمان إليها كمفزع العسكر إلى الراية. والعرب تسمي الأرض أما؛ لأن معاد الخلق إليها في حياتهم وبعد مماتهم قال أمية بن أبي الصلت:
* والأرض معقلنا وكانت أمنا
* فيها مقابرنا وفيها نولد
*
وأنشدني أبو القاسم قال: أنشدنا أبو الحسين المظفر محمد بن غالب الهمداني قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدنا أبي قال: أنشدني أحمد بن عبيدة:
* نأوي إلى أم لنا تعتصب
* كما ولها أنف عزيز وذنب) *
* وحاجب ما إن نواريها الغصب
* من السحاب ترتدي وتنتقب
*
يعني: نصبه كما وصف لها. وسميت الفاتحة أما لهذه المعاني. وقال الحسين بن الفضل: سميت بذلك؛ لأنها إمام لجميع القرآن تقرأ في كل [صلاة و] تقدم على كل سورة كما أن أم القرى إمام لأهل الإسلام. وقال ابن كيسان: سميت بذلك؛ لأنها تامة في الفضل.
والرابع: السبع المثاني وسيأتي تفسيره في موضعه إن شاء الله.
والخامس: الوافية حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري حدثنا أبي عن أمه عن محمد بن نافع السنجري حدثنا أبو يزيد محبوب الشامي حدثنا عبد الجبار بن العلاء قال: كان يسمي سفيان بن عيينة فاتحة الكتاب: الوافية وتفسيرها لأنها لا تنصف ولا تحتمل الأجتزاء إلا أن كل سورة من سور القرآن لو قرئ نصفها في ركعة والنصف الآخر في ركعة كان جائزا ولو نصفت الفاتحة وقرئت في ركعتين كان غير جائز.
127

والسادس: الكافية أخبرنا أبو القاسم السدوسي أخبرنا أبو جعفر محمد بن مالك المسوري حدثنا أبو عبد الله محمد بن عمران قال: حدثنا سهيل بن [محمد] حدثنا عفيف
بن سالم قال: سألت عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن قراءة الفاتحة خلف الإمام فقال: عن الكافية تسأل؟
قلت: وما الكافية؟ قال: أما علمت أنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها. إياك أن تصلي إلا بها.
وتصديق هذا الحديث ما حدثنا الحسن بن محمد بن جعفر المفسر حدثنا عبد الرحمن بن عمر ابن مالك الجوهري بمرو حدثنا أبي حدثنا أحمد بن يسار عن محمد بن عباد الإسكندراني عن أشهب بن عبد العزيز عن ابن عيينة عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضا)).
والسابع: الأساس حدثنا أبو القاسم الحسين بن محمد المذكر حدثنا أبو عمرو بن المعبر محمد بن الفضل القاضي بمرو حدثنا أبو هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي حدثنا جارود بن معاد أخبرنا وكيع قال: إن رجلا أتى الشعبي فشكا إليه وجع الخاصرة فقال: عليك بأساس القرآن. قال: وما أساس القرآن؟ قال: فاتحة الكتاب. قال الشعبي: سمعت عبد الله بن عباس غير مرة يقول: إن لكل شيء أساسا وأساس العمارة مكة؛ لأنها منها دحيت الأرض وأساس السماوات غريبا وهي السماء السابعة وأساس الأرض عجيبا وهي الأرض السابعة السفلى وأساس الجنان جنة عدن وهي سرة الجنان وعليها أسست الجنان وأساس النار جهنم وهي الدركة السابعة السفلى وعليها أسست الدركات وأساس الخلق آدم عليه السلام وأساس الأنبياء نوح عليه السلام وأساس بني إسرائيل يعقوب وأساس الكتب القرآن وأساس القرآن الفاتحة وأساس الفاتحة * (بسم الله الرحمن الرحيم) *. فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى.
والثامن: الشفاء حدثنا أبو القاسم بن أبي بكر المكتب لفظا حدثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الرفاء أخبرنا محمد بن أيوب الواقدي حدثنا أبو عمرو بن العلاء حدثنا سلام الطويل عن زيد العمي عن محمد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((فاتحة الكتاب شفاء من كل سم)).
وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه حدثنا أبو الحسين محمد بن الحسن الصفار الفقيه
128

حدثنا أبو العباس السراج حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا معاوية بن صالح عن أبي سليمان قال: مر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواتهم على رجل مقعد متربع فقرأ بعضهم في أذنه شيئا من القرآن فبرئ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي أم القرآن وهي شفاء من كل داء)).
أخبرنا أحمد بن أبي الخوجاني أخبرنا الهيثم بن كليب الشامي حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني أخبرنا النضر بن شميل أخبرنا سعيد بن الحجاج عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن خارجة بن الصلت التميمي عن عمه قال: جاء عمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمروا بحي من الأعراب فقالوا: أنا نراكم قد جئتم من عند هذا الرسول إن عندنا رجلا مجنونا مخبولا فهل عندكم من دواء أو رقية؟ فقال عمي: نعم. فجيىء به فجعل عمي يقرا أم القرآن وبزاقه فإذا فرغ منها بزق فجعل ذلك ثلاثة أيام فكأنما أهبط من جبال قال عمي: فأعطوني عليه جعلا فقلت: لا نأكله حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم. فسأله فقال: ((كله فمن الحل ترقيه بذلك. لقد أكلت برقية حق)).
والتاسع: الصلاة قد تواترت الأخبار بأن الله تعالى سمى هذه السورة وهو ما يعرف أنه لا صلاة إلا بها.
أخبرنا عبد الله بن حامد وأحمد بن يوسف بقراءتي عليهما قالا: أخبرنا مكي بن عبد الله حدثنا محمد بن يحيى قال: وفيما قرأته على أبن نافع وحدثنا مطرف عن مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله عز وجل: قسمت الصلاة - يعني هذه السورة - بيني وبين عبدي نصفين؛ فنصفها لي ونصفها لعبدي فإذا قرأ العبد: * (الحمد لله رب العالمين) * يقول الله: حمدني عبدي وإذا قال العبد: * (الرحمن الرحيم) * يقول الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال العبد: * (مالك يوم الدين) * يقول الله: مجدني عبدي. وإذا قال العبد: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * قال الله: هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: * (اهدنا الصراط المستقيم) * إلى آخرها قال: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل.
والعاشر: سورة تعلم المسألة؛ لأن الله تعالى علم فيه عبادة آداب السؤال فبدأ بالثناء ثم الدعاء وذلك سبب النجاح والفلاح.
القول في وجوب قراءة هذه السورة في الصلاة.
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن جعفر الطبري حدثنا بشر بن مطير حدثنا
129

سفيان حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أنه سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى صلاة فلم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج - ثلاث مرات - غير تمام)).
وأخبرنا عبد الله قال: أخبرنا ابن عباس حدثنا عبد الرحمن بن بشر حدثنا ابن عيينة عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة لمن لا يقرا فيها بفاتحة الكتاب)).
أخبرنا عبد الله أخبرنا عبدوس بن الحسين حدثنا أبو حاتم الرازي حدثنا أبو قبيصة حدثنا سفيان عن جعفر بن علي بياع الأنماط عن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي: ((لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب)).
وأخبرنا عبد الله أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق أخبرنا أبو المثنى حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث بن حنظلة السدوسي قال: قلت لعكرمة: إني ربما قرأت في المغرب
* * (قل أغوذ برب الفلق) * و * (قل أعوذ برب الناس) * وأن الناس يعيبون علي ذلك فقال: سبحان الله إقرأ بهما فإنهما من القرآن ثم قال: حدثنا ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى ركعتين لم يقرأ فيهما إلا بفاتحة الكتاب لم يزد على ذلك غيره.
وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي حدثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان حدثنا الشافعي حدثنا سفيان عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب)) واحتج من أجاز الصلاة بغيرها بقوله: * (فاقرأوا ما تيسر من القرآن).
وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد بقراءتي عليه أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا أبو المثنى حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عمر قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل وصلى ثم جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) حتى فعل ذلك ثلاث مرات. قال الرجل: والذي بعثك بالحق نبيا ما أحسن غير هذا فعلمني. قال: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع)).
وهذه اللفظة يحتمل أنه أراد أن كل ما وقع عليه اسم قرآن وجهل إنما يراد سورة بعينها
130

فلما احتمل الوجهين نظرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم صلى بفاتحة الكتاب وأمر بها [وشدد على] من تركها فصار هذا الخبر مجملا والأخبار التي رويناها مفسرة والمجمل يدل على المفسر وهذا كقوله: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) * ثم لم يجز أحد [ترك الهدي] بل ثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم بالصفة أن لا يكون أعور ولا أعرج ولا معيوبا فكذلك أراد بقوله عز وجل وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فسر بالصفة التي بينها أن تكون سورة الحمد إذا أحسنها وقدرها إذا لم يحسنها. فبالعلة التي أوجبوا قراءة آية تامة مع قوله: ((ما تيسر)) له وجه ظاهرة العلم والله أعلم.
ذكر وجوب قراءتها على المأموم كوجوبها على الإمام واختلاف الفقهاء فيه:
قال مالك بن أنس: يجب عليه قراءتها إذا خافت الإمام فأما إذا جهر فليس عليه [شيء]. وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد: يلزمه القراءة أسر الإمام أو جهر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يلزمه القراءة خافت أو جهر.
واتفق المسلمون على أن صلاته [صحيحة] إذا قرأ خلف الإمام.
والدليل على وجوب القراءة على المأموم كوجوبها على الإمام ما أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا مكي بن عبد الله حدثنا أبو الأزهر حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن أبي إسحاق حدثنا مكحول وأخبرنا عبد الله أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن بن سهل حدثنا سهل بن عمار حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود ابن الربيع عن عبادة ابن الصامت قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته أقبل علينا بوجهه وقال: ((إني لأراكم تقرؤون خلفي؟)). قلنا: أجل والله يا رسول الله هذا. قال: ((فلا تفعلوا إلا بأم الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)).
وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وجابر وابن مسعود وعمران بن حصين وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وهشام بن عامر ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وعائشة وأبي هريرة وجماعة كبيرة من التابعين وأئمة المسلمين روي عنهم جميعا أنهم رأوا القراءة خلف الإمام واجبة.
131

ووجه القول القديم ما روى سفيان عن عاصم بن أبي النجود عن ذكوان عن أبي هريرة وعائشة أنهما كانا يأمران بالقراءة وراء الإمام إذا لم يجهر. واحتج أبو حنيفة وأصحابه بما أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا الوليد ابن حماد اللؤلؤي: حدثنا الحسن بن زياد اللؤلؤي: حدثنا أبو حنيفة عن الحسن عن عبد الله بن شداد بن الماد عن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صلى خلف امام فإن قراءة الإمام له قراءة)).
وأخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا أبو بكر بن إسحاق أخبرنا محمد بن أيوب أخبرنا أحمد بن يونس حدثنا الحسن بن صالح عن جابر الجعفي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له إمام فقراءته له قراءة)).
فإما حديث عبد الله بن شداد فهو مرسل رواه شعبة وزائدة وابن عينية وأبو عوانة وإسرائيل وقيس وجرير وأبو الأحوص مرسلا والمرسل لا تقوم به حجة والوليد بن حماد والحسن لا يدري من هما. وأما خبر جابر الجعفي فهو ساقط قال زائدة: جابر كذاب وقال أبو حنيفة: ما رأيت أكذب من جابر. وقال ابن عينية: كان جابر لا يوقن بالرجعة.
وقال شعبة: قال لي جابر: دخلت إلى محمد بن علي فسقاني شربه وحفظت عشرين ألف حديث. ولا خلاف بين أهل النقل في سقوط الاحتجاج بحديثه.
وقد روي عن جابر بن عبد الله ما خالف هذه الأخبار أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا أبو بكر بن إسحاق حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن يحيى أخبرنا سعد بن عامر عن شعبة عن مسعر عن يزيد بن الفقير عن جابر بن عبد الله قال: كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام ومحال أن يروي جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قراءة الإمام قراءة المأموم ثم يقرأ خلف الإمام ويأمر به مخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم.
واحتجوا أيضا بما روي عن عاصم بن عبد العزيز عن أبي سهيل عن عوان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يكفيك قراءة الإمام جهر أو لم يجهر)).
وهذا الحديث أيضا لا يثبته أهل المعرفة بالحديث لأنه غير متن الحديث وإنما الخبر الصحيح فيه عن أبي هريرة ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي أخبرنا الهيثم بن كليب حدثنا
العباس ابن محمد الدوري حدثنا بشر بن كلب حدثنا شعبة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه
132

عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج غير تمام. قال: فقلت له: إذا كان خلف الإمام؟ قال: فأخذ بذراعي وقال: ((يا فارسي - أو قال: يا بن الفارسي - اقرأ بها في نفسك)).
واحتجوا أيضا بما روى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كانوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((خلطتم علي القرآن)).
وهذا الخبر فيه نظر ولو صح لكان المنع من القراءة كما رواه النضر بن شميل.
أخبرنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقوم يقرؤون القرآن ويجهرون به: ((خلطتم علي القرآن)) فليس في نهيه عن القراءة خلف الإمام جهرا ما يمنع عن القراءة سرا. ونحن لا نجيز الجهر بالقراءة خلف الإمام؛ لما فيه من سوء الأدب والضرر الظاهر. وقد روى يحيى بن عبد عن محمد بن إبراهيم عن أبي حازم عن البياضي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام إحدكم يصلي فإنه يناجي ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)).
ودليل هذا التأويل حديث عبد الله بن زياد الأشعري قال: صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود خلف الإمام فسمعته يقرأ في الظهر والعصر. وكذلك الجواب عن إحتجاحهم بخبر عمران بن الحصين قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر فلما انصرف قال: أيكم قرا (سبح اسم ربك الأعلى) قال رجل: أنا ولم أرد به إلا الخير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عرفت أن بعضكم خالجنيها)).
واحتجوا أيضا بحديث أبي هريرة: فإذا قرأ فأنصتوا وليس الانصات بالسكوت فقط إنما الإنصات أن تحسن استماع الشيء ثم يؤدي كما سمع يدل عليه قوله تعالى في قصة الجن: * (فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا) *
وقد يسمى الرجل منصتا وهو قارىء مسبح إذا لم يكن جاهرا به ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم.
133

قال: ((من أتى الجمعة فأنصت ولم يلغ حتى يصلي الإمام كان له كذا وكذا)).
فسماه منصتا وإن كان مصليا ذاكرا وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تقول أيضا؟ قال: ((أقول اللهم اغسلني من خطاياي)) فدل أن الإنصات وهو ترك الجهر بالقراءة دون المخافته بها يدل عليه ما أخبرنا به أبو القاسم الحسين حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا أبو الدرداء هاشم بن محمد حدثنا عبيد بن السكن حدثنا إسماعيل بن عباس أخبرنا محمد بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاة مكتوبة أو سبحة فليقرا بأم القرآن)).
قال: قلت: يا رسول الله إني ربما أكون وراء الإمام.
قال صلى الله عليه وسلم: ((اقرا إذا سكت إنما جعل الإمام ليؤتم به)).
قد رواه الثقات الأثبات عن أبي هريرة مثل الأعرج وهمام بن منبه وقيس بن أبي حازم وأبي صالح وسعيد المقبري والقاسم بن محمد وأبي سلمة ولم يذكروا: (وإذا قرأ فأنصتوا).
وأما احتجاجهم بقوله تعالى: * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى
آخر السورة وبالله التوفيق.
134

سورة البقرة
مدنية: وهي مائتان وست وثمانون آية في العدد الكوفي وهي سندأمير المؤمنين علي عليه السلام وهي خمسة وعشرون ألف [حرف] وخمسمائة حرف وستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة
أخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف حدثنا يعقوب ابن سفيان الصغير حدثنا يعقوب بن سفيان الكبير حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا شعيب بن زرين عن عطاء الخراساني عن عكرمة قال: أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة. فضلها
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها أخبرنا دعلج بن أحمد الشجري ببغداد حدثنا محمد بن أحمد بن هارون حدثنا خندف عن علي حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا خالد بن شعيب المزني عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل شيء سناما وسنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخل في بيته شيطان ثلاثة أيام).
وأخبرنا محمد بن القاسم بن أحمد المرتب بقراءتي عليه حدثنا أبو عمرو بن مطرف حدثنا أبو عبد الله محمد بن المسيب حدثنا عبد الله بن الحسين حدثنا يوسف بن الأسباط حدثنا حسن بن المهاجر عن عبد الله بن يزيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: ((تعلموا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة)).
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري حدثنا أبو أحمد عبد الله بن علي الحافظ أخبرنا محمد بن يحيى بن مندة حدثنا أبو مصعب حدثنا عمران بن طلحة الليثي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا ثم تتبعهم يستقرئهم فجاء إنسان منهم
135

فقال: ((ماذا معك من القرآن؟)) حتى أتى على آخرهم وهو أحدثهم سنا فقال: ((ما معك من القرآن؟ قال: كذا وكذا وسورة البقرة فقال: (اخرجوا وهذا عليكم أمين)) قالوا: يا رسول الله هو أحدثنا سنا قال: ((معه سورة البقرة)). التفسير: [ال م ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلواة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك ومآ أنزل من 2 قبلك وبالأخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم 7]
قوله تعالى: * (ألم) *: اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور فذهب كثير منهم إلى أنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها.
قال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)): في كل كتاب سر وسر القرآن أوائل السور.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.
وفسره الآخرون فقال سعيد بن جبير: هي أسماء الله مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم ألا ترى أنك تقول: * (الر) * وتقول: * (حم) * وتقول: * (ن) * فيكون الرحمن وكذلك سائرها على هذا الوجه إلا أنا لا نقدر على وصلها والجمع بينها.
وقال قتادة: هي أسماء القرآن.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي أسماء للسور المفتتحة بها.
وقال ابن عباس: هي أقسام أقسم الله بها وروي أنه ثناء أثنى الله به على نفسه.
وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلا وهو مفتاح لاسم من أسماء الله عز وجل وليس منها حرف إلا وهو في الآية وبلائه وليس منها حرف إلا في مدة قوم وآجال آخرين.
136

وقال عبد العزيز بن يحيى: معنى هذه الحروف أن الله ذكرها فقال: اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك وكذلك تعلم الصبيان أولا مقطعة وكان الله أسمعهم مقطعة مفردة ليعرفوها إذا وردت عليهم ثم أسمعهم مؤلفة.
وقال أبو روق: إنها تكتب للكفار وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلها وكان المشركون يقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون.
فربما صفقوا وربما صفروا وربما لفظوا ليغلطوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى رسول الله ذلك أسر في الظهر والعصر وجهر في سائرها وكانوا يضايقونه ويؤذونه فأنزل الله تعالى هذه الحروف المقطعة فلما سمعوها بقوا متحيرين متفكرين فاشتغلوا بذلك عن إيذائه وتغليطه فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا إلى انتفاعهم.
وقال الأخفش: إنما أقسم الله بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسن المختلفة ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأصول كلام الأمم بما يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه وكأنه أقسم بهذه الحروف إن القرآن كتابه وكلامه لا ريب فيه.
وقال النقيب: هي النبهة والاستئناف ليعلم أن الكلام الأول قد انقطع كقولك: ولا إن زيدا ذهب.
وأحسن الأقاويل فيه وأمتنها أنها إظهار لإعجاز القرآن وصدق محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين.
والعرب تعبر ببعض الشيء عن كله كقوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) * أي صلوا لا يصلون وقوله: * (واسجد واقترب) فعبر بالركوع والسجود عن الصلاة إذ كانا من أركانها وقال: * (ذلك بما قدمت أيديكم) * أراد جميع أبدانكم.
وقال: * (سنسمه على الخرطوم) * أي الأنف فعبر باليد عن الجسد وبالأنف عن الوجه.
وقال الشاعر في امرأته:
* لما رأيت امرها في خطي
* وفنكت في كذب ولط
*
* أخذت منها بقرون شمط
* فلم يزل ضربي بها ومعطي) *
137

فعبر بلفظه ((خطي)) عن جملة حروف أبجد.
ويقول القائل: (أ ب ت ث) وهو لا يريد هذه الأربعة الأحرف دون غيرها بل يريد جميعها وقرأت الحمد لله وهو يريد جميع السورة ونحوها كثير وكذلك عبر الله بهذه الحروف عن جملة حروف التهجي والإشارة فيه أن الله تعالى نبه العرب وتحداهم فقال: إني قد نزلت هذا الكتاب من جملة الثمانية والعشرين التي هي لغتكم ولسانكم وعليها مباني كلامكم فإن كان محمد هو النبي يقوله من تلقاء نفسه فأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله فلما عجزوا عن ذلك بعد الإجهاد ثبت أنه معجزة.
هذا قول المبرد وجماعة من أهل المعاني فإن قيل: فهل يكون حرفا واحدا عودا للمعنى؟ وهل تجدون في كلام العرب أن يقال: ألم زيد قائم؟ وحم عمرو ذاهب؟ قلنا:
نعم هذا عادة العرب يشيرون بلفظ واحد إلى جميع الحروف ويعبرون به عنه.
قال الراجز:
* قلت لها قفي فقالت قاف
* لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف) *
أي قف أنت.
وأنشد سيبويه لغيلان:
* نادوهم ألا الجموا ألا تا
* قالوا جميعا كلهم ألا فا
*
أي لا تركبون فقالوا: ألا فاركبوا.
وأنشد قطرب في جارية:
* قد وعدتني أم عمرو أن تا
* تدهن رأسي وتفليني تا
*
* أراد أن تأتي وتمسح
*
وأنشد الزجاج:
* بالخير خيرات وإن شرا فا
* ولا أريد الشر إلا أن تا
*
أراد بقوله (فا): وإن شرا فشر له وبقوله: تا إلا أن تشاء.
قال الأخفش: هذه الحروف ساكنة لأن حروف الهجاء لا تعرب بل توقف على كل حرف على نية السكت ولابد أن تفصل بالعدد في قولهم واحد - اثنان - ثلاثة - أربعة.
138

قال أبو النجم:
* أقبلت من عند زياد كالخرف
* تخط رجلاي بخط مختلف
تكتبان في الطريق لام الألف.
فإذا أدخلت حرفا من حروف العطف حركتها.
وأنشد أبو عبيدة:
* إذا اجتمعوا على ألف وواو
* وياء هاج بينهم جدال
*
وهذه الحروف تذكر على اللفظ وتؤنث على توهم الكلمة.
قال كعب الأحبار: خلق الله العلم من نور أخضر ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفا من أصل الكلام وهيأها بالصوت الذي سمع وينطق به فنطق بها العلم فكان أول ذلك كله [.......] فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربها تعالى وتمايلت هيبة له فسجدت فصارت همزة فلما رأي الله تعالى تواضعها مدها وطولها وفضلها فصارت ألفا فتلفظه بها ثم جعل القلم ينطق حرفا حرفا إلى ثمانية وعشرين حرفا فجعلها مدار الكلام والكتب والأصوات واللغات والعبادات كلها إلى يوم القيامة وجميعها كلها في أبجد.
وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول أسمائه ومقدما على الحروف كلها فأما قوله عز وجل: * (ألم) * فقد اختلف العلماء في تفسيرها.
عطاء بن السايب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله تعالى: * (ألم) * قال: أنا الله أعلم.
أبو روق عن الضحاك في قوله * (ألم) *: أنا الله أعلم.
مجاهد وقتادة: * (ألم) اسم من أسماء القرآن.
الربيع بن أنس: (ألف) مفتاح اسم الله و (لام) مفتاح اسمه لطيف و (ميم) مفتاح اسمه مجيد.
خالد عن عكرمة قال: * (ألم) * قسم.
محمد بن كعب: (الألف) آلاء الله و (اللام) لطفه و (الميم) ملكه.
139

وفي بعض الروايات عن ابن عباس: (الألف) الله و (اللام) جبرئيل أقسم الله بهم إن هذا الكتاب لا ريب فيه ويحتمل أن يكون معناه على هذا التأويل: أنزل الله هذا الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أهل الإشارة: (ألف): أنا (لام): لي (ميم): مني.
وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر الصادق وقد سئل عن قوله: * (ألم) فقال: في الألف ست صفات من صفات الله: الابتداء؛ لأن الله تعالى ابتدأ جميع الخلق و (الألف). ابتداء الحروف والاستواء فهو عادل غير جائر و (الألف) مستو في ذاته والانفراد والله فرد والألف فرد وإتصال الخلق بالله والله لا يتصل بالخلق فهم يحتاجون إليه وله غني عنهم.
وكذلك الألف لا يتصل بحرف فالحروف متصله: وهو منقطع عن غيره والله باين بجميع صفاته من خلقه ومعناه من الإلفة فكما أن الله سبب إلفه الخلق فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب إلفتها.
وقالت الحكماء: عجز عقول الخلق في ابتداء خطابه وهو محل الفهم ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلا بعلمهم فالعجز عن معرفة الله حقيقة خطابه.
وأما محل * (ألم) * من الإعراب فرفع بالابتداء وخبره فيما بعده.
وقيل: * (ألم) * ابتداء و * (ذلك) * ابتداء آخر و * (الكتاب) * خبره وجملة الكلام خبر الابتداء الأول.
* (ذلك) *: قرأت العامة * (ذلك) * بفتح الذال وكذلك هذه وهاتان وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه (ذ) للاسم واللام عماد والكاف خطاب وهو إشارة إلى الغائب. و * (الكتاب) *: بمعنى المكتوب كالحساب والعماد.
قال الشاعر:
* بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة
* أتتك من الحجج تتلى كتابها
*
أو مكتوبها فوضع المصدر موضع الاسم كما يقال للمخلوق خلق وللمصور تصوير وقال: دراهم من ضرب الأمير أي هي مضروبة وأصله من الكتب وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض مأخوذ من قولهم: كتب الخرز إذا خرزته قسمين ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب.
قال ذو المرجة.
140

* وفراء غرفية أثاي خوارزها
* مشلشل ضيعته فبينها الكتب
*
ويقال: كتبت البغل إذا حرمت من سفرتها الخلقة ومنه قيل للجند كتيبة وجمعها كتائب.
قال الشاعر:
* وكتيبة جاءوا ترفل
* في الحديد لها ذخر
*
واختلفوا في هذا (الكتاب) * قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل: هو القرآن وعلى هذا القول يكون (ذلك) بمعنى (هذا) كقول الله تعالى: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم) * أي هذه.
وقال خفاف بن ندبه السلمي:
* إن تك خيلي قد أصيب صميمها
* فعمدا على عين تيممت مالكا)
* أقول له الرمح يأطر متنه
* تأمل خفافا إنني إنا ذالكا) *
يريد [هذا].
وروي أبو الضحى عن ابن عباس قال: معناه ذلك الكتاب الذي أخبرتك أن أوجه إليك.
وقال عطاء بن السائب: * (ذلك الكتاب) * الذي وعدتكم يوم الميثاق.
وقال يمان بن رئاب: * (ذلك الكتاب) * الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
وقال سعيد بن جبير هو اللوح المحفوظ.
عكرمة: هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة.
وقال الفراء: إن الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد فلما أنزل القرآن قال: هو الكتاب الذي وعدتك.
وقال ابن كيسان: تأويله أن الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة كذب بكلها المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال: * (ذلك الكتاب) * يعني ما تقدم البقرة من القرآن.
وقيل: ذلك الكتاب الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي.
141

* (لا ريب فيه) *: لا شك فيه إنه من عند الله.
قال: * (هدى) *: أي هو هدى وتم الكلام عند قوله فيه وقيل: ((هو)) نصب على الحال أي هاديا تقديره لا ريب في هدايته للمتقين.
قال أهل المعاني: ظاهره نفي وباطنة نهي أي لا ترتابوا فيه كقوله تعالى: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال) *: أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان. فصل في التقوى
* (هدى للمتقين) *: اعلم أن التقوى أصله وقي من وقيت فجعلت الواو تاء كالتكلان فأصله وكلان من وكلت والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ.
واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جماع التقوى في قول الله تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) * الآية)).
قال ابن عباس: المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش.
وقال ابن عمر: التقوى أن لا يرى [نفسه] خيرا من أحد.
وقال الحسن: المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خير مني.
وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: حدثني عن التقوى فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم وقال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وتشمرت فقال كعب: ذلك التقوى ونظمه ابن المعتز فقال:
* خل الذنوب صغيرها
* وكبيرها ذاك التقى
*
* واضع كماش فوق أر ض
* الشوك يحذر ما يرى
*
* لا تحتقرن صغيرة
* إن الجبال من الحصا) *
وقال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ولكن التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير.
142

وقيل لطلق بن حبيب: أجمل لنا التقوى؟ فقال: التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله.
وقال بكر بن عبد الله لا يكون الرجل تقيا حتى يكون يتقي الطمع ويتقي الغضب وقال عمر بن عبد العزيز: المتقي لمحرم لا تحرم يعني في الحرم.
وقال شهر بن حوشب: المتقي الذي يترك مالا يأتمن به حذرا لما به بأس.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما سمي المتقون؟ لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس.
وقال سفيان الثوري والفضيل: هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه.
وقال الجنيد بن محمد: ليس المتقي الذي يحب الناس ما يحب لنفسه إنما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلس؟ سلم
عليه ذات يوم صديق له فرد عليه وهو عابس لم يبش له فقلت له في ذلك فقال: بلغني أن المرء المسلم إذا سلم على أخيه ورد عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة فتسعون لأجلهما وعشرة للآخر فأحببت أن يكون له التسعون.
محمد بن علي الترمذي: هو الذي لا خصم له.
السري بن المفلس: هو الذي يبغض نفسه.
الشبلي: هو الذي يبغي ما دون الله.
قال جعفر الصادق: أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد:
* ألا كل شيء ما خلا الله باطل
*
الثوري: هو الذي اتقى الدنيا وأقلها.
محمد بن يوسف المقري: مجانبة كل ما يبعدك عن الله.
القاسم بن القاسم: المحافظة على آداب الشريعة.
وقال أبو زيد: هو التورع عن جميع الشبهات.
وقال أيضا: المتقي من إذا قال قال لله وإذا سكت سكت لله وإذا ذكر ذكر لله تعالى.
الفضيل: يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوه كما يأمنه صديقه.
143

وقال سهل: المتقي من تبرأ من حوله وقوته.
وقال: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك من حيث أمرك.
وقيل: هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات وبنفسك من الشهوات وبحلقك من اللذات وبجوارحك من السيئات فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسماوات.
أبو القاسم (حكيم): هو حسن الخلق.
وقال بعضهم: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكل فيما لم ينل وحسن الرضا فيما قد نال وحسن الصبر على ما فات. وقيل: المتقي من اتقى متابعة هواه.
وقال مالك: حدثنا وهب بن كيسان أن بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أن لأهل التقى علامات يعرفون بها: الصبر عند البلاء والرضا بالقضاء والشكر عند النعمة والتذلل لأحكام القرآن.
وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر.
وقال أبو تراب: بين يدي التقوى عقبات من لا يجاوزها لا ينالها اختيار الشدة على النعمة واختيار القول على الفضول واختيار الذل على العز واختيار الجهد على الراحة واختيار الموت على الحياة.
وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلا إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها.
وقيل: التقوى أن تزين سرك للحق كما تزين علانيتك للخلق.
وقال أبو الدرداء.
* يريد المرء أن يعطى مناه
* ويأبى الله إلا ما أرادا
*
* يقول المرء فائدتي وذخري
* وتقوى الله أفضل ما استفادا
*
144

فصل في الإيمان
* (الذين يؤمنون بالغيب) * اعلم أن حقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب لأن الخطاب الذي توجه عليها بلفظ آمنوا إنما هو بلسان العرب ولم يكن العرب يعرفون الإيمان غير التصديق والنقل في اللغة لم يثبت فيه إذ لو صح النقل عن اللغة لروي عن ذلك كما روي في الصلاة التي أصلها الدعاء.
إذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السلام وبينه * (وما أنت بمؤمن لنا) *: أي بمصدق لنا ولو كنا صادقين ويدل عليه من هذه الآية أنه لما ذكر الإيمان علقه بالغيب ليعلم أنه تصديق الخبر فيما أخبر به من الغيب ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات اللازمة للأبدان
وفي الأموال فقال: * (ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) * والدليل عليه أيضا أن الله تعالى حيث ما ذكر الإيمان [نسبه] إلى القلب فقال: * (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) * وقال: * (وقلبه مطمئن بالإيمان) * وقال: * (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) * ونحوها كثير.
فأما محل الإسلام من الإيمان فهو كمحل الشمس من الضوء: كل شمس ضوء وليس كل ضوء شمسا وكل مسك طيب وليس كل طيب مسكا كذلك كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا إذا لم يكن تصديقا؛ لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع يدل عليه قوله تعالى: * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) * من خوف السيف وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان سرا)) وأشار إلى صدره (والإسلام علانية)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه)).
وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في الإسلام والإيمان فأجاب في الإيمان بالتصديق وفي الإسلام بشرائع الإيمان وهو ما روى أبو بريده وهو يحيى بن معمر قال: أول من قال في القدر بالبصرة سعيد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هو: ما في القدر؟ فوافقنا عبد الله ابن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن
145

شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرأون القرآن ويفتقرون [إلى] العلم وذكر من لسانهم أنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برءاء مني والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: أخبرنا أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبته إلى ركبته ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا)) قال: صدقت قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)).
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) قال: فأخبرني عن إماراتها؟ قال: ((أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان)) قال: ثم انطلق فلبث علينا ثم قال: يا عمر من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: ((فإنه جبرائيل عليه أتاكم ليعلمكم دينكم)).
ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال الأبدان إيمانا بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة؛ لأنها من شرائعه وتوابعة وعلاماته وإماراته كما نقول: رأيت الفرح في وجه فلان ورأيت علم زيد في تصنيفة؛ وإنما الفرج والعلم في القلب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق وأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله)).
وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان)).
الحسن بن علي قال: حدثني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان)).
146

وعن علي بن الحسين زين العابدين قال: حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال: حدثنا أبي سيد الأوصياء قال: حدثنا محمد سيد الأنبياء قال: ((الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول)).
واما الغيب فهو ما كان مغيبا عن العيون محصلا في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب كما قيل للصائم: صوم وللزائر: زور وللعادل: عدل.
الربيع بن أبي العالية * (يؤمنون بالغيب) * قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث فهذا غيب كله.
عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح: * (الذين يؤمنون بالغيب) * قال: بالله من آمن بالله فقد آمن بالغيب.
سفيان عن عاصم بن أبي النجود في قوله * (يؤمنون بالغيب) * قال: الغيب: القرآن. وقال الكلبي: بما نزل من القرآن وبما لم يجئ بعد.
الضحاك: الغيب لا آله إلا الله وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقال زر بن حبيش وابن جريج وابن واقد: يعني بالوحي نظيره قوله تعالى: * (أعنده علم الغيب فهو يرى) * وقوله: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) * وقوله: * (وما هو على الغيب بضنين) *.
الحسن: يعني بالآخرة. عبد الله بن هاني: هو ما غاب عنهم من علوم القرآن.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فقال: ((أتدرون أي أهل الأيمان أفضل؟)) قالوا: يا رسول الله الملائكة قال: ((هم كذلك وحق لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله تعالى بالمنزلة التي أنزلهم بل غيرهم)).
قلنا: يا رسول الله الأنبياء؟ قال: ((هم كذلك وحق لهم ذلك وما يمنعهم بل غيرهم)) قلنا: يا رسول الله فمن هم؟ قال: ((أقوام يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا)).
وروى حسن إن الحرث بن قيس عن عبد الله بن مسعود: عند الله يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن مسعود: نحن عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد " ولم تروه ثم قال عبد الله: إن أمر محمد كان بينا لمن رآه والذي لا اله إلا
147

هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب ثم قرأ: * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) * أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها وسجودها وحقوقها وحدودها وكل من واظب على شيء وقام به فهو مقيم له يقال أقام فلان الحج بالناس وأقام القوم [سوقهم] ولم يعطلوها قال الشاعر:
* فلا تعجل بأمرك واستدمه
* فما صلى عصاك [كمستديم]
أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس فذكرها بلفظ الواحد كقوله: * (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب) * أراد الكتب وأصل الصلاة في اللغة: الدعاء ثم ضمت إليها [عبادة] سميت مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدعاء.
وقال أبو حاتم الخارزمي: اشتقاقها من الصلا وهو النار فأصله من الرفق وحسن المعاناة للشيء؛ وذلك إن الخشبة المعوجة إذا أرادوا تقويمها [سحنوها بالنار] قوموها [بين خشبتين] فلذلك المصلي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهرا وباطنا ولا يجعل فيها ولا يخف [ولا يعرف] قال الشاعر:
* فلا تعجل بأمرك واستدمه
* فما صلى عصاك كمستديم
*
أي ما قوم أمرك كالمباني.
* (ومما رزقناهم) * أعطيناهم والرزق عند أهل السنة: ما صح الانتفاع به فإن كان طعاما فليتغدى به وان كان لباسا فلينقى والتوقي وإن كان مسكنا فللانتفاع به سكنى وقد ينتفع المنتفع بما هيئ الانتفاع به على الوجهين: حلالا وحراما فلذلك قلنا إن الله رزق الحلال والحرام [وأصل الرزق] في اللغة: هو الحظ والبخت.
* (ينفقون) * يتصدقون وأصل الإنفاق: الإخراج عن اليد أو عن الملك. يقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه ونفقت الدآبة إذا خرجت روحها ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه والنفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر يخرج إليه.
* (والذين يؤمنون) *: أي يصدقون * (بما أنزل إليك) *: يا محمد يعني القرآن * (وما أنزل من قبلك) *: يعني الكتب المتقدمة مثل صحف إبراهيم وموسى والزبور والأنجيل وغيرها.
148

* (وبالآخرة) * أي بالدار الآخرة وسميت آخرة لأنها تكون بعد الدنيا ولأنها أخرت حتى تفنى الدنيا ثم تكون.
* (هم يوقنون) * يعلمون ويتيقنون أنها كائنة ودخل (هم) تأكيدا يسميه الكوفيون عمادا والبصريون فصلا.
* (أولئك) * أهل هذه الصفة وأولاء: أسم مبنى على الكسر ولا واحد له من لفظه والكاف خطاب ومحل أولئك رفع بالابتداء وخبره في قوله: * (على هدى) * رشد وبيان وصواب. * (من ربهم وأولئك) * ابتدائان و * (هم) * عماد * (المفلحون) * خبر الابتداء وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنة ونجوا من النار وقيل: هم الباقون في الثواب والنعيم المقيم.
وأصل الفلاح في اللغة: البقاء. قال لبيد:
* نحل بلادا كلها حل قبلنا
* ونرجو فلاحا بعد عاد وحمير
*
وقال آخر:
* لو كان حي مدرك الفلاح
* أدركه ملاعب الرماح
*
* أبو براء يدرة المسياح
*
وقال مجاهد: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين وآيتان بعدهما نزلت في الكافرين وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين.
* (إن الذين كفروا) *: يعني مشركي العرب وقال الضحاك: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبي: يعني اليهود وقيل: المنافقون.
والكفر: هو الجحود والإنكار.
وأصله من الكفر وهو التغطية والستر ومنه قيل للحراث: كافر؛ لأنه [يستر البذر] قال الله تعالى: * (أعجب الكفار نباته) *: يعني الزراع وقيل للبحر: كافر
ولليل: كافر. قال لبيد:
* حتى إذا ألقت يدا في كافر
* وأجن عورات الثغور ظلامها
*
* في ليلة كفر النجوم غمامها
*
149

