الكتاب: زاد المسير
المؤلف: ابن الجوزي
الجزء: ٧
الوفاة: ٥٩٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد بن عبد الرحمن عبد الله
الطبعة: الطبعة الأولى
سنة الطبع: جمادى الأولى ١٤٠٧ - كانون الثاني ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: تخريج الأحاديث أبو هاجر السعيد بن بسيوني زغلول

زاد المسير
في علم التفسير
للإمام
أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد
الجوزي القرشي البغدادي
المتوفى سنة 597 ه‍
حققه وكتب هوامشه
محمد بن عبد الرحمن عبد الله
دكتوراه في علوم القرآن
أستاذ بكلية الدراسات الإسلامية بالأزهر
خرج أحاديثه
أبو هاجر
السعيد بن بسيوني زغلول
الجزء السابع
سورة الزمر - سورة الحشر
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

جميع حقوق إعادة الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
جمادى الأولى 1407 ه‍ - كانون الثاني 1987 م
2

(39) سورة الزمر مكية
وآياتها خمس وسبعون
وتسمى سورة الغرف
فصل في نزولها
روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة،
وقتادة، وجابر بن زيد. وروي عن ابن عباس أنه قال: فيها آيتان نزلتا بالمدينة: قوله: (الله نزل
أحسن الحديث) وقوله: (يا عبادي الذين أسرفوا) وقال مقاتل: فيها من المدني (قل يا
عبادي الذين أسرفوا...) وقوله: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) وفي رواية أخرى
عنه قال: فيها آيتان مدنيتان (يا عبادي الذين أسرفوا) وقوله: (يا عبادي الذين آمنوا اتقوا
ربكم) وقال بعض السلف: فيها ثلاث آيات مدنيات (قل يا عبادي الذين أسرفوا) إلى قوله:
(وأنتم لا تشعرون).
بسم الله الرحمن الرحيم
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (1) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله
مخلصا له الدين (2) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا
ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب
كفار (3) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد
القهار (4)
3

قوله تعالى: (تنزيل الكتاب) قال الزجاج: الكتاب هاهنا القرآن، ورفع " تنزيل " من
وجهين:
أحدهما: الابتداء، ويكون الخبر (من الله)، فالمعنى: نزل من عند الله.
والثاني: على إضمار: هذا تنزيل الكتاب، و (مخلصا) منصوب على الحال، فالمعنى:
فاعبد الله موحدا لا تشرك به شيئا.
قوله تعالى: (ألا لله الدين الخالص) يعني: الخالص من الشرك، وما سواه ليس بدين الله
الذي أمر به، وقيل: المعنى: لا يستحق الدين الخالص إلا لله.
(والذين اتخذوا من دونه أولياء) يعني آلهة، ويدخل في هؤلاء اليهود حين قالوا: (عزيز ابن
الله) والنصارى لقولهم: (المسيح ابن الله) وجميع عباد الأصنام، ويدل عليه قوله بعد ذلك:
(لو أراد الله أن يتخذ ولدا).
قوله تعالى: (ما نعبدهم) أي: يقولون: ما نعبدهم (إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أي: إلا
ليشفعوا لنا إلى الله. والزلفى: القربى، وهو اسم أقيم مقام المصدر، فكأنه قال: إلا ليقربونا إلى الله
تقريبا.
(إن الله يحكم بينهم) أي: بين أهل الأديان فيما كانوا يختلفون فيه من أمر الدين. وذهب
قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك.
قوله تعالى: (إن الله لا يهدي) أي: لا يرشد (ممن هو كاذب) في قوله: إن الآلهة تشفع
(كفار) أي: كافر باتخاذها آلهة، وهذا إخبار عمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية.
(لو أراد الله أن يتخذ ولدا) أي: على ما يزعم من ينسب ذلك إلى الله (لاصطفى) أي:
لاختار مما يخلق. قال مقاتل: أي: من الملائكة.
خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل
وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار (5)
قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق) أي: لم يخلقهما لغير شيء.
4

[قوله تعالى]: (يكور الليل على النهار) قال أبو عبيدة: يدخل هذا على هذا. قال ابن
قتيبة: وأصل التكوير: اللف، ومنه كور العمامة. وقال غيره. التكوير: طرح الشيء بعضه على
بعض.
[قوله تعالى]: (وسخر الشمس والقمر) أي: ذللهما للسير على ما أراد (كل يجري
لأجل مسمى) أي: إلى الأجل الذي وقت الله للدنيا. وقد شرحنا معنى العزيز في البقرة
ومعنى الغفار في طه.
خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج
يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك
لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)
قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة) يعني آدم (ثم جعل منها زوجها) أي: قبل
خلقكم جعل منها زوجها، لأن حواء خلقت قبل الذرية، ومثله في الكلام أن تقول: قد أعطيتك
اليوم شيئا، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر، هذا اختيار الفراء. وقال غيره: ثم أخبركم أنه خلق منها
زوجها (وأنزل لكم من الأنعام) أي: خلق (ثمانية أزواج)، وقد بيناها في سورة
الأنعام.
[قوله تعالى]: (خلقا من بعد خلق) أي: نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظما ثم لحما ثم
أنبت الشعر، إلى غير ذلك من تقلب الأحوال إلى إخراج الأطفال، هذا قول الجمهور. وقال ابن
زيد: خلقا في البطون من بعد خلقكم في ظهر آدم.
قوله تعالى: (في ظلمات ثلاث) ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، قاله
الجمهور، وابن زيد معهم. وقال أبو عبيدة: إنها ظلمة صلب الأب، وظلمة بطن المرأة، وظلمة
الرحم.
قوله تعالى: (فأنى تصرفون) أي: من أين تصرفون عن طريق الحق بعد هذا البيان؟!
5

إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم
ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعلمون إنه عليم
بذات الصدور (7)
[قوله تعالى] (إن تكفروا فان الله غني عنكم) أي: عن إيمانكم وعبادتكم (ولا يرضى
لعباده الكفر) فيه قولان.
أحدهما: لا يرضاه للمؤمنين، قاله ابن عباس.
والثاني: لا يرضاه لأحد وإن وقع بإرادته، وفرق بين الإرادة والرضى، وقد أشرنا إلى هذا
في البقرة عند قوله: (والله لا يحب الفساد).
(وإن تشكروا يرضه لكم) أي: يرضى ذلك الشكر لكم، (إنه عليم بذات الصدور)
أي: بما في القلوب.
وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه
من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب
النار (8)
قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر) اختلفوا فيمن نزلت على قولين.
أحدهما: في عتبة بن ربيعة، قاله عطاء.
والثاني: في أبي حذيفة بن المغيرة، قاله مقاتل. والضر: البلاء والشدة.
(منيبا إليه) أي: راجعا إليه من شركه. (ثم إذا خولة) أي: أعطاه وملكه (نعمة
منه) بعد البلاء الذي أصابه، كالصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر (نسي) أي: ترك ما كان
يدعو إليه، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله تعالى.
والثاني: نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه.
والثالث: نسي الله الذي كان يتضرع إليه. قال الزجاج: وقد تدل " ما " على الله عز وجل
6

كقوله: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وقال الفراء: ترك ما كان يدعو إليه. وقد سبق معنى
الأنداد ومعنى (ليضل عن سبيل الله).
قوله تعالى: (قل تمتع بكفرك) لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد، ومثله: (فتمتعوا فسوف
تعلمون).
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب (9) قل يا عباد الذين آمنوا
اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون
أجرهم بغير حساب (10)
قوله تعالى: (أمن هو قانت) قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وأبو جعفر،
والمفضل عن
عاصم، وزيد عن يعقوب: " أمن " بالتخفيف، وقرأ الباقون: بالتشديد. فأما المشددة،
فمعناها: أهذا الذي ذكرنا خير، أمن هو قانت؟ والأصل في
" أمن ": أم من، فأدغمت الميم في الميم. وأما المخففة، ففي تقديرها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بمعنى النداء. قال الفراء: فسرها الذين قرؤوا بها فقالوا: يامن هو قانت،
وهو وجه حسن، والعرب تدعو بالألف كما تدعوا بياء، فيقولون: يا زيد أقبل، و: أزيد أقبل،
فيكون المعنى: أنه ذكر الناسي الكافر، ثم قص قصة الصالح بالنداء، كما تقول: فلان لا يصوم ولا يصلي،
فيا من يصوم أبشر.
والثاني: أن تقديرها: أمن هو قانت كمن ليس بقانت؟!
والثالث: أمن هو قانت كمن جعل لله أندادا؟!
وقد ذكرنا معنى القنوت في البقرة ومعنى (آناء الليل) في [سورة] آل عمران.
(قوله تعالى: (ساجدا وقائما) يعني في الصلاة. وفيمن نزلت فيه هذه الآية خمسة أقوال:
أحدها: أنه أبو بكر الصديق، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: عثمان بن عفان، قاله ابن عمر.
7

والثالث: عمار بن ياسر، قاله مقاتل.
والرابع: ابن مسعود، وعمار، وصهيب، وأبو ذر، قاله ابن السائب.
والخامس: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه يحيى بن سلام.
قوله تعالى: (يحذر الآخرة) أي: عذاب الآخرة. وقد قرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب
وابن عباس، وعروة، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأبو عمران: " يحذر عذاب الآخرة " بزيادة
" عذاب ".
(ويرجو رحمة ربه) فيها قولان:
أحدهما: أنها المغفرة، قاله ابن السائب.
والثاني: الجنة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (هل يستوي الذي يعلمون) أن ما وعد الله من الثواب والعقاب حق
(والذين لا يعلمون) وباقي الآية قد تقدم في الرعد، وكذلك قوله: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا
حسنة) قد تقدم في النحل.
وفي قوله: (وأرض الله واسعة) قولان.
أحدهما: أنه حث لهم على الهجرة من مكة إلى حيث يأمنون.
والثاني: أنها أرض الجنة رغبهم فيها.
(إنما يوفى الصابرون) الذين صبروا لأجل الله تعالى على ما نالهم (بغير حساب) أي: يعطون
عطاء كثيرا أوسع من أن يحسب وأعظم من أن يحاط به، لا على قدر أعمالهم.
قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين (11) وأمرت لأن أكون أول المسلمين (12)
قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (13) قل الله أعبد مخلصا له ديني (14)
فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا
ذلك هو الخسران المبين (15) لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف
الله به عباده يا عباد فاتقون (16) والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله
لهم البشرى فبشر عباد (17) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين
8

هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب (18)
قوله تعالى: (قل إني أمرت) قال مقاتل: وذلك أن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما
حملك على الذي أتيتنا به؟! ألا تنظر إلى ملة آبائك فتأخذ بها؟! فنزلت هذه الآية، والمعنى:
(قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) أي: أمرت أن أعبده على التوحيد والإخلاص
السالم من الشرك، (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) من هذه الأمة.
(قل إني أخاف إن عصيت ربي) بالرجوع إلى دين آبائي (عذاب يوم عظيم) وقد
اختلفوا في نسخ هذه الآية كما بينا في نظيرتها في الأنعام.
(قل الله أعبد مخلصا له ديني) بالتوحيد، (فاعبدوا ما شئتم)، وهذا تهديد، وبعضهم
يقول: هو منسوخ بآية السيف، وهذا باطل، لأنه لو كان أمرا، كان منسوخا، فأما أن يكون بمعنى
الوعيد، فلا وجه لنسخه.
(قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم) بأن صاروا إلى النار (و) خسروا (أهليهم) فيه ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنهم خسروا الحور العين اللواتي أعددن ما لهم في الجنة لو أطاعوا، قاله الحسن،
وقتادة.
والثاني: خسروا الأهل في النار، إذ لا أهل لهم فيها، قاله مجاهد، وابن زيد.
والثالث: خسروا أهليهم الذين كانوا في الدنيا، إذ صاروا إلى النار بكفرهم، وصار أهلوهم
إلى الجنة بإيمانهم، قاله الماوردي.
قوله تعالى: (لهم من فوقهم ظلل من النار) وهي الأطباق من النار. وإنما قال: (ومن
تحتهم ظلل) لأنها ظلل لمن تحتهم (ذلك) الذي وصف الله من العذاب (يخوف الله به عباده)
المؤمنين.
قوله تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت) روى ابن زيد عن أبيه أن هذه الآية والتي بعدها
نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يوحدون الله تعالى: زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر،
9

وسلمان الفارسي، رضي الله عنهم، قال: (أولئك الذين هداهم الله) بغير كتاب ولا نبي.
وفي المراد بالطاغوت هاهنا ثلاثة أقوال.
أحدها: الشياطين، قاله مجاهد.
والثاني: الكهنة، قاله ابن السائب.
والثالث: الأوثان، قاله مقاتل، فعلى قول مقاتل هذا: إنما قال: " يعبدوها " لأنها مؤنثة.
وقال الأخفش: إنما قال: " يعبدوها " لأن الطاغوت في معنى جماعة، وإن شئت جعلته واحدا
مؤنثا.
قوله تعالى: (وأنابوا إلى الله) أي: رجعوا إليه بالطاعة (لهم البشرى) بالجنة (فبشر
عبادي) بباء، وحرك الياء أبو عمرو.
ثم نعتهم فقال: (الذين يستمعون القول) وفيه قولان:
أحدها: أنه القرآن، قاله الجمهور. فعلى هذا، في معنى (فيتبعون أحسنه) أقوال قد
شرحناها في [سورة] الأعراف عند قوله: (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها).
والثاني: أنه جميع الكلام. ثم في المعنى قولان. أحدهما: أنه الرجل يجلس مع القوم
فيسمع كلامهم، فيعمل بالمحاسن ويحدث بها، ويكف عن المساوئ، ولا يظهرها، قاله ابن
السائب. والثاني: أنه لما ادعى مسيلمة أنه قد أتى بقرآن، وأتت الكهنة بالكلام المزخرف في
الأباطيل، فرق المؤمنون بين ذلك وبين كلام الله، فاتبعوا كلام الله، ورفضوا أباطيل أولئك، قاله
أبو سليمان الدمشقي.
أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار (19) لكن الذين اتقوا ربهم لهم
غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد (20)
قوله تعالى: (أفمن حق عليه كلمة العذاب) قال ابن عباس: سبق في علم الله أنه في
النار.
فإن قيل: كيف اجتمع في هذه الآية استفهامان بلا جواب؟
قيل: أما الفراء، فإنه يقول: هذا مما يراد به استفهام واحد، فسبق الاستفهام إلى غير
10

موضعه فرد إلى موضعه الذي هو له، فيكون المعنى: أفأنت تنقذ من في النار من حقت عليه كلمة
العذاب؟ ومثله: (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) فد " أنكم
مرتين، والمعنى: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم؟ ومثله: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا)
ثم قال: (فلا تحسبنهم) فرد " تحسبن " مرتين، والمعنى: لا تحسبن الذين يفرحون بمفازة
من العذاب. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في الكلام محذوف، تقديره: أفمن حق عليه كلمة
العذاب فيتخلص منه أو ينجو، أفأنت تنقذه؟ قال المفسرون: أفأنت تخلصه مما قدر له فتجعله
مؤمنا؟ والمعنى: ما تقدر على ذلك. قال عطاء: يريد بهذه الآية أبا لهب وولده ومن تخلف من
عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان.
قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا) وقرأ أبو المتوكل، وأبو جعفر " لكن " بتشديد النون
وفتحها. قال الزجاج: والغرف: هي المنازل الرفيعة في الجنة، (من فوقها غرف) أي:
منازل أرفع منها.
(وعد الله) منصوب على المصدر، فالمعنى: وعدهم الله غرفا وعدا. ومن قرأ: " وعد
الله " بالرفع، المعنى: ذلك وعد الله.
ألم تر أن الله من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا
ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب (21)
قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء) قال الشعبي: كل ما في الأرض فمن السماء ينزل
(فسلكه ينابيع) قال ابن قتيبة: أي: أدخله فجعله ينابيع، أي: عيونا تنبع، (ثم يهيج)
أي: ييبس. قال الأصمعي: يقال للنبت إذا تم جفافه: قد هاج يهيج هيجا.
فأما الحطام، فقال أبو عبيدة: هو ما يبس فتحات من النبات، ومثله الرفات. قال مقاتل:
هذا مثل ضرب للدنيا، بينا ترى النبت أخضر، إذ تغير فيبس ثم هلك، وكذلك الدنيا وزينتها.
وقال غيره: هذا البيان للدلالة على قدرة الله عز وجل.
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر
11

الله أولئك في ضلال مبين (22)
قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره) قال الزجاج: جوابه متروك، لأن الكلام دال عليه.
تقديره: أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد؟ ويدل على هذا قوله: (فويل
للقاسية قلوبهم)، وقد روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، فقلنا: يا رسول الله وما
هذا الشرح؟ فذكر حديثا قد ذكرناه في قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام).
قوله تعالى: (فهو على نور) فيه أربعة أقوال.
أحدها: اليقين، قاله ابن عباس.
والثاني: كتاب الله يأخذ به وينتهي إليه، قاله قتادة.
والثالث: البيان، قاله ابن السائب.
والرابع: الهدى، قاله مقاتل.
وفيمن نزلت هذه الآية؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في أبي بكر الصديق، وأبي بن خلف، رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني: في علي وحمزة وأبي لهب وولده، قاله عطاء.
والثالث: في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) قد بينا معنى القساوة في البقرة.
فإن قيل: كيف يقسو القلب من ذكر الله عز وجل؟
فالجواب: أنه كلما تلي عليهم ذكر الله الذي يكذبون به، قست قلوبهم عن الإيمان به
وذهب مقاتل في آخرين إلى أن " من " هاهنا بمعنى " عن "، قال الفراء: كما تقول، أتخمت عن
طعام أكلته، ومن طعام أكلته، وإنما قست قلوبهم من ذكر الله، لأنهم جعلوه كذبا فأقسى
قلوبهم، ومن قال: قست قلوبهم عنه، أراد: أعرضت عنه. وقد قرأ أبي بن كعب، وابن
أبي عبلة، وأبو عمران: " قلوبهم عن ذكر الله " مكان قوله: " من ".
نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم
12

ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما
له من هاد (23)
قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث) يعني القرآن، وقد ذكرنا سبب نزولها في أول
[سورة] (يوسف).
قوله تعالى: (كتابا متشابها) فيه قولان:
أحدهما: أن بعضه يشبه بعضا في الآي والحروف، فالآية تشبه الآية، والكلمة تشبه
الكلمة، والحرف يشبه الحرف.
والثاني: أن بعضه يصدق بعضا، فليس فيه اختلاف ولا تناقض.
وإنما قيل له: (مثاني) لأنه كررت فيه القصص والفرائض والحدود والثواب والعقاب.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار القصص، والواحدة قد كانت تكفي؟
فالجواب: أن وفود العرب كانت ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرئهم المسلمون شيئا من
القرآن، فيكون ذلك كافيا لهم، وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة، فلو لم تكن
الأنباء والقصص مثناة مكررة، لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى قوم، وقصة نوح إلى
قوم، فأراد الله تعالى أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويلقيها إلى كل سمع. فأما فائدة
تكرار الكلام من جنس واحد، كقوله [تعالى]: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) [الرحمن]،
وقوله: (لا أعبد ما تعبدون)، وقوله [تعالى]: (أولى لك فأولى) (وما أدارك ما يوم
الدين) فسنذكرها في سورة (الرحمن) عز وجل.
قوله تعالى: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) أي: تأخذهم قشعريرة، وهو تغير
يحدث في جلد الإنسان من الوجل. وروى العباس بن عبد المطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله، تحاتت ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها ".
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال:
13

أحدها: تقشعر من وعيده، وتلين عند وعده، قاله السدي.
والثاني: تقشعر من الخوف، وتلين من الرجاء.
والثالث: تقشعر الجلود لإعظامه، وتلين عند تلاوته، ذكرهما الماوردي.
وقال بعض أهل المعاني: مفعول الذكر في قوله [تعالى]: (إلى ذكر الله) محذوف،
لأنه معلوم، والمعنى: تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله الجنة والثواب. قال قتادة: هذا نعت أولياء
الله، تقشعر جلودهم وتلين قلوبهم، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا في
أهل البدع، وهذا من الشيطان. وقد روى أبو حازم، قال: مر ابن عمر برجل ساقط من أهل
العراق، فقال: ما شأنه؟ فقالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن يصيبه هذا، قال: إنا لنخشى الله عز
وجل، وما نسقط. وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: جئت أبي، فقال لي: أين كنت؟ فقلت:
وجدت قوما، ما رأيت خيرا منهم قط، يذكرون الله عز وجل فيرعد واحدهم حتى يغشى عليه من
خشية الله عز وجل، فقعدت معهم، فقال: لا تقعد معهم بعدها أبدا، قال: فرآني كأني لم يأخذ
ذلك في، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن، ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم
هذا من خشية الله تعالى، أفترى أنهم أخشى لله من أبي بكر وعمر؟ قال: فرأيت ذلك كذلك.
وقال عكرمة: سئلت أسماء بنت أبي بكر: هل كان أحد من السلف يغشى عليه من الخوف؟
قالت: لا، ولكنهم كانوا يبكون. وقال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجدتي أسماء بنت أبي
بكر، كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم
الله تعالى، تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. فقلت لها: إن ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن، خر
أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكان جواب يرعد عند الذكر، فقال
له إبراهيم النخعي: إن كنت تملكه، فما أبالي أن لا أعتد بك، وإن كنت لا تملكه، فقد خالفت
من كان قبلك.
قوله تعالى: (ذلك هدى الله) في المشار إليه قولان:
أحدهما: أنه القرآن، قاله مقاتل.
والثاني: أنه ما ينزل بالمؤمنين عند تلاوة القرآن من اقشعرار الجلود عند الوعيد، ولينها عند
الوعد، قاله ابن الأنباري.
أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون (24)
14

كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (25) فأذاقهم الله الخزي
في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (26) ولقد ضربنا للناس في هذا
القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون (27) قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون (28)
قوله تعالى: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب) أي: شدته. قال الزجاج: جوابه محذوف
تقديره: كمن يدخل الجنة؟ وجاء في التفسير أن الكافر يلقى في النار مغلولا، ولا يتهيأ له أن يتقيها
إلا بوجه.
ثم أخبر عما يقول الخزنة للكفار بقوله [تعالى]: (وقيل للظالمين) يعني الكافرين (ذوقوا ما
كنتم تكسبون) أي: جزاء كسبكم.
قوله تعالى: (كذب الذين من قبلهم) أي: من قبل كفار مكة (فأتاهم العذاب من حيث لا
يشعرون) أي: وهم آمنون غافلون عن العذاب، (فأذاقهم الله الخزي) يعني الهوان والعذاب،
(ولعذاب الآخرة أكبر) مما أصابهم في الدنيا (لو كانوا يعلمون)، ولكنهم لا يعلمون ذلك.
(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن) أي: وصفنا لهم (من كل مثل) أي: من كل شبه يشبه
أحوالهم.
قوله تعالى: (قرآنا عربيا) قال الزجاج: " عربيا " منصوب على الحال، المعنى: ضربنا للناس
في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه، فذكر " قرآنا " توكيدا، كما تقول. جاءني زيد رجلا صالحا،
وجاءني عمرو إنسانا عاقلا، فذكر رجلا وإنسانا توكيدا.
قوله تعالى: (غير ذي عوج) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: غير مخلوق. وقال
غيره: مستقيم غير مختلف.
ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد
لله بل أكثرهم لا يعلمون (29) إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم إنكم يوم القيامة عند
ربكم تختصمون (31)
قوله تعالى: (ضرب الله مثلا) ثم بينه فقال: (رجلا فيه شركاء متشاكسون) قال ابن قتيبة:
أي: مختلفون، يتنازعون ويتشاحون فيه، يقال: رجل شكس. وقال اليزيدي: الشكس من
15

الرجال: الضيق الخلق.
قال المفسرون: وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فإن الكافر يعبد آلهة شتى، فمثله بعبد
يملكه جماعة يتنافسون في خدمته، ولا يقدر أن يبلغ رضاهم أجمعين، والمؤمن يعبد الله وحده،
فمثله بعبد لرجل واحد، قد علم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاكس
الخلطاء فيه، فذلك قوله تعالى: (سالما لرجل) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو إلا عبد الوارث في غير
رواية القزاز، وأبان عن عاصم: " ورجلا سلما " بألف وكسر اللام وبالنصب والتنوين فيهما،
والمعنى: ورجلا خالصا لرجل قد سلم له من غير منازع. ورواه عبد الوارث إلا القزاز كذلك، إلا
أنه رفع الاسمين، فقال: " ورجل سالم لرجل " وقرأ ابن أبي عبلة: " سلم لرجل " بكسر السين ورفع
الميم. وقرأ الباقون: " ورجلا سلما " بفتح السين واللام. فيهما والتنوين. والسلم، بفتح السين
واللام، معناه الصلح، والسلم، بكسر السين مثله. قال الزجاج: من قرأ: " سلما " و " سلما " فهما
مصدران وصف بهما فالمعنى، ورجلا ذا سلم لرجل وذا سلم لرجل، فالمعنى: ذا سلم، والسلم:
الصلح، والسلم، بكسر السين مثله. وقال ابن قتيبة: " سلما لرجل " أراد: سلم إليه فهو سلم له.
وقال أبو عبيدة: السلم والسلم الصلح.
قوله تعالى: (هل يستويان مثلا) هذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا يستويان، لأن الخالص
لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه ما لا يستحقه صاحب الشركاء المتشاكسين. وقيل: لا
يستويان في باب الراحة، لأنه هذا قد عرف الطريق إلى رضى مالكه، وذاك متحير بين الشركاء. قال
ثعلب: وإنما قال: " هل يستويان مثلا " ولم يقل: مثلين، لأنهما جميعا ضربا
مثلا واحدا، ومثله:
(وجعلنا ابن مريم وأمه آية)، ولم يقل: آيتين، لأن شأنهما واحد. وتم الكلام هاهنا، ثم قال:
(الحمد لله) أي: له الحمد دون غيره من المعبودين (بل أكثرهم لا يعلمون) والمراد بالأكثر
الكل.
ثم أخبر نبيه بما بعد هذا الكلام أنه يموت، وأن الذين يكذبونه يموتون، وأنهم يجتمعون
للخصومة عند الله عز وجل، المحق والمبطل، والمظلوم والظالم. وقال ابن عمر: نزلت هذه الآية
وما ندري ما تفسيرها، وما نرى أنها نزلت إلا فينا وفي أهل الكتابين، حتى قتل عثمان، فعرفت أنها
فينا نزلت وفي لفظ آخر: حتى وقعت الفتنة بين علي ومعاوية.
فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى
16

للكافرين، والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33) لهم ما يشاؤن
عند ربهم ذلك جزاء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم
بأحسن الذين كانوا يعملون (35)
قوله تعالى: (فمن أظلم ممن كذب على الله) بأن دعا له ولدا وشريكا (وكذب بالصدق إذ
جاءه) وهو التوحيد والقرآن (أليس في جهنم مثوى للكافرين) أي: مقام للجاحدين؟! وهذا
استفهام بمعنى التقرير، يعني: إنه كذلك.
قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله علي بن أبي طالب، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد. ثم في
الصدق الذي جاء به قولان:
أحدهما: أنه " لا إله إلا الله "، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير.
والثاني: القرآن، قاله قتادة.
وفي الذي صدق به ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا، هو جاء بالصدق، وهو صدق به، قاله ابن عباس، والشعبي.
والثاني: أنه أبو بكر، قاله علي بن أبي طالب.
والثالث: أنهم المؤمنون، قاله قتادة والضحاك، وابن زيد.
والقول الثاني: الذي جاء بالصدق: أهل القرآن، وهو الصدق الذي يجيبون به يوم القيامة،
وقد أدوا حقه، فهم الذين صدقوا به، قاله مجاهد.
والثالث: أن الذي جاء بالصدق الأنبياء، قاله الربيع، فعلى هذا، يكون الذي صدق به:
المؤمنون.
والرابع: أن الذي جاء بالصدق: جبريل، وصدق به: محمد، قاله السدي.
قوله تعالى: (أولئك هم المتقون) أي: الذين اتقوا الشرك، وإنما قيل: " هم "، لأن معنى
" الذي " معنى الجمع، كذلك قال اللغويون، وأنشد أبو عبيدة، والزجاج:
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم، كل القوم، يا أم خالد
قوله تعالى: (ليكفر الله عنهم) المعنى: أعطاهم ما شاؤوا ليكفر عنهم (أسوأ الذي
عملوا)، أي: ليستر ذلك بالمغفرة (ويجزيهم أجرهم) بمحاسن أعمالهم، لا بمساوئها.
17

أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من
هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام (37) ولئن سألتهم من
خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله
بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي
الله عليه يتوكل المتوكلون (38)
قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده) ذكر المفسرون أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، ما
تزال تذكر آلهتنا وتعيبها، فاتق أن تصيبك بسوء، فنزلت هذه الآية. والمراد بعبده هاهنا:
محمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ حمزة، والكسائي: " عباده " على الجمع، وهم الأنبياء، لأن الأمم قصدتهم بالسوء،
فالمعنى أنه كما كفى الأنبياء قبلك يكفيك، وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عمران الجوني:
" بكافي " مثبتة الياء " عبده " بكسر الدال والهاء من غير ألف. وقرأ أبي بن كعب، وأبو العالية، وأبو
الجوزاء، والشعبي مثله، إلا أنهم أثبتوا الألف في " عباده " وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو
جعفر، وشيبة، والأعمش: " بكاف " بالتنوين، " عبادة " على الجمع. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء
العطاردي: " يكافي " بياء مرفوعة قبل الكاف وياء ساكنة بعد الفاء " عباده " على الجمع.
(ويخوفونك بالذين من دونه) أي: بالذين يعبدون من دونه، وهم الأصنام.
ثم أعلم بما بعد هذا أن الإضلال والهداية إليه تعالى، وأنه منتقم ممن عصاه. ثم أخبر أنهم
مع عبادتهم، يقرون أنه الخالق. ثم أمر أن يحتج عليهم بأن ما يعبدون لا يملك كشف ضر ولا
جلب خير.
وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: " كاشفات ضره " و " ممسكات رحمته " منونا. والباقون:
" كاشفات ضره " و " ممسكات رحمته " على الإضافة.
يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون (39) من يأتيه عذاب
يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (40) إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى
18

فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل (41)
قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا) ذكر بعض المفسرين أنها والآية التي تليها نسخت بآية
السيف.
قوله تعالى: (إنا أنزلنا عليك الكتاب) يعني القرآن (للناس) أي: لجميع الخلق (بالحق)
ليس فيه باطل. وتمام الآية مفسر في آخر (يونس)، وذكروا أنه منسوخ بآية السيف.
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت
ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (42)
قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) أي: يقبض الأرواح حين موت أجسادها (والتي
لم تمت) أي: ويتوفى التي لم تمت (في منامها).
(فيمسك) أي: عن الجسد (التي قضى عليها الموت) وقرأ حمزة، والكسائي: " قضي "
بضم القاف وفتح الياء، " الموت " بالرفع.
(ويرسل الأخرى) إلى الجسد (إلى أجل مسمى) وهو انقضاء العمر (إن في ذلك لآيات
لقوم يتفكرون) في أمر البعث. وروى ابن جبير عن ابن عباس قال: تلتقي أرواح الأحياء وأرواح
الأموات في المنام، فيتعارفون ويتساءلون، ثم ترد أرواح الأحياء إلى أجسادها، فلا يخطأ بشيء
منها، فذلك قوله: " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " وقال ابن عباس في رواية أخرى: في ابن
آدم نفس وروح، فبالنفس العقل والتمييز، وبالروح النفس والتحريك، فإذا نام العبد، قبض الله
نفسه ولم يقبض روحه وقال ابن جريج: في الإنسان روح ونفس، بينهما حاجز، فهو تعالى يقبض
النفس عند النوم يردها إلى الجسد عند الانتباه، فإذا أراد إماتة العبد في نومه، لم يرد النفس
وقبض الروح.
وقد اختلف العلماء، هل بين النفس والروح فرق؟ على قولين: قد ذكرتهما في " الوجوه
والنظائر "، وزدت هذه الآية شرحا في باب التوفي في كتاب " النظائر ". وذهب بعض العلماء إلى أن
التوفي المذكور في حق النائم هو نومه. وهذا اختيار الفراء وابن الأنباري: فعلى هذا، يكون معنى
توفي النائم: قبض نفسه عن التصرف، وإرسالها: إطلاقها باليقظة للتصرف.
19

أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل
لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون (44)
قوله تعالى: (أم اتخذوا) يعني كفار مكة.
وفي المراد بالشفعاء قولان:
أحدهما: أنها أصنام، زعموا أنها تشفع لهم في حاجاتهم، قاله الأكثرون.
والثاني: الملائكة، قاله مقاتل.
(قل أولو كانوا لا يملكون شيئا) من الشفاعة (ولا يعقلون) أنكم تعبدونهم؟! وجواب هذا
الاستفهام محذوف، تقديره: أولو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم؟!.
(قل لله الشفاعة جميعا) أي: لا يملكها أحد إلا بتمليكه، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالأخرة وإذا ذكر الذين من دونه
إذا هم يستبشرون (45) قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت
تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون (46) ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله
معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (47)
وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون (48)
قوله تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: انقبضت عن التوحيد، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: استكبرت، قاله قتادة.
والثالث: نفرت، قاله أبو عبيدة، والزجاج.
قوله تعالى: (وإذا ذكر الذين من دونه) يعني الأصنام (إذا هم يستبشرون) يفرحون. وما بعد
هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون). قال السدي:
20

ظنوا أن أعمالهم حسنات، فبدت لهم سيئات. وقال غيره: عملوا أعمالا ظنوا أنها تنفعهم، فلم
تنفع مع شركهم. قال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنه نازل بهم، فهذا القول يحتمل
وجهين.
أحدهما: أنهم كانوا يرجون القرب من الله بعبادة الأصنام، فلما عوقبوا عليها، بدا لهم ما لم
يكونوا يحتسبون.
والثاني: أن البعث والجزاء لم يكن في حسابهم. وروي عن محمد بن المنكدر أنه جزع عند
الموت وقال: أخشى هذه الآية أن يبدو لي مالا أحتسب.
قوله تعالى: (وحاق بهم) أي: نزل بهم (ما كانوا به يستهزؤون) أي: ما كانوا ينكرونه
ويكذبون به.
فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي
فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون (49) قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا
يكسبون (50) فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما
كسبوا وما هم بمعجزين (51) أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك
لآيات لقوم يؤمنون (52)
قوله تعالى: (فإذا مس الإنسان ضر دعانا) قال مقاتل: هو أبو حذيفة بن المغيرة، وقد سبق
في هذه السورة نظيرها. وإنما كنى عن النعمة بقوله [تعالى]: (أوتيته)، لأن المراد بالنعمة:
الإنعام.
(على علم) عندي، أي: على خير علمه الله عندي وقيل: على علم من الله بأني له
أهل، قال الله تعالى: (بل هي) يعني النعمة التي أنعم الله عليه بها (فتنة) أي: بلوى يبتلى بها
العبد ليشكر أو يكفر، (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن ذلك استدراج لهم وامتحان. وقيل: " بل
هي " أي: المقالة التي قالها " فتنة ".
(قد قالها) يعني تلك الكلمة، وهي قوله عز وجل: " إنما أوتيته على علم " (الذين من
21

قبلهم) وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم الأمم الماضية، قاله السدي.
والثاني: قارون، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (فما أغنى عنهم) أي: ما دفع عنهم العذاب (ما كانوا يكسبون) وفيه ثلاثة
أقوال:
أحدها: من الكفر.
والثاني: من عبادة الأصنام.
والثالث: من الأموال.
(فأصابهم سيئات ما كسبوا) أي: جزاء سيئاتهم، وهو العذاب.
ثم أوعد كفار مكة، فقال: (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم
بمعجزين) أي: إنهم لا يعجزون الله ولا يفوتونه.
قال مقاتل: ثم وعظهم ليعلموا وحدانيته حين مطروا بعد سبع سنين، فقال: (أولم يعلموا أن الله
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك) أي: في بسط الرزق وتقتيره (لآيات لقوم يؤمنون).
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
إنه هو الغفور الرحيم (53) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا
تنصرون (54) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة
وأنتم لا تشعرون (55)
قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أن ناسا من المشركين كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن
جبير عن ابن عباس.
22

والثاني: أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد
أسلموا، ثم عذبوا فافتتنوا، فكان أصحاب رسول الله يقولون: لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا،
قوم تركوا دينهم بعذاب عذبوه، فنزلت هذه الآية، فكتبها عمر إلى عياش والوليد وأولئك النفر،
فأسلموا وهاجروا، وهذا قول ابن عمر.
والثالث: أنها نزلت في وحشي، وهذا القول ذكرناه مشروحا في آخر الفرقان عن ابن عباس.
والرابع: أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم
يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد فعلنا ذلك؟! فنزلت هذه الآية، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا.
ومعنى (أسرفوا على أنفسهم) ارتكبوا الكبائر، والقنوط بمعنى اليأس. (وأنيبوا) بمعنى ارجعوا
إلى الله من الشرك والذنوب، (وأسلموا له) أي: أخلصوا له التوحيد. و " تنصرون " بمعنى تمنعون.
(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم) قد بيناه في قوله عز وجل: (يأخذوا بأحسنها).
أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين (56) أو
تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين (57) أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة
فأكون من المحسنين (58) بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من
الكافرين (59)
قوله تعالى: (أن تقول نفس) قال المبرد: المعنى: بادروا قبل أن تقول نفس، وحذرا من أن
تقول نفس. وقال الزجاج: خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها هذا القول ومعنى (يا حسرتا) يا
ندامتا ويا حزنا. والتحسر: الاغتمام على ما فات. والألف في " يا حسرتا " هي ياء المتكلم،
والمعنى: يا حسرتي، على الإضافة. قال الفراء: والعرب تحول الياء إلى الألف في كل كلام معناه
23

الاستغاثة ويخرج على لفظ الدعاء، وربما أدخلت العرب الهاء بعد هذه الألف، فيخفضونها مرة،
ويرفعونها أخرى. وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو عمران، وأبو الجوزاء: " يا حسرتي " بكسر التاء،
على الإضافة إلى النفس. وقرأ معاذ القارئ، وأبو جعفر: " يا حسرتاي "، بألف بعد التاء وياء
مفتوحة، قال الزجاج: وزعم الفراء أنه يجوز " يا حسرتاه على كذا " بفتح الهاء، و " يا حسرتاه "
بالضم والكسر، والنحويون أجمعون لا يجيزون أن تثبت هذه الهاء مع الوصل.
قوله تعالى: (في جنب الله) فيه خمسة أقوال:
أحدها: في طاعة الله تعالى، قاله الحسن.
والثاني: في حق الله، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: في أمر الله، قاله مجاهد، والزجاج.
والرابع: في ذكر الله، قاله عكرمة، والضحاك.
والخامس: في قرب الله، روي عن الفراء أنه قال: الجنب: القرب، أي: في قرب الله وجواره،
يقال: فلان يعيش في جنب فلان، أي: في قربة وجواره، فعلى هذا يكون المعنى: ما فرطت في طلب
قرب الله تعالى، وهو الجنة.
قوله تعالى: (وإن كنت لمن الساخرين) أي: وما كنت إلا من المستهزئين بالقرآن وبالمؤمنين
في الدنيا.
(أو تقول لو أن الله هداني) أي: أرشدني إلى دينه (لكنت من المتقين) الشرك، فيقال لهذا
القائل: (بلى قد جاءتك آياتي) قال الزجاج: و " بلى " جواب النفي، وليس في الكلام لفظ النفي،
غير أن معنى " لو أن الله هداني ": ما هديت، فقيل: " بلى قد جاءتك آياتي ". وروى ابن أبي سريج
عن الكسائي: " جاءتك "، " فكذبت "، " واستكبرت "، " وكنت "، بكسر التاء فيهن، مخاطبة للنفس
ومعنى " استكبرت ". تكبرت عن الإيمان بها.
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (60)
وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يسمهم السوء ولاهم يحزنون (61)
قوله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله) فزعموا أن له ولدا وشريكا (وجوههم
مسودة). وقال الحسن: هم الذين يقولون: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل. وباقي الآية قد
ذكرناه آنفا.
قوله تعالى: (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم) وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن
عاصم: " بمفازاتهم ". قال الفراء: وهو كما قد تقول: قد تبين أمر القوم وأمورهم، وارتفع الصوت
والأصوات، والمعنى واحد. وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال:
24