ومنه: المتكفر بالسلاح وهو الشاكي الذي غطى السلاح جميع بدنه.
فيسمى الكافر كافرا لأنه ساترللحق ولتوحيد الله ونعمة ولنبوة أنبيائه
* (سواء عليهم) *: أي واحد عليهم ومتساوي لديهم وهو اسم مشتق من التساوي.
* (أأنذرتهم) *: أخوفتهم وحذرتهم.
قال أهل المعاني: الإنذار والإعلام مع تحذير يقال: أنذرتهم فنذروا أي أعلمتهم فعلموا وفي المثل: وقد أعذر من أنذر وفي قوله: * (أأنذرتهم) * وأخواتها أربع قراءات: تحقيق الهمزتين وهي لغة تميم وقراءة أهل الكوفة؛ لأنها ألف الاستفهام دخلت على ألف القطع وحذف الهمزة التي وصلت بفاء الفعل وتعويض مده منها كراهة الجمع بين الهمزتين وهي لغة أهل الحجاز وادخال ألف بين الهمزتين وهي قراءة أهل الشام في رواية هشام وإحدى الروايتين عن أبي عمرو.
قال الشاعر:
* تطاولت فاستشرقت قرابته
* فقلن له: أأنت زيد لا بل قمر
*
والأخبار اكتفاء بجواب الاستفهام وهي قراءة الزهري.
* (أم) *: حرف عطف على الاستفهام.
* (لم) *: حرف جزم لا يلي إلا الفصل؛ لأن الجزم مختص بالأفعال.
* (تنذرهم) *: تحذرهم * (لا يؤمنون) * وهذه الآية خاصة فيمن حقت عليه كلمة العذاب في سابق علم الله وظاهرها إنشاء ومعناها إخبار ثم ذكر سبب تركهم للإيمان فقال:
* (ختم الله) *: أي طبع * (على قلوبهم) * والختم والطبع بمعنى واحد وهما التغطية للشيء [والاستيثاق] من أن يدخله شيء آخر.
فمعنى الآية: طبع الله على قلوبهم وأغلقها وأقفلها فليست تعي خبرا ولا تفهمه يدل عليه قوله: * (أم على قلوب أقفالها).
وقال بعضهم: معنى الطبع والختم: حكم الله عليهم بالكفر والشقاوة كما يقال للرجل: ختمت عليك أن لا تفلح أبدا.
* (وعلى سمعهم) *: فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به وإنما وحده لأنه مصدر والمصادر
150

لا تثنى ولا تجمع وقيل: أراد سمع كل واحد منهم كما يقال: آتني برأس كبشين أراد برأس كل واحد منهما قال الشاعر:
* كلوا في نصف بطنكم تعيشوا
* فإن زمانكم زمن خميص
*
وقال سيبويه: توحيد السمع يدل على الجمع لأنه لا توحيد جمعين كقوله تعالى: * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) * يعني الأنوار.
قال الراعي:
* بها جيف الحسري فأما عظامها
* فبيض وأما جلدها فصليب
*
وقرأ ابن عبله: وعلى أسماعهم وتم الكلام عند قوله * (وعلى سمعهم) *
ثم قال: * (وعلى أبصارهم غشاوة) *: أي غطاء وحجاب فلا يرون الحق ومنه غاشية السرج وقرأ المفضل بن محمد الضبي: * (غشاوة) * بالنصب كأنه أضمر له فعلا أو جملة على الختم: أي وختم على أبصارهم غشاوة. يدل عليه قوله تعالى: * (وجعل على بصره غشاوة) *.
وقرأ الحسن: * (غشاوة) * بضم الغين وقرأ الخدري: * (غشاوة) * بفتح الغين وقرأ أصحاب عبد الله: غشوة بفتح الغين من غير ألف.
* (ولهم عذاب عظيم) * القتل والأسر في الدنيا والعذاب الأليم في العقبى والعذاب كل ما يعني الإنسان ويشق عليه ومنه: عذبه السواط ما فيها من وجود الألم وقال الخليل: العذاب ما يمنع الانسان من مراده ومنه: الماء العذب لأنه يمنع من العطش ثم نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي ومعتب بن بشر وجد بن قيس وأصحابهم حين قالوا: تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونكون مع ذلك مستمسكين بديننا فأجمعوا على أن يقروا كلمة الإيمان بألسنتهم واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود. ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله: [والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا ا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولاكن لا يشعرون وإذا قيل لهم ءامنوا كما ءامن الناس قالوا ا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولاكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ا ءامنا وإذا خلوا 8 إلى شياطينهم قالوا
151

1764 ا إنا معكم إنما نحن مستهزءون * الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون * أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) *) 2
" * (ومن الناس من يقول آمنا) *): صدقنا بالله " * (واليوم الآخر) *): أي يوم القيامة.
قال الله تعالى: " * (وما هم بمؤمنين) *) والناس: هم جماعة من الحيوان المتميز بالصورة الإنسانية، وهو جمع إنسان، وإنسان في الأصل إنسيان بالياء، فأسقطوا الياء منه ونقلوا حركته إلى السين فصار إنسانا؛ الا ترى إنك إذا صغرته رددت الياء إليه فقلت: أنيسيان، واختلف العلماء في تسميته بهذا الاسم: فقال ابن عباس: سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي. قال الله تعالى " * (وعهدنا إلى آدم من قبل فنسي) *)، وقال الشاعر:
وسميت إنسانا لأنك ناسي
وقال بعض أهل المعاني: سمي إنسانا لظهوره وقدس البصير إياه من قولك: آنست كذا: أي أبصرت. فقال الله تعالى " * (آنس من جانب الطور نارا) *) وقيل: لأنه استأنس به، وقيل: لما خلق الله آدم آنسه بزوجته فسمي إنسانا.
" * (يخادعون الله) *): أي يخالفون الله ويكذبونه، وأصل الخدع في اللغة:) * الإخفاء، ومنه قيل (للبيت الذي يحيا فيه المتاع) مخدع، والمخادع يظهر خلاف ما يضمر، وقال بعضهم: أصل الخداع في لغة: الفساد، قال الشاعر:
أبيض اللون لذيذ طعمه
طيب الريق إذا الريق خدع
أي فسد.
فيكون معناه: ليفسدون بما أضمروا بأنفسهم وبما أضمروا في قلوبهم، وقيل معناه: يخادعون الله بزعمهم وفي ظنهم، يعني إنهم اجترؤوا على الله حتى أنهم ظنوا أنهم يخادعون، وهذا كقوله تعالى: " * (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا) *) يعني بظنك وعلى زعمك.
وقيل: معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع فيما بينهم. وقيل: معناه يخادعون رسوله
152

كقوله: " * (فلما آسفونا انتقمنا منهم) *) أي أسخطونا، وقوله: " * (إن الذين يؤذون الله) *) أي أولياء الله؛ لأن الله سبحانه لا يؤذى ولا يخادع، فبين الله تعالى أن من آذى نبيا من أنبيائه ووليا من أوليائه استحق العقوبة كما لو آذى رسوله وخادعه. يدل عليه الخبر المروي: إن الله تعالى يقول: من آذى وليا من أوليائي فقد بارزني بالمحاربة.
وقيل: إن ذكر الله سبحانه في قوله: " * (يخادعون الله) *) تحسين وتزيين لسامع الكلام، والمقصد بالمخادعة للذين آمنوا كقوله تعالى: " * (واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه للرسول) *). ثم المخادعة على قدر المعاجلة وأكثر المفاضلة إنما تجيء في الفعل المشترك بين اثنين، كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة، وقد يكون أيضا من واحد كقولك: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاك الله، قال الله عز وجل: " * (وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين) *) وقال: " * (قاتلهم الله) *) والمخادعة ها هنا عبارة عن الفعل الذي يختص بالواحد في حين الله تعالى لا يكون منه الخداع.
" * (والذين آمنوا) *) أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم: آمنا، وهم غير مؤمنين، وقال بعضهم: من خداعهم المؤمنين: هو أنهم كانوا يجالسون المؤمنين ويخالطونهم حتى يأنس بهم المؤمنون ويعدونهم من أنفسهم فيبثون إليهم أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم. قال الله تعالى:
" * (وما يخدعون إلا أنفسهم) *) لأن وبال خداعهم راجع إليهم كأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ وذلك أن الله تعالى لمطلع نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على أسرارهم ونفاقهم،) * فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب الشديد في العقبى.
قال أهل الإشارة: إنما يخادع من لا يعرف البواطن، فأما من عرف البواطن فإن من خادعه فإنما يخدع نفسه.
واختلف القراء في قوله: " * (وما يخدعون) *) فقرأ شيبة ونافع وابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء: " * (يخادعون) *) بالألف جعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد، وقد ذكرنا خبره وتصديقها الحرف الأول، وقوله: " * (يخادعون الله) *) لم يختلفوا فيه إلا ما روي عن أبي حمزة الشامي إنه قرأ: (يخدعون الله) وقرأ الباقون " * (وما يخدعون) *) على أشهر اللغتين وأضبطهما واختاره أبو عبيد
153

" * (وما يشعرون) *) وما يعلمون إنها كذلك.
" * (في قلوبهم مرض) *) شك ونفاق، ومنه يقال: فلان يمرض في الوعد إذا لم يصححه، وأصل المرض: الضعف والفتور. فسمي الشك في الدين والنفاق (مرض به) يضعف البدن وينقص قواه؛ ولأنه يؤدي إلى الهلاك بالعذاب، كما أن المرض في البدن يؤدي إلى الهلاك والموت.
" * (فزادهم الله مرضا) *) شكا ونفاقا وهلاكا.
" * (ولهم عذاب أليم) *) وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم، وهو بمعنى مؤلم كقول عمرو بن معدي كرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
يؤرقني وأصحابي هجوع
أي المسمع: يعني خيالها.
" * (بما كانوا يكذبون) *): (ما) مصدرية، أي بتكذيبهم على الله ورسوله في السر.
وقرأ أهل الكوفة: بفتح الياء وتخفيف الذال، أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين.
" * (وإذا) *): حرف توقيت بمعنى حينئذ، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر وفيها معنى الجزاء، " * (قيل) *): فعل ماض مجهول، وكان في الأصل قول مثل قيل، فآستثقلت الكسرة على الواو فنقلت كسرتها إلى فاء الفعل فانقلبت الواو ياءا لكسرة ما قبلها، هذه اللغة العالية وعليها العامة وهي اختيار أبي عبيد.
وقرأ الكسائي ويعقوب: قيل، وغيض، وحيل، وسيق، وجيء، وشيء وشيت بإشمام الضمة فيها لتكون دالة على الواو المنقلبة، وفاصلة بين الصدر والمصدر.
" * (لهم) *): يعني المنافقين، وقيل: اليهود. قال لهم المؤمنون: " * (لا تفسدوا في الأرض) *) بالكفر والمعصية وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد والقرآن،) * وقال الضحاك: تبديل الملة وتغيير السنة وتحريف كتاب الله.
* (قالوا إنما نحن مصلحون) * * (ألا) *): كلمة تنبيه " * (إنهم) *): هم عماد وتأكيد " * (المفسدون ولكن لا يشعرون) *): ما أعد لهم من العذاب.
" * (وإذا قيل لهم) *) يعني: (قال) المؤمنون لليهود: " * (آمنوا كما آمن الناس) *) وهم عبد الله ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.
154

" * (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) *) الجهال. قال الله: " * (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) *) بأنهم كذلك، وقيل: لا يؤدون العلم حقه، وقال المؤرخ: السفيه: البهات الكذاب المتعمد لخلاف ما يعلم.
قطرب: السفيه: العجول الظلوم يعمل خلاف الحق.
واختلف القراء في قوله: " * (السفهاء ألا) *) فحقق بعضهم الهمزتين، وهو مذهب أهل الكوفة ولغة تميم.
وأما أبو عمرو وأهل الحجاز فإنهم همزوا الأولى ولينوا الثانية؛ طلبا للخفة، واختار الفراء حذف الأولى وهمز الثانية، واحتج بأن ما يستأنف أي بالهمزة مما يسكت عليه.
" * (وإذا لقوا الذين آمنوا) *).
قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة، وكان إذا لقى سعدا قال: نعم الدين دين محمد، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه. قالوا: هل نكفر؟ قال: سدوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي محتجا به، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عبد الله بن أبي لأصحابه: أنظروا كيف أدرأ هؤلاء السفهاء عنكم. فذهب وأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، والباذل نفسه وماله له. ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد علي فقال: مرحبا بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: كف لله واتق الله ولا تنافق، فإن المنافقين شر خليقة الله، فقال له عبد الله: مهلا أبا الحسن إلي تقول هذا،) * والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت. فأثنوا عليه خيرا، وقالوا: لانزال معك ما عشت، فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك، فأنزل الله " * (وإذا لقوا) *) أي رأوا، يعني المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، كان (لقوا) في الأصل (لقيوا) فإستثقلت الضمة على الياء فبسطت على القاف وسكنت الواو والياء ساكنة فحذفت لإجتماعهما.
وقرأ محمد بن السميقع: وإذا لاقوا وهما بمعنى واحد.
" * (الذين آمنوا) *): يعني أبا بكر وأصحابه " * (قالوا آمنا) *) كأيمانكم. " * (وإذا خلوا) *) رجعوا، ويجوز أن تكون من الخلوة، تقول: خلوت به وخلوت إليه، وخلوت معه، كلها بمعنى واحد
155

وقال النضر بن شميل: " * (إلى) *) ها هنا بمعنى (مع) كقوله تعالى: " * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) *): أي مع نسائكم، وقوله: " * (لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) *) وقوله: (من أنصاري إلى الله النابغة:
ولا تتركني بالوعيد كأنني
إلى الناس مطلي به القار أجرب
أي مع الناس.
وقال آخر:
ولوح ذراعين في بركة
إلى جؤجؤرهل المنكب
أي مع جؤجؤ.
" * (إلى شياطينهم) *): أي رؤسائهم وكبرائهم وقادتهم وكهنتهم.
قال ابن عباس: هم خمسة نفر من اليهود، ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له: كعب ابن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الله في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السوداء بالشام.
والشيطان: المتمرد العاصي من الجن والإنس، ومن كل شيء، ومنه قيل: للحية النضناض: الشيطان، قال الله تعالى: " * (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) *) أي الحيات، وتقول العرب: إتق تلك الدابة فإنها شيطان.
وفي الحديث: (إذا مر الرجل بين يدي أحدكم وهو يمتطي فليمنعه فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه نظر إلى رجل يتبع حماما طائرا فقال: (شيطان يتبع شيطانا)
156

أراد الراعي الخبيث الداعي.
ويحكى عن بعضهم إنه قال في تضاعيف كلامه: وكل ذلك حين ركبني شيطان قيل له: وأي الشياطين ركبك؟ قال: الغضب.
وقال أبو النجم:) *
إني وكل شاعر من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
" * (قالوا إنا معكم) *) أي على دينكم وأنصاركم.
" * (إنما نحن مستهزؤن) *) بمحمد وأصحابه.
" * (الله يستهزئ بهم) *) أي يجازيهم جزاء استهزائهم، فسمي الجزاء باسم الابتداء إذ كان مثله في الصورة كقوله " * (جزاء سيئة سيئة مثلها) *) فسمي جزاء السيئة سيئة.
وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال آخر:
نجازيهم كيل الصواع بما أتوا
ومن يركب ابن العم بالظلم يظلم
فسمى الجزاء ظلما.
وقيل: معناه: الله يوبخهم ويعرضهم ويخطيء فعلهم؛ لأن الاستهزاء والسخرية عند العرب العيب والتجهيل، كما يقال: إن فلانا يستهزأ به منذ اليوم، أي يعاب. قال الله " * (إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها) *) أي تعاب، وقال أخبارا عن نوحج: " * (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) *).
وقال الحسن: معناه: الله يظهر المؤمنين على نفاقهم.
وقال ابن عباس: هو أن الله يطلع المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار، فيقولون لهم: أتحبون أن تدخلوا الجنة، فيقولون: نعم؛ فيفتح لهم باب من الجنة، ويقال لهم: ادخلوا فيسبحون ويتقلبون في النار، فإذا انتهوا إلى الباب سد عليهم، وردوا إلى
157

النار ويضحك المؤمنون منهم، فذلك قوله: " * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) *) إلى قوله: " * (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) *).
الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يؤمر بناس من الناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعد الله فيها لأهلها من الكرامة، نودوا: أن اصرفوهم عنها. قال: ويرجعون بحسرة وندامة لم يرجع الخلائق بمثلها. فيقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا. فيقول الله جل جلاله: هذه الذي أردت بكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلوني وكنتم تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم ترونني
من قلوبكم. فاليوم أذيقكم من عذابي مع ما حرمتكم من ثوابي).
وقيل: هو خذلانه إياهم وحرمانهم التوفيق والهداية.) *
وهو قوله فيما بعد: " * (ويمدهم) *) يتركهم، ويمهلهم ويطيل لهم، وأصله: الزيادة، ويقال: مد النهر، ومدة: زمن آخر.
وقرأ ابن محيصن وشبل: " * (ويمدهم) *) بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد؛ لأن المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير. قال الله عز وجل في المد: " * (ونمد له من العذاب مدا) *)، وقال في الإمداد: " * (وأمددناكم بأموال وبنين) *) وقال: " * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين) *)، وقال: * (ويمددكم بأموال وبنين) * * (في طغيانهم) *) كفرهم وضلالتهم وجهالتهم، وأصل الطغيان: مجاوزة القدر، يقال: ميزان فيه طغيان، أي مجاوزة للقدر في الاستواء. قال الله تعالى: " * (إنا لما طغى الماء) *) أي جاوز حده الذي قدر له، وقال لفرعون: " * (إنه طغى) *) أي أسرف في الدعوى حينما قال: * (أنا ربكم الأعلى) * * (يعمهون) *) يمضون، يترددون في الضلالة متحيرين.
يقال: عمه يعمه عمها وعموها، وعمها فهو عمه، وعامه: إذا كان جائرا عن الحق. قال رؤبة:
ومهمه أطرافه في مهمه
أعمى الهدى بالجاهلين العمه
158

" * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) *):
قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، ومعناه: إنهم استبدلوا الكفر على الإيمان، وإنما أخرجه بلفظ الشرى والتجارة توسعا؛ لأن الشرى والتجارة راجعان إلى الاستبدال والاختيار؛ وذلك أن كل واحد من البيعين يختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه، وقال الشاعر:
أخذت بالجمة رأسا إزعرا
وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمرا جيدرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
أي اختار النصرانية على الإسلام.
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق: " * (اشتروا الضلالة) *) بكسر الواو؛ لأن الجزم يحرك إلى الكسرة العدوي بفتحها حركة إلى أخف الحركات.
" * (فما ربحت تجارتهم) *): أي فما ربحوا في تجارتهم.
تقول العرب: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، ونام ليلك. أي ربحت وخسرت في بيعك، ونمت في ليلك.) *
قال الله عز وجل: " * (فإذا عزم الأمر) *)، وقال: " * (بل مكر الليل والنهار) *).
قال الشاعر:
وأعور من نيهان أما نهاره
فأعمى وأما ليله فبصير
وقال آخر:
حارث قد فرجت عني همي
فنام ليلي وتجلى غمي
وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة: (فما ربحت تجاراتهم) بالجمع.
" * (وما كانوا مهتدين) *): من الضلالة، وقال: مصيبين في تجاراتهم.
قال سفيان الثوري: كلكم تاجر فلينظر امرؤ ما تجارته؟ قال الله " * (فما ربحت تجارتهم) *) وقال: " * (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) *))
.
159

2 (* (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمى فهم لا يرجعون * أو كصيب من السمآء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم فىءاذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلمآ أضآء لهم مشوا فيه وإذآ أظلم عليهم قاموا ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شىء قدير) *) 2
" * (مثلهم) *) شبههم. " * (كمثل الذي) *) بمعنى الذين، دليله سياق الآية نظير قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به ثم قال " * (أولئك هم المتقون) *).
وقال الشاعر:
وان الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
" * (استوقد) *): أوقد نارا كما يقال: أجاب واستجاب.
قال الشاعر:
وداع دعانا من يجيب إلى الندى
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
" * (فلما أضاءت) *) النار " * (ما حوله) *) يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا، وأضاء يضيء إضاءة وأضاء غيره: " * (فلما أضاءت) *) النار يكون لازما ومتعديا.
وقرأ محمد بن السميقع (ضاءت) بغير ألف. و (حوله) نصب على الظرف.
" * (ذهب الله بنورهم) *) أي أذهب الله نورهم، وإنما قال: (بنورهم) والمذكور في أول الآية النار؛ لأن النار شيئان النور والحرارة فذهب نورهم وبقيت الحرارة عليهم.
" * (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) *): قال ابن عباس وقتادة والضحاك ومقاتل والسدي: نزلت هذه الآية في المنافقين. يقول: مثلهم في كفرهم ونفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فأستضاء بها فاستدفأ ورأى ما حوله فأتقى ما يحذر ويخاف فأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيرا، كذلك المنافقون إذا أظهروا كلمة الإيمان استناروا بنورها واعتزوا بعزها وناكحو المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فإذا ماتوا عادوا إلى الخوف والظلمة وهووا في العذاب والنقمة
160

وقال مجاهد: إضاءة النار: إقبالهم إلى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم إلى المشركين والضلالة.
سعيد بن جبير ومحمد بن كعب وعطاء، ويمان بن رئاب: نزلت في اليهود وانتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به، وذلك بأن قريظة والنضير وبنو قينقاع قدموا من الشام إلى يثرب حتى انقطعت النبوة من بني إسرائيل وأفضت إلى العرب، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة وأن أمته خير الأمم وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له: عبد الله بن هيبان قبل أن يوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل سنة فيعظهم على طاعة الله تعالى وإقامة التوراة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم رسول إذا خرج: فلا تفرقوا عنه وانصروه وقد كنت أطمع أن أدركه، ثم مات قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم فقبلوا منه، ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل.
وقال الضحاك: لما أضاءت النار أرسل الله عليه ريحا قاصفا فأطفأها، فكذلك اليهود كلما أوقدوا نارا لحرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأها الله.
ثم وصفهم جميعا فقال: " * (صم) *): أي هم صم عن الهدى فلا يسمعون.
" * (بكم) *): عنه فلا يقولون.
" * (عمي) *): عنه فلا يرونه.
وقيل: " * (صم) *) يتصاممون عن سماع الحق، " * (بكم) *) يتباكمون عن قول الحق، " * (عمي) *) يتعامون عن النظر إلى الحق بغير اعتبار.
وقرأ عبد الله: " * (صما بكما عميا) *) على معنى وتركهم كذلك، وقيل: على الذم، وقيل: على الحال.
" * (فهم لا يرجعون) *) عن الضلالة والكفر إلى الهداية والإيمان.
ثم قال: " * (أو كصيب) *) هذا مثل آخر ضربه الله لهم أيضا معطوف على المثل الأول مجازه: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ومثلهم أيضا كصيب.
قال أهل المعاني: (أو) بمعنى الواو، يريد وكصيب، كقوله تعالى: " * (أم تريدون) *) وأنشد الفراء:
وقد زعمت سلمى بأني فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
161

وأنشد أبو عبيدة:
يصيب قد راح يروي الغدرا
(فاستوعب) الأرض لما أن سرا
وأصله من صاب يصوب صوبا إذا نزل.
قال الشاعر:
فلست لأنسي ولكن لملاك
تنزل من جو السماء يصوب
وقال أمرء القيس:
كأن المدام وصوب الغمام
وريح الخزامي ونشر القطر
فسمي المطر صيبا لأنه ينزل من السماء.
واختلف النحاة في وزنه من الفعل، فقال البصريون: هو على وزن فيعل بكسر العين، ولا يوجد هذا المثال إلا في المعتل نحو سيد وميت ولين وهين وضيق وطيب، وأصله صهيوب، فجعلت الواو ياء فأدغمت إحدى اليائين في الأخرى.
وقال الكوفيون: هو وأمثاله على وزن فعيل بكسر العين وأصله: صييب فاستثقلت الكسرة على الياء فسكنت وأدغمت إحداهما في الأخرى وحركت إلى الكسر.
والسماء: كل ما علاك فأظلك وأصله: سماو؛ لأنه من سما يسمو، فقلبت الواو همزة لأن الألف لا تخلو من مدة وتلك المدة كالحركة، وهو من أسماء الأجناس، يكون واحدا أو جمعا، قال الله: " * (ثم استوى إلى السماء) *) ثم قال: " * (فسواهن سبع سماوات) *).
وقيل: هو جمع واحدتها سماوة، والسماوات جمع الجمع.
قال الراجز:
سماوة الهلال حتى احقوقفا
طي الليالي زلفا فزلفا
" * (فيه) *) أي في الصيب، وقيل: في الليل كناية عن (ضمير) مذكور، وقيل: في السماء؛ لأن المراد بالسماء السحاب، وقيل: هو عائد إلى السماء على لغة من يذكرها
162

قال الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوما
لحقنا بالسماء مع السحاب
والسماء يذكر ويؤنث. قال الله تعالى: " * (السماء منفطر به) *). وقال: " * (إذا السماء انفطرت) *).
" * (ظلمات) *): جمع ظلمة، وضمت اللام على الاتباع بضم الظاء.
وقرأ الأعمش: (ظلمات) بسكون اللام على أصل الكلام لأنها ساكنة في التوحيد.
كقول الشاعر وهو ذو الرمة:
أبت ذكر من عودن أحشاء قلبه
خفوقا ورفصات الهوى في المفاصل
ونزل الفاء ساكنة على حالها في التوحيد.
وقرأ أشهب العقيلي: (ظلمات) بفتح اللام، وذلك إنه لما أراد تحريك اللام حركها إلى أخف الحركات.
كقول الشاعر:
فلما رأونا باديا ركباتنا
على موطن لا نخلط الجد بالهزل
" * (ورعد) *): وهو الصوت الذي يخرج من السحاب.
" * (وبرق) *): وهو النار الذي تخرج منه.
قال مجاهد: الرعد ملك يسبح بحمده، يقال لذلك الملك: رعد، والصريم أيضا رعد.
والبرق: ملك يسوق السحاب.
وقال عكرمة: الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقها كما يسوق الراعي الإبل.
شهر بن جوشب: الرعد ملك يزجي السحاب كما يحث الراعي الإبل فإذا انتبذت السحاب ضمها فإذا اشتد غضبه طار من فيه النار فهي الصواعق
163

ربيعة بن الأبيض عن عليج قال: البرق مخاريق الملائكة.
وقال أبو الدرداء: الرعد للتسبيح، والبرق للخوف والطمع، والبرد عقوبة، والصواعق للخطيئة، والجراد رزق لقوم وزجر لآخرين، والبحر بمكيال، والجبال بميزان.
وأصل البرق من البريق والضوء، والصواعق: المهالك، وهو جمع صاعقة، والصاعقة والصاقعة والصعقة: المهلكة، ومنه قيل: صعق الإنسان، إذا غشي عليه،
وصعق، إذا مات.
" * (حذر الموت) *) أي مخافة الموت، وهو نصب على المصدر، وقيل لنزع حرف الصفة.
وقرأ قتادة: حذار الموت.
" * (والله محيط بالكافرين) *) أي عالم بهم، يدل عليه قوله: " * (وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) *).
وقيل: معناه: والله مهلكهم وجامعهم، دليله قوله: " * (إلا أن يحاط بكم) *): أي تهلكوا جميعا.
وأمال أبو عمرو والكسائي (الكافرين) في حال الخفض والنصب ولكسرة الفاء والراء.
" * (يكاد البرق) *) أي يقرب. يقال: كاد، أي قرب ولم يفعل، والعرب تقول: كاد يفعل بحذف أن فإذا سببوه بقي قالوا: كاد أن يفعل، والأول أوضح وأظهر. قال الشاعر:
قد كاد من طول البلى أن تمسحا
" * (يخطف أبصارهم) *): أي يخطفها ويشغلها، ومنه الخطاف.
وقرأ أبي: يتخطف.
وقرأ ابن أبي إسحاق: نصب الخاء والتشديد (يخطف) فأدغم. وقرأ الحسن: كسر الخاء والطاء مع التشديد أتبع الكسرة الكسرة.
وقرأ العامة: التخفيف لقوله: " * (فتخطفه الطير) *) وقوله: " * (إلا من خطف الخطفة) *).
" * (كلما) *): حرف علة ضم إليه (ما) الجزاء فصار أداة للتكرار، وهي منصوبة بالظرف، ومعناهما: متى ما
164

" * (أضاء لهم مشوا فيه) *): وفي حرف عبد الله (.....).
" * (وإذا أظلم عليهم قاموا) *): أي أقاموا ووقفوا متحيرين.
القول في معنى الآيتين ونظمهما وحكمهما
قوله تعالى: " * (أو كصيب) *) أي كأصحاب صيب، كقوله: " * (واسأل القرية) *) شبههم الله في كفرهم ونفاقهم وحيرتهم وترددهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة فأصابهم مطرفيه ظلمات من صفتها إن الساري لا يمكنه المشي من ظلمته، فذلك قوله: " * (إذا أظلم عليهم قاموا) *).
ورعد من صفته أن يضع السامع يده إلى أذنه من الهول والفرق مخافة الموت والصعق، ذلك قوله تعالى: " * (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) *).
وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويذهب بضوئها ونعيمها من كثرته وشدة توقده، وذلك قوله " * (يكاد البرق يخطف أبصارهم) *).
وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن واجماع الناس والكافرين معه:
فالمطر: هو القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان.
" * (فيه ظلمات) *) وهو ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والشك وبيان الفتن والمحن.
" * (ورعد) *): وهو ما خوفوا به من الوعيد وذكر النار والزواجر والنواهي.
" * (وبرق) *): وهو ما في القرآن من الشفاء والبيان والهدى والنور والرعد وذكر الجنة.
فكما أن أصحاب الرعد والبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت كذلك المنافقون واليهود والكافرون يسدون آذانهم عند قراءة القرآن ولا يصغون إليه مخافة ميل القلب إلى القرآن فيؤدي ذلك إلى الإيمان؛ لأن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عندهم كفر والكفر موت.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمنافق لجبنه، لا يسمع صوتا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن إنه ميت أجبن قوم وأخذ له للحق كما قال في آية أخرى: " * (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو) *))
165

وقوله: " * (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) *) يعني المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان أمنوا وصارت لهم نورا فإذا ماتوا عادوا إلى الخشية والظلمة.
قتادة: والمنافق إذا كثر ماله وحسن حاله وأصاب في الإسلام رخاء وعافية ثبت عليه فقال: أنا معكم، وإذ ذهب ماله وأصابته شدة، قام متحيرا وخفق عندها فلم يصبر على بلائها ولم يحتسب أجرها. وتفسيره في سورة الحج " * (ومن الناس من يعبد الله على حرف) *) الآية.
الوالبي عن ابن عباس: هم اليهود لما نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له راية، فلما نكب بأحد ارتدوا وسكتوا.
" * (ولو) *): حرف تمني وشك وفيه معنى الجزاء وجوابه اللام.
ومعنى الآية: " * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وابصارهم) *): أي أسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنية حتى صاروا صما بكما عميا.
" * (إن الله على كل شيء قدير) *) قادر، وكان حمزة يكسر شاء، وجاء وأمثالها لانكسار فاء الفعل، إذا أخبرت عن نفسك قلت: شئت وجئت وزدت وطبت وغيرها.
(* (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذى جعل لكم الارض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون * وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدآءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين * وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هاذا الذى رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيهآ أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) *) 2
" * (يا أيها الناس) *): قال ابن عباس: " * (يا أيها الناس) *) خطاب أهل مكة، و " * (يا أيها الذين آمنوا) *) خطاب أهل المدينة، وهو هاهنا عام.
" * (اعبدوا) *) وحدوا وأطيعوا. " * (ربكم الذي خلقكم) *) أوجدكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا. " * (والذين) *) أي وخلق الذين " * (من قبلكم) *) * * (لعلكم تتقون) *): لكي تنجوا من السحت والعذاب.
قال سيبويه: لعل وعسى حرفا ترج وهما من الله (.....)
166

" * (الذي جعل لكم الأرض فراشا) *) بساطا ومقاما ومناما. " * (والسماء بناء) *) سقفا مرفوعا محفوظا.
" * (وأنزل من السماء) *): من السحاب. " * (ماءا) *) وهو المطر " * (فأخرج به من الثمرات) *) من ألوان الثمرات وأنواع النبات.
" * (رزقا) *) طعاما. " * (لكم) *) وعلفا لدوابكم.
" * (فلا تجعلوا لله أندادا) *) أي أمثالا (وأعدالا) وقرأ ابن السميقع: ندا على الواحد، كقول جرير:
أتيما تجعلون إلي ندا
وما تيم لذي حسب نديد
" * (وأنتم تعلمون) *) إنه واحد وأنه خالق هذه الأشياء.
قال ابن مسعود في قوله: " * (فلا تجعلوا لله أندادا) *) قال: أكفاء من الرجال تطيعوهم في معصية الله.
وقال عكرمة: هو قول الرجل: لولا كلبنا لدخل اللص دارنا.
" * (وإن كنتم في ريب) *) الآية نزلت في الكفار، وذلك أنهم قالوا لما سمعوا القرآن: ما يشبه هذا كلام الله وإنا لفي شك منه، فأنزل الله تعالى " * (وإن كنتم) *) يا معشر الكفار، (وإن) لفظة جزاء وشرط، ومعناه: إذ؛ لأن الله تعالى علم إنهم شاكون كقوله: " * (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) *) وقوله: " * (يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) *).
قال الأعشى:
بانت وقد أسفرت في النفس حاجتها
بعد ائتلاف وخير الود ما نفعا
قال المؤرخ: أصلها من السورة وهي الوثبة: تقول العرب سرت إليه وثبت إليه.
قال العجاج:
ورب ذي سرادق محجور
سرت إليه في أعالي السور
قال الأعشى:
167

وسمعت حلفتها التي حلفت
إن كان سمعك غير ذي وقر
" * (في ريب) *) أي في شك وتهمة.
" * (مما نزلنا على عبدنا) *) محمد يعني القرآن.
" * (فأتوا) *) لم يأتوا بمثله، لأن الله علم عجزهم عنه.
" * (بسورة) *) أصلها في قول بعضهم: من أسارت، أي أفضلت فحذفت الهمزة كأنها قطعة من القرآن، وقيل: هي الدرجة الرفيعة، وأصلها من سور البناء، أي منزلة بعد منزلة. قال النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة
ترى كل ملك دونها يتذبذب
" * (من مثله) *) يعني مثل القرآن، و (من) صلة كقوله تعالى: " * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) *) * * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) *).
كقول النابغة:
ولا أرى ملكا في الناس يشبهه
ولا أخا (لي) من الأقوام من أحد
أي أحدا.
وقيل في قوله: (مثله): راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومعناه: " * (فأتوا بسورة من مثله) *) أي من رجل أمي لا يحسن الخط والكتابة.
" * (وادعوا شهداءكم) *) يعني استعينوا بآلهتكم التي تعبدونها من دون الله.
وقال مجاهد والقرظي: ناسا يشهدون لكم.
وإنما ذكر الاستعانة بلفظ الدعاء على عادة العرب في دعائهم القائل في الحروب والشدائد: (يال.....).
قال الشاعر:
فلما التقت فرساننا ورجالهم
دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر
168

" * (إن كنتم صادقين) *) إن محمدا أسر قوله من تلقاء نفسه، فلما تحداهم وعجزوا (قال الله تعالى): " * (فإن لم تفعلوا) *) أي فإن لم تجيئوا بمثل القرآن.
" * (ولن تفعلوا) *): ولن تقدروا على ذلك.
وقيل " * (فإن لم تفعلوا) *) فيما مضى " * (ولن تفعلوا) *) فيما بقي.
" * (فاتقوا النار التي وقودها) *) حطبها وعلفها " * (الناس والحجارة) *) قال الحسن ومجاهد: (وقودها) بضم الواو حيث كان وهو رديء، لأن الوقود بضم الراء المصدر وهو الالتهاب، والوقود بالفتح وهو ما يوقد به النار كالظهور والبرود، ومثليهما ومثل الوضوء والوضوء.
وقرأ عبيد بن عمير: وقيدها الناس والحجارة.
قيل: تلك الحجارة (كجت الأرض النائية) مثل الكبريت يجعل في أعناقهم إذا اشتعلت فيها النار أحرق توهجها وجوههم، فذلك قوله تعالى: " * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب) *).
اختلفوا في الحجارة، فقال ابن عباس وأكثر المفسرين: إنها حجارة الكبريت (الأسود وهي أشد الأشياء حرا)، وقال حفص ابن المعلى: أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت معمولة من الحجر، دليله قوله: " * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) *).
وقيل: هي أن أهل النار إذا عيل صبرهم بكوا وشكوا فتنشأ سحابة سوداء مظلمة فيرجون الفرج ويرفعون رؤوسهم إليها فتمطرهم حجارة عظاما كحجارة الرحا، فتزداد النار اتقادا والتهابا كنار الدنيا إذا زيد حطبها زاد لهيبها.
وقيل: ذكر الحجارة ها هنا تعظيما لأمر النار لأنها لا تأكل الحجارة إلا إذا كانت فظيعة وهائلة.
" * (أعدت) *): خلقت وهيئت للكافرين، وفي هذه الآية دليل على أن النار مخلوقة؛ لأن المعد لا يكون إلا موجودا.
" * (وبشر) *) أي وأخبر.
" * (الذين آمنوا) *) وأصل التبشير: إيصال الخبر السار على (مسامع الناس) ويستبشر به، وأصله من البشرة؛ لأن الإنسان إذا فرح بان ذلك في وجهه وبشرته، ثم كثر حتى وضع موضع الخبر فيما (ساء وسر) قال الله تعالى: " * (فبشرهم بعذاب أليم) *))
.
169