أحدها: بفضائلهم، قاله السدي.
والثاني: بأعمالهم، قاله ابن السائب، ومقاتل.
والثالث: بفوزهم من النار.
قال المبرد: المفازة: مفعلة من الفوز، وإن جمع فحسن، كقولك: السعادة والسعادات،
والمعنى: ينجيهم الله بفوزهم، أي: بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة.
الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل (62) له مقاليد السماوات والأرض والذين
كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون (63)
قوله تعالى: (له مقاليد السماوات والأرض) قال ابن قتيبة: أي: مفاتيحها وخزائنها، لأن
مالك المفاتيح مالك الخزائن، واحدها: إقليد، وجمع على غير واحد، كما قالوا: مذاكير جمع
ذكر، ويقال: هو فارسي معرب.
لم يؤذها الديك بصوت تغريد * ولم تعالج غلقا بإقليد
والمقليد: لغة في الإقليد، والجمع: مقاليد.
وللمفسرين في المقاليد قولان:
أحدهما: المفاتيح، قاله ابن عباس.
والثاني: الخزائن، قاله الضحاك. وقال الزجاج: تفسيره أن كل شيء في السماوات والأرض، فهو
خالقه وفاتح بابه. قال المفسرون: مفاتيح السماوات: المطر، ومفاتيح الأرض: النبات
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون (64) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك
لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (66)
قوله تعالى: (أفغير الله تأمروني أعبد) قرأ نافع، وابن عامر: " تأمروني أعبد " مخففة، غير
أن نافعا فتح الياء، ولم يفتحها ابن عامر. وقرأ ابن كثير: " تأمروني " بتشديد النون وفتح الياء، وقرأ
الباقون بسكون الياء. وذلك حين دعوه إلى دين آبائه (أيها الجاهلون) أي: فيما تأمرون.
قوله تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك) فيه تقديم وتأخير، تقديره: ولقد أوحي
إليك لئن أشركت ليحبطن عملك، وكذلك أوحي إلى الذين من قبلك. قال أبو عبيدة: ومجازها
مجاز الأمرين اللذين يخبر عن أحدهما ويكف عن الآخر. قال ابن عباس: هذا أدب من الله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم وتهديد لغيره، لأن الله عز وجل قد عصمه من الشرك. وقال غيره: إنما خاطبه بذلك،
25

ليعرف من دونه أن الشرك يحبط الأعمال المتقدمة كلها ولو وقع من نبي. وقرأ أبو عمران، وابن
السميفع، ويعقوب: " لنحبطن " بالنون، " عملك "، بالنصب. (بل الله فاعبد) أي: وحد.
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات
بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (67)
قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) سبب نزولها أن رجلا من أهل الكتاب أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم، بلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع والأرضين على إصبع
والشجر على إصبع والثرى على إصبع؟! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فأنزل الله تعالى
هذه الآية، قاله ابن مسعود. وقد فسرنا أول هذه الآية في الأنعام قال ابن عباس: هذه الآية في
الكفار، فأما من آمن بأنه على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره.
ثم ذكر عظمته بقوله تعالى: (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمنه)
وقد أخرج البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقبض الله
الأرض يوم القيامة ويطوى السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "، وأخرجا من
حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن
بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ " قال ابن عباس: الأرض
والسماوات كلها بيمينه. وقال سعيد بن جبير: السماوات قبضة والأرضون قبضة.
ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه
26

أخرى فإذا هم قيام ينظرون (68) وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجاء
بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69) ووفيت كل نفس ما عملت
وهو أعلم بما يفعلون (70)
قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق) وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري:
" فصعق " بضم الصاد (من في السماوات ومن في الأرض) أي: ماتوا من الفزع وشدة الصوت. وقد
بينا هذه الآية والخلاف في الذين استثنوا في سورة النمل.
(ثم نفخ فيه أخرى) وهي نفخة البعث (فإذا هم) يعني الخلائق (قيام ينظرون)
قوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها) أي: أضاءت. والمراد بالأرض: عرصات القيامة.
قوله تعالى: (ووضع الكتاب) فيه قولان:
أحدهما: كتاب الأعمال، قاله قتادة، ومقاتل.
والثاني: الحساب، قاله السدي. وفي الشهداء قولان:
أحدهما: أنهم الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، قاله الجمهور. ثم فيهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم المرسلون من الأنبياء - والثاني: أمة محمد يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وتكذيب
الأمم إياهم، رويا عن ابن عباس رضي الله عنه. والثالث: الحفظة، قاله عطاء. الرابع: النبيون
والملائكة وأمة محمد صلى الله عليه وسلم والجوارح، قاله ابن زيد.
والثاني: انهم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، قاله قتادة، والأول أصح. (ووفيت كل
نفس ما علمت) أي: جزاء عملها (وهو أعلم بما يفعلون) أي: لا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد.
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم
يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن
حقت كلمة العذاب على الكافرين (71) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى
المتكبرين (72) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها وفتحت
27

أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (73) وقالوا الحمد لله الذي
صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين (74) وترى
الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد
لله رب العالمين (75)
قوله تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) قال أبو عبيدة: الزمر: جماعات في تفرقة
بعضهم على إثر بعض، واحدها: زمرة.
قوله تعالى: (رسل منكم) أي: أنفسكم. و (كلمة العذاب) هي قوله تعالى: (لأملأن
جهنم).
قوله تعالى: (فتحت أبوابها) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " فتحت "
" وفتحت " مشددتين، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بالتخفيف. وفي هذه الواو ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها زائدة، روي عن جماعة من اللغويين منهم الفراء.
والثاني: أنها واو الحال، فالمعنى: جاؤوها وقد فتحت أبوابها، فدخلت الواو لبيان أن
الأبواب كانت مفتحة قبل مجيئهم، وحذفت من قصة أهل النار لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم،
ووجه الحكمة في ذلك من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن أهل الجنة جاؤوها وقد فتحت أبوابها ليستعجلوا السرور والفرح إذا رأوا الأبواب
مفتحة، وأهل النار يأتونها وأبوابها مغلقة ليكون أشد لحرها، ذكره أبو إسحاق ابن شاقلا من
أصحابنا.
والثاني: أن الوقوف على الباب المغلق نوع ذل، فصين أهل الجنة عنه، وجعل في حق أهل
النار، ذكره لي بعض مشايخنا.
والثالث: أنه لو وجد أهل الجنة بابها مغلقا لأثر انتظار فتحه في كمال الكرم، ومن كمال
الكرم غلق باب النار إلى حين مجيء أهلها، لأن الكريم يعجل المثوبة، ويؤخر العقوبة، وقد قال
عز وجل: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم)، قال المصنف: هذا وجه خطر لي.
والقول الثالث: أن الواو زيدت، لأن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة، والعرب
28

تعطف في العدد بالواو على ما فوق السبعة على ما ذكرناه في قوله تعالى: (ويقولون سبعة وثامنهم
كلبهم)، حكى هذا القول والذي قبله الثعلبي. واختلف العلماء أين جواب هذه الآية على ثلاثة
أقوال:
أحدها: أن الجواب محذوف، قاله أبو عبيدة، والمبرد، والزجاج في آخرين. وفي تقدير هذا
المحذوف قولان:
أحدهما: أن تقديره: (حتى إذا جاؤوها...) إلى آخر الآية... سعدوا، قاله المبرد.
والثاني: (حتى إذا جاؤوها...) إلى قوله تعالى: (فأدخلوا خالدين)... دخلوها وإنما حذف،
لأن في الكلام دليلا عليه، وهذا اختيار الزجاج.
والقول الثاني: أن الجواب: قال لهم خزنتها، والواو زائدة، ذكره الأخفش، قال: ومثله في
الشعر.
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن * إلا كلمة حالم بخيال
أي: فإذا ذلك.
والثالث: الجواب: حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها، والواو زائدة، حكاه الزجاج عن قوم من
أهل اللغة.
أحدها: أنهم إذا انتهوا إلى باب الجنة وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان،
فيشربون من إحداهما، فلا يبقى في بطونهم أذى ولا قذى إلا خرج، ويغتسلون من الأخرى، فلا تغبر
جلودهم ولا تشعث أشعارهم أبدا. حتى إذا انتهوا إلى باب الجنة قال لهم عند ذلك خزنتها: " سلام عليكم
طبتم "، رواه عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه وقد ذكرنا في الأعراف نحوه عن ابن عباس.
والثاني: طاب لكم المقام، قاله ابن عباس.
والثالث: طبتم بطاعة الله، قاله مجاهد.
والرابع: أنهم طيبوا قبل دخول الجنة بالمغفرة، واقتص من بعضهم لبعض، فلما هذبوا قالت لهم
الخزنة: طبتم، قاله قتادة.
والخامس: كنتم طيبين في الدنيا، قاله الزجاج.
فلما دخلوها قالوا: (الحمد لله الذي صدقنا وعده) بالجنة (وأورثنا الأرض) أي أرض
الجنة (نتبوأ منها حيث نشاء) أي: نتخذ فيها من المنازل ما نشاء. وحكى أبو سليمان الدمشقي أن
29

أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة قبل الأمم، فينزلون منها حيث شاؤوا، ثم تنزل الأمم بعدهم فيها،
فلذلك قالوا: " نتبوأ من الجنة حيث نشاء "، يقول الله عز وجل: (فنعم أجر العاملين) أي: نعم
ثواب المطيعين في الدنيا الجنة.
قوله تعالى: (وترى الملائكة حافين من حول العرش): أي محدقين به، يقال: حف القوم
بفلان: إذا أحدقوا به، ودخلت " من " للتوكيد، كقولك: ما جاءني من أحد.
(يسبحون بحمد ربهم) قال السدي، ومقاتل: بأمر ربهم، وقال بعضهم: يسبحون بالحمد
له حيث دخل الموحدون الجنة. وقال ابن جرير: التسبيح هاهنا بمعنى الصلاة.
قوله تعالى: (وقضي بينهم) أي: بين الخلائق (بالحق) أي: بالعدل (وقيل الحمد لله
رب العالمين) هذا قول أهل الجنة شكرا لله تعالى على إنعامه.
قال المفسرون: ابتدأ الله ذكر الخلق بالحمد فقال: (الحمد لله الذي خلق السماوات
والأرض) وختم غاية الأمر - وهو استقرار الفريقين في منازلهم - بالحمد لله بهذه الآية، فنبه على
تحميده في بداية كل أمر وخاتمته.
30

(40) سورة غافر مكية (1)
وآياتها خمس وثمانون
قال أبو سليمان الدمشقي: ويقال لها: سورة الطول. وهي مكية! قاله ابن عباس، والحسن:
ومجاهد، وعكرمة، وقتادة. وحكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها آيتين نزلتا بالمدينة: قوله: (الذين
يجادلون في آيات الله) والتي بعدها. قال الزجاج: وذكر أن الحواميم كلها نزلت بمكة. قال ابن
قتيبة: يقال: إن " حم " اسم من أسماء الله أضيفت هذه السورة إليه. كأنه قيل: سورة الله، لشرفها
وفضلها، فقيل: آل حاميم، وإن كان القرآن كله سور الله، وإن هذا كما يقال: بيت الله، وحرم الله،
وناقة الله، قال الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم آية * تأولها منا تقي ومعرب
31

وقد تجعل " حم " اسما للسورة، ويدخل الإعراب ولا يصرف، ومن قال هذا في الجميع:
الحواميم، كما يقال: " طس " والطواسين. وقال محمد بن القاسم الأنباري: العرب تقول: وقع في
الحواميم، وفي آل حميم، أنشد أبو عبيدة:
حلفت بالسبع اللواتي طولت * وبمئين بعدها قد أمئيت
وبمثان ثنيت فكررت * وبالطواسين اللواتي ثلثت
وبالحواميم اللواتي سبعت
فمن قال: وقع في آل حاميم، جعل حاميم اسما لكلهن، ومن قال: وقع في الحواميم،
جعل " حم " كأنه حرف واحد بمنزلة قابيل وهابيل. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: من
الخطأ أن تقول: قرأت الحواميم، وليس من كلام العرب، والصواب أن تقول: قرأت آل حاميم.
وفي حديث ابن مسعود " إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات "، وقال الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم آية
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم (2) غافر الذنب وقابل التوب شديد
العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير (3)
وفي (حم) أربعة أقوال:
أحدها: قسم أقسم الله به وهو من أسمائه عز وجل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس: قال
أبو سليمان. وقد قيل: إن جواب القسم قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينادون).
والثاني: أنها حروف من أسماء الله عز وجل، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن " آلر " و " حم "
و " نون " حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أن الحاء مفتاح اسمه " حميد "، والميم
مفتاح اسمه " مجيد "، قاله أبو العالية. والثالث: أن الحاء مفتاح كل اسم لله ابتداؤه حاء، مثل
" حكيم "، و " حليم "، و " حي "، والميم مفتاح كل اسم له، ابتداؤه ميم مثل " ملك "، و " متكبر "،
و " مجيد "، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وروي نحوه عن عطاء الخراساني.
والثالث: أن معنى " حم ": قضي ما هو كائن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وروي عن
32

الضحاك والكسائي مثل هذا كأنهما أرادا الإشارة إلى حم، بضم الحاء وتشديد الميم. قال الزجاج:
وقد قيل في " حم ": حم الأمر.
والرابع: أن " حم " اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. وقرأ ابن كثير: " حم " بفتح الحاء:
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: بكسرها، واختلف عن الباقين. قال الزجاج: أما الميم،
فساكنة في قراءة القراء ابن كلهم إلا عيسى بن عمر، فإنه، فتحها وفتحها على ضربين. أحدهما: أن
يجعل " حم " اسما للسورة، فينصبه ولا ينونه، لأنه على لفظ الأسماء الأعجمية نحو هابيل وقابيل.
والثاني: على معنى: أتل حم، والأجود أن يكون فتح لالتقاء الساكنين حيث جعله اسما للسورة،
ويكون حكاية حروف الهجاء.
قوله تعالى: (تنزيل الكتاب) أي: هذا تنزيل الكتاب. والتوب: جمع توبة، وجائز أن يكون
مصدرا من تاب يتوب توبا. والطول: الفضل. قال أبو عبيدة: يقال فلان ذو طول على قومه، أي:
ذو فضل. وقال ابن قتيبة: يقال: طل علي يرحمك الله، أي: تفضل. قال الخطابي: ذو: حرف
النسبة في كلامهم على ثلاثة أوجه: بالياء، كقولهم: أسدي، وبكري. والثاني: على الجمع،
كقولهم: المهالبة، والمسامعة، والأزارقة والثالث: ب " ذي " و " ذات "، كقولهم: رجل مال، أي:
ذو مال، وكبش صاف، أي: ذو صوف، وناقة ضامر، أي: ذات ضمر، فقوله: ذو الطول، معناه:
أهل الطول والفضل.
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد (4) كذبت قبلهم
قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا
به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب (5) وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا
أنهم أصحاب النار (6)
قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله) أي: ما يخاصم فيها بالتكذيب لها ودفعها بالباطل (إلا
الذين كفروا) وباقي الآية في آل عمران، والمعنى: إن عاقبة امرهم إلى العذاب كعاقبة من
قبلهم.
قوله تعالى: (كل أمة برسولهم ليأخذوه) فيه قولان:
33

أحدهما: ليقتلوه، قاله ابن عباس: وقتادة.
والثاني: ليحبسوه ويعذبوه، ويقال للأسير: أخيذ، حكاه ابن قتيبة. قال الأخفش: وإنما قال:
" ليأخذوه " فجمع على الكل، لأن الكل مذكر ومعناه معنى الجماعة. وما بعد هذا مفسر في الكهف
إلى قوله تعالى: (فأخذتهم) أي: عاقبتهم وأهلكتهم (فكيف كان عقاب) استفهام تقرير لعقوبتهم
الواقعة بهم (وكذلك) أي: مثل الذي حق على الأمم المكذبة (حقت كلمة ربك) بالعذاب، وهي قوله
عز وجل: (لأملأن جهنم) على الذين كفروا من قومك. وقرأ نافع، وابن عامر: (حقت كلمات
ربك)، (أنهم) قال الأخفش: لأنهم أو بأنهم (أصحاب النار).
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين
آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب
الجحيم (7) ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم
وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم (8) وقهم السيئات ومن تق السيئات
يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم (9)
ثم أخبر بفضل المؤمنين فقال: (الذين يحملون العرش) وهم أربعة أملاك، فإذا كان يوم
القيامة جعلوا ثمانية (ومن حوله) قال وهب بن منبه. حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة
يطوفون به، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة ليس فيهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبحه
الآخر. وقال غيره: الذين حول العرش هم الكروبيون وهم سادة الملائكة. وقد ذكرنا في السورة
المتقدمة معنى قوله تعالى: (يسبحون بحمد ربهم).
قوله تعالى: (ربنا) أي يقولون: ربنا (وسعت كل شيء رحمة وعلما) قال الزجاج: هو
منصوب على التمييز. وقال غيره: المعنى: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء (فاغفر للذين تابوا)
من الشرك (واتبعوا سبيلك) وهو دين الإسلام. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عز وجل: (وقهم
السيئات) قال قتادة: يعني العذاب.
34

إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان
فتكفرون (10) قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من
سبيل (11) ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى
الكبير
قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله) قال المفسرون: لما رأوا أعمالهم وأدخلوا
النار مقتوا أنفسهم لسوء فعلهم، فناداهم مناد: لمقت الله إياكم في الدنيا (تدعون إلى الإيمان
فتكفرون) أكبر من مقتكم أنفسكم.
ثم أخبر عما يقولون في النار بقوله [تعالى]: (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) وهذا مثل قوله
[تعالى]: (وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) وقد فسرناه هنالك.
قوله تعالى: (فهل إلى خروج) أي: من النار إلى الدنيا لنعمل بالطاعة (من سبيل) وفي؟
الكلام اختصار، تقديره: فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك، وقيل لهم: (ذلكم) يعني العذاب الذي
نزل بهم (بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم) أي: إذا قيل " لا إله إلا الله " أنكرتم، وإن جعل سله
شريك آمنتم، (فالحكم لله) فهو الذي حكم على المشركين بالنار، وقد بينا في سورة معنى
العلي، وفي الرعد معنى الكبير.
هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب (13)
فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (14) رفيع الدرجات ذو العرش يلقي
الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق (15) يوم هم بارزون لا يخفى على
الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (16) اليوم تجزى كل نفس بما
كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب (17)
35

(هو الذي يريكم آياته) أي: مصنوعاته التي تدل على وحدانيته وقدرته والرزق هاهنا:
المطر، سمي رزقا، لأنه سبب الأرزاق. و " يتذكر " بمعنى يتعظ، و " ينيب " بمعنى يرجع إلى
الطاعة.
ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال: (فادعوا الله مخلصين له الدين) أي: موحدين.
قوله تعالى: (رفيع الدرجات) قال ابن عباس: يعني رافع السماوات، وحكى الماوردي عن
بعض المفسرين. قال: معناه: عظيم الصفات.
قوله تعالى: (ذو العرش) أي: خالقه ومالكه.
قوله تعالى: (يلقي الروح) فيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه القرآن.
والثاني: النبوة. والقولان مرويان عن ابن عباس. وبالأول قال ابن زيد، وبالثاني قال السدي.
والثالث: الوحي، قاله قتادة، وإنما سمي القرآن والوحي روحا، لأن الدين به كما أن قوام البدن
بالروح.
والرابع: جبريل، قاله الضحاك.
والخامس: الرحمة، حكاه إبراهيم الحربي.
قوله تعالى: (من أمره) فيه ثلاثة أقوال. أحدها: من قضائه، قاله ابن عباس والثاني:
بأمره، قاله مقاتل. والثالث: من قوله تعالى، ذكره الثعلبي.
قوله تعالى: (على من يشاء من عباده) يعني الأنبياء.
(لينذر) في المشار إليه قولان:
أحدهما: أنه الله عز وجل.
والثاني: النبي الذي يوحى إليه.
والمراد ب (يوم التلاق): يوم القيامة. وأثبت ياء (التلاقي) في الحالين ابن كثير ويعقوب،
وأبو جعفر وافقهما في الوصل، والباقون بغير ياء في الحالين. وفي سبب تسميته بذلك خمسة
أقوال:
أحدها: أنه يلتقي فيه أهل السماء والأرض، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس.
والثاني: يلتقي فيه الأولون والآخرون، روي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: يلتقي فيه الخلق والخالق، قاله قتادة ومقاتل.
والرابع: يلتقي المظلوم والظالم، قاله ميمون بن مهران.
والخامس: يلتقي المرء بعمله، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: (يوم هم بارزون) أي: ظاهرون من قبورهم (لا يخفى على الله منهم شيء).
فإن قيل: فهل يخفى عليه منهم اليوم شيء؟.
36

فالجواب: أن لا، غير أن معنى الكلام التهديد بالجزاء، وللمفسرين فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يخفى عليه مما عملوا شيء، قاله ابن عباس.
والثاني: لا يستترون منه بجبل ولا مدر، قاله قتادة.
والثالث: أن المعنى: أبرزهم جميعا، لأنه لا يخفى عليه منهم شيء، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (لمن الملك اليوم) اتفقوا على أن هذا يقوله الله عز وجل بعد فناء الخلائق.
واختلفوا في وقت قوله عز وجل له على قولين:
أحدهما: يقوله عند فناء الخلائق إذا لم يبق مجيب. فيرد هو على نفسه فيقول: (لله الواحد
القهار)، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه يقوله يوم القيامة.
وفيمن يجيبه حينئذ قولان:
أحدهما: أنه يجيب نفسه وقد سكت الخلائق لقوله تعالى: قاله عطاء،
والثاني: أن الخلائق كلهم يجيبونه فيقولون: " لله الواحد القهار "، قاله ابن جريج.
وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كظمين ما للظالمين من حميم ولا
شفيع يطاع (18) يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (19)
قوله تعالى: (وأنذرهم يوم الآزفة) فيه قولان:
أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله الجمهور. قال ابن قتيبة: وسميت القيامة بذلك لقربها، يقال:
أزف شخوص فلان، أي: قرب.
والثاني: أنه يوم حضور المنية، قاله قطرب.
قوله تعالى: (إذ القلوب لدى الحناجر) وذلك أنها ترتقي إلى الحناجر فلا تخرج ولا تعود،
هذا على القول الأول، وعلى الثاني: القلوب هي النفوس تبلغ الحناجر عند حضور المنية، قال
الزجاج: و (كاظمين) منصوب على الحال، والحال محمولة على المعنى، لأن القلوب لا يقال لها:
كاظمين، وإنما الكاظمون أصحاب القلوب، فالمعنى: إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال
كظمهم. قال المفسرون: " كاظمين " أي: مغمومين ممتلئين خوفا وحزنا، والكاظم: الممسك
للشيء على ما فيه، وقد أشرنا إلى هذا عند قوله [تعالى]: (والكاظمين الغيظ).
37

(ما للظالمين) يعني الكافرين (من حميم) أي: قريب ينفعهم (ولا شفيع يطاع) فيهم
فتقبل شفاعته.
(يعلم خائنة الأعين) قال ابن قتيبة: الخائنة والخيانة واحد. وللمفسرين فيها أربعة أقوال:
أحدها: أنه الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فيريهم أنه يغض بصره، فإذا رأى منهم غفلة
لحظ إليها، فإن خاف أن يفطنوا له غض بصره، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه نظر العين إلى ما نهي عنه، قاله مجاهد.
والثالث: الغمز بالعين، قاله الضحاك والسدي. قال قتادة: هو الغمز بالعين فيما لا يحبه الله
ولا يرضاه.
والرابع: النظرة بعد النظرة، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: (وما تخفي الصدور) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ما تضمره من الفعل أن لو قدرت على ما نظرت إليه، قاله ابن عباس.
والثاني: الوسوسة، قاله السدي.
والثالث: ما يسره القلب من أمانة أو خيانة، حكاه المارودي.
والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ إن الله هو السميع البصير (20)
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد
منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (21) ذلك
بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب (22)
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (22) إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب (24)
فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما
كيد الكافرين إلا في ضلال (25)
قوله تعالى: (والله يقضي بالحق) أي: يحكم به فيجزي بالحسنة والسيئة (والذين
يدعون من دونه) من الآلهة. وقرأ نافع، وابن عامر: " تدعون " بالتاء، على معنى: قل لهم:
(لا يقضون بشيء) أي: لا يحكمون بشيء ولا يجازون به، وقد نبه الله عز وجل بهذا
38

على أنه حي، لأنه إنما يأمر ويقضي من كان حيا، وأيد ذلك بذكر السمع والبصر، لأنهما إنما يثبتان
لحي، قاله أبو سليمان الدمشقي. وما بعد هذا قد تقدم بعضه وبعضه ظاهر إلى قوله تعالى:
(كانوا هم أشد منهم قوة) وقرأ ابن عامر: " أشد منكم " بالكاف، وكذلك هو في مصاحفهم، وهو
على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب، (وما كان لهم من الله) أي: من عذاب الله (من واق)
بقي العذاب عنهم.
(ذلك) أي: ذلك العذاب الذي نزل بهم (بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات...) إلى
آخر الآية.
ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليعتبروا. وأراد بقوله تعالى: (اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه
أعيدوا القتل عليهم كما كان أولا، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كان فرعون قد كف عن قتل
الولدان، فلما بعث الله موسى، أعاد عليهم القتل ليصدهم بذلك عن متابعة موسى.
قوله تعالى: (وما كيد الكافرين إلا في ضلال) أي: إنه يذهب باطلا ويحيق بهم ما يريده الله
عز وجل.
وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في
الأرض الفساد (26) وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم
الحساب (27) وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي
الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم
بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب (28) يا قوم لكم الملك اليوم
ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى
وما أهديكم إلا سبيل الرشاد (29) وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم
الأحزاب (30) مثل دأب قوم نوح وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد (31)
39

ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد (32) يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم
ومن يضلل الله فما له من هاد (33) ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في
شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله
من هو مسرف مرتاب (34)
(وقال فرعون ذروني أقتل موسى) وإنما قال هذا: لأنه كان في خاصة فرعون من يمنعه من
قتله خوفا من الهلاك (وليدع ربه) الذي يزعم أنه أرسله فليمنعه من القتل (إني أخاف أن يبدل
دينكم) أي: عبادتكم إياي (وأن يظهر في الأرض الفساد) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن
عامر: " وأن " بغير ألف. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " أو أن " بألف قبل الواو على معنى: إن
لم يبدل دينكم أوقع الفساد، إلا أن نافعا وأبا عمرو قرآ: " يظهر " بضم الياء " الفساد " بالنصب. وقرأ
الباقون: " يظهر " بفتح الياء " الفساد " بالرفع، والمعنى: يظهر الفساد بتغيير أحكامنا، فجعل ذلك
فسادا بزعمه، وقيل: يقتل أبناءكم كما تفعلون بهم.
فلما قال فرعون هذا، استعاذ موسى بربه فقال: (أني عذت بربي وربكم) قرأ ابن كثير،
وعاصم، وابن عامر: " عذت " مبينة الذال، وأدغمها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر،
وخلف (من كل متكبر) أي: متعظم عن الإيمان فقصد فرعون قتل موسى: فقال: حينئذ (رجل مؤمن من
آل فرعون...) وفي الآل هاهنا قولان:
أحدهما: بمعنى الأهل والنسب، قال السدي ومقاتل: كان ابن عم فرعون، وهو المراد
بقوله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى)
والثاني: أنه بمعنى القبيلة والعشيرة، قال قتادة ومقاتل: كان قبطيا. وقال قوم: كان
إسرائيليا، وإنما المعنى: قال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون وفي اسمه خمسة أقوال:
أحدها: حزبيل، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: حبيب، قاله كعب. والثالث: سمعون، بالسين المهملة، قاله شعيب الجبائي.
والرابع: جبريل. والخامس: شمعان، بالشين المعجمة، رويا عن ابن إسحاق، وكذلك حكى
الزجاج " شمعان " بالشين، وذكره ابن ماكولا بالشين المعجمة أيضا. والأكثرون على أنه آمن بموسى
لما جاء. وقال الحسن: كان مؤمنا قبل مجيء موسى. وكذلك امرأة فرعون، قال مقاتل: كتم إيمانه
40

من فرعون مائة سنة.
قوله تعالى: (أتقتلون رجلا أن يقول) أي: لأن يقول (ربي الله) وهذا استفهام إنكار (وقد
جاءكم بالبينات) أي: بما يدل على صدقه، (وإن يك كاذبا فعليه كذبه) أي: لا يضركم ذلك
(وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) من العذاب. وفي " بعض " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بمعنى " كل "، قاله أبو عبيدة، وأنشد للبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يعتلق بعض النفوس حمامها
أراد: كل النفوس.
والثاني: أنها صلة، والمعنى: يصبكم الذي يعدكم، حكي عن الليث.
والثالث: أنها على أصلها، ثم في ذلك قولان: أحدهما: أنه وعدهم النجاة إن آمنوا،
والهلاك إن كفروا، فدخل ذكر البعض لأنهم على أحد الحالين. والثاني: أنه وعدهم على كفرهم
الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، فصار هلاكهم في الدنيا بعض الوعد، ذكرهما الماوردي.
قال الزجاج: هذا باب من النظر يذهب فيه المناظر إلى إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس
في هذا نفي إصابة الكل، ومثله قول الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون من المستعجل الزلل
وإنما ذكر البعض ليوجب الكل، لأن البعض من الكل، ولكن القائل إذا قال: أقل ما يكون
للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزلل، فقد أبان فضل المتأني على
المستعجل، بما لا يقدر الخصم أن يدفعه، فكأن المؤمن قال لهم: أقل ما يكون في صدقة أن يصيبكم بعض
الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم، قال: وأما بيت لبيد: فإنه أراد ببعض النفوس: نفسه وحدها.
قوله تعالى: (إن الله لا يهدي) أي: لا يوفق للصواب (من هو مسرف) عمرو وفيه قولان:
أحدهما: أنه المشرك، قاله قتادة.
والثاني: أنه السفاك الدم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (ظاهرين في الأرض) أي: عالين في أرض مصر (فمن ينصرنا) أي: من
يمنعنا (من بأس الله) أي: من عذابه، والمعنى: لا تتعرضوا للعذاب بالتكذيب وقتل النبي، فقال
فرعون عند ذلك: (ما أريكم) من الرأي والنصيحة (إلا ما أرى) لنفسي (وما أهديكم) أي:
41

أدعوكم إلا إلى طريق الهدى في تكذيب موسى والإيمان بي، وهذا يدل على أنه انقطع عن جواب
المؤمن.
(وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) قال الزجاج: أي: مثل يوم
حزب حزب، والمعنى: أخاف أن تقيموا على كفركم فينزل بكم من العذاب مثل ما نزل بالأمم
المكذبة رسلهم.
قوله تعالى: (يوم التناد) قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " التناد "
بغير ياء. وأثبت الياء في الوصل والوقف ابن كثير، ويعقوب، وافقهم أبو جعفر في الوصل. وقرأ أبو
بكر الصديق، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وأبو العالية، والضحاك: " التناد "
بتشديد الدال. قال الزجاج: أما إثبات الياء فهو الأصل، وحذفها حسن جميل،
لأن الكسرة تدل
على الياء وهو رأس آية، وأواخر هذه الآيات على الدال، ومن قرأ بالتشديد، فهو من قولهم: ند
فلان، وند البعير: إذا هرب على وجهه، ويدل على هذا قوله: " يوم تولون مدبرين " وقوله تعالى:
(يوم يفر المرء من أخيه)، قال أبو علي: معنى الكلام: إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد. قال
الضحاك: إذا سمع الناس زفير جهنم وشهيقها ندوا فرارا منها في الأرض، فلا يتوجهون قطرا من
أقطار الأرض إلا رأوا ملائكة، فيرجعون من حيث جاؤوا. وقال غيره: يؤمر بهم إلى النار فيفرون ولا
عاصم لهم. فأما قراءة التخفيف، فهي من النداء، وفيها للمفسرين بين أربعة أقوال:
أحدها: أنه عند نفخة الفزع ينادي الناس بعضهم بعضا، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: أنفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماوات
والأرض إلا من شاء الله، فتسير الجبال، وترج الأرض، وتذهل المراضع، وتضع الحوامل، ويولي
الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا: " يوم التناد ".
والثاني: أنه نداء أهل الجنة والنار بعضهم بعضا كما ذكر في الأعراف وهذا قول قتادة.
والثالث: أنه قولهم: يا حسرتنا يا ويلتنا، قاله ابن جريج.
والرابع: أنه ينادى فيه كل أناس بإمامهم بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء.
قوله تعالى: (يوم تولون مدبرين) فيه قولان:
أحدهما: هربا من النار.
42

والثاني: أنه انصرافهم إلى النار.
قوله تعالى: (مالكم من الله من عاصم) أي: من مانع.
قوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف) وهو يوسف بن يعقوب، ويقال: إنه ليس به، وليس
بشيء.
قوله تعالى: (من قبل) أي: من قبل موسى (بالبينات) وهي الدلالات على التوحيد، كقوله
تعالى: (أأرباب متفرقون خير...) الآية، وقال ابن السائب: البينات: تعبير الرؤيا وشق
القميص، وقيل: بل بعثه الله تعالى بعد موت ملك مصر إلى القبط.
قوله تعالى: (فما زلتم في شك مما جاءكم به) أي: من عبادة الله وحده (حتى إذا هلك)
أي: مات (قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا) أي: إنكم أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا
يجدد إيجاب الحجة عليكم (كذلك) أي: مثل هذا الضلال (يضل الله من هو مسرف) أي:
مشرك (مرتاب) أي: شاك في التوحيد وصدق الرسل.
الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان آتهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا
كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (35) وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ
الأسباب (36) أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين
لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب (37)
قوله تعالى: (الذين يجادلون) قال الزجاج: هذا تفسير المسرف المرتاب، والمعنى: هم
الذين يجادلون في آيات الله. قال المفسرون: يجادلون في إبطالها والتكذيب بها بغير سلطان، أي:
بغير حجة أتتهم من الله.
(كبر مقتا) أي: كبر جدالهم مقتا عند الله وعند الذين آمنوا، والمعنى: يمقتهم الله ويمقتهم
المؤمنون بذلك الجدال.
(كذلك) أي: كما طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا وجادلوا بالباطل، يطبع (على كل قلب
متكبر) عن عبادة الله وتوحيده. وقد سبق بيان معنى الجبار في هود. وقرأ أبو عمرو: " على كل
43

قلب " بالتنوين، وغيره من القراء السبعة يضيفه. وقال أبو علي: المعنى: يطبع على جملة القلب
من المتكبر. واختار قراءة الإضافة الزجاج، قال: لأن المتكبر هو الإنسان، لا القلب.
فإن قيل: لو كانت هذه القراءة أصوب لتقدم القلب على الكل؟
فالجواب: أن هذا جائز عند العرب، قال الفراء: تقدم هذا وتأخره واحد، سمعت بعض
العرب يقول: هو يرجل شعره يوم كل جمعة، يريد كل يوم جمعة، والمعنى واحد. وقد قرأ ابن
مسعود، وأبو عمران الجوني: " على قلب كل متكبر " بتقديم القلب.
قال المفسرون: فلما وعظ المؤمن فرعون وزجره عن قتل موسى، قال فرعون لوزيره: (يا
هامان ابن لي صرحا) وقد ذكرناه في القصص.
قوله تعالى: (لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السماوات) قال ابن عباس وقتادة: يعني أبوابها.
وقال أبو صالح: طرقها. وقال غيره: المعنى: لعلي أبلغ الطرق من سماء إلى سماء. وقال الزجاج:
لعلي أبلغ ما يؤديني إلى السماوات. وما بعد هذا المفسر في القصص إلى قوله تعالى: (وكذلك)
أي: ومثل ما وصفنا (زين لفرعون سوء عمله وصد) عن سبيل الهدى. قرأ عاصم، وحمزة
والكسائي: " وصد " بضم الصاد، والباقون بفتحها، (وما كيد فرعون) في إبطال آيات موسى (إلا
في تباب) أي: في بطلان وخسران.
وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد (38) يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع
وإن الآخرة هي دار القرار (39) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر
أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب (40)
ثم عاد الكلام إلى نصيحة المؤمن لقومه، وهو قوله: (اتبعون أهدكم سبيل الرشاد) أي:
طريق الهدى، (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع) يعني الحياة في هذه الدار متاع يتمتع بها أياما
ثم تنقطع (وإن الآخرة هي دار القرار) التي لا زوال لها.
(من عمل سيئة) فيها قولان:
أحدهما: أنها الشرك، ومثلها جهنم، قاله الأكثرون.
والثاني: المعاصي، ومثلها: العقوبة بمقدارها، قاله أبو سليمان الدمشقي. فعلى الأول،
العمل الصالح: التوحيد، وعلى الثاني، هو على الإطلاق.
قوله تعالى: (فأولئك يدخلون الجنة) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " يدخلون " بضم الياء. وقرأ
نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالفتح، وعن عاصم كالقراءتين.
44

وفي قوله: (بغير حساب) قولان:
أحدهما: أنهم لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة، قاله مقاتل.
والثاني: أنه يصب عليهم الرزق صبا بغير تقتير، قاله أبو سليمان الدمشقي.
ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجوة وتدعونني إلى النار (41) تدعونني لأكفر بالله وأشرك
به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار (42) لاجرم أنما تدعونني إليه ليس له
دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار (42)
فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد (44) فوقاه الله سيئات
ما مكروا عند وحاق بآل فرعون سوء العذاب (45) النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم
تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب (46)
قوله تعالى: (ويا قوم مالي أدعوكم) أي: مالكم كما تقول: ما لي أراك حزينا، معناه:
مالك، ومعنى الآية: أخبروني كيف هذه الحال، أدعوكم (إلى النجاة) من النار بالإيمان:
(وتدعونني إلى النار) أي: إلى الشرك الذي يوجب النار؟! ثم فسر الدعوتين بما بعد هذا.
ومعنى (ليس لي به علم) أي: لا أعلم هذا الذي ادعوه شريكا له. وقد سبق بيان ما بعد
هذا إلى قوله تعالى: (ليس له دعوة) وفيه قولان:
أحدهما: ليس له استجابة دعوة، قاله السدي.
والثاني: ليس له شفاعة، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: (وأن مردنا إلى الله) أي: مرجعنا، والمعنى أنه يجازينا بأعمالنا. وفي المسرفين
قولان قد ذكرناهما عند قوله عز وجل: (مسرف كذاب).
قوله تعالى: (فستذكرون ما أقول لكم) وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني،
وأبو رجاء: " فستذكرون " بفتح الذال وتخفيفها وتشديد الكاف وفتحها، وقرأ أبي بن كعب، وأيوب
السختياني: بفتح الذال والكاف وتشديدهما جميعا. أي: إذا نزل العذاب بكم، ما أقول لكم في
الدنيا من النصيحة؟!
45

(وأفوض أمري إلى الله) أي: أرده، وذلك أنهم تواعدوه لمخالفته دينهم (إن الله بصير
بالعباد) أي: بأوليائه وأعدائه.
ثم خرج المؤمن عنهم، فطلبوه فلم يقدروا عليه، ونجا مع موسى لما عبر البحر، فذلك قوله
[تعالى]: (فوقاه الله سيئات ما مكروا) أي: ما أرادوا به من الشر (وحاق بآل فرعون) لما لجوا
في البحر (سوء العذاب) قال المفسرون: هو الغرق.
قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) قال ابن مسعود وابن عباس: إن أرواح آل
فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار كل يوم مرتين فيقال: يا آل فرعون هذه داركم.
وروى ابن جرير قال: حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال: حدثنا حماد بن محمد البلخي قال:
سمعت الأوزاعي، وسأله رجل، فقال: رأينا طيورا تخرج من البحر فتأخذ ناحية الغرب بيضا، فوجا
فوجا، لا يعلم عددها إلا الله، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا، قال: وفطنتم إلى ذلك؟ قال:
نعم، قال: إن تلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا، فترجع إلى
وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداء، فينبت عليها من الليل رياش بيض، وتتناثر السود، ثم
تغدو ويعرضون على النار غدوا وعشيا، فذلك دأبها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله عز
وجل: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب). وقد روى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث
ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان
من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى
يبعثك الله إليه يوم القيامة ".
وهذه الآية تدل على عذاب القبر، لأنه بين ما لهم في الآخرة فقال: (ويوم تقوم الساعة
ادخلوا) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر وأبان عن عاصم: " الساعة ادخلوا " بالضم وضم الخاء
على معنى الأمر لهم بالدخول، والابتداء على قراءة هؤلاء بضم الألف. وقرأ الباقون: بالقطع مع
كسر الخاء على جهة الأمر للملائكة بإدخالهم، وهؤلاء يبتدئون بفتح الألف.
وإذا يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا
نصيبا من النار (47) قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد (48) وقال
الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب (49) قالوا أولم تك
تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (50)
46

إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (51) يوم لا ينفع الظالمين
معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار (52)
قوله تعالى: (وإذ يتحاجون في النار) المعنى: واذكر لقومك يا محمد إذ يختصمون، يعني
أهل النار، والآية مفسرة في إبراهيم والذين استكبروا هم القادة. ومعنى (إنا كل فيها) أي: نحن
وأنتم، (إن الله قد حكم بين العباد) أي: قضى هذا علينا وعليكم. ومعنى قول الخزنة لهم:
(فادعوا) أي: نحن لا ندعو لكم (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) أي: إن ذلك يبطل ولا
ينفع. (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك بإثبات حججهم.
والثاني: بإهلاك عدوهم.
والثالث: بأن العاقبة تكون لهم. وفصل الخطاب: أن نصرهم حاصل لابد منه، فتارة يكون
بإعلاء أمرهم كما أعطى داود وسليمان من الملك ما قهرا به كل كافر، وأظهر محمدا صلى الله عليه وسلم على
مكذبيه، وتارة يكون بالانتقام من مكذبيهم بإنجاء الرسل وإهلاك أعدائهم، كما فعل بنوح وقومه
وموسى وقومه، وتارة يكون بالانتقام من مكذبيهم بعد وفاة الرسل، كتسليطه بختنصر على قتلة
يحيى بن زكريا. وأما نصرهم يوم يقوم الأشهاد، فإن الله منجيهم من العذاب، وواحد الأشهاد
شاهد، كما أن واحد الأصحاب صاحب. وفي الأشهاد ثلاثة أقوال:
أحدها: الملائكة، شهدوا للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأمم بالتكذيب، قاله مجاهد، والسدي.
قال مقاتل: وهم الحفظة من الملائكة.
والثاني: الملائكة والأنبياء، قاله قتادة.
والثالث: أنهم أربعة: الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح قاله ابن زيد.
قوله تعالى: (يوم لا ينفع) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " تنفع " بالتاء، والباقون بالياء، لأن
المعذرة والاعتذار بمعنى (الظالمين معذرتهم) أي: لا يقبل منهم إن اعتذروا (ولهم اللعنة) أي:
البعد من الرحمة. وقد بينا في الرعد أن " لهم " بمعنى " عليهم "، و (سوء الدار): النار.
ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب (53) هدى وذكرى لأولى
47

الألباب (54) فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي
والإبكار (55) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتهم إن في صدورهم إلا كبر ما
هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير (56) لخلق السماوات والأرض أكبر من
خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون (57) وما يستوى الأعمى والبصير والذين آمنوا
وعملوا الصالحات ولا المسئ قليلا ما تتذكرون (58) إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر
الناس لا (59) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي
سيدخلون جهنم داخرين (60) الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن
الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (61) ذلكم الله ربكم خالق كل شئ
لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (62) كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون (63) الله الذي
جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلك
الله ربكم فتبارك الله رب العالمين (64) هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين
الحمد لله رب العالمين (65) * قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني
البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين (66) هو الذي خلقكم من تراب ثم من
نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من
يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون (67) هو الذي يحي ويميت فإذا قضى
أمرا فإنما يقول له كن فيكون (68)
(ولقد آتينا موسى الهدى) من الضلالة، يعني التوراة (وأورثنا بني إسرائيل الكتاب) بعد
موسى، وهو التوراة أيضا في قول الأكثرين، وقال ابن السائب: التوراة والإنجيل والزبور، والذكرى
بمعنى التذكير.
48

(فاصبر) على أذاهم (إن وعد الله حق) في نصرك، وهذه الآية في هذه السورة في
موضعين وقد ذكروا أنها منسوخة بآية السيف. ومعنى " سبح ": صل وفي المراد بصلاة العشي
والإبكار ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس.
والثاني: صلاة الغداة وصلاة العصر، قاله قتادة.
والثالث: أنها صلاة كانت قبل أن تفرض الصلوات، ركعتان غدوة، وركعتان عشية، قاله
الحسن.
وما بعد هذا قد تقدم آنفا إلى قوله: (إن في صدورهم إلا كبر...) الآية نزلت في قريش،
والمعنى: ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من التكبر عليك، وما هم ببالغي مقتضى
ذلك الكبر، لأن الله تعالى مذلهم، (فاستعذ بالله) من شرهم، ثم نبه على قدرته بقوله: (لخلق
السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) أي: من إعادتهم، وذلك لكثرة أجزائها وعظم جرمها،
فنبههم على قدرته على إعادة الخلق. (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يعني الكفار حين لا
يستدلون بذلك على التوحيد. وقال مقاتل: عظمت اليهود الدجال وقالوا: إن صاحبنا يبعث في آخر
الزمان وله سلطان، فقال الله: (إن الذين يجادلون في آيات الله) لأن الدجال من آياته، (بغير
سلطان) أي: بغير حجة، فاستعذ بالله من فتنة الدجال. قال: والمراد ب‍ " خلق الناس ":
الدجال، وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والأول أصح.
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: (ادعوني أستجب لكم) فيه قولان:
أحدهما: وحدوني واعبدوني أثبكم، قاله ابن عباس.
والثاني: سلوني أعطكم، قاله السدي.
(إن الذين يستكبرون عن عبادتي) فيه قولان:
أحدهما: عن توحيدي.
والثاني: عن دعائي ومسألتي (سيدخلون جهنم) قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم،
وعباس بن الفضل عن أبي عمرو: " سيدخلون " بضم الياء، والباقون بفتحها. والداخر:
الصاغر.
وما بعد هذا قد سبق في مواضع متفرقة إلى قوله: (ولتبلغوا أجلا مسمى) وهو أجل الحياة
إلى الموت (ولعلكم تعقلون) توحيد الله وقدرته.
49

ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون (69) الذين كذبوا بالكتاب وبما
أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون (70) إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون (71)
في الحميم ثم في النار يسجرون (72) ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون (73) من دون الله قالوا
ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين (74)
(ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله) يعني القرآن، يقولون: ليس من عند الله، (أنى
يصرفون) أي: كيف صرفوا عن الحق إلى الباطل؟! وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم مشركون، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم القدرية، ذكرة جماعة من المفسرين، وكان ابن سيرين يقول: إن لم تكن نزلت
في القديرة فلا أدري فيمن نزلت.
وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي
عبلة: " والسلاسل يسحبون " بفتح اللام والياء. وقال ابن عباس: إذا سحبوها كان أشد عليهم.
قوله تعالى: (يسجرون) قال مجاهد: توقد بهم النار فصاروا وقودها.
قوله تعالى: (أين ما كنتم تشركون) مفسر في الأعراف وفي قوله: (لم نكن ندعو من قبل
شيئا) قولان:
أحدهما: أنهم أرادوا أن الأصنام لم تكن شيئا، لأنها لم تكن تضر ولا تنفع، وهو قول
الأكثرين.
والثاني: أنهم قالوه على وجه الجحود، قاله أبو سليمان الدمشقي، (كذلك) أي: كما أضل
الله هؤلاء يضل الكافرين.
ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون (75) أدخلوا أبواب جهنم
خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (76) فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي
نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون (77) ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك
ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله
50

قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون (78) الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها
ومنها تأكلون (79) ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك
تحملون (80) ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون (81) أفلم يسيروا في الأرض
فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض
فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (82) فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم
من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون (83) فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله
وحده وكفرنا بما كنا به مشركين (84) فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله
التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون (85)
(ذلكم) العذاب الذي نزل بكم (بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق) أي: بالباطل
(وبما كنتم تمرحون) وقد شرحنا المرح في بني إسرائيل وما بعد هذا قد تقدم بتمامه إلى
قوله: (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) وذلك لأنهم كانوا يقترحون عليه الآيات (فإذا
جاء أمر الله) وهو قضاؤه بين الأنبياء وأممهم، و (المبطلون): أصحاب الباطل.
قوله تعالى: (ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم) أي: حوائجكم في البلاد.
قوله تعالى: (فأي آيات الله تنكرون) استفهام توبيخ.
قوله تعالى: (فما أغنى عنهم) في " ما " قولان:
أحدهما: أنها النفي.
والثاني: أنها للاستفهام، ذكرهما ابن جرير.
قوله تعالى: (فرحوا بما عندهم من العلم) في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم الأمم المكذبة، قاله الجمهور، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنهم
قالوا: نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نحاسب، قاله مجاهد.
والثاني: فرحوا بما كان عندهم أنه علم، قاله السدي.
51

والقول الثاني: أنهم الرسل، والمعنى: فرح الرسل لما هلك المكذبون ونجوا بما عندهم من
العلم بالله إذ جاء تصديقه، حكاه أبو سليمان وغيره.
قوله تعالى: (وحاق بهم) يعني بالمكذبين العذاب الذي كانوا به يستهزئون. والبأس:
العذاب. ومعنى (سنة الله): أنه سن هذه السنة في الأمم، أي: أن إيمانهم لا ينفعهم إذا رأوا
العذاب، (وخسر هنالك الكافرون).
فإن قيل: كأنهم لم يكونوا خاسرين قبل ذلك فعنه جوابان.
أحدهما: أن " خسر " بمعنى " هلك "، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه إنما بين لهم خسرانهم عند نزول العذاب، قاله الزجاج.
52

(41) سورة فصلت مكية (1)
وآياتها 54 نزلت بعد غافر
مكية [كلها] بإجماعهم، ويقال لها: سجدة المؤمن، ويقال لها: المصابيح
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا
لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (4) وقالوا قلوبنا في
أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون (5)
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل
للمشركين (6) الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالأخرة هم كافرون (7) إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات لهم أجر غير ممنون (8)
53

قوله تعالى: (تنزيل) قال الفراء: يجوز أن يرتفع " تنزيل " ب‍ (حم)، ويجوز أن يرتفع
بإضمار " هذا ". وقال الزجاج: " تنزيل " مبتدأ، وخبره " كتاب فصلت آياته " هذا مذهب
البصريين، و (قرآنا) منصوب على الحال، المعنى: بينت آياته في حال جمعه، (لقوم يعلمون)
أي: لمن يعلم.
قوله تعالى: (فأعرض أكثرهم) يعني أهل مكة (فهم لا يسمعون) تكبرا عنه، (وقالوا قلوبنا
في أكنة) أي: في أغطية فلا نفقه قولك. وقد سبق بيان " الأكنة " و " الوقر " في الأنعام. ومعنى
الكلام: إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم، (ومن بيننا وبينك حجاب) أي:
حاجز في النحلة والدين. قال الأخفش: " ومن " هاهنا للتوكيد.
قوله تعالى: (فاعمل) فيه قولان:
أحدهما: اعمل في إبطال أمرنا إنا عاملون على إبطال أمرك.
والثاني: اعمل على دينك إنا عاملون على ديننا.
(قل إنما أنا يشر مثلكم) أي: لولا الوحي لما دعوتكم.
(فاستقيموا إليه) أي: توجهوا إليه بالطاعة. واستغفروه من الشرك.
قوله تعالى: (الذين لا يؤتون الزكاة) فيه خمسة أقوال:
أحدها: لا يشهدون أن " لا إله إلا الله "، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال
عكرمة، والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد.
والثاني: لا يؤمنون بالزكاة ولا يقرون بها، قاله الحسن، وقتادة.
والثالث: لا يزكون أعمالهم، قاله مجاهد، والربيع.
والرابع: لا يتصدقون، ولا ينفقون في الطاعات، قاله الضحاك، ومقاتل.
والخامس: لا يعطون زكاة أموالهم، قال ابن السائب: كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون.
قوله تعالى: (غير ممنون) أي: غير مقطوع ولا منقوص.
54

قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9)
وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء
للسائلين (10)
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا
طائعين (11) فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء
الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (12)
قوله تعالى: (وخلق الأرض في يومين) قال ابن عباس: في يوم الأحد والاثنين، وبه قال عبد
الله بن سلام، والسدي، والأكثرون. وقال مقاتل: في يوم الثلاثاء والأربعاء. وقد أخرج مسلم في
أفراده من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: " خلق الله عز وجل التربة يوم
السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء،
وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس "، وهذا الحديث يخالف ما تقدم وهو
أصح.
قوله تعالى: (وتجعلون له أندادا) قد شرحناه في البقرة و (ذلك) الذي فعل ما ذكر (رب
العالمين).
(وجعل فيها رواسي) أي: جبالا ثوابت من فوق الأرض، (وبارك فيها) بالأشجار والثمار
والحبوب والأنهار، وقيل: البركة فيها: أن ينمي فيها الزرع، فتخرج الحبة حبات، والنواة نخلة
(وقدر فيها أقواتها) قال أبو عبيدة: هي جمع قوت، وهي الأرزاق وما يحتاج إليه. وللمفسرين في
هذا التقدير خمسة أقوال:
أحدها: أنه شقق الأنهار وغرس الأشجار، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه قسم أرزاق العباد والبهائم، قاله الحسن.
والثالث: أقواتها من المطر، قاله مجاهد.
والرابع: قدر لكل بلدة ما لم يجعله في الأخرى كما أن ثياب اليمن لا تصلح إلا ب‍ " اليمن "
والهروية ب‍ " هراة " ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة، قاله عكرمة والضحاك.
والخامس: قدر البر لأهل قطر، والتمر لأهل قطر، والذرة لأهل قطر، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: (في أربعة أيام) أي: في تتمة أربعة أيام. قال الأخفش: ومثله [أن] تقول:
55

تزوجت أمس امرأة، واليوم ثنتين، وإحداهما التي تزوجتها أمس.
قال المفسرون: يعني: الثلاثاء والأربعاء، وهما مع الأحد والاثنين أربعة أيام.
قوله تعالى: (سواء) قرأ أبو جعفر: " سواء " بالرفع. وقرأ يعقوب، وعبد الوارث: " سواء "
بالجر. وقرأ الباقون من العشرة: بالنصب. قال الزجاج: من قرأ بالخفض، جعل " سواء " من صفة
الأيام، فالمعنى: في أربعة أيام مستويات تامات، ومن نصب، فعلى المصدر، فالمعنى: استوت
سواء واستواء، ومن رفع، فعلى معنى: هي سواء.
وفي قوله: (للسائلين) وجهان:
أحدهما: للسائلين القوت، لأن كلا يطلب القوت ويسأله.
والثاني: لمن يسأل. في كم خلقت الأرض؟ فيقال: خلقت في أربعة أيام سواء، لا زيادة ولا
نقصان.
قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء) قد شرحناه في البقرة (وهي دخان) وفيه قولان:
أحدهما: أنه لما خلق الماء أرسل عليه الريح فثار منه دخان فارتفع وسما، فسماه سماء
والثاني: أنه لما خلق الأرض أرسل عليها نارا، فارتفع منها دخان فسما.
قوله تعالى: (فقال لها وللأرض) قال ابن عباس: قال للسماء: أظهري شمسك وقمرك
ونجومك، وقال للأرض: شققي أنهارك، وأخرجي ثمارك، (طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) قال
الزجاج: هو منصوب على الحال، وإنما لم يقل: طائعات، لأنهن جرين مجرى ما يعقل ويميز، كما
قال في النجوم: (وكل في فلك يسبحون) قال: وقد قيل: أتينا نحن ومن فينا طائعين.
(فقضاهن) أي: خلقهن وصنعهن، قال أبو ذؤيب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع
معناه: عملهما وصنعهما.
قوله تعالى: (في يومين) قال ابن عباس وعبد الله بن سلام: وهما يوم الخميس ويوم
الجمعة. وقال مقاتل: الأحد والاثنين، لأن مذهبه أنها خلقت قبل الأرض. وقد بينا مقدار هذه الأيام
في الأعراف.
(وأوحى في كل سماء أمرها) فيه قولان:
أحدهما: أوحى ما أراد، وأمر بما شاء، قاله مجاهد، ومقاتل.
والثاني: خلق في كل سماء خلقها، قاله السدي.
56

قوله تعالى: (وزينا السماء الدنيا) أي: القربى إلى الأرض (بمصابيح) وهي النجوم،
والمصابيح: السرج، فسمي الكوكب مصباحا، لإضاءته (وحفظا) قال الزجاج: معناه: وحفظناها
من استماع الشياطين بالكواكب حفظا.
فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (13) إذ جاءتهم الرسل
من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما
أرسلتم به كافرون (14) فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا
قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15)
فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا
ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون (16) وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على
الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون (17) ونجينا الذين آمنوا
وكانوا يتقون (18)
قوله تعالى: (فإن أعرضوا) عن الإيمان بعد هذا البيان (فقل أنذرتكم صاعقة) الصاعقة:
المهلك من كل شيء، والمعنى: أنذرتكم عذابا مثل عذابهم، وإنما خص القبيلتين، لأن قريشا
يمرون على قرى القوم في أسفارهم.
(إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم) أي: أتت آباءهم ومن كان قبلهم (من خلفهم) أي:
من خلف الآباء، وهم الذين أرسلوا إلى هؤلاء المهلكين (ألا تعبدوا) أي: بأن لا تعبدوا (إلا الله
قالوا لو شاء ربنا) أي: لو أراد دعوة الخلق (لأنزل ملائكة).
قوله تعالى: (فاستكبروا) أي: تكبروا عن الإيمان وعملوا بغير الحق. وكان هود قد تهددهم
بالعذاب فقالوا: نحن نقدر على دفعه بفضل قوتنا. والآيات هاهنا: الحجج وفي الريح الصرصر
أربعة أقوال:
أحدها: أنها الباردة، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. وقال الفراء: هي الريح الباردة
تحرق كالنار، وكذلك قال الزجاج: هي الشديدة البرد جدا، فالصرصر متكرر فيها البرد، كما تقول:
57

أقللت الشيء وقلقلته، فأقللته بمعنى رفعته، وقلقلته: كررت رفعه.
والثاني: أنها الشديدة السموم، قاله مجاهد.
والثالث: الشديدة الصوت، قاله السدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة.
والرابع: الباردة الشديدة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (في أيام نحسات) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " نحسات " بإسكان
الحاء، وقرأ الباقون: بكسرها. قال الزجاج: من كسر الحاء، فواحدهن " نحس "، ومن أسكنها،
فواحدهن " نحس "، والمعنى: مشؤومات.
وفي أول هذه الأيام ثلاثة أقوال:
أحدها: غداة يوم الأحد، قاله السدي.
والثاني: يوم الجمعة، قاله الربيع بن أنس.
والثالث: يوم الأربعاء، قاله يحيى بن سلام. والخزي: الهوان.
قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: بينا لهم، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقال قتادة: بينا لهم سبيل الخير والشر.
والثاني: دعوناهم، قاله مجاهد.
والثالث: دللناهم على مذهب الخير، قاله الفراء.
قوله تعالى: (فاستحبوا العمى) أي: اختاروا الكفر على الإيمان، (فأخذتهم صاعقة
العذاب الهون) أي: ذي الهوان، وهو الذي يهينهم.
ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19) حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم
سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (20) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا
قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21) وما كنتم
تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم
كثيرا مما تعملون (22) وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (23)
فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين (24) وقيضنا
58

لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت
من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين (25)
قوله تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله) وقرأ نافع: " نحشر " بالنون " أعداء " بالنصب.
قوله تعالى: (فهم يوزعون) أي: يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا.
(حتى إذا ما جاؤوها) يعني النار التي حشروا إليها (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم
وجلودهم)، وفي المراد بالجلود ثلاثة أقوال:
أحدها: الأيدي والأرجل.
والثاني: الفروج، رويا عن ابن عباس.
والثالث: أنه الجلود نفسها، حكاه الماوردي. وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أنس بن
مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: " هل تدرون مم أضحك؟ " قال: قلنا: الله
ورسوله أعلم. قال: " من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول:
بلى، قال: فيقول: لا أجيز علي إلا شاهدا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك
شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق
بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أناضل ".
قوله تعالى: (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) أي: مما نطق. وهاهنا تم الكلام. وما
بعده ليس من جواب الجلود.
قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم) روى البخاري ومسلم
في " الصحيحين " من حديث ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفر، قرشي
وختناه ثقفيان، أو ثقفي وختناه قرشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم
أسمعه، فقال أحدهم: أترون الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخران: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإن
لم نرفع لم يسمع، وقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كله، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل
الله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم...) إلى قوله: (من الخاسرين).
ومعنى " تستترون ": تستخفون " أن يشهد " أي: من أن يشهد " عليكم سمعكم " لأنكم لا تقدرون
59

على الاستخفاء من جوارحكم، ولا تظنون أنها تشهد (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما
تعملون) قال ابن عباس: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكنه يعلم ما يظهر،
(وذلكم ظنكم) أي: أن الله لا يعلم ما تعملون، (أرادكم) أهلككم.
(فإن يصبروا) أي: على النار فهي مسكنهم، (وإن يستعتبوا) أي: يسألوا أن يرجع لهم إلى
ما يحبون، لم يرجع لهم، لأنهم لا يستحقون ذلك. يقال: أعتبني فلان، أي: أرضاني بعد إسخاطه
إياي. واستعتبته، أي: طلبت منه أن يعتب * أي: يرضى.
قوله تعالى: (وقضينا لهم قرناء) أي: سببنا لهم قرناء من الشياطين (فزينوا لهم ما بين
أيديهم وما خلفهم) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ما بين أيديهم: من أمر الآخرة أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب، وما خلفهم:
من أمر الدنيا، فزينوا لهم اللذات وجمع الأموال وترك الإنفاق في الخير.
والثاني: ما بين أيديهم: من أمر الدنيا، وما خلفهم: من أمر الآخرة، على عكس الأول.
والثالث: ما بين أيديهم: ما فعلوه، وما خلفهم: ما عزموا على فعله. وباقي الآية قد تقدم
تفسيره.
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون (26) فلنذيقن
الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعلمون (27) ذلك جزاء أعداء
الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون (28)
قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن) أي: لا تسمعوه (والغوا فيه) أي:
عارضوه باللغو، وهو الكلام الخالي عن فائدة. وكان الكفار يوصي بعضهم بعضا: إذا سمعتم القرآن
من محمد وأصحابه فارفعوا أصواتكم حتى تلبسوا عليهم قولهم. وقال مجاهد: والغوا فيه بالمكاء
والصفير والتخليط من القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ (لعلكم تغلبون) فيسكتون.
قوله تعالى: (جزاء أعداء الله) يعني العذاب المذكور. وقوله: (النار) بدل من الجزاء
(لهم فيها دار الخلد) أي: دار الإقامة. قال الزجاج: النار هي الدار، ولكنه كما تقول: لك في
60

هذه الدار دار السرور، وأنت تعني الدار بعينها، قال الشاعر:
أخو رغائب يعطيها ويسألها
يأبى الظلامة منه النوفل الزفر
وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا
ليكونا من الأسفلين (29) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا
تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي
الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31) نزلا من غفور رحيم (32)
قوله تعالى: (وقال الذين كفروا) لما دخلوا النار (ربنا أرنا اللذين أضلانا) وقرأ ابن عامر،
وأبو بكر عن عاصم: " أرنا " بسكون الراء. قال المفسرون: يعنون إبليس وقابيل، لأنهما سنا
المعصية، (نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين) أي: في الدرك الأسفل، وهو أشد عذابا
من غيره.
ثم ذكر المؤمنين فقال: (إن الذين قالوا ربنا الله) أي: وحدوه (ثم استقاموا) فيه ثلاثة
أقوال:
أحدها: استقاموا على التوحيد، قاله أبو بكر الصديق، ومجاهد.
والثاني: على طاعة الله وأداء فرائضه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة.
والثالث: على الإخلاص والعمل إلى الموت، قاله أبو العالية، والسدي، وروى عطاء عن ابن
عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق، وذلك أن المشركين قالوا: ربنا الله، والملائكة
بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا، وقالت اليهود: ربنا الله، وعزيز ابنه، ومحمد ليس
بنبي، فلم يستقيموا، وقالت النصارى: ربنا الله، والمسيح ابنه، ومحمد ليس بنبي، فلم يستقيموا،
وقال أبو بكر: ربنا الله وحده، ومحمد عبده ورسوله، فاستقام.
قوله تعالى: (تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا) أي: بأن لا تخافوا، وفي وقت نزولها عليهم
قولان:
أحدهما: عند الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد، فعلى هذا في معنى " لا تخافوا " قولان:
أحدهما: لا تخافوا الموت، ولا تحزنوا على أولادكم، قاله مجاهد. والثاني: لا تخافوا ما أمامكم،
ولا تحزنوا على ما خلفكم، قاله عكرمة، والسدي.
61

والقول الثاني: تتنزل عليهم إذا قاموا من القبور، قاله قتادة، فيكون معنى " لا تخافوا ": أنهم
يبشرونهم بزوال الخوف والحزن يوم القيامة.
قوله تعالى: (نحن أولياؤكم) قال المفسرون: هذا قول الملائكة لهم، والمعنى: نحن
[الذين] كنا نتولاكم في الدنيا، لأن الملائكة تتولى المؤمنين وتحبهم لما ترى من أعمالهم المرفوعة
إلى السماء، (وفي الآخرة) أي: ونحن معكم في الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. وقال
السدي: هم الحفظة على ابن آدم، فلذلك قالوا: " نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة "،
وقيل: هم الملائكة الذين يأتون لقبض الأرواح.
قوله تعالى: (ولكم فيها) أي: في الجنة.
قال الزجاج: معناه: أبشروا بالجنة تنزلونها [نزلا]. وقال الأخفش: لكم فيها ما
تشتهي أنفسكم أنزلناه نزلا.
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين (33)
تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذين بينك وبينه عداوة
كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35) وإما
ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم (36)
قوله تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) فيمن أريد بهذا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم المؤذنون. روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نزلت في
المؤذنين "، وهذا قول عائشة، ومجاهد، وعكرمة.
والثاني: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قاله ابن عباس: والسدي، وابن
زيد.
والثالث: أنه المؤمن أجاب الله إلى ما دعاه، ودعا الناس إلى ذلك (وعمل صالحا) في
إجابته، قاله الحسن. وفي قوله: (وعمل صالحا) ثلاثة أقوال:
أحدها: صلى ركعتين بعد الأذان، وهو قول عائشة، ومجاهد، وروى إسماعيل بن أبي خالد
عن قيس بن أبي حازم: " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله " قال: الأذان " وعمل صالحا " قال: الصلاة
بين الأذان والإقامة.
والثاني: أدى الفرائض وقام لله بالحقوق، قاله عطاء.
62

والثالث: صام وصلى، قاله عكرمة.
قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) قال الزجاج: " لا " زائدة مؤكدة، والمعنى:
ولا تستوي الحسنة والسيئة، وللمفسرين فيهما ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الحسنة: الإيمان، والسيئة: الشرك، قاله ابن عباس.
والثاني: الحلم والفحش، قاله الضحاك.
والثالث: النفور والصبر، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن) وذلك كدفع الغضب بالصبر، والإساءة بالعفو، فإذا
فعلت ذلك صار الذي بينك وبينه عداوة كالصديق القريب. وقال عطاء. هو السلام على من تعاديه
إذا لقيته. قال المفسرون: وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
قوله تعالى: (وما يلقاها) أي: ما يعطاها. قال الزجاج: ما يلقى هذه الفعلة: وهي دفع
السيئة بالحسنة (إلا الذين صبروا) على كظم الغيظ (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) من الخير.
وقال السدي: إلا ذو جد. وقال قتادة: الحظ العظيم: الجنة، فالمعنى: ما يلقاها إلا من وجبت له
الجنة.
قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) قد فسرناه في الأعراف.
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا
لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون (37) فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون
له بالليل والنهار وهم لا يسئمون (38) ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا
أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شئ قدير (39)
قوله تعالى: (فإذا استكبروا) أي: تكبروا عن التوحيد والعبادة (فالذين عند ربك) يعني
الملائكة (يسبحون) أي: يصلون. و " يسأمون " بمعنى يملون. وفي موضع السجدة قولان:
أحدهما: أنه عند قوله: " يسأمون "، قاله ابن عباس، ومسروق، وقتادة، واختاره القاضي أبو
يعلى، لأنه تمام الكلام.
والثاني: أنه عند قوله: (إن كنتم إياه تعبدون)، روي عن أصحاب عبد الله، والحسن،
وأبي عبد الرحمن.
63

قوله تعالى: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة) قال قتادة: غبراء متهشمة قال الأزهري:
إذا يبست الأرض ولم تمطر، قيل: خشعت.
قوله تعالى: (اهتزت) أي: تحركت بالنبات (وربت) أي: علت، لأن النبت إذا أراد أن
يظهر ارتفعت له الأرض، وقد سبق بيان هذا
إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا
يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير (40) إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم
وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)
قوله تعالى: (إن الذين يلحدون في آياتنا) قال مقاتل: نزلت في أبي جهل وقد شرحنا معنى
الإلحاد في المحل، وفي المراد به هاهنا خمسة أقوال:
أحدها: أنه وضع الكلام على غير موضعه، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه المكاء والصفير عند تلاوة القرآن، قاله مجاهد.
والثالث: أنه التكذيب بالآيات، قاله قتادة.
والرابع: أنه المعاندة، قاله السدي.
والخامس: أنه الميل عن الإيمان بالآيات، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (لا يخفون علينا) هذا وعيد بالجزاء (أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا
يوم القيامة) وهذا عام، غير أن المفسرين ذكروا فيمن أريد به سبعة أقوال:
أحدها: أنه أبو جهل وأبو بكر الصديق، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أبو جهل وعمار بن ياسر، قاله عكرمة.
والثالث: أبو جهل ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب، ومقاتل.
والرابع: أبو جهل وعثمان بن عفان، حكاه الثعلبي.
والخامس: أبو جهل وحمزة، حكاه الواحدي.
والسادس: أبو جهل وعمر بن الخطاب.
والسابع: الكافر والمؤمن، حكاهما الماوردي.
قوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد والتهديد.
64

قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر) يعني القرآن، ثم أخذ في وصف الذكر، وترك جواب
" إن "، وفي جوابها هاهنا قولان:
[أحدهما]: أنه " أولئك ينادون من مكان بعيد "، ذكره الفراء.
والثاني: أنه متروك، وفي تقديره قولان: أحدهما: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا
به. والثاني: إن الذين كفروا يجازون بكفرهم.
قوله تعالى: (وإنه لكتاب عزيز) فيه أربعة أقوال:
أحدها: منيع من الشيطان لا يجد إليه سبيلا، قاله السدي.
والثاني: كريم على الله، قاله ابن السائب.
والثالث: منيع من الباطل، قاله مقاتل.
والرابع: يمتنع على الناس أن يقولوا مثله، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (لا يأتيه الباطل) فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: التكذيب، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: الشيطان.
والثالث: التبديل، رويا عن مجاهد. قال قتادة: لا يستطيع إبليس أن ينقص منه حقا، ولا يزيد فيه
باطلا، وقال مجاهد: لا يدخل فيه ما ليس منه.
وفي قوله: (من بين يديه ولا من خلفه) ثلاثة أقوال.
أحدها: بين يدي تنزيله، وبعد نزوله.
والثاني: أنه ليس قبله كتاب يبطله، ولا يأتي بعده كتاب يبطله.
والثالث: لا يأتيه الباطل في إخباره عما تقدم، ولا في إخباره عما تأخر.
ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (43) ولو
جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى
وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد (44)
قوله تعالى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) فيه قولان:
أحدهما: أنه قد قيل فيمن أرسل قبلك: ساحر وكاهن ومجنون. وكذبوا كما كذبت، هذا
قول الحسن، وقتادة، والجمهور.
والثاني: ما تخبر إلا بما أخبر الأنبياء قبلك من أن الله غفور، وأنه ذو عقاب، حكاه
الماوردي.
قوله تعالى: (ولو جعلناه) يعني الكتاب الذي أنزل عليه (قرآنا أعجميا) أي: بغير لغة
65

العرب (لقالوا لولا فصلت آياته) أي: هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمه؟! (أأعجمي وعربي) قرأ
ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: " آعجمي " [بهمزة] ممدودة، وقرأ
حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " أأعجمي " بهمزتين، والمعنى: أكتاب أعجمي ونبي
عربي؟ وهذا استفهام إنكار، أي: لو كان كذلك لكان أشد لتكذيبهم.
(قل هو) يعني القرآن (للذين آمنوا هدى) من الضلالة (وشفاء) للشكوك والأوجاع.
و " الوقر ": الصمم، فهم في ترك القبول بمنزلة من في أذنه صمم.
(وهو عليهم عمى) أي: ذو عمى. قال قتادة: صموا عن القرآن وعموا عنه (أولئك ينادون
من مكان بعيد) أي: إنهم لا يسمعون ولا يفهمون كالذي ينادي من بعيد.
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم
وإنهم لفي شك منه مريب (45) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك
بظلام للعبيد (46)
قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب) هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: كما آمن
بكتابك قوم وكذب به قوم. فكذلك كتاب موسى، (ولولا كلمة سبقت من ربك) في تأخير العذاب
إلى أجل مسمى وهو القيامة (لقضي بينهم) بالعذاب الواقع بالمكذبين (وإنهم لفي شك) من
صدقك وكتابك، (مريب) أي: موقع لهم الريبة.
إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا
بعلمه ويوم يناديهم أين شركاءي قالوا ءاذناك ما منا من شهيد (47) وضل عنهم ما كانوا
يدعون من قبل وظنوا مالهم من محيص (48)
قوله تعالى: (إليه يرد علم الساعة) سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن
الساعة إن كنت رسولا كما تزعم، قاله مقاتل. ومعنى الآية: لا يعلم قيامها إلا هو، فإذا سئل عنها
فعلمها مردود إليه.
(وما تخرج من ثمرة) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم:
66

" من ثمرة ". وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: " من ثمرات " على الجمع (من أكمامها)
أي: أوعيتها. قال ابن قتيبة: أي: من المواضع التي كانت فيها مستترة، وغلاف كل شيء: كمه،
وإنما قيل: كم القميص، من هذا. قال الزجاج: الأكمام: ما غطى، وكل شجرة تخرج ما هو مكمم
فهي ذات أكمام، وأكمام النخلة: ما غطى جمارها من السعف والليف والجذع، وكل ما أخرجته النخلة
فهو ذو أكمام، فالطلعة كمها قشرها، ومن هذا قيل للقلنسوة: كمة، لأنها تغطي الرأس، ومن هذا كما
القميص، لأنهما يغطيان اليدين.
قوله تعالى: (ويوم يناديهم) أي: ينادي الله تعالى المشركين (أين شركائي) الذين كنتم
تزعمون (قالوا آذناك) قال الفراء، وابن قتيبة: أعلمناك، وقال مقاتل: أسمعناك (ما منا من شهيد)
فيه قولان:
أحدهما: أنه من قول المشركين، ما منا من شهيد بأن لك شريكا، فيتبرؤون يومئذ مما كانوا
يقولون، هذا قول مقاتل.
والثاني: أنه من قول الآلهة التي كانت تعبد، والمعنى: ما منا من شهيد لهم بما قالوا، قاله
الفراء، وابن قتيبة.
قوله تعالى: (وضل عنهم) أي: بطل عنهم في الآخرة (ما كانوا يدعون) أي: يعبدون في
الدنيا، (وضنوا) أي: أيقنوا (مالهم من محيص) وقد شرحنا المحيص في سورة النساء.
لا يسئم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط (49) ولئن أذقناه
رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولون هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي
إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ (50)
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض (51)
قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد (52)
قوله تعالى: (لا يسأم الإنسان) قال المفسرون: المراد به الكافر، فالمعنى: لا يمل الكافر
(من دعاء الخير) أي: من دعائه بالخير، وهو المال والعافية. (وإن مسه الشر) وهو الفقر والشدة،
67

والمعنى: إذا اختبر بذلك يئس من روح الله وقنط من رحمته. وقال أبو عبيدة: اليؤوس، فعول من
يأس، والقنوط، فعول من قنط.
قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا) أي: خيرا وعافية وغنى، (ليقولن هذا لي) أي: هذا
واجب لي بعملي وأنا محقوق به، ثم يشك في البعث فيقول، (وما أظن الساعة قائمة) أي: لست
على يقين من البعث (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) يعني الجنة، أي: كما أعطاني
في الدنيا يعطيني في الآخرة (فلننبئن الذين كفروا) أي: لنخبرنهم بمساوئ أعمالهم. وما بعده قد
سبق إلى قوله تعالى: (ونأى بجانبه) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، " ونأى " مثل " نعى "،
وقرأ ابن عامر: " وناء " مفتوحة النون، ممدودة والهمزة بعد الألف. وقرأ
حمزة: " نئى " مكسورة النون
والهمزة.
(فذو دعاء عريض) قال الفراء، وابن قتيبة: معنى العريض: الكثير، وإن وصفته بالطول أو
بالعرض جاز في الكلام.
(قل) يا محمد لأهل مكة (أرأيتم إن كان) القرآن (من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن
هو في شقاق) أي: خلاف للحق (بعيد) عنه؟ وهو اسم، والمعنى: فلا أحد أضل منكم. وقال
ابن جرير: معنى الآية: ثم كفرتم به، ألستم في شقاق للحق وبعد عن الصواب؟! فجعل مكان
هذا باقي الآية.
سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه
على كل شئ شهيد (53) ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا أنه بكل شئ محيط (54)
قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) فيه خمسة أقوال:
أحدها: في الآفاق: فتح أقطار الأرض، وفي أنفسهم: فتح مكة، قاله الحسن، ومجاهد،
والسدي.
والثاني: أنها في الآفاق: وقائع الله في الأمم الخالية، وفي أنفسهم: يوم بدر، قاله قتادة،
ومقاتل.
والثالث: أنها في الآفاق: إمساك القطر عن الأرض كلها، وفي أنفسهم: البلايا التي تكون
في أجسادهم، قاله ابن جريج.
68

والرابع: أنها في الآفاق: آيات السماء كالشمس والقمر والنجوم، وفي أنفسهم: حوادث
الأرض، قاله ابن زيد. وحكي عن ابن زيد، أن التي في أنفسهم: سبيل الغائط والبول، فإن
الانسان يأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج من مكانين.
والخامس: أنها في الأفاق: آثار من مضى قبلهم من المكذبين، وفي أنفسهم: كونهم
خلقوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما إلى أن نقلوا إلى العقل والتمييز، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (حتى يتبين لهم أنه الحق) في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن.
والثاني: إلى جميع ما دعاهم إليه الرسول. وقال ابن جرير: معنى الآية: حتى يعلموا حقيقة ما
أنزلنا على محمد وأوحينا إليه من الوعد له بأنا مظهرو دينه على الأديان كلها.
(أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) أي: أولم يكف به أنه شاهد على كل شيء؟!
قال الزجاج: المعنى: أو لم يكفهم شهادة ربك؟! ومعنى الكفاية هاهنا: أنه قد بين لهم ما فيه كفاية
في الدلالة على توحيده وتثبيت رسله.
69

(42) سورة الشورى مكية
وآياتها ثلاث وخمسون
واسمها سورة الشورى
وهي مكية، رواه العوفي وغيره عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، ومجاهد،
وقتادة، والجمهور. وحكي عن ابن عباس وقتادة قالا: إلا أربع آيات نزلن بالمدينة، أولها: (قل لا
أسألكم عليه أجرا) وقال مقاتل: فيها من المدني قوله: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين
آمنوا) إلى قوله: (بذات الصدور) وقوله: (والذين إذا أصابهم البغي) إلى قوله: (من
سبيل).
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) عسق (2) كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3)
70

له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم (4) تكاد السماوات يتفطرن من
فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو
الغفور الرحيم (5) والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم
بوكيل (6)
قوله تعالى: (حم) قد سبق تفسيره.
قوه تعالى: (عسق) فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: أنه حروف من أسماء، ثم فيه خمسة أقوال: أحدها: أن العين علم الله، والسين
سناؤه، والقاف قدرته، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن. والثاني: أن العين فيها
عذاب، والسين فيها مسخ، والقاف فيها قذف، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثالث: أن
الحاء من حرب، والميم من تحويل ملك، والعين من عدو مقهور، والسين استئصال بسنين كسني
يوسف، والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض، قاله عطاء. والرابع: أن العين من عالم، والسين
من قدوس، والقاف من قاهر، قاله سعيد بن جبير. والخامس: أن العين من العزيز، والسين من
السلام، والقاف من القادر، قاله السدي.
والثالث: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.
قوله تعالى: (كذلك يوحي إليك) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه كما أوحيت " حم عسق " إلى كل نبي، كذلك نوحيها إليك، قاله أبو صالح عن ابن
عباس.
والثاني: كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى من قبلك، رواه عطاء عن ابن
عباس.
والثالث: أن " حم عسق " نزلت في أمر العذاب، فقيل: كذلك نوحي إليك أن العذاب نازل
بمن كذبك كما أوحينا ذلك إلى من كان قبلك، قاله مقاتل.
والرابع: أن المعنى: هكذا نوحي إليك، قاله ابن جرير.
وقرأ ابن كثير: " يوحى " بضم الياء وفتح الحاء كأنه إذا قيل: من يوحي؟ قيل: الله. وروى أبان
عن عاصم: " نوحي " بالنون وكسر الحاء.
(تكاد السماوات يتفطرن) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة: " تكاد " بالتاء " يتفطرن " بياء وتاء
71

مفتوحة وفتح الطاء وتشديدها. وقرأ نافع، والكسائي، " يكاد " بالياء " يتفطرن " مثل قراءة ابن كثير.
وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: " تكاد " بالتاء " ينفطرن " بالنون وكسر الطاء وتخفيفها، أي:
يتشققن (من فوقهن) أي: من فوق الأرضين من عظمة الرحمن، وقيل: من قول المشركين:
" اتخذ الله ولدا ". ونظيرها التي في مريم.
(والملائكة يسبحون بحمد ربهم) قال بعضهم: يصلون بأمر ربهم، وقال بعضهم: ينزهونه عما
لا يجوز في (ويستغفرون لمن في الأرض) فيه قولان:
أحدهما: أنه أراد المؤمنين، قاله قتادة، والسدي.
والثاني: أنهم كانوا يستغفرون للمؤمنين، فلما ابتلي هاروت وماروت استغفروا لمن في
الأرض.
ومعنى استغفارهم: سؤالهم الرزق لهم، قاله ابن السائب. وقد زعم قوم منهم مقاتل أن هذه
الآية منسوخة بقوله: (ويستغفرون للذين آمنوا)، وليس بشيء، لأنهم إنما يستغفرون للمؤمنين
دون الكفار، فلفظ هذه الآية عام، ومعناها خاص، ويدل على التخصيص قوله: (ويستغفرون للذين
آمنوا) لأن الكافر لا يستحق أن يستغفر له.
قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء) يعني كفار مكة اتخذوا آلهة فعبدوها من دونه
(الله حفيظ عليهم) أي: حافظ لأعمالهم ليجازيهم بها (وما أنت عليهم بوكيل) أي: لم نوكلك
بهم فتؤخذ بهم. وهذه الآية عند جمهور المفسرين منسوخة بآية السيف، ولا يصح.
وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع
لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير (7) ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن
يدخل من يشاء في رحمته والظالمون مالهم من ولى ولا نصير (8) أم اتخذوا من دونه
أولياء فالله هو الولي وهو يحي الموتى وهو على كل شئ قدير (9)
قوله تعالى: (وكذلك) أي: ومثل ما ذكرنا (أوحينا إليك قرآنا عربيا) ليفهموا ما فيه (لتنذر
أم القرى) يعني مكة، والمراد: أهلها، (وتنذر يوم الجمع) أي: وتنذرهم يوم الجمع، وهو يوم
القيامة، يجمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السماوات والأرضين (لا ريب فيه) أي: لاشك في
هذا الجمع أنه كائن، ثم بعد الجمع يتفرقون، وهو قوله: (فريق في الجنة وفريق في السعير).
72

ثم ذكر سبب افتراقهم فقال: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) أي: على دين واحد،
كقوله: (لجمعهم على الهدى) (ولكن يدخل من يشاء في رحمته) أي: في دينه (والظالمون)
وهم الكافرون (مالهم من ولي) يدفع عنهم العذاب (ولا نصير) يمنعهم منه.
(أم اتخذوا من دونه) أي: بل اتخذ الكافرون من دون الله (أولياء) يعني آلهة يتولونهم
(فالله هو الولي) أي: ولي أوليائه، فليتخذوه وليا دون الآلهة، وقال ابن عباس: وليك يا محمد
وولي من اتبعك.
وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب (10)
فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه
ليس كمثله شئ وهو السميع البصير (11) له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق
لمن يشاء ويقدر إنه بكل شئ عليم (12) شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي
أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على
المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13)
وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل
مسمى لقضى بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب (14)
قوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء) أي: من أمر الدين، وقيل: بل هو عام (فحكمه
إلى الله) فيه قولان.
أحدهما: علمه عند الله.
والثاني: هو يحكم فيه. قال مقاتل: وذلك أن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن، وآمن بعضهم،
فقال الله: أنا الذي أحكم فيه (ذلكم الله) الذي يحكم بين المختلفين هو (ربي عليه توكلت) في
مهماتي (إليه أنيب) أي: أرجع في المعاد.
(فاطر السماوات) قد سبق بيانه، (جعل لكم من أنفسكم) أي: من مثل خلقكم
73

(أزواجا) نساء (ومن الأنعام أزواجا) أصنافا ذكورا وإناثا، والمعنى أنه خلق لكم الذكر والأنثى من
الحيوان كله (يذرؤكم) فيها ثلاثة أقوال.
أحدها: يخلقكم، قاله السدي.
والثاني: يعيشكم، قاله مقاتل.
والثالث: يكثركم، قاله الفراء. وفي قوله (فيه) قولان:
أحدهما: أنها على أصلها، قاله الأكثرون. فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها ترجع إلى في بطون الإناث وقد تقدم ذكر الأزواج، قاله زيد بن أسلم. فعلى هذا
يكون المعنى: يخلقكم في بطون النساء، وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة، فقال: يخلقكم في
الرحم أو في الزوج، وقال ابن جرير: يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، ويعيشكم فيما جعل
لكم من الأنعام.
والثاني: أنها ترجع إلى الأرض، قاله ابن زيد، فعلى هذا يكون المعنى: يذرؤكم فيما خلق
من السماوات والأرض.
والثالث: أنها ترجع إلى الجعل المذكور، ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: يعيشكم فيما جعل من الأنعام، قاله مقاتل،
والثاني: يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعل الأزواج، قاله الواحدي.
والقول الثاني: أن " فيه " بمعنى " به "، والمعنى: يكثركم بما جعل لكم، قاله الفراء،
والزجاج.
قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) قال ابن قتيبة: أي: ليس كهو شيء، والعرب تقيم المثل
مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا، أي: أنا يقال لي هذا. وقال الزجاج: الكاف مؤكدة،
والمعنى: ليس مثله شيء، وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله: (شرع لكم) أي: بين وأوضح
(من الدين وما وصى به نوحا) وفيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام، قاله قتادة.
والثاني: تحريم الأخوات والأمهات، قاله الحكم.
والثالث: التوحيد وترك الشرك.
قوله تعالى: (والذي أوحينا إليك) أي: من القرآن وشرائع الإسلام. قال الزجاج: المعنى:
وشرع الذي أوحينا إليك وشرع لكم ما وصى به إبراهيم وموسى وعيسى. وقوله: (أن أقيموا الدين)
74

تفسير قوله: (ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) وجائز أن يكون تفسيرا ل‍ (ما وصى به نوحا)
ولقوله: (والذي أوحينا إليك) ولقوله: (وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى)، فيكون المعنى:
شرع لكم ولمن قبلكم إقامة الدين وترك الفرقة، وشرع الاجتماع على اتباع الرسل وقال مقاتل:
(أن أقيموا الدين) يعني التوحيد (ولا تتفرقوا فيه) أي: لا تختلفوا (كبر على المشركين) أي:
عظم على مشركي مكة (ما تدعوهم إليه) يا محمد من التوحيد.
قوله تعالى: (الله يجتبي إليه) أي: يصطفي من عباده لدينه (من يشاء ويهدي) إلى دينه،
(من ينيب) أي: يرجع إلى طاعته.
ثم ذكر افتراقهم بعد أن أوصاهم بترك الفرقة، فقال: (وما تفرقوا) يعني أهل الكتاب (إلا
من بعد ما جاءهم العلم) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: من بعد كثرة علمهم للبغي.
والثاني: من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال.
والثالث: من بعد ما جاءهم القرآن، بغيا منهم على محمد صلى الله عليه وسلم.
(ولولا كلمة سبقت من ربك) في تأخير المكذبين من هذه الأمة إلى يوم القيامة، (لقضي
بينهم) بإنزال العذاب على المكذبين (وإن الذين أورثوا الكتاب) يعني اليهود والنصارى (من
بعدهم) أي: من بعد أنبيائهم (لفي شك منه) أي: من محمد صلى الله عليه وسلم
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله
من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا
حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15) والذين يحاجون في الله من بعد ما
استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16)
قوله تعالى: (فلذلك فادع) قال الفراء: المعنى، فإلى ذلك، تقول: دعوت إلى فلان،
ودعوت لفلان، و " ذلك " بمعنى " هذا "، وللمفسرين فيه قولان:.
أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن السائب.
والثاني: أنه التوحيد، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (ولا تتبع أهواءهم) يعني أهل الكتاب، لأنهم دعوه إلى دينهم.
75

قوله تعالى: (وأمرت لأعدل بينكم) قال بعض النحويين: المعنى: أمرت كي أعدل. وقال
غيره: المعنى: أمرت بالعدل. وتقع " أمرت " على " أن "، وعلى " كي "، وعلى " اللام "، يقال: أمرت
أن أعدل، وكي أعدل، ولأعدل.
ثم في ما أمر أن يعدل فيه قولان: أحدهما: في الأحكام إذا ترافعوا إليه.
والثاني: في تبليغ الرسالة.
قوله تعالى: (الله ربنا وربكم) أي: هو إلهنا وإن اختلفنا، فهو يجازينا بأعمالنا، فذلك
قوله: (لنا أعمالنا) أي: جزاؤها. (لا حجة بيننا وبينكم) قال مجاهد: لا خصومة بيننا وبينكم.
فصل
وفي هذه الآية قولان:
أحدهما: أنها اقتضت الاقتصار على الإنذار، وذلك قبل القتال، ثم نزلت آية السيف
فنسختها، قاله الأكثرون.
والثاني: أن معناها: إن الكلام - بعد ظهور الحجج والبراهين - قد سقط بيننا، فعلى هذا هي
محكمة، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله عن طائفة من المفسرين.
قوله تعالى: (والذين يحاجون في الله) أي: يخاصمون في دينه. قال قتادة: هم اليهود،
قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن خير منكم. وعلى قول مجاهد: هم المشركون،
طمعوا أن تعود الجاهلية.
قوله تعالى: (من بعد ما استجيب له) أي: من بعد إجابة الناس إلى الإسلام (حجتهم
داحضة) أي: خصومتهم باطلة.
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب (17) يستعجل بها
الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون
في الساعة لفي ضلال بعيد (18) الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوى
العزيز (19) من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته
منها وما له في الآخرة من نصيب (20)
76

قوله تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب) يعني القرآن (بالحق) أي: لم ينزله لغير شيء
(والميزان) فيه قولان:
أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة، والجمهور.
والثاني: أنه الذي يوزن به، حكي عن مجاهد. ومعنى إنزاله: إلهام الخلق أن يعملوا به، وأمر
الله عز وجل إياهم بالإنصاف. وسمي العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الخلق.
وتمام الآية مشروح في الأحزاب.
قوله تعالى: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) لأنهم لا يخافون ما فيها، إذ لم يؤمنوا بكونها،
فهم يطلبون قيامها استبعادا واستهزاء (والذين آمنوا مشفقون) أي: خائفون (منها) لأنهم يعلمون
أنهم محاسبون ومجزيون، ولا يدرون ما يكون منهم (ويعلمون أنها الحق) أي: أنها كائنة لا
محالة (ألا إن الذين يمارون في الساعة) أي: يخاصمون في كونها (لفي ضلال بعيد) حين لم
يتفكروا، فيعلموا قدرة الله على إقامتها.
(الله لطيف بعباده) قد شرحنا معنى اسمه " اللطيف " في الأنعام وفي عباده هاهنا قولان:
أحدهما: أنهم المؤمنون.
والثاني: أنه عام في الكل. ولطفه بالفاجر: أنه لا يهلكه.
(يرزق من يشاء) أي: يوسع له الرزق.
قوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة) قال ابن قتيبة: أي عمل الآخرة، يقال: فلان
يحرث الدنيا، أي: يعمل لها ويجمع المال، فالمعنى من أراد بعمله الآخرة (نزد له في حرثه)
أي: نضاعف له الحسنات.
قال المفسرون: من أراد العمل لله بما يرضيه، أعانه الله على عبادته، ومن أراد الدنيا مؤثرا
لها على الآخرة لأنه غير مؤمن بالآخرة، يؤته منها، وهو الذي قسم له، (وما له في الآخرة من
نصيب) لأنه كافر بها لم يعمل لها.
فصل
اتفق العلماء على أن أول هذه الآية إلى " حرثه " محكم، واختلفوا في باقيها على قولين.
أحدهما: أنه منسوخ بقوله: (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد)، وهذا قول جماعة منهم
مقاتل.
والثاني: أن الآيتين محكمتان متفقتان في المعنى، لأنه لم يقل في هذه الآية: نؤته مراده،
77

فعلم أنه إنما يؤتيه الله ما أراد، وهذا موافق لقوله: " لمن نريد "، ويحقق هذا أن لفظ الآيتين لفظ
الخبر ومعناهما معنى الخبر، وذلك لا يدخله النسخ، وهذا مذهب جماعة منهم قتادة.
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم
وإن الظالمين لهم عذاب أليم (21) ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم
والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك هو
الفضل الكبير (22) ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا
أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا
إن الله غفور شكور (23) أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك
ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور (24)
قوله تعالى: (أم لهم شركاء) يعني كفار مكة، والمعنى: ألهم آلهة (شرعوا) أي ابتدعوا
(لهم) دينا لم يأذن به ا لله؟! (ولولا كلمة الفصل) وهي: القضاء السابق بأن الجزاء يكون في
القيامة (لقضي بينهم) في الدنيا بنزول العذاب على المكذبين. والظالمون في هذه الآية والتي
تليها: يراد بهم المشركون. والإشفاق: الخوف. والذي كسبوا: هو الكفر والتكذيب، (وهو واقع
بهم) يعني جزاؤه. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: (ذلك) يعني: ما تقدم ذكره من الجنات (الذي
يبشر الله عباده) قال أبو سلمان الدمشقي: " ذلك " بمعنى: هذا الذي أخبرتكم به بشرى يبشر الله بها
عباده. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " يبشر " بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين.
قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا) في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المشركين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن
ابن عباس.
78

والثاني: أنه لما قدم المدينة كانت تنوبه نوائب وليس في يده سعة، فقال الأنصار: إن هذا
الرجل قد هداكم الله به، وليس في يده سعة، فاجمعوا له من أموالكم مالا يضركم، ففعلوا ثم أتوه
به، فنزلت هذه الآية، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون محمدا يسأل
على ما يتعاطاه أجرا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والهاء في " عليه " كناية عما جاء به من الهدى. وفي الاستثناء هاهنا قولان:
أحدهما: أنه من الجنس، فعلى هذا يكون سائلا أجرا. وقد أشار ابن عباس في رواية
الضحاك إلى هذا المعنى، ثم قال: نسخت هذه بقوله: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم...)
الآية، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل.
والثاني: أنه استثناء من غير الأول، لأن الأنبياء لا يسألون على تبليغهم أجرا وإنما المعنى:
لكني أذكركم المودة في القربى، وقد روى هذا المعنى جماعة عن ابن عباس، منهم العوفي، وهذا
اختيار المحققين، وهو الصحيح، فلا يتوجه النسخ أصلا. وفي المراد بالقربى خمسة أقوال:
أحدها: أن معنى الكلام: إلا أن تودوني لقرابتي منكم، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد
في الأكثرين. قال ابن عباس: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة.
والثاني: إلا أن تودوا قرابتي، قاله علي بن الحسين، وسعيد بن جبير، والسدي. ثم في
المراد بقرابته قولان: أحدهما: علي وفاطمة وولدها، وقد رووه مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
والثاني: أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة ويقسم فيهم الخمس، وهم بنو هاشم وبنو المطلب.
والثالث: أن المعنى: إلا أن توددوا إلى الله تعالى فيما يقربكم إليه من العمل الصالح، قاله
الحسن، وقتادة.
والرابع: إلا أن تودوني، كما تودون قرابتكم، قاله ابن زيد.
والخامس: إلا أن تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم، حكاه الماوردي. والأول: أصح.
قوله تعالى: (ومن يقترف) أي: من يكتسب (حسنة نزد له فيها حسنا) أي: نضاعفها
بالواحدة عشرا فصاعدا. وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: " يزد له " بالياء (إن الله غفور)
للذنوب (شكور) للقليل حتى يضاعفه.
79

(أم يقولون) أي: بل يقول كفار مكة (افترى على الله كذبا) حين زعم أن القرآن من عند
الله (فإن يشأ الله يختم على قلبك) فيه قولان:
أحدهما: يختم على قلبك فينسيك القرآن، قاله قتادة.
والثاني: يربط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يشق عليك قولهم: إنك مفتر، قاله مقاتل،
والزجاج.
قوله تعالى: (ويمح الله الباطل) قال الفراء: ليس بمردود على " يختم " فيكون جزما، وإنما
هو مستأنف، ومثله مما حذفت منه الواو (ويدع الإنسان بالشر). وقال الكسائي: فيه تقديم
وتأخير. تقديره: والله يمحو الباطل. وقال الزجاج: الوقف عليها " ويمحوا " بواو وألف، والمعنى:
والله يمحو الباطل على كل حال، غير أنها كتبت في المصاحف بغير واو، لأن الواو تسقط في اللفظ
لالتقاء الساكنين، فكتبت على الوصل، ولفظ الواو ثابت، والمعنى: ويمحو الله الشرك ويحق الحق
بما أنزله من كتابه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون (25) ويستجيب
الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد (26)
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده
خبير بصير (27)
قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) قد ذكرناه في براءة.
قوله تعالى: (ويعلم ما تفعلون) أي: من خير وشر. قرأ حمزة، والكسائي وحفص عن
عاصم: بالتاء، وقرأ الباقون: بالياء، على الإخبار عن المشركين والتهديد لهم. و " يستجيب " بمعنى
يجيب. وفيه قولان:
أحدهما: أن الفعل فيه لله، والمعنى: يجيبهم إذا سألوه، وقد روى قتادة عن أبي إبراهيم
اللخمي (ويستجيب الذين آمنوا) قال: يشفعون في إخوانهم، (ويزيدهم من فضله) قال:
يشفعون في إخوان إخوانهم.
والثاني: أنه للمؤمنين، فالمعنى: يجيبونه. والأول أصح.
قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده) قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية، وذلك
80

أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير فتمنيناها، فنزلت هذه الآية. ومعنى الآية: لو أوسع الله
الرزق لعباده لبطروا وعصوا وبغى بعضهم على بعض، (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) أي: ينزل أمره
بتقدير ما يشاء مما يصلح أمورهم ولا يطغيهم (إنه بعباده خبير بصير) فمنهم من لا يصلحه إلا
الغنى، ومنهم من لا يصلحه إلا الفقر.
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد (28) ومن
آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء
قدير (29) وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيدكم ويعفوا عن كثير (30) وما
أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (31)
(وهو الذي ينزل الغيث) يعني المطر وقت الحاجة (من بعد ما قنطوا) أي: يئسوا، وذلك
أدعى لهم إلى شكر منزله (وينشر رحمته) في الرحمة هاهنا قولان.
أحدهما: المطر، قاله مقاتل.
والثاني: الشمس بعد المطر، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وقد ذكرنا " الولي " في سورة النساء
و " الحميد " في البقرة.
قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة) وهو ما يلحق المؤمن من مكروه (فبما كسبت
أيديكم) من المعاصي. وقرأ نافع، وابن عامر: " بما كسبت أيديكم " بغير فاء، وكذلك هي في
مصاحف أهل المدينة والشام (ويعفو عن كثير) من السيئات فلا يعاقب بها. وقيل لأبي سليمان
الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ قال: إنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم
بذنوبهم، وقرأ هذه الآية.
81

قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الأرض) إن أراد الله عقوبتكم، وهذا يدخل فيه الكفار
والعصاة كلهم.
ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام (32) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على
ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (33) أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن
كثير (34) ويعلم الذين يجادلون في آياتنا مالهم من محيص (35) فما أوتيتم من شئ
فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (36)
قوله تعالى: (ومن آياته الجواري في البحر) والمراد بالجوار: السفن. قرأ ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو: " الجواري " بياء في الوصل، إلا أن ابن كثير يقف أيضا بياء، وأبو عمرو بغير ياء،
ويعقوب يوافق ابن كثير، والباقون بغير ياء في الوصل والوقف، قال أبو علي: والقياس ما ذهب إليه
ابن كثير، ومن حذف، فقد كثر حذف مثل هذا في كلامهم.
(كالأعلام) قال ابن قتيبة: كالجبال، واحدها: علم. وروي عن الخليل بن أحمد أنه
قال: كل شيء مرتفع - عند العرب - فهو علم.
قوله تعالى: (إن يشأ يسكن الريح) التي تجريها (فيظللن) يعني الجواري (رواكد على
ظهره) أي: سواكن على ظهر البحر لا يجرين.
(أو يوبقهن) أي: يهلكهن ويغرقهن، والمراد أهل السفن، ولذلك قال: (بما كسبوا) أي:
من الذنوب (ويعف عن كثير) من ذنوبهم، فينجيهم من الهلاك.
(ويعلم الذين يجادلون) قرأ نافع، وابن عامر: " ويعلم " بالرفع على الاستئناف وقطعه من
الأول: وقرأ الباقون بالنصب، قال الفراء: هو مردود على الجزم، إلا أنه صرف، والجزم إذا صرف
عنه معطوفه نصب. وللمفسرين في معنى الآية قولان:
أحدهما: ويعلم الذين يخاصمون في آيات الله حين يؤخذون بالغرق أنه لا ملجأ لهم
والثاني: أنهم يعلمون بعد البعث أنه لا مهرب لهم من العذاب.
قوله تعالى: (فما أوتيتم من شيء) أي: ما أعطيتم من الدنيا فهو متاع تتمتعون به، ثم يزول
سريعا، (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا) لا للكافرين، لأنه إنما أعد لهم في الآخرة
العذاب.
82

والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37) والذين استجابوا
لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38) والذين إذا
أصابهم البغي هم ينتصرون (39) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره
على الله إنه لا يحب الظالمين (40) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41)
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم
عذاب أليم (42) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (43)
قوله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الإثم) وقرأ حمزة، والكسائي: " كبير الإثم " على التوحيد
من غير ألف، والباقون بألف. وقد شرحنا الكبائر في سورة النساء وفي المراد بالفواحش هاهنا
قولان:
أحدهما: الزنا.
والثاني: موجبات الحدود.
قوله تعالى: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) أي: يعفون عمن ظلمهم طلبا لثواب الله تعالى.
(والذين استجابوا لربهم) أي: أجابوه فيما دعاهم إليه.
(وأمرهم شورى بينهم) قال ابن قتيبة: أي يتشاورون فيه بينهم، وقال الزجاج: المعنى أنهم
لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه.
قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) اختلفوا في هذا البغي على ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه بغي الكفار على المسلمين، قال عطاء: هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من
مكة وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله منهم فانتصروا. وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فرقتين بمكة، فرقة كانت تؤذى فتعفو عن المشركين، وفرقة كانت تؤذى فتنتصر، فأثنى الله عز وجل
عليهم جميعا، فقال في الذين لم ينتصروا: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون)، وقال في المنتصرين:
(والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) أي: من المشركين، وقال ابن زيد: ذكر المهاجرين
وكانوا صنفين، صنفا عفا، وصنفا انتصر، فقال: " وإذا ما غضبوا هم يغفرون "، فبدأ بهم، وقال في
المنتصرين: " والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون " أي: من المشركين، وقال: " والذين
83

استجابوا لربهم " إلى قوله: " ينفقون " وهم الأنصار: ثم ذكر الصنف الثالث فقال: " والذين إذا
أصابهم البغي هم ينتصرون " من المشركين:
والثاني: أنه بغي المسلمين على المسلمين خاصة.
والثالث: أنه عام في جميع البغاة، سواء كانوا مسلمين أو كافرين.
فصل
واختلف في هذه الآية علماء الناسخ والمنسوخ، فذهب بعض القائلين بأنها في المشركين إلى
أنها منسوخة بآية السيف، فكأنهم يشيرون إلى أنها أثبتت الانتصار بعد بغي المشركين، فلما جاز لنا
أن نبدأهم بالقتال، دل على أنها منسوخة. وللقائلين بأنها في المسلمين قولان:
أحدهما: أنها منسوخة بقوله: (ولمن صبر وغفر) فكأنها نبهت على مدح المنتصر، ثم
أعلمنا أن الصبر والغفران أمدح، فبان وجه النسخ.
والثاني: أنها محكمة، لأن الصبر والغفران فضيلة، والانتصار مباح، فعلى هذا تكون
محكمة، وهو الأصح.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية - وظاهرها مدح المنتصر - وبين آيات الحث على العفو؟
فعنه ثلاثة أجوبة.
أحدها أنه انتصار المسلمين من الكافرين، وتلك رتبة الجهاد كما ذكرنا عن عطاء.
والثاني: أن المنتصر لم يخرج عن فعل أبيح له، وإن كان العفو أفضل، ومن لم يخرج من
الشرع بفعله، حسن مدحه. قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين! صنف يعفو، فبدأ بذكره،
وصنف ينتصر.
والثالث: أنه إذا بغي على المؤمن فاسق، فلأن له اجتراء الفساق عليه، وليس للمؤمن أن يذل
نفسه، فينبغي له أن يكسر شوكة العصاة لتكون العزة لأهل الدين. قال إبراهيم النخعي: كانوا
يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق، فإذا قدروا عفوا، وقال القاضي أبو يعلى:
هذه الآية محمولة على من تعدى وأصر على ذلك، وآيات العفو محمولة على أن يكون الجاني
نادما.
قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) قال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح، إذا قال له
كلمة إجابة بمثلها من غير أن يعتدي. وقال مقاتل: هذا في القصاص في الجراحات والدماء.
84

(فمن عفا) فلم يقتص (وأصلح) العمل (فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين) يعني من
بدأ بالظلم. وإنما سمى المجازاة سيئة، لما بينا عند قوله: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه)
قال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم من كان أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا.
(ولمن انتصر بعد ظلمه) أي: بعد ظلم الظالم إياه، والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول،
ونظيره: (من دعاء الخير) و (بسؤال نعجتك)، (فأولئك) يعني المنتصرين (ما عليهم من
سبيل) أي: من طريق إلى لوم ولا حد، (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) أي: يبتدئون
بالظلم (ويبغون في الأرض بغير الحق) أي: يعملون فيها بالمعاصي.
قوله تعالى: (ولمن صبر) فلم ينتصر (وغفر إن ذلك) الصبر والتجاوز (لمن عزم الأمور)
وقد شرحناه في آل عمران.
ومن يضلل الله فما له من ولى من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون
هل إلى مرد من سبيل (44) وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من
طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة
ألا إن الظالمين في عذاب مقيم (45) وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله
ومن يضلل الله فما له من سبيل (46)
قوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من ولي) أي: من أحد يلي هدايته بعد إضلال الله إياه.
(وترى الظالمين) يعني المشركين (لما رأوا العذاب) في الآخرة يسألون الرجعة إلى الدنيا
(يقولون هل إلى مرد من سبيل)؟.
(وتراهم يعرضون عليها) أي: على النار (خاشعين) أي: خاضعين متواضعين (من الذل
ينظرون من طرف خفي) وفيه أربعة أقوال:
أحدها: من طرف ذليل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقال الأخفش:
ينظرون من عين ضعيفة. وقال غيره: " من " بمعنى " الباء ".
85

والثاني: يسارقون النظر، قاله قتادة، والسدي.
والثالث: ينظرون ببعض العين، قاله أبو عبيدة.
والرابع: أنهم ينظرون إلى النار بقلوبهم، لأنهم قد حشروا عميا، فلم يروها بأعينهم، حكاه
الفراء، والزجاج، وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله: (ينصرونهم من دون الله) أي:
يمنعونهم من عذاب الله.
استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله مالكم من ملجأ يومئذ وما لكم
من نكير (47) فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا
إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان
كفور (48) لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب
لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم
قدير (50)
قوله تعالى: (استجيبوا لربكم) أي: أجيبوه، فقد دعاكم برسوله (من قبل أن يأتي يوم)
وهو يوم القيامة (لا مرد له من الله) أي: لا يقدر أحد على رده ودفعه (ما لكم من ملجأ) تلجؤون
إليه، (وما لكم من نكير) قال مجاهد: من ناصر ينصركم، وقال غيره: من قدرة على تغيير ما نزل
بكم.
(فإن أعرضوا) عن الإجابة (فما أرسلناك عليهم حفيظا) لحفظ أعمالهم (إن عليك إلا
البلاغ) أي: ما عليك إلا أن تبلغهم. وهذا عند المفسرون منسوخ بآية السيف.
قوله تعالى: (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها) قال المفسرون: المراد به: الكافر،
والرحمة: الغنى والصحة والمطر ونحو ذلك، والسيئة: المرض والفقر والقحط، والإنسان هاهنا:
اسم جنس، فلذلك قال: (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم) أي: بما سلف من مخالفتهم (فإن
الإنسان كفور) بما سلف من النعم.
(لله ملك السماوات والأرض) أي: له التصرف فيها بما يريد، (يهب لمن يشاء إناثا) يعني
البنات ليس فيهن ذكر، كما وهب للوط صلى الله عليه وسلم، فلم يولد له إلا البنات (ويهب لمن يشاء الذكور)
يعني البنين ليس معهم أنثى، كما وهب لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلم يولد له إلا الذكور.
86

(أو يزوجهم) يعني الإناث والذكور، قال الزجاج: ومعنى " يزوجهم ": يقرنهم، وكل شيئين
يقترن أحدهما بالآخر، فهما زوجان، و يقال لكل واحد منهما: زوج، تقول: عندي زوجان من
الخفاف، يعني اثنين. وفي معنى الكلام للمفسرين قولان:
أحدهما: أنه وضع المرأة غلاما ثم جارية ثم غلاما ثم جارية، قاله مجاهد، والجمهور.
والثاني: أنه وضع المرأة جارية وغلاما توأمين، قاله ابن الحنفية. قالوا: وذلك كما جمع
لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه وهب له بنين وبنات، (ويجعل من يشاء عقيما) لا يولد له، كيحيى بن زكريا
عليهما السلام. وهذه الأقسام موجودة في سائر الناس، وإنما ذكروا الأنبياء تمثيلا.
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورأى حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه
ما يشاء إنه على حكيم (51) وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري
ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي
إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله
تصير الأمور (53)
قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا) قال المفسرون: سبب نزولها أن اليهود
قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم:
" لم ينظر موسى إلى الله "، ونزلت هذه الآية. والمراد بالوحي هاهنا: الوحي في المنام.
(أو من وراء حجاب) كما كلم موسى.
(أو يرسل) قرأ نافع، وابن عامر: " يرسل " بالرفع (فيوحي) بسكون الياء. وقرأ الباقون:
" يرسل " بنصب اللام " فيوحي " بتحريك الياء، والمعنى: " أو يرسل رسولا " كجبرائيل " فيوحي "
ذلك الرسول إلى المرسل إليه فيه (بإذنه ما يشاء). قال مكي بن أبي طالب: من قرأ " أو يرسل "
بالنصب، عطفه على معنى قوله: " إلا وحيا " لأنه بمعنى: إلا أن يوحي. ومن قرأ بالرفع، فعلى
الابتداء، كأنه قال: أو هو يرسل. قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية محمولة على أنه لا يكلم بشرا
إلا من وراء حجاب في دار الدنيا.
قوله تعالى: (وكذلك) أي: وكما أوحينا إلى الرسل (أوحينا إليك)، وقيل: الواو عطف
87

على أول السورة، فالمعنى: كذلك نوحي إليك وإلى الذين من قبلك.
(وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) قال ابن عباس: هو القرآن وقال مقاتل: وحيا بأمرنا.
قوله تعالى: (ما كنت تدري ما الكتاب) وذلك أنه لم يكن يعرف القرآن قبل الوحي (ولا
الإيمان) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بمعنى الدعوة إلى الإيمان، قاله أبو العالية.
والثاني: أن المراد به: شرائع الإيمان ومعالمه، وهي كلها إيمان، وقد سمى الصلاة إيمانا
بقوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) هذا اختيار ابن قتيبة، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة.
والثالث: أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان في المهد وإذ كان طفلا قبل البلوغ، حكاه
الواحدي. والقول ما اختاره ابن قتيبة، وابن خزيمة، وقد اشتهر في الحديث عنه عليه السلام أنه
كان قبل النبوة يوحد الله، ويبغض اللات والعزى، ويحج ويعتمر، ويتبع شريعة إبراهيم عليه
السلام، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه، فهو قول
سوء أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟ وقال ابن قتيبة: قد جاء في الحديث أنه كان على
دين قومه أربعين سنة. ومعناه: أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل، من ذلك حج
البيت، والختان، وإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثا، وأن للزوج الرجعة في الواحدة والاثنتين، ودية
النفس مائة من الإبل، والغسل من الجنابة، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر، وكان عليه
الصلاة والسلام على ما كانوا عليه من الإيمان بالله والعمل بشرائعهم في الختان والغسل والحج،
وكان لا يقرب الأوثان، ويعيبها. وكان لا يعرف شرائع الله التي شرعها لعباده على لسانه، فذلك
قوله: " ما كنت تدري ما الكتاب " يعني القرآن " ولا الإيمان " يعني شرائع الإيمان، ولم يرد
الإيمان الذي هو الإقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون له
البيت مع شركهم.
قوله تعالى: (ولكن جعلناه) في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن.
والثاني: إلى الإيمان.
(نورا) أي: ضياء ودليلا على التوحيد (نهدي به من نشاء) من عبادنا إلى دين الحق
(وإنك لتهدي) أي: لتدعو (إلى صراط مستقيم) وهو الإسلام.
88

(43) سورة الزخرف مكية
وآياتها تسع وثمانون
وهي مكية باجماعهم
وقال مقاتل: هي مكية، إلا آية، وهي قوله: (واسأل من أرسلنا).
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) والكتاب المبين (2) إنا جعلنا قرأنا عربيا لعلكم تعقلون (3) وإنه
في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم (4) أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين (5)
وكم أرسلنا من نبي في الأولين (6) وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون (7) فأهلكنا
أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين (8) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن
خلقهن العزيز العليم (9) الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم
89

تهتدون (10)
قوله تعالى: (حم) قد تقدم بيانه.
(والكتاب المبين) قسم بالقرآن.
(إنا جعلناه) قال سعيد بن جبير: أنزلناه. وما بعد هذا تقدم بيانه إلى قوله: (وإنه) يعني
القرآن (في أم الكتاب) قال الزجاج: أي: في أصل الكتاب، وأصل كل شيء: أمه، والقرآن مثبت عند
الله عز وجل في اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: (لدينا) أي: عندنا (لعلي) أي: رفيع. وفي معنى الحكيم قولان:
أحدهما: محكم، أي: ممنوع من الباطل، قاله مقاتل.
والثاني: حاكم لأهل الإيمان بالجنة ولأهل الكفر بالنار، ذكره أبو سليمان الدمشقي، والمعنى: إن
كذبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريف عظيم المحل.
قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا) قال ابن قتيبة: أي: نمسك عنكم فلا نذكركم
صفحا، أي: إعراضا، يقال: صفحت عن فلان: إذا أعرضت عنه، والأصل في ذلك أن توليه صفحة
عنقك، قال كثير يصف امرأة:
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة * فمن مل منها ذلك الوصل ملت
أي: معرضة بوجهها، يقال، ضربت عن فلان كذا: إذا أمسكته وأضربت عنه. (أن كنتم) قرأ ابن
كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: " أن كنتم " بالنصب، أي: لأن كنتم قوما مسرفين. وقرأ
نافع، وحمزة، والكسائي: " إن كنتم " بكسر الهمزة. قال الزجاج: وهذا على معنى الاستقبال،
أي: إن تكونوا مسرفين نضرب عنكم الذكر. وفي المراد بالذكر قولان:
أحدهما: أنه ذكر العذاب، فالمعنى: أفنمسك عن عذابكم ونترككم على كفركم؟! وهذا
معنى قول ابن عباس، ومجاهد، والسدي.
والثاني: أنه القرآن، فالمعنى: أفنمسك عن إنزال القرآن من أجل أنكم لا تؤمنون به؟! وهو
معنى قول قتادة، وابن زيد.
وقال قتادة: " مسرفين " بمعنى مشركين.
90

ثم أعلم نبيه أني قد بعثت رسلا فكذبوا فأهلكت المكذبين بالآيات التي تلي هذه.
قوله تعالى: (أشد منهم) أي: من قريش (بطشا) أي: قوة (ومضى مثل الأولين) أي:
سبق وصف عقابهم فيما أنزل عليك. وقيل: سبق تشبيه حال أولئك بهؤلاء في التكذيب، فستقع
المشابهة بينهم في الإهلاك.
ثم أخبر عن جهلهم حين أقروا بأنه خالق السماوات والأرض ثم عبدوا غيره بالآية التي تلي
هذه، ثم التي تليها مفسرة في طه إلى قوله: (لعلكم تهتدون) أي: لكي تهتدوا في أسفاركم
إلى مقاصدكم.
والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون (11) والذي
خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون (12) لتستووا على ظهوره ثم
تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (13)
وإنا إلى ربنا لمنقلبون (14)
قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر) قال ابن عباس: يريد أنه ليس كما أنزل على
قوم نوح بغير قدر فأغرقهم، بل هو بقدر ليكون نافعا، ومعنى " أنشرنا ": أحيينا.
قوله تعالى: (كذلك تخرجون) قرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر: " تخرجون " بفتح التاء
وضم الراء، والباقون بضم التاء وفتح الراء. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله تعالى: (لتستووا على
ظهوره) قال أبو عبيدة: هاء التذكير ل‍ " ما ".
(ثم تذكروا نعمة ربكم) إذ سخر لكم ذلك المركب في البر والبحر، (وما كنا له مقرنين)
قال ابن عباس ومجاهد: أي: مطيقين، قال ابن قتيبة: يقال: أنا مقرن لك، أي: مطيق لك،
ويقال: هو من قولهم: أنا قرن لفلان: إذا كنت مثله في الشدة، فإن قلت: أنا قرن لفلان - بفتح
القاف - فمعناه: أن تكون مثله بالسن. وقال أبو عبيدة: " مقرنين " أي: ضابطين، يقال: فلان مقرن
لفلان: أي: ضابط له.
قوله تعالى: (وإنا إلى ربنا لمنقلبون) أي: راجعون في الآخرة.
91

وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين (15) أم اتخذ مما يخلق بنات
وأصفاكم بالبنين (16) وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا
وهو كظيم (17) أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين (18)
قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءا) أما الجعل هاهنا، فمعناه: الحكم بالشيء: وهم
الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، والمعنى: جعلوا له نصيبا من الولد، قال الزجاج: وأنشدني
بعض أهل اللغة بيتا يدل على أن معنى " جزء " معنى الإناث - ولا أدري البيت قديم أو مصنوع:
إن أجزأت حرة، يوما، فلا عجب * قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا
أي: آنثت، ولدت أنثى.
قوله تعالى: (إن الإنسان) يعني الكافر (لكفور) أي: جحود لنعم الله عز وجل (مبين)
أي: ظاهر الكفر.
ثم أنكر عليهم فقال: (أم اتخذ مما يخلق بنات) وهذا استفهام توبيخ وإنكار (وأصفاكم)
أي: أخلصكم (بالبنين).
(وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا) أي: بما جعل لله شبها، وذلك أن ولد كل شيء
شبهه وجنسه. والآية مفسرة في النحل.
قوله تعالى: (أومن ينشأ) قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: " ينشأ " بضم الياء وفتح
النون وتشديد الشين، وقرأ الباقون: بفتح الياء وسكون النون. قال المبرد: تقديره: أو يجعلون من
ينشأ (في الحلية) قال أبو عبيدة: الحلية: الحلى.
قال المفسرون: والمراد بذلك: البنات، فإنهن ربين في الحلي. والخصام بمعنى
المخاصمة، (غير مبين) حجة. قال قتادة: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
وقال بعضهم: هي الأصنام.
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم
92