" * (وعملوا الصالحات) *) أي الخصال والفعلات " * (الصالحات) *) نعت لأسم مؤنث محذوف.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه في " * (وعملوا الصالحات) *): معناه أخلصوا الأعمال، يدل عليه قوله: " * (فليعمل عملا صالحا) *) أي خالصا لأن المنافق والمرائي لا يكون عمله خالصا، وقال: أقاموا الصلوات المفروضات، دليله قوله تعالى: * (وأقاموا الصلاة) * * (إنا لا نضيع أجر المصلحين) *) من المسلمين.
وقال ابن عباس: عملوا الصالحات فيما بينهم وبين ربهم، وقال: العمل الصالح يكون فيه أربعة أشياء: العلم، والنية، والصبر، والاخلاص.
وقال سهل بن عبد الله: لزموا السنة؛ لأن عمل المبتدع لا يكون صالحا.
وقيل: أدوا الأمانة، يدل عليه قوله: " * (وكان أبوهما صالحا) *) أي أمينا.
وقيل: تابوا، ودليله قوله تعالى: " * (وتكونوا من بعده قوما صالحين) *) أي التائبين.
" * (أن لهم) *): محل (أن) نصب بنزع حرف الصفة، أي بأن لهم.
" * (جنات) *): في محل النصب فخفض لأنها جمع التأنيث، وهي جمع الجنة وهي البستان، سميت جنة لاجتنانها بالأشجار.
" * (تجري من تحتها الأنهار) *): أي من تحت شجرها ومساكنها. وقيل: بأمرهم، كقوله: (وهذه الأنهار تجري من تحتي أي بأمري.
والأنهار: جمع نهر، سمي نهرا لسعته وضيائه ومنه النهار.
وأنشد أبو عبيدة:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها
يرى قائم من دونها ما وراءها
أي وسعتها، يصف طعنة.
وأراد بالأنهار المياه على قرب الجوار لأن النهر لا يجري.
وقد جاء في الحديث: (أنهار الجنة تجري في غير إخدود)
170

" * (كلما) *) متى ما " * (رزقوا) *) أطعموا " * (منها) *) من الجنة " * (من ثمرة) *): أي ثمره، و (من) صلة.
" * (رزقا) *) طعاما. " * (قالوا هذا الذي رزقنا) *) أطعمنا " * (من قبل) *): طعامهما، وقيل معناه: هذا الذي رزقنا من قبل، أي وعدنا الله في الدنيا وهو قول عطاء، و (قبل) رفع على الغاية، قال الله تعالى: " * (لله الأمر من قبل ومن بعد) *).
" * (وأتوا) *) وجيئوا " * (به) *) بالرزق.
قرأ هارون بن موسى: (وأتوا) بفتح الألف، أراد أتاهم الخدم به.
" * (متشابها) *) اختلفوا في معناه، فقال ابن عباس ومجاهد والربيع والسدي: متشابها في الألوان، مختلفا في الطعوم.
الحسن وقتادة: متشابها في الفضل، خيارا كله؛ لأن ثمار الدنيا (تبقى) ويرذل منها، وإن ثمار الجنة لا يرذل منها شيء.
محمد بن كعب وعلي بن زيد: بمعنى يشبه ثمر الدنيا غير أنها أطيب.
وقال بعضهم: متشابها في الاسم مختلفا في الطعم.
قال ابن عباس: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا غير الأسماء.
" * (ولهم فيها) *) في الجنات. " * (أزواج) *) نساء وجوار، يعني الحور العين.
قال ثعلب: الزوج في اللغة: المرأة والرجل، والجمع والفرد، والنوع واللون، وجميعها أزواج.
" * (مطهرة) *) من الغائط والبول والحيض والنفاس والمخاط والبصاق والقيء والمني والولد وكل قذر ودنس.
وقال إبراهيم النخعي: في الجنة جماع ما شئت ولا ولد.
وقيل: مطهرة عن مساويء الأخلاق.
وقال يمان: مطهرة من الإثم والأذى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتفلون ولا يتغوطون ولا يبولون ولا يتمخطون). قيل: فما بال الطعام؟ قال: (جشأ ورشح تجري من أعرافهم كريح المسك يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس).
171

" * (وهم فيها خالدون) *) دائمون مقيمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.
الحسن عن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة: كيف هي؟
قال: (من يدخل الجنة يحيى ولا يموت وينعم ولا يبؤس ولا تبلى ثيابه ولا شبابه).
قيل: يا رسول الله كيف بناؤها؟ قال: (لبنة من فضة ولبنة من ذهب، بلاطها مسك أذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران).
وقال يحيى بن أبي كثير: إن الحور العين لتنادين أزواجهن بأصوات حسان، فيقلن: طالما انتظرناكم، نحن الراضيات الناعمات الخالدات، أنتم حبنا ونحن حبكم ليس دونكم مقصد ولا وراءكم معذر.
وقال الحسن في هذه الآية: هن عجائزكم الغمض الرمض العمش طهرن من قذرات الدنيا.
(* (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهاذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولائك هم الخاسرون * كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون * هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شىء عليم) *) 2
" * (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا) *) هذه الآية نزلت في اليهود، وذلك أن الله تعالى ذكر في كتابه العنكبوت والذباب فقال: " * (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا) *) الآية. وقال: " * (الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت) *) الآية، ضحكت اليهود وقالوا: ما هذا الكلام وماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخبيثة في كتابه وما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله تعالى: " * (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا) *) أي لا يترك ولا يمنعه الحياء أن يضرب مثلا أن تصف للحق شبها. " * (ما بعوضة) *). (ما) صلة، وبعوضة نصب يدل على المثل.
" * (فما فوقها) *): ابن عباس يعني الذباب والعنكبوت. وقال أبو عبيدة: يعني فما دونها.
" * (فأما الذين آمنوا) *) بمحمد والقرآن " * (فيعلمون) *) يعني أن هذا المثل هو " * (أنه الحق) *) الصدق الصحيح. " * (من ربهم) *))
.
172

" * (وأما الذين كفروا) *) بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. " * (فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) *): أي بهذا المثل. فلما حذف الألف واللام نصب على الحال والقطع والتمام، كقوله: " * (وله الدين واصبا) *).
فأجابهم الله تعالى فقال: أراد الله بهذا المثل " * (يضل به كثيرا) *) من الكافرين ذلك أنهم ينكرونه ويكذبونه " * (ويهدي به كثيرا) *) من المؤمنين يعرفونه ويصدقون.
" * (وما يضل به الا الفاسقين) *) الكافرين، وأصل الفسق: الخروج، قال الله تعالى: " * (ففسق عن أمر ربه) *) أي خرج. تقول العرب: فسقت الرطبة عن القشر، أي خرجت.
ثم وصفهم فقال: " * (الذين ينقضون) *) أي يتركون ويخالفون، وأصل النقض: الكسر.
" * (عهد الله) *) أمره الذي عهد إليهم يوم الميثاق بقوله تعالى: " * (ألست بربكم قالوا بلى) *) وما عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم (وضمنه) نعته وصفته.
" * (من بعد ميثاقه) *) توكيده وتشديده، وهو مفعال من الوثيقة.
" * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) *) يعني الأرحام، وقيل: هو الإيمان بجميع الرسل والكتب، وهو نوع من الصلة؛ لأنهم قالوا: " * (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) *) فقطعوا، وقال المؤمنون: " * (لا نفرق بين أحد من رسله) *) فوصلوا.
" * (ويفسدون في الأرض) *) بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
" * (أولئك هم الخاسرون) *): أي المغبونون بالعقوبة وفوت المثوبة، ثم قال: لمشركي مكة على التعجب:
" * (كيف تكفرون بالله وكنتم) *) واو الحال " * (أمواتا) *) نطفا في أصلاب آبائكم " * (فأحياكم) *) في الأرحام في الدنيا " * (ثم يميتكم) *) عند انقضاء آجالكم. " * (ثم يحييكم) *) للبعث. " * (ثم إليه ترجعون) *) تأتون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.
وقرأ يعقوب: ترجعون، وبيانه بفتح الأول وكسر الجيم جعل الفعل لهم.
" * (هو الذي خلق لكم) *) لأجلكم. " * (ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء) *) أي قصد وعمد إلى خلق السماء.
173

" * (فسواهن سبع سماوات) *) أي خلق سبع سماوات مستويات بلا فطور ولا شطور ولا عمد تحتها ولا علامة فوقها. " * (وهو بكل شيء عليم) *): عالم.
2 (* (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنيأعلم ما لا تعلمون * وعلم ءادم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسمآء هاؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ إنك أنت العليم الحكيم * قال ياءادم أنبئهم بأسمآئهم فلمآ أنبأهم بأسمآئهم قال ألم أقل لكم إنيأعلم غيب السماوات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا ياءادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هاذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقىءادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) *) 2
" * (وإذ قال ربك) *) يعني: وقد قال، وقيل معناه: واذكر إذ قال ربك، وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله.
و (إذ) و (إذا) حرفا توقيت، إلا أن (إذ) للماضي و (إذا) للمستقبل، وقد يوضع أحدهما موضع الآخر.
قال المبرد: إذا جاء (إذ) مع المستقبل كان معناه ماضيا نحو قوله: " * (وإذ يمكر بك) *) وإذ يقول، يريد وإذ مكر وإذ قال، وإذا وإذ جاء مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله: * (فإذا جاءت الطامة الكبرى) * * (فإذا جاءت الصاخة) *) * * (إذا جاء نصر الله) *) أي يجيء، وقال الشاعر:
ثم جزاه الله عنا إذ جزا
جنات عدن والعلا إلى العلا
أي يجزيه
174

" * (للملائكة) *) الذين كانوا في الأرض، والملائكة: الرسل، واحدها ملك، وأصله: مالك، وجمعه: ملائكة، وهي من الملكة والمالكة والألوك الرسالة ويقال: ألكني إلى فلان، أي كن رسولي إليه فقلبت، فقيل: ملاك. قال الشاعر:
فلست لأنسي لكن لملاك
تنزل من جو السماء يصوب
ثم حذف الهمزة للخفة وكثير استعماله فقيل: ملك.
قال النضر بن شميل في الملك: إن العرب لا تشتق فعله ولا تصرفه، وهو مما فات علمه.
" * (إني جاعل في الأرض خليفة) *) أي بدلا منكم ورافعكم إلي، سمي (خليفة) لأنه يخلف الذاهب ويجيء بعده، فالخليفة من يتولى إمضاء الأمر عن الآمر، وقرأ (زيد بن علي): (خليفة) بالقاف.
قال المفسرون: وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن، فأسكن الملائكة السماء، وأسكن الجن الأرض، فعبدوا دهرا طويلا في الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي، فاقتتلوا وأفسدوا، فبعث الله إليهم جندا من الملائكة يقال لهم: الجن، رأسهم عدو الله إبليس وهم خزان الجنان اشتق لهم اسم من الجنة فهبطوا إلى الأرض، وطردوا الجن عن وجهها فالحقوهم بشعوب الجبال، وجزائر البحر، وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة، وأحبوا البقاء في الأرض لذلك، وأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك سماء الدنيا وخزانة الجنان، فكان يعبد الله تارة في الأرض، وتارة في السماء، وتارة في الجنة.
فلما رأى ذلك دخله الكبر والعجب، وقال في نفسه: أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه، وأعظمهم منزلة لديه؛ فلما ظهر الكبر جاء العزل، فقال الله له ولجنده: " * (اني جاعل في الأرض خليفة) *) فلما قال لهم ذلك كرهوا؛ لأنهم كانوا أهون في الملائكة عبادة، ولأن العزل شديد.
" * (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) *) بالمعاصي. " * (ويسفك) *) يصب " * (الدماء) *) بغير حق.
فإن قيل: كيف علموا ذلك وهو غيب؟
والجواب عنه ما قال السدي: لما قال الله لهم ذلك، قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: تكون له ذرية، يفسدون في الأرض (ويتحاسدون) ويقتل بعضهم بعضا. قالوا عند ذلك: " * (أتجعل فيها) *) ومعناه: فقالوا، فحذف فاء التنسيق. كقول الشاعر
175

لما رأيت نبطا أنصارا
شمرت عن ركبتي الأزارا
كنت لهم من النصاري جارا
أي فكنت لهم.
وقال أكثر المفسرين: أرادوا كما فعل بنو الجان قاسوا بالشاهد على الغائب، وقال بعض أهل المعاني: فيه إضمار واختصار معناه: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ أم تجعل فيها من لا يفسد ولا يسفك الدماء؟ لقوله تعالى: " * (أمن هو قانت آناء الليل) *) يعني كمن هو غير قانت، وهو اختيار الحسن بن الفضل.
" * (ونحن نسبح بحمدك) *).
قال الحسن: يقولون: سبحان الله وبحمده، وهو صلاة الخلق وتسبيحهم وعليها يرزقون. يدل عليه الحديث المروي عن أبي ذر إنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل؟ قال: (ما أصطفاه الله تعالى لملائكته: سبحان الله وبحمده).
وقيل: معناه: ونحن نصلي لك بأمرك، والتسبيح يكون بمعنى التنزيه ويكون بمعنى الصلاة، ومنه قيل: للصلاة سبحة، وقيل: معناه: نصلي، ونقرأ فيها فاتحة الكتاب.
" * (ونقدس لك) *) وننزهك واللام صلة، وقيل: هي لام الأجل، أي ونطهر لأجلك قلوبنا من الشرك بك (وأبداننا) من معصيتك.
وقال بعض العلماء: في الآية تقديم وتأخير مجازها: ونحن نسبح ونقدس لك بحمدك؛ لأنه إذا حملت الآية على التأويل الأول تنافي قول الملائكة المتزكية بالإدلال بالعمل، وإذا حملت على هذا التأويل ضاهى قولهم التحدث بنعمة الله وإضافة (.....) إلى الله فكأنهم قالوا: وأن سبحنا وقدسنا وأطعنا وعبدنا فذلك كله بحمدك لا بأنفسنا، قال الله:
" * (إني أعلم ما لا تعلمون) *) من استخلافي في الأرص ووجه المصلحة فيه، فلا تعترضوا علي في حكمي وتدبيري، وقيل: أراد أني أعلم أن في من استخلفه في الأرض: أنبياء وأولياء وعلماء وصلحاء، وقيل: أني أعلم إنهم يذنبون وأغفر لهم.
قال بعض الحكماء: إن الله تعالى أخرج (أدم) من الجنة قبل أن يدخله فيها. لقوله
176

" * (أني جاعل في الأرض خليفة) *) ثم كان خروجه من الجنة بذنبه يدل أنه كان بقضاء الله وقدره.
ابن نجيح عن مجاهد في قوله: " * (أني أعلم ما لا تعلمون) *) قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.
ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (احتج آدم وموسى. فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة. فقال له
آدم: أنت موسى اصطفاك الله لرسالته وكلامه، ثم تلومني على أمر قدر قبل أن أخلق. فحج آدم موسى).
فصل في معنى الخليفة
قيل: سأل أمير المؤمنين الخطاب، طلحة والزبير وكعبا وسلمان: ما الخليفة من الملك؟ فقال طلحة والزبير: ما ندري. فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله ويقضي بكتاب الله، فقال كعب: ما كنت أحسب أن في المجلس أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري، ولكن الله عز وجل ملأ سلمان حكما وعلما وعدلا.
وروى زاذان عن سلمان: إن عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقه فأنت ملك. قال: فاستعبر عمر رضي الله عنه.
وعن يونس: إن معاوية كان يقول إذا جلس على المنبر: أيها الناس إن الخلافة ليست لجمع المال ولا تفريقه، ولكن الخلافة بالحق والحكم بالعدل وأخذ الناس بأمر الله عز وجل.
" * (وعلم آدم الأسماء كلها) *) وذلك إن الله تعالى لما قال للملائكة: " * (إني جاعل في الأرض خليفة) *) قالوا فيما بينهم: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أفضل ولا أكرم عليه منا، وإن كان خيرا منا فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره، فلما أعجبوا بعلمهم وعبادتهم، فضل الله تعالى عليهم آدمج بالعلم فعلمه الأسماء كلها وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة.
واختلف العلماء في هذه الأسماء، فقال الربيع وابن أنس: أسماء الملائكة، وقال عبد الرحمن بن زيد: أسماء الذرية.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: علمه الله اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة.
177

قال مقاتل: خلق الله كل شيء الحيوان والجماد وغيرها ثم علم آدم أسماءها كلها. فقال له: يا آدم هذا فرس، وهذا بغل، وهذا حمار حتى أتى على آخرها ثم عرض تلك الأشياء كما عرض الموجودات على الملائكة. فكذلك قال: " * (ثم عرضهم) *) ولم يقل: عرضها، ورده إلى الشخوص والمسميات لأن الأعراض لا تعرض.
وقيل: علم الله آدم ج صنعة كل شيء.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: علم الله آدم أسماء الخلق والقرى والمدن والجبال والسباع وأسماء الطير والشجر وأسماء ما كان وما يكون وكل نسمة الله عز وجل بارئها إلى يوم القيامة، وعرض تلك الأسماء على الملائكة.
" * (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) *) إن الخليفة الذي أجعله في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء. أراد الله تعالى بذلك: كيف تدعون علم ما لم يكن بعد، وأنتم لا تعلمون ما ترون وتعاينون.
وقال الحسن وقتادة: " * (إان كنتم صادقين) *) إني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم وأفضل منه، قالت الملائكة: إقرارا بالعجز واعتذارا.
" * (قالوا سبحانك) *): تنزيها لك عن الاعتراض لعلمك في حكمك وتدبيرك، وهو نصب على المصدر، أي نسبح سبحانا في قول الخليل.
وقال الكسائي: خارج عن الوصف، وقيل: على النداء المضاف أي: يا سبحانك.
" * (لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم) *) بخلقك " * (الحكيم) *) في أمرك.
وللحكيم معنيان: أحدهما: المحكم للفعل، كقوله: " * (عذاب أليم) *)، وحز وجيع. قال الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميع
يؤرقني وأصحابي هموع
أي المؤلم والموجع، والمسمع فعيل بمعنى: مفعل وعلى هذا التأويل هو صفة فعل.
والآخر: بمعنى (الحاكم العالم) وحينئذ يكون صفة ذات، وأصل الحكمة في كلام العرب: المنع. يقال: أحكمت اليتيم عن الفساد وحكمته، أي منعته.
قال جرير
178

أبني حنيفة احكموا سفهاءكم
إني أخاف عليكم أن أغضبا
ويقال للحديدة المعترضة في فم الدابة: حكمة؛ لأنها تمنع الدآبة من الأعوجاج، والحكمة تمنع من الباطل، ومالا يجمل فلا يحل في المحكم من الأمر بمنعه من الخلل، وفي هذه الآية دليل على جواز تكليف ما لا يطاق حيث أمر الله تعالى الملائكة بإنباء مالم يعلموا، وهو عالم بعجزهم عنه.
فلما ظهر عجزهم، قال الله تعالى: " * (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) *) فسمى كل شيء باسمه، وألحق كل شيء بجنسه.
" * (فلما أنبأهم) *) أخبرهم. " * (بأسمائهم قال ألم أقل لكم) *) يا ملائكتي. " * (أني أعلم غيب السماوات والأرض) *) ما كن فيها وما يكون. " * (وأعلم ما تبدون) *) من الخضوع والطاعة لآدم. " * (وما كنتم تكتمون) *) تخفون في أنفسكم من العداوة له. وقيل: ما تبدون من الإقرار بالعجز والاعتذار، وما كنتم تكتمون من الكراهية في استخلاف آدم.
قال ابن عباس: هو أن إبليس مر على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه، فقال: لأمر ما خلق هذا، ثم دخل من فيه وخرج من دبره، وقال: إنه لا يتماسك إلا بالجوف، ثم قال للملائكة الذين معه: أرأيتم أن فضل هذا عليكم، وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون؟ قالوا: نطيع أمر ربنا. فقال إبليس في نفسه: والله لئن سلطت عليه لأهلكته، ولئن سلط علي لأعصينه. فقال الله تعالى: " * (وأعلم ما تبدون) *) يعني الملائكة من الطاعة " * (وما تكتمون) *) يعني إبليس من المعصية.
قال الحسن وقتادة: " * (ما تبدون) *) يعني قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها " * (وما تكتمون) *) يعني قولهم لن يخلق خلقا أفضل ولا أعلم ولا أكرم عليه منا.
القول في حد الاسم وأقسامه
فقال أصحابنا: الاسم: كل لفظة دلت على معنى ما وشئ ما، وهو مشتق من السمة، وهي العلامة التي يعرف بها الشيء، وأقسامه ثمانية منها: اسم علم مثل زيد، وعمرو، وفاطمة، وعائشة، ودار، وفرس.
ومنها: اسم لازم كقولك: رجل، وامرأة، وشمس، وقمر، وحجر، ومدر ونحوها؛ سمي لازما لأنه لا ينقلب ولا يفارق، فلا يقال للشمس قمر ولا للقمر حجر.
ومنها: اسم مفارق مثل: صغير، وكبير، وطفل، وكهل، وقليل، وكثير، وقيل له مفارق لأنه كان ولم يكن له هذا الاسم ويزول عنه المعنى المسمى به.
ومنها: اسم مشتق: ككاتب، وخياط، وصائغ، وصباغ؛ فالاسم مشتق من فعله.
179

ومنها: اسم مضاف مثل: غلام جعفر، وركوب عمرو، ودار زيد.
ومنها: اسم مشبهة كقولك: فلان أسد وحمار وشعلة نار.
ومنها: اسم منسوب يثبت بنفسه ويثبت غيره، كقولك: أب، وأم، وأخ، وأخت، وابن، وبنت، وزوج، وزوجة، فإذا قلت أب فقد أثبته وأثبت له الولد، وإذا قلت: أخ أثبته وأثبت له الأخت.
ومنها: اسم الجنس: وهو اسم واحد ويدل على أشياء كثيرة، كقولك: حيوان، وناس ونحوهما.
" * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) *) سجدة تعظيم وتحية لا سجود صلاة وعبادة، نظيره قوله في قصة يوسف: " * (وخروا له سجدا) *) وكان ذلك تحية الناس، ويعظم بعضهم بعضا، ولم يكن وضع الوجه على الأرض (وإنما) كان الإنحناء والتكبير والتقبيل. فلما جاء الإسلام بطل ذلك بالسلام.
وفي الحديث إن معاذ بن جبل رجع من اليمن فسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغير وجه رسول الله فقال: ما هذا؟ قال: رأيت اليهود يسجدون لأحبارهم والنصارى يسجدون لقسيسيهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مه يا معاذ كذب اليهود والنصارى إنما السجود لله تعالى).
وقال بعضهم: كان سجودا على الحقيقة جعل آدم قبلة لهم والسجود لله، كما جعلت الكعبة قبلة لصلاة المؤمنين والصلاة لله تعالى.
قال ابن مسعود: أمرهم الله تعالى أن يأتوا بآدم فسجدت الملائكة وآدم لله رب العالمين.
وقال أبي بن كعب: معناه: أقروا لآدم إنه خير وأكرم علي منكم فأقروا بذلك، والسجود على قول عبد الله وأبي بمعنى الخضوع والطاعة والتذلل، كقول الشاعر:
ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
وآدم على وزن افعل.
فلذلك لم يصرقه.
السدي عمن حدثه عن ابن عباس قال: إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، ومنهم من قال: سمي بذلك لأنه خلق من التراب، والتراب بلسان العبرانية آدم، وبعضهم من قال:
180

سمي بذلك لأدمته لأنه كان آدم اللون وكنيته أبو محمد وأبو البشر.
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ليس في الجنة أحد يكنى إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد.
وقرأ العامة: " * (للملائكة) *) بخفض التاء، وقرأ أبو جعفر بضم التاء تشبها لتاء التأنيث بألف الوصل في قوله: " * (اسجدوا) *) لأن ألف الوصل يذهب في الوصل ولأنها زائدة غير أصلية، وكذلك تاء التأنيث زائدة غير أصلية، ولا ثابت جواب ألف اسجدوا.
وقيل: كره ضمة الجيم بعد كسرة التاء؛ لأن العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها، وهي قراءة ضعيفة جدا وأجمع النحاة على تغليطه فيها.
" * (فسجدوا) *) يعني الملائكة. " * (الا إبليس) *) وكان اسمه عزازيل، فلما عصى غيرت صورته وغير اسمه فقيل إبليس؛ لأنه أبلس من رحمة الله، كما يقال: يا خبيث ويا فاسق، وهو منصوب على الاستثناء، ولا يصرف لاجتماع العجمة والمعرفة.
" * (أبى) *) أي امتنع ولم يسجد. " * (واستكبر) *) أي تكبر وتعظم عن السجود " * (وكان) *) أي فصار " * (من الكافرين) *) * * (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) *).
وقال أكثر المفسرين: معناه فكان في علمه السابق من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة.
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان عنه يبكي فيقول: يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار).
زياد بن الحصين عن أبي العالية قال: لما ركب نوح السفينة إذا هو بإبليس على كوثلها فقال له: ويحك قد شق أناس من أجلك، قال: فما تأمرني؟ قال: تب، قال: سل ربك هل لي من توبة؟ قال: فقيل له أن توبته أن يسجد لقبر آدم، قال: تركته حيا واسجد له ميتا.
" * (وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) *) وذلك أن آدم ج كان في الجنة وحشا ولم يكن له من يجالسه ويؤانسه، فنام نومة فخلق الله تعالى زوجته من قصيراه من شقه الأيسر من غير أن يحس آدم بذلك ولا وجد له ألما ولو ألم من ذلك لما عطف رجل على امرأة، فلما هب آدم من نومه إذا هو بحواء جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله تعالى، فقال لها: من أنت؟ قالت أنا زوجتك خلقني الله لك لتسكن إلي وأسكن إليك. فقالت الملائكة عند ذلك امتحانا لعلم آدم: يا آدم ما هذه؟ قال: امرأة، قالوا: ما اسمها؟ قال: حواء، قالوا: لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي، قالوا: تحبها يا آدم؟ قال: نعم، فقالوا لحواء: أتحبينه؟ قالت: لا،
181

وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه، قالوا: فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء.
مسألة:
قالت القدرية: إن الجنة التي أسكنها الله آدم وحواء لم تكن جنة الخلد وإنما كان بستانا من بساتين الدنيا، واحتجوا بأن الجنة لا يكون فيها ابتلاء وتكليف.
والجواب:
إنا قد أجمعنا على أن أهل الجنة مأمورون فيها بالمعرفة ومكلفون بذلك.
وجواب آخر: إن الله تعالى قادر على الجمع بين الأضداد، فأرى آدم المحنة في الجنة وأرى إبراهيم النعمة في النار لئلا يأمن العبد ربه ولا يقنط من رحمته وليعلم أن له أن يفعل ما يشاء.
واحتجوا أيضا بأن من دخل الجنة يستحيل الخروج منها، قال الله تعالى: " * (وما هم عنها بمخرجين) *).
والجواب عنه: إن من دخلها للثواب لا يخرج منها أبدا، وآدم لم يدخلها للثواب، ألا ترى أن رضوان خازن الجنة يدخلها ثم يخرج منها، وإبليس أيضا كان داخل الجنة وأخرج منها.
" * (وكلا منها رغدا) *) واسعا كثيرا. " * (حيث شئتما) *): كيف شئتما ومتى شئتما وأين شئتما.
" * (ولا تقربا هذه الشجرة) *) قال بعض العلماء: وقع النهي على جنس من الشجر. وقال آخرون: بل وقع على شجرة مخصوصة واختلفوا فيها، فقال علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه): هي شجرة الكافور.
وقال قتادة: شجرة العلم وفيها من كل شيء.
ومحمد بن كعب ومقاتل: هي السنبلة.
وقيل: هي الحبلة وهي الأصلة من أصول الكرم.
أبو روق عن الضحاك: أنها شجرة التين.
" * (فتكونا) *) فتصيرا " * (من الظالمين) *) لأنفسكما بالمعصية، وأصل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
" * (فأزلهما) *) يعني (استمال) آدم وحواء فأخرجهما ونحاهما.
وقرأ حمزة: (فأزالهما الشيطان) وهو إبليس، وهو فيعال من شطن أي بعد
182

وقيل: إنه من شاط والنون فيه غير أصلية (ونودي) شيطان سمي بذلك لتمرده وبعده عن الخير وعن رحمة الله تعالى.
" * (عنها) *) عن الجنة وقيل عن الطاعة.
" * (وأخرجهما مما كانا فيه) *) من النعيم، وذلك إن إبليس أراد أن يدخل الجنة ويوسوس لآدم ولحواء فمنعته الخزنة، فأتى الحية وكانت من أحسن الدواب لها أربع قوائم كقوائم البعير وكان من خزان الجنة وكان لإبليس صديقا، فسألها أن تدخله في فمها فأدخلته في فمها ومرت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة، وكان آدم لما دخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم والكرامة قال: لو أن خلدا، فأغتنم الشيطان ذلك منه وأتاه من قبل الخلد، ولما دخل الجنة وقف بين يدي آدم وحواء لا يعلمان إنه إبليس، فناح عليهما نياحة أحزنهما وبكى وهو أول من ناح فقالا لم تبكي قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعيم والكرامة، فوقع ذلك في أنفسهما وإغتما، ومضى ثم أتاهما بعد ذلك وقال: " * (يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) *)، فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين، فأغترا وما كانا يظنان أن أحدا يحلف بالله كاذبا، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها.
وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسط قال: سمعت سعيد بن المسيب يحلف بالله ما يستثني: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها فأكل، فلما أكلا تهافتت عنهما ثيابهما وبدت سوءاتهما وأخرجا من الجنة، وذلك قوله تعالى: " * (وقلنا) *) يعني لآدم وحواء وإبليس والحية " * (اهبطوا) *) أي أنزلوا إلى الأرض " * (بعضكم لبعض عدو) *) فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نودة، وقيل: واشم، وحواء بجدة،
وإبليس بالأبلة وقيل بميسان، والحية بأصفهان.
" * (ولكم في الأرض مستقر ومتاع) *) بلغة ومستمتع.
" * (إلى حين) *) إلى حين اقتضاء أجالكم ومنتهى أعماركم.
وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت إبراهيم بن أدهم: أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا.
" * (فتلقى) *) فلقن. " * (آدم) *) حفظ حين لقن، وأفهم حين ألهم.
وقرأ العامة: آدم برفع الميم، كلمات بخفض التاء.
وقرأ ابن كثير: بنصب الميم، بمعنى جاءت الكلمات لآدم ج.
" * (من ربه كلمات) *) كانت سبب قبول توبته، واختلفوا في تلك الكلمات
183

قال ابن عباس: هي أن آدم قال: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسبق رحمتك بي غضبك؟ قال: بلى، قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: فلم أخرجتني منها؟ قال: بشؤم معصيتك، قال: أي رب أرأيت لو تبت (وأصلحت) أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى. قال: فهو الكلمات.
قال عبيد بن عمير: هو أن آدم قال: يا رب أرأيت ما أتيت، أشيء ابتدعته على نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟ قال: بل شي قدرته عليك قبل أن أخلقك، قال: يا رب كما قدرته علي فأغفر لي.
همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحاج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة إلى الأرض؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي أعطاك الله علم كل شيء واصطفاك على الناس برسالته؟ قال: نعم. قال: أتلومني على أمر كان قد كتب علي أن أفعله من قبل أن أخلق. قال: فحج آدم موسى).
وقال محمد بن كعب القرظي: هي قوله: لا اله الا أنت سبحانك وبحمدك قد عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، لا اله الا أنت سبحانك وبحمدك قد عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، لا اله الا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني انك أنت أرحم الراحمين.
عكرمة عن سعيد بن جبير في قوله: " * (فتلقى آدم من ربه كلمات) *) قالا: قوله: " * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) *)، وكذلك قاله الحسن ومجاهد.
وقال بعضهم: نظر آدم ج إلى العرش فرأى على ساقه مكتوبا لا اله الا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق فقال: يا رب أسألك بحق محمد أن تغفر لي فغفر له.
وقيل: هذا التأويل ما روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق
184

.
وقيل: هي ثلاثة أشياء: الخوف، الرجاء، البكاء.
أبو بكر الهذلي عن شهر بن حوشب قال: بلغني أن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياءا من الله تعالى.
وقال ابن عباس: بكاء آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما، ولم يقرب آدم (حواء) مائة سنة.
" * (فتاب عليه) *) فتجاوز عنه " * (إنه هو التواب) *) يقبل توبة عباده " * (الرحيم) *) بخلقه.
" * (قلنا اهبطوا منها) *) يعني آدم وحواء، وقيل: آدم وحواء وإبليس والحية " * (فإما يأتينكم) *) يا ذرية آدم " * (مني هدى) *) كتاب ورسول. * (فمن تبع هداي) * * (هداي فلا خوف عليهم) *): فيما يستقبلهم " * (ولا هم يحزنون) *): على ما خلفوا.
" * (والذين كفروا) *) جحدوا. " * (وكذبوا بآياتنا) *) يعني القرآن. " * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *) لا يخرجون منها ولا يموتون فيها.
2 (* (يا بني إسراءيل اذكروا نعمتي التىأنعمت عليكم وأوفوا بعهدىأوف بعهدكم وإياى فارهبون * وءامنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياى فاتقون * ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون * وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة واركعوا مع الراكعين * أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون * واستعينوا بالصبر والصلواة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون * يابنى إسراءيل اذكروا نعمتى التىأنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين * واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) *) 2
" * (يا بني إسرائيل) *) أولاد يعقوب، ومعنى إسرائيل: صفوة الله، وإيل هو الله عز وجل، وقيل: معناه: عبد الله، وقيل: سمي بذلك لأن يعقوب وعيصا كانا
توأمين واقتتلا في بطن أمهما، فأراد يعقوب أن يخرج فمنعه عيص وقال: والله لئن خرجت قبلي لأعترضن في بطن أمي، فلأقتلنها، فتأخر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب يعقب عيص فخرج عيص قبل يعقوب.
وسمي عيص لما عصى فخرج قبل يعقوب، وكان عيص أحبهما إلى أبيه وكان يعقوب أحبهما إلى أمة، وكان عيص (ويعقوب أبناء) إسحاق وعمي، قال لعيص: يا بني أطعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلا أشعر وكان (يعقوب) رجلا أمرد، فخرج عيص بطلب الصيد، فقالت أمه ليعقوب: يا بني إذهب إلى الغنم فاذبح منه شاة ثم اشوه والبس جلدها وقدمها إلى أبيك فقل له: أنك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه كل، قال: من أنت، قال: ابنك عيص (قال: خمسه فقال: المس مس عيص والريح ريحة
185

يعقوب، قالت أمه: هو ابنك، فادع له، قال: قدم طعامك فقدمه فأكل منه، ثم قال: أدن مني، فدنا منه، فدعا له أن يجعل في ذريته الأنبياء والملوك. وقام يعقوب وجاء عيص فقال: قد جئتك بالصيد الذي أمرتني به. فقال: يا بني قد سبقك أخوك يعقوب، فغضب عيص وقال: والله لأقتلنه، قال: يا بني قد بقيت لك دعوة، فهلم أدع لك بها، فدعا له فقال: تكون ذريتك عددا كثيرا كالتراب ولا يملكهم أحد غيرهم...).
" * (اذكروا) *)....
روى الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والمحدث بنعمة الله شاكر وتاركها كافر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب).
" * (نعمتي) *) أراد نعمي أعطها وهي واحد (بمعنى الجمع) وهو قوله تعالى " * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) *) والعدد لا يقع على الواحد.
" * (التي أنعمت عليكم) *) أي على أجدادكم، وذلك أن الله تعالى فلق لهم البحر وأنجاهم من فرعون وأهلك عدوهم فأورثهم ديارهم وأموالهم، وظلل عليهم الغمام في التيه من حر الشمس، وجعل لهم عمودا من نور يضيء لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر، وأنزل عليهم المن والسلوى، وفجر لهم اثني عشرة عينا (وأنزل) عليهم التوراة فيها بيان كل شيء يحتاجون إليه في نعم من الله كثيرة لا تحصى.
" * (أوفوا بعهدي) *) الذي عهدت إليكم " * (أوف بعهدكم) *) أدخلكم الجنة وأنجز لكم ما وعدتكم.
فقرأ الزهري: أوف بالتشديد على التأكيد يقال: وفى وأوفى كلها بمعنى (واحد) وأصلها الاتمام.
قال الكلبي: عهد إلى بني إسرائيل على لسان موسى: إني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا فمن إتبعه (وآمن) به عفوت عن ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين، وهو قوله: " * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) *) يعني أمر محمد صلى الله عليه وسل
186

قتادة: هو العهد الذي أخذ الله عليهم في قوله: " * (ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل) *) وقوله تعالى: " * (قرضا حسنا) *) فهذا قوله: " * (أوفوا بعهدي) *) ثم قال: " * (لأكفرن عنكم سيئاتكم) *) الآية. فهذا قوله " * (أوف بعهدكم) *).
فقال: " * (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون الا الله) *) الآية.
الحسن: هو قوله: " * (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) *) الآية.
إسماعيل بن زياد: ولا تفروا من الزحف أدخلكم الجنة، دليله قوله تعالى: " * (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار) *).
وقيل: أوفوا بشرط العبودية، أوف بشرط الربوبية.
وقال أهل الإشارة: أوفوا في دار محنتي على بساط خدمتي، (أوف عهدكم) في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربي ورؤيتي.
" * (وإياي فارهبون) *) فخافوني في نقض العهد (وسقطت الياء بعد النون في) هذه الآيات وفي كل القرآن على الأصل، وحذفها الباقون على الخط إتباعا للمصحف.
" * (وآمنوا بما أنزلت مصدقا) *) موافقا " * (لما معكم) *) يعني التوراة في التوحيد والنبوة والأخبار، وبعض الشرائع نزلت في كعب وأصحابه من علماء اليهود ورؤسائهم.
" * (ولا تكونوا أول كافر به) *) يعني أول من يكفر بالقرآن وقد بايعتنا اليهود على ذلك فتبوءوا بآثامكم وآثامهم.
" * (ولا تشتروا بآياتي) *) أي ببيان صفة محمد ونعته. " * (ثمنا قليلا) *) شيئا يسيرا، وذلك أن رؤساء اليهود كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وعوامهم يأخذون منهم شيئا معلوما كل عام من زروعهم (فخافوا أن تبينوا) صفة محمد صلى الله عليه وسلم وبايعوه أن تفوتهم تلك المآكل والرياسة، فاختاروا الدنيا على الآخرة.
" * (وإياي فاتقون) *) فاخشوني في أمر محمد لا فيما يفوتكم من الرياسة والمأكل.
" * (ولا تلبسوا الحق) *) ولا تخلطوا، يقال: (لبست عليهم الأمر ألبسه لبسا إذا خلطته عليهم) أي خلطت وشبهت الحق الذي أنزل إليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم
187

" * (بالباطل) *)، الذي تكتمونه، وهو تجدونه في كتبكم من نعته وصفته.
وقال مقاتل: إن اليهود أقروا ببعض صفه محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضا واختلفوا في ذلك، فقال الله عز وجل: " * (ولا تلبسوا الحق) *) الذي تقرون به وتبينونه بالباطل، يعني بما تكتمونه، فالحق بيانهم والباطل كتمانهم.
وقيل: معناه ولا تلبسوا الحق (.... من الباطل) صفة أو حال.
" * (وتكتموا الحق) *) يعني ولا تكتموا الحق كقوله تعالى: " * (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) *).
" * (وأنتم تعلمون) *) إنه نبي مرسل.
" * (وأقيموا الصلاة) *) يعني وحافظوا على الصلوات الخمس بمواقيتها (وأركانها) وركوعها وسجودها.
" * (وآتوا الزكاة) *) يعني وأدوا زكاة أموالكم المفروضة، وأصل الزكاة: الطهارة والنماء والزيادة.
" * (واركعوا مع الراكعين) *) يعني وصلوا مع المصلين محمد وأصحابه، يخاطب اليهود فعبر بالركوع عن الصلاة إذ كان ركنا من أركانها كما عبر باليد عن العطاء كقوله: " * (ذلك بما قدمت أيديكم) *) وقوله: " * (فيما كسبت أيديكم) *) وبالعنق عن البدن في قوله: " * (ألزمناه طائره في عنقه) *) والأنف عن (............).
* (* (أتأمرون الناس بالبر) *) الطاعة والعمل الصالح، " * (وتنسون أنفسكم) *) تتركون " * (وأنتم تتلون الكتاب) *) توبيخ عظيم " * (أفلا تعقلون) *) أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم).
" * (واستعينوا بالصبر والصلاة) *).......
" * (وإنها لكبيرة) *) (عليهما ولكنه كنى عن الأغلب وهو الصلاة كقوله): " * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) *) وقوله: " * (إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) *) فرد
188

الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم وإلى التجارة لأنها الأفضل والأهم... " * (وإنها) *) واحد منهما، أراد بأن كل خصلة منهما " * (لكبيرة) *) وقيل: رد الكناية إلى كل واحد منهما قال تعالى: " * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) *) ولم يقل: آيتين، أراد: جعلنا كل واحد منهما آية.
حسن من علم يزينه حلم
ومن ناله قد فاز بالفرج
أي من نال كل واحد منهما.
وقال آخر:
لكل هم من الهموم سعة
والمسى والصبح لا فلاح معه
وقيل: رد الهاء إلى الصلاة لأن الصبر داخل في الصلاة كقوله: " * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) *) ولم يقل يرضوهما؛ لأن رضا الرسول داخل في رضا الله، فرد الكناية إلى الله. وقال الشاعر وهو حسان:
إن شرخ الشباب والشعر الأس
ود ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل يعاصيا رده إلى الشباب، لأن الشعر الأسود داخل فيه. وقال الحسين بن الفضل: رد الكناية إلى الاستعانة، معناه: وأن الاستعانة بالصبر والصلاة لكبيرة ثقيلة شديدة " * (إلا على الخاشعين) *) يعني المؤمنين، وقال ابن عباس: يعني المصلين. الوراق: العابدين المطيعين. مقاتل بن حيان: المتواضعين، الحسن: الخائفين. قال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذل والخنوع عليه، وكخشوع الدار بعد الاقواء، هذا هو الأصل.
وقال النابغة:
رماد ككحل العين ما أن تبينه
ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
" * (الذين يظنون) *) يعلمون ويستيقنون، كقوله تعالى: " * (إني ظننت أني ملاق حسابيه) *) أي أيقنت به.
وقال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
سراتهم في الفارسي المسرد
189

يعني أيقنوا.
والظن من الأضداد يكون شكا ويقينا كالرجاء يكون أملا وخوفا.
" * (أنهم ملاقوا ربهم) *) معاينوا ربهم في الآخرة " * (وأنهم إليه راجعون) *) فيجزيهم بأعمالهم.
" * (يا بني إسرائيل إذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) *) يعني عالمي زمانكم.
" * (واتقوا يوما) *) أي واحذروا يوما واخشوا يوم.
" * (لا تجزي) *) أي لا تقضي ولا تكفي ولا تغني.
ومنه الحديث عن أبي بردة بن ديان في الأضحية: لا تجزي عن أحد بعدك.
وقرأ أبو السماك العدوي: لا تجزي مضمومة التاء مهموزة الياء من أجزأ يجزي إذا كفي. قال الشاعر:
وأجزأت أمر العالمين ولم يكن
ليجزي إلا كامل وابن كامل
وقال الزجاج: وفي الآية إضمار معناه: " * (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) *) من الشدائد والمكاره.
وأنشد الشاعر:
ويوم شهدناه سليما وعامرا
أي شهدنا فيه.
وقيل: معناه: ولا تغني نفس مؤمنة ولا كافرة عن نفس كافرة.
" * (ولا يقبل منها شفاعة) *) إذا كانت كافرة.
قرأ أهل مكة والبصرة: بالتاء لتأنيث الشفاعة. وقرأ الباقون: بالياء لتقديم الفعل.
وقرأ قتادة: (ولا يقبل منها شفاعة) بياء مفتوحة، ونصب الشفاعة أي لا يقبل الله.
" * (ولا يؤخذ منها عدل) *) فداءا كانوا يأخذون في الدنيا، وسمي الفداء عدلا لأنه يعادل المفدى ويماثله قال الله عز وجل: * (أو عدل ذلك صياما) * * (ولا هم ينصرون) *) أي يمنعون من عذاب الله.
190

قال الزجاج: كانت اليهود تزعم أن آباءها الأنبياء تشفع لهم عند الله عز وجل، فأيأسهم الله من ذلك.
2 (* (وإذ نجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذالكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون * وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * ثم عفونا عنكم من بعد ذالك لعلكم تشكرون * وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون * وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذالكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) *) 2
" * (وإذ نجيناكم) *) يعني أسلافكم وآباءكم فأعتدها منة عليهم؛ لأنهم نجوا بنجاتهم، ومآثر الآباء مفاخر الأبناء.
وقوله: " * (فأنجيناكم) *): أصله ألقيناكم على النجاة وهو ما ارتفع واتسع من الأرض هذا، هو الأصل، ثم سمي كل فائز ناجيا كأنه خرج من الضيق والشدة إلى الرخاء والراحة.
وقرأ إبراهيم النخعي: وإذ نجيناكم على الواحد.
" * (من آل فرعون) *): أي أشياعه وأتباعه وأسرته وعزته وأهل دينه، وأصله من الأول وهو الرجوع كأنه يؤول إليك، وكان في الأصل همزتان فعوضت من إحداهما مد وتخفيف.
وفرعون: هو الوليد بن مصعب بن الريان، وكان من العماليق.
" * (يسومونكم سوء العذاب) *) يعني يكلفونكم ويذيقونكم أشد العذاب وأسوأه، وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وعبيدا وصنفهم في أعمالهم. فصنف يبنون، وصنف يحرثون ويزرعون، وصنف يخدمون، ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال فعليه الجزية.
" * (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) *).
وقرأ ابن محيصن: بالتخفيف فتح الياء والباء من الذبح، والتشديد على التكثير، وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقتها وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، فهاله ذلك، ودعا بالسحرة والكهنة وسألهم عن رؤياه فقالوا: إنه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك وتبديل دينك، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل، وجمع القوابل من أهل مملكته فقال لهن: لا
191

يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتل ولا جارية إلا تركت، ووكل بهن من يفعلن ذلك، وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون فقالوا له: إن الموت قد وقع في بني إسرائيل وأنت تذبح صغارهم (ويموت كبارهم، فيوشك أن يقع العمل علينا، فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها فترك، وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها).
" * (وفي ذلكم بلاء من ربكم) *) في إنجائكم منهم نعمة عظيمة، والبلاء تنصرف على وجهين: النعماء والنقماء (...........).
" * (وإذ فرقنا بكم) *).......
" * (البحر) *): وذلك إنه لما دنا هلاك فرعون أمر الله عز وجل موسى أن يسري ببني إسرائيل، وأمرهم أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح، وأخرج الله عز وجل كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إليهم وأخرج (من بني إسرائيل كل ولد زنا منهم) إلى القبط حتى رجع كل واحد منهم إلى أبيه، وألقى الله عز وجل على القبط الموت فمات كل بكرا، فاشتغلوا بدفنهم (عن طلبهم حتى) طلعت الشمس وخرج موسى ج في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يتعدون ابن العشرين أصغرهم، ولا ابن الستين أكبرهم، سوى الذرية. فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبون، فدعا موسى ج مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك. فقالوا: إن يوسفج لما حضرته الوفاة أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم؛ فلذلك أنسد علينا الطريق، فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا.
فقام موسى ينادي: أنشد الله كل من يعلم أين موضع قبر يوسف إلا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمت أذناه عن قولي. فكان يمر بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته حتى سمعته عجوز لهم فقالت: أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كلما سألتك، فأبى عليها وقال: حتى أسأل ربي، فأمره الله عز وجل بايتاء سؤلها، فقالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل بغرفة من الجنة إلا نزلتها معك، قال: نعم، قالت: إنه في جوف الماء في النيل، فادع الله حتى يحبس عنه الماء. فدعا الله فحبس عنه الماء، ودعا أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف، فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من المرمر فحمله حتى دفنه بالشام، ففتح لهم الطريق
192

فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم، وعلم بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الديك. فوالله ما صاح ديك في تلك الليلة. فخرج فرعون في طلب بني إسرائيل وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف، وكان فيهم سبعون ألف من دهم الخيل سوى سائر الشيات، وسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر، والماء في غاية الزيادة.
نظروا فإذا هم بفرعون وذلك حين أشرقت الشمس، فبقوا متحيرين وقالوا: يا موسى كيف نصنع؟ وما الحيلة؟ فرعون خلفنا والبحر أمامنا. قال موسى: " * (كلا أن معي ربي سيهدين) *) فأوحى إليه: " * (أن اضرب بعصاك البحر) *) فضربه فلم يطعه، فأوحى الله إليه أن كنه، فضربه موسى بعصاه وقال: انفلق أبا خالد بإذن الله، " * (فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) *) وظهر فيها اثنا عشر طريقا لكل سبط طريق، وأرسل الله عز وجل الريح والشمس على مقر البحر حتى صار يبسا.
وقال سعيد بن جبير: أرسل معاوية إلى ابن عباس فسأله عن مكان لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة؟ فكتب إليه: إنه المكان الذي انفلق منه البحر لبني إسرائيل.
فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق وعن جانبه الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضا، فخافوا وقال كل سبط قد غرق كل إخواننا. فأوحى الله إلى حال الماء أن تشبكي، فصار الماء شبكات يرى بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين. فذلك قوله تعالى " * (وإذ فرقنا بكم البحر) *) أي فلقنا وميزنا الماء يمينا وشمالا.
" * (فأنجيناكم) *) من آل فرعون والغرق.
" * (وأغرقنا آل فرعون) *) وذلك إن فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منغلقا، قال لقومه: انظروا إلى البحر انفلق لهيبتي حتى أدرك أعدائي وعبيدي الذين أبقوا وأقتلهم، أدخلوا البحر، فهاب قومه أن يدخلوه ولم يكن في خيل فرعون أنثى، وإنما كانت كلها ذكور، فجاء جبرائيلج على فرس أنثى وديق فتقدمهم فخاض البحر، فلما شمت الخيول ريحها اقتحمت البحر في أثرها حتى خاضوا كلهم في البحر، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يستحثهم ويقول لهم: إلحقوا بأصحابكم، حتى إذا خرج جبرائيل من البحر وهم أولهم أن يخرج، أمر الله تعالى البحر أن يأخذهم والتطم عليهم فأغرقهم أجمعين؛ وذلك بمرأى من بني إسرائيل، وذلك قوله: " * (وأغرقنا آل فرعون) *))
.
193

" * (وأنتم تنظرون) *) إلى مصارعهم.
" * (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) *) وذلك أن بني إسرائيل لما أمنوا من عدوهم، ودخلوا مصر، ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها، فوعد الله عز وجل موسى أن ينزل عليهم التوراة، فقال موسى لقومه: إني ذاهب إلى ميقات ربي، وآتيكم بكتاب فيه تبيان ما تأتون وما تذرون، فواعدهم أربعين ليلة ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة واستخلف عليهم أخاه هارون.
فلما أتى الوعد جاء جبرئيل على فرس يقال لها فرس الحياة لا يصيب شيئا إلا حيي؛ ليذهب بموسى إلى ربه، فلما رآه السامري وكان رجلا صائغا من أهل باجرو واسمه ميخا وقال ابن عباس: اسمه موسى بن ظفر، وكان رجلا منافقا قد أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل قلبه حب البقر فلما رأى جبرئيل على ذلك الفرس، قال: إن لهذا شأنا، وأخذ قبضة من تربة حافر فرس جبرئيل، وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا حليا كثيرا من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لغلة عرس لهم فأهلك الله عز وجل قوم فرعون فبقيت تلك الحلي في يد بني إسرائيل. فلما وصل موسى. قال السامري: إن الأمتعة والحلي التي استعرتموها من قوم فرعون غنيمة، ولا تحل لكم. فاحفروا حفرة وادفنوها فيها حتى يرجع موسى، ويرى فيها رأيه، ففعلوا ذلك.
فلما اجتمعت الحلي صاغها السامري، ثم ألقى القبضة التي أخذها من تراب فرس جبرئيل فيه، فخرج عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر كأحسن ما يكون وخار خورة. قال السدي: كان يخور ويمشي (ويقول:) هذا آلهكم واله موسى فنسي، أي تركه ها هنا وخرج بطلبه.
وكان بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد فعدوا اليوم والليلة يومين، فلما مضت عشرون يوما ولم يرجع موسى ج ورأوا العجل وسمعوا قول السامري، أفتتن بالعجل ثمانية ألف رجل منهم، وعكفوا عليه يعبدونه من دون الله عز وجل.
" * (وإذ واعدنا موسى) *): قرأ أبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب: (وعدنا) بغير ألف في جميع القرآن، وقرأ الباقون: (واعدنا) بالألف، وهي قراءة ابن مسعود. فمن قرأ بغير ألف قال: لأن الله عز وجل هو المتفرد بالوعد والقرآن ينطق به كقوله تعالى: " * (وعد الله) *) وقوله: " * (إن الله وعدكم وعد الحق) *)، ومن قرأ بالألف قال: قد يجيء المفاعلة من واحد كقولهم: عاقبت اللص، وعافاك الله، وطارقت النعل
194

قال الزجاج: (واعدنا) جيد لأن بالطاعة والقبول بمنزلة المواعدة فكان من الله الوعد ومن موسى القبول.
وموسى: هو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب.
" * (أربعين ليلة) *) وقرأ زيد بن علي: (أربعين) بكسر الباء وهي لغة، و (ليلة) نصب على التمييز والتفسير، وإنما قرن التاريخ بالليل دون النهار؛ لأن شهور العرب وضعت على مسير القمر، والهلال إنما يهل بالليل، وقيل لأن الظلمة أقدم من الضوء، والليل خلق قبل النهار. قال الله عز وجل: " * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) *) الآية.
" * (ثم اتخذتم العجل) *) يقول أبو العالية: إنما سمي العجل لأنهم تعجلوه قبل رجوع موسى ج.
" * (من بعده) *) من بعد انطلاق موسى إلى الجبل للميعاد.
" * (وأنتم ظالمون) *) مشاؤون لأنفسكم بالمعصية، وواضعون العبادة في غير موضعها.
" * (ثم عفونا عنكم) *) أي تركناكم فلم نستأصلكم، من قول له ج: أحفوا الشوارب واعفوا اللحي، وقيل: محونا ذنوبكم، من قول العرب: عفت الريح المنازل فعفت.
" * (من بعد ذلك) *) أي من بعد عبادتكم العجل.
" * (لعلكم تشكرون) *) لكي تشكروا عفوي عنكم، وصنيعي إليكم.
واختلف العلماء في ماهية الشكر، فقال ابن عباس: هو الطاعة بجميع الجوارح لرب الخلائق في السر والعلانية.
وقال الحسن: شكر النعمة ذكرها، قال الله تعالى: " * (وأما بنعمة ربك فحدث) *).
الفضل: شكر كل نعمة ألا يعصى الله بعد تلك النعمة.
أبو بكر بن محمد بن عمر الوراق: حقيقة الشكر: معرفة المنعم، وأن لا تعرف لنفسك في النعمة حظا بل تراها من الله عز وجل. قال الله تعالى: " * (وما بكم من نعمة فمن الله) *) يدل عليه ما روى سيف بن ميمون عن الحسين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال موسى ج: يا رب كيف استطاع آدم أن يؤدي شكر ما أجريت عليه من نعمك، خلقته بيدك واسجدت له ملائكتك وأسكنته جنتك؟ فأوحى الله إليه: إن آدم علم إن ذلك كله مني ومن عندي فذلك شكر).
195

وعن إسحاق بن نجيح الملطي عن عطاء الخرساني عن وهب بن منبه قال: قال داودج: إلهي كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك؟ فأوحى الله تعالى إليه: ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني؟ قال: بلى يا رب، قال: أرضى بذلك لك شكرا.
وقال وهب: وكذلك قال موسى: يا رب أنعمت علي بالنعم السوابغ وأمرتني بالشكر لك عليها، وإنما شكري لكل نعمة منك علي، فقال الله: يا موسى تعلمت العلم الذي لا يفوته علم، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهو مني ومن عندي.
قال الجنيد: حقيقة الشكر: العجز عن الشكر.
وروى ذلك عن داودج إنه قال: سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا، كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة.
وقال بعضهم: الشكر أن لا يرى النعمة البتة بل يرى المنعم.
أبو عثمان الخيري: صدق الشكر: لا تمدح بلسانك غير المنعم.
أبو عبد الرحمن السلمي عن أبي بكر الرازي عن الشبلي: الشكر: التواضع تحت رؤية المنة.
وقيل: الشكر خمسة أشياء: مجانبة السيئات، والمحافظة على الحسنات، ومخالفة الشهوات، وبذل الطاعات، ومراقبة رب السماوات.
قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سئل أبو الحسن علي بن عبد الرحيم القناد في الجامع بحضرة أبي بكر بن عدوس وأنا حاضر: من أشكر الشاكرين؟ قال: الطاهر من الذنوب، يعد نفسه من المذنبين، والمجتهد في النوافل بعداد الفرائض، يعد نفسه من المقصرين، والراضي بالقليل من الدنيا، يعد نفسه من المفلسين، فهذا أشكر الشاكرين.
بكر بن عبد الرحمن عن ذي النور: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال.
" * (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان) *)
قال مجاهد والفراء: هما شيء واحد، والعرب تكرر الشيء إذا اختلفت ألفاظه على التوهم، وأنشد الفراء:
وقدمت الأديم لراهشيه
وألفى قولها كذبا ومينا
196

وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وقال الزجاج: وهذا هو القول؛ لأن الله عز وجل ذكر لموسى الفرقان في غير هذا الموضع فقال: " * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) *).
وقال الكسائي: الفرقان: نعت للكتاب، يريد: " * (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان) *) فرق بين الحلال والحرام، والكفر والإيمان، والوعد والوعيد. فزيدت الواو فيه كما يزاد في النعوت من قولهم: فلان حسن وطويل، وأنشد:
إلى الملك العزم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
ودليل هذا التأويل قوله: " * (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء) *).
وقال قطرب: أراد به الفرقان، وفي الآية إضمار، ومعناه: وإذا آتينا موسى الكتاب ومحمد الفرقان.
" * (لعلكم تهتدون) *) لهذين الكتابين، فترك أحد الإسمين، كقول الشاعر:
تراه كأن الله يجدع أنفه
وعينيه إن مولاه بات له وفر
وقال ابن عباس: أراد بالفرقان النصر على الأعداء، نصر الله عز وجل موسى وأهلك فرعون وقومه، يدل عليه قوله عز وجل: " * (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) *) يوم بدر.
يمان بن رباب: الفرقان: انفراق البحر وهو من عظيم الآيات، يدل عليه قوله تعالى: " * (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم) *).
" * (وإذ قال موسى لقومه) *) الذين اتخذوا العجل. " * (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم) *) أي ضررتم أنفسكم " * (باتخاذكم العجل) *) إلها، فقالوا: فأي شيء نصنع وما الحيلة؟ قال: " * (فتوبوا) *)
197

فارجعوا. " * (إلى بارئكم) *) أي خالقكم، وكان أبو عمرو يختلس الهمزة إلى الجزم في قوله: " * (بارئكم) *) و (يأمركم) وينصركم طلبا للخفة كقول امرؤ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب
إثما من الله ولا واغل
وأنشد:
وإذا أعوججن قلت صاحب قوم
بالدو أمثال السفين العوم
قال: " * (فاقتلوا أنفسكم) *) ليقتل البريء المجرم. " * (ذلكم) *) القتل. " * (خير لكم عند بارئكم) *) قال ابن جرير: فأبى الله عز وجل أن يقبل توبة بني إسرائيل إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل.
وقال قتادة: (جعل عقوبة) عبدة العجل القتل؛ لأنهم إرتدوا، والكفر يبيح الدم.
وقرأ قتادة: (فأقيلوا أنفسكم) من الإقالة أي استقيلوا العثرة بالتوبة، فلما أهم موسى بالقتل قالوا: نصير لأمر الله تعالى فجلسوا بالأفنية مختبئين وأصلت القوم عليهم الخناجر وكان الرجل يرى ابنه وأباه وعمه وقومه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر الله وقالوا: يا موسى كيف نفعل؟ فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا وقيل لهم من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو إتقى بيد أو رجل فهو طعون مردود توبته، فكانوا يقتلونهم إلى المساء، فلما كثر فيهم القتل دعا هارون وموسى وبكيا وجزعا وتضرعا وقالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية، فكشف الله عز وجل السحاب وأمرهم أن يرفعوا السلاح عنهم ويكفوا عن القتل.
فتكشفت عن ألوف من القتلى، فاشتد ذلك على موسى، فأوحى الله إليه: أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة، وكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي منهم نكفر عنه ذنوبه، فذلك قوله: " * (فتاب عليكم) *) يعني ففعلتم بأمره فتاب عليكم وتجاوز عنكم.
" * (إنه هو التواب الرحيم) *))
.
* (وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون * وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * وإذ قلنا ادخلوا هاذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين *
198

فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السمآء بما كانوا يفسقون) *) 2
" * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) *) الآية، وذلك أن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار سبعين رجلا من خيارهم، وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، ففعلوا ذلك، فخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه، فلما وصل ذلك الموضع قالوا: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام وتغشى الجبل كله فدخل في الغمام وقال القوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام وخروا سجدا، وسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه، وأسمعهم الله تعالى: إني أنا الله لا اله إلا أنا ذو بكة أخرجتكم من أرض مصر فأعبدوني ولا تعبدوا غيري.
فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم، فقالوا له: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.
" * (فأخذتكم الصاعقة) *) وهي نار جاءت من السماء فأحرقتهم جميعا.
وقال وهب: أرسل الله عز وجل عليهم جندا من السماء فلما سمعوا بحسها ماتوا يوما وليلة. والصاعقة: المهلكة، فذلك قوله: " * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن) *) لن نصدقك " * (حتى نرى الله جهرة) *).
قرأه العامة بجزم الهاء، وقرأ ابن عباس: (جهرة) بفتح الهاء وهما لغتان مثل زهره وزهره.
" * (جهرة) *) أي معاينة بلا ساتر بيننا وبينه، وأصل الجهر من الكشف.
قال الشاعر:
يجهر أجواف المياه السدم
(وانتحابها على الحان)
" * (فأخذتكم الصاعقة) *) قرأ عمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم): (الصعقة) بغير ألف، وقرأ الباقون (الصاعقة) بالألف وهما لغتان.
" * (وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم) *) وذلك أنهم لما هلكوا جعل (موسى) يبكي
199

ويتضرع ويقول: يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ولو شئت أهلكتهم من قبل، ويا ربي " * (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) *) فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى جميعا رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، فذلك قوله تعالى:
" * (ثم بعثناكم) *) أحييناكم " * (من بعد موتكم) *) لتستوفوا بقية آجالكم وأرزاقكم، وأصل البعث: إثارة الشيء من (مكمنه).
يقال: بعثت البعير، وبعثت النائم فانبعث.
" * (لعلكم تشكرون وظللنا عليكم الغمام) *) في التيه تقيكم حر الشمس، وذلك أنهم كانوا في التيه ولم يكن لهم كن يسترهم فشكوا ذلك إلى موسى، فأنزل الله عليهم غماما أبيضا رقيقا وليس بغمام المطر بل أرق وأطيب وأبرد والغمام: ما يغم الشيء أي يستره وأظلهم فقالوا: هذا الظل قد جعل لنا فأين الطعام، فأنزل الله عليهم المن.
واختلفوا فيه، فقال مجاهد: وهو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار وطعمه كالشهد.
الضحاك: هو الطرنجبين.
وقال وهب: الخبز الرقاق. السدي: عسل كان يقع على الشجر من الليل فيأكلون منه.
عكرمة: شيء أنزله الله عليهم مثل الزيت الغليظ، ويقال: هو الزنجبيل.
وقال الزجاج: جملة المن ما يمن الله مما لا تعب فيه ولا نصب.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (الكماة من المن وماءوها شفاء للعين).
وكان ينزل عليهم هذا المن كل ليلة تقع على أشجارهم مثل الملح، لكل إنسان منهم صاع كل ليلة قالوا يا موسى: مللنا هذا المن بحلاوته، فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم، فدعا عليه السلام، فأنزل الله عليهم السلوى.
واختلفوا فيه، فقال ابن عباس وأكثر المفسرين: هو طائر يشبه السماني.
أبو العالية ومقاتل: هو طير أحمر، بعث الله سحابة فمطرت ذلك الطير في عرض ميل وقدر طول رمح في السماء بعضه على بعض.
200

عكرمة: طير يكون بالهند أكبر من عصفور، المؤرخ: هو (المعسل) بلغه كنانه.
وقال شاعرهم:
وقاسمها بالله حقا لأنتم
الذ من السلوى إذا ما نشورها
وكان يرسل عليهم المن والسلوى، فيأخذ كل واحد منه ما يكفيه يوما وليلة، وإذا كان يوم الجمعة أخذ ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل إليهم يوم السبت، فذلك قوله: " * (وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا) *) أي وقلنا لهم كلوا.
" * (من طيبات) *) حلالات. " * (ما رزقناكم) *) ولا تدخروا لغد فخبأوا لغد فقطع الله عز وجل ذلك عنهم ودود وفسد ما ادخروا، فذلك قوله عز وجل " * (وما ظلمونا) *) ضرونا بالمعصية.
" * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *) يصرون باستيجابهم عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا كلفة ولا مؤونة، ولا مشقة في الدنيا، ولا تبعه ولا حساب في العقبى.
خلاس بن عمرو عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لولا بني إسرائيل لم يخنز الطعام ولم يخبث اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها).
" * (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) *) ابن عباس: هي أريحا وهي قرية الجبارين، وكان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عناق، وقيل: هي بلقا.
وقال ابن كيسان: هي الشام.
الضحاك: هي الرملة والأردن وفلسطين وتدمر.
مجاهد: بيت المقدس. مقاتل: إيليا.
" * (وكلوا منها حيث شئتم رغدا) *) موسعا عليكم.
" * (وادخلوا الباب) *) يعني بابا من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب.
" * (سجدا) *) منحنين متواضعين وأصل السجود الخضوع.
قال الشاعر:
بجمع يضل البلق في حجراته
ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
وقال وهب: قيل لهم ادخلوا الباب، فإذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله عز وجل، وذلك
201

أنهم أذنبوا بإبائهم دخول أريحا، فلما فصلوا من التيه أحب الله عز وجل أن يستنقذهم من الخطيئة.
" * (وقولوا حطة) *) قال قتادة: حط عنا خطايانا وهو أمر بالاستغفار.
وقال ابن عباس: يعني لا اله الا الله؛ لأنها تحط الذنوب، وهي رفع على الحكاية في قول أبي عبيدة.
وقال الزجاج: سألتنا حطة.
" * (نغفر لكم خطاياكم) *) وقرأ أهل المدينة بياء مضمومة وأهل الشام بتاء مضمومة.
" * (وسنزيد المحسنين) *) إحسانا وثوابا والسلام.
" * (فبدل الذين ظلموا) *) أنفسهم بالمعصية، وقيل كفروا.
وقال مجاهد: كموطيء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، فلم يخفضوا ولم يركعوا ولم يسجدوا، فدخلوا مترجعين على أشباههم.
" * (قولا) *) يعني وقالوا قولا. " * (غير الذي قيل لهم) *) وذلك إنهم أمروا أن يقولوا (حطة) فقالوا: (حطا) (.....) يعنون حنطه حمراء استخفافا بأمر الله.
" * (فأنزل على الذين ظلموا رجزا) *) عذابا " * (من السماء) *) وذلك أن الله تعالى أرسل الله عليهم ظلمة وطاعونا فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا.
" * (بما كانوا يفسقون) *) يعني يلعبون ويخرجون من أمر الله عز وجل.
(* (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا فى الارض مفسدين * وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وبآءوا بغضب من الله ذالك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذالك بما عصوا وكانوا يعتدون * إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
202

" * (وإذ استسقى موسى لقومه) *) السين فيه: سين المسألة، مثل استعلم واستخبر ونحوهما، أي سأل السقيا لقومه وذلك أنهم عطشوا في التيه فقالوا: يا موسى من
أين لنا الشراب، فاستسقى لهم موسى فأوحى الله عز وجل إليه:
" * (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) *) وكان من آس الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان متقدتان في الظلمة نورا واسمه غليق، وكان آدمج حمله معه من الجنة إلى الأرض فتوارثته الأصاغر عن الأكابر حتى وصل إلى شعيب فأعطاه لموسى.
" * (الحجر) *) واختلفوا فيه، فقال وهب بن منبه: كان موسى صلى الله عليه وسلم يقرع لهم أقرب حجر من عرض الحجارة فيتفجر منها لكل سبط عين وكانوا اثني عشر سبطا، ثم يسيل في كل عين جدول إلى السبط الذي أمر سقيهم، ثم أنهم قالوا: إن فقد موسى عصاه، فأوحى الله تعالى إلى موسى لا تقرعن الحجارة ولكن كلمها تطعك لعلهم يعتبرون.
فقالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى الرمل والى الأرض التي ليست فيها حجارة، فحمل موسى معه حجرا فحيث نزلوا ألقاه.
وقال الآخرون: كان حجرا مخصوصا بعينه، والدليل عليه قوله تعالى: " * (الحجر) *) فأدخل الألف واللام للتعريف مثل قولك: رأيت الرجل، ثم اختلفوا فيه ما هو.
فقال ابن عباس: كان حجرا خفيفا مربعا مثل رأس الرجل أمر أن يحمله وكان يضعه في مخلاته فإذا إحتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه.
وفي بعض الكتب: إنها كانت رخاما.
وقال أبو روق: كان الحجر من الكدان وكان فيه اثنا عشرة حفرة ينبع من كل حفرة عين ماء عذب فرات فيأخذوه، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء وكان يستسقي كل يوم ستمائة ألف.
وقال سعيد بن جبير: هو الحجر الذي وضع موسى ثوبه عليه ليغتسل حين رموه بالأدرة ففر الحجر بثوبه ومر به على ملأ من بني إسرائيل حتى ظهر إنه ليس بأدر، فلما وقف الحجر أتاه جبرئيل فقال لموسى: إن الله يقول إرفع هذا الحجر فان فيه قدرة، فلك فيه معجزة، وقد ذكره الله تعالى في قوله: " * (يا أيها الذين آمنوا لا تكونو كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) *). فحمله موسى ووضعه في مخلاته فكان إذا احتاج إلى الماء ضربه بالعصا، وهو ما روي عن أبي هريرة إنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر
203

بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى يغتسل وحده فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا إنه آدر قال: فذهب مرة يغتسل فوضع موسى ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال: فجمع موسى في أثره يقول ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا والله ما بموسى من بأس قال فقام الحجر بعد ما نظر إليه وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا).
فقال أبو هريرة: وقد رأينا بالحجر ندبا ستة أو سبعة أثر ضرب موسى.
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: كانت ضربة موسى اثني عشرة ضربة، وظهر على موضع كل ضربة مثل ثدي المرأة، ثم انفجر بالأنهار المطردة وهو قوله: " * (فانفجرت) *).
وفي الآية اضمار واختصار تقديرها: ضرب فانفجرت أي سالت، وأصل الانفجار: الانشقاق والانتشار، ومنه فجر النهار.
" * (منه اثنتا عشرة عينا) *) قرأ العامة بسكون الشين على التخفيف، وقرأ العباس بن الفضل الأنصاري بفتح الشين على الأصل، وقرأ أبو (.....) بكسر الشين.
" * (قد علم كل أناس مشربهم) *) موضع شربهم ويكون بمعنى المصدر مثل المدخل، المخرج.
" * (كلوا واشربوا) *) أي قلنا لهم: كلوا من المن، واشربوا من الماء؛ فهذا كله من رزق الله الذي بلا مشقة ولا مؤنة ولا تبعة.
" * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) *): يقال: عثى يعثي عثيا، وعثا يعثو عثوا، وعاث يعث عيثا وعيوثا (بثلاث لغات) وهو شدة الفساد.
قال ابن الرقاع:
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا
فيه المشيب لزرت أم القاسم
" * (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) *) الآية، وذلك أنهم ملوا المن والسلوى وسئموها. قال الحسن: كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عاداتهم عليه، فقالوا: لن نصبر على طعام واحد وكفوا عن المن والسلوى، وإنما قالوا (واحد) وهما اثنان؛ لأن العرب تعبر عن اثنين بلفظ
204

الواحد، وبلفظ الواحد عن الاثنين كقوله: " * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *)، وإنما يخرجان من المالح منهما دون العذب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يعجنون المن والسلوى فيصير طعاما واحدا فيأكلونه.
" * (فادع) *) فسأل وادع. " * (لنا) *) لأجلنا. " * (ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها) *) قراءة العامة بكسر القاف.
وقرأ يحيى بن وثاب، وطلحة بن مصرف، والأشيب العقيلي: وقثائها بضم القاف، وهي لغة تميم.
" * (وفومها) *): قال ابن عباس: الفوم: الخبز، تقول العرب: فوموا لنا، أي اختبزوا لنا.
عطاء وأبو مالك: هو الحنطة وهي لغة قديمة، قال الشاعر:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد
نزل المدينة عن زراعة فوم
(.....): هو الحبوب كلها.
الكلبي والنضر بن شميل والكسائي والمعرج: هو الثوم، وأنشد المعرج لحسان:
وأنتم أناس لئام الأصول
طعامكم الفوم والحوقل
يعني الثوم والبصل؛ فالعرب تعاقب بين الفاء والثاء فتقول للصمغ العرفط: مغاثير ومغافير، وللقبر جدف وجدث، ودليل هذا التأويل أنها في مصحف عبد الله: وثومها.
" * (وعدسها وبصلها) *) عن الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس وإنه يرقق القلب ويكثر الدمعة، وإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ج).
فقال لهم موسى عند ذلك: " * (أتستبدلون) *) وفي مصحف أبي: أتبدلون.
" * (الذي هو أدنى) *) أخس وأردى.
حكى الفراء عن زهير العرقي: إنه قرأ (أدناء) بالهمزة، والعامة على ترك الهمزة، وقال بعض النحاة: هو أدون فقدمت النون وحولت الواو ياء كقولهم: أولى من الويل.
205

" * (بالذي هو خير) *) أشرف وأفضل، ومعناه: أتتركون الذي هو خير وتريدون الذي هو شر، ويجوز أن يكون هذا الخير والشر منصرفين إلى أجناس الطعام وأنواعه، ويجوز أن يكونا منصرفين إلى اختيار الله لهم، واختيارهم لأنفسهم.
" * (اهبطوا مصرا) *) يعني فإن أبيتم إلا ذلك فاهبطوا مصرا من الأمصار، ولو أراد مصر بعينها لقال: (مصر) ولم يصرفه كقوله " * (ادخلوا مصر إن شاء الله) *) وهذا معنى قول قتادة.
الضحاك: هي مصر موسى وفرعون.
وقال الأعمش: هي مصر التي عليها صالح بن علي ودليل هذا القول: قراءة الحسن وطلحة: (مصر) بغير تنوين جعلاها معرفة، وكذلك هو في مصحف عبد الله وأبي بغير ألف، وإنما صرف على هذا القول لخفته وقلة حروفه مثل: دعد وهند وحمل ونحوها. قال الشاعر:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به
بين النهار وبين الليل قد فصلا
" * (فإن لكم ما سألتم) *) من نبات الأرض.
" * (وضربت) *) جعلت. " * (عليهم) *) وألزموا. " * (الذلة) *) الذل والهوان. قالوا: بالجزية، يدل عليه قوله: " * (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) *) وقال (.....): هو الكستيبنج وزنة اليهودية.
" * (والمسكنة) *) يعني ذي الفقر. (فتراهم) كأنهم فقراء وأن كانوا مياسير، وقيل: المذلة وفقر القلب فلا يرى في أهل الملل أذل ولا أحرص على المال من اليهود، والمسكنة مفعلة من السكون، ومنه سمي الفقير مسكينا لسكونه وقلة حركاته. يقال: ما في بني فلان أسكن من فلان، أي أفقر.
" * (وبآءوا بغضب من الله) *) أي رجعوا في قول الكسائي وغيره. أبو روق: استحقوا والباء صلة.
أبو عبيدة: احتملوا وأقروا به، ومنه الدعاء المأثور: (أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، وغضب الله عليهم: ذمه لهم وتوعده إياهم في الدنيا، وإنزال العقوبة عليهم في العقبى، وكذلك بغضه وسخطه
206

.
" * (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) *) بصفة محمد صلى الله عليه وسلم وإنه الرحيم في التوراة والإنجيل والفرقان.
" * (ويقتلون) *) قراءة العامة بالتخفيف من القتل، وقرأ السلمي بالتشديد من التقتيل.
" * (النبيين) *) القراءة المشهورة بالتشديد من غيرهم، وتفرد نافع بهمز النبيين، (ومده) فمن همز معناه: المخبر، من قول العرب: أنبأ النبي أنباءا، ونبأ ينبيء تنبئة بمعنى واحد، فقال الله عز وجل: " * (فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا) *) ومن حذف الهمز فله وجهان: أحدهما: إنه أراد الهمز فحذفه طلبا للخفة لكثرة استعمالها، والوجه الآخر: أن يكون بمعنى الرفيع مأخوذ من النبؤة وهي المكان المرتفع، يقال: نبيء الشيء عن المكان، أي ارتفع.
قال الشاعر:
إن جنبي عن الفراش لناب
كتجافي الأسر فوق الظراب
وفيه وجه آخر: قال الكسائي: النبي بغير همز: الطريق، فسمي الرسول نبيا، وإنما دقائق الحصا لأنه طريق إلى الهدى، ومنه قول الشاعر:
لاصبح رتما دقاق الحصى
مكان النبي من الكاثب
ومعنى الآية: ويقتلون النبيين.
" * (بغير الحق) *) مثل أشعيا وزكريا ويحيى وسائر من قتل اليهود من الأنبياء، وفي الخبر: إن اليهود قتلوا سبعين نبيا من أول النهار (في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من) آخر النهار (في ذلك اليوم).
" * (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) *) يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي.
" * (إن الذين آمنوا والذين هادوا) *) يعني اليهود، واختلف العلماء في سبب تسميتهم به. فقال بعضهم: سموا بذلك لأنهم هادوا أي تابوا من عبادة العجل، كقوله أخبارا عنهم: " * (إنا هدنا إليك) *).
207