ويسئلون (19) وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون (20)
أن آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون (21) بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة
وإنا على آثارهم مهتدون (22) وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال
مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (23) قال أولو جئتكم
بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (24) فانتقمنا منهم فانظر
كيف كان عاقبة المكذبين (25)
قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة) قال الزجاج: الجعل هاهنا بمعنى القول والحكم على
الشيء، تقول: قد جعلت زيدا أعلم الناس، أي: قد وصفته بذلك وحكمت به. قال المفسرون:
وجعلهم الملائكة إناثا قولهم: هن بنات الله.
قوله تعالى: (الذين هم عباد الرحمن) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، ويعقوب، وأبان عن
عاصم، والشيزري عن الكسائي: " عند الرحمن " بنون من غير ألف، وقرأ الباقون: " عباد
الرحمن " ومعنى هذه القراءة: جعلوا له من عباده بنات. والقراءة الأولى موافقة لقوله: (إن الذين
عند ربك) وإذا كانوا في السماء كان أبعد للعلم بحالهم. (أشهدوا خلقهم) قرأ نافع، والمفضل
عن عاصم: " أأشهدوا " بمهمزتين، الأولى مفتوحة والثانية مضمومة. وروى المسيبي عن نافع:
" أو شهدوا " ممدودة من أشهدت، والباقون لا يمدون.
" أشهدوا " من شهدت، أي: أحضروه فعرفوا أنهم إناث؟! وهذا توبيخ لهم إذ قالوا فيما يعلم
بالمشاهدة من غير مشاهدة. (ستكتب شهادتهم) على الملائكة أنها بنات الله وقال مقاتل: لما قال
الله عز وجل: (أشهدوا خلقهم؟)، سئلوا عن ذلك فقالوا: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فما يدريكم
أنها إناث؟ " فقالوا: سمعنا من آبائنا، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا، فقال الله: (ستكتب شهادتهم
ويسألون) عنها في الآخرة. وقرأ أبو رزين، ومجاهد: " سنكتب " بنون مفتوحة " شهادتهم " بنصب
التاء، ووافقهم ابن أبي عبلة في " سنكتب " وقرأ: " شهاداتهم " بألف.
قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) في المكني عنهم قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة، قاله قتادة، ومقاتل في آخرين.
93

والثاني: الأوثان، قاله مجاهد. وإنما عنوا بهذا أنه لو لم يرض عبادتنا لها لعجل عقوبتنا، فرد
عليهم قولهم بقوله: (ما لهم بذلك من علم) وبعض المفسرين يقول: إنما أشار بقوله: " ما لهم
بذلك من علم " إلى ادعائهم أن الملائكة إناث، قال: ولم يتعرض لقولهم: " لو شاء ما
عبدناهم " لأنه قول صحيح، والذي اعتمدنا عليه أصح، لأن هذه الآية كقوله: (لو شاء الله ما
أشركنا)، وقوله: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) وقد كشفنا عن هذا المعنى هنالك
و " يخرصون " بمعنى: يكذبون. وإنما كذبهم، لأنهم اعتقدوا أنه رضي منهم الكفر دينا.
(أم آتيناهم كتابا من قبله) أي: من قبل هذا القرآن، أي: بأن يعبدوا غير الله (فهم به
مستمسكون) قوله يأخذون بما فيه.
(بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة) أي: على سنة وملة ودين (وإنا على آثارهم مهتدون)
فجعلوا أنفسهم مهتدين بمجرد تقليد الآباء من غير حجة، ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذا القول،
فقال: (وكذلك) أي: وكما قالوا قال مترفو القرى من قبلهم، (وإنا على آثارهم مقتدون) بهم.
(قل أولو جئتكم) وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: " قال أولو جئتكم " بألف. قال أبو
علي: فاعل " قال " النذير، المعنى: فقال لهم النذير. وقرأ أبو جعفر: " أولو جئناكم " بألف ونون
(بأهدى) أي: بأصوب وأرشد. قال الزجاج: ومعنى الكلام: قل: أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم
وإن جئتكم بأهدى منه؟! وفي هذه الآية إبطال القول بالتقليد. قال مقاتل: فردوا على النبي صلى الله عليه وسلم
فقالوا: (إنا بما أرسلتم به كافرون)، ثم رجع إلى الأمم الخالية، فقال: (فانتقمنا منهم...)
الآية.
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني برآء مما تعبدون (26) إلا الذي فطرني فإنه سيهدين (27)
وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون (28) بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم
الحق ورسول مبين (29) ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون (30)
قوله تعالى: (إنني براء) قال الزجاج: البراء بمعنى البريء، والعرب تقول للواحد: أنا البراء
منك، وكذلك للاثنين والجماعة، وللذكر والأنثى، يقولون: نحن البراء منك والخلاء منك، لا
يقولون: نحن البراءان منك، ولا البراءون منك، وإنما المعنى: أنا ذو البراء منك، ونحن ذو البراء
94

منك، كما يقال: رجل عدل، وامرأة عدل. وقد بينا استثناء إبراهيم ربه عز وجل مما يعبدون عند
قوله: (إلا رب العالمين).
قوله تعالى: (وجعلها) يعني كلمة التوحيد، وهي " لا إله إلا الله " (كلمة باقية في عقبه)
أي: فيمن يأتي بعده من ولده، فلا يزال فيهم موحد (لعلهم يرجعون) إلى التوحيد كلهم إذا سمعوا
أن أباهم تبرأ من الأصنام ووحد الله عز وجل.
ثم ذكر نعمته على قريش فقال: (بل متعت هؤلاء وآباءهم) والمعنى: إني أجزلت لهم النعم
ولم أعاجلهم بالعقوبة (حتى جاءهم الحق) وهو القرآن (ورسول مبين) وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فكان
ينبغي لهم أن يقابلوا النعم بالطاعة للرسول، فخالفوا.
(ولما جاءهم) يعني قريشا في قول الأكثرين. وقال قتادة: هم اليهود. و (الحق) القرآن.
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31) أهم يقسمون رحمت
ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات
ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (32) ولولا أن يكون الناس
أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33)
ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤون (34) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا
والآخرة عند ربك للمتقين (35)
قوله تعالى: (وقالوا لولا) أي: هلا (نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) أما
القريتان، فمكة والطائف، قاله ابن عباس، والجماعة، وأما عظيم مكة، ففيه قولان:
أحدهما: الوليد بن المغيرة القرشي، رواه العوفي وغيره عن ابن عباس، وبه قال قتادة،
والسدي.
والثاني: عتبة بن ربيعة، قاله مجاهد. وفي عظيم الطائف خمسة أقوال:
أحدها: حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، رواه العوفي عن ابن عباس.
95

والثاني: مسعود بن عمرو بن عبيد الله، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: أنه أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال قتادة.
والرابع: أنه ابن عبد ياليل، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والخامس: كنانة بن عبد بن عمرو بن عمير الطائفي، قاله السدي.
فقال الله عز وجل ردا عليهم وإنكارا: (أهم يقسمون رحمة ربك) يعني النبوة، فيضعونها
حيث شاؤوا، لأنهم اعترضوا على الله بما قالوا.
(نحن قسمنا بينهم معيشتهم) المعنى أنه إذا كانت الأرزاق بقدر الله، لا بحول المحتال -
وهو دون النبوة - فكيف تكون النبوة؟! قال قتادة: إنك لتلقى ضعيف الحيلة عيي اللسان قد بسط له
الرزق، وتلقى شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتور عليه.
قوله تعالى: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) فيه قولان.
أحدهما: بالغنى والفقر.
والثاني: بالحرية والرق (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) وقرأ ابن السميفع، وابن
محيصن: " سخريا " بكسر السين. ثم فيه قولان:
أحدهما: يستخدم الأغنياء بأموالهم، فيلتئم قوام العالم، وهذا على القول الأول.
والثاني: ليملك بعضهم بعضا بالأموال فيتخذونهم عبيدا، وهذا على الثاني.
قوله تعالى: (ورحمة ربك) فيها قولان:
أحدهما: النبوة خير من أموالهم التي يجمعونها، قاله ابن عباس.
والثاني: الجنة خير مما يجمعون في الدنيا، قاله السدي.
قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) فيه قولان:
أحدهما: لولا أن يجتمعوا على الكفر، قاله ابن عباس.
والثاني: على إيثار الدنيا على الدين، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) لهوان الدنيا عندنا. قال
الفراء: إن شئت جعلت اللام في " لبيوتهم " مكررة، كقوله: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال
96

فيه) وإن شئت جعلتها بمعنى " على "، كأنه قال: جعلنا لهم على بيوتهم، تقول للرجل:
جعلت لك لقومك الأعطية، أي: جعلتها من أجلك لهم.
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " سقفا " على التوحيد. وقرأ الباقون: " سقفا " بضم
السين والقاف جميعا.
قال الزجاج: والسقف واحد يدل على الجمع، فالمعنى: جعلنا لبيت كل واحد منهم سقفا
من فضة (ومعارج) وهي الدرج، والمعنى: وجعلنا معارج من فضة، وكذلك " ولبيوتهم أبوابا " أي: من
فضة (وسررا) أي: من فضة.
قوله تعالى: (عليها يظهرون) قال ابن قتيبة: أي: يعلون، يقال: ظهرت على البيت:
إذا علوت سطحه.
قوله تعالى: (وزخرفا) وهو الذهب، والمعنى: ويجعل لهم مع ذلك ذهبا وغنى (وإن
كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) المعنى: لمتاع الحياة الدنيا، و " ما " زائدة. وقرأ عاصم،
وحمزة: " لما " بالتشديد، فجعلاه بمعنى " إلا "، والمعنى: إن ذلك يتمتع به قليلا ثم يزول
(والآخرة عند ربك للمتقين) خاصة لهم.
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن
السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين
فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39) أفأنت
تسمع الصم أو تهدى العمى ومن كان في ضلال مبين (40)
قوله تعالى: (ومن يعش) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يعرض، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والفراء، والزجاج.
والثاني: يعم، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال عطاء، وابن زيد.
والثالث: أنه البصر الضعيف، حكاه الماوردي. وقال أبو عبيدة: تظلم عينه عنه. وقال
الفراء: من قرأ: " يعش "، فمعناه: يعرض، ومن نصب الشين، أراد: يعم عنه، قال ابن
97

قتيبة: لا أرى القول إلا قول أبي عبيدة، ولم نر أحدا يجيز " عشوت عن الشيء ": أعرضت عنه،
إنما يقال: " تعاشيت عن كذا "، أي: تغافلت عنه، كأني لم أره، ومثله: تعاميت، والعرب
تقول: " عشوت إلى النار ": إذا استدللت إليها ببصر ضعيف، قال الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره * تجد خير نار عندها خير موقد
ومنه حديث ابن المسيب: " أن إحدى عينيه ذهبت، وهو يعشو بالأخرى "، أي: يبصر بها
بصرا ضعيفا.
قال المفسرون: " ومن يعش عن ذكر الرحمن " فلم يخف عقابه ولم يلتفت إلى كلامه
" نقيض له " أي: نسبب له " شيطانا " فنجعل ذلك جزاءه " فهو له قرين " لا يفارقه.
(وإنهم) يعني الشياطين (ليصدونهم) يعني الكافرين، أي: يمنعونهم عن سبيل
الهدى، وإنما جمع، لأن " من " في موضع جمع، (ويحسبون) يعني كفار بني آدم (أنهم)
على هدى.
(حتى إذا جاءنا) وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " جاءنا "
واحد، يعني الكافر. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: " جاءانا " بألفين
على التثنية، يعنون الكافر وشيطانه. وجاء في التفسير أنهما يجعلان يوم البعث في سلسلة، فلا
يفترقان حتى يصيرهما الله إلى النار، (قال) الكافر للشيطان: " (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين)
أي: بعدما بين المشرقين، وفيهما قولان:
أحدهما: أنهما مشرق الشمس في أقصر يوم في السنة، ومشرقها في أطول يوم، قاله ابن
السائب، ومقاتل.
والثاني: أنه أراد المشرق والمغرب، فغلب ذكر المشرق، كما قالوا: سنة العمرين،
يريدون: أبا بكر وعمر، وأنشدوا من ذلك:
أخذنا بآفاق السماء عليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد: الشمس والقمر، وأنشدوا:
فبصرة الأزد منا والعراق لنا * والموصلان ومنا مصر والحرم
يريد: الجزيرة والموصل، وهذا اختيار الفراء، والزجاج.
قوله تعالى: (فبئس القرين) أي: أنت أيها الشيطان. ويقول الله عز وجل يومئذ للكفار:
(ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم) أي: أشركتم في الدنيا (أنكم في العذاب مشتركون) أي: لن
ينفعكم الشركة في العذاب، لأن لكل واحد منه الحظ الأوفر. قال المبرد: منعوا روح التأسي،
98

لأن التأسي يسهل المصيبة، وأنشد للخنساء أخت صخر بن مالك في هذا المعنى:
ولولا كثرة الباكين حولي * على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن * أعزي النفس عنه بالتأسي
وقرأ ابن عامر: " إنكم " بكسر الألف.
ثم أخبر عنهم بما سبق لهم من الشقاوة بقوله: (أفأنت تسمع الصم...) الآية.
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41) أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون (42)
فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم (43) وإنه لذكر لك ولقومك
وسوف تسئلون (44)
قوله تعالى: (فإما نذهبن بك) قال أبو عبيدة: معناها: فإن نذهبن، وقال الزجاج:
دخلت " ما " توكيدا للشرط، ودخلت النون الثقيلة في " نذهبن " توكيدا أيضا، والمعنى: إنا ننتقم
منهم إن توفيت أو نرينك ما وعدناهم ووعدناك فيهم من النصر. قال ابن عباس: ذلك يوم بدر.
وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله: (فإما نذهبن بك) منسوخ بآية السيف، ولا وجه له.
قوله تعالى: (وإنه) يعني القرآن (لذكر لك) أي: شرف لك بما أعطاك الله
(ولقومك) في قومه ثلاثة أقوال.
أحدها: العرب قاطبة.
والثاني: قريش.
والثالث: جميع من آمن به. وقد روى الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل:
لمن هذا الأمر من بعدك؟ لم يخبر بشيء، حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل قال:
" لقريش " وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوة وشرف
القرآن، وأن قومه يخلفونه من بعده في الولاية لشرف القرآن الذي أنزل على رجل منهم. ومذهب
مجاهد أن القوم هاهنا: العرب، والقرآن شرف لهم إذ أنزل بلغتهم. قال ابن قتيبة: إنما وضع
الذكر موضع الشرف، لأن الشريف يذكر. وفي قوله: (وسوف تسألون) قولان. أحدهما: عن
شكر ما أعطيتم من ذلك. والثاني: عما لزمكم فيه من الحقوق.
وسئل أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (45)
99

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملأه فقال إني رسول رب العالمين (46) فلما
جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون (47) وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها
وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون (48) وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد
عندك إننا لمهتدون (49) فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون (50) ونادى
فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون (51)
أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (52) فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب
أو جاء معه الملائكة مقترنين (53) فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين (54)
فلما ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين (55) فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (56)
قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) إن قيل: كيف يسأل الرسل وقد ماتوا
قبله؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه لما أسري به جمع له الأنبياء فصلى بهم، ثم قال له جبريل: سل من أرسلنا
قبلك... الآية. فقال: لا أسأل، قد اكتفيت، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا قول سعيد بن
جبير، والزهري، وابن زيد، قالوا: جمع له الرسل ليلة أسري به، فلقيهم، وأمر أن يسألهم،
فما شك ولا سأل.
والثاني: أن المراد: اسأل مؤمني أهل الكتاب من الذين أرسلت إليهم الأنبياء، روي
عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين. قال ابن
الأنباري: والمعنى سل أتباع من أرسلنا قبلك، كما تقول: السخاء حاتم، أي: سخاء حاتم،
والشعر زهير، أي: شعر زهير. وعند المفسرين أنه لم يسأل على القولين. وقال الزجاج: هذا
سؤال تقرير، فإذا سأل جميع الأمم، لم يأتوا بأن في كتبهم: أن اعبدوا غيري.
والثالث: أن المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم: خطاب أمته، فيكون المعنى سلوا، قاله
الزجاج. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: (إذا هم منها يضحكون) استهزاء بها وتكذيبا.
(وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) يعني ما ترادف عليهم من الطوفان والجراد
والقمل والضفادع والدم والطمس، فكانت كل آية أكبر من التي قبلها، وهي العذاب المذكور في
100

قوله: (وأخذناهم بالعذاب)، فكانت عذابا لهم، ومعجزات لموسى عليه السلام.
قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الساحر) في خطابهم له بهذا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أرادوا: يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما، رواه أبو صالح عن ابن
عباس.
والثاني: أنهم قالوه على جهة الاستهزاء، قاله الحسن.
والثالث: أنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (إننا لمهتدون) أي: مؤمنون بك. فدعا موسى، فكشف عنهم، فلم
يؤمنوا. وقد ذكرنا ما تركناه هاهنا في الأعراف.
قوله تعالى: (تجري من تحتي) أي: من تحت قصوري (أفلا تبصرون) عظمتي وشدة ملكي؟!
(أم أنا خير) قال أبو عبيدة: أراد: بل أنا خير. وحكى الزجاج عن سيبويه والخليل أنهما
قالا: عطف " أنا " ب " أم " على " أفلا تبصرون " فكأنه قال: أفلا تبصرون أم أنتم بصراء؟!
لأنهم إذا قالوا: أنت خير منه، فقد صاروا عنده بصراء. قال الزجاج: والمهين: القليل، يقال:
شيء مهين، أي: قليل، وقال مقاتل: " مهين " بمعنى ذليل ضعيف.
قوله تعالى: (ولا يكاد يبين) أشار إلى عقدة لسانه التي كانت به ثم أذهبها الله عنه، فكأنه عيره
بشيء قد كان وزال، ويدل على زواله قوله تعالى: (قد أوتيت سؤلك يا موسى)، وكان في سؤاله
(واحلل عقدة من لساني). وقال بعض العلماء: ولا يكاد يبين الحجة ولا يأتي ببيان يفهم.
(فلولا) أي: فهلا (ألقي عليه أساورة من ذهب) وقرأ حفص عن عاصم: " أسورة " بغير
ألف. قال الفراء: (واحد الأساورة) إسوار، وقد تكون الأساورة جمع أسورة، كما يقال في جمع
الأسقية: الأساقي، وفي جمع الأكرع: الأكارع. وقال الزجاج: يصلح أن تكون الأساورة جمع الجمع،
تقول: أسورة وأساورة، كما تقول: أقوال وأقاويل، ويجوز أن تكون جمع إسوار، وإنما صرفت أساورة،
لأنك ضممت الهاء إلى أساور، فصار اسما واحدا، وصار له مثال في الواحد، نحو " علانية "
قال المفسرون: إنما قال فرعون هذا، لأنهم كانوا إذا سودوا الرجل منهم سوروه بسوار.
101

قوله تعالى: (فاستخف قومه) قال الفراء: استفزهم، وقال غيره: استخف أحلامهم وحملهم
على خفة الحلم بكيده وغروره (فأطاعوه) في تكذيب موسى.
(فلما آسفونا) قال ابن عباس: أغضبونا. قال ابن قتيبة: الأسف: الغضب، يقال: آسفت آسف
أسفا، أي: غضبت.
(فجعلناهم سلفا) أي: قوما تقدموا. وقرأها أبو هريرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وحميد
الأعرج: " سلفا " بضم السين وفتح اللام، كأن واحدته سلفة من الناس، مثل القطعة، يقال: تقدمت
سلفة من الناس، أي: قطعة منهم. وقرأ حمزة، والكسائي: " سلفا " بضم السين واللام، وهو جمع
" سلف "، كما قالوا: خشب وخشب، وثمر وثمر، ويقال: هو جمع " سليف "، وكله من التقدم. وقال
الزجاج: " السليف " جمع قد مضى، والمعنى: جعلناهم سلفا متقدمين ليتعظ بهم الآخرون.
قوله تعالى: (ومثلا) أي: عبرة وعظة.
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57) وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما
ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58) إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا
لبني إسرائيل (59) ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون (60) وإنه لعلم للساعة
فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61) ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو
مبين (62) ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي
تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط
مستقيم (64) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (65)
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (66)
قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلا) أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن
الزبعرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله...) الآية. وقد شرحنا
102

القصة في سورة الأنبياء. والمشركون هم الذين ضربوا عيسى مثلا لآلهتهم وشبهوه بها، لأن تلك الآية
إنما تضمنت ذكر الأصنام، لأنها عبدت من دون الله، فألزموه عيسى، وضربوه مثلا لأصنامهم، لأنه معبود
النصارى والمراد بقومه: المشركون.
فأما (يصدون) فقرأ ابن عامر، ونافع والكسائي: بضم الصاد، وكسرها الباقون، قال الزجاج:
ومعناهما جميعا: يضجون، ويجوز أن يكون معنى المضمومة: يعرضون. وقال أبو عبيدة: من كسر
الصاد، فمجازها: يضجون، ومن ضمها، فمجازها: يعدلون.
قوله تعالى: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو) المعنى: ليست خيرا منه، فإن كان في النار لأنه عبد من
دون الله، فقد رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلته.
(ما ضربوه لك إلا جدلا) أي: ما ذكروا عيسى إلا ليجادلوك به، لأنهم قد علموا أن المراد
ب‍ " حصب جهنم " ما اتخذوه من الموات: (بل هم قوم خصمون) أي: أصحاب خصومات.
قوله تعالى: (وجعلناه مثلا) أي: آية وعبرة (لبني إسرائيل) يعرفون به قدرة الله على ما يريد، إذ
خلقه من غير أب.
ثم خاطب كفار مكة، فقال: (ولو نشاء لجعلنا منكم) فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: لجعلنا بدلا منكم ملائكة، ثم في معنى " يخلفون " ثلاثة أقوال:
أحدها: يخلف بعضهم بعضا، قاله ابن عباس. والثاني: يخلفونكم ليكونوا بدلا منكم، قاله
مجاهد. والثالث: يخلفون الرسل فيكونون رسلا إليكم بدلا منهم، حكاه الماوردي.
103

والقول الثاني: أن المعنى: " ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة " أي: قلبنا الخلقة فجعلنا
بعضكم ملائكة يخلفون من ذهب منكم: ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة) في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى عيسى عليه السلام. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما:
نزول عيسى من اشراط الساعة يعلم به قربها، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة،
والضحاك، والسدي. والثاني: أن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى، قاله ابن
إسحاق.
والقول الثاني: أنها ترجع إلى القرآن، قاله الحسن، وسعيد بن جبير. وقرأ الجمهور:
" ص لعلم " بكسر العين وتسكين اللام، وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، وقتادة،
وحميد، وابن محيصن: بفتحهما.
قال ابن قتيبة: من قرأ بكسر العين، فالمعنى أنه يعلم به قرب الساعة، ومن فتح العين
واللام، فإنه بمعنى العلامة والدليل.
قوله تعالى: (فلا تمترن بها) أي: فلا تشكن فيها (واتبعون) على التوحيد (هذا) الذي أنا
عليه (صراط مستقيم).
(ولما جاء عيسى بالبينات) قد شرحنا هذا في سورة البقرة.
(قال قد جئتكم بالحكمة) وفيها قولان:
أحدهما: النبوة، قاله عطاء، والسدي.
والثاني: الإنجيل، قاله مقاتل.
(والأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) أي: من أمر دينكم، وقال مجاهد: " بعض
الذي تختلفون فيه " من تبديل التوراة، وقال ابن جرير: من أحكام التوراة. وقد ذهب قوم إلى أن
البعض هاهنا بمعنى الكل. وقد شرحنا ذلك في حم المؤمن، قال الزجاج: والصحيح أن
البعض لا يكون في معنى الكل، وإنما بين لهم عيسى بعض الذي اختلفوا فيه مما احتاجوا إليه، وقد
قال ابن جرير: كان بينهم اختلاف في أمر دينهم ودنياهم، فبين لهم أمر دينهم فقط. وما بعد هذا
قد سبق بيانه إلى قوله: (هل ينظرون) يعني كفار مكة.
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا
أنتم تحزنون (68) الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين (68) أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم
104

تحبرون (70) يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ
الأعين وأنتم فيها خالدون (71) وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (72) لكم
فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون (73)
قوله تعالى: (الأخلاء) أي: في الدنيا (يومئذ) أي: في القيامة (بعضهم لبعض عدو)
لأن الخلة إذا كانت في الكفر والمعصية صارت عداوة يوم القيامة، وقال مقاتل: نزلت في أمية بن
خلف وعقبة بن أبي معيط (إلا المتقين) يعني الموحدين. فإذا وقع الخوف يوم القيامة نادى
مناد (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون)، فيرفع الخلائق رؤوسهم، فيقول:
(الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين)، فينكس الكفار رؤوسهم. قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن
عامر، وأبو بكر عن عاصم: " يا عبادي " بإثبات الياء في الحالين وإسكانها، وحذفها في الحالين
ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص، والمفضل عن عاصم، وخلف.
وفي أزواجهم قولان: أحدهما: زوجاتهم. والثاني: قرناؤهم. وقد سبق معنى
(تحبرون).
قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف) قال الزجاج: واحدها صحفة، وهي القصعة.
والأكواب، واحدها: كوب، وهو إناء مستدير لا عروة له، قال الفراء: الكوب: الكوز
المستدير الرأس الذي لا أذن له، وقال عدي:
متكئا تصفق أبوابه * يسعى عليه العبد بالكوب
وقال ابن قتيبة: الأكواب: الأباريق التي لا عرى لها. وقال شيخنا أبو منصور اللغوي:
وإنما كانت بغير عرى ليشرب الشارب من أين شاء، لأن العروة ترد الشارب من بعض الجهات.
قوله تعالى: (وفيها ما تشتهي الأنفس) وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم:
" تشتهيه " بزيادة هاء. وحذف الهاء كإثباتها في المعنى.
قوله تعالى: (وتلذ الأعين) يقال: لذذت الشيء، واستلذذته، والمعنى: ما من شيء
اشتهته نفس أو استلذته بعد عين إلا وهو في الجنة، وقد جمع الله تعالى جميع نعيم الجنة في هذين
الوصفين، فإنه ما من نعمة إلا وهي نصيب النفس أو العين، وتمام النعيم الخلود، لأنه لو انقطع
لم تطب.
105

(وتلك الجنة) يعني التي ذكرها في قوله: " ادخلوا الجنة " (التي أورثتموها) قد شرحنا
هذا في الأعراف عند قوله: (أورثتموها).
إن المجرمين في عذاب جهنم خالدين (74) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون (75) وما
ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين (76) ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون (77)
لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون (78) أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79) أم
يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (80) قل إن كان للرحمن
ولد فأنا أول العابدين (81) سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون (82)
فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون (83)
قوله تعالى: (إن المجرمين) يعني الكافرين، (لا يفتر) أي: لا يخفف (عنهم وهم
فيه) يعني في العذاب (مبلسون) قال ابن قتيبة: آيسون من رحمة الله. وقد شرحنا هذا في
الأنعام (وما ظلمناهم) أي: ما عذبناهم على غير ذنب (ولكن كانوا هم الظالمين) لأنفسهم
بما جنوا عليها. قال الزجاج: والبصريون يقولون: " هم " هاهنا فصل، كذلك يسمونها، ويسميها
الكوفيون: العماد.
قوله تعالى: (ونادوا يا مالك) وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود، وابن
يعمر: [" يا مال "] بغير كاف مع كسر اللام. قال الزجاج: وهذا يسميه النحويون: الترخيم،
ولكني أكرهها لمخالفة المصحف.
قال المفسرون: يدعون مالكا خازن النار فيقولون: (ليقض علينا ربك) أي: ليمتنا،
والمعنى: أنهم توسلوا به ليسأل اله تعالى لهم الموت فيستريحوا من العذاب، فيسكت عن جوابهم
مدة، فيها أربعة أقوال:
أحدها: أربعون عاما، قاله عبد الله بن عمرو، ومقاتل.
والثاني: ثلاثون سنة، قاله أنس.
106

والثالث: ألف سنة، قاله حتى ابن عباس.
والرابع: مائة سنة، قاله كعب.
وفي سكوته عن جوابهم هذه المدة قولان.
أحدهما: أنه سكت حتى أوحى الله إليه أن أجبهم، قاله مقاتل.
والثاني: لأن بعد ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذل.
قال الماوردي: فرد عليهم مالك فقال: (إنكم ماكثون) أي: مقيمون في العذاب.
(لقد جئناكم بالحق) أي: أرسلنا رسلنا بالتوحيد (ولكن أكثركم) قال ابن عباس: يريد:
كلكم (كارهون) لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: (أم أبرموا أمرا) في " أم " قولان:
أحدهما: أنها للاستفهام.
والثاني: بمعنى " بل. والإبرام: الإحكام. وفي هذا الأمر ثلاثة أقوال.
أحدها: المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أم يخرجوه حين اجتمعوا في دار الندوة، وقد سبق بيان
القصة، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه إحكام أمرهم في تكذيبهم، قاله قتادة.
والثالث: أنه: إبرام أمرهم ينجيهم من العذاب، قاله الفراء.
(فإنا مبرمون) أي: محكمون أمرا في مجازاتهم.
(أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم) وهو ما يسرونه من غيرهم (ونجوهم) ما يتناجون به
بينهم (بلى) والمعنى: إنا نسمع ذلك (ورسلنا) يعني من الحفظة (لديهم يكتبون)
(قل إن كان للرحمن ولد) في " إن " قولان:
أحدهما: أنها بمعنى الشرط، والمعنى: إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم، فعلى هذا
في قوله: (فأنا أول العابدين) أربعة أقوال:
أحدها: فأنا أول الجاحدين، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عن ابن
عباس: أن أعرابيين اختصما إليه، فقال أحدهما: إن هذا كانت لي في يده أرض، فعبدنيها، فقال
ابن عباس: الله أكبر، فأنا أول العبادين الجاحدين أن لله ولدا.
والثاني: فأنا أول من عبد الله مخالفا لقولكم، هذا قول مجاهد. وقال الزجاج: معناه: إن
107

كنتم تزعمون للرحمن ولدا، فأنا أول الموحدين.
والثالث: فأنا أول الآنفين لله مما قلتم، قاله ابن السائب، وأبو عبيدة. قال ابن قتيبة: يقال:
عبدت من كذا، أعبد عبدا، فأنا عبد وعابد، قال الفرزدق:
وأعبد أن تهجى تميم بدارم
أي: آنف. وأنشد أبو عبيدة:
وأعبد أن أسبهم بقومي * وأوثر دارما وبني رزاح
والرابع: أن معنى الآية: كما أني لست أول عابد لله، فكذلك ليس له ولد، وهذا كما تقول:
إن كنت كاتبا فأنا حاسب، أي: لست كاتبا ولا أنا حاسب، حكى هذا القول الواحدي عن سفيان بن
عيينة.
والقول الثاني: أن " إن " بمعنى " ما " قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد، فيكون
المعنى: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول من عبد الله على يقين أنه لا ولد له. وقال أبو عبيدة:
الفاء على هذا القول بمعنى الواو.
قوله تعالى: (فذرهم) يعني كفار مكة (يخوضوا) في باطلهم (ويلعبوا) في دنياهم
(حتى يلاقوا) وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن محيصن، وأبو جعفر: " حتى يلقوا " بفتح
الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف. والمراد: يلاقوا يوم القيامة وهذه الآية عند الجمهور منسوخة
بآية السيف.
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم (84) وتبارك الذي له
ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون (85) ولا يملك
الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (86) ولئن سألتهم من
خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون (87) وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (88)
فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (89)
قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) قال مجاهد، وقتادة: يعبد في
108

السماء ويعبد في الأرض. وقال الزجاج: هو الموحد في السماء وفي الأرض. وقرأ عمر بن
الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، وابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: " في السماء الله
وفي الأرض الله " بألف ولام من غير تنوين ولا همز فيهما. وما بعد هذا سبق بيانه إلى قوله:
(ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) سبب نزولها أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا: إن
كان ما يقول محمد حقا، فنحن نتولى الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمد، فنزلت هذه الآية،
قاله مقاتل. وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: أنه أراد بالذين يدعون من دونه: آلهتهم، ثم استثنى عيسى وعزير والملائكة، فقال:
(إلا من شهد بالحق) وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله (وهم يعلمون) بقلوبهم ما شهدوا به
بألسنتهم، وهذا مذهب الأكثرين، منهم قتادة.
والثاني: أن المراد بالذين يدعون: عيسى وعزير والملائكة الذين عبدهم المشركون بالله لا
يملك هؤلاء الشفاعة لأحد (إلا من شهد) أي: إلا لمن شهد (بالحق) وهي كلمة
الإخلاص (وهم يعلمون) أن الله عز وجل خلق عيسى وعزير والملائكة، وهذا مذهب قوم، منهم
مجاهد. وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالما بما يشهد به
قوله تعالى: (وقيله يا رب) قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه. وقال ابن عباس:
شكا إلى الله تخلف قومه عن الإيمان. قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو: " وقيله "
بنصب اللام، وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه أضمر معها قولا، كأنه قال: وقال قيله، وشكا شكواه إلى ربه.
والثاني: أنه عطف على قوله: " أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم " وقيله " فالمعنى:
ونسمع قيله، ذكر القولين الفراء، والأخفش.
والثالث: أنه منصوب على معنى: وعنده علم الساعة ويعلم قيله، لأن معنى " وعنده علم
الساعة ": يعلم الساعة ويعلم قيله، هذا اختيار الزجاج. وقرأ عاصم، وحمزة: " وقيله " بكسر اللام
والهاء حتى تبلغ إلى الياء، والمعنى: وعنده علم الساعة وعلم قيله. وقرأ أبو هريرة، وأبو رزين،
وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، والجحدري، وقتادة، وحميد: برفع اللام، والمعنى: ونداؤه هذه
الكلمة: يا رب، ذكر علة الخفض والرفع الفراء والزجاج.
قوله تعالى: (فاصفح عنهم) أي: فأعرض عنهم (وقل سلام) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: قل خيرا بدلا من شرهم، قاله السدي.
والثاني: أردد عليهم معروفا، قاله مقاتل.
109

والثالث: قل ما تسلم به من شرهم، حكاه الماوردي.
(فسوف يعلمون) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يعلمون عاقبة كفرهم.
والثاني: أنك صادق.
والثالث: حلول العذاب بهم، وهذا تهديد لهم: " فسوف يعلمون ". وقرأ نافع، وابن عامر:
" تعلمون " بالتاء. فعلى الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بهذا، قاله مقاتل، فنسخت آية
السيف الإعراض والسلام.
110

سورة الدخان مكية
وآياتها تسع وخمسون
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) والكتاب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3) فيها
يفرق كل أمر حكيم (4) أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو
السميع العليم (6) رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (7) لا إله إلا
هو يحي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين (8) بل هم في شك يلعبون (9)
قوله عز وجل: (حم والكتاب المبين) قد تقدم بيانه، وجواب القسم (إنا أنزلناه)،
والهاء كناية عن الكتاب، وهو القرآن (في ليلة مباركة) وفيها قولان:
أحدهما: أنها ليلة القدر، وهو قول الأكثرين. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن
111

من عند الرحمن ليلة القدر جملة واحدة، فوضع في السماء الدنيا، ثم أنزل نجوما. وقال مقاتل:
نزل القرآن كله في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
والثاني: أنها ليلة النصف من شعبان، قاله عكرمة.
قوله تعالى: (إنا كنا منذرين) أي: مخوفين عقابنا.
(فيها) أي: في تلك الليلة (يفرق كل) أي: يفصل. وقرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك،
ومعاذ القارئ: " يفرق " بفتح الياء وكسر الراء " كل " بنصب اللام (أمر حكيم) أي: محكم.
قال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق
والآجال، حتى الحاج، وإنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى. وعلى ما
روي عن عكرمة أن ذلك في ليلة النصف من شعبان، والرواية عنه بذلك مضطربة قد خولف الراوي
لها، فروي عن عكرمة أنه قال: في ليلة القدر، وعلى هذا المفسرون.
قوله تعالى: (أمرا من عندنا) قال الأخفش: " أمرا " و " رحمة " منصوبان على الحال،
المعنى: إنا أنزلناه آمرين أمرا وراحمين رحمة. قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوبا ب‍ " يفرق "
بمنزلة يفرق فرقا، لأن " أمرا " بمعنى " فرقا ". قال الفراء: ويجوز أن تنصب الرحمة بوقوع
" مرسلين " عليها، فتكون الرحمة هي النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل: " مرسلين " بمعنى منزلين هذا
القرآن، أنزلناه رحمة لمن آمن به. وقال غيره: " أمرا من عندنا " أي: إنا نأمر بنسخ ما ينسخ من
اللوح (إنا كنا مرسلين) الأنبياء، (رحمة) منا بخلقنا (رب السماوات) قرأ ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو، وابن عامر: " رب " بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " رب " بكسر
الباء. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: (بل هم) يعني الكفار (في شك) مما جئناهم به
(يلعبون) يهزؤون به.
فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10) يغشى الناس هذا عذاب أليم (11) ربنا
اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون (12) أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين (13) ثم
تولوا عنه وقالوا معلم مجنون (14) إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون (15) يوم نبطش
البطشة الكبرى إنا منتقمون (16)
(فارتقب) أي: فانتظر (يوم تأتي السماء بدخان مبين) اختلفوا في هذا الدخان ووقته
112

على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه دخان يجيء قبل قيام الساعة، فروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الدخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، وروى عبد الله بن أبي
مليكة قال: غدوت على ابن عباس ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: لم؟ قال:
طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يطرق الدخان، وهذا المعنى مروي عن علي، وابن عمر،
وأبي هريرة، والحسن.
والثاني: أن قريشا أصابهم جوع، فكانوا يرون بينهم وبين السماء دخانا من الجوع، فروى
البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث مسروق، قال: كنا عند عبد الله، فدخل علينا رجل،
فقال: جئتك من المسجد وتركت رجلا يقول في هذه الآية (يوم تأتي السماء بدخان مبين):
يغشاهم يوم القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبهم منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله: من علم
علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، إنما كان هذا لأن قريشا لما استعصت على
النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميتة، وجعل
الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فقالوا: (ربنا اكشف عنا
العذاب إنا مؤمنون)، فقال الله تعالى: (إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون)، فكشف
عنهم، ثم عادوا إلى الكفر، فأخذوا يوم بدر، فذلك قوله: (يوم نبطش البطشة الكبرى)، وإلى
نحو هذا ذهب مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وابن السائب، ومقاتل.
والثالث: أنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء بالغبرة، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (هذا عذاب) أي: يقولون: هذا عذاب.
(ربنا اكشف عنا العذاب) فيه قولان:
أحدهما: الجوع.
والثاني: الدخان (إنا مؤمنون) بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
(أنى لهم الذكرى) أي: من أين لهم التذكر والاتعاظ بعد نزول هذا البلاء، (و) حالهم أنه
(قد جاءهم رسول مبين) أي: ظاهر الصدق؟!
(ثم تولوا عنه) أي: أعرضوا ولم يقبلوا قوله (وقالوا معلم مجنون) أي: هو معلم يعلمه بشر
113

مجنون بادعائه النبوة، قال الله تعالى: (إنا كاشفوا العذاب قليلا) أي: زمانا يسيرا. وفي العذاب
قولان:
أحدهما: الضر الذي نزل بهم كشف بالخصب، هذا على قول ابن مسعود. قال مقاتل: كشفه
إلى يوم بدر.
والثاني: أنه الدخان، قاله قتادة.
قوله تعالى: (إنكم عائدون) فيه قولان:
أحدهما: إلى الشرك، قاله ابن مسعود.
والثاني: إلى عذاب الله، قاله قتادة.
قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى) وقرأ الحسن، وابن يعمر، وأبو عمران: " يوم
تبطش " بتاء مرفوعة وفتح الطاء " البطشة " بالرفع. قال الزجاج: المعنى: واذكر يوم نبطش، ولا
يجوز أن يكون منصوبا بقوله: " منتقمون "، لأن ما بعد " إنا " لا يجوز أن يعمل فيما قبلها. وفي
هذا اليوم قولان:
أحدهما: يوم بدر، قاله ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبو هريرة، وأبو العالية، ومجاهد،
والضحاك.
والثاني: يوم القيامة، قاله ابن عباس، والحسن. والبطش: الأخذ بقوة.
ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17) أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول
أمين (18) وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين (19) وإني عذت بربي وربكم
أن ترجمون (20) وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون (21) فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22)
فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون (23) واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24) كم تركوا
من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) كذلك
وأورثناها قوما آخرين (28) فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا (29)
قوله تعالى: (ولقد فتنا) أي: ابتلينا (قبلهم) أي: قبل قومك (قوم فرعون) بإرسال
114