وأنشد أبو عبيدة:
إني امرؤ من مدحه هائد
أي تائب.
وقال بعضهم: لأنهم هادوا أي مالوا عن الإسلام وعن دين موسى. يقال: هاد يهود هودا: إذا مال. قال امرؤ القيس:
قد علمت سلمى وجاراتها
أني من الناس لها هائد
أي إليها مائل.
وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة، ويقولون: إن السماوات والأرض تحركت حين أتى الله موسى التوراة.
وقرأ أبو السماك العدوي واسمه قعنب: هادوا بفتح الدال من المهاداة، أي مال بعضهم إلى بعض في دينهم.
" * (والنصارى) *) واختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم، فقال الزهري: سموا نصارى لأن الحواريين قالوا: نحن أنصار الله.
مقاتل: لأنهم تولوا قرية يقال لها: ناصرة، فنسبوا إليها.
وقال الخليل بن أحمد: النصارى: جمع نصران، كقولهم: ندمان وندامى.
وأنشد:
تراه إذا دار العشي محنفا
ويضحى لربه وهو نصران شامس
فنسبت فيه ياء النسبة كقولهم لذي اللحية: لحياني، ورقابي لذي الرقبة.
فقال الزجاج: يجوز أن يكون جمع نصري كما يقال: بعير حبري، وإبل حبارى، وإنما سموا نصارى لاعتزائهم إلى نصرة وهي قرية كان ينزلها عيسى وأمه.
" * (والصابئين) *) قرأ أهل المدينة بترك الهمزة من الصابئين والصابئون الصابين والصابون في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالهمز وهو الأصل، يقال: صبا يصبوا صبوءا، إذا مال وخرج من دين إلى دين.
208

قال الفراء: يقال لكل من أحدث دينا: قد صبأ وأصبأ بمعنى واحد، وأصله الميل، وأنشد:
إذا أصبأت هوادي الخيل عنا
حسبت بنحرها شرق البعير
واختلفوا في الصابئين من هم:
قال عمر: هم طائفة من أهل الكتاب ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب، وبه قال السدي.
وقال ابن عباس: لا تحل ذبائحهم ولا مناكحة نسائهم.
وقال مجاهد: هم قبيلة نحو الشام بين اليهود والمجوس لا دين لهم.
وقال السدي: هم طائفة من أهل الكتاب، وهو رأي أبي حنيفة.
وقال قتادة ومقاتل: هم قوم يقرون بالله عز وجل، ويعبدون الملائكة، ويقرأون الزبور ويصلون إلى الكعبة، أخذوا من كل دين شيئا.
الكلبي: هم قوم بين اليهود والنصارى، يحلقون أوساط رؤوسهم ويحبون ذاكرهم.
عبد العزيز بن يحيى: درجوا وانقرضوا فلا عين ولا أثر.
" * (من آمن بالله واليوم الآخر) *) اختلفوا في حكم الآية ومعناها، ولهم فيها طريقان:
أحدهما: إنه أراد بقوله " * (إن الذين آمنوا) *) على التحقيق وعقد التصديق، ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين من هم؟ فقال قوم: هم الذين آمنوا بعيسى ثم لم يتهودوا ولم يتنصروا ولم يصبئوا، وانتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم
وقال آخرون: هم طلاب الدين، منهم: حبيب النجار، وقيس بن ساعدة، وزيد بن عمرو ابن نفيل، وورقة بن نوفل، والبراء السندي، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، ويحيى الراهب، ووفد النجاشي. آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فمنهم من أدركه وتابعه، ومنهم من لم يدركه.
وقيل: هم مؤمنو الأمم الماضية.
وقيل: المؤمنون من هذ الأمة.
" * (والذين هادوا) *) يعني الذين كانوا على دين موسى ج ولم يبدلوا ولم يغيروا.
" * (والنصارى) *): الذين كانوا على دين عيسى ج ولم يبدلوا وماتوا على ذلك.
قالوا: وهذان اسمان لزماهم زمن موسى وعيسى (عليهما السلام)، حيث كانوا على الحق
209

فبقي الاسم عليهم كما بقي الإسلام على أمة محمد صلى الله عليه وسلم والصابئين زمن استقامتهم من آمن منهم أي مات منهم وهو مؤمن؛ لأن حقيقة الإيمان المؤاخاة.
قال: ويجوز أن تكون الواو فيه مضمرا: أي ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة.
والطريق الآخر: إن المذكورين في أول الآية بالإيمان إنما هو على طريق المجاز والتسمية دون الحكم والحقيقة، ثم اختلفوا فيه:
فقال بعضهم: إن الذين آمنوا بالأنبياء الماضين والكتب المتقدمة ولم يؤمنوا بك ولا بكتابك.
وقال آخرون: يعني به المنافقين أراد: إن الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: " * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) *)، والذين هادوا: أي اعتقدوا اليهودية وهي الدين المبدل بعد موسى ج، والنصارى: هم الذين اعتقدوا النصرانية والدين المبدل بعد عيسى، والصابئين: يعني أصناف الكفار من آمن بالله من جملة الأصناف المذكورين في الآية.
وفيه اختصار وإضمار تقديره: من آمن منهم بالله واليوم الآخر؛ لأن لفظ (من) يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث.
قال الله تعالى: " * (ومنهم من يستمع إليك) *) * (ومنهم من ينظر إليك) * * (ومنهم من يستمعون إليك) *). قال " * (ومن يقنت منكن لله ورسوله) *)، وقال الفرزدق في التشبيه:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني
تكن مثل من ناديت يصطحبان
" * (ولا خوف عليهم) *) فيما قدموا.
" * (ولا هم يحزنون) *) على ما خلفوا، وقيل: لا خوف عليهم بالخلود في النار، ولا يحزنون بقطيعه الملك الجبار، ولا خوف عليهم من الكبائر وإني أغفرها، ولا هم يحزنون على الصغائر فأني أكفرها.
وقيل: لا خوف عليهم فيما تعاطوا من الإجرام، ولا هم يحزنون على ما اقترفوا من الآثام لما سبق لهم من الإسلام الآثام.
210

2 (* (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون * ثم توليتم من بعد ذالك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين * ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين * فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين * وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذالك فافعلوا ما تؤمرون * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقع لونها تسر الناظرين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى إن البقر تشابه علينا وإنآ إن شآء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الئان جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون * وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها كذالك يحى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) *) 2
" * (وإذ أخذنا ميثاقكم) *) يا معشر اليهود. " * (ورفعنا فوقكم الطور) *) وهو الجبل بالسريانية في قول بعضهم. وقالوا: ليس من لغة في الدنيا إلا وهي في القرآن.
وقال أبو عبيدة والحذاق من العلماء: لا يجوز أن تكون في القرآن لغة غير لغة العرب؛ لأن الله تعالى قال: " * (قرآنا عربيا) *) وقال: " * (بلسان عربي مبين) *) وإنما هذا وأشباهه وفاق بين اللغتين.
وقد وجدنا الطور في كلام العرب، وقال جرير:
فإن ير سليمان الجن يستأنسوا بها
وإن ير سليمان أحب الطور ينزل
وقال المفسرون: وذلك أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى وأمر قومه بالعمل بأحكامه فأبوا أن يقبلوها ويعملوا بما فيها للأضرار والأثقال التي فيها، وكانت شريعته ثقيلة فأمر الله تعالى جبرئيلج يضع جبلا على قدر عسكره وكان فرسخا في فرسخ ورفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرجل.
أبو صالح عن ابن عباس: أمر الله تعالى جبلا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم مثل الظلة.
عطاء عن ابن عباس: رفع الله فوق رؤوسهم الطور وبعث نارا من قبل وجوههم وأتاهم
211

البحر الملح من خلفهم وقيل لهم: " * (خذوا ما آتيناكم) *) أي أعطيناكم.
" * (بقوة) *) بجد ومواظبة. وفيه إضمار، أي: وقلنا لهم: خذوا.
" * (واذكروا ما فيه) *) أي احفظوه واعلموه واعملوا به و (في) حرف أولي فاذكروا بذال مشددة وكسر الألف المشددة و (في) حرف وانه وتذكروا ما فيه ومعناهما اتعظوا به " * (لعلكم تتقون) *) لكي تنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى فإن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به وإلا رضختكم بهذا الجبل وأغرقتكم في البحر وأحرقتكم بهذه النار، فلما رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا لك وسجدوا خوفا وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فصارت سنة في اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم فلما زال الجبل قالوا: يا موسى سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعناك.
" * (ثم توليتم) *) أعرضتم وعصيتم.
" * (من بعد ذلك) *) أي من بعد أخذ الميثاق ورفع الجبل.
" * (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) *) بتأخير العذاب عنكم.
" * (لكنتم من الخاسرين) *) لصرتم من المغلوبين بالعقوبة وذهاب الدنيا والآخرة.
" * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) *) وذلك أنهم كانوا من داودج بأرض يقال لها أيلة حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت فكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك حتى يخرجن خراطيمهن من الماء لأمنها، فإذا مضى السبت تفرقن ولزمن البحر فذلك قوله تعالى: " * (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) *) فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كانت عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تطيق الخروج لبعد عمقها وقلة الماء فإذا كان يوم الأحد أخذوها، وقيل: كانوا ينصبون الحبائل والشصوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد، ففعلوا ذلك زمانا فكثرت أموالهم ولم تنزل عليهم عقوبة، فقست قلوبهم وأصروا على الذنب، وقالوا: ما نرى السبت إلا قد أحل لنا، فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية وكانوا سبعين ألفا ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الذين نهوا إثنا عشر ألفا فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قال الناهون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار وغيروا بذلك سنتين فلعنهم داود وغضب الله عز وجل عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم والمجرمون لم يفتحوا أبوابهم ولا خرج منهم أحد فلما أبطأوا تسوروا عليهم الحائط فإذا هم جميعا قردة فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا، ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيام ولم يتوالدوا فذلك قول عز وجل " * (فقلنا لهم كونوا قردة) *) أمر تحويل.
" * (خاسئين) *) مطرودين صاغرين بلغة كنانة، قاله مجاهد وقتادة والربيع.
212

قال أبو روق: يعني خرسا لا يتكلمون، دليله قوله عز وجل " * (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) *).
وقيل: مبعدون من كل خير.
" * (فجعلناها) *) أي القردة، وقيل: القرية، وقيل: العقوبة.
" * (نكالا) *) عقوبة وعبرة وفضيحة شاهرة، وأصله من النكل وهو القيد، وجمعه أنكال، ويقال للجام نكل.
" * (لما بين يديها وما خلفها) *) قال أبو العالية والربيع: معناه عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لما بعدهم.
قتادة: جعلنا تلك العقوبة جزاء لما تقدم من ذنوبهم قبل نهيهم عن الصيد وما خلفها من العصيان بأخذ الحيتان بعد النهي.
وقيل: لما بين يديها من عقوبة الآخرة وما خلفها من نصيحتهم في دنياهم فيذكرون بها إلى يوم قيام الساعة.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير؛ وتقديرها: فجعلناها وما خلفها مما أعد لهم من العذاب في الآخرة نكالا وجزاءا لما بين يديها: أي لما تقدم من ذنوبهم في اعتدائهم يوم السبت.
" * (وموعظة) *) عظة وعبرة. " * (للمتقين) *) للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يفعلون مثل فعلهم.
" * (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) *) الآية: وذلك إنه وجد قتيل في بني إسرائيل اسمه عاميل ولم يدروا قاتله واختلفوا في قاتله والسبب في قتله فقال عطاء والسدي: كان في بني إسرائيل رجل كثير المال وله ابن عم مسكين لا وارث له غيره فلما طال عليه موته قتله ليرثه.
وقال بعضهم: وكان تحت عاميل بنت عم له لم يكن لها مثلا في بني إسرائيل بالحسن والجمال فقتله ابن عمه لينكحها.
وقال ابن الكلبي: قتله ابن أخيه لينكح ابنته فلما قتله حمله من قريته إلى قرية أخرى وألقاه هناك.
وقيل: ألقاه بين قريتين.
عكرمة: كان لبني إسرائيل مسجد له إثنا عشر بابا لكل سبط منهم باب فوجد قتيل على باب سبط
213

قيل: وجر إلى باب سبط آخر فاختصم فيه السبطان.
وقال ابن سيرين: قتله القاتل ثم احتمله فوضعه على باب رجل منهم ثم أصبح يطلب بثأره ودمه ويدعيه عليه. قال: فجاء أولياء القتيل إلى موسى وأتوه بناس وادعوا عليهم القتل وسألوا القصاص فسألهم موسى عن ذلك فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى ووقع بينهم خلاف.
وقال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعوا الله ليبين لهم ذلك فسأل موسى ربه فأمرهم بذبح بقرة. فقال لهم موسى: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * * (قالوا أتتخذنا هزوا) *) يا موسى أي أتستهزيء بنا حين نسألك عن القتيل وتأمرنا بذبح البقرة وإنما قالوا ذلك لتباعد الأمرين في الظاهر، ولم يدروا ما الحكمة فيه.
وقرأ ابن محيصن: أيتخذنا بالياء قال: يعنون الله ولا يستبعد هذا من جهلهم لأنهم الذين قالوا " * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) *).
وفي هذا ثلاثة لغات هزوا: بالتخفيف والهمز ومثله كفوا وهي قراءة الأعمش وحمزة وخلف وإسماعيل.
وهزوا وكفوا مثقلان مهموزان وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز والشام واختيار الكسائي وأبي عبيد وأبي حاتم.
وهزوا وكفوا مثيلان بغير همزة وفي رواية حفص بن سليمان البزاز عن عاصم وكلها لغات صحيحة معناها الاستهزاء فقال لهم موسى ج: " * (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) *) أي من المستهزئين بالمؤمنين فلما علم القوم إن ذبح البقرة عزم من الله عز وجل سألوه الوصف.
" * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) *) ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم وإنما كان تشديدهم تقديرا من الله عز وجل وحكمة، وكان السبب في ذلك على ما ذكره السدي وغيره.
إن رجلا في بني إسرائيل كان بارا بأبيه وبلغ من بره به إن رجلا أتاه بلؤلؤة فأبتاعها بخمسين ألفا وكان فيها فضل فقال للبائع أبي نائم ومفتاح الصندوق تحت رأسه فأمهلني حتى يستيقظ وأعطيك الثمن. قال: فأيقظ أباك وأعطني المال. قال: ما كنت لأفعل ولكن أزيدك عشرة آلأف فانتظرني حتى ينتبه أبي.
فقال الرجل: فأنا أعط عنك عشرة آلاف إن أيقظت أباك وعجلت النقد. قال: وأنا أزيدك عشرين ألفا إن انتظرت انتباه أبي. ففعل ولم يوقظ الرجل أباه فأعقبه بره بأبيه أن جعل تلك البقرة عنده وأمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها
214

قال ابن عباس ووهب وغيرهما: كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وكان له عجل فأتى بالعجل إلى غيضة وقال: اللهم إني استودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر ومات الرجل فسبيت العجلة في الغيضة وصارت عوانا وكانت تهرب من كل من رامها. فلما كبر الابن كان بارا بوالدته وكان الليلة يقسم ثلاثة أثلاث: يصلي ثلثا وينام ثلثا ويجلس عند رأس أمه ثلثا فإذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره ويأتي به السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثا، وقالت له أمه يوما: إن أباك ورثك عجلة وذهب بها إلى غيضه كذا واستودعها الله عز وجل فانطلق إليها فأدع اله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق بأن يردها عليك، وان من علامتها إنك إذا نظرت إليها يخيل إليك إن شعاع الشمس يخرج من جلدها وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى وقال: أعزم عليك بآله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها وقادها فتكلمت البقرة بأذن الله وقالت: أيها الفتى البار بوالدته إركبني فأن ذلك أهون عليك. فقال الفتى، إن أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت: خذها بعنقها فقالت البقرة: بأله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبدا فأنطلق فأنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بوالدتك. وسار الفتى فاستقبله عدو الله إبليس في صورة راع فقال: أيها الفتى إني رجل من رعاة البقر إشتقت إلى أهلي فأخذت ثورا من ثيراني فحملت عليه زادي ومتاعي حتى إذا بلغت شطر الطريق ذهبت لأقضي حاجتي صعدا وسط الجبل وما قدرت عليه وإني أخشى على نفسي الهلاك، فأن رأيت أن تحملني على بقرتك وتنجني من الموت وأعطيك أجرها بقرتين مثل بقرتك فلم يفعل الفتى وقال: إذهب فتوكل على الله فلو علم الله منك اليقين بلغك بلا زاد ولا راحلة فقال إبليس: فأن شئت فبعنيها بحكمك، وإن شئت فاحملني عليها وأعطيك عشرة مثلها فقال الفتى: إن امي لم تأمرني بهذا فبينا الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يدي البقرة ونفرت البقرة هاربة في الفلاة وغاب الراعي فدعاها الفتى بأسم آله إبراهيم فرجعت إليه البقرة فقالت أيها الفتى البار بوالدته ألم تر إلى الطائر الذي طار إنه إبليس عدو الله إختلسني أما إنه لو ركبني لما قدرت علي أبدا فلما دعوت آله إبراهيم جاء ملك فانتزعني من يد إبليس وردني إليك لبرك بوالدتك وطاعتك لها.
فجاء بها الفتى إلى أمه، فقالت له: إنك فقير لا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة وخذ ثمنها. قال بكم أبيعها؟
قالت: بثلاثة دنانير ولا تبعها بغير رضاي ومشورتي وكانت ثمن البقرة في ذلك الوقت فانطلق بها الفتى إلى السوق فبعث الله ملكا إنسانا خلقه بقدرته ليخبر الفتى كيف بره بوالدته وكان الله به خبيرا فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟
قال: بثلاثة دنانير واشترط عليك رضا والدتي. فقال الملك: ستة دنانير ولا تستأمر أمك.
215

فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضا أمي فردها إلى امه وأخبرها بالثمن فقالت: ارجع فبعها ستة على رضاي فانطلق الفتى بالبقرة إلى السوق وأتى الملك وقال: استأمرت والدتك؟
فقال الفتى: انها أمرتني أن لا أنقصها من ستة على أن أستأمرها. قال الملك: فأنني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها.
فأتى الفتى ورجع إلى أمه واخبرها بذلك قالت: إن ذلك الرجل الذي يأتيك ويعطيك هو ملك من الملائكة يأتيك في صورة آدمي ليجربك فإذا أتاك فقل له أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟
ففعل ذلك فقال له الملك: إذهب إلى أمك وقل لها بكم هذه البقرة؟ فأن موسى بن عمران يشتريها منكم لقتيل يقتل من بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء مسكها دنانير فأمسكوا البقرة، وقدر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها وأمرهم بها فقالوا يستوصفون ويصف لهم حتى وصف تلك البقرة بعينها موافاة له على بره بوالدته فضلا منه.
فضلا منه ورحمة وذلك قوله عز وجل " * (أدع لنا ربك) *) أي سل وهكذا هو في مصحف عبد الله، سل لنا ربك يبين لنا ما هي؟ وما سنها؟
قال موسى: إنه يعني إن الله يقول: " * (إنها بقرة لا فارض ولا بكر) *) لا كبيرة ولا صغيرة وارتفع البكر والفارض بأضمار هي إذ لا هي فارض ولا هي بكر.
مجاهد وأبو عبيدة والأخفش: الفارض الكبيرة المسنة التي لا تلد يقال له: فرضت تفرض فروضا.
قال الشاعر:
كميت بهيم اللون ليس بفارض
ولا بعوان ذات لون مخصف
وقال الراجز:
يا رب ذي ضغن علي فارض
له قروء كقروء الحائض
أي حقد قديم، والبكر: الفتية الصغيرة التي لم تلد قط.
وقال السدي: البكر: التي لم تلد إلا ولدا واحدا وحذف الحاء منها للاختصاص.
" * (عوان) *) نصف بين سنين، وقال الأخفش: العوان التي نتجت مرارا وجمعه عون، ويقال منه: عونت تعوينا
216

" * (فافعلوا ما تؤمرون) *) من ذبح البقرة ولا تكرروا السؤال.
" * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) *) محل (ما) رفع بالابتداء و " * (لونها) *) خبر، وقرأ الضحاك " * (لونها) *) نصبا كانه عمل فيه لسببين وجعل ما صلة.
" * (قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها) *).
قال ابن عباس: شديد الصفرة وقال عدي بن زيد:
واني لأسقي الشرب صفرا فاقعا
كأن ذكي المسك فيها يعبق
قتادة وأبو العالية والربيع: صاف.
سعيد بن جبير: صفراء اللون والظلف.
الحسن: السوداء، والعرب تسمي الأسود أصفر. قال الأعشى:
تلك خيلي منه وتلك ركابي
هن صفر أولادها كالزبيب
قال القتيبي: غلط من قال الصفراء هاهنا السوداء؛ لأن هذا غلط في نعوت البقر.
وإنما هو في نعوت الإبل؛ وذلك أن السوداء من الإبل شربت سوادها صفرة، والآخر إنه لو أراد السوداء لما أكده بالفقوع لأن الفاقع المبالغ في الصفرة. كما يقال: أبيض يفق وأسود حالك وأحمر قاني وأخضر ناضر.
" * (تسر الناظرين) *) إليها وتعجبهم من حسنها وصفاء لونها؛ لأن العين تسر وتولع بالنظر إلى الشيء.
الحسن قال: من لبس نعلا صفراء قل همه لأن الله يقول: صفراء فاقع لونها تسر الناظرين " * (قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي) *) أسائمة أم عاملة.
" * (إن البقر) *) هذه قراءة العامة، قرأ محمد ذو الشامة الأموي إن الباقر وهو جمع البقر كالجامل لجماعة الجمل وقال الشاعر:
مالي رأيتك بعد عهدك موحشا
خلقا كحوض الباقر المتهدم
قال قطرب: تجمع البقرة بقر، وباقر، وبقير، وبقور، وباقور. فأن قيل: لما قال تشابه والبقر جمع فلم لم يقل تشابهت؟ قيل فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: إنه ذكر لتذكير بلفظ البقر، كقوله " * (كأنهم أعجاز نخل منقعر) *))
.
217

وقال المبرد: سئل سيبويه عن هذه الآية؟
(فقال:) كل جمع حروفه أقل من حروف واحد فإن العرب تذكره، واحتج بقول الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
ولم يقل مرتحلون، وقال الزجاج: معناه إن جنس البقر تشابه علينا.
" * (تشابه علينا) *) وفي تشابه سبع قراءات:
تشابه: بفتح التاء والهاء وتخفيف الشين وهي قراءة العامة وهو فعل ماض ويذكر موحد.
وقرأ الحسن: تشابه: بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشين أراد تشابه.
وقرأ الأعرج: تشابه: بفتح التاء وتشديد الشين وضم الهاء على معنى يتشابه.
وقرأ مجاهد: تشبه، كقراءة الأعرج إلا إنه بغير ألف لقولهم: تحمل وتحامل.
وفي مصحف أبي: تشابهت على وزن تفاعلت (فالتاء) لتأنيث البقر.
وقرأ ابن أبي إسحاق: تشابهت بتشديد الشين قال أبو حاتم: هذا غلط لأن التاء لا تدغم في هذا الباب إلا في المضارعة.
وقرأ الأعمش: متشابه علينا جعله أسما.
ومعنى الآية: التبس واشتبه أمره علينا فلا نهتدي إليه.
" * (وإنا إن شاء الله لمهتدون) *) إلى وصفها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأيم الله لئن لم يستبينوا لما تبينت لهم آخر الأبد).
" * (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول) *) مذللة بالعمل يقال: رجل ذليل بين الذل، ودابة ذلولة بينة الذل.
" * (تثير الأرض) *) أي مثلها للزراعة.
" * (ولا تسقي الحرث مسلمة) *) بريئة من العيوب، وقال الحسن: مسلمة القوائم ليس فيها أثر العمل.
" * (لا شية فيها) *) قال عطاء: لا عيب فيها.
قال قتادة: لا بياض فيها أصلا.
مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد.
218

محمد بن كعب: لا لون فيها يخالف معظم لونها.
فلما قال هذا " * (قالوا الآن جئت بالحق) *) أي بالوصف التام البين.
قيل: كانت البقرة التي أحيا بها القتيل لوارثه الذي قتله، وكان أول من فتح السؤال عنها رجاء أن لا يجدوها فطلبوها فلم يجدوا بكمال وصفها إلا عند الفتى البار. فاشتروها منه بملء مسكنها ذهبا.
وقال السدي: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبا.
" * (فذبحوها وما كادوا يفعلون) *) من غلاء ثمنها.
وقال محمد بن كعب: وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها.
" * (وإذ قتلتم نفسا) *) يعني عاميل، وهذه الآية أول القصة.
" * (فادارأتم) *) فاختلفتم " * (فيها) *) قاله ابن عباس ومجاهد ومنه قول القائل في رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزكي فكان خير شريك لا يداري ولا يماري.
قال الضحاك: اختصمتم.
عبد العزيز بن يحيى: شككتم.
الربيع بن أنس: تدافعتم، وأصل الدراء: الدفع يعني ألقى ذلك على هذا وهذا على ذاك؛ فدافع كل واحد عن نفسه كقوله تعالى " * (ويدرؤن بالحسنة السيئة) *)، وقوله " * (ويدرأ عنها العذاب) *)، وأصل قوله (.........) والباء صلة.
أبو عبيدة: احتملوا وأقروا به، ومنه الدعاء المأثور (.........) وأصل: فادارأتم فتدارأتم فأدغمت التاء في الدال وأدخلت الألف ليسلم سكون الحرف الأولي بمثل قوله " * (أثاقلتم) *).
" * (والله مخرج ما كنتم تكتمون) *) تخفون.
" * (فقلنا اضربوه) *) يعني القتيل.
" * (ببعضها) *) أي ببعض البقرة: فاختلفوا في هذا البعض ما هو
219

فقال ابن عباس: اضربوه بالعظم الذي يلي الفخذين وهو المقتل.
الضحاك: بلسانها. قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقاويل لأن المراد كان من احياء القتيل كلامه واللسان آلته.
سعيد بن جبير: ضربت بذنبها. قال يمان: وهو أولى التأويلات بالصواب لأن العصعص أساس البدن الذي ركب عليه الخلق وأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى.
مجاهد: بذنبها.
عكرمة والكلبي: بفخذها الأيمن.
السدي: بالبضعة التي بين كتفيها، وقيل: باذنها.
ففعلوا ذلك فقام القتيل حيا بإذن الله وأوداجها تشخب دما وقال: قتلني فلان. ثم سقط ومات مكانه، وفي الآية اختصار، وتقديرها: فقلنا اضربوه ببعضها فضرب فحيي كقوله تعالى " * (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) *) يعني فأفطر فعدة، وقوله " * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) *) أي فحلق ففدية.
" * (كذلك يحيي الله الموتى) *) كما أحيا عاميل بعد موته كذلك يحيي الله الموتى.
" * (ويريكم آياته) *) دلائل آياته. " * (لعلكم تعقلون) *) وقال الواقدي: كل شيء في القرآن فهو بمعنى لكي غير التي في الشعراء: " * (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) *) فإنه بمعنى: كأنكم تخلدون فلا تموتون.
2 (* (ثم قست قلوبكم من بعد ذالك فهى كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون * أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون * وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحآجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون * ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانى وإن هم إلا يظنون * فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هاذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) *) 2
220

" * (ثم قست قلوبكم من بعد) *) قال الكلبي: قالوا بعد ذلك لم نقتله، وأمكروا فلم يكونوا قط أعمى قلبا ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك قال الله: " * (ثم قست قلوبكم) *) الكلبي وأبو روق: يبست واشتدت وقال سائق البربري:
ولا أرى أثرا للذكر في جسدي
والحبل في الجبل القاسي له أثر
أبو عبيدة: جفت.
الواقدي: جفت من الشدة فلم تلن.
المؤرخ: غلظت، وقيل: اسودت.
قال الزجاج: تأويل القسوة ذهاب اللين، (وقال سيبوية) والخشوع والخضوع.
" * (ذلك) *) أي بعد ظهور الدلالات.
" * (فهي) *) غلظها وشدتها.
" * (كالحجارة أو أشد قسوة) *) أي بل أشد قسوة كقول الشاعر:
(بدت) مثل قرن الشمس في رونق الضحى
وصورتها أو أنت في العين أملح
أي بل، وقيل: هو بمعنى الواو والألف صلة أي وأشد قسوة. كقوله تعالى " * (أثما أو كفورا) *) أي وكفورا.
وقرأ أبو حياة: أو أشد قساوة، وقال الكسائي: القسوة والقساوة واحد كالشقوة والشقاوة ثم عذر الحجارة وفضلها على القلب القاسي فقال " * (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) *) وقرأ مالك بن دينار ينفجر بالنون كقوله " * (فانفجرت) *)، وفي مصحف أبي: منها الأنهار رد الكناية إلى الحجارة.
" * (وأن منها لما يشقق) *) أي يتشقق هكذا قرأها الأعمش.
" * (فيخرج منه الماء وأن منها لما يهبط) *) ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله.
" * (من خشية الله) *) عز وجل وقلوبكم يا معاشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي بخير.
" * (وما الله بغافل عما تعملون) *) وعيد وتهديد أي بتارك عقوبة ما تعملون بل يجازيكم به.
" * (أفتطمعون) *) أي فترجون يعني محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
221

" * (أن يؤمنوا لكم) *) لن يصدقكم اليهود.
" * (وقد كان فريق منهم) *) طائفة منهم.
" * (يسمعون كلام الله) *) يعني التوراة.
" * (ثم يحرفونه) *) أي يغيرونه أي ما فيه من الأحكام.
" * (من بعد ما عقلوه) *) علموه وفهموه كما غيروا آية الرجم وصفه محمد صلى الله عليه وسلم
" * (وهم يعلمون) *) إنهم كاذبون هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسدي.
وقال ابن عباس ومقاتل: نزلت هذه الآية في السبعين المختارين؛ وذلك إنهم لما ذهبوا مع موسى إلى الميقات وسمعوا كلام الله وما يأمره وما ينهاه رجعوا إلى قومهم فأما الصادقون فأدوا كما سمعوه وقالت طائفة منهم: سمعنا الله في آخر كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا فأن شئم فلا تفعلوا ولا بأس.
" * (وإذا لقوا) *) قرأ ابن السميقع لاقوا: يعني منافقي اليهود.
" * (الذين آمنوا) *) بألسنتهم لابقلوبهم أبا بكر وأصحابه من المؤمنين.
" * (قالوا آمنا) *) كأيمانكم وشهدنا أن محمدا صادق نجده في كتابنا بنعته وصفته.
" * (وإذا خلا) *) رجع بعضهم إلى بعض أي كعب بن الأشراف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وغيرهم من رؤساء اليهود ولاموهم على ذلك و " * (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) *) قال الكلبي: بما قضى الله عليكم في كتابكم أن محمدا حق وقوله صدق، وقال القاضي الفتاح الكسائي: بما بينه لكم في كتابكم (من العلم ببعث محمد والبشارة به).
الواقدي: بما أنزل الله في الدنيا والآخرة عليكم نظير " * (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) *) أي أنزلناه.
أبو عبيدة والأخفش: بما من الله عليكم وأعطاكم.
" * (ليحاجوكم) *) ليخاصموكم ويحتجوا بقولكم عليكم (يعني أصحاب محمد).
" * (به عند ربكم) *) وقال بعضهم: هو أن الرجل من المسلمين كلما يلقي قرينه وحليفه وصديقه من اليهود فيسأله عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون إنه لحق (فيقولون قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثم تتبعونه) وهو نبي. فيرجعون إلى رؤسائهم فيلومونهم على ذلك.
قال السدي: كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا وكان يحدثون المؤمنين بما عذبوا به
222

فقال لهم رؤسائهم: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي أنزل من العذاب ليعيروكم به ويقولوا: نحن أكرم على الله منكم.
(ابن جرير عن) القاسم بن أبي برة: هذا قول يهود قريظة بعضهم لبعض حين سبهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا إخوان القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، فقالوا: من أخبر محمدا بهذا؟ ما خرج هذا إلا منكم.
" * (أفلا تعقلون) *) أفليس لكم ذهن الإنسانية.
قال الله " * (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) *) ما يخفون وما يبدون يعني اليهود، وقرأ ابن محيصن (ما) على الخطاب " * (ومنهم) *) من اليهود.
" * (أميون) *) قال ابن عباس وقتادة: يعني غير عارفين معاني الكتاب. يعلمونه حفظا وقراءة بلا فهم ولا يدرون ما فيه.
وقال الكلبي: لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته ودليل هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحاسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا).
وقال أهل المعاني: الأمي منسوب إلى الأمة وما عليه العامة معنى الأمي: العامي الذي لا تمييز له، أو هو جمع أمي منسوب إلى الأم كأنه باق على (الحقيقة) حذفت منه هاء التأنيث لأنها زائدة وياء النسبة زائدة، ونقلت فرقا بينها وبين ياء الإضافة.
" * (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) *) قرأ العامة بتشديد الياء.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج " * (أماني) *) بتخفيف الياء في كل القرآن حذفوا إحدى اليائين استحفافا وهي ياء الجمع مثل مفاتح ومفاتيح.
وقال أبو حاتم: كل جمع من هذا الجنس واحد مشدد فلك فيه التضعيف والتشديد مثل فخاتي وأماني وأغاني وغيرها واختلفوا في معنى الأماني، وقال الكلبي بمعنى لا يعلمون إلا ما تحدثهم بهم علماؤهم.
أبو روق وأبو عبيدة: تلاوة وقراءة على ظهر القلب ولا يقرؤنها في الكتب، يدل عليه قوله تعالى: " * (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) *) وقرآنه.
قال الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخرها لاقى حمام المقادر
223

مجاهد وقتادة: كذبا وباطلا.
الفراء: الأماني: الأحاديث المفتعلة.
قال بعض العرب لابن (دلب): أهذا شيء رويته أم تمنيته؟
وأراد بأماني الأنبياء التي كتبها علماؤهم من قبل أنفسهم ثم أضافوها إلى الله عز وجل من تغيير نعت محمد صلى الله عليه وسلم
الحسن وأبو العالية: يعني يتمنون على الله الباطل والكذب مثل قولهم " * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *) وقولهم: " * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) *)، وقولهم * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * * (وإن هم) *) ما هم. " * (إلا يظنون) *) ظنا ووهما لا حقيقة ويقينا قاله قتادة والربيع.
وقال مجاهد: (... يكذبون).
" * (فويل) *) روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ إلى قعره).
سعيد بن المسيب: واد في جهنم لو سرت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حرها.
ابن بريدة: جبل من قيح ودم.
ابن عباس: شدة العذاب.
ابن كيسان: كلمة يقولها كل مكروب.
الزجاج: كلمة يستغلها كل واقع في الهلكة وأصلها العذاب والهلاك.
وقيل: هو دعاء الكفار على أنفسهم بالويل والثبور.
" * (للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) *) وذلك إن أحبار اليهود خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوراة وكان صفته فيها حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العين، ربعة فغيروها وكتبوا مكانها طويل أزرق، سبط الشعر. فإذا سألهم سفلتهم عن محمد صلى الله عليه وسلم قرأوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفا لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فيكذبونه قال الله تعالى: " * (فويل لهم مما كتبت أيديهم) *) من تغيير نعت محمد.
224

" * (وويل لهم مما يكسبون) *) من المأكول ولفظة الأيدي للتأكيد كقولهم مشيت برجلي ورأيت بعيني. قال الله تعالى: " * (ولا طائر يطير بجناحيه) *).
قال الشاعر:
نظرت فلم تنظر بعينك منظرا
وقال أبو مالك: نزلت هذه الآية في الكاتب الذي يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قرأ البقرة وآل عمران، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي: غفورا رحيما، فيكتب: عليما حكيما، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم (اكتب كيف شئت) ويملي عليه: عليما حكيما، فيكتب: سميعا بصيرا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم (اكتب كيف شئت) قال: فارتد ذلك الرجل عن الإسلام ولحق بالمشركين.
قال: أما يعلمكم محمد صلى الله عليه وسلم أن كنت لأكتب ما شئت أنا، فمات ذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الأرض لا تقبله).
قال: فأخبرني أبو طلحة: إنه أتى الأرض التي بات فيها فوجده منبوذا، فقال أبو طلحة: ما شأن هذا؟ قالوا: دفناه مرارا فلم تقبله الأرض.
2 (* (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون * بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * وإذ أخذنا ميثاق بنىإسرءيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذى القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون * وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) *) 2
" * (وقالوا) *) يعني اليهود.
" * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *) قدرا مقدرا ثم يزول عنا العذاب وينقطع، واختلفوا في هذه الأيام ما هي.
وقال ابن عباس ومجاهد: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود يقولون: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما واحدا ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
225

قتادة وعطاء: يعنون أربعين يوما التي عبد أباؤهم فيها العجل وهي مدة غيبة موسى ج عنهم.
الحسن وأبو العالية: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا أقسم ليعذبنا أربعين ليلة ثم يدخلنا الجنة فلن تمسنا النار إلا أربعين يوما تحلة القسم فقال الله تعالى تكذيبا
لهم: قل يا محمد " * (قل أتخذتم) *) ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل.
" * (عند الله عهدا) *) موثقا ألا يعذبكم إلا هذه المدة.
" * (فلن يخلف الله عهده) *) وعده، وقال ابن مسعود: بالتوعد يدل عليه قوله تعالى " * (إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا) *) يعني قال: لا إله إلا الله مخلصا " * (أم تقولون على الله ما لا تعلمون) *) قال " * (بلى) *) (بل وبلى) حرفا استدراك ولهما معنيان لنفي الخبر الماضي واثبات الخبر المستقبل، قال الكسائي: الفرق بين (بلى ونعم)، إن بلى: أقرار بعد جحود، ونعم: جواب استفهام بغير جحد، فإذا قال: ألست فعلت كذا، فيقول: بلى، وإذا قال: ألم تفعل كذا؟
فيقول: بلى، وإذا قا: ل أفعلت كذا؟ فيقول: نعم.
قال الله تعالى " * (ألم يأتكم نذير قالوا بلى) *) وقال " * (ألست بربكم قالوا بلى) *) وقال في غير الجحود " * (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم) *) وقالوا أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل نعم وإنما قال هاهنا بلى للجحود الذي قبله وهو قوله " * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *)
" * (من كسب سيئة) *) يعني الشرك.
" * (وأحاطت به خطيئته) *) قرأ أهل المدينة خطياته بالجمع، وقرأ الباقون خطيته على الواحدة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم والإحاطة الاحفاف بالشيء من جميع نواحيه واختلفوا في معناها هاهنا.
وقال ابن عباس والضحاك وعطاء وأبو العالية والربيع وابن زيد: هي الشرك يموت الرجل عليه فجعلوا الخطيئة الشرك.
قال بعضهم: هي الذنوب الكثيرة الموجبة لأهلها النار.
226

أبو زرين عن الربيع بن خيثم في قوله تعالى: " * (وأحاطت به خطيئته) *) قال: هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب ومثله قال عكرمة وقال مقاتل: أصر عليها.
مجاهد: هي الذنوب تحيط بالقلب كلما عمل ذنبا ارتفعت حتى تغشى القلب وهو الرين.
وعن سلام بن مسكين أنه سأل رجل الحسن عن هذه الآية؟
فقال السائل: يا سبحان الله إلا أراك ذا لحية وما تدري ما محاطة الخطيئة انظر في المصحف فكل آية نهى الله عز وجل عنها وأخبرك إنه من عمل بها أدخله النار فهي الخطئية المحيطة.
الكلبي: أو بقته ذنوبه دليله قوله تعالى " * (إلا أن يحاط بكم) *): أي تهلكوا جميعا.
وعن ابن عباس: أحيطت بما له من حسنة فأحبطته.
" * (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *) (وهذا من العام المخصوص بصور منها إلا من تاب بعد أن حمل على ظاهره) * * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) *).
" * (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) *) في التوراة. قال ابن عباس: الميثاق: العهد الجديد.
" * (لا تعبدون) *) بالياء قرأه ابن كثير وحميد وحمزة والكسائي.
الباقون: بالتاء وهو إختيار أبي عبيد وأبو حاتم.
قال أبو عمرو: ألا تراه يقول " * (وقولوا للناس حسنا) *) فذلك المخاطبة على التاء.
قال الكسائي: إنما ارتفع لا يعبدون لأن معناه أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدوا إلا الله فلما ألقى أن رفع الفعل ومثله قوله " * (لا تسفكون) *)، نظير قوله عز وجل " * (أفغير الله تأمروني أعبد) *): يريد أن أعبد فلما حذفت الناصبة عاد الفعل إلى المضارعة.
وقال طرفة:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
يريد أن أحضر، فلما نزع (أن) رفعه
227

وقرأ أبي بن كعب: لا تعبدوا جزما على النهي أي وقلنا لهم لا تعبدوا الا الله " * (وبالوالدين إحسانا) *) ووصينا هم بالوالدين إحسانا برا بهما وعطفا عليهما.
وانما قال بالوالدين وأحدهما والدة؛ لأن المذكر والمؤنث إذا اقتربا غلب المذكر لخفته وقوته.
" * (وذي القربى) *) أي وبذي القرابة، والقربى مصدر على وزن فعلى كالحسنى والشعرى.
قال طرفة:
وقربت بالقربى وجدك له يني
فتحايك امر للنكيثة أشهد.
" * (واليتامى) *) جمع يتيم مثل ندامى ونديم وهو الطفل الذي لا أب له.
" * (والمساكين) *) يعني الفقراء.
" * (وقولوا للناس حسنا) *) اختلفت القراءة فيه فقرأ زيد بن ثابت وأبو العالية وعاصم وأبو عمرو " * (حسنا) *) بضم الحاء وجزم السين وهو اختيار أبي حاتم دليله قوله عز وجل: " * (بوالديه حسنا) *) وقوله تعالى: " * (ثم بدل حسنا) *).
وقرأ ابن مسعود وخلف حسنا بفتح الحاء والسين وهو اختيار أبي عبيد وقوله: إنما إخترناها لأنها نعت بمعنى قولا حسنا.
وقرأ ابن عمر: حسنا بضم الحاء والسين والتنوين مثل الرعب والنصب والسحت والسحق ونحوها.
وقرأ عاصم والجحدري: احسانا بالألف.
وقرأ أبي بن كعب وطلحة بن مصرف: حسنى وقرنت بالقربى بالتأنيث مرسلة.
قال الثعلبي: سمعت القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عبدوس يقول: مجازه كلمة حسنى ومعناه قولوا للناس صدقا وحقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فمن سألكم عنه فأصدقوه وبينوا له صفته ولا تكتموا أمره ولا تغيروا نعته هذا قول ابن عباس وابن جبير وابن جريج ومقاتل دليله قوله " * (ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) *) أي صدقا.
وقال محمد بن الحنفية: هذه الأية تشمل البر والفاجر.
وقال سفيان الثوري: ائمروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر
228

" * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم) *) أي أعرضتم عن العهد والميثاق " * (إلا قليلا منكم) *) نصب على الاستثناء.
" * (وأنتم معرضون) *) وذلك أن قوما منهم آمنوا.
" * (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون) *) لا تريقون " * (دماءكم) *) وقرأ طلحة بن مصرف تسفكون بضم الفاء وهما لغتان مثل يعرشون ويعكفون.
وقرأ أبو مجلز: تسفكون بالتشديد على التكثير.
وقال ابن عباس وقتادة: معناه لا يسفك بعضكم دم بعض بغير حق وإنما قال (دماءكم) لمعنيين: أحدهما إن كل قوم اجتمعوا على دين واحد فهم كنفس واحدة.
والآخر: هو أن الرجل إذا قتل غيره كأنما قتل نفسه لأنه يقاد ويقتص منه " * (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) *) أي لا يخرج بعضكم بعضا من داره (ولا تسبوا من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج بسوء جواركم).
" * (ثم أقررتم) *) بهذا العهد إنه حق.
" * (وأنتم تشهدون) *) اليوم على ذلك يا معشر اليهود.
2 (* (ثم أنتم هاؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزآء من يفعل ذالك منكم إلا خزى في الحيواة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون * أولائك الذين اشتروا الحيواة الدنيا بالاخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) *) 2
" * (ثم أنتم هؤلاء) *) يعني يا هؤلاء فحذف النداء للإستغناء بدلالة الكلام عليه كقوله: " * (ذرية من حملنا) *) فهؤلاء للتنبيه ومبني على الكسرة مثل أنتم " * (تقتلون أنفسكم) *) قراءة العامة بالتخفيف من القتل.
وقرأ الحسن: تقتلون بالتثقيل من التقتيل.
" * (وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم) *) قراءة العامة وهم أهل الحجاز والشام وأبو عمرو ويعقوب: تظاهرون بتشديد الظاء، واختاره أبو حاتم ومعناه تتظاهرون فأدغم التاء في الظاء مثل: أثاقلتم واداركوا.
229

وقرأ عاصم والأعمش وحمزة وطلحة والحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء والكسائي: تظاهرون بتخفيف الظاء، واختاره أبو عبيد ووجه هذه القراءة: إنهم حذفوا تاء الفاعل وأبقوا تاء الخطاب كقوله " * (ولا تعاونوا) *) وقوله " * (ما لكم لا تناصرون) *).
وقال الشاعر:
تعاطسون جميعا حول داركم
فكلكم يا بني حمان مزكوم.
وقرأ أبي ومجاهد: تظهرون مشددا بغير ألف أي تتظهرون (........) جميعا تعاونون، والظهر: العون سمي بذلك لإسناد ظهره إلى ظهر صاحبه.
وقال الشاعر:
تكثر من الاخوان ما اسطعت
(.....) إذا إستنجدتهم فظهير
وما بكثير ألف خل وصاحب
وان عدوا واحدا لكثير
" * (بالإثم والعدوان) *) بالمعصية والظلم.
" * (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم) *) قرأ عبد الرحمن السلمي ومجاهد وابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل والجحدري وأبو عمرو وابن عامر: (أسارى تفدوهم) بغير ألف، وقرأ الحسن: (أسرى) بغير ألف (تفادوهم) بألالف، وقرأ النخعي وطلحة والأعمش ويحيى بن رئاب وحمزة وعيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق: (أسرى تفدوهم) كلاهما بغير ألف وهي إختيار أبي عبيدة.
وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وقتادة والكسائي ويعقوب: (أسارى تفادوهم) كلاهما بالألف، واختاره أبو حاتم.
فالأسرى: جمع أسير مثل جريح وجرحى، ومريض ومرضى، وصريع وصرعى، والأسارى: جمع أسير أيضا مثل كسالى وسكارى، ويجوز أن يكون جمع أسرى نحو قولك: امرأة سكرى ونساء سكارى، ولم يفرق بينهما أحد من العلماء الأثبات إلا أبو عمرو.
روى أبو هشام عن جبير الجعفي عن أبي عمرو قال: ما أسر فهو أسارى وما لم يؤسر فهو أسرى، وروي عنه من وجه آخر قال: ما صار في أيديهم فهم أسارى، وما جاء مستأسرا فهو أسرى.
عن أبي بكر النقاش قال: سمعت أحمد بن يحيى ثعلب وقد قيل له هذا الكلام عن أبي عمرو فقال: هذا كلام المجانين. يعني لافرق بينهما.
230

وحكي عن أبي سعيد الضرير إنه قال: الأسارى: هم المقيدون المشددون والأسرى: هم المأسورون غير المقيدين. فأما قولهم تفدوهم بالمال وتنقذوهم بفدية أو بشئ آخر، وتفادوهم: تبادلوهم أراد مفاداة الأسير بالأسير، وأسرى: في محل نصب على الحال.
فأما معنى الآية قال السدي: إن الله عز وجل أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم فأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه فاعتقوه. فكانت قريظة خلفاء الأوس، والنضير خلفاء الخزرج وكانوا يقتتلون في حرب نمير. فيقاتل بنو قريظة مع حلفائهم، وبنو النضير مع حلفائهم، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه وإن كان الأسير من عدوهم فيعيرهم العرب بذلك وتقول: كيف يقاتلونهم ويفدونهم.. ويقولن: إنا قد أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟
قالوا: نستحي أن تستذل حلفاؤنا فذلك حين عيرهم الله تعالى فقال: " * (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم) *) الآية، وفي الآية تقديم وتأخير نظمها: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالأثم والعدوان " * (وهو محرم عليكم إخراجهم) *) وأن يأتوكم أسارى تفدوهم.
وكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الأخراج، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم وفداء أسرائهم. فأعرضوا عن كل ما أمروا إلا الفداء. فقال الله عز وجل: " * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) *) فأيمانهم بالفداء وكفرهم بالقتل والأخراج والمظاهرة. قال مجاهد: يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك، وقيل: معناه يستعملون البعض ويتركون البعض، تفادون أسراء قبيلتكم وتتركون أسراء أهل ملتكم فلا تفادونهم.
قال الله عز وجل " * (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) *) يا معشر اليهود " * (إلا خزي) *) عذاب هوان.
" * (في الحياة الدنيا) *) فكان خزي قريظة القتل والسبي، وخزي بني النضير الجلاء والنفي عن منازلهم وجنانهم إلى أذرعات وريحا من الشام.
" * (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) *) وهو عذاب النار وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو رجاء والحسن: تردون بالتاء، لقوله " * (أفتؤمنون) *).
" * (وما الله بغافل عما تعملون) *) بالتاء مدني وأبو بكر ويعقوب الباقون: بالتاء.
" * (أولئك الذين اشتروا) *) استبدلوا.
231

" * (الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف) *) يهون ويرفه.
" * (عنهم العذاب ولاهم ينصرون) *) يمنعون من عذاب الله.
2 (* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جآءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون * وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون * ولما جآءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جآءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين * بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) *) 2
" * (ولقد آتينا) *) أعطينا.
" * (موسى الكتاب) *) التوراة جملة واحدة.
" * (وقفينا) *) أردفنا واتبعنا.
" * (من بعده بالرسل) *) رسولا بعد رسول. يقال: مضى أثره وقفا غيره؛ في التعدية وهو مأخوذ من قفا الإنسان قال الله " * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *)، وقال أمية بن الصلت:
قالت لأخت له قصيه عن جنب
وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد
" * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) *) العلامات الواضحات والدلالات اللايحات وهي التي ذكرها الله عز وجل في سورة آل عمران والمائدة.
" * (وأيدناه) *) قويناه وأعناه من الآد والأيد، مجاهد: أيدناه بالمد وهما لغتان مثل كرم وأكرم.
" * (بروح القدس) *) خفف ابن كثير القدس في كل القرآن، وثقله الآخرون، وهما لغتان مثل الرعب والسحت ونحوهما، واختلفوا في روح القدس فقال الربيع وعكرمة: هو الروح الذي نفخ فيه إضافة إلى نفسه؛ تكريما وتخصيصا نحو بيت الله، وناقة الله وعبد الله، والقدس: هو اللهعز وجل يدل عليه قوله تعالى " * (وروح منه) *) وقوله " * (ونفخنا فيه من روحنا) *)
والآخرون: أرادوا بالقدس الطهارة يعني الروح الطاهر سمى روحه قدسا؛ لأنه لم يتضمنه
232

أصلاب الفحولة ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث إنما كان أمرا من الله تعالى.
السدي والضحاك وقتادة وكعب: الروح القدس: جبرئيل قال الحسن: القدس: هو الله وروحه جبرئيل.
السدي: القدس: البركة وقد عظم الله بركة جبرئيل إذ أنزل الله عامة وحيه إلى أنبيائه على لسانه وتأييد عيسى ج بجبرئيل هو إنه كان قرينه يسير معه حيثما شاء والآخر إنه صعد به إلى السماء، ودليل هذا التأويل قوله تعالى " * (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) *).
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وعبيد بن عمير: هو اسم الله الأعظم وبه كان يحيي الموتى ويري الناس تلك العجائب.
وقال ابن زيد: هو الإنجيل جعل له روحا كما جعل القرآن لمحمدصلى الله عليه وسلم روحا، يدل عليه قوله تعالى " * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) *) فلما سمعت اليهود بذكر عيسى ج قالوا: يا محمد لا مثل عيسى كما زعمت ولا كما يقص علينا من الأنبياء (عليهم السلام) قالوا: فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا.
فأنزل الله عز وجل " * (أفكلما جاءكم) *) يا معشر اليهود " * (رسول بما لا تهوى) *) لا تحب ولا توافق.
" * (أنفسكم استكبرتم) *) تكبرتم وتعظمتم عن الأيمان به.
" * (ففريقا) *) طائفة سميت بذلك لأنها فرقت من الحملة.
" * (كذبتم) *) عيسى ومحمدا.
" * (فريقا تقتلون) *) أي قتلتم زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء.
" * (وقالوا) *) يعني اليهود " * (قلوبنا غلف) *) قرأ ابن محيصن بضم اللام، وقرأ الباقون بجزمه. فمن خففه فهو جمع الأغلف مثل أصفر وصفر وأحمر وحمر وهو الذي عليه غطاء وغشاء بمنزلة الأغلف غير المختون فالأغلف والأعلف واحد ومعناه عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمد.
قاله مجاهد وقتادة نظيره قوله عز وجل " * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) *)، ومن ثقل فهو جمع غلاف مثل حجاب وحجب وكتاب وكتب، ومعناه: قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك وكتابك. قاله عطاء وابن عباس
233

وقال الكلبي: يريدون أوعية لكل علم فهي لا تسمع حديثا إلا وعته إلا حديثك لا تفقهه ولا تعيه ولو كان فيه خيرا لفهمته ووعته.
قال الله عز وجل " * (بل لعنهم الله بكفرهم) *) وأصل اللعن الطرد والأبعاد تقول العرب (نماء) ولعين أي بعد. قال الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه
مقام الذنب كالرجل اللعين
فمعنى قوله: لعنهم الله طردهم وأبعدهم من كل خير، وقال النضر بن شميل: الملعون المخزي المهلك.
" * (فقليلا ما يؤمنون) *) معناه لا يؤمن منهم إلا قليلا؛ لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود، قاله قتادة، وعلى هذا القول ما: صلة معناه فقليلا يؤمنون، ونصب قليلا على الحال.
وقال معمر: معناه لا يؤمنون إلا بقليل بما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وعلى هذا القول يكون " * (قليلا) *) منصوبا بنزع حرف الصفة وما صلة أي فبقليل يؤمنون.
وقال الواقدي وغيره: معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا، وهذا كقول الرجل لأخر: ما قل ما تفعل وكذا يريد لا تفعله البتة.
وروى الفراء عن الكسائي: مررنا بأرض قل ما ينبت الكراث والبصل يريدون لا ينبت شيئا.
" * (ولما جاءهم كتاب من عند الله) *) يعني القرآن.
" * (مصدق) *) موافق " * (لما معهم) *) وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة مصدقا بالنصب على الحال.
" * (وكانوا) *) يعني اليهود " * (من قبل) *) أي من قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم " * (يستفتحون) *) يستنصرون، قال الله تعالى " * (أن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) *) أي أن تستنصروا فقد جاءكم النصر.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه) كان يستفتح القتال بصعاليك المهاجرين.
" * (على الذين كفروا) *) مشركي العرب وذلك إنهم كانوا يقولون إذا حزم أمر ودهمهم عدو: (اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة)، وكانوا يقولون زمانا لأعدائهم من المشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا، ونقتلكم معه قبل عاد وأرم
234

" * (فلما جاءهم ما عرفوا) *) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم من غير بني إسرائيل، وعرفوا نعته وصفته.
" * (كفروا به) *) بغيا وحسدا.
* (فلعنة الله على الكافرين) * * (بئسما اشتروا به أنفسهم) *) بئس ونعم فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم لا يتصرفان تصرف الافعال ومعنى الآية: بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالأيمان.
وقيل: معناه بئس ما باعوا به حظ أنفسهم.
" * (أن يكفروا بما أنزل الله) *) يعني القرآن.
" * (بغيا) *) بالبغي وأصل البغي الفساد. يقال: بغى الجرح إذا أمد وضمد.
" * (أن ينزل الله من فضله) *) النبوة والكتاب.
" * (على من يشاء من عباده) *) محمد صلى الله عليه وسلم
" * (فباؤا بغضب على غضب) *) أي مع غضب.
قال ابن عباس: الغضب الأول بتضييعهم التوراة، والغضب الثاني بكفرهم بهذا النبي الذي اتخذه الله تعالى.
فيهم قتادة وأبو العالية: الغضب الأول بكفرهم بعيسى ج والأنجيل والثاني: كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
السدي: الغضب الأول بعبادتهم العجل، والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتبديل نعته.
" * (وللكافرين) *) وللجاحدين (لدين) محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم.
" * (عذاب مهين) *) يهانون فلا يعزون.
(* (وإذا قيل لهم ءامنوا بمآ أنزل الله قالوا نؤمن بمآ أنزل علينا ويكفرون بما ورآءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبيآء الله من قبل إن كنتم مؤمنين * ولقد جآءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا فى قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) *) 2
" * (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) *) يعني القرآن.
235

" * (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) *) يعني التوراة.
" * (ويكفرون بما وراءه) *) أي بما سواه وبعده.
" * (وهو الحق) *) يعني القرآن.
" * (مصدقا) *) نصب على الحال. " * (لما معهم) *) قل لهم يا محمد: " * (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) *) ولم أصله ولما فحذفت الألف فرقا بين الخبر والاستفهام كقولهم: فيم وبم ولم ومم وعلام وحقام، وهذا جواب لقولهم: نؤمن بما أنزل علينا.
فقال الله عز وجل * (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) * * (إن كنتم مؤمنين) *) بالتوراة وقد خنتم فيها من قتل الأنبياء " * (ولقد جاءكم موسى بالبينات) *) بالدلالات اللايحات والعلامات الواضحات.
" * (ثم اتخذتم العجل من بعده) *) أي من بعد انطلاقه إلى الجبل * (وأنتم ظالمون) * * (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا) *) أي استجيبوا وأطيعوا سميت الطاعة سمعا على المجاز لأنه سبب الطاعة والإجابة ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده أي أجابه، وقال الشاعر:
دعوت الله حتى خفت ألا
يكون الله يسمع ما أقول
أي يجب.
" * (قالوا سمعنا) *) قولك. " * (وعصينا) *) أمرك (أو سمعنا بالآذان وعصينا بالقلوب).
قال أهل المعاني: إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، ولكن لما سمعوا الأمر وتلقوه بالعصيان نسب ذلك عنهم إلى القول أتساعا، كقول الشاعر
ومنهل ذبابة في عيطل
يقلن للرائد عشبت أنزل
" * (وأشربوا في قلوبهم العجل) *) أي حب العجل، كقوله تعالى " * (واسأل القرية) *)، وقال النابغة:
فكيف يواصل من أصبحت
خلالة كأني مرحب
أي لخلاله أني مرحب، ومعناه أدخل في قلوبهم حب العجل، وخالطها ذلك كاشراب اللون لشدة الملازمة.
236

" * (بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم) *) أن تعبدوا العجل من دون الله (فالله لا يأمر بعبادة العجل).
" * (إن كنتم مؤمنين) *) بزعمكم وذلك إنهم قالوا: نؤمن بما أنزل علينا، فكذبهم الله تعالى.
2 (* (قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنهم أحرص الناس على حيواة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون * قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين * من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين * ولقد أنزلنآ إليك ءايات بينات وما يكفر بهآ إلا الفاسقون) *) 2
" * (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله) *) الآية
قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية: إن اليهود ادعوا دعاوى باطلة، حكاها الله تعالى عنهم في كتابه كقوله تعالى " * (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *).
وقوله: " * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *).
وقوله: " * (نحن أبناء الله وأحباؤه) *) فكذبهم الله تعالى، وألزمهم الحجة. فقال: قل يا محمد إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله.
" * (خالصة من دون الناس) *) خاصة؛ لقوله تعالى " * (خالصة لذكورنا) *)، قوله " * (خالصة يوم القيامة) *)، قوله " * (خالصة من دون المؤمنين) *) أي خاصة من دون الناس.
" * (فتمنوا الموت) *) أي فأريدو وحلوه لأن من علم أن الجنة مآبه حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني.
" * (إن كنتم صادقين) *) في قولكم محقين في دعواكم، وقيل في قوله تعالى " * (فتمنوا الموت) *) أي ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة.
روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه، وما بقي
237

على وجه الأرض يهودي إلا مات).
فقال الله تعالى " * (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم) *) لعلمهم إنهم في دعواهم كاذبون.
" * (والله عليم بالظالمين) *) يعني اليهود. هذا من أعجاز القرآن لأنه تحداهم ثم أخبر أنهم لا يفعلون بعد أن قال لهم هذه المقالة فكان على ما أخبر.
" * (ولتجدنهم) *) اللام لام القسم والنون تأكيد القسم تقديره: والله لتجدنهم يا محمد يعني اليهود " * (أحرص الناس على حيواة) *) وفي مصحف أبي على الحياة.
" * (ومن الذين أشركوا) *) قيل إنه متصل بالكلام الأول.
معناه وأحرص من الذين أشركوا. قال الفراء: وهذا كما يقال هو أسخى الناس ومن حاتم: أي وأسخى من حاتم.
وقيل: هو ابتداء وتمام الكلام عند قوله: على حياتهم ابتدأ بواو الاستئناف وأضمر (ليود) اسما تقديره: ومن الذين أشركوا من " * (يود أحدهم) *) كقول ذو الرمة.
فظلوا ومنهم دمعه سابق له
وآخر يذري دمعة العين بالهمل
أراد ومنهم من دمعه سابق، وأراد بالذين أشركوا المجوس.
" * (يود) *) يريد ويتمنى.
" * (أحدهم لو يعمر) *) تقديره تعمير ألف.
" * (ألف سنة) *) قال المفسرون: هو تحية المجوس فيما بينهم عشر ألف سنة وكلمة ألف نيروز ومهرجان.
قال الله تعالى: " * (وما هو بمزحزحه من العذاب) *) من النار.
" * (أن يعمر) *) أي تعميره: زحزحته فزحزح: أي بعدته فتباعد يكون لازما ومتعديا. قال ذو الرمة في المتعدي:
يا قابض الروح من نفسي إذا احتضرت
وغافر الذنب زحزحني عن النار
وقال الراجز، في اللازم: خليلي ما بال الدجى لا يزحزح وما بال ضوء الصبح لا يتوضح. " * (قل من كان عدوا لجبريل) *) الآية
قال ابن عباس: إن حبرا من أحبار اليهود يقال له عبد الله بن صوريا كان قد حاج النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن أشياء. فلما اتجهت الحجة عليه قال: أي ملك يأتيك من السماء؟
قال: (جبرئيل ولم يبعث الكتاب لأنبياء قط إلا وهو وليه). قال: ذلك عدونا من
238

الملائكة ولو كان ميكائيل مكانه لآمنا بك؛ لأن جبرئيل ينزل بالعذاب والقتال والشقوة وإنه عادانا مرارا كثيرة، وكان أشد ذلك علينا أن الله تعالى أنزله على نبينا ج إن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له: بخت نصر، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه، فلما كان وقته بعثنا رجلا من أقوياء بني إسرائيل في طلب بخت نصر ليقتله فانطلق يطلبه حتى لقيه ببابل غلاما مسكينا ليست له قوة. فأخذه صاحبنا ليقتله فدفع عنه جبرئيلج وقال لصاحبنا: إن كان ربكم هو الذي أذن في هلاككم فلن تسلط عليه، وإن لم يكن هذا فعلى أي حق تقتله. فصدقه صاحبنا ورجع ج: فكبر بخت نصر وقوي وغزانا وخرب بيت المقدس؛ فلهذا نتخذه عدوا. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال مقاتل: قالت اليهود ان جبرئيل عدونا أمرنا أن تجعل النبوة فينا فجلعها في غيرنا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قتادة وعكرمة والسدي: فكان لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أرض بأعلى المدينة وممرها على مدارس اليهود، وكان عمر إذا أتى أرضه يأتيهم ويسمع منهم ويكلمهم. فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك. إنهم يمرون هنا فيأذونا وأنت لا تؤذينا وأنا لنطمع فيك فقال عمر: والله ما أحبكم لحبكم، ولا أسألكم لأني شاك في ديني، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم. فقالوا: من نصب محمد من الملائكة؟
قال: جبريل. فقالوا: ذلك عدونا يطلع محمد على سرنا، وهو صاحب عذاب وخسف وسنة وشدة، وإن ميكائيل جاء بالخصب والسلم. فقال لهم عمر: أتعرفون جبرئيل وتنكرون محمدا.. قالوا: نعم.
قال: فأخبروني عن منزلة جبرئيل وميكائيل من الله عز وجل؟
قالوا: جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، وميكائيل عدو لجبرئيل فقال عمر: وإني أشهد أن من كان عدوا لجبرئيل فهو عدوا لميكائيل ومن كان عدوا لميكائيل فهو عدو لجبرئيل، ومن كان عدوا لهما فإن الله عدو له، ثم رجع عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد جبرئيل قد سبقه بالوحي فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال: (لقد وافقك ربك يا عمر) فقال عمر: لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر.
قال الله تعالى تصديقا لعمر (رضي الله عنه) * * (قل من كان عدوا لجبرئيل) *) وفي جبرئيل سبع لغات:
(جبرئيل) مهموز، مشبع مفتوح الجيم والراء، وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر وخلف واختيار أبي عبيد، وقال: رأيت في مصحف عثمان الذي يقال له: الإمام بالياء في جبريل وميكايل (والياء قبل) الياء تدل على الهمزة، وقال الشاعر:
شهدنا فما يلقى لنا من كتيبة
مدى الدهر إلا جبرئيل امامها
239

(وجبرائيل) ممدود، مهموز، مشبع، على وزن جبراعيل، وهي قراءة ابن عباس وعلقمة وابن وثاب.
(وجبرائل) ممدود، مهموز، مختلس على وزن جبراعل وهي قراءة طلحة بن مصرف.
(وجبرئل) مهموز، مقصور مختلس على وزن جبرعل، وهي قراءة يحيى بن آدم.
(وجبرال) مهموز، مقصور، مشدد اللام من غير ياء، وهي قراءة يحيى بن يعمر، وعيسى ابن عمر، والأعمش.
(وجبريل) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وهي قراءة ابن كثير وأنشد لحسان:
وجبريل أمين الله فينا
وروح القدس ليس به خفاء
(وجبريل) بكسر الجيم والراء من غير همزة وهي قراءة علي، وأبي عبد الرحمن، وأبي رجاء، وأبي العالية، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومعظم أهل البصرة والمدينة، واختيار أبي حاتم، وقدروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وعن شبل عن عبد الله بن كثير قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقرأ جبريل بكسر الجيم والراء من غير همز. فلا أقرأها إلا هكذا.
قال الثعلبي: والصحيح المشهور عن كثير ما تقدم والله أعلم.
أما التفسير فقال العلماء: جبر هو العبد بالسريانية وأيل هو الله عز وجل يدل عليه ما روى إسماعيل عن رجاء عن معاوية برفعه قال: إنما جبرئيل وميكائيل كقولك عبد الله وعبدالرحمن، وقيل جبرئيل مأخوذ من جبروت الله، وميكائيل من ملكوت الله.
" * (فإنه) *) يعني جبرئيل. " * (نزله) *) يعني القرآن كتابه عن غير مذكور كقوله " * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) *) يعني الأرض، وقوله " * (حتى توارت بالحجاب) *) يعني الشمس.
" * (على قلبك) *) يا محمد " * (بإذن الله) *) بأمر الله.
" * (مصدقا) *) موافقا.
" * (لما بين يديه) *) لما قبله من الكتب.
* (وهدى وبشرى للمؤمنين) * * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل) *) أخرجهما بالذكر من جملة الملائكة ومواضعهم على جهة التفضيل والتخصيص، كقوله تعالى " * (فيهما فاكهة ونخل ورمان) *) وميكائيل أربع لغات
240

ممدود، مهموز، مشبع على وزن ميكاعيل، وهي قراءة أهل مكة والكوفة والشام.
" * (وميكائل) *) ممدود، مهموز مختلس مثل ميكاعل، وهي قراءة أهل المدينة.
و (ميكيل) مهموز مقصور على وزن ميكعل، وهي قراءة الأعمش وابن محيصن.
(وميكال) على وزن مفعال وهي قراءة أهل البصرة. قال الشاعر:
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد
فيه مع النصر جبريل وميكال
وقال جرير:
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد
وبجبرئيل وكذبوا ميكالا
ومعنى الآية من كان عدوا لأحد هؤلاء فإن الله عدو له والواو فيه بمعنى أو. كقوله تعالى " * (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه) *) الآية لأن الكافر بالواحد كافر بالكل. فقال ابن صوريا: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها. فأنزل الله عز وجل: " * (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات) *) واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام.
" * (وما يكفر بها إلا الفاسقون) *) الحادون عن أمر الله.
2 (* (أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون * ولما جآءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله ورآء ظهورهم كأنهم لا يعلمون * واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولاكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ومآ أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الاخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون * ولو أنهم ءامنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) *) 2
" * (أو كلما) *) واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام. كما يدخل على الفاء في قوله " * (أفأنت تسمع الصم) *) * * (أفتتخذونه وذريته) *) وعلى ثم كقوله تعالى " * (أثم إذا ما وقع) *) ونحوها.
241

وقرأ ابن السماك العدوي: ساكنة الواو على النسق و (كلما) نصب على الظرف. " * (عاهدوا عهدا) *) يعني اليهود.
قال ابن عباس: لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ الله عليهم وما عهد إليهم فيه.
قال مالك بن الصيف: إن الله ما عهد إلينا في محمد عهد ولا ميثاق فأنزل الله تعالى هذه الآية يوضحه قراءة أبي رجاء العطاردي: أوكلما عوهدوا عهدا لعنهم الله، دليل هذا التأويل قوله " * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) *) الآية.
وقال بعضهم: هو أن اليهود تعاهدوا لئن خرج محمد ليؤمنن به ولنكونن معه على مشركي العرب، وننفيهم من بلادهم، فلما بعث نقضوا العهد وكفروا به دليله ونظيره قوله عز وجل " * (ولما جاءهم رسول من عند الله) *).
وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين رسول الله وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير دليله قوله " * (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم) *).
" * (نبذه) *) أي رفضه وفي قول عبد الله: نقضه.
" * (فريق منهم) *) طوائف من اليهود.
" * (بل أكثرهم لا يؤمنون) *) فأصل النبذ الرمي والرفض له، وأنشد الزجاج:
نظرت إلى عنوانه فنبذته
كنبذك نعلا اخلقت من نعالكا
وهذا مثل من يستخف بالشيء ولا يعمل به، تقول العرب: أجعل هذا خلف ظهرك، ودبر اذنك، وتحت قدمك: أي أتركه واعرض عنه قال الله تعالى: " * (واتخذتموه وراءكم ظهريا) *)، وأنشد الفراء:
تميم بن قيس لا تكونن حاجتي
بظهر ولا يعبأ علي جوابها
قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤنه ولكن نبذوا العمل به:
وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه في الحرير والديباج وحلوه بالذهب والفضة ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه فذلك النبذ.
" * (واتبعوا) *) يعني اليهود
242

" * (ما تتلوا الشياطين) *) أي ما تلت الشياطين.
كقول الشاعر:
فإذا مررت بقبره فاعقر به
كؤم الحجان وكل طرف سالح
وانضح جوانب قبره بدمائها
فلقد بكوه أخادم وذبائح
وحكي عن الحسين بن الفضل إنه سئل عن هذه الآية فقال: هو مختصر مضمر تقديره واتبعوا ما كانت تتلوا الشياطين أي تقرأه.
قال ابن عباس: يتبع ويعمل به.
عطاء وأبو عبيدة: يحدث ويتكلم به.
يمان: ترويه.
وقرأ الحسن: الشياطون بالواو في موضع الرفع في كل القرآن.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا حامد الخارزنجي يقول: وسئل عن قراءة الحسن؟
قال: هو فن وحسن عند أكثر أهل الأدب.
غير أن الأصمعي زعم إنه سمع أعرابيا يقول: بستان فلان حوله بساتون.
" * (على ملك سليمان) *) أي في ملكه وعهده كقول أبي النجم:
فهي على الأفق كعين الأحول
أي في الأفق.
والملك تمام القدرة واستحكامها.
قال (... الزجاج): في قصة الآية هي أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجات على لسان آصف. هذا ما علم آصف ابن برخيا سليمان الملك ثم وضعوها تحت مصلاه حين نزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها من تحت مصلاه.
وقالوا الناس: إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه فأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان وإن كان هذا علمه لقد هلك سليمان
وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان فأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبياءهم وفشت الملامة لسليمان فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عذر سليمان ج
243

على لسانه وأظهر براءته عما رمي به فقالوا: " * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) *) الآية. هذا قول الكعبي.
وقال السدي: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد السمع فيستمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما سمعوا كذبا وزورا في كل سبعين كلمة سبعين كلمة ويخبرونهم بذلك فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب فبعث في الناس فجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيه وقال: لا أسمع أحدا يقول إن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفرا من بني إسرائيل فقال: هل أدلكم على كنز لا ينفذ أبدا.
قالوا: نعم. قال: فأحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان وقام ناحية وقالوا: أدن. فقال: لا ولكن هاهنا فإن لم تجدوه فاقتلوني وذلك إنهم لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق فحفروا فوجدوا تلك الكتب فلما أخرجوها. قال الشيطان: إن سليمان كان يضبط الجن والأنس والطير بهذا ثم طار الشيطان وذهب وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا فاتخذ بنو إسرائيل تلك الكتب ولذلك فكثير ما يوجد السحر في اليهود فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصمه اليهود بها فبرأ الله تعالى سليمان من ذلك وأنزل هذه الآية.
وقال عكرمة: كان سليمانج لا يصبح يوما إلا نبتت في محرابه في بيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟
فتقول الشجرة: اسمي كذا، فيقول: لأي داء أنت؟
فتقول: لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع وترفع في الخزانة وتغرس منها في البساتين حتى بعثت الخرنوبة الشامية فقال لها: ما أنت؟
قالت أنا الخرنوبة. قال: لأي شيء نبت؟ قالت: لخراب مسجدك. قال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت الذي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها فغرسها في حائط له فلم تنبت إلى أن توفي فجعل الناس يقولون في رضاهم: لو كان لنا مثل سليمان، وكتبت الشياطين كتابا فجعلوه في مصلى سليمان. فقالوا للناس: من يدلكم على ما كان يداوي به فانطلقوا فاستخرجوا ذلك الكتاب فإذا فيه سحر ورقي فأنزل الله في هذه الآية ما تفعل الشياطين واليهود على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم " * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) *).
" * (وما كفر سليمان) *) بالسحر فان السحر كفر
244

" * (ولكن الشياطين كفروا) *) قرأ أهل الكوفة والشام بتخفيف النون ورفع الشياطين وكذلك في الأيمان " * (ولكن الله قتلهم) *) * * (ولكن الله رمى) *).
الباقون: بالتشديد ونصب ما بعده، ولكن كلمة لها معنيان نفي الخبر الماضي واثبات الخبر المستقبل، وهي مبنية من ثلاث كلمات أصلها لا كان لا نفي والكاف خطاب وإن نصب ونسق فذهبت الهمزة استثقالا وهي تثقل وتخفف فإذا ثقلت نصب بها ما بعدها من الأسماء كما تنصب بأن الثقيلة فإذا خففها رفعت بها ما ترفع بأن الخفيفة.
" * (يعلمون الناس السحر) *) قال بعضهم: السحر العلم والخطابة دليله قوله: بان الساحر: أي العالم.
وقال بعضهم: هو التمويه بالشيء حتى يتوهم المتوهم إنه شيء ولا حقيقة له كالسراب غير من رآه وأخلف من رجاه قال الله تعالى: * (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * * (وما أنزل على الملكين) *) محل ما بعد اتباع التعليم عليه معناه لا يعلمون الذي أنزل على الملكين أي (......) ويجوز أن يكون نصبا بالاتباع تقديره: واتبعوا ما أنزل على الملكين، وجعل بعضهم ما جحدا وحينئذ لا محل له يعني لم ينزل السحر على الملكين كما زعم اليهود، وإنما يعلمونهم (...... من ذات) أنفسهم والقول الأول أصح.
وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك ويحيى بن أبي كثير: ملكين بكسر اللام، وقالوا: هما رجلان ساحران كانا ببابل من الملائكة لا يعلمون الناس السحر، وفسرهما الحسن فقال: غلجان ببابل وهي بابل عراق وسمي بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها.
أو ان الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقى بتعلم السحر منهما فيكفر به ومن سعد بتركه فيبقى على الإيمان فيزداد المعلمان بالتعليم عذابا ففيه ابتلاء المعلم والمتعلم والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء كما يشاء فله الأمر والحكم.
وقال الخليل بن أحمد: إنما سميت بابل لأن الله تعالى حين أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحفرتهم من كل أفق إلى بابل فبلبل الله ألسنتهم فلم يدري أحد ما يقول الآخر، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد وهو لا ينصرف؛ لأنه اسم موضع معروف.
" * (هاروت وما روت) *) اسمان سريانيان في محل الخفض على تفسير الملكين بدلا منهما إلا أنهما نصبا لعجمتهما ومعرفتهما وكانت قصتيهما على ما ذكره ابن عباس والمفسرون: إن
245

الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة وذنوبهم الكثيرة وذلك في زمن إدريس فعيروهم بذلك، ودعت عليهم قالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم فهم يعصونك. فقال الله عز وجل لهم: لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لرتكبتم ما ارتكبوه. فقالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك. قال الله تعالى: اختاروا ملكين من خياركم ثم اهبوطهما إلى الأرض. فاختاروا هاروت وما روت وكانا من أصلح الملائكة وأخصهم.
قال الكلبي: قال الله تعالى لهم: اختاروا ثلاثة: عزا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت. غير اسمهما لما قارفا الذنب كما غير اسم إبليس وعزائيل فركب الله فيهم الشهوة التي ركبها في بني آدم. فاهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق، ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر وأما عزائيل فأنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقال ربه، وسأله أن يرفعه إلى السماء، فأقاله ورفعه، فسجد أربعين سنة، ثم رفع رأسه ولم يزل بعد ذلك مطأطئا رأسه حياءا من الله عز وجل.
وأما الآخران فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يغضبان من الناس يومهما فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء.
قال قتادة: فما مر عليهما شهر حتى افتتنا قالوا جميعا وذلك انهم اختصم عليهما ذات يوم الزهرة، وكانت من أجمل النساء. قال علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) وكانت من أهل فارس، وكانت ملكة في بلدها. فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها وانصرفت، ثم عادت في اليوم الثاني. ففعلا مثل ذلك. فأبت وقالت: لا إلا أن تعبدا ما أعبد وتصليا لهذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا: لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله قد نهانا عنها. فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها. فراوداها عن نفسها. فعرضت عليهما ما قالت بالأمس. فقالا: الصلاة لغير الله عظيم، وقتل النفس عظيم وأهون الثلاثة شرب الخمر فانتعشا ووقعا بالمرأة وزنيا. فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه.
قال الربيع بن أنس: سجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكبا وقال علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) والسدي والكلبي: إنها قالت لهما: لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء. فقالا: بسم الله الأكبر. قالت: فما أنتما تدركاني حتى تعلمانيه. فقال أحدهما لصاحبه: علمها. قال: فأني أخاف الله.
قال الآخر: فأين رحمة الله فعلماهما ذلك. فتكلمت به وصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكبا.
فعلى قول هؤلاء هي الزهرة بعينها وقيدوها. فقالوا: هي هذه الكوكبة الحمراء واسمها بالفارسية ناهيد، وبالنبطية بيذخت يدل على صحة هذا القول ما روى جابر عن الطفيل عن علي
246

(رضي الله عنه) قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى سهيلا قال: لعن الله سهيلا إنه كان عشارا باليمن ولعن لله الزهرة فإنها فتنت ملكين.
وقال مجاهد: كنت مع ابن عمر ذات ليلة فقال لي: أرمق بالكوكبة يعني الزهرة فإذا طلعت فأيقظني. فلما طلعت ايقظته فجعل ينظر إليها ويسبها سبا شديدا. فقلت: رحمك الله سببت نجما سامعا مطيعا ماله ليسب؟ فقال: إن هذه كانت بغيا. فلقى ملكان منها مالقيا.
وقال ابن عمر إذا رأى الزهرة قال: لا مرحبا بها ولا أهلا وروى أبو عثمان (المرندي) عن ابن عباس: إن المرأة التي فتنت بها الملكان مسخت فهي هذه الكوكبة
الحمراء يعني الزهرة قال: وكان يسميها بيذخت. وأنكر الآخرون هذا القول. قالوا: ان الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي جعلها الله تعالى قواما للعالم وأقسم بها فقال: " * (فلا أقسم بالخنس والجوار الكنس) *). قلنا كانت هذه التي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى زهرة من جمالها فلما بغت مسخها الله تعالى شهابا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزهرة ذكر هذه المرأة لموافقة الاسمين فلعنها، وكذلك سهيل العشار ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم ذكره فلعنه ويدل عليه ما روى قيس ابن عباد عن ابن عباس في هذه القصة:
قال: كانت امرأة فضلت على الناس كما فضلت الزهرة على سائر الكواكب، ومثله قال كعب الأحبار والله أعلم.
قالوا: فلما أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما فعلما ما حل بهما فقصدا إدريس النبيج فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل فقالا له: إنا رأيناك يصعد لك من العبادة مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا إلى ربك؟
ففعل ذلك إدريس فخيرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فأختارا عذاب الدنيا إذ علما إنه ينقطع فهما ببابل يعذبان.
واختلف العلماء في كيفية عذابهما فقال عبد الله بن مسعود: هما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة.
قتادة: كبلا من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما.
مجاهد: إن جبا ملئت نارا فجعلا فيها حضيف معلقان منكسان في السلاسل.
عمير بن سعد: منكوسان يضربان بسياط الحديد.
ويروى إن رجلا أراد تعلم السحر فقصد هاروت وماروت فوجدهما معلقين بأرجلهما
247

مزرقة عيونهما مسودة جلودهما ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا قدر أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال: لا إله الا الله وقد نهي عن ذكر الله فلما سمعا كلامه قالا له: من أنت؟ قال: رجل من الناس. قالا: ومن أي أمة أنت؟
قال: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالا: وقد بعث محمد؟ قال: نعم قالا: الحمد لله وأظهرا الاستبشار. فقال الرجل: ومم إستبشاركما؟
قالا: لأنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا. قالوا ومن ثم استغفار الملائكة لبني آدم.
وعن الأوزاعي قال: المعنى إن جبرئيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا جبرئيل صف لي النار؟
فقال: إن الله أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضي لهيبها ولا جمرها، والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعا ولو أن ذنوبا من سرابها صبت في الأرض جميعا لقتل من ذاقه، ولو أن ذراعا من السلسة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعا لذابت وما استقلت ولو إن رجلا دخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى جبرئيل لبكائه وقال: أتبكي يا محمد وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: (أفلا أكون عبدا شكورا)، ولم بكيت يا جبريل وأنت الروح الأمين أمين الله على وحيه؟ قال: أخاف أن أبتلي بما أبتلي هاروت وماروت. فهو الذي منعني عن اتكالي على منزلتي عند ربي فأكون قد آمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتى نوديا من السماء أن يا جبرئيل ويا محمد إن الله قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما ففضل محمد على الأنبياء كفضل جبرائيل على ملائكة السماء.
" * (وما يعلمان) *) يعني الملكين " * (من أحد) *) من صلة لا يعلمان السحر أحدا حتى ينصحاه أولا وينهياه ويقولا " * (إنما نحن فتنة) *) ابتلاء ومحنة.
" * (فلا تكفر) *) بتعلم السحر وأصل الفتنة الاختبار.
تقول العرب: فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتعرف جودته من رداءته.
وفتنت الشمس الحجر إذا سودته.
وإنما وحد الفتنة وهما اثنان؛ لأن الفتنة مصدر والمصادر لا تثنى ولا تجمع كقولهم: " * (وعلى سمعهم) *) وفي مصحف أبي: وما يعلم الملكان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرات
248

قال السدي وعطاء: فإن أبى إلا التعلم قالا له: إتت هذا الرماد فبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فتلك المعرفة وينزل شيء أسود حتى يدخل مسامعه يشبه الدخان وذلك غضب الله عز وجل.
قال مجاهد: إن هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة إختلافة واحدة.
وقال يزيد بن الأصم: سئل المختار: هل يرى اليوم أحد هاروت وماروت؟
قال: أما منذ أئتفكت بابل إئتفاكها الآخر لم يرهما أحد.
قال قتادة: السحر سحران: سحر تعلمهم الشياطين وسحر يعلمه هاروت وماروت وهو قوله تعالى " * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) *) وهو أن يؤخذ كل واحد منهما عن صاحبه ويبغض كل واحد إلى صاحبه.
وفي (المرء) أربع قراءات: قرأ الحسن: المر بفتح الميم وتشديد الراء جعله عوضا عن الهمزة.
وقرأ الزهري: المرء بضم الميم والهمزة.
وحكى يعقوب عن جده: بكسر الميم والهمزة.
وقرأ الباقون: بفتح الميم والهمزة.
وأما كيفية تعليمهما السحر فقد ورد فيه خبر جامع وهو ما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تبكي حتى إني لأرحمها بقولي واني لأخاف أن تكون قد هلكت، قالت كان لي زوج فغاب عني فدخلت على عجوز وشكوت إليها ذلك فقالت: إن فعلت ما أمرتك به فأجعله يأتيك فلما كان الليل جائتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الأخر فلم يكن حتى وقفنا على بابل، فإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ فقلت أتعلم السحر.
فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي فأبيت فقلت: لا.
قالا: فأذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا: فعلت، قلت: نعم. فقالا هل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا.
فقالا: لم تفعلي ارجعي إلى بلدك ولا تكفري فأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه.
فذهبت فاقشعر جلدي وخفت ثم رجعت إليهما فقلت قد فعلت. قالا: فما رأيتي
249

قلت: لم أر شيئا.
فقالا: كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك فلا تكفري فإنك على رأس أمرك. فأبيت. فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنعا بالحديد خرج مني حتى ذهب في السماء وقد غاب عني حتى لم أره فجئتهما فقلت قد فعلت قالا: فما رأيت؟
قلت: رأيت فارسا مقنعا بالحديد خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه. قالا: صدقت ذلك ايمانك خرج منك إذهبي إلى المرأة وقول لها: والله ما أعلم شيئا وما قال لي شيئا، قالت بلى، قالا: لن تريدي شيئا إلا كان. خذي هذا القمح فأبذري فبذرت فقلت: إطلعي فطلعت فقلت: إحقلي فحقلت ثم قلت إفركي فأفركت ثم قلت اطحني فطحنت ثم قلت اخبزي فخبزت فلما رأيت إني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا.
فأما كيفية جواز تعليم السحر على الملائكة ووجه الآية وحملها على التأويل الصحيح:
فقال بعضهم: إنهما كانا لا يتعمدان تعليم السحر ولكنهما يصفانه ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه واعلم وعلم بمعنى واحد وفي هذا حكمة: وهي إن سائلا لو سأل عن الزنا لوجب أن يوقف عليه ويعلم أنه حرام، وكذلك إعلام الملكين الناس وأمرهما باجتنابه بعد الاعلام والأخبار إنه كفر حرام فيتعلم الشقي منهما وفي حلال صفتهما وترك موعظتهما ونصيحتهما ولا يكون على هذا التأويل تعلم السحر كفرا وإنما يكون العمل به كفرا كما إن من عرف الزنا لم يأثم إنما يأثم العامل به، والقول الآخر والأصح: إن الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر فيكفر بتعلمه ويؤمن بترك التعلم، لأن السحر كان قد كثر في كل الأمة ويزداد المعلمان عذابا بتعليمه فيكون ذلك ابتلاء للمعلم والمتعلم ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بني إسرائيل بالنهر في قوله: " * (إن الله مبتليكم بنهر) *) يدل عليه قوله " * (إنما نحن فتنة فلا تكفر) *) وهذان حكاهما الزجاج واعتمدهما. قال الله تعالى:
" * (وما هم بضارين به من أحد) *) أي أحدا ومن صلة.
" * (إلا بأذن الله) *) (أو إلا بقضاء الله أو إلا بإذن الله أي بمرأى ومسمع) أي بعلمه وقضائه ومشيئته وتكوينه (والساحر يسحر ولا يكون شيء).
250

" * (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) *) أي السحر وقرأ عبيد بن عمير: ما يضرهم من أضر يضر.
" * (ولقد علموا) *) يعني اليهود " * (لمن اشتراه) *) اختار السحر.
" * (ما له في الآخرة) *) أي في الجنة " * (من خلاق) *) من نصيب.
وقال الحسن: ماله في الآخرة من خلاق من دين ولا وجه عند الله.
ابن عباس: من قوام، وقيل من خلاص.
قال أمية: يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم إلا السرابيل من قطر وإغلال، أي لا خلاص لهم.
" * (ولبئس ما شروا به) *) باعوا به حظ " * (أنفسهم) *) حين اختاروا السحر والكفر على الدين والحق.
" * (لو كانوا يعلمون) *) * * (ولو أنهم آمنوا) *) بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
" * (واتقوا) *) اليهودية والسحر.
" * (لمثوبة) *) (ويجوز المثوبة بفتح الميم وفتح الواو كمشورة وكمشورة وهي مصدر من الثواب) * * (من عند الله) *) لكان ثواب الله عز وجل إياهم.
" * (خير لو كانوا يعلمون) *))
.
* (ياأيها الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم * ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم * ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) *) الآية: وذلك إن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول الله وأرعنا سمعك يعنون من المراعاة، وكانت هذه اللفظة سبا مبيحا بلغة اليهود، وقيل: كان معناه عندهم: اسمع لا سمعت، وقيل: هو إلحاد إلى الرعونة لما سمعتها اليهود اغتنموها، وقالوا فيما نسب بعضهم إلى محمد سرا. فاعلنوا الآن بالشتم، وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم. فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها، وكان يعرف لغتهم. فقال لليهود: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده يا معشر اليهود إن سمعنا من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لضربت عنقه. فقالوا: أولستم تقولونها؟
251

فأنزل الله تعالى " * (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) *) لكي لا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي هذه اللفظة ثلاث قرآت:
قرأ الحسن راعنا بالتنوين أراد قولا راعنا: أي حقا من الرعونة فحذف الاسم وأبقى الصفة. كقول الشاعر:
ولا مثل يوم في قدار ظله
كأني وأصحابي على قرن أعفرا
أراد قرن ظبي أعفر. حذف الاسم وأبقى النعت.
وقرأ أبي بن كعب: راعونا بالجمع.
وقرأت العامة: راعنا بالواحد من المراعاة. يقال: أرعى إلى الشيء وارعاه وراعاه. إذا أصغى إليه واستمعه. مثل قولهم: عافاه الله واعفاه.
قال مجاهد: لا تقولوا راعنا: يعني خلافا.
يمان: هجرا.
الكسائي: شرا.
" * (وقولوا انظرنا) *) قال أبي بن كعب: انظرنا بقطع الألف أي أخرنا، وقرأت العامة موصولة أي انظر إلينا. فحذف حرف التعدية كقول قيس بن الحطيم:
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن
كما ينظر الأراك الظبا
أي إلى الأراك، وقيل: معناه انتظرنا وتأننا. كقول امرؤ القيس:
فإنكما أن تنظراني ساعة
من الدهر تنفعني لدى أم جندب
وقال مجاهد: معناه فهمنا، وقال يمان: بين لنا
" * (واسمعوا) *) ما تؤمرون به، والمراد به أطيعوا لأن الطاعة تحت السمع.
" * (وللكافرين عذاب أليم) *) يعني اليهود.
" * (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب) *) الآية: وذلك إن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد قالوا: ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن عليه ولو (هدانا) لكان خيرا. فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم (ما يود): يريد ويتمنى الذين كفروا من أهل الكتاب يعني اليهود
252

" * (ولا المشركين) *) مجرور في اللفظ بالنسق على من مرفوع المعنى بفعله كقوله عز وجل " * (وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) *) * * (أن ينزل عليكم من خير) *) أي خبر كما نقول: ما أتاني من أحد من فيه، وفي جوابها صلة، وهي كثيرة في القرآن.
" * (والله يختص) *) والاختصاص أوكد من الخصوص لأن الاختصاص لنفسك والخصوص لغيرك.
" * (برحمته) *) بنبوته. " * (من يشاء) *) يخص بها محمدا صلى الله عليه وسلم
" * (والله ذو الفضل العظيم) *) (أي ابتداء لعلى... خبر علة أو المراد من الرحمة الإسلام والهداية) * * (ما ننسخ من آية أو ننسها) *) الآية وذلك إن المشركين قالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر لم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولا ويرجع فيه غدا، ما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا. فأنزل الله " * (وإذا بدلنا آية مكان آية) *)، وأنزل أيضا " * (ما ننسخ من آية) *) ثم بين وجه الحكمة في النسخ بهذه الآية.
وأعلم إن النسخ في اللغة شيئان:
الوجه الأول: بمعنى التغيير والتحويل قال الفراء: يقال: مسخه الله قردا ونسخه قردا، ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب فينقل ما فيه إليه قال الله تعالى " * (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) *): أي نأمر الملائكة بنسخها.
قال ابن عباس في هذه الآية: ألستم قوما عربا هل يكون نسخه إلا من أصل كان قبل ذلك؟ وعلى هذا الوجه القرآن كله منسوخ؛ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ فأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم
روى عبد الوهاب بن عطاء عن داود عن عكرمة عن ابن عباس: أنزل الله تعالى القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم أنزله جبرائيل على محمد آيا بعد آي، وكان فيه ما قال المشركون ورد عليهم.
والوجه الثاني: بمعنى رفع الشيء وابطاله يقال: نسخت الشمس الظل: أي ذهبت به وأبطلته (...) عنى بقوله ما ننسخ من آية وعلى هذا الوجه يكون بعض القرآن ناسخا ومنسوخا وهي ما تعرفه الأمة من ناسخ القرآن ومنسوخه وهذا أيضا يتنوع نوعين
253

أحدهما: إن يثبت خط الآية، وينسخ علمها والعمل بها. كقول ابن عباس في قوله " * (ما ننسخ من آية) *) قال: ثبت خطها وتبدل حكمها. ومنها رفع تلاوتها وبقاء حكمها مثل آية الرجم.
الثاني: أن ترفع الآية أصلا أي تلاوتها وحكمها معا فتكون خارجة من خط الكتاب، وبعضها من قلوب الرجال أيضا، والشاهد له ما روي أبو أمامة سهل بن حنيف في مجلس سعيد ابن المسيب: إن رجلا كانت معه سور. فقام يقرأها من الليل فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها. فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها. فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: يا رسول الله قمت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها، وقال الآخر: يا رسول الله ما جئت إلا لذلك، وقال الآخر: وأنا يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنها نسخت البارحة).
ثم إعلم أن النسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار؛ إذا نسخ صار المخبر كذابا، وإن اليهود حاولوا نسخ الشرائع وزعموا إنه بداء فيقال لهم: أليس قد أباح الله تزويج الأخت من الأخ ثم حظره وكذلك بنت الأخ وبنت الأخت؟ أليس قد أمر إبراهيمج بذبح ابنه، ثم قال له لا تذبحه؟
أليس قد أمر موسى بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد العجل منهم وأمرهم برفع السيف عنهم؟ أليست نبوة موسى غير متعبد بها، ثم تعبد بذلك؟ أليس قد أمر حزقيل النبي بالختان، ثم نهاه عنه؟ فلما لم يلحقه بهذه الأشياء بداء فكذلك في نسخ الشرائع لم يلحقه بداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم؛ لضرب من المصلحة إظهار لحكمته وكمال مملكته وله ذلك وبه التوفيق.
فهذه من علم النسخ وهو نوع كثير من علوم القرآن، لا يسع جهله لمن شرع إلى التفسير.
وعن أبي عبد الرحمن السلمي: إن عليا ج مر بقاص يقص في جامع الكوفة بباب كندة فقال: هل تعلم الناسخ من المنسوخ؟
قال: لا. قال: هلكت وأهلكت.
وأما معنى الآية لقوله " * (ما ننسخ من آية) *) قرأت العامة بفتح النون والسين من النسخ.
وقرأ ابن عامر: بضم النون وكسر السين.
قال أبو حاتم: هو غلط وقال: بعضهم له وجهان، أحدهما نجعله نسخه من قولك نسخت الكتاب إذا كتبته وأنسخته غيري إذا جعلته نسخة له ومعناها ما مسختك.
254

والوجه الثاني: تجعله في جملة المنسوخ كقولك: طردت الرجل إذا نفيته وأطردته جعلته طريدا. قال الشاعر:
طردتني حسد الهجاء حيفاء
واللات والأصنام ما قالوا تنل
أو ننسها: فيه تسع قراءات:
قرأ سعيد بن المسيب وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب: ننسها بضم النون وكسر السين. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم أي: ننسها نسيا قاله أكثر المفسرين.
قال الحسن: هو ما أنسى الله رسوله صلى الله عليه وسلم
قال ابن عباس: أي تتركها ولا نبدلها قال الله: " * (نسوا الله فأنساهم) *) وقال الله تعالى: " * (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) *). كل هذا من الترك كانه جعل أنسى ونسي بمعنى واحد.
قال الكلبي وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا منصور الأزهري يقول: معناه أو نأمر بتركها يقال أنسيت الشيء أي أمرت بتركه.
قال الشاعر:
جرت علي قصة أقصيتها
لست بنا سيها مجمع ولا منسيها
أي ولا آمر بتركها.
وقرأ أبي بن كعب: أو ننسيك.
وقرأ عبد الله: ننسيك من آية أو ننسخها.
قرأ سالم مولى حذيفة: أو ننسكها.
وقرأ أبو رجاء: أو ننسها بالتشديد، وقرأ الضحاك: أو ننسها بضم التاء وفتح السين على مجهول، وقرأ سعد بن أبي وقاص: أو ننسها بتاء المفتوحة من النسيان، وعن القاسم بن الربيع ابن فائق؛ قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: بالنسخ من آية أو ننسها.
قال: فقلت له: إن سعيد بن المسيب يقرأ: ننسها. قال: إن القرآن لم ينزل على آل المسيب.
255

قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم * (سنقرئك فلا تنسى) * * (واذكر ربك إذا نسيت) *).
وقرأ مجاهد: (أو ننسها) بفتح النون مخففه أي نتركها.
وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيد بن عمير وعطاء وابن كثير وأبو عمرو والنخعي: أو ننساها بفتح النون الأول وفتح السين مهموزة فلا نؤخرها فلا نبدلها ولا ننسخها، يقال: نسأ الله في أجله وأنسأ الله أجله، ومنه النسيئه في البيع.
وقال أبو عبيد: ننسبأها مجازه نمضيها لذكر ما فيه، قال طرفة:
أمون كألواح الاران نسأتها
على لا حب كأنه ظهر برجد
أي لسقتها وأمضيتها، وقال سعيد بن المسيب وعطاء: أما ما ننسخ من آية فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسخة، أو ننساها نؤخرها فلا يكون وهو ما لم ينزل.
" * (نأت بخير منها) *) أي بما هو أجدى وأنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم لا أن آية خير من آية؛ لأن كلام الله عز جل واحد ولكنها في المنفعة المثوبة وكله خير.
(* (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير * أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سوآء السبيل * ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره إن الله على كل شىء قدير) *) 2
" * (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) *) قادر قال الزجاج: لفظه استفهام ومعناه توفيق وتقرير.
" * (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم) *) يا معشر الكفار عند نزول العذاب.
" * (من دون الله من ولي) *) قريب وصديق.
" * (ولا نصير) *) ناصر يمنعكم من العذاب.
" * (أم تريدون أن تسألوا رسولكم) *) الآية. قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أمية
256

المخزومي ورهط من قريش قالوا: يا محمد أجعل لنا الصفا ذهبا ووسع لنا أرض مكة، وفجر الأنهار خلالها تفجيرا نؤمن بك.
فأنزل الله عز وجل " * (أم تريدون) *) يعني أتريدون والميم صلة لأن أم إذا كان بمعنى العطف لا تكون ابتداء ولا تأتي إلا مردودة على استفهام قبلها، وقيل معناه: بل يريدون كقول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
وصورتها أم أنت في العين أملح
أي بل أنت.
" * (أن تسألوا رسولكم) *) محمدا.
" * (كما سئل موسى من قبل) *) سأله قومه فقالوا: أرنا الله جهرة، وقال مجاهد: لما قالت قريش هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نعم وهو كالمائدة لبني إسرائيل إن لم تؤمنوا عذبتم) فأبوا ورجعوا، والصحيح أن شاء الله إنها نزلت في اليهود حين قالوا: يا محمد أئتنا بكتاب من السماء تحمله، كما أتى موسى بالتوراة، لأن هذه السورة مدنية، وتصديق هذا القول قوله تعالى: " * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) *) في سئل ثلاث قراءات:
بالهمز: وهي قراءة العامة، و (سئل) بتليين الهمزة وهي قراءة أبي جعفر و (سئل) مثل (قيل) وهي قراءة الحسن.
" * (ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل) *) أخطأ وسط الطريق.
" * (ود كثير من أهل الكتاب) *) الآية نزلت في نفر من اليهود منهم: فنحاص بن عازورا وزيد ابن قيس؛ وذلك إنهم قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تريا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ماهزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا. فقالوا لهم: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد.
قال: فإني قد عاهدت ألا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت. فقالت اليهود: أما هذا فقد صبر، وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين أخوانا.
ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال: (أصبتما الخير وأفلحتما). فأنزل الله تعالى " * (ود كثير من أهل الكتاب) *) أي تمنى وأراد كثير من اليهود
257

" * (لو يردونكم) *) يا معشر المؤمنين.
" * (من بعد إيمانكم كفارا) *) في انتصابه وجهان قيل: بالرد وقيل: بالحال. " * (حسدا) *) وفي نصبه أيضا وجهان: قيل على المصدر أي يحسدونكم حسدا، وقيل: بنزع حرف الصلة تقديره للحسد. وأصل الحسد في اللغة الالظاظ بالشيء حتى يخدشه وقيل: للمسحاة محسد وللغراد حسدل زيدت فيه اللام كما يقال للعبد: عبدل.
" * (من عند أنفسهم) *) أي من تلقاء أنفسهم لم يأمر الله عز وجل بذلك.
" * (من بعد ما تبين لهم الحق) *) في التوراة إن محمدا صادق ودينه حق.
" * (فاعفوا) *) فاتركوا. " * (واصفحوا) *) وتجاوزوا.
" * (حتى يأتي الله بأمره) *) بعذابه القتل والسبي لبني قريظة والجلاء والنفي لبني النظير قاله ابن عباس.
وقال قتادة: هو أمره بقتالهم في قوله تعالى: " * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) *) إلى " * (وهم صاغرون) *).
وقال ابن كيسان: بعلمه وحكمه فيهم حكم بعضهم بالإسلام ولبعضهم بالقتل والسبي والجزية، وقيل: أراد به القيامة فيجازيهم بأعمالهم.
" * (إن الله على كل شيء قدير) *))
.
* (وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير * وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * وقالت اليهود ليست النصارى على شىء وقالت النصارى ليست اليهود على شىء وهم يتلون الكتاب كذالك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) *) 2
" * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا) *) تسلفوا.
" * (لأنفسكم من خير) *) طاعة وعمل صالح.
" * (تجدوه) *) تجدوا ثوابه ونفعه. " * (عند الله) *) وقيل: بالخبر الحال كقوله عز وجل " * (إن ترك
258

خيرا) *) ومعناه وما تقدموا لأنفسكم من زكاة وصدقة تجدوه عند الله أي وتجدوا الثمرة واللقمة مثل أحد " * (إن الله بما تعملون) *) ورد في الحديث: إذا مات العبد قال الله: ما خلف؟
وقال الملائكة: ما قدم؟
وعن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي بن أبي طالب ج الدار فأنشأ يقول:
لكل اجتماع من خليلين فرقة
وكل الذي دون الفراق قليل
وإن افتقادي واحدا بعد واحد
دليل على أن لا يدوم خليل
ثم دخل المقابر فقال: السلام عليكم يا أهل القبور أموالكم قسمت ودوركم سكنت وأزواجكم نكحت فهذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ فهتف هاتف: وعليكم السلام ما أكلنا ربحنا وما قدمنا وجدنا وما خلفنا خسرنا.
" * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *) قال الفراء: أراد يهوديا فحذف الياء الزائدة ورجعوا إلى الفعل من اليهودية.
وقال الأخفش: اليهود جمع هايد مثل عائد وعود وحائل وحول وعايط وعوط وعايذ وعوذ، وفي مصحف أبي: إلا من كان يهوديا أو نصرانيا ومعنى الآية وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ولا دين إلا دين اليهودية وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ولا دين إلا النصرانية قال الله تعالى: " * (تلك أمانيهم) *) شهواتهم التي يشتهوها ويتمنوها على الله عز وجل بغير الحق وقيل أباطيلهم بلغة قريش.
" * (قل) *) يا محمد. " * (هاتوا) *) وأصله أتوا فقلبت الهمزة هاء.
" * (برهانكم) *) حجتكم على ذلك وجمعه براهين مثل قربان قرابين وسلطان وسلاطين.
" * (إن كنتم صادقين) *) ثم قال ردا عليهم وتكذبيا لهم " * (بلى) *) ليس كما قالوا بل يدخل الجنة " * (من أسلم وجهه لله) *) مقاتل: أخلص دينه وعمله لله
وقيل: فوض أمره إلى الله.
وقيل: خضع وتواضع لله.
وأصل الإسلام والاستسلام: الخضوع والانقياد وإنما خص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه.
قال زيد بن عمرو بن نفيل:
اسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرا ثقالا
259

وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن يحمل عذبا زلالا
" * (وهو محسن) *) في عمله، وقيل: مؤمن، وقيل: مخلص.
" * (فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *) * * (وقالت اليهود) *) نزلت في يهود المدينة ونصارى أهل نجران؛ وذلك إن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت لهم اليهود: ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والأنجيل، وقالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بموسى والتوراة. فأنزل الله تعالى " * (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) *).
" * (وهم يتلون الكتاب) *) وكلا الفريقين يقرأون الكتاب أي لتبين في كتابكم سر الاختلاف فدل تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم ما فيه على أنهم على الباطل.
وقيل: كان سفيان الثوري إذا قرأ هذه الآية قال: صدقوا جميعا والله كذلك.
" * (قال الذين لا يعلمون) *) يعني أباءهم الذين مضوا.
" * (مثل قولهم) *) قال مقاتل يعني مشركي العرب كذلك قالوا في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليسوا على شيء من الدين.
وقال ابن جريح: قلت لعطاء: (كذلك قال الذين لا يعلمون) من هم؟
قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ونحوهم، قالوا في نبيهم إنه ليس على شيء وأن الدين ديننا.
" * (فالله يحكم بينهم) *) يقضي بين المحق والمبطل يوم القيامة.
" * (فيما كانوا فيه يختلفون) *) من الدين.
(* (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى فى خرابهآ أولائك ما كان لهم أن يدخلوهآ إلا خآئفين لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الاخرة عذاب عظيم * ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم * وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون * بديع السماوات والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *) 2
" * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) *) نزلت في ططيوس بن استيسانوس
260

الرومي وأصحابه؛ وذلك إنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير وكان خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب.
قتادة والسدي: هو بخت نصر وأصحابه غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك النصارى ططيوس وأصحابه من أهل الروم.
قال السدي: من أجل إنهم قتلوا يحيى بن زكريا، وقال قتادة: حملهم بعض اليهود على معاونة بخت نصر البابلي المجوسي فأنزل الله إخبارا عن ذلك: " * (ومن أظلم) *) أي أكفر وأغثا " * (ممن منع مساجد الله) *) يعني بيت المقدس ومحاريبه. (أن يذكر) في محل نصب المفعول الثاني لأن المنع يتعدى إلى مفعولين تقديره ممن منع مساجد الله. الذكر، وإن شئت جعلت نصبا بنزع حرف الصفة أي: من أن يذكر.
" * (وسعى في خرابها) *) أي في عمل خرابها.
" * (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) *) وفي مصحف أبي الاخيفاء.
قال ابن عباس: لا يدخلها بعد عمارتها رومي إلا خائفا لو علم به قتل.
قتادة ومقاتل: لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مشارفه لو قدر عليه عوقب ونهك ضربا.
السدي: أخيفوا بالجزية، وقال أهل المعاني: هذا خبر فيه معنى للأمر كقول: اجهضوهم بالجهاد كي لا يدخلها أحد منهم إلا خائفا من القتل والسبي نظيره قوله: " * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله...) *) إلى " * (أبدا) *) نهاهم عن لفظ الخبر فمعنى الآية: ما ينبغي لهم ولكم وهذا وجه الآية.
" * (لهم في الدنيا خزي) *) عذاب وهوان.
قال قتادة: هو القتل للحربي والجزية للذمي.
مقاتل والكلبي: فتح مدائنهم الثلاثة: قسطنطينية ورومية وعمورية.
السدي: هو إنه إذا قام المهدي (في آخر الزمان) فتحت قسطنطينية فقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم فذلك خزيهم في الدنيا.
" * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) *) وهو النار.
261

إسماعيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: لا تقوم الساعة حتى تفتح مدينة هرقل ويؤذن فيها المؤذنون ويقسم فيها المال بالترضية فينقلبون بأكثر أموال رآها الناس قط فبينا هم كذلك إذا أتاهم إن الدجال قد خلفكم في أهليكم فيلقون ما في أيديهم ويجيئونه ويقاتلونه.
وقال عطاء وعبد الرحمن بن عوف: نزلت هذه الآية في مشركي عرب مكة وأراد بالمساجد المسجد الحرام منعوا محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حجه والصلاة فيه عام الحديبية وإذا منعوا من تعميره بذكر الله عز وجل فقد سعوا في خرابه يدل عليه قوله تعالى: " * (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) *) الآية " * (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) *) يعني أهل مكة يقول: أفتحها عليكم حتى تدخلوها أو تكونوا أولى بها منهم ففتحها الله عليهم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى: ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان فطفق المشركون يقولون: اللهم إنا قد منعنا أن نشرك بهذا لهم في الدنيا خزي الذل والقتل والسبي والنفي ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
" * (ولله المشرق والمغرب) *) الآية: اختلفوا في سبب نزولها فقال ابن عباس: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فاصابهم الضباب فحضرت الصلاة فتحروا القبلة وصلوا فمنهم من صلى إلى المشرق ومنهم من صلى إلى المغرب. فلما ذهب الضباب استبان لهم إنهم لم يصيبوا. فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية بذلك.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يتخذ أحجارا فيعمل مسجدا يصلي فيه، فلما أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فقلنا يا رسول الله: لقد صلينا ليلتنا هذه إلى غير القبلة فأنزل الله هذه الآية.
قال عبد الله بن عمر: نزلت في صلاة المسافر يصلي حيثما توجهت به راحلته تطوعا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته جائيا من مكة إلى المدينة.
وعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به.
قال عكرمة: نزلت في تحويل القبلة لما حولت إلى الكعبة. فأنزل الله تعالى " * (ولله المشرق والمغرب) *).
" * (فأينما تولوا) *) أيها المؤمنون في سفركم وحضركم
262

" * (فثم وجه الله) *) قبلة الله التي وجهكم إليها فاستقبلوها يعني الكعبة، وقال أبو العالية: لما غيرت القبلة إلى الكعبة عيرت اليهود المؤمنين في انحرافهم من بيت المقدس. فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابا إليهم.
عطاء وقتادة: نزلت في النجاشي وذلك إنه توفي، فأتى جبرئيل النبيصلى الله عليه وسلم فقال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي على رجل مات وهو يصلي إلى غير قبلتنا؟ وكان النجاشي يصلي إلى بيت المقدس حتى مات. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مجاهد والحسن والضحاك: لما نزلت: " * (وقال ربكم أدعوني أستجب لكم) *) قالوا أين ندعوه؟ فنزلت " * (ولله المشرق والمغرب) *) ملكا وخلقا " * (فأينما تولوا) *) تحولوا وجوهكم " * (فثم) *) هناك " * (وجه الله) *).
وقال الكلبي والقتيبي: معناه فثم الله عليم يرى والوجه صلة كقوله تعالى. " * (يريدون وجهه) *) أي يريدونه بالدعاء، وقوله " * (كل شيء هالك إلا وجهه) *). أي إلا هو، وقوله تعالى " * (ويبقى وجه ربك) *) أي ويبقى ربك، وقوله " * (إنما نطعمكم لوجه الله) *) أي لله.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان: فثم قبلة الله أضافها إلى نفسه تخصيصا وتفصيلا، كما يقال: بيت الله، وناقة الله، والوجه والجهة والوجهة: القبلة.
" * (إن الله واسع) *) قال الكلبي: واسع المغفرة لا يتعاظم مغفرته ذنب دليله قوله تعالى " * (إن ربك واسع المغفرة) *).
أبو عبيدة: الواسع الغني يقال: يعطي فلان من سعة أي من غنى قال الله " * (لينفق ذو سعة من سعته) *) قال الفراء: الواسع الجواد الذي يسع عطاءه كل شيء. دليله قوله تعالى " * (ورحمتي وسعت كل شيء) *) وقيل: الواسع العالم الذي يسع علمه كل شيء. قال الله " * (وسع كرسيه السماوات والأرض) *) أي علمه.
" * (عليم) *) بنياتهم حيثما صلوا ودعوا، وقال بعض السلف: دخلت ديرا فجاء وقت الصلاة فقلت لبعض من في الدير: دلني على بقعة طاهرة أصلي فيها. فقال لي: طهر قلبك عمن سواه، وقف حيث شئت. قال: فخجلت منه.
263

" * (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه) *) نزلت في يهود أهل المدينة حيث قالوا: عزيرا بن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا: المسيح بن الله وفي مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله. (سبحانه) نزه وعظم نفسه.
" * (بل له ما في السماوات والأرض) *) عبيدا وملكا.
" * (كل له قانتون) *) مجاهد وعطاء والسدي: مطيعون دليله قوله تعالى " * (والقانتين والقانتات) *).
عكرمة ومقاتل ويمان: مقرون بالعبودية.
ابن كيسان: قائمون بالشهادة، وأصل القنوت: القيام، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ قال: (طول القنوت)، وقيل: مصلون دليله قوله " * (أمن هو قانت إناء الليل) *) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل المجاهد في سبيل الله مثل القانت الصائم). أي المصلي.
وقيل: داعون. دليله قوله تعالى " * (قوموا لله قانتين) *) واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال بعضهم: هو خاص، ثم سلكوا في تخصيصه طريقين: أحدهما هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة، وهو قول مقاتل ويمان.
القول الثاني قالوا: هو راجع إلى أهل طاعته دون الناس أجمعين وهذا قول ابن عباس والفراء، وقال بعضهم: هو عام في جميع الخلق ثم سلكوا في الكفار الجاحدين طريقتين أحدهما: إن ظلالهم تسجد لله وتطيعه، وهذا قول مجاهد دليله قوله عز وجل " * (يتفيئوا ظلاله عن اليمين) *) الآية. قال الله تعالى " * (وظلالهم بالغدو والآصال) *).
والثاني: هذا يوم القيامة قاله السدي وتصديقه قوله تعالى: * (وعنت الوجوه للحي القيوم) * * (بديع السماوات والأرض) *) أي مبتدعها ومنشها من غير مثال سبق " * (وإذا قضى أمرا) *) أي بيده وأراد خلقه وأصل القضاء إتمام الشيء وإحكامه.
قال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أوصنع السوابغ تبع
264