موسى إليهم (وجاءهم رسول كريم) وهو موسى بن عمران. وفي معنى " كريم " ثلاثة أقوال:
أحدها: حسن الخلق، قاله مقاتل.
والثاني: كريم على ربه، قاله الفراء.
والثالث: شريف وسيط النسب، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: (أن أدوا) أي: بان أدوا (إلي عباد الله) وفيه قولان:
أحدهما: أدوا إلى ما أدعوكم إليه من الحق باتباعي، روى هذا المعنى العوفي عن ابن
عباس. فعلى هذا ينتصب " عباد الله " بالنداء. قال الزجاج: ويكون المعنى: أن أدوا إلي ما آمركم
به يا عباد الله.
والثاني: أرسلوا معي بني إسرائيل، قاله مجاهد، وقتادة، والمعنى: أطلقوهم من تسخيركم،
وسلموهم إلي.
(وأن لا تعلوا على الله) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تفتروا عليه، قاله ابن عباس.
والثاني: لا تعتوا عليه، قاله قتادة.
والثالث: لا تعظموا عليه، قاله ابن جريج (إني آتيكم بسلطان مبين) أي: بحجة تدل على
صدقي.
فلما قال هذا تواعدوه بالقتل فقال: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) وفيه قولان:
أحدهما: أنه رجم القول، قاله ابن عباس، فيكون المعنى: أن يقولوا: شاعر أو مجنون.
والثاني: القتل، قاله السدي.
(وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) أي: فاتركوني لا معي ولا علي، فكفروا ولم يؤمنوا، (فدعا
ربه أن هؤلاء) قال الزجاج: من فتح " أن "، فالمعنى: بأن هؤلاء، ومن كسر، فالمعنى: قال: إن
هؤلاء، و " إن " بعد القول مكسورة. وقال المفسرون: المجرمون هاهنا: المشركون.
فأجاب الله دعاءه، وقال: (فأسر بعبادي ليلا) يعني بالمؤمنين (إنكم متبعون) يتبعكم
فرعون وقومه، فأعلمهم أنهم يتبعونهم، وأنه سيكون سببا لغرقهم.
(واترك البحر رهوا) أي: ساكنا على حاله بعد أن انفرق لك، ولا تأمره أن يرجع كما كان
حتى يدخله فرعون وجنوده. والرهو: مشي في سكون.
115

قال قتادة: لما قطع موسى عليه السلام البحر، عطف يضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن
يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: " واترك البحر رهوا " - أي كما هو - طريقا يابسا.
قوله تعالى: (إنهم جند مغرقون) أخبره الله عز وجل بغرقهم ثم ليطمئن قلبه في ترك البحر
على حاله.
(كم تركوا) أي: بعد غرقهم (من جنات) وقد فسرنا الآية في الشعراء. فأما
" النعمة " فهو العيش اللين الرغد. وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله: (وأورثناها قوما
آخرين) يعني بني إسرائيل.
(فما بكت عليهم السماء) أي: على آل فرعون وفي معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على الحقيقة، روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مسلم إلا
وله في السماء بابان، باب يصعد فيه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه " وتلا صلى الله عليه وسلم هذه
الآية. وقال علي رضي الله عنه: إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من
السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مصلى ولا في السماء مصعد عمل، فقال الله
تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض)، وإلى نحو هذا ذهب ابن عباس، والضحاك،
ومقاتل. وقال ابن عباس: الحمرة التي في السماء: بكاؤها. وقال مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت
عليه السماء والأرض أربعين صباحا، فقيل له: أو تبكي؟ قال: وما للأرض لا تبكي على عبد كان
يعمرها بالركوع والسجود؟! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي
النحل؟!.
والثاني: أن المراد: أهل السماء وأهل الأرض، قاله الحسن، ونظير هذا قوله تعالى: (حتى
تضع الحرب أوزارها)، أي: أهل الحرب.
والثالث: أن العرب تقول إذا أرادت تعظيم مهلك عظيم: أظلمت الشمس له، وكسف القمر
لفقده، وبكته الريح والبرق والسماء والأرض، يريدون المبالغة في وصف المصيبة، وليس ذلك
بكذب منهم، لأنهم جميعا متواطئون عليه، والسامع له يعرف مذهب القائل فيه، ونيتهم في قولهم:
أظلمت الشمس، كادت تظلم، وكسف القمر: كاد يكسف، ومعنى " كاد ": هم أن يفعل ولم
يفعل، قال ابن مفرغ يرثي رجلا:
الريح تبكي شجوه * والبرق رسول يلمع في غمامه
116

وقال الآخر:
الشمس طالعة ليست بكاسفة * تبكي عليك - نجوم الليل والقمرا
أراد: الشمس طالعة تبكي عليه، وليست مع طلوعها كاسفة النجوم والقمر، لأنها مظلمة،
وإنما تكسف بضوئها، فنجوم الليل بادية بالنهار، فيكون معنى الكلام: إن الله لما أهلك قوم فرعون
لم يبك عليهم باك، ولم يجزع جازع، ولم يوجد لهم فقد، هذا كله كلام ابن قتيبة.
ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين (30) من فرعون إنه كان عاليا من
المسرفين (31) ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32) وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء
مبين (33) إن هؤلاء ليقولون (34) إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (35) فأتوا
بآبائنا إن كنتم صادقين (36) أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم
كانوا مجرمين (37) وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما إلا بالحق
ولكن أكثرهم لا يعلمون (39) إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (40) يوم لا يغني مولى عن
مولى شيئا ولا هم ينصرون (41) إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم (42)
قوله تعالى: (من العذاب المهين) يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والتعب في أعمال
فرعون، (إنه كان عاليا) أي: جبارا.
(ولقد اخترناهم) يعني بني إسرائيل (على علم) علمه الله فيهم على عالمي زمانهم،
(وآتيناهم من الآيات) كانفراق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، إلى غير ذلك
(ما فيه بلاء مبين) أي: نعمة ظاهرة.
ثم رجع إلى ذكر كفار مكة، فقال (إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى) يعنون التي
تكون في الدنيا (وما نحن بمنشرين) أي: بمبعوثين، (فائتوا بآبائنا) أي: ابعثوهم لنا (إن
كنتم صادقين) في البعث. وهذا جهل منهم من وجهين:
أحدهما: أنهم قد رأوا من الآيات ما يكفي في الدلالة، فليس لهم أن يتنطعوا.
117

والثاني: أن الإعادة للجزاء، وذلك في الآخرة، لا في الدنيا.
ثم خوفهم عذاب الأمم قبلهم، فقال: (أهم خير) أي: أشد وأقوى (أم قوم تبع)؟!
أي: ليسوا خيرا منهم. روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أدري تبعا، نبي، أو غير
نبي. وقالت عائشة: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا، ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه.
وقال وهب: أسلم تبع ولم يسلم قومه، فلذلك ذكر قومه ولم يذكر. وذكر بعض المفسرين أنه كان
يعبد النار، فأسلم ودعا قومه - وهم حمير - إلى الإسلام، فكذبوه.
فأما تسميته ب‍ " تبع " فقال أبو عبيدة: كل ملك من ملوك اليمن كان يسمى: تبعا، لأنه يتبع
صاحبه، فموضع " تبع " في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام. وقال مقاتل: إنما سمي تبعا لكثرة
أتباعه، واسمه: ملكيكرب. وإنما ذكر قوم تبع، لأنهم كانوا أقرب في الهلاك إلى كفار مكة من
غيرهم. وما بعد هذا قد تقدم إلى قوله تعالى: (إن يوم الفصل) وهو يوم يفصل الله عز وجل
بين العباد (ميقاتهم) أي: ميعادهم (أجمعين) يأتيه الأولون والآخرون.
(يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا) فيه قولان:
أحدهما: لا ينفع قريب قريبا، قاله مقاتل. وقال ابن قتبة: لا يغني ولي عن وليه بالقرابة أو
غيرها.
والثاني: لا ينفع ابن عم ابن عمه، قاله أبو عبيدة.
(ولا هم ينصرون) أي، لا يمنعون من عذاب الله، (إلا من رحم الله) وهم المؤمنون،
فإنه يشفع بعضهم في بعض.
إن شجرت الزقوم (43) طعام الأثيم (44) كالمهل يغلى في البطون (45) كغلي
الحميم (46) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم (47) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب
الحميم (48) ذق إنك أنت العزيز الكريم (49) إن هذا ما كنتم به تمترون (50) إن
المتقين في مقام أمين (51) في جنات وعيون (52) يلبسون من سندس وإستبرق
118

متقابلين (53) كذلك وزوجناهم بحور عين (54) يدعون فيها بكل فاكهة آمنين (55)
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من ربك
ذلك هو الفوز العظيم (57) فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون (58) فارتقب إنهم مرتقبون (59)
(إن شجرة الزقوم) قد ذكرناها في الصافات. و " الأثيم ": الفاجر، وقال مقاتل: هو أبو
جهل. وقد ذكرنا معنى " المهل " في الكهف.
قوله تعالى: (يغلي في البطون) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: " يغلي "
بالياء، والباقون: بالتاء. فمن قرأ " تغلي " بالتاء، فلتأنيث الشجرة، ومن قرأ بالياء، حمله على
الطعام، قال أبو علي الفارسي: ولا يجوز أن يحمل الغلي على المهل، لأن المهل ذكر للتشبيه في
الذوب، وإنما يغلي ما شبه به (كغلي الحميم) وهو الماء الحار إذا اشتد غليانه.
قوله تعالى: (خذوه) أي: يقال للزبانية: خذوه (فاعتلوه) وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن
عامر، ويعقوب: بضم التاء، وكسرها الباقون، قال ابن قتيبة: ومعناه: قودوه بالعنف، يقال: جيء
بفلان يعتل إلى السلطان، و " سواء الجحيم ": وسط النار. قال مقاتل: الآيات في أبي جهل
يضربه الملك من خزان جهنم على رأسه بمقمعة من حديد فتنقب عن دماغه، فيجري دماغه على
جسده، ثم يصب الملك في النقب ماء حميما قد انتهى حره، فيقع في بطنه، ثم يقول له
الملك: (ذق) العذاب (إنك أنت العزيز الكريم) هذا توبيخ له بذلك، وكان أبو جهل يقول:
أنا أعز قريش وأكرمها. وقرأ الكسائي: " ذق أنك " بفتح الهمزة، والباقون: بكسرها. قال أبو علي:
من كسرها، فالمعنى: أنت العزيز في زعمك، ومن فتح، فالمعنى: بأنك.
فإن قيل: كيف سمي بالعزيز وليس به؟!
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه قيل ذلك استهزاء به، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل.
والثاني: أنت العزيز الكريم عند نفسك، قاله قتادة.
والثالث: أنت العزيز في قومك، الكريم على أهلك، حكاه الماوردي.
ويقول الخزان لأهل النار: (إن هذا ما كنتم به تمترون) أي: تشكون في كونه.
ثم ذكر مستقر المتقين فقال: (إن المتقين في مقام أمين) قرأ نافع، وابن عامر: " في
مقام " بضم الميم، والباقون: بفتحها. قال الفراء: المقام، بفتح الميم: المكان، وبضمها:
الإقامة.
119

قوله تعالى: (أمين) أي: أمنوا فيه الغير والحوادث. وقد ذكرنا
" الجنات " في البقرة وذكرنا معنى " العيون " ومعنى " متقابلين " في الحجر وذكرنا
" السندس والإستبرق " في الكهف.
قوله تعالى: (كذلك) أي: الأمر كما وصفنا (وزوجناهم بحور عين) قال المفسرون:
المعنى: قرناهم بهن، وليس من عقد التزويج. قال أبو عبيدة: المعنى: جعلنا ذكور أهل الجنة
أزواجا (بحور عين عين) من النساء، تقول للرجل: زوج هذه النعل الفرد بالنعل الفرد، أي: اجعلهما
زوجا، والمعنى: جعلناهم اثنين اثنين. وقال يونس: العرب لا تقول: تزوج بها، إنما يقولون:
تزوجها. ومعنى (وزوجناهم بحور عين): قرناهم. وقال ابن قتيبة: يقال: زوجته امرأة، وزوجته
بامرأة. وقال أبو علي الفارسي: والتنزيل على ما قال يونس، وهو قوله تعالى: (زوجناكها)،
وما قال: زوجناك بها.
فأما الحور، فقال مجاهد: الحور: النساء النقيات البياض، وقال الفراء: الحوراء: البيضاء
من الإبل، قال: وفي " الحور العين " لغتان: حور عين، وحير عين، وأنشد:
أزمان أو عيناء سرور المسير * وحوراء عيناء من العين الحير
وقال أبو عبيدة: الحوراء: الشديدة بياض بياض العين، الشديدة سواد سوادها. وقد بينا معنى
" العين " في الصافات.
قوله تعالى: (ويدعون فيها بكل فاكهة آمنين) فيه قولان:
أحدهما: آمنين من انقطاعها في بعض الأزمنة.
والثاني: آمنين من التخم والأسقام والآفات.
قوله تعالى: (إلا الموتة الأولى) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بمعنى " سوى "، فتقدير الكلام: لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي
ذاقوها في الدنيا، ومثله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف)، وقوله:
(خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) أي: سوى ما شاء لهم ربك من
الزيادة على مقدار الدنيا، هذا قول الفراء، والزجاج.
120

والثاني: أن السعداء حين يموتون يصيرون إلى الروح والريحان وأسباب من الجنة يرون
منازلهم منها، وإذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنة، لاتصالهم عليه بأسبابها، ومشاهدتهم إياها،
قاله ابن قتيبة.
والثالث: أن " إلا " بمعنى " بعد "، كما ذكرنا في أحد الوجوه في قوله: (إلا ما قد
سلف)، وهذا قول ابن جرير.
قوله تعالى: (فضلا من ربك) أي: فعل الله ذلك بهم فضلا منه.
(فإنما يسرناه) أي: سهلناه، والكناية عن القرآن (بلسانك) أي: بلغة العرب (لعلهم
يتذكرون) أي: لكي يتعظوا فيؤمنوا، (فارتقب) أي: انتظر بهم العذاب (إنهم مرتقبون)
هلاكك، وهذه عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح.
121

سورة الجاثية مكية
إلا آية 14 فمدنية
وآياتها 37 نزلت بعد الدخان
وتسمى سورة الشريعة
روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية، وهو قول الحسن، وعكرمة،
ومجاهد، وقتادة، والجمهور. وقال مقاتل: هي مكية كلها. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا:
هي مكية إلا آية، وهي قوله: (قل للذين آمنوا يغفروا).
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) إن في السماوات والأرض
لآيات للمؤمنين (3) وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون (4) واختلاف الليل
والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح
آيات لقوم يعقلون (9) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته
يؤمنون (6) ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا
122

كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم (8) وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك
لهم عذاب مهين (9) من ورائهم جهنم ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من
دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم (10) هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم
عذاب من رجز أليم (11) الله الذي سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا
من فضله ولعلكم تشكرون (12) وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا
منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (13)
قوله تعالى: (حم. تنزيل الكتاب) قد شرحناه في أول (المؤمن).
قوله تعالى: (وفي خلقكم) أي: من تراب ثم من نطفة إلى أن يتكامل خلق الإنسان (وما
يبث من دابة) أي: وما يفرق في الأرض من جميع ما خلق على اختلاف ذلك في الخلق والصور
(آيات) تدل على وحدانيته. قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: " آيات "
رفعا " وتصريف الرياح آيات " رفعا أيضا. وقرأ حمزة، والكسائي: بالكسر فيهما. والرزق هاهنا
بمعنى المطر.
قوله تعالى: (تلك آيات الله) أي: هذه حجج الله (نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد
الله) أي: بعد حديثه (وآياته) يؤمن هؤلاء المشركون؟!
قوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم) روى أبو صالح عن ابن عباس أنها نزلت في النضر بن
الحارث. وقد بينا معناها في الشعراء، والآية التي تليها مفسرة في لقمان.
قوله تعالى: (وإذا علم من آياتنا شيئا) قال مقاتل: معناه: إذا سمع. وقرأ ابن مسعود:
" وإذا علم " برفع العين وكسر اللام وتشديدها.
قوله تعالى: (اتخذها هزوا) أي: سخر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت: (إن
شجرة الزقوم، طعام الأثيم) فدعا بتمر وزبد، وقال: تزقموا فما يعدكم محمد إلا هذا، وإنما
قال: (أولئك) لأنه رد الكلام إلى معنى " كل ".
(من ورائهم جهنم) قد فسرناه في إبراهيم (ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا) من
123

الأموال، ولا ما عبدوا من الآلهة.
قوله تعالى: (هذا هدى) يعني القرآن (والذين كفروا) به، (لهم عذاب من
رجز أليم) قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: " أليم " بالرفع على نعت العذاب وقرأ الباقون:
بالكسر على نعت الرجز. والرجز بمعنى العذاب، وقد شرحناه في الأعراف.
قوله تعالى: (جميعا منه) أي: ذلك التسخير منه لا من غيره، فهو من فضله. وقرأ عبد
الله بن عمرو، وابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري: " جميعا منه "
بفتح النون وتشديدها وتاء منصوبة منونة. وقرأ سعيد بن جبير: " منه " بفتح الميم ورفع النون والهاء
مشددة النون.
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون (14)
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون (15) ولقد آتينا بني
إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16)
وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن
ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (17) ثم جعلناك على شريعة من الأمر
فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين
بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين (19) هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20)
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء
محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21) وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل
نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (22)
قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا...) الآية في سبب نزولها أربعة أقوال:
124

أحدها: أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها: " المريسيع "، فأرسل عبد الله بن
أبي غلامة ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر، ما ترك أحدا يستقي
حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر، وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل:
سمن كلبك يأكلك، فبلغ قوله عمر، فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن
عباس.
والثاني: أنها لما نزلت: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) قال يهودي بالمدينة
يقال له فنحاص: احتاج رب محمد. فلما سمع بذلك عمر، اشتمل على سيفه وخرج في طلبه،
فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلب عمر، فلما جاء، قال: " يا عمر،
ضع سيفك " وتلا عليه الآية، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس.
والثالث: أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين
قبل أن يؤمروا بالقتال، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله القرظي، والسدي.
والرابع: أن رجلا من كفار قريش شتم عمر بن الخطاب، فهم عمر أن يبطش به، فنزلت هذه
الآية، قاله مقاتل.
ومعنى الآية: قل للذين آمنوا: اغفروا، ولكن شبه بالشرط والجزاء، كقوله: (قل لعبادي
الذين آمنوا يقيموا الصلاة *، وقد مضى بيان هذا.
وقوله: (للذين لا يرجون) أي: لا يخافون وقائع الله في الأمم الخالية، لأنهم لا يؤمنون
به، فلا يخافون عقابه. وقيل: لا يدرون أنعم الله عليهم، أم لا. وقد سبق بيان معنى " أيام الله " في
سورة إبراهيم.
فصل
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية منسوخة، لأنها تضمنت الأمر بالإعراض عن المشركين.
واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه قوله: (فاقتلوا المشركين)، رواه معمر عن قتادة.
والثاني: أنه قوله في الأنفال: (فإما تثقفنهم في الحرب)، وقوله في براءة: (وقاتلوا
المشركين كافة)، رواه سعيد عن قتادة.
125

والثالث: أنه قوله: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا)، قاله أبو صالح.
قوله تعالى: (ليجزي قوما) وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: " لنجزي " بالنون " قوما "
يعني الكفار، فكأنه قال: لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن.
وما بعد هذا قد سبق إلى قوله: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب) يعني التوراة
(والحكم) وهو الفهم في الكتاب، (ورزقناهم من الطيبات) يعني المن والسلوى (وفضلناهم
على العالمين) أي: عالمي زمانهم.
(وآتيناهم بينات من الأمر) فيه قولان:
أحدهما: بيان الحلال والحرام، قاله السدي.
والثاني: العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته، ذكره الماوردي.
وما بعد هذا قد تقدم بيانه إلى قوله: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) سبب نزولها أن
رؤساء قريش دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
فأما قوله: (على شريعة) فقال ابن قتيبة: أي على ملة ومذهب، ومنه يقال: شرع فلان
في كذا: إذا أخذ فيه، ومنه " مشارع الماء " وهي الفرض التي شرع فيها الوارد.
قال المفسرين: ثم جعلناك بعد موسى على طريقة من الأمر، أي: من الدين (فابتعها).
و (الذين لا يعلمون) كفار قريش.
(إنهم لن يغنوا عنك) أي: لن يدفعوا عنك عذاب الله إن اتبعتهم، (وإن الظالمين)
يعني المشركين. (والله ولي المتقين) الشرك. والآية التي بعدها مفسرة في آخر الأعراف.
(أم حسب الذين اجترحوا السيئات) سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للمؤمنين: إنا نعطى في
الآخرة مثلما تعطون من الأجر، قاله مقاتل. والاستفهام هاهنا استفهام إنكار. و " اجترحوا " بمعنى
اكتسبوا.
(سواء محياهم ومماتهم) قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وزيد عن يعقوب:
" سواء " نصبا، وقرأ الباقون: بالرفع. فمن رفع، فعلى الابتداء، ومن نصب، جعله مفعولا ثانيا،
على تقدير: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء، والمعنى: إن هؤلاء يحيون مؤمنين ويموتون
مؤمنين، وهؤلاء يحيون كافرين ويموتون كافرين، وشتان ما هم في الحال والمال (ساء ما
126

يحكمون) أي: بئس ما يقضون.
ثم ذكر بالآية التي تلي هذه أنه خلق السماوات والأرض بالحق، أي: للحق والجزاء بالعدل،
لئلا يظن الكافر أنه لا يجزي بكفره.
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره
غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (23) وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما
يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24) وإذا تتلى عليهم آياتنا
بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (25) قل الله يحييكم ثم
يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26) ولله
ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون (27) وترى كل أمة
جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (28) هذا كتابنا ينطق عليكم
بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (29) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم
ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين (30) واما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم
فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31)
قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) قد شرحناه في الفرقان. وقال مقاتل: نزلت
هذه الآية في الحارث بن قيس السهمي.
قوله تعالى: (وأضله الله على علم) أي: على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي (وختم على
سمعه) أي: طبع عليه فلم يسمع الهدى (و) على (قلبه) فلم يعقل الهدى وقد ذكرنا الغشاوة
والختم في البقرة.
(فمن يهديه من بعد الله؟!) أي: من بعد إضلاله إياه (أفلا تذكرون) فتعرفوا قدرته على
ما يشاء؟!. وما بعد هذا مفسر في سورة المؤمنون إلى قوله: (وما يهلكنا إلا الدهر) أي:
127

اختلاف الليل والنهار (وما لهم بذلك من علم) أي: ما قالوه عن علم، إنما قالوه شاكين فيه.
ومن أجل هذا قال نبينا عليه الصلاة والسلام: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر "، أي: هو
الذي يهلككم، لا ما تتوهمونه من مرور الزمان. وما بعد هذا ظاهر، وقد تقدم بيانه إلى قوله:
(يخسر المبطلون) يعني المكذبين الكافرين أصحاب الأباطيل، والمعنى: يظهر خسرانهم يومئذ.
(وترى كل أمة) قال الفراء، ترى أهل كل دين (جاثية) قال الزجاج: أي: جالسة على الركب،
يقال: قد جثا فلان جثوا: إذا جلس على ركبتيه، ومثله: جذا يجذو. والجذو أشد استيفازا من
الجثو، لأن الجذور: أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه. قال ابن قتيبة: والمعنى أنها غير
مطمئنة.
قوله تعالى: (كل أمة تدعى إلى كتابها) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كتابها الذي فيه حسناتها وسيئاتها، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنه حسابها، قاله الشعبي، والفراء: وابن قتيبة.
والثالث: كتابها الذي أنزل على رسوله، حكاه الماوردي.
ويقال لهم: (اليوم تجزون ما كنتم تعملون).
(هذا كتابنا) وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كتاب الأعمال الذي تكتبه الحفظة، قاله ابن السائب.
والثاني: اللوح المحفوظ، قاله مقاتل.
والثالث: القرآن، والمعنى أنهم يقرؤونه فيدلهم ويذكرهم، فكأنه ينطق عليهم، قاله ابن
قتيبة.
قوله تعالى: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) أي: نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي
بكتبها وإثباتها. وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ، من اللوح المحفوظ، تستنسخ الملائكة
كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقا ما يعملونه. قالوا: والاستنساخ لا يكون
إلا من أصل. قال الفراء: يرفع الملكان العمل كله، فيثبت الله منه ما فيه ثواب أو عقاب، ويطرح
منه اللغو. وقال الزجاج: نستنسخ ما تكتبه الحفظة، ويثبت عند الله عز وجل.
قوله تعالى: (في رحمته) قال مقاتل: في جنته.
قوله تعالى: (أفلم تكن آياتي) فيه إضمار، تقديره: فيقال لهم ألم تكن آياتي، يعني آيات
القرآن (تتلى عليكم فاستكبرتم) عن الإيمان بها (وكنتم قوما مجرمين؟!) قال ابن عباس:
كافرين.
128

وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا
وما نحن بمستيقنين (32) وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون (33)
وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (34)
ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم
يستعتبون (35) فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين (36) وله الكبرياء في
السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37)
قوله تعالى: (وإذا قيل إن وعد الله) بالبعث (حق) أي: كائن (والساعة) قرأ حمزة:
" والساعة " بالنصب " لا ريب فيها " أي: كائنة بلا شك (قلتم ما ندري ما الساعة) أي:
أنكرتموها (إن نظن إلا ظنا) أي: ما نعلم ذلك إلا ظنا وحدسا، روى ولا نستيقن كونها.
وما بعد هذا قد تقدم إلى قوله: (وقيل اليوم ننساكم) أي: نترككم في النار (كما نسيتم
لقاء يومكم هذا) أي: كما تركتم الإيمان والعمل للقاء هذا اليوم.
(ذلكم) الذي فعلنا بكم (بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا) أي: مهزوءا بها (وغرتكم
الحياة الدنيا) حتى قلتم: إنه لا بعث ولا حساب (فاليوم لا يخرجون) وقرأ حمزة، والكسائي:
" لا يخرجون " بفتح الياء وضم الراء. وقرأ الباقون: [" لا يخرجون "] بضم الياء وفتح الراء
(منها) أي: من النار (ولا هم يستعتبون) أي: لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله عز
وجل، لأنه ليس بحين توبة ولا اعتذار.
قوله تعالى: (وله الكبرياء) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: السلطان، قاله مجاهد.
والثاني: الشرف، قاله ابن زيد.
والثالث: العظمة، قاله يحيى بن سلام، والزجاج.
129

(46) سورة الأحقاف مكية
وآياتها خمس وثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) ما خلقنا السماوات والأرض وما
بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون (3) قل أرأيتم ما تدعون
من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أئتوني بكتاب من قبل
هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين (4)
فصل في نزولها
روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة،
وقتادة، والجمهور. وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: فيها آية مدنية، وهي قوله: (قل أرأيتم
إن كان من عند الله). وقال مقاتل: نزلت بمكة غير آيتين: قوله: (قل أرأيتم إن كان من عند
130

الله)، وقوله: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل). نزلتا بالمدينة. وقد تقدم تفسير
فاتحتها إلى قوله: (وأجل مسمى) وهو أجل فناء السماوات والأرض، وهو يوم القيامة.
قوله تعالى: (قل أرأيتم) مفسر في فاطر إلى قوله: (إيتوني بكتاب)، وفي الآية
اختصار، تقديره: فإن ادعوا أن شيئا من المخلوقات صنعة آلهتهم، فقل لهم: إيتوني بكتاب (من
قبل هذا) أي: من قبل القرآن فيه برهان ما تدعون من أن الأصنام شركاء الله، (أو أثارة من
علم) وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الشيء يثيره مستخرجه، قاله الحسن.
والثاني: بقية من علم تؤثر عن الأولين، قاله ابن قتيبة، وإلى نحوه ذهب الفراء، وأبو عبيدة.
والثالث: علامة من علم، قاله الزجاج.
وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأيوب السختياني، ويعقوب: " أثرة " بفتح الثاء، مثل شجرة.
ثم ذكروا في معناها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الخط، قاله ابن عباس، وقال: هو خط كانت العرب تخطه في الأرض، قال أبو
بكر بن عياش: الخط هو العيافة.
والثاني: أو علم تأثرونه عن غيركم، قاله مجاهد.
والثالث: خاصة من علم، قاله قتادة.
وقرأ أبي بن كعب، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والضحاك، وابن يعمر:
" أثرة " بسكون الثاء من غير ألف بوزن نظرة.
وقال الفراء: قرئت " أثارة " و " أثره " وهي لغات، ومعنى الكل: بقية من علم، ويقال: أو
شيء مأثور من كتب الأولين، فمن قرأ " أثارة " فهو المصدر، مثل قولك: السماحة والشجاعة، ومن
قرأ " أثرة " فإنه بناه على الأثر، كما قيل: قترة، ومن قرأ " أثرة " فكأنه أراد مثل قوله: " الخطفة "
و " الرجفة ".
وقال اليزيدي: الأثارة: البقية، والأثرة، مصدر أثره يأثره، أي: يذكره ويرويه، ومنه: حديث
مأثور.
131

ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم
غافلون (5) وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين (6) وإذا تتلى
عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين (7) أم يقولون افتراه
قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني
وبينكم وهو الغفور الرحيم (8)
قوله تعالى: (من لا يستجيب له) يعني الأصنام (وهو عن دعائهم غافلون) لأنها جماد لا
تسمع، فإذا قامت القيامة صارت الآلهة أعداء لعابديها في الدنيا. ثم ذكر بما بعد هذا أنهم
يسمون القرآن سحرا وأن محمدا افتراه.
قوله تعالى: (فلا تملكون لي من الله شيئا) أي: لا تقدرون على أن تردوا عني عذابه، أي:
فكيف أفتري من أجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عذابه عني؟! (هو أعلم بما تفيضون فيه) أي:
بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب والقول بأنه سحر (كفى به شهيدا بيني وبينكم)
أن القرآن جاء من عند الله (وهو الغفور الرحيم) في تأخير العذاب عنكم. وقال الزجاج: إنما ذكر
هاهنا الغفران والرحمة ليعلمهم أن من أتى ما أتيتم ثم تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به.
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى
وما أنا إلا نذير مبين (9) قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من
بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (10)
قوله تعالى: (قل ما كنت بدعا من الرسل) أي: ما أنا بأول رسول. والبدع والبديع من كل
شيء: المبتدأ (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة: " ما يفعل " بفتح
الياء ثم فيه قولان:
أحدهما: أنه أراد بذلك ما يكون في الدنيا. ثم فيه قولان:
أحدهما: أنه لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في المنام أنه هاجر إلى أرض
ذات نخل وشجر وماء، فقصها على أصحابه، فاستبشروا بذلك لما يلقون من أذى المشركين. ثم
132

إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك، فقالوا: يا رسول الله متى تهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) يعني لا أدري، أخرج إلى
الموضع الذي رأيته في منامي أم لا؟ ثم قال: " إنما هو شيء رأيته في منامي، وما (أتبع إلا ما
يوحى إلي) "، رواه أبو صالح عن ابن عباس وكذلك قال عطية: ما أدري هل يتركني بمكة أو
يخرجني منها.
والثاني: ما أدري هل أخرج كما أخرج الأنبياء قبلي، أو أقتل كما قتلوا: ولا أدري ما يفعل
بكم، أتعذبون أم تؤخرون؟ أتصدقون أم تكذبون؟ قاله الحسن.
والقول الثاني: أنه أراد ما يكون في الآخرة. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما
نزلت هذه الآية، نزل بعدها (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) وقال: (ليدخل
المؤمنين والمؤمنات جنات...) الآية فأعلم ما يفعل به وبالمؤمنين. وقيل: إن المشركين فرحوا
عند نزول هذه الآية وقالوا: ما أمرنا وأمر محمد إلا واحد، ولولا أنه ابتدع ما يقوله لأخبره الذي بعثه
بما يفعل به، فنزل قوله: (ليغفر لك الله...) الآية، فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله،
فماذا يفعل بنا؟ فنزلت: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات...) الآية، وممن ذهب إلى هذا
القول أنس، وعكرمة، وقتادة. وروي عن الحسن ذلك.
قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله) يعني القرآن (وكفرتم به وشهد شاهد من بني
إسرائيل) وفيه قولان:
أحدهما: أنه عبد الله بن سلام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد،
وقتادة، والضحاك، وابن زيد.
133

والثاني: أنه موسى بن عمران عليه السلام، قاله الشعبي، ومسروق.
فعلى القول الأول يكون ذكر المثل صلة، فيكون المعنى: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه،
أي: على أنه من عند الله، (فآمن) الشاهد، وهو ابن سلام (واستكبرتم) يا معشر اليهود.
وعلى الثاني يكون المعنى: وشهد موسى على التوراة التي هي مثل القرآن أنها من عند الله،
كما شهد محمد على القرآن أنه كلام الله، " فآمن " من آمن بموسى والتوراة " واستكبرتم " أنتم يا
معشر العرب أن تؤمنوا بمحمد والقرآن.
فإن قيل: أين جواب " إن " قيل: هو مضمر، وفي تقديره ستة أقوال:
أحدها: أن جوابه: فمن أضل منكم، قاله الحسن.
والثاني: أن تقدير الكلام: وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن، أتؤمنون؟ قاله
الزجاج.
والثالث: أن تقديره: أتأمنون عقوبة الله؟ قاله أبو علي الفارسي.
والرابع: أن تقديره: أفما تهلكون؟ ذكره الماوردي.
والخامس: من المحق منا ومنكم ومن المبطل؟ ذكره الثعلبي.
والسادس: أن تقديره: أليس قد ظلمتم؟ ويدل على هذا المحذوف قوله: (إن الله لا يهدي
القوم الظالمين) ذكره الواحدي.
وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون
هذا إفك قديم (11) ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا
عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (12) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا
134

فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (13) أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا
يعملون (14) ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله
وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك
التي أنعمت على وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك
وإني من المسلمين (15) أولئك الذي نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم
في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (16)
قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا...) الآية، في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أن الكفار قالوا: لو كان دين محمد خيرا ما سبقنا إليه اليهود، فنزلت هذه الآية، قاله
مسروق.
والثاني: أن امرأة ضعيفة البصر أسلمت، وكان الأشراف من قريش يهزؤون بها ويقولون: والله
لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا هذه إليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الزناد.
والثالث: أن أبا ذر الغفاري أسلم واستجاب به قومه إلى الإسلام، فقالت قريش: لو كان خيرا
ما سبقونا إليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو المتوكل.
والرابع: أنه لما اهتدت مزينة وجهينة وأسلمت، قالت أسد وغطفان: لو كان خيرا ما سبقنا
إليه رعاء الشاء، يعنون مزينة وجهينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
والخامس: أن اليهود قالوا: لو كان دين محمد خيرا ما سبقتمونا إليه، لأنه لا علم لكم بذلك،
ولو كان حقا لدخلنا فيه، ذكره أبو سليمان الدمشقي وقال: هو قول من يقول: إن الآية نزلت
بالمدينة، ومن قال: هي مكية، قال: هو قول المشركين. فقد خرج في " الذين كفروا " قولان:
أحدهما: أنهم المشركون.
والثاني: اليهود.
وقوله: (لو كان خيرا) أي: لو كان دين محمد خيرا (ما سبقونا إليه). فمن قال: هم
المشركون، قال: أرادوا: إنا أعز وأفضل، ومن قال: هم اليهود، قال: أرادوا: لأنا أعلم.
قوله تعالى: (وإذ لم يهتدوا به) أي: بالقرآن (فسيقولون هذا إفك قديم) أي: كذب
135

متقدم، يعنون أساطير الأولين.
(ومن قبله كتاب موسى) أي: من قبل القرآن التوراة. وفي الكلام محذوف، تقديره: فلم
يهتدوا، لأن المشركين لم يهتدوا بالتوراة.
(إماما) قال الزجاج: هو منصوب على الحال (ورحمة) عطف عليه (وهذا كتاب مصدق)
المعنى: مصدق للتوراة (لسانا عربيا) منصوب على الحال، المعنى: مصدق لما بين يديه عربيا،
وذكر " لسانا " توكيدا، كما تقول: جاءني زيد رجلا صالحا، يريد: جاءني زيد صالحا.
قوله تعالى: (لينذر الذين ظلموا) قرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " لينذر "
بالياء. وقرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب: " لتنذر " بالتاء. وعن ابن كثير كالقراءتين. " والذين
ظلموا " المشركين (وبشرى) أي: وهو بشرى (للمحسنين) وهم الموحدون يبشرهم بالجنة.
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله: (بوالديه حسنا) وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي:
" إحسانا " بألف.
(حملته أمه كرها) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " كرها " بفتح الكاف، وقرأ الباقون.
بضمها. قال الفراء: والنحويون يستحبون الضم هاهنا، ويكرهون الفتح، للعلة التي بيناها عند قوله:
(وهو كره لكم) قال الزجاج: والمعنى: حملته على مشقة (ووضعته) على مشقة.
(وفصاله) أي: فطامه. وقرأ يعقوب: " وفصله " بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف
(ثلاثون شهرا). قال ابن عباس: " ووضعته كرها " يريد به شدة الطلق. واعلم أن هذه المدة
قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع، فأما الأشد، ففيه أقوال قد تقدمت، واختار الزجاج أنه بلوغ ثلاث
وثلاثين سنة، لأنه وقت كمال الإنسان في بدنه وقوته واستحكام شأنه وتمييزه وقال ابن قتيبة: أشد
الرجل غير أشد اليتيم، لأن أشد الرجل: الاكتهال والحنكة وأن يشتد رأيه وعقله، وذلك ثلاثون
سنة، ويقال: ثمان وثلاثون سنة، وأشد الغلام: أن يشتد خلقه ويتناهى نباته. وقد ذكرنا بيان الأشد
في الانعام وفي يوسف وهذا تحقيقه. واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة، فنزلوا منزلا
فيه سدرة، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال
136

[له]: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب، فقال: هذا
والله نبي، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين
والتصديق، فكان لا يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره، فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو ابن
أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة - صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ أربعين سنة قال: رب
أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون: قالوا:
فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة، دعا الله عز وجل بما ذكره في هذه الآية، فأجابه الله، فأسلم والداه
وأولاده ذكورهم وإناثهم، ولم يجتمع ذلك لغيره من الصحابة.
والقول الثاني: أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد شرحنا قصته في سورة العنكبوت،
وهذا مذهب الضحاك، والسدي.
والثالث: أنها نزلت على العموم، قاله الحسن. وقد شرحنا في سورة النمل معنى قوله:
قوله تعالى: (وأن أعمل صالحا ترضاه) قال ابن عباس: أجابه الله - يعني أبا بكر - فأعتق
تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في الله عز وجل، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه،
واستجاب له في ذريته فآمنوا، (إني تبت إليك) أي: رجعت إلى كل ما تحب.
قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم) قرأ ابن كثير،
ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: " يتقبل " " ويتجاوز " بالياء المضمومة فيهما.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف: " نتقبل " و " نتجاوز " بالنون فيهما، وقرأ أبو
المتوكل، وأبو رجاء، وأبو عمران الجوني: " يتقبل " ويتجاوز " بياء مفتوحة فيهما، يعني أهل هذا
القول، والأحسن بمعنى الحسن.
(في أصحاب الجنة) أي: في جملة من يتجاوز عنهم، وهم أصحاب الجنة. وقيل: " في "
بمعنى " مع ".
(وعد الصدق) قال الزجاج: هو منصوب، لأنه مصدر مؤكد لما قبله، لأن قوله: " أولئك
الذين نتقبل عنهم " بمعنى الوعد، لأنه وعدهم القبول بقوله: " وعد الصدق "، يؤكد ذلك قوله:
(الذي كانوا يوعدون) أي: على ألسنة الرسل في الدنيا.
137

والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما
يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين (17) أولئك
الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا
خاسرين (18) ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون (19) ويوم
يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم
تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون (20)
قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما) قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي. وأبو بكر عن
عاصم: " أف لكما " بالخفض من غير تنوين. وقرأ ابن كثير، وابن عامر: بفتح الفاء. وقرأ نافع،
وحفص عن عاصم: " أف " بالخفض والتنوين. وقرأ ابن يعمر: " أف " بتشديد الفاء مرفوعة منونة.
وقرأ حميد، والجحدري: " أفا " بتشديد الفاء وبالنصب والتنوين. وقرأ عمرو بن دينار: " أف "
بتشديد الفاء وبالرفع من غير تنوين. وقرأ أبو المتوكل، [وعكرمة]، وأبو رجاء: " أف لكما "
بإسكان الفاء خفيفة. وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: " أفي " بتشديد الفاء والياء ساكنة ممالة، وروي
عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام،
وهو يأبى، وعلى هذا جمهور المفسرين. وقد روي عن عائشة أنها كانت تنكر أن تكون الآية نزلت
في عبد الرحمن، وتحلف على ذلك وتقول: لو شئت لسميت الذي نزلت فيه. قال الزجاج: وقول
من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن، باطل بقوله: (أولئك الذين حق عليهم القول) فأعلم الله أن
هؤلاء لا يؤمنون، وعبد الرحمن مؤمن، والتفسير الصحيح أنا نزلت في الكافر العاق. وروي
عن مجاهد أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر، وعن الحسن أنها نزلت في جماعة من كفار
قريش قالوا ذلك لآبائهم.
قوله تعالى: (وقد خلت القرون من قبلي) فيه قولان:
أحدهما: مضت القرون فلم يرجع منهم أحد، قاله مقاتل.
والثاني: مضت القرون مكذبة بهذا، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: (وهما يستغيثان الله) أي: يدعوان الله له بالهدى ويقولان له: (ويلك آمن)
أي: صدق بالبعث، (فيقول ما) الذي تقولان (إلا أساطير الأولين) وقد سبق شرحها.
138