" * (فإنما يقول له كن فيكون) *))
.
* (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينآ ءاية كذالك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون * إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم * ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوآءهم بعد الذي جآءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير * الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولائك يؤمنون به ومن يكفر به فأولائك هم الخاسرون * يا بني إسراءيل اذكروا نعمتى التىأنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين * واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) *) 2
" * (وقال الذين لا يعلمون) *) يعني اليهود قاله ابن عباس.
مجاهد: هم النصارى. قتادة: هم مشركو العرب. " * (لولا) *) هلا " * (يكلمنا الله) *) عيانا بأنك رسوله.
" * (أو تأتينا آية) *) دلالة وعلامة على صدقك.
قال الله تعالى: " * (كذلك قال الذين من قبلهم) *) أي كفار الأمم الخالية " * (مثل قولهم تشابهت قلوبهم) *) أشبه بعضها بعضا في الكفر والفرقة والقسوة.
" * (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) *) * * (إنا أرسلناك) *) يا محمد " * (بالحق) *) بالصدق من قولهم فلان محق في دعواه إذا كان صادقا دليله قوله تعالى " * (ويستنبئونك) *) أحق هو؟ أي صدق. مقاتل: معناه لن نرسلك عبثا بغير شيء بل أرسلناك بالحق، دليله قوله تعالى: " * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) *) وهو ضد الباطل.
ابن عباس: بالقرآن دليله قوله تعالى: " * (بل كذبوا بالحق لما جاءهم) *).
ابن كيسان: بالاسلام دليله قوله عز وجل: " * (وقل جاء الحق وزهق الباطل) *) * * (بشيرا) *) مبشرا لأوليائي وأهل طاعتي بالثواب الكريم.
" * (ونذيرا) *) منذرا مخوفا لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم.
" * (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) *) عطاء وابن عباس: وذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: (ليت شعري ما فعل أبواي) فنزلت هذه الآية
265

وقال مقاتل: هو إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنزل الله بأسه باليهود لأمنوا). فأنزل الله تعالى: " * (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) *) وفيه قراءتان: بالجزم على النهي وهي قراءة نافع وشيبة والأعرج ويعقوب ووجهها القول الأول في سبب نزول الآية.
وقرأ الباقون: بالرفع على النفي يعني: ولست بمسؤول عنهم دليلها قراءة ابن مسعود: ولن تسأل وقراءة أبي: وما نسألك عن أصحاب الجحيم ولا تؤخذ بذنبهم والجحيم وهو الجحم والجحمة: معظم النار.
" * (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) *) وذلك إنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمعونه ويرون إنه إن هادنهم إتبعوه ووافقوه فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال ابن عباس: هذا في القبلة وذلك إن يهود أهل المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله: " * (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع) *) دينهم وقبلتهم، وزعم الزجاج: إن الملة مأخوذة من التأثير في الشيء كما تؤثر الملة في الموضع الذي يختبز فيه.
" * (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم) *) البيان بأن دين الله هو الإسلام وقبلة إبراهيم ج هي الكعبة.
" * (مالك من الله من ولي ولا نصير) *) * * (الذين آتيناهم الكتاب) *) قال ابن عباس: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب (رضي الله
عنه) وكانوا أربعين رجلا واثنا وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا.
وقال الضحاك: من آمن من اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه وسعية بن عمرو ويمام بن يهودا وأسيد وأسد ابنا كعب وابن يامين وعبد الله بن صوريا.
قتادة وعكرمة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
وقيل: هم المؤمنون عامة.
" * (يتلونه حق تلاوته) *) الكلبي: يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من الناس وعلى هذا القول الهاء راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم
وقال آخرون: هي عائدة إلى الكتاب ثم اختلفوا في معنى قوله " * (يتلونه حق تلاوته) *) سعيد عن قتادة قال: بلغنا عن ابن مسعود في قوله " * (يتلونه حق تلاوته) *) قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويقرأونه كما أنزل، ولا يحرفونه عن مواضعه، وقال الحسن: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون علم ما أشكل عليهم منه إلى عالمه
266

مجاهد: يتبعونه حق اتباعه.
" * (أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) *) إلى قوله " * (وإذ ابتلى إبراهم ربه) *).
2 (* (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتى قال لا ينال عهدي الظالمين * وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى للطآئفين والعاكفين والركع السجود * وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من ءامن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير * وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منآ إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينآ إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) *) 2
قرأ أبو الشعثا جابر بن زيد: " * (إبراهيم) *) ربه إبراهيم رفعا وربه نصبا على معنى سأل ودعا فقيل له ومن اين لك هذا؟ فقال: اقرأنيه ابن عباس. وهذا غير قوي لأجل الباء في قوله " * (بكلمات) *) وقرأ الباقون بالنصب، وجعلوا معنى الابتلاء الاختيار والامتحان في الأمر، وهو الصحيح، وفي " * (إبراهيم) *) أربع لغات: قرأ ابن الزبير: ابرهام بألف واحد بين الهاء والميم، وقرأ أبو بكر إبراهم وكان زيد بن عمر يقول في صلاته: إني عذت بما عاذ به إبراهيم، إذ قال:
إني لك اللهم عان راغم
وقرأ عبد الله بن عامر اليحصبي: ابراهام بألفين، وقرأ الباقون: إبراهيم (... قال يحيى بن سعيد) الأنصاري: أقرأ ابراهام وإبراهيم. فأن الله عز وجل أنزلهما كما أنزل يعقوب وإسرائيل، وعيسى والمسيح ومحمدا وأحمد.
الربيع ابن عامر: مصحفة مكتوب في مصاحف أهل الشام إبراهام بالألف وفي غيرها بالياء.
وإبراهيم اسم أعجمي ولذلك لا يجري وهو إبراهيم بن نازح بن ناحور بن ساروخ بن ارخوا بن فالغ بن منابر بن الشالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح. فاختلفوا في مسكنه، فقال بعضهم: كان (بكشكر،) وقال قوم: حران؛ ولكن أباه نقله إلى بابل أرض نمرود بن كنعان
267

واختلفوا في الكلمات التي ابتلى إبراهيم ج:
عن ابن عباس: هي ثلاثون سهما، وهي شرائع الإسلام، ولم يبتل أحد بهذا الدين كله فأقامه كله إلا إبراهيم (عليه الصلاة والسلام).
" * (فأتمهن) *) فكتب له البراءة. فقال: " * (وإبراهيم الذي وفى) *) وهي عشرة في براءة " * (التائبون العابدون) *) الآية وعشرة في الأحزاب " * (إن المسلمين والمسلمات) *) الآية، وعشرة في المؤمنين " * (وسأل سائل) *) * * (قد أفلح المؤمنون) *)، وقوله " * (إلا المصلين) *).
وروى طاووس عن ابن عباس قال: إبتلاه بعشرة أشياء هي من الفطرة والطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد فالتي في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، والتي في الجسد: تقليم الأظافر ونتف الأبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء.
مجاهد: هي الأيات التي في قوله: " * (قال إني جاعلك للناس إماما) *) إلى آخر القصة.
الربيع وقتادة: مناسك الحج.
الحسن: ابتلاه بسبعة أشياء إبتلاه بالكواكب والقمر والشمس فأحسن في ذلك وعلم أن ربه دائم لا يزول وإبتلاه بالنار فصبر على ذلك، وإبتلاه بذبح ابنه فصبر على ذلك وبالختان فصبر على ذلك وبالهجرة فصبر عليه.
سعيد بن جبير: هي قول إبراهيم وإسماعيل حين يرفعان البيت " * (ربنا تقبل منا) *) فرفعاه بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
يمان: هي محاجة قومه قال الله: " * (وحاجه قومه) *) إلى قوله تعالى " * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) *).
أبو روق: هي قولهج " * (الذي خلقني فهو يهدين) *) الآيات
وقال بعضهم: هي إن الله ابتلاه في ماله وولده ونفسه فسلم ماله إلى الضيفان، وولده إلى القربان، ونفسه إلى النيران، وقلبه إلى الرحمن فاتخذه خليلا، وقيل: هي
سهام الإسلام وهي عشرة: شهادة أن لا اله إلا الله وهي الملة والصلاة وهي القنطرة.. قال: (والزكاة) وهي الطهارة والصوم وهو الجنة والحج وهو الشريعة، والغزو وهو النصرة، والطاعة وهي العصمة، والجماعة وهي الألفة، والأمر بالمعروف وهو الوفاء والنهي عن المنكر وهو الحجة. فأتمهن. قال قتادة: أداهن.
268

الربيع: وفى بهن.
الضحاك: (... أيمانهن)، يمان: عمل بهن. قال الله " * (إني جاعلك) *) يا إبراهيم " * (للناس إماما) *) ليقتدي بك وأصله من الأم وهو القصد.
* (قال إبراهيم) * * (ومن ذريتي) *) ومن أولادي أيضا. فاجعل أئمة يقتدى بهم وأصل الذرية الأولاد الصغار مشتق من الذر لكثرته، وقيل: من الذرر وهو الخلق فخفف الهمز وأدخل التشديد عوضا عن الهمز كالبرية.
قيل: من الذرو وفيها ثلاث لغات:
ذرية بكسر الذال، وهي قراءة زيد بن ثابت، وذرية بفتحها وهي قراءة أبي جعفر، وذرية بضمها وهي قراءة العامة.
* (قال الله) * * (لا ينال) *) أي لا يصيب.
" * (عهدي الظالمين) *) وفيه ثلاث قراءات: عهدي الظالمون، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة ابن مصرف، وعهدي الظالمين مرتجلة الياء، وهي قراءة أبي رجاء والأعمش وحمزة، وعهدي الظالمين بفتح الياء وهي قراءة العامة، واختلفوا في هذا العهد فقال عطاء بن أبي رباح: رحمتي.
الضحاك: طاعتي دليله قوله: " * (وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم) *).
السدي: (التوفي) دليله قوله " * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) *).
مجاهد: ليس الظالم أن يطاع في ظلمه.
أبو حذيفة: أمانتي دليله قوله " * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) *).
أبو عبيد: أماني دليله قوله: " * (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) *)، وقيل: إيماني دليله عز وجل " * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) *).
" * (وإذ جعلنا البيت) *) يعني الكعبة.
" * (مثابة) *) مرجعا والمثاب والمثابة واحد كالمقام والمقامة قال ابن عباس: يعني معاذا وملجأ.
مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك: (يثبون) إليه من كل جانب ويحجون ولا يملون منه فما من أحد قصده إلا وهو يتمنى العود إليه.
269

قتادة وعكرمة: مجمعا، وقرأ طلحة بن مصرف: مثابات على الجمع.
" * (للناس وأمنا) *) مأمنا يأمنون فيه.
قال ابن عباس: فمن أحدث حدثا خارج الحرم ثم التجأ إلى الحرم أمن من أن يهاج فيه ولكن لا يؤوى ولا يخالط ولا يبايع ويوكل به فإذا خرج منه أقيم عليه الحد ومن أحدث في الحرم أقيم عليه الحد فيه.
" * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) *) قرأ شيبة وابن عامر ونافع والأعرج والحسن وابن أبي إسحاق وسلام: واتخذوا بفتح الخاء على الخبر وقرأ الباقون: بالكسر على الأمر.
قال ابن كيسان: ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالمقام ومعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أليس هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: (بلى) قال: أفلا نتخذه مصلى؟
قال: (لم أؤمر بذلك).
فلم تغب الشمس من يومهم حتى نزلت: " * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) *).
وعن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وافقني ربي في ثلاث. قلت: لو أتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله " * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) *) وقلت يا رسول الله: يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين فأنزل الله آية الحجاب قال: وبلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم فاستنفرتهن فجعلت أقول لهن: لتكفن عن رسول الله أو استبدلته أزواجا خيرا منكن حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين.
وقالت أم سلمة: يا عمر أما في رسول الله ما يغبط نساءه حتى يعظهن مثلك وأمسكت فأنزل الله تعالى: " * (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات) *) الآية.
واختلفوا في معنى قوله " * (من مقام إبراهيم) *) قال إبراهيم النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم.
يمان: المسجد كله مقام إبراهيم.
قتادة ومقاتل والسدي: هو الصلاة عند مقام إبراهيم أمروا بالصلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه ولا تقبيله.
وأما قصته وبدء أمره.
فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر فوضعهما بمكة ولبث على ذلك مدة، ونزلها الجوهميون وتزوج إسماعيل امرأة منهم، وماتت
هاجر. فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل. فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر
270

فذهب إلى بيت إسماعيل. فقال لامرأته: أين صاحبك؟
قال: ليس هاهنا. ذهب للصيد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد ثم يرجع. فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: ليس عندي ولا عندي أحد.
قال إبراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه، وذهب إبراهيم، فجاء إسماعيل ووجد ريح أبيه. فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟
قالت: جاءني شيخ صفته كذا، كالمستخفة بصفته. قال: فما قال لك؟
قالت: قال لي أقرئي زوجك مني السلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه. فطلقها، وتزوج أخرى. فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، وجاء إبراهيم حتى أتى إلى بيت إسماعيل.
فقال إبراهيم لامرأته: أين صاحبك؟
قالت: ذهب يتصيد وهو يجيء الآن إنشاء الله فأنزل يرحمك الله.
قال لها: هل عندك ضيافة؟
قالت: نعم فجاءت باللبن واللحم فدعا لهما بالبركة فلو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير أو تمر لكانت أرض الله برا وشعيرا وتمرا وقالت له: إنزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاء بالمقام فوضعته تحت شقه الأيمن فوضع قدمه عليه وغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر فبقى أثر قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيسر فقال لها: إذا جاء زوجك فأقريه السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك. فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم، شيخ أحسن الناس شبها وأطيبهم ريحا فقال لي كذا وقلت له كذا وغلست رأسه وهذا موضع قدميه على المقام فقال لها: ذلك إبراهيمج.
وقال أنس بن مالك: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه غير إنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.
نافع بن شيبة يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: أشهد ثلاث مرات أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا أن طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب).
" * (عهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) *) أي أمرناهما وأوصينا إليهما
271

" * (أن طهرا بيتي) *) الكعبة أي إبنياه على الطهارة والتوحيد.
وقال سعيد بن جبير وعبيد بن عمر وعطاء ومقاتل: طهرا بيتي من الأوثان والريب وقول الزور، وسمع عمر رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا أتدري أين أنت؟
الأوزاعي عن عهدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله أوحى إلي يا أخ المرسلين يا أخا المنذرين إنذر قومك ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب سليمة وألسن صادقة وأيد نقية وفروج طاهرة ولا يدخلوا بيتا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي يصلي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وأكون بصره الذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيين والصديقين و الشهداء والصالحين).
وقال يمان بن رئاب: معناه بخراه وخلقاه.
مكحول عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (جنبوا مساجدكم غلمانكم يعني صبيانكم ومجانينكم وسل سيوفكم ورفع أصواتكم وحدودكم وخصومكم وبيعكم وشراءكم وحمروها يوم جمعتكم واجعلوا على أبوابها بظاهركم).
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وجعفر وأهل المدينة: (بيتي) بفتح الياء وقرأ الآخرون: باسكانه واضافته تعالى إلى نفسه سبحانه تخصيصا وتفضيلا.
" * (للطائفين) *) حوله وهم النزاح إليه من آفاق الأرض. " * (والعاكفين) *) أي المقيمين فيه وهم سكان الحرم. " * (والركع) *) جمع الراكع. " * (السجود) *) جمع الساجد مثل قاعد وقعود.
قال عطاء: إذا كان طائفا فهو من الطائفين وإذا كان جالسا فهو من العاكفين وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود.
الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة ينزل على هذا البيت فستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين)
272

" * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا) *) يعني مكة أو الحرم.
" * (بلدا آمنا) *) أي مأمونا فيه يأمن أهله.
" * (وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر) *) قال الأخفش: من آمن بدل من أهله على البيان، كما يقال: أخذت المال ثلثيه ورأيت القوم ناسا منهم، وهذا ابدال البعض من الكل كقوله: " * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *).
* (قال الله) * * (ومن كفر فأمتعه قليلا) *) فسأرزقه الى منتهى أجله لأنه تعالى وعد الرزق للخلق كافة كافرهم ومؤمنهم وقيد بالقلة لأن متاع الدنيا قليل. قرأ معاوية وابن عامر: فأمتعه بضم الألف وجزم الميم خفيفة، وقرأ أبي: فنمتعه قليلا ثم نضطره بالنون.
" * (ثم أضطره) *) موصولة الألف مفتوحة الراء على عهد الدعاء من إبراهيمج، وقرأ الباقون: فأمتعه بضم الألف مشددة ثم اضطره على الخبر أي الجنة في الآخرة " * (إلى عذاب النار وبئس المصير) *) أي المرجع تصير إليه.
" * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) *) روى الرواة من أسانيد مختلفة في بناء الكعبة جمعت حديثهم ونسقته ليكون أحسن في المنطق وأقرب إلى الفهم.
قالوا: خلق الله عز وجل موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، فكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها. فلما أهبط الله عز وجل آدم إلى الأرض كان رأسه يمس السماء حتى صلع وأورث أولاده الصلع ونفرت من طوله دواب الأرض فصارت وحشا من يومئذ، وكان يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم وتسبيحهم، يأنس إليهم فهابته الملائكة واشتكت نفسه. فنقصه الله عز وجل إلى ستين ذراعا بذراعه. فلما فقد آدم ما كان يسمع من أصوات الملائكة وتسبيحهم استوحش، وشكا ذلك إلى الله عز وجل. فأنزل الله ياقوتة من يواقيت الجنة الكلام مقطوع له بابان من زمرد أخضر باب شرقي وباب غربي فأنزل الله فيه قناديل من الجنة. فوضعه على موضع البيت إلى الآن ثم قال: يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي.
فأنزل عليه الحجر. فمسح به دموعه وكان أبيض فلما لمسته الحيض في الجاهلية أسود.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الحجر ياقوتة من يواقيت الجنة ولولا ما مسه المشركون بأنجاسهم ما مسه ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى).
فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشيا وقيض الله له ملكا يدله على البيت
273

قيل لمجاهد: يا أبا الحجاج ألا كان يركب؟
قال: فأي شيء كان يحمله فوالله إن خطوه مسيرة ثلاثة أيام وكل موضع وضع عليه قدمه عمران وما تعداه مفاوز وقفار فأتى مكة وحج البيت وأقام المناسك فلما فرغ تلقته الملائكة فقالوا: برحجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
قال ابن عباس: حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فهذا بدء أمر الكعبة فكانت على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، وبعث الله جبرائيل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة عن الغرق فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيمج ثم إن الله تعالى أمر إبراهيمج بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت له يعبد ويذكر فيه فلم يدر إبراهيم أين خبيء فسأل الله تعالى أن يبين له موضعه فبعث الله إليه السكينة ليدله على موضع البيت وهي ريح جموح لها رأسان شبه الحية فتبعها إبراهيم إلى أن أتيا مكة فطوق الله السكينة على موضع البيت كتطويق الحية الحجفة وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فبناه وهذا قول علي والحسن بن أبي الحسن، وقال ابن عباس: بعث الله سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلمات إلى أن وافت مكة ووقفت على موضع البيت، ونودي: أن يا إبراهيم ابني على ظلها لا يزد ولا تنقص فبنى بخيالها.
وقال بعضهم: أرسل الله جبرائيل ليدله على موضع فذلك قوله " * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) *) فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت، جعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة.
قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن محمد بن أحمد القطان البلخي وكان عالما بالقرآن يقول: كان إبراهيم يفهم بالسريانية وإسماعيل بالعربية وكل واحد منهما يعرف ما يقول صديقه وما يمكن التفوه به وكان إبراهيم يقول لإسماعيل: هبلي كنيا يعني: ناولني الحجر، ويقول إسماعيل: هاك الحجر خذه.
قالوا: فبقي موضع الحجر فذهب إسماعيل إليه فجاء جبرئيل بحجر من السماء فأتى إسماعيل وقد ركب إبراهيم الحجر في موضعه فقال له: من آتاك بهذا؟
فقال: آتاني به من لم يتكل على بناءك فأقاما البيت فذلك قوله: " * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) *).
قال ابن عباس: يعني أصول البيت التي كانت قبل ذلك.
274

الكلبي وأبو عبيدة: أساسه واحدته قاعدة فبنياه من خمسة أجبل طور سيناء (... وطور سينا والجودي) وبنيا قواعده من حراء، فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل: جئني بحجر حسن يكون للناس علما فأتاه بحجر فقال له: جئني بحجر أحسن من هذا، فمضى إسماعيل بطلبه فصاح أبو قبيس يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود ووضعه مكانه.
وقيل: إن الله تعالى مد لإبراهيم وإسماعيل بسبعة أملاك يعينونهما على بناء البيت فلما فرغا من بنائه قالا: " * (ربنا تقبل) *) أي تقبل منا بناءنا البيت. " * (إنك أنت السميع العليم) *) بنياتنا.
" * (ربنا واجعلنا مسلمين) *) موحدين مطيعين مخلصين " * (لك) *).
وقرأ عون بن أبي جميلة: مسلمين بكسر الميم على الجمع.
" * (ومن ذريتنا) *) أولادنا " * (أمة مسلمة وأرنا) *) علمنا نظيره قوله " * (لتحكم بين الناس بما أراك الله) *) أي: علمك الله وفيه أربع قراءات:
عبد الله بن مسعود: وأرهم مناسكهم رده إلى الأمة.
وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير ورويس بسكون الراء كل القرآن.
وقرأ أبو عمرو: باختلاس كسره للواو.
وقرأ الباقون: بكسر الراء والأصل فيها أرانا بالهمز فحذفت استخفافا.
فمن قرأ بالجزم قال: ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها واستدل بقول السدي: أرنا أداوة عبد الله نملأها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا.
ومن كسر فأنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء.
وأما أبو عمرو فطلب الخفة.
وأخبر القاسم بن سلام عن شجاع بن أبي نصر قال، وكان أمينا صدوقا: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فذكره أشياء من حرف أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين أحدهما هذا والأخر: ما ننسخ من آية أو ننسأها مهموزة.
" * (مناسكنا) *) شرائع ديننا وإعلام حجتنا.
وقال مجاهد: مذابحنا والنسك: الذبيحة، وأصل النسك: العبادة يقال للعابد ناسك قال
275

الشاعر:
وقد كنت مستورا كثير تنسك
فهتكت أستاري ولم يبق لي نسكا
فأجاب الله دعاءهما وبعث جبرئيل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال لإبراهيم: عرفت يا إبراهيم؟
قال: نعم فسمي الوقت عرفه والموضع عرفات.
" * (وتب علينا) *) تجاوز عنا وارجع علينا بالرأفة والرحمة.
" * (إنك أنت التواب) *) المتجاوز الرجاع بالرحمة على عبادك. * (الرحيم) * * (ربنا وابعث فيهم) *) أي في الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل.
وقيل: في أهل مكة " * (رسولا) *) أي مرسلا وهو فعول من الرسالة.
وقال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم ناقة مرسال ورسله إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النواق.
ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل وجمعه أرسال.
ويقال: جاء القوم ارسالا أي: بعضهم في أثر بعض، ومنه قيل للبن رسلا لأنه يرسل من الضرع.
" * (يتلوا) *) يقرأ " * (عليهم آياتك) *) كتابك جمع الأية وهي العلامة.
وقيل: الآية جماعة الحروف.
وقال الشيباني: هي قولهم: خرج القوم بمافيهم أي بجماعتهم.
" * (ويعلمهم الكتاب والحكمة) *) فقال بعضهم: الآية هاهنا الكتاب فنسق عليه خلاف اللفظين كقول الحطيئة:
ألا حبذا هند وأرض بها هند
وهند تفصيل اتى من دونها النأي والبعد
مجاهد: يعني الحكمة فهم القرآن.
مقاتل: هي مواعظ القرآن وما فيه من الأحكام وبيان الحلال والحرام.
ابن قتيبة: هي العلم والعمل ولا يسمى الرجل حكيما حتى يجمعهما.
وعن أبي بكر محمد بن الحسن البريدي: كل كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى
276

مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم، ومنه قول النبيصلى الله عليه وسلم (إن من الشعر لحكمة).
وعن أبي جعفر محمد بن يعقوب: الحكمة كل صواب من القول ورث فعلا صحيحا أو حالا صحيحا.
يحيى بن معاذ: الحكمة جند من جنود الله يرسلها إلى قلوب العارفين حتى يروح عنها وهج الدنيا، وقيل: هي وضع الأشياء مواضعها، وقيل: الحكمة والحكم كلما وجب عليك فعله.
قال الشاعر:
قد قلت قولا لم يعنف قائله
الصمت حكم وقليل فاعله
أي واجب العمل بالصمت.
وقيل: هي الشرك والذنوب، وقيل: أخذ زكاة أموالهم.
وقال ابن كيسان: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا الأنبياء بالبلاغ، دليله قوله تعالى: * (كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * * (إنك أنت العزيز) *) ابن عباس: العزيز الذي لا يوجد مثله، بيانه قوله: " * (ليس كمثله شيء) *).
الكلبي: العزيز المنتقم ممن يشاء بيانه قوله " * (والله عزيز ذو انتقام) *).
الكسائي: العزيز الغالب بيانه قوله " * (وعزني في الخطاب) *): أي غلبني.
وقيل في المثل: من عزيز.
ابن كيسان: العزيز الذي لا يعجزه شيء بيانه قوله: " * (وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض) *).
المفضل بن سلمة: العزيز المنيع الذي لا تناله الأيدي فلا يرد له أمر ولا يغلب فيما أراد بيانه قوله " * (إن ربك فعال لما يريد) *))
.
277

وقيل: بمعنى المعز فعيل بمعنى مفعل بيانه قوله " * (وتعز من تشاء) *).
وقيل: هو القوي بيانه قوله " * (فعززنا بثالث) *) أي قوينا. فأصل العزة في اللغة الشدة يقال تعزز لحم الناقة إذا إشتد ويقال: عز علي أي شق علي وأشتد، وأنشد أبو عمرو:
أجد إذا ضمرت تعزز لحمها
وإذا نشد بتسعها لا تيئس
فاستجاب الله دعاء إبراهيم وبعث فيهم محمدا سيد الأنبياء ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمجدل في طينة وسوف أنبئكم بذلك دعوة إبراهيم وبشارة عيسى (عليهما السلام) قومه، ورؤيا أمي التي رأت إنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمهات النبيين).
سعيد بن سويد عن العرياض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) *) الآية.
وذلك إن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجر إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما إن الله عز وجل قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجرا أن يسلم فأنزل الله تعالى.
(* (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه فى الاخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب يابنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون * أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلاهك وإلاه آبآئك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلاها واحدا ونحن له مسلمون * تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون) *) 2
" * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) *) أي يترك دينه وشريعته.
يقال: رغب في الشيء إذا أردته ورغبت عنه إذا تركته.
وأصل الرغبة: رفع الهمة عن الشيء وإليه يقال: رغب فلان في فلان وإليه إذا همت نفسه إليه، والأصل فيه الكرة فمعنى قوله تعالى " * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) *) أي يرفع همته عنها " * (إلا من سفه نفسه) *).
278

قال ابن عباس: حير نفسه.
حيان عن الكلبي: ظل من (جهة) نفسه.
أبو روق: عجز رأيه عن نفسه.
يمان: حمق رأيه، ونفسه منصوب في هذه الأقاويل بنزع حرف الصفة.
وقال الفراء: نصب على التفسير، والأصل: سفهت نفسه فلما أضاف الفعل إلى صاحبها خرجت النفس مفسرة ليعلم موضع السفه كما يقال: ضقت به ذرعا معناه: ضاق ذرعي به، ويقال: ألم زيد رأسه ووجع بطنه.
وقال أبو عبيدة: سفه نفسه: أي أوبق نفسه وأهلكها.
هشام وابن كيسان: جهل نفسه.
وحكى المفضل بن سلمة عن بعضهم سفه. حقر نفسه.
والنفس على هذه الأقوال نصب لوقوع الفعل عليه وهذا كما جاء في الخبر: (من عرف نفسه فقد عرف ربه).
وأصل السفه والسفاهة: الخفة والجهل وضعف الرأي يقال سفه يسفه وسفه يسفه.
" * (ولقد اصطفيناه) *) اخترناه " * (في الدنيا) *) وأصل الطاء فيه تاء حولت طاء لقرب مخرجيها ولتطوع اللسان به.
" * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) *) الفائزين. قال الزجاج وقال ابن عباس: يعني مع آبائه الأنبياء في الجنة بيانه قوله: خطابه عن يوسف " * (توفني مسلما
وألحقني بالصالحين) *).
وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها لقد إصطفيناه في الدنيا والآخرة بأنه لمن الصالحين نظيرها في سورة النحل. " * (إذ قال له ربه أسلم) *) أي استقم على الإسلام أو أثبت عليه لأنه كان مسلما كقوله تعالى " * (فاعلم إنه لا إله إلا الله) *) أي أثبت على علمك.
وقال ابن عباس: إنما قال له ذلك حين ألقي في النار، وعن ابن كيسان: أخلص دينك لله بالتوحيد.
عطاء: أسلم نفسك إلى الله، وفوض أمورك لله، وقيل: إخضع وإخشع.
279

* (قال أسلمت لرب العالمين) * * (ووصى) *) في مصحف عبد الله: فوصى، وقال أهل المدينة والشام: وأوصى بالألف، وكذلك هو في مصاحفهم.
قال أبو عبيد: وكذلك رأيت في مصحف عثمان، وقرأ الباقون (ووصى) مشددا، وهما لغتان، يقال: أوصيته قد وصيته به إذا أمرته به مثل: أنزل ونزل. قال الله " * (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) *)، وتصديق الإيصاء قوله " * (يوصيكم الله) *)، وقوله " * (يوصين) *)، ودليل التوصية قوله " * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) *)، وقوله " * (فلا يستطيعون توصية) *).
الكلبي ومقاتل: يعني كلمة الأحاد لا إله إلا الله، وقال أبو عبيدة: إن شئت رددت الكناية إلى الملة لأنه ذكر ملة إبراهيم وأن شئت رددتها إلى الوصية.
وقال المفضل: بالطاعة كناية عن غير مذكور، كقوله " * (حتى توارت بالحجاب) *)، وقال طرفة:
على مثلها الحواء إذا قال صاحبي
ألا ليتني أفديك عنها وافتدي
أي من الفلاة.
" * (بها إبراهيم بنيه) *) التمنية: إسماعيل وأمه هاجر القبطية، وإسحاق وأمه سارة، ومدين و (... سراين) ونقشان، وآتون، ويشبق، وشوخ، وأمهم جميعا قطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة.
وقوله تعالى " * (ويعقوب) *) وسمي بذلك لأنه والعيص كانا توأمين فتقدم عيص في الخروج من بطن أمه وخرج يعقوب على أثره فأخذ يعقبه. قاله ابن عباس وقد مضت القصة.
وقيل: سمي يعقوب لكثرة عقبه، وعن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل).
ومعنى الآية: ووصى بها أيضا، ويعقوب: بنيه الاثني عشر وهم روفيل أكبر ولده وشمعون ولاوي وهودا وفريالون وسجر ودان ومفتالي وجاد واشرب ويوسف وابن يافين.
280

" * (يا بني) *) معناه أن يا بني، وكذلك في قراءة أبي وابن مسعود، وقال الفراء: إنما قال ذلك لأن الوصية قول وكان تقديره وقال: يا بني كقوله " * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) *) أي وقال لهم لأن العبرة بالقول وقال " * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر) *) معناه ويقول للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال الشاعر:
إني سأبدي لك فيما أبدي
من شجنان شجن نجد وشجن لي ببلاد الهند
أي وأقول لأن الابداء في المعنى كالقول باللسان.
وحكى ابن مجاهد عن بعضهم ويعقوب أيضا نسقا على بنيه لأنه في جملة الموصين.
" * (إن الله اصطفى لكم الدين) *) اختار لكم الإسلام.
" * (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *) مؤمنون وقيل: مخلصون وقيل: مفوضون وعن الفضيل ابن عياض في قوله: " * (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *) أي محسنون بربكم الظن.
" * (أم كنتم شهداء) *) حضورا.
" * (إذ حضر يعقوب الموت) *) الآية نزلت في اليهود حين قالوا للنبيصلى الله عليه وسلم ألست تعلم إن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟ وعلى هذا القول (......) بن الخطاب لليهود.
وقال الكلبي: لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران فجمع ولده وخاف عليهم ذلك.
" * (إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي) *) قال عطاء: إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره بين الموت والحياة فلما خير يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل الله ذلك به، فجمع ولده وولد ولده وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ أي من بعد موتي.
" * (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم) *) الآية، وقرأ أبي: إلهك وإله إبراهيم وإسماعيل.
وقرأ يحيى بن يعمر الجحدري: وإله أبيك على الواحد، قالوا: لأن إسماعيل عم يعقوب لا أبوه.
وقرأ العامة: آبائك على الجمع وقالوا: عم الرجل صنو أبيه.
281

قال النبي صلى الله عليه وسلم (هذا بقية آبائي)، وقال أيضا: (ردوا علي أبي فإني أخشى أن يفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود). يعني العباس.
والعرب تسمي العم أبا وتسمي الخالة أما قال الله تعالى " * (ورفع أبويه على العرش) *) يعني يعقوب وليا وهي خالة يوسف.
" * (إلها واحدا) *) أي نعرفه ونعبده إلها واحدا.
* (ونحن له مسلمون) * * (تلك أمة) *) جماعة " * (قد خلت لها ما كسبت) *) من الدين والعمل.
" * (ولكم ما كسبتم) *) منها.
" * (ولا تسئلون عما كانوا يعملون) *) وإنما تسألون عما تعملون أنتم.
(* (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قولوا ءامنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ومآ أوتى موسى وعيسى ومآ أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن ءامنوا بمثل مآ ءامنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم فى شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) *) 2
" * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) *) قال ابن عباس: نزلت في رؤوس يهود أهل المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن المصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب وفي نصارى أهل نجران: السيد والعاقب وأصحابهما وذلك إنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم إنها أحق بدين الله من غيرها فقالت اليهود ديننا خير الأديان ونبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وكفرت بعيسى والأنجيل ومحمد والقرآن.
وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفرت بمحمد والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك دعوهم إلى دينهم إلا الحنيفية. فقال الله تعالى: قل يا محمد " * (بل ملة) *) أي بل نتبع ملة " * (إبراهيم) *) وقرأ الأعرج: (بل مل) ة رفعا على الخبر.
" * (حنيفا) *) نصب على القطع. أراد بل ملة إبراهيم الحنيف فلما اسقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة. فانقطع منه فنصب قاله نحاة الكوفة، وقال أهل البصرة: نصب على الحال قال ابن عباس: الحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وأصلها من الحنف وهو ميل وعوج في القدم ومنه سمي أحنف بن قيس
282

مقاتل: مخلصا.
كثير بن زياد قال: سألت الحسن عن الحنيفية فقال: هي حج هذا البيت.
الضحاك: إذا كان مع الحنيف المسلم فهو الحاج، وإذا لم يكن فهو المسلم.
قتادة: من الحنيفية الختان، وترك نكاح الأخت.
" * (وما كان من المشركين) *) علم المسلمين مجرى التوحيد وطريق الأيمان. فقال " * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) *) يعني القرآن " * (وما أنزل إلى إبراهيم) *) وهو عشر صحف.
" * (وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط) *) يعني أولاد يعقوب واحدهم سبط. سموا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة من الناس وسبط الرجل حافده، ومنه قيل للحسن والحسين (عليهما السلام) سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب، والشعوب من العجم.
وعن أبي سعيد الضرير: إن أصل السبط في اللغة شجرة ملتفة كثيرة الأغصان فسمي الأسباط بها لكثرتهم. فكما إن الأغصان من شجرة واحدة كذلك الأسباط كانوا من يعقوب، وكان في الأسباط أنبياء، وكذلك قال " * (وما أنزل إليهم) *) وقيل: هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلهم أنبياء.
" * (وما أوتي موسى) *) يعني التوراة.
" * (وعيسى) *) الإنجيل. " * (وما أوتي) *) أعطي.
" * (النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم) *) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.
" * (ونحن له مسلمون) *) فلما نزلت هذه الآية قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى وقال: (إن الله أمرني بهذا) فلما سمعت اليهود بذكر عيسى أنكروا وكفروا به وكفرت النصارى وقالوا: لأن عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء ولكنه ابن الله فأنزل الله تعالى " * (فإن آمنوا) *) يعني اليهود النصارى.
" * (بمثل ما آمنتم به) *) أي بجميع ما آمنتم كإيمانكم، وقيل مثل صلة أي بما آمنتم به، وهكذا كان يقرأها ابن عباس ويقول: إقرؤا (فإن آمنوا بما آمنتم به) فليس لله مثل ونظيره قوله: " * (وليس كمثله شيء) *): أي كهو. قال الشاعر:
يا عاذلي دعني من عذلكا
مثلي لا يقبل من مثلكا
أي أنا لا أقبل منك
283

" * (فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق) *) قال ابن عباس وعطاء والأخفش: في خلاف يقال: شاق يشاق مشاقة إذا خالف كان كل واحد أخذ في شق غير شق صاحبه دليله قوله " * (لا يجرمنكم شقاقي) *) أي خلافي وأنشد:
فكان إليها والذي إصطاد بكرها
شقاقا وبعضهن أو لطم وأهجرا
وقال ابن سلمة والسدي: في عداوة كان كل واحد منهما أخذ في شق صاحبه أي في جهده وما يشق عليه من قوله " * (إلا بشق الأنفس) *) دليله قوله: " * (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) *) أي عادوا الله ورسوله.
قال بشر بن أبي حازم:
وإلا فاعلموا انا وأنتم
بغاة ما حيينا في شقاق
أي في عداوة.
مقاتل وأبو عبيدة: في ضلال واختلاف بيانه قوله " * (وإن خفتم شقاق بينهما) *) أي اختلاف بينهما.
قال الشاعر:
إلى كم نقتل العلماء قسرا
ونفجر بالشقاق وبالنفاق
أي بالضلال والاختلاف.
الكسائي: هي خلع الطاعة بيانه قوله " * (ومن يشاقق الرسول) *).
الحسن: في بعاد وفراق إلى يوم القيامة.
" * (فسيكفيكهم الله) *) يا محمد يعني اليهود والنصارى.
" * (وهو السميع) *) لأقوالهم.
" * (العليم) *) بأحوالهم وكفاهم الله تعالى أمرهم بالقتل والسبي في بني قريظة والجلاء والنفي في بني النضير والجزية والذلة في نصارى نجران.
284