قوله تعالى: (أولئك) يعني الكفار (الذين حق عليهم القول) أي: وجب عليهم قضاء الله
أنهم من أهل النار (في أمم) أي: مع أمم. فذكر الله تعالى في الآيتين قبل هذه من بر والديه
وعمل بوصية الله عز وجل، ثم ذكر من لم يعمل بالوصية ولم يطع ربه ولا والديه، (إنهم كانوا
خاسرين) وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران: " أنهم " بفتح الهمزة.
ثم قال: (ولكل درجات مما عملوا) أي: منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إيمان وكفر،
فيتفاضل أهل الجنة في الكرامة، وأهل النار في العذاب (وليوفيهم أعمالهم) قرأ ابن كثير،
وعاصم، وأبو عمرو: " وليوفيهم " بالياء، وقرأ الباقون: بالنون، أي: جزاء أعمالهم.
قوله تعالى: (ويوم يعرض) المعنى: واذكر لهم يوم يعرض (الذين كفروا على النار أذهبتم)
أي: ويقال لهم: أذهبتم، قرأ ابن كثير: " آذهبتم " بهمزة مطولة. قرأ ابن عامر: " أأذهبتم "
بهمزتين. وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " أذهبتم " على الخبر، وهو توبيخ
لهم. قال الفراء والزجاج: العرب توبخ بالألف وبغير الألف، فتقول: أذهبت وفعلت كذا؟!
وذهبت ففعلت؟! قال المفسرون: والمراد بطيباتهم: ما كانوا فيه من اللذات مشتغلين بها عن الآخرة
معرضين عن شكرها. ولما وبخهم الله بذلك، آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب
نعيم العيش ولذته ليتكامل أجرهم ولئلا يلهيهم عن معادهم. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه
دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على خصفة وبعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوة
ليفا، فقال: يا رسول الله: أنت نبي الله وصفوته، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج
والحرير؟! فقال صلى الله عليه وسلم: " يا عمر، إن أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم، وهي وشيكة الانقطاع، وإنا
أخرت لنا طيباتنا ". وروى جابر بن عبد الله قال: رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي، فقال:
ما هذا يا جابر؟ فقلت: اشتهيت لحما فاشتريته، فقال: أو كلما اشتهيت اشتريت يا جابر؟! أما
تخاف هذه الآية: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ". وروي عن عمر أنه قيل له: لو أمرت أن
نصنع لك طعاما ألين من هذا، فقال: إني سمعت الله عير أقواما فقال: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم
الدنيا ".
قوله تعالى: (تستكبرون في الأرض) أي: تتكبرون عن عبادة الله والإيمان به.
واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا
تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (21) قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا
فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (22) قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت
139

به ولكني أراكم قوما تجهلون (23) فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض
ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا
لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين (25)
قوله تعالى: (واذكر أخا عاد) يعني هودا (إذ أنذر قومه بالأحقاف) قال الخليل: الأحقاف:
الرمال العظام، وقال ابن قتيبة: واحد الأحقاف: حقف، وهو من الرمل: ما أشرف من كثبانه
واستطال وانحنى. وقال ابن جرير: هو ما استطال من الرمل ولم يبلغ أن يكون جبلا. واختلفوا في
المكان الذي سمي بهذا الاسم على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جبل بالشام، قاله ابن عباس، والضحاك.
والثاني: أنه واد، ذكره عطية. وقال مجاهد: هي أرض. وحكى ابن جرير أنه واد بين عمان
ومهرة. وقال ابن إسحاق: كانوا ينزلون ما بين عمان وحضرموت، واليمن كله.
والثالث: أن الأحقاف: رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها: الشحر، قاله قتادة.
قوله تعالى: (وقد خلت النذر) أي: قد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده بإنذار أممها
(ألا تعبدوا إلا الله)، والمعنى: لم يبعث رسول قبل هود ولا بعد إلا بالأمر بعبادة الله وحده. وهذا
كلام اعترض بين إنذار هود وكلامه لقومه. ثم عاد إلى كلام هود فقال: (إني أخاف عليكم).
قوله تعالى: (لتأفكنا) أي: لتصرفنا عن عبادة آلهتنا بالإفك.
قوله تعالى: (إنما العلم عند الله) أي: هو يعلم متى يأتيكم العذاب. (فلما رأوه) يعني ما
يوعدون في قوله: " بما تعدنا " (عارضا) أي: سحاب يعرض من ناحية السماء. قال ابن قتيبة:
العارض: السحاب. قال المفسرون: كان المطر قد حبس عن عاد، فساق الله إليهم سحابة سوداء،
فلما رأوها فرحوا و (قالوا هذا عارض ممطرنا)، فقال لهم هود: (بل هو ما استعجلتم به)، ثم بين
ما هو فقال: (ريح فيها عذاب أليم)، فنشأت الريح من تلك السحابة، (تدمر كل شيء) أي:
تهلك كل شيء مرت به من الناس والدواب والأموال. قال عمرو بن ميمون: لقد كانت الريح تحتمل
الظعينة فترفعها حتى ترى كأنها جرادة، (فأصبحوا) يعني عادا (لا يرى إلا مساكنهم) قرأ عاصم،
وحمزة: " لا يرى " برفع الياء " إلا مساكنهم " بدفع النون. وقرأ علي، وأبو عبد الرحمن السلمي،
والحسن، وقتادة، والجحدري: " لا ترى " بتاء مضمومة. وقرأ أبو عمران، وابن السميفع: " لا
ترى " بتاء مفتوحة " إلا مسكنهم " على التوحيد. وهذا لأن السكان هلكوا، فقيل: أصبحوا وقد
غطتهم الريح بالرمل فلا يرون.
140

ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم
سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا
به يستهزؤون (26) ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون (27)
فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما
كانوا يفترون (28)
ثم خوف كفار مكة، فقال عز وجل: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) في " إن " قولان:
أحدهما: أنها بمعنى " لم " فتقديره: فيما لم نمكنكم فيه، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.
وقال الفراء: هي بمنزلة " ما " في الجحد، فتقدير الكلام: في الذي لم نمكنكم فيه.
والثاني: أنها زائدة، والمعنى: فيما مكناكم فيه، وحكاه ابن قتيبة أيضا.
ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم، فلم يتدبروا بها، ولم يتفكروا فيما يدلهم على التوحيد،
قال المفسرون: والمراد بالأفئدة: القلوب، وهذه الآلات لم ترد عنهم عذاب الله.
ثم زاد كفار مكة في التخويف، فقال: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) كديار عاد وثمود
وقوم لوط وغيرهم من الأمم المهلكة (وصرفنا الآيات) أي: بيناها (لعلهم) يعني أهل القرى
(يرجعون) عن كفرهم. وهاهنا محذوف، تقديره: فما رجعوا عن كفرهم.
(فلولا) أي: فهلا (نصرهم) أي: منعهم من عذاب الله (الذين اتخذوا من دون الله قربانا
آلهة؟!) يعني الأصنام التي تقربوا بعبادتها إلى الله على زعمهم، وهذا استفهام إنكار، معناه: لم
ينصروهم (بل ضلوا عنهم) أي: لم ينفعوهم عند نزول العذاب (وذلك) يعني دعاءهم الآلهة
(إفكهم) أي: كذبهم، وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن يعمر، وأبو عمران: " وذلك أفكهم " بفتح
الهمزة وقصرها وفتح الفاء وتشديدها ونصب الكاف. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو رزين،
والشعبي، وأبو العالية، والجحدري: " أفكهم " بفتح الهمزة وقصرها ونصب الكاف والفاء
وتخفيفها قال ابن جرير: أي: أضلهم. وقال الزجاج: معناها: صرفهم عن الحق فجعلهم
ضلالا. وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل: " آفكهم " بفتح الهمزة ومدها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع
الكاف، أي: مضلهم.
141

وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما
قضى ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا
لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30) يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به
يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في
الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (32)
قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) وبخ الله عز وجل بهذه الآية كفار قريش بما
آمنت به الجن. وفي سبب صرفهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم صرفوا إليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشهب. روى البخاري ومسلم في
" الصحيحين " من حديث ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى
سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين،
فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا من
شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر، فمر النفر الذين توجهوا نحو
تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ب‍ " نخلة " وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له،
فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم " فقالوا إنا سمعنا قرآنا
عجبا يهدي إلى الرشد " فأنزل الله على نبيه (قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن). وروى
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن، ولا رآهم، وإنما أتوه وهو
ب‍ " نخلة " فسمعوا القرآن.
والثاني: أنهم صرفوا إليه لينذرهم، وأمر أن يقرأ عليهم القرآن، هذا مذهب جماعة، منهم
قتادة. وفي أفراد مسلم من حديث علقمة قال: قلت لعبد الله: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة
الجن؟ فقال: ما كان منا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة، فقلنا: اغتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو
استطير، فانطلقنا نطلبه في الشعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: اغتيل رسول الله، أين كنت؟
لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: " إنه أتاني داعي
الجن، فذهبت أقرئهم القرآن "، فذهب بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وقال قتادة: ذكر لنا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إني أمرت أن أقرأ على الجن، فأيكم يتبعني؟ " فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا
142

ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا، فأتبعه عبد الله بن مسعود، فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له: " شعب
الحجون "، وخط على عبد الله خطا ليثبته به، قال: فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي
الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع قلت: يا نبي الله، ما اللغط الذي سمعت؟ قال: " اجتمعوا إلى في قتيل كان
بينهم، فقضيت بينهم بالحق ".
والثالث: أنهم مروا به وهو يقرأ، فسمعوا القرآن. فذكر بعض المفسرين أنه لما يئس من
أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام، وقيل: ليلتمس نصرهم - وذلك بعد
موت أبي طالب، فلما كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمر به نفر من أشراف جن
نصيبين، فاستمعوا القرآن. فعلى هذا القول والقول الأول، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله
تعالى، وعلى القول الثاني:، علم بهم حين جاءوا. وفي المكان الذي سمعوا فيه تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم
قولان: أحدهما: الحجون، وقد ذكرناه عن ابن مسعود، وبه قال قتادة. والثاني: بطن نخلة، وقد
ذكرناه عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
وأما النفر، فقال ابن قتيبة: يقال: إن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة. وللمفسرين في عدد
هؤلاء النفر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن مسعود، وزر بن حبيش، ومجاهد، ورواه عكرمة عن ابن
عباس.
والثاني: تسعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: اثني عشر ألفا، روي عن عكرمة، ولا يصح، لأن النفر لا يطلق على الكثير.
قوله تعالى: (فلما حضروه) أي: حضروا استماعه، و (قضي) يعني: فرغ من تلاوته (ولوا
إلى قومهم منذرين) أي: محذرين عذاب الله عز وجل إن لم يؤمنوا.
وهل أنذروا قومهم من قبل أنفسهم، أم جعلهم رسول الله رسلا إلى قومهم؟ فيه قولان:
قال عطاء: كان دين أولئك الجن اليهودية، فلذلك قالوا: (من بعد موسى).
قوله تعالى: (أجيبوا داعي الله) يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على أنه أرسل إلى الجن
والإنس.
قوله تعالى: (يغفر لكم من ذنوبكم) " من " هاهنا صلة.
قوله تعالى: (فليس بمعجز في الأرض) أي: لا يعجز الله تعالى (وليس له من دونه
أولياء) أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى: (أولئك) الذين لا يجيبون الرسل (في ضلال
مبين).
143

أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي
الموتى بلى إنه على كل شئ قدير (33) ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا
بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (34) فاصبر كما صبر أولوا
العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار
بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون (25)
ثم احتج على إحياء الموتى بقوله: (أولم يروا...) إلى آخر الآية. والرؤية هاهنا بمعنى
العلم.
(ولم يعي) أي: لم يعجز عن ذلك، يقال: عي فلان بأمره، إذا لم يهتد له ولم يقدر عليه.
قال الزجاج: يقال: عييت بالأمر، إذا لم تعرف وجهه، وأعييت، إذا تعبت.
قوله تعالى: (بقادر) قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة مؤكدة. وقال الفراء: العرب تدخل
الباء مع الجحد، مثل قولك: ما أظنك بقائم، وهذا قول الكسائي، والزجاج: وقرأ يعقوب: " يقدر "
بياء مفتوحة مكان الباء وسكون القاف ورفع الراء من غير ألف. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: (كما
صبر أولوا العزم) أي: ذوو الحزم والصبر، وفيهم عشرة أقوال:
أحدها: أنهم نوح، وإبراهيم،، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن
عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن السائب.
والثاني: نوح، وهود، وإبراهيم * ومحمد صلى الله عليهم وسلم، قاله أبو العالية الرياحي.
والثالث: أنهم الذين لم تصبهم فتنة من الأنبياء، قاله الحسن.
والرابع: أنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد، والشعبي.
والخامس: أنهم إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي.
والسادس: أن منهم إسماعيل، ويعقوب، وأيوب، وليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان،
قاله ابن جريج.
والسابع: أنهم الذين أمروا بالجهاد والقتال، قاله ابن السائب، وحكي عن السدي
والثامن: أنهم جميع الرسل، فإن الله لم يبعث رسولا إلا كان من أولي العزم، قاله ابن زيد،
واختاره ابن الأنباري، وقال: " من " دخلت للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: قد رأيت الثياب من
الخز والجباب من القز.
144

والتاسع: أنهم الأنبياء الثمانية عشر المذكورون في سورة (الأنعام: 83 - 85)، قاله الحسين
ابن الفضل.
والعاشر: أنهم جميع الأنبياء إلا يونس، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: (ولا تستعجل لهم) يعني العذاب قال بعض المفسرين: كان النبي صلى الله عليه وسلم ضجر
بعض الضجر، وأحب أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر.
قوله تعالى: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون) أي: من العذاب (لم يلبثوا) في الدنيا (إلا
ساعة من نهار) لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلا. وقيل: لأن مقدار مكثهم في الدنيا قليل
في جنب مكثهم في عذاب الآخرة. وهاهنا تم الكلام. ثم قال: (بلاغ) أي: هذا القرآن وما فيه
من البيان بلاغ عن الله إليكم. وفي معنى وصف القرآن بالبلاغ قولان:
أحدهما: أن البلاغ بمعنى التبليغ.
والثاني: أن معناه: الكفاية، فيكون المعنى: ما أخبرناهم به لهم فيه كفاية وغنى.
وذكر ابن جرير وجها آخر، وهو ان المعنى: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، ذلك لبث بلاغ،
أي: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى آجالهم، ثم حذفت " ذلك لبث " اكتفاء بدلالة ما ذكر في الكلام
عليها.
وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: " بلغ " بكسر اللام وتشديدها وسكون الغين من غير ألف.
قوله تعالى: (فهل يهلك) وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل، وابن محيصن: " يهلك " بفتح الياء
وكسر اللام، أي: عند رؤية العذاب (إلا القوم الفاسقون) الخارجون عن أمر الله عز وجل؟!.
145

سورة محمد مدينة
وآياتها ثمان وثلاثون
صلى الله عليه وسلم
وفيها قولان:
أحدهما: أنها مدنية، قاله الأكثرون، منهم مجاهد، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس وقتادة أنها
مدنية، إلا آية منها نزلت عليه بعد حجه حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت، وهي قوله:
(وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك).
والثاني: أنها مكية، قاله الضحاك، والسدي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم (1) والذين آمنوا وعملوا الصالحات
وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم (2) ذلك
بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله
للناس أمثالهم (3) فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا
146

الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر
منه ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم (4)
سيهديهم ويصلح بالهم (5) ويدخلهم الجنة عرفها لهم (6)
قوله تعالى: (الذين كفروا) أي: بتوحيد الله (وصدوا) الناس عن الإيمان به، وهم مشركو
قريش، (أضل أعمالهم) أي: أبطلها، ولم يجعل لها ثوابا، فكأنها لم تكن، وقد كانوا يطعمون
الطعام، ويصلون الأرحام، ويتصدقون، ويفعلون ما يعتقدونه قربة.
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات) يعني أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وآمنوا بما نزل على محمد) وقرأ ابن مسعود: " نزل " بفتح النون والزاي وتشديدها. وقرأ
أبي بن كعب، ومعاذ القارئ: " أنزل " بهمزة مضمومة مكسورة الزاي. وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء
وأبو عمران: " نزل " بفتح النون والزاي وتخفيفها، (كفر عنهم سيئاتهم) أي: غفرها لهم (وأصلح
بالهم) أي: حالهم، قاله قتادة، والمبرد.
قوله تعالى: (ذلك) قال الزجاج: معناه: الأمر ذلك، وجائز أن يكون: ذلك الإضلال،
لاتباعهم الباطل، وتلك الهداية والكفارات باتباع المؤمنين الحق، (كذلك يضرب الله للناس
أمثالهم) أي: كذلك يبين أمثلا حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين كهذا البيان.
قوله تعالى: (فضرب الرقاب) إغراء، والمعنى: فاقتلوهم، لان الأغلب في موضع القتل
ضرب العنق (حتى إذا أثخنتموهم) أي: أكثرتم فيهم القتل (فشدوا الوثاق) يعني في الأسر، وإنما
يكون الأسر بعد المبالغة في القتل. و " الوثاق " اسم من الإيثاق، تقول: أوثقته إيثاقا ووثاقا، إذا
شددت أسره لئلا يفلت (فاما منا بعد) قال أبو عبيدة: إما أن تمنوا، وإما أن تفادوا، ومثله: سقيا،
ورعيا، وإنما هو سقيت وزيت. وقال الزجاج: إما مننتم عليهم بعد أن تأسروهم منا، وإما
أطلقتموهم بفداء.
فصل
وهذه الآية محكمة عند عامة العلماء. وممن ذهب إلى أن حكم المن والفداء باق لم ينسخ:
ابن عمر، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، وأحمد، والشافعي. وذهب قوم إلى نسخ المن والفداء
بقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، وممن ذهب إلى هذا ابن جريج، والسدي، وأبو
حنيفة وقد أشرنا إلى القولين في براءة.
قوله تعالى: (حتى تضع الحرب أوزارها) قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين.
147

وقال مجاهد: حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام. وقال سعيد بن جبير: حتى يخرج المسيح. وقال
الفراء: حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: حتى يضع أهل الحرب سلاحهم، قال الأعشى:
وأعددت له للحرب أوزارها: * رماحا ذلك طوالا وخيلا ذكورا
وأصل " الوزر " ما حملته، فسمي السلاح " أوزارا " لأنه يحمل، هذا قول ابن قتيبة.
والثاني: حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا ولا يعبدوا إلا
الله، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: (ذلك) أي: الأمر ذلك الذي ذكرنا (ولو يشاء الله لانتصر منهم) بإهلاكهم أو
تعذيبهم بما شاء (ولكن) أمركم بالحرب (ليبلو بعضكم ببعض) فيثيب المؤمن ويكرمه بالشهادة،
ويخزي الكافر بالقتل والعذاب.
قوله تعالى: (والذين قتلوا) قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم: " قتلوا " بضم القاف وكسر
التاء، والباقون: " قاتلوا " بألف.
قوله تعالى: (سيهديهم) فيه أربعة أقوال:
أحدها: يهديهم إلى أرشد الأمور، قاله ابن عباس.
والثاني: يحقق لهم الهداية، قاله الحسن.
والثالث: إلى محاجة منكر ونكير.
والرابع: إلى طريق الجنة، حكاهما الماوردي. وفي قوله: (عرفها لهم) قولان:
أحدهما: عرفهم منازلهم فيها فلا يستدلون عليها ولا يخطئونها، هذا قول الجمهور، منهم
مجاهد، وقتادة، واختاره الفراء، وأبو عبيدة.
والثاني: طيبها لهم، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: وهو قول أصحاب اللغة،
يقال: طعام معرف، أي: مطيب.
وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء وابن محيصن: " عرفها لهم " بتخفيف الراء.
يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7) والذين كفروا فتعسا
لهم وأضل أعمالهم (8) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9) أفلم
يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين
148

أمثالها (10) ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم (11) إن الله يدخل
الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون
ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (12) وكأين من قرية هي أشد قوة من
قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (13) أفمن كان على بينة من ربه كمن زين
له سوء عمله واتبعوا أهوائهم (14)
قوله تعالى: (إن تنصروا الله) أي: تنصروا دينه ورسوله (ينصركم) على عدوكم ويثبت
أقدامكم) عند القتال. وروى المفضل عن عاصم: " ويثبت " بالتخفيف.
(والذين كفروا فتعسا لهم) قال الفراء: المعنى: فأتعسهم الله، والدعاء قد يجري مجرى
الأمر والنهي. قال ابن قتيبة: هو من قولك: تعست، أي: عثرت وسقطت. وقال الزجاج: التعس
في اللغة: الانحطاط والعثور. وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله: (دمر الله عليهم) أي:
أهلكم [الله] (وللكافرين أمثالها) أي: أمثال تلك العاقبة.
(ذلك) الذي فعله بالمؤمنين من النصر، وبالكافرين من الدمار (بأن الله مولى الذين آمنوا)
أي: وليهم.
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: (ويأكلون كما تأكل الأنعام) أي: إن الأنعام تأكل وتشرب، ولا
تدري ما في غد، فكذلك الكفار لا يلتفتون إلى الآخرة. و " المثوى ": المنزل.
(وكأين) مشروح في آل عمران. والمراد بقريته: مكة، وأضاف القوة والإخراج إليها،
والمراد أهلها ولذلك قال: (أهلكناهم).
قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه) فيه قولان.
أحدهما: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله بو العالية.
والثاني: أنه المؤمن، قاله الحسن.
وفي " البينة " قولان:
أحدهما: القرآن، قاله ابن زيد.
والثاني: الدين، قاله ابن السائب.
(كمن زين له سوء عمله) يعني عبادة الأوثان، وهو الكافر (واتبعوا أهواءهم) بعبادتها.
149

مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه
وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من
ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاؤهم (15)
(مثل أن الجنة التي وعد المتقون) أي: صفتها، وقد شرحناه في الرعد و " المتقون " عند
المفسرين: الذين يتقون الشرك. و " الآسن " المتغير الريح، قاله أبو عبيدة، والزجاج. وقال ابن
قتيبة: هو المتغير الريح والطعم، و " الآجن " نحوه. وقرأ ابن كثير: " غير أسن " بغير مد. وقد شرحنا
قوله (لذة للشاربين) في الصافات:.
قوله تعالى: (من عسل مصفى) أي: من عسل ليس فيه عكر ولا كدر كعسل أهل الدنيا.
قوله تعالى: (كمن هو خالد في النار) قال الفراء: أراد: من كان في هذا النعيم، كمن هو
خالد في النار؟!.
قوله تعالى: (ماء حميما) أي: حارا شديد الحرارة و " الأمعاء " جميع ما في البطن من
الحوايا.
ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم (16) والذين اهتدوا زادهم هدى
وآتهم تقواهم (17) فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى
لهم إذا جاءتهم ذكراهم (18)
قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك) يعني المنافقين. وفيما يستمعون قولان:
أحدهما: أنه سماع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة.
والثاني: سماع قوله على عموم الأوقات. فأما (الذين أوتوا العلم)، فالمراد بهم: علماء
الصحابة.
قوله تعالى: (ماذا قال آنفا) قال الزجاج: أي: ماذا قال الساعة، وهو من قولك: استأنفت
الشيء: إذا ابتدأته، وروضة أنف: لمن ترع، أي: لها أول يرعى، فالمعنى: ماذا قال في أول وقت
150

يقرب منا وحدثنا عن أبي عمر غلام ثعلب أنه قال: معنى " آنفا " مذ ساعة. وقرأ ابن كثير، في
بعض الروايات عنه: " أنفا " بالقصر، وهذه قراءة عكرمة، وحميد، وابن محيصن. قال أبو علي:
يجوز أن يكون ابن كثير توهم، مثل حاذر وحذر، وفاكه وفكه.
وفي استفهامهم قولان:
أحدهما: لأنهم لم يعقلوا ما يقول، ويدل عليه باقي الآية.
والثاني: أنهم قالوه استهزاء.
قوله تعالى: (والذين اهتدوا) فيهم قولان: أحدهما: أنهم المسلمون، قاله الجمهور.
والثاني: قوم من أهل الكتاب كانوا على الإيمان بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا
به، قاله عكرمة.
وفي الذي زادهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله عز وجل والثاني: قول الرسول. والثالث:
استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هدى، ذكرهن الزجاج. وفي معنى الهدى قولان: أحدهما: أنه
العلم. والثاني: البصيرة.
وفي قوله: (وآتاهم تقواهم) ثلاثة أقوال: أحدها: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي.
والثاني: اتقاء المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية. والثالث: أعطاهم التقوى مع الهدى، فاتقوا
معصيته خوفا من عقوبته، قاله أبو سليمان الدمشقي.
و (ينظرون) بمعنى ينتظرون (أن تأتيهم) وقرأ أبي بن كعب، وأبو الأشهب، وحميد: " إن
تأتهم " بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء. والأشراط: العلامات، قال أبو عبيدة: الأشراط:
الأعلام، وإنما سمي الشرط - فيما ترى - لأنهم أعلموا أنفسهم. قال المفسرون: ظهور النبي صلى الله عليه وسلم من
أشراط الساعة، وانشقاق القمر والدخان وغير ذلك.
(فأنى لهم) أي: فمن أين لهم (إذا جاءتهم) الساعة (ذكراهم)؟! قال قتادة: أنى لهم أن
يذكروا ويتوبوا إذا جاءت؟!
فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم
ومثواكم (19) ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها
القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت فأولى
لهم (20) طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم (21)
151

قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) قال بعضهم: أثبت على علمك، وقال قوم: المراد بهذا
الخطاب غيره، وقد شرحنا هذا في فاتحة (الأحزاب). وقيل: إنه كان يضيق صدره بما يقولون، فقيل
له: اعلم أنه لا كاشف لما بك إلا الله.
فأما قوله: (واستغفر لذنبك) فإنه كان يستغفر في اليوم مائة مرة، وأمر أن يستغفر للمؤمنين
والمؤمنات إكراما لهم لأنه شفيع مجاب. (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: متقلبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، وهو معنى قول ابن عباس:
والثاني: متقلبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء، ومقامكم في القبور، قاله عكرمة.
والثالث: " متقلبكم " بالنهار و " مثواكم " أي: مأواكم بالليل، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة) قال المفسرون: سألوا ربهم أن ينزل سورة
فيها ثواب القتال في سبيل الله، اشتياقا منهم إلى الوحي وحرصا على الجهاد، فقالوا: " لولا " أي:
هلا: وكان أبو مالك الأشجعي يقول: " لا " هاهنا صلة، فالمعنى: لو أنزلت سورة، شوقا منهم إلى
الزيادة في العلم، ورغبة في الثواب والأجر بالاستكثار من الفرائض.
وفي معنى " محكمة " ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها التي يذكر فيها القتال، قاله قتادة.
والثاني: أنها التي يذكر فيها الحلال والحرام.
والثالث: التي لا منسوخ فيها، حكاهما أبو سليمان الدمشقي.
ومعنى قوله: (وذكر فيها القتال) أي: فرض فيها الجهاد.
وفي المراد بالمرض قولان:
أحدهما: النفاق، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور.
والثاني: الشك، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (ينظرون إليك) أي: يشخصون نحوك بأبصارهم ينظرون نظرا شديدا كما ينظر
الشاخص ببصره عند الموت، لأنهم يكرهون القتال، ويخافون إن قعدوا أن يتبين نفاقهم.
(فأولى لهم) قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد: " أولى لك " أي: وليك وقاربك ما
تكره. وقال ابن قتيبة: هذا وعيد وتهديد، تقول للرجل - إذا أردت به سوءا، ففاتك - أولى لك، ثم
ابتدأ، فقال: (طاعة وقول معروف...) وقال سيبويه والخليل: المعنى: طاعة وقول معروف أمثل.
وقال الفراء: الطاعة معروفة في كلام العرب، إذا قيل لهم: افعلوا كذلك، قالوا: سمع وطاعة،
فوصف الله قولهم قبل أن تنزل السورة أنهم يقولون: سمع وطاعة، فإذا نزل الأمر كرهوا. وأخبرني
حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: (فأولى)، ثم قال: (لهم)
أي: للذين آمنوا منهم (طاعة)، فصارت " أولى " وعيدا لمن كرهها، واستأنف الطاعة ب‍ " لهم "،
152

والأول عندنا كلام العرب، وهذا غير مردود، يعني حديث أبي صالح. وذكر بعض المفسرين أن
الكلام متصل بما قبله، والمعنى: فأولى لهم أن يطيعوا وأن يقولوا معروفا بالإجابة.
قوله تعالى: (فإذا عزم الأمر) قال الحسن: جد الأمر. وقال غيره: جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
في الجهاد، ولزم فرض القتال، وصار الأمر معروفا عليه. وجواب " إذا " محذوف، تقديره: فإذا عزم الأمر
نكلوا، يدل على المحذوف (فلو صدقوا الله) أي: في إيمانهم وجهادهم (لكان خيرا لهم) من
المعصية والكراهة.
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22) أولئك الذين
لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم (23) أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24) إن
الذين ارتدوا على أدبارهم يحيى من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (25)
ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم (26)
فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (27) ذلك بأنهم اتبعوا ما
أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (28)
قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم) في المخاطب بهذا أربعة أقوال:
أحدها: المنافقون، وهو الظاهر.
والثاني: منافقو اليهود، قاله مقاتل.
والثالث: الخوارج، قاله بكر بن عبد الله المزني.
والرابع: قريش، حكاه جماعة منهم الماوردي. وفي قوله: (توليتم) قولان:
أحدهما: أنه بمعنى الإعراض. فالمعنى: إن أعرضتم عن الإسلام (أن تفسدوا في الأرض)
بأن تعودوا إلى الجاهلية يقتل بعضكم بعضا، ويغير بعضكم على بعض، ذكره جماعة من
المفسرين.
والثاني: أنه من الولاية لأمور الناس، قاله القرظي. فعلى هذا يكون معنى " أن تفسدوا في
الأرض ": بالجور والظلم.
وقرأ يعقوب: " وتقطعوا " بفتح التاء والطاء وتخفيفها وسكون القاف، ثم ذم من يريد ذلك بالآية
التي بعد هذه.
153

وما بعد هذا قد سبق إلى قوله: (أم على قلوب أقفالها) " أم " بمعنى " بل "، وذكر الأقفال
استعارة، والمراد أن القلب يكون كالبيت المقفل لا يصل إليه الهدى. قال مجاهد: الران أيسر من
الطبع، والطرع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد ذلك كله. وقال خالد بن معدان: مامن آدمي إلا
وله أربع أعين، عينان في رأسه لدنياه وما يصلحه من معيشته، وعينان في قلبه لدينه وما وعد الله من
الغيب، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه، وإذا أراد به غير ذلك طمس عليهما،
فذلك قوله: " أم على قلوب أقفالها ".
قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم) أي: رجعوا كفارا، وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم المنافقون، قاله ابن عباس، والسدي، وابن زيد.
والثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة، ومقاتل (من بعد ما تبين لهم الهدى) أي: من بعد ما وضح لهم
الحق. ومن قال: هم اليهود، قال: من بعد أن تبين لهم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم.
و (سول) بمعنى زين. (وأملى لهم) قرأ أبو عمرو، وزيد عن يعقوب: " وأملي لهم " بضم
الهمزة وكسر اللام وبعدها ياء مفتوحة. وقرأ يعقوب إلا زيدا، وأبان عن عاصم كذلك، إلا أنهما أسكنا
الياء. وقرأ الباقون بفتح الهمزة واللام. وقد سبق معنى الإملاء.
قوله تعالى: (ذلك) قال الزجاج: المعنى: الأمر ذلك، أي: ذلك الإضلال بقولهم (للذين
كرهوا ما نزل الله) وفي الكارهين قولان:
أحدهما: أنهم المنافقون، فعلى هذا في معنى قوله: (سنطيعكم في بعض الأمر) ثلاثة
أقوال: أحدها: في القعود عن نصرة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. والثاني: في الميل إليكم والمظاهرة
على محمد صلى الله عليه وسلم والثالث: في الارتداد بعد الإيمان، حكاهما الماوردي.
والثاني: أنهم اليهود، فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه قولان:
أحدهما: في أن لا يصدقوا شيئا من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الضحاك.
والثاني: في كتم ما علموه من نبوته، قاله ابن جريج.
(والله يعلم إسرارهم) قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، والوليد عن
يعقوب: بكسر الألف على أنه مصدر أسررت: وقرأ الباقون: بفتحها على أنه جمع سر، والمعنى أنه
يعلم ما بين اليهود والمنافقين من السر.
قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة)؟ أي: فكيف يكون حالهم حينئذ؟ وقد بينا في
الأنفال: معنى قوله: (يضربون وجوههم وأدبارهم).
154

قوله تعالى: (وكرهوا رضوانه) أي: كرهوا ما فيه الرضوان، وهو الإيمان والطاعة.
أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29) ولو نشاء لأريناكهم
فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم (30) ولنبلونكم حتى
نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم (31) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل
الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم (32)
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم (33) إن الذين كفروا
وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم (34)
قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض) أي: نفاق (أن لن يخرج الله أضغانهم)
قال الفراء: أي لن يبدي الله عداوتهم وبغضهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وقال الزجاج: أي: لن يبدي عداوتهم
لرسوله صلى الله عليه وسلم ويظهره على نفاقهم.
(ولو نشاء لأريناكهم) أي: لعرفناكهم، تقول: قد أريتك هذا الأمر، أي: قد عرفتك إياه،
المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيماء (فلعرفتهم بسيماهم) أي: بتلك
العلامة (ولتعرفنهم في لحن القول) أي: في فحوى القول، فدل بهذا على أن قول القائل وفعله
يدل على نيته. وقول الناس: قد لحن فلان، تأويله: قد أخذ في ناحية عن الصواب، وعدل عن
الصواب إليها. وقول الشاعر:
منطق يا صائب وتلحن أحيانا * نا، وخير الحديث ما كان لحنا
تأويله: خير الحديث من مثل هذه ما كان لا يعرفه كل أحد، إنما يعرف قولها في أنحاء قولها.
قال المفسرون: (ولتعرفنهم في فحوى الكلام ومعناه ومقصده، فإنهم يتعرضون بتهجين أمرك
والاستهزاء بالمسلمين. قال ابن جرير: ثم عرفه الله إياهم.
قوله تعالى: (ولنبلونكم) أي: ولنعاملنكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد (حتى نعلم)
العلم الذي هو علم وجود، وبه يقع الجزاء، وقد شرحنا هذا في العنكبوت.
قوله تعالى: (ونبلوا أخباركم) أي: نظهرها ونكشفها بإباء من يأبى القتال ولا يصبر على
155

الجهاد. وقرأ أبو بكر عن عاصم: " وليبلونكم " بالياء " حتى يعلم " بالياء " ويبلو " بالياء فيهن. وقرأ
معاذ القارئ وأيوب السختياني: " أخياركم " بالياء جمع " خير ".
قوله تعالى: (إن الذين كفروا...) الآية اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها في المطعمين يوم بدر، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في الحارث بن سويد، ووحوح الأنصاري، أسلما ثم ارتدا، فتاب
الحارث ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى صاحبه أن يرجع حتى مات، قاله السدي.
والثالث: أنها في اليهود، قاله مقاتل.
والرابع: أنها في قريظة والنضير، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم) اختلفوا في مبطلها على أربعة أقوال:
أحدها: المعاصي والكبائر، قاله الحسن.
والثاني: الشك والنفاق، قاله عطاء.
والثالث: الرياء والسمعة، قاله ابن السائب.
والرابع: بالمن، وذلك أن قوما من الأعراب قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتيناك طائعين،
قلنا عليك حق، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: " يمنون عليك أن أسلموا "، هذا قول مقاتل. قال
القاضي أبو يعلى: وهذا يدل على أن كل من دخل في قربة لم يجز له الخروج منها قبل إتمامها، وهذا على
ظاهره في الحج، فأما في الصلاة والصيام، فهو على سبيل الاستحباب.
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم (35) إنما
الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم (36)
إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم (37) ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا
في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنى وأنتم الفقراء
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (38)
قوله تعالى: (فلا تهنوا) أي: فلا تضعفوا (وتدعوا إلى السلم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو
عمرو، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: " إلى السلم " بفتح السين، وقرأ حمزة، وأبو
بكر عن عاصم: بكسر السين، والمعنى: لا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء. وفي هذا دلالة على
أنه لا يجوز طلب الصلح من المشركين، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل مكة صلحا، لأنه نهاه
عن الصلح.
156

قوله تعالى: (وأنتم الأعلون) أي: أنتم أعز منهم، والحجة لكم، وآخر الأمر لكم وإن
غلبوكم في بعض الأوقات (والله معكم) بالعون والنصرة (ولن يتركم) قال ابن قتيبة: أي: لن
ينقصكم ولن يظلمكم، يقال: وترتني حقي أي: بخستنيه. قال المفسرون: المعنى: لن ينقصكم
من ثواب أعمالكم شيئا.
قوله تعالى: (ولا يسألكم أموالكم) أي، لن يسألكموها كلها.
قوله تعالى: (فيحفكم) قال الفراء: يجهدكم. وقال ابن قتيبة: يلح عليكم بما يوجبه في
أموالكم (تبخلوا)، يقال: أحفاني بالمسألة وألحف: إذا ألح. وقال السدي: إن يسألكم جميع ما
في أيديكم تبخلوا.
(ويخرج أضغانكم) وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن يعمر: " ويخرج " بياء
مرفوعه وفتح الراء " أضغانكم " بالرفع. وقرأ أبي بن كعب، وأبو رزين، وعكرمة، وابن السميفع،
وابن محيصن، والجحدري: " وتخرج " بتاء مفتوحة ورفع الراء " أضغانكم " بالرفع. وقرأ ابن مسعود،
والوليد عن يعقوب: " ونخرج " بنون مرفوعة وكسر الراء " أضغانكم " بنصب النون، أي: يظهر
بغضكم وعداوتكم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه فرض عليكم يسيرا. وفيمن يضاف إليه هذا الإخراج
وجهان:
أحدهما: إلى الله عز وجل.
والثاني: البخل، حكاهما الفراء. وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وليس
بصحيح لأنا قد بينا أن معنى الآية: إن يسألكم جميع أموالكم، والزكاة لا تنافي ذلك.
قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله) يعني ما فرض عليكم في أموالكم
(فمنكم من يبخل) بما فرض عليه من الزكاة (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) أي: على نفسه
بما ينفعها في الآخرة (والله الغني) عنكم وعن أموالكم (وأنتم الفقراء) إليه وإلى ما عنده من
الخير والرحمة (وإن تتولوا) عن طاعته (يستبدل قوما غيركم) أطوع له منكم (ثم لا يكونوا
أمثالكم) بل خيرا منكم. وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال:
أحدها: أنهم العجم، قاله الحسن، وفيه حديث يرويه أبو هريرة قال: لما نزلت " وإن تتولوا
يستبدل قوما غيركم " كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله: من هؤلاء الذين إذا
تولينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على منكب سلمان، فقال: " هذا وقومه، والذي
نفسي بيده! لو أن الدين معلق بالثريا لتناوله رجال من فارس ".
157

والثاني: فارس والروم، قاله عكرمة.
والثالث: من يشاء من جميع الناس، قاله مجاهد.
والرابع: يأتي بخلق جديد غيركم. وهو معنى قول قتادة.
والخامس: كندة والنخع، قاله ابن السائب.
والسادس: أهل اليمن، قاله راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، وشريح بن عبيد.
والسابع: الأنصار، قاله مقاتل.
والثامن: أنهم الملائكة، حكاه الزجاج وقال: فيه بعد لأنه لا يقال للملائكة " قوم "، إنما يقال
ذلك للآدميين، قال: وقد قيل: إن تولى أهل مكة استبدل الله بهم أهل المدينة، وهذا معنى ما ذكرنا
عن مقاتل.
158

سورة الفتح مدنية
وآياتها تسع وعشرون
وهي مدنية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك
ويهديك صراطا مستقيما (2) وينصرك الله نصرا عزيزا (3)
قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا...) الآية سبب نزولها أنه لما نزل قوله: (وما أدري
ما يفعل بي ولا بكم) قال اليهود: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به؟! فاشتد ذلك على
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. وفي المراد بالفتح أربعة
أقوال:
أحدها: أنه كان يوم الحديبية، قاله الأكثرون. قال البراء بن عازب: نحن نعد الفتح بيعة
الرضوان. وقال الشعبي: هو فتح الحديبية، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأطعموا نخل خيبر،
وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس،
قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين
فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد
الإسلام قال مجاهد: يعني بالفتح ما قضى الله له من نحر الهدي بالحديبية وحلق رأسه. وقال ابن
قتيبة: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " أي: قضينا لك قضاء عظيما، ويقال للقاضي: الفتاح. قال الفراء:
والفتح قد يكون صلحا، ويكون أخذ الشيء عنوة، ويكون بالقتال. وقال غيره: معنى الفتح في
159

اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي جعل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا حتى فتحه
الله تعالى.
الإشارة إلى قصة الحديبية
روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في النوم كأن قائلا يقول له: لتدخلن
المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، فأصبح فحدث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج للعمرة، فذكر
أهل العلم بالسير أنه خرج واستنفر أصحابه للعمرة، وذلك في سنة ست، ولم يخرج بسلاح إلا
السيوف في القرب. وساق هو وأصحابه البدن، فصلى الظهر ب‍ " ذي الحليفة "، ثم دعا بالبدن
فجللت، ثم أشعرها وقلدها، فعل ذلك أصحابه، وأحرم ولبى، فبلغ المشركين خروجه، فأجمع
رأيهم على صده عن المسجد الحرام، وخرجوا حتى عسكروا ب " بلدح "، وقدموا مائتي فارس إلى
كراع الغميم، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دنا من الحديبية، قال الزجاج: وهي بئر، فسمي المكان
باسم البئر، قالوا: وبينها وبين مكة تسعة أميال، فوقفت يدا راحلته، فقال المسلمون: حل حل
يزجرونها، فأبت فقالوا: خلأت القصواء - والخلاء في الناقة مثل الحران في الفرس - فقال: " ما
خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل، أما والله لا يسألوني خطة فيها تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم
إياها "، ثم جرها فقامت، فولى راجعا عوده على بدئه حتى نزل على ثمد من أثماد الحديبية قليل
الماء، فانتزع سهما من كنانته فغرزه فيها، فجاشت لهم بالرواء، وجاءه بديل بن ورقاء في ركب
فسلموا وقالوا: جئناك من عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، يقسمون، لا
يخلون بنيك وبين البيت حتى تبيد خضراءهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم نأت لقتال أحد إنما جئنا
لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه ". فرجع بديل فأخبر قريشا، فبعثوا عروة بن مسعود،
فكلمه بنحو ذلك، فأخبر قريشا، فقالوا: نرده من عامنا هذا، ويرجع من قابل فيدخل مكة ويطوف
بالبيت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، قال: " اذهب إلى قريش فأخبرهم أنا لم نأت لقتال
أحد، وإنما جئنا زوارا لهذا البيت، معنا الهدي ننحره وننصرف، فأتاهم فأخبرهم، فقالوا: لا كان
هذا أبدا، ولا يدخلها العام، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فقال: " لا نبرح حتى
نناجزهم "، فذاك حين دعا المسلمين إلى بيعة الرضوان، فبايعهم تحت الشجرة. وفي عددهم يومئذ
أربعة أقوال:
أحدها: ألف وأربعمائة، قاله البراء، وسلمة بن الأكوع، وجابر، ومعقل بن يسار.
والثاني: ألف وخمسمائة، روي عن جابر أيضا، وبه قال قتادة.
والثالث: ألف وخمسمائة وخمس وعشرون، رواه العوفي عن ابن عباس.
والرابع: ألف وثلاثمائة، قاله عبد الله بن أبي أوفى. قال: وضرب يومئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بشماله على يمينه لعثمان، وقال: إنه ذهب في حاجة الله ورسوله، وجعلت الرسل تختلف بينهم،
160

فأجمعوا على الصلح، فبعثوا سهيل بن عمرو في عدة رجال، فصالحه كما ذكرنا في براءة، فأقام
بالحديبية بضعة عشر يوما، ويقال: عشرين ليلة، ثم انصرف، فلما كان ب‍ " ضجنان " نزل عليه:
(إنا فتحنا لك فتحا مبينا)، فقال جبريل: يهنيك يا رسول الله، وهنأه المسلمون.
والقول الثاني: أن هذا الفتح فتح مكة، رواه مسروق عن عائشة، وبه قال السدي. وقال
بعض من ذهب إلى هذا: إنما وعد بفتح مكة بهذه الآية.
والثالث: أنه فتح خيبر، قاله مجاهد، والعوفي، وعن أنس بن مالك كالقولين.
والرابع: أنه القضاء له بالإسلام، قاله مقاتل. وقال غيره: حكمنا لك بإظهار دينك والنصرة
على عدوك
قوله تعالى: (ليغفر لك الله) قال ثعلب: اللام لام " كي "، والمعنى: لكي يجتمع لك [مع]
المغفرة تمام النعمة في الفتح، فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث، حسن معنى " كي "، وغلط من
قال: ليس الفتح سبب المغفرة.
قوله تعالى: (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) قال ابن عباس: والمعنى: " ما تقدم " في الجاهلية
و " ما تأخر " ما لم تعلمه، وهذا على سبيل التأكيد، كما تقول: فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه.
قوله تعالى: (ويتم نعمته عليك) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن ذلك في الجنة.
والثاني: أنه بالنبوة والمغفرة، رويا عن ابن عباس.
والثالث: بفتح مكة والطائف وخيبر، حكاه الماوردي.
والرابع: بإظهار دينك على سائر الأديان، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: (ويهديك صراطا مستقيما) أي: ويثبتك عليه، وقيل: ويهدي بك، (وينصرك
الله) على عدوك (نصرا عزيزا) قال الزجاج: أي: نصرا ذا عز لا يقع معه ذل.
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود
السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (4) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا
161

عظيما (5) ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن
السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا (6)
ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما (7) إنا أرسلناك غير شاهدا
ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9) إن
الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه
ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه الله أجرا عظيما (10)
قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة) أي: السكون والطمأنينة (في قلوب المؤمنين) لئلا
تنزعج قلوبهم لما يرد عليهم، فسلموا لقضاء الله، وكانوا قد اشتد عليهم صد المشركين لهم عن البيت،
حتى قال عمر: علام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره
ولن يضيعني "، ثم أوقع الله الرضى بما جرى في قلوب المسلمين، فسلموا وأطاعوا. (ليزدادوا إيمانا)
وذلك أنه كلما نزلت فريضة زاد إيمانهم.
(ولله جنود السماوات والأرض) يريد أن جميع أهل السماوات والأرض ملك له، لو أراد نصرة نبيه
بغيركم لفعل، ولكنه اختاركم لذلك، فاشكروه.
قوله تعالى: (ليدخل المؤمنين...) الآية سبب نزولها أنه لما نزل قوله: (إنا فتحنا لك)
قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هنيئا لك يا رسول الله بما أعطاك الله، فما لنا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أنس
ابن مالك. قال مقاتل: فلما سمع عبد الله بن أبي بذلك، انطلق في نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لنا
عند الله؟ فنزلت: (ويعذب المنافقين...) الآية.
قال ابن جرير: كررت اللام في " ليدخل " على اللام في " ليغفر "، فالمعنى: إنا فتحنا لك ليغفر
لك الله ليدخل المؤمنين، ولذلك لم يدخل بينهما واو العطف، والمعنى: ليدخل وليعذب.
قوله تعالى: (عليهم دائرة السوء) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بضم السين، والباقون: بفتحها.
قوله تعالى: (وكان ذلك) أي: ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم (عند الله) أي:
في حكمه (فوزا عظيما) لهم، والمعنى: أنه حكم لهم بالفوز، فلذلك وعدهم إدخال الجنة.
قوله تعالى: (الظانين بالله ظن السوء) فيه خمسة أقوال:
أحدها: أنهم ظنوا ان لله شريكا.
والثاني: أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه.
162

والثالث: أنهم ظنوا به حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أو يهزم يقول ولا يعود ظافرا.
والرابع: أنهم ظنوا أنهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة واحدة عند الله.
والخامس: ظنوا أن الله لا يبعث الموتى. وقد بينا معنى " دائرة السوء " في براءة.
وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله: (ليؤمنوا بالله ورسوله) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو:
" ليؤمنوا " بالياء " ويعزروه ويوقروه ويسبحوه " كلهن بالياء، والباقون: بالتاء، على معنى: قل لهم:
إنا أرسلناك، لتؤمنوا وقرا علي بن أبي طالب: وابن السميفع: " ويعززوه " بزاءين. وقد ذكرنا في
الأعراف معنى " ويعزروه " عند قوله: (وعزروه ونصروه).
قوله تعالى: (ويوقروه) أي: يعظموه ويبجلوه. واختار كثير من القراء الوقف هاهنا، لاختلاف
الكناية فيه وفيما بعده.
قوله تعالى: (ويسبحوه) هذه الهاء ترجع إلى الله عز وجل. والمراد بتسبيحه هاهنا: الصلاة
له. قال المفسرون: والمراد بصلاة البكرة: الفجر، وبصلاة الأصيل: باقي الصلوات الخمس.
قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك) يعني بيعة الرضوان بالحديبية. وعلى ماذا بايعوه؟ فيه
قولان:
أحدهما: أنهم بايعوه على الموت، قاله عبادة بن الصامت.
والثاني: على أن لا يفروا، قاله جابر بن عبد الله. ومعناهما متقارب، لأنه أراد: على أن لا
تفروا ولو متم. وسميت بيعة، لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، وكان العقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكأنهم بايعوا الله عز وجل، لأنه ضمن لهم الجنة بوفائهم. (يد الله فوق أيديهم) فيه أربعة أقوال:
أحدها: يد الله في الوفاء فوق أيديهم. والثاني: يد الله. في الثواب فوق أيديهم. والثالث:
يد الله عليهم في المنة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة، ذكر هذه الأقوال الزجاج. والرابع: قوة الله
ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم، ذكره ابن جرير، وابن كيسان.
قوله تعالى: (فمن نكث) أي: نقض ما عقده من هذه البيعة (فإنما ينكث على نفسه) أي:
يرجع ذلك النقض عليه (ومن أوفى بما عاهد عليه الله) من البيعة (فسنؤتيه) قرأ ابن كثير،
ونافع، وابن عامر، وأبان عن عاصم: " فسنؤتيه " بالنون. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة،
والكسائي: بالياء (أجرا عظيما) وهو الجنة. قال ابن السائب: فلم ينكث العهد منهم غير رجل
واحد يقال له: الجد بن قيس، وكان منافقا.
163

سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وإن وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم
ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل
كان الله بما تعملون خبيرا (11) بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا
وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا (12) ومن لم يؤمن بالله ورسوله
فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا (13) ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب
من يشاء وكان الله غفورا رحيما (14)
قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب) قال ابن إسحاق: لما أراد العمرة استنفر
من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه، خوفا من قومه أن يعرضوا له بحرب أو
بصد، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عنى الله بقوله: " سيقول لك المخلفون من الأعراب "،
قال أبو صالح، عن ابن عباس: وهم غفار ومزينة وأشجع والديل وأسلم. قال يونس النحوي:
الديل في عبد القيس ساكن الياء. والدول من حنيفة ساكن الواو، والدئل في كنانة رهط أبي الأسود
الدؤلي. فأما المخلفون، فإنهم تخلفوا مخافة القتل. (شغلتنا أموالنا وأهلونا) أي: خفنا عليهم
الضيعة (فاستغفر لنا) أي: ادع الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك (يقولون بألسنتهم ما ليس في
قلوبهم) أي: ما يبالون استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم.
قوله تعالى: (فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا) قرأ حمزة، والكسائي،
وخلف: " ضرا " بضم الضاد، والباقون: بالفتح. قال أبو علي: " الضر " بالفتح: خلاف
النفع، وبالضم: سوء الحال، ويجوز أن يكونا لغتين كالفقر والفقر، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم
يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع بسلامة أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم الله تعالى أنه إن أراد بهم
شيئا، لم يقدر أحد على دفعه عنهم، (بل كان الله بما تعملون خبيرا) من تخلفهم وقولهم
عن المسلمين أنهم سيهلكون، وذلك قوله: (بل ظننتم) أي: توهمتم (أن لن ينقلب الرسول
والمؤمنون إلى أهليهم) أي لا يرجعون إلى المدينة، لاستئصال العدو إياهم: (وزين ذلك في
قلوبكم) وذلك من تزيين الشيطان.
قوله تعالى: (وكنتم قوما بورا) قد ذكرناه في الفرقان.
164

سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا
كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا
يفقهون إلا قليلا (15)
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: (سيقول المخلفون) الذين تخلفوا عن الحديبية (إذا انطلقتم
إلى مغانم) وذلك أنهم لما انصرفوا عن الحديبية بالصلح وعدهم الله فتح خيبر، وخص بها من
شهد الحديبية فانطلقوا إليها، فقال هؤلاء المخلفون: (ذرونا نتبعكم)، قال الله تعالى:
(يريدون أن يبدلوا كلام الله) وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " أن يبدلوا كلم الله " بكسر
اللام. وفي المعنى قولان:
أحدهما: أنه مواعيد الله بغنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصة، قاله ابن عباس.
والثاني: أمر الله نبيه أن لا يسير معه منهم أحد، وذلك أن الله وعده وهو بالحديبية أن يفتح
عليه خيبر، ونهاه أن يسير معه أحد من المتخلفين، قاله مقاتل.
وعلى القولين: قصدوا أن يجيز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف أمر الله، فيكون تبديلا لأمره.
قوله تعالى: (كذلكم قال الله من قبل) فيه قولان: أحدهما: قال: إن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية، وهذا على القول الأول.
والثاني: قال: لن تتبعونا، وهذا قول مقاتل.
(فسيقولون بل تحسدوننا) أي: يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم.
قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولو بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون
فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما (16)
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله
يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما (17)
قوله تعالى: (ستدعون إلى قوم) المعنى: إن كنتم تريدون الغزو والغنيمة فستدعون إلى
جهاد قوم (أولي بأس شديد).
165

وفي هؤلاء القوم ستة أقوال:
أحدها: أنهم فارس، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عطاء بن أبي رباح،
وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى، وابن جريج في آخرين.
والثاني: فارس والروم، قاله الحسن، ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والثالث: أنهم أهل الأوثان، رواه ليث عن مجاهد.
والرابع: أنهم الروم، قاله كعب.
والخامس: أنهم هوازن وغطفان، وذلك يوم حنين، قاله سعيد بن جبير، وقتادة.
والسادس: بنو حنيفة يوم اليمامة، وهم أصحاب مسيلمة الكذاب، قاله الزهري، وابن
السائب، ومقاتل. قال مقاتل: خلافة أبي بكر في هذه بينة مؤكدة. وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ
هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعي أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم وقال بعض أهل
العلم: لا يجوز أن تكون هذه الآية إلا في العرب، لقوله: (تقاتلونهم أو يسلمون)، وفارس
والروم إنما يقاتلون حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية وقد استدل جماعة من العلماء على صحة إمامة أبي
بكر وعمر بهذه الآية، لأنه إن أريد بها بنو حنيفة، فأبو بكر دعا إلى قتالهم، وإن أريد بها فارس
والروم فعمر دعا إلى قتالهم، والآية تلزمهم اتباع من يدعوهم، وتتوعدهم فقال على التخلف
بالعقاب. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدل على صحة إمامتهما إذا كان المتولي عن طاعتهما
مستحقا للعقاب.
قوله تعالى: (فإن تطيعوا) قال ابن جريج: فإن تطيعوا أبا بكر وعمر، (وإن تتولوا) عن
طاعتهما (كما توليتم) عن طاعة محمد صلى الله عليه وسلم في المسير إلى الحديبية، وقال الزجاج: المعنى:
إن تبتم وتركتم نفاقكم وجاهدتم، يؤتكم الله أجرا حسنا، وإن توليتم فأقمتم على نفاقكم،
وأعرضتم عن الإيمان والجهاد كما توليتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذبكم عذابا أليما.
قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج) قال المفسرون: عذر الله أهل الزمانة الذين
تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية.
قوله تعالى: (يدخله جنات) قرأ نافع، وابن عامر: " ندخله " و " نعذبه " بالنون فيهما،
والباقون: بالياء.
لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل
السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (18) ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما (19)
166

وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون
آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما (20) وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان
الله على كل شئ قديرا (21) ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا
نصيرا (22) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (23) وهو الذي كف
أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون
بصيرا (24)
ثم ذكر الذين أخلصوا نيتهم وشهدوا بيعة الرضوان بقوله: (لقد رضي الله عن المؤمنين)
وقد ذكرنا سبب هذه البيعة آنفا. وإنما سميت بيعة الرضوان، لقوله: (لقد رضي الله عن المؤمنين
إذ يبايعونك تحت الشجرة) روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، قال: بينما نحن قائلون زمن
الحديبية، نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، البيعة، البيعة، نزل روح القدس، قال:
فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة، فبايعناه. وقال عبد الله بن مغفل: كان رسول الله صلى الله عليه
تحت الشجرة يبايع الناس، وإني لأرفع أغصانها عن رأسه. وقال بكير بن الأشج. كانت الشجرة
بفج نحو مكة. قال نافع: كان الناس يأتون تلك الشجرة فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر بن
الخطاب، فأوعدهم فيها، وأمر بها فقطعت.
قوله تعالى: (فعلم ما في قلوبهم) أي: من الصدق والوفاء، والمعنى: علم أنهم
مخلصون (فأنزل السكينة عليهم) يعني الطمأنينة والرضى حتى بايعوا على أن يقاتلوا ولا يفروا
(وأثابهم) أي: عوضهم على الرضى بقضائه والصبر على أمره (فتحا قريبا) وهو خيبر، (ومغانم
كثيرة يأخذونها) أي: من خيبر، لأنها كانت ذات عقار وأموال. فأما قوله بعد هذا: (وعدكم الله مغانم
كثيرة تأخذونها) فقال المفسرون: هي الفتوح التي تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة.
(فجعل لكم هذه) فيها قولان:
أحدهما: أنها غنيمة خيبر، قاله مجاهد، وقتادة، والجمهور.
والثاني: أنه الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، رواه العوفي عن ابن عباس.
قوله تعالى: (وكف أيدي الناس عنكم) فيهم ثلاثة أقوال:
167

أحدها: أنهم اليهود هموا أن يغتالوا عيال المسلمين الذين خلفوهم في المدينة، فكفهم الله
عن ذلك، قاله قتادة.
والثاني: أنهم أسد وغطفان جاؤوا لينصروا أهل خيبر، فقذف الله في قلوبهم الرعب
فانصرفوا عنهم، قاله مقاتل. وقال الفراء: كانت أسد وغطفان مع أهل خيبر، فقصدهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم فصالحوه وخلوا بينه وبين خيبر. وقال غيرهما: بل همت أسد وغطفان باغتيال أهل
المدينة، فكفهم الله عن ذلك.
والثالث: أنهم أهل مكة كفهم الله بالصلح، حكاهما الثعلبي وغيره. ففي قوله: " عنكم "
قولان: أحدهما: أنه على أصله، قاله الأكثرون. والثاني: عن عيالكم، قاله ابن قتيبة، وهو
مقتضى قول قتادة: (ولتكون آية للمؤمنين) في المشار إليها قولان:
أحدهما: أنها الفعلة التي فعلها بكم من كف أيديهم عنكم كانت آية للمؤمنين، فعلموا أن
الله تعالى متولي حراستهم في مشهدهم ومغيبهم.
والثاني: أنها خيبر كان فتحها علامة للمؤمنين في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وعدهم به.
قوله تعالى: (ويهديكم صراطا مستقيما) فيه قولان:
أحدهما: طريق التوكل عليه والتفويض إليه، وهذا على القول الأول.
والثاني: يزيدكم هدى بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من وعد الله تعالى بالفتح والغنيمة
قوله تعالى: (وأخرى) المعنى: وعدكم الله مغانم أخرى، وفيها أربعة أقوال:
أحدها: أنها ما فتح للمسلمين بعد ذلك. روى سماك الحنفي عن ابن عباس " وأخرى لم
تقدروا عليها " قال: ما فتح لكم من هذه الفتوح، وبه قال مجاهد.
والثاني: أنها خيبر، رواه عطية، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد.
والثالث: فارس والروم، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال الحسن، وعبد الرحمن بن أبي
ليلى.
والرابع: مكة، ذكره قتادة، وابن قتيبة.
قوله تعالى: (قد أحاط الله بها) فيه قولان:
أحدهما: أحاط بها علما أنها ستكون من فتوحكم.
والثاني: حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى فتحتموها.
قوله تعالى: (ولو قاتلكم الذين كفروا) هذا خطاب لأهل الحديبية، قاله قتادة، والذين
كفروا مشركو قريش. فعلى هذا يكون المعنى: لو قاتلوكم يوم الحديبية (ولوا الأدبار) لما في قلوبهم
من الرعب (ثم لا يجدون وليا) لأن الله قد خذلهم. قال الزجاج: المعنى: لو قاتلك من لم يقاتلك لنصرت
168

عليه، لأن سنة الله النصرة لأوليائه. و " سنة الله " منصوبة على المصدر، لأن قوله: " لولوا الأدبار "
معناه: سن الله عز وجل خذلانهم سنة. وقد مر مثل هذا في قوله: " كتاب الله عليكم)، وقوله:
(صنع الله)
قوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم) روى أنس بن مالك أن ثمانين رجلا من أهل
مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم
سلما، فاستحياهم، وأنزل الله هذه الآية. وروى عبد الله بن مغفل قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالحديبية في أصل الشجرة، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا، فثاروا في وجوهنا، فدعا
عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل
جئتم في عهد؟ " أو " هل جعل لكم أحد أمانا؟ " قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم، ونزلت هذه
الآية. وذكر قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا، فأتوه باثني عشر فارسا من الكفار، فأرسلهم، وقال
مقاتل: خرجوا يقاتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهزمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالطعن والنبل حتى أدخلهم بيوت مكة.
قال المفسرون: ومعنى الآية: إن الله تعالى ذكر منته إذ حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى تم
الصلح بينهم.
وفي بطن مكة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الحديبية، قاله أنس.
والثاني: وادي مكة، قاله السدي.
والثالث: التنعيم، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
فأما " مكة " فقال الزجاج: " مكة لا تنصرف لأنها مؤنثة، وهي معرفة، ويصلح أن يكون
اشتقاقها كاشتقاق " بكة "، والميم تبدل من الباء، يقال: ضربة لازم، ولازب، ويصلح أن يكون
اشتقاقها من قولهم: أمتك الفصيل ما في ضرع الناقة: إذا مص مصا شديدا حتى لا يبقى فيه
شيئا، فيكون سميت بذلك لشدة الازدحام فيها، قال: والقول الأول أحسن. وقال قطرب: مكة
من تمككت المخ: إذا أكلته. وقال ابن فارس. تمككت العظم: إذا أخرجت مخه، والتمكك:
الاستقصاء، وفي الحديث: " لا تمككوا على غرمائكم ". " وفي تسمية " مكة " أربعة أقوال:
أحدها: لأنها مثابة يؤمها الخلق من كل فج، وكأنها هي التي تجذبهم إليها، وذلك من
قول العرب: أمتك الفصيل ما في ضرع الناقة.
والثاني: أنها سميت (مكة) من قولك: بككت الرجل: إذا وضعت منه ورددت نخوته،
فكأنها تمك من ظلم فيها، أي: تهلكه وتنقصه، وأنشدوا:
169

يا مكة، الفاجر مكي مكا * ولا تمكي مذحجا وعكا
والثالث: أنها سميت بذلك لجهد أهلها.
والرابع: لقلة الماء بها.
وهل مكة وبكة واحد؟ قد ذكرناه في آل عمران.
قوله تعالى: (من بعد أن أظفركم عليهم) أي: بهم، يقال: ظفرت بفلان، وظفرت
عليه.
قوله تعالى: (وكان الله بما تعلمون بصيرا) قرأ أبو عمرو: " يعملون " بالياء،
والباقون: بالتاء.
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا
رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم
ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما (25) إذ
جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى
المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شئ عليما (26)
قوله تعالى: (هم الذين كفروا) يعني أهل مكة (وصدوكم عن المسجد الحرام) أن
تطوفوا به وتحلوا من عمرتكم (والهدي) قال الزجاج: أي: وصدوا الهدي (معكوفا) أي:
محبوسا (أن يبلغ) أي: عن أن يبلغ (محله) قال المفسرون: " محله " منحره، وهو حيث يحل
نحره (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) وهم المستضعفون بمكة (لم تعلموهم) أي: لم
تعرفوهم (أن تطؤوهم) بالقتل. ومعنى الآية: لولا أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بالقتل،
وتوقعوا بهم ولا تعرفونهم، (فتصيبكم منهم معرة) وفيها أربعة أقوال:
أحدهما: إثم، قاله ابن زيد.
والثاني: غرم الدية، قاله ابن إسحاق.
والثالث: كفارة قتل الخطأ، قاله ابن السائب.
والرابع: عيب بقتل من هو على دينكم، حكاه جماعة من المفسرين. وفي الآية محذوف،
170

تقديره: لأدخلتكم من عامكم هذا، وإنما حلت بينكم وبينهم (ليدخل الله في رحمته) أي: في
دينه (من يشاء) من أهل مكة، وهم الذين أسلموا بعد الصلح (لو تزيلوا) قال ابن عباس: لو
تفرقوا. وقال ابن قتيبة، والزجاج: لو تميزوا. قال المفسرون: لو انماز المؤمنون من المشركين
لعذبنا الذين كفروا) بالقتل والسبي بأيديكم. وقال قوم: لو تزيل المؤمنون من أصلاب الكفار
لعذبنا الكفار. وقال بعضهم: قوله: " لعذبنا " جواب لكلامين، أحدهما: " لولا رجال "،
والثاني: " لو تزيلوا " وقوله: (إذ جعل) من صلة قوله: (لعذبنا). والحمية: الأنفة
والجبرية. قال المفسرون: وإنما أخذتهم الحمية حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول مكة، فقالوا:
يدخلون علينا، وقد قتلوا أبناءنا وإخواننا فتتحدث العرب بذلك! والله لا يكون ذلك، (فأنزل الله
سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) فلم يدخلهم ما دخل أولئك فيخالفوا الله في قتالهم. وقيل:
الحمية ما تداخل سهيل بن عمرو من الأنفة أن يكتب في كتاب الصلح ذكر " الرحمن الرحيم " وذكر
" رسول الله " صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: (وألزمهم كلمة التقوى) فيه خمسة أقوال:
أحدهما: " لا إله إلا الله "، قاله ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة،
والضحاك، والسدي، وابن زيد في آخرين، وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا يكون
معنى: " الزمهم ": حكم لهم بها، وهي التي تنفي الشرك.
والثاني: " لا إله الله والله أكبر "، قاله ابن عمر. وعن علي بن أبي طالب كالقولين:
والثالث: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير "،
قاله عطاء بن أبي رباح.
والرابع: " لا إله إلا الله محمد رسول الله "، قاله عطاء الخراساني.
والخامس: " بسم الله الرحمن الرحيم "، قاله الزهري.
فعلى هذا يكون المعنى أنه لما أبى المشركون أن يكتبوا هذا في كتاب الصلح، ألزمه الله
المؤمنين (وكانوا أحق بها) من المشركين (و) (كانوا (أهلها) في علم الله تعالى.
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين
رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا (27) هو
171

الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (28)
قوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان أري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلا يقول له: (لتدخلن المسجد الحرام)
إلى قوله: (لا تخافون) ورأى كأنه هو وأصحابه يدخلون مكة وقد حلقوا وقصروا، فأخبر بذلك
أصحابه ففرحوا، فلما خرجوا إلى الحديبية حسبوا أنهم يدخلون مكة في عامهم ذلك، فلما رجعوا
ولم يدخلوا قال المنافقون: أين رؤياه التي رأى؟ فنزلت هذه الآية، فدخلوا في العام المقبل.
وفي قوله: (إن شاء الله) ستة أقوال:
أحدها: أن " إن " بمعنى " إذ " قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة.
والثاني: أنه استثناء من الله، وقد علمه، والخلق يستثنون فيما لا يعلمون، قاله ثعلب،
فعلى هذا يكون المعنى أنه علم أنهم سيدخلونه، ولكن استثنى على ما أمر الخلق به من الاستثناء.
والثالث: أن المعنى: لتدخلن المسجد الحرام إن أمركم الله به، قاله الزجاج.
والرابع: أن الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم، لأنه علم أن بعضهم يموت،
حكاه الماوردي.
والخامس: أنه على وجه الحكاية لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أن قائلا يقول: " لتدخلن
المسجد الحرام إن شاء الله آمنين "، حكاه القاضي أبو يعلى.
والسادس: أنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول، فلا شك فيه، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: (آمنين) من العدو (محلقين رؤوسكم ومقصرين) من الشعر (لا
تخافون) عدوا. (فعلم ما لم تعلموا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: علم أن الصلاح في الصلح.
والثاني: أن في تأخير الدخول صلاحا.
والثالث: فعلم أن يفتح عليكم خيبر قبل ذلك.
قوله تعالى: (فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) فيه قولان:
أحدهما: فتح خيبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد، ومقاتل.
والثاني: صلح الحديبية، قاله مجاهد، والزهري، وابن إسحاق. وقد بينا كيف كان فتحا
في أول السورة.
وما بعد هذا مفسر في براءة (وكفى بالله شهيدا) وفيه قولان.
172

أحدهما: أنه شهد على نفسه يظهره على الدين كله، قاله الحسن.
والثاني: كفى به شهيدا أن محمدا رسوله، قاله مقاتل.
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا
يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة
ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب
الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (29)
قوله تعالى: (محمد رسول الله) وقرأ الشعبي، وأبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري:
" محمدا رسول الله " بالنصب فيهما. قال ابن عباس: شهد له بالرسالة.
قوله تعالى: (والذين معه) يعني أصحابه والأشداء: جمع شديد. قال الزجاج: والأصل:
أشدداء، نحو نصيب وأنصباء، ولكن الدالين تحركتا، فأدغمت الأولى في الثانية، ومثله (من
يرتد منكم).
قوله تعالى: (رحماء بينهم) الرحماء جمع رحيم، والمعنى أنهم يغلظون على الكفار،
ويتوادون بينهم (تراهم ركعا سجدا) يصف كثرة صلاتهم (يبتغون فضلا من الله) وهو الجنة
(ورضوانا) وهو رضي الله عنهم. وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور، وروى مبارك بن
فضالة عن الحسن البصري أنه قال: " والذين معه " أبو بكر " أشداء على الكفار " عمر " رحماء
بينهم " عثمان " تراهم ركعا سجدا " علي بن أبي طالب " يبتغون فضلا من الله ورضوانا " طلحة
والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة.
قوله تعالى: (سيماهم) أي: علامتهم (في وجوههم)، وهل هذه العلامة في الدنيا، أم في
الآخرة؟ فيه قولان:
أحدهما: في الدنيا. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها السمت الحسن، قاله ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة، وقال في رواية
مجاهد: أما إنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه، وكذلك قال مجاهد: ليس
بندب التراب في الوجه، ولكنه الخشوع والوقار والتواضع.
173

والثاني: أنه ندى الطهور وثرى الأرض، قاله سعيد بن جبير، وقال أبو العالية: لأنهم يسجدون
على التراب لا على الأثواب. وقال الأوزاعي: بلغني أنه ما حملت جباههم من الأرض.
والثالث: أنه السهوم، فإذا سهم وجه الرجل من الليل أصبح مصفارا. قال الحسن البصري:
" سيماهم في وجوههم ": الصفرة، وقال سعيد بن جبير: أثر السهر، وقال شمر بن عطية: هو تهيج
في الوجه من سهر الليل.
والقول الثاني: أنها في الآخرة. ثم فيه قولان:
أحدهما: أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشد وجوههم بياضا يوم القيامة، قاله عطية
العوفي، وإلى نحو هذا ذهب الحسن، والزهري. وروى العوفي عن ابن عباس قال: صلاتهم تبدو
في وجوههم يوم القيامة.
والثاني: أنهم يبعثون غرا محجلين من أثر الطهور، ذكره الزجاج.
قوله تعالى: (ذلك مثلهم) أي: صفتهم، والمعنى أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه (في
التوراة) هذا. فأما قوله: (ومثلهم في الإنجيل) ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذا المثل المذكور أنه في التوراة هو مثلهم في الإنجيل. قال مجاهد: مثلهم في
التوراة والإنجيل واحد.
والثاني: أن المتقدم مثلهم في التوراة. فأما مثلهم في الإنجيل فهو قوله: (كزرع)، وهذا
قول الضحاك، وابن زيد.
والثالث: أن مثلهم في التوراة والإنجيل كزرع، ذكر هذه الأقوال أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: (أخرج شطأه) وقرأ ابن كثير، وابن عامر: " شطأه " بفتح الطاء والهمزة. وقرأ
نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " شطأة " بسكون الطاء. وكلهم يقرا بهمزة
مفتوحة. وقرأ أبي بن كعب، أبو العالية، وابن أبي عبلة: " شطاءه " بفتح الطاء وبالمد والهمزة
وبألف. قال أبو عبيدة: أي: فراخه يقال: أشطأ الزرع فهو مشطىء: إذا أفرخ (فآزره) أي: ساواه
وصار مثل الأم. وقرأ ابن عامر: " فأزره " مقصورة الهمزة مثل فعله. وقال ابن قتيبة: آزره: أعانه
وقواه (فاستغلظ) أي: غلظ (فاستوى على سوقه) وهي جمع " ساق "، وهذا مثل ضربه الله عز
وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ خرج وحده، فأيده بأصحابه، كما قوى الطاقة من الزرع بما نبت منها حتى كبرت
وغلظت واستحكمت. وقرأ ابن كثير: " على سؤقه " مهموزة، والباقون: بلا همزة. وقال قتادة: في
الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، وفيمن أريد بهذا المثل قولان:
أحدهما: أن أصل الزرع: عبد المطلب " أخرج شطأه " أخرج محمدا صلى الله عليه وسلم (فآزره): بأبي
174

بكر (فاستغلظ): بعمر (فاستوى): بعثمان (على سوقه): علي بن أبي طالب، رواه سعيد بن
جبير عن ابن عباس.
والثاني: أن المراد بالزرع: محمد صلى الله عليه وسلم " أخرج شطأه ": أبو بكر " فآزره ": بعمر
" فاستغلظ ": بعثمان " فاستوى على سوقه ": بعلي (يعجب الزراع): يعني المؤمنين " ليغيظ بهم
الكفار " وهو قول عمر لأهل مكة: لا يعبد الله سرا بعد اليوم، رواه الضحاك عن ابن عباس، ومبارك
عن الحسن.
قوله تعالى: (ليغيظ بهم الكفار) أي: إنما كثرهم وقواهم ليغيظ بهم الكفار، وقال مالك بن
أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. وقال ابن إدريس:
لا آمن أن يكونوا قد ضاعوا الكفار، يعني الرافضة، لأن الله تعالى يقول: " ليغيظ بهم الكفار ".
قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) قال الزجاج:
في " من " قولان:
أحدهما: أن يكون تخليصا للجنس من غيره، كقوله: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان)، ومثله
أن تقول: أنفق من الدراهم، أي: اجعل نفقتك من هذا الجنس. قال ابن الأنباري: معنى الآية:
وعد الله الذين آمنوا من هذا الجنس، أي: من جنس الصحابة.
والثاني: أن يكون هذا الوعد لمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصالح.
175

سورة الحجرات مدنية
وآياتها ثماني عشرة
ثمان عشرة آية مدنية
روى ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله أعطاني السبع الطول مكان التوراة، وأعطاني
المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضلني ربي بالمفصل. أما السبع الطول فقد
ذكرناها " عند قوله ": (ولقد آتيناك سبعا من المثاني). وأما المئون، فقال ابن قتيبة: هي ما
ولي الطول، وإنما سميت بالمئين، لأن كل سورة تزيد على مائة آية أو تقاربها، والمثاني: ما ولي
المئين من السور التي دون المائة، كأن المئين مباد، وهذه مثان وأما المفصل، فهو ما يلي المثاني
من قصار السور، وإنما سميت مفصلا لقصرها وكثرة الفصول فيها بسطر: بسم الله الرحمن الرحيم.
وقد ذكر الماوردي في أول تفسيره في المفصل ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من أول سورة (محمد) إلى آخر القرآن، قاله الأكثرون.
والثاني: من سورة (قاف) إلى آخره، حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة.
والثالث: من (الضحى) إلى آخره، قاله ابن عباس
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم (1)
يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر
بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (2) إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول
176

الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم (3)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) في سبب نزولها أربعة
أقوال:
أحدها: أن ركبا من بني تميم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد،
وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت
خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتها، فنزل قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله
ورسوله) إلى قوله: (ولو أنهم صبروا)، فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى
يستفهمه، رواه عبد الله بن الزبير.
والثاني: أن قوما ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يعيدوا الذبح، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن.
والثالث أنها نزلت في قوم كانوا يقولون: لو أنزل الله في كذا وكذا! فكره الله ذلك، وقدم
فيه، قاله قتادة.
والرابع: أنها نزلت في عمرو بن أمية الضمري، وكان قد قتل رجلين من بني سليم قبل أن
يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تقولوا خلاف
الكتاب والسنة. وروى العوفي عنه قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. وروي عن عائشة رضي
الله عنها في هذه الآية قالت: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. ومعنى الآية على جميع الأقوال. لا
تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل. قال ابن قتيبة: يقال فلان يقدم بين يدي.
الإمام وبين يدي أبيه، أي: يعجل بالأمر والنهي دونه.
فأما " تقدموا " فقرأ ابن. مسعود، وأبو هريرة، وأبو رزين، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي،
وعكرمة، والضحاك وابن سيرين، وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب: بفتح التاء والدال، وقرأ الباقون:
بضم التاء وكسر الدال. قال الفراء: كلاهما صواب، يقال: قدمت، وتقدمت، وقال الزجاج:
كلاهما واحد، فأما " بين يدي الله ورسوله " فهو عبارة عن الأمام، لأن ما بين يدي الإنسان أمامه،
فالمعنى: لا تقدموا قدام الأمير.
قوله تعالى: (لا ترفعوا أصواتكم) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما فيما ذكرناه آنفا في حديث ابن الزبير، وهذا قول ابن
أبي مليكة.
177

والثاني: أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنيه وقر، وكان جهوري الصوت فكان
إذا كلم إنسانا جهر بصوته فربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينادي بصوته فأنزل الله عز وجل (يا أيها الذين
آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم بعضا) أي لا تغلظوا له في
الخطاب و لا تنادوه باسمه: يا محمد، كما ينادي بعضكم بعضا، أي لا تغلظوا له في الخطاب و لكن
فخموه واحترموه و قولوا له قولا لينا وخطابا حسنا بتعظيم و توقير يا نبي الله ويا رسول الله. نظيره قوله عز
وجل (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) أن تحبط أعمالكم لكي لا تبطلوا
حسناتكم و أنتم لا تشعرون.
قوله تعالى: (إن الذين يغضون أصواتهم) قال ابن عباس: لما نزل قوله: (لا ترفعوا
أصواتكم) تألى أبو بكر أن لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، فأنزل الله في أبي بكر: " إن
الذين يغضون أصواتهم "، والغض: النقص كما بينا عند قوله: (قل للمؤمنين يغضوا).
(أولئك الذين امتحن الله قلوبهم) قال ابن عباس: أخلصها (للتقوى) من المعصية. وقال
الزجاج: اختبر قلوبهم فوجدهم مخلصين، كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب والفضة، أي:
اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خلصا، فعلمت حقيقة كل واحد منهما. وقال ابن جرير: اختبرها بامتحانه
إياها، فاصطفاها وأخلصها للتقوى.
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) ولو أنهم صبروا حتى تخرج
إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم (5)
قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن بني تميم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب: يا محمد اخرج إلينا، فإن
مدحنا زين وإن ذمنا شين، فخرج وهو يقول: " إنما ذلكم الله " فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا
بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال: " ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا "، فقال
الزبرقان بن بدر لشاب منهم: قم فاذكر فضلك وفضل قومك، فقام فذكر ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثابت بن قيس، فأجابه، وقام شاعرهم، فأجابه حسان، فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا
الأمر؟! تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر، ثم دنا فأسلم،
فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه
الآية، هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين. وقال ابن إسحاق: نزلت في جفاة بني تميم، وكان
178

فيهم الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم المنقري،
وخالد بن مالك، وسويد بن هشام، وهما نهشليان والقعقاع بن معبد، وعطاء بن حابس، ووكيع بن
وكيع.
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني العنبر، وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري،
فلما علموا بذلك هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة، فجاء رجالهم يفدون الذراري، فقدموا وقت
الظهيرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائل، فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا، حتى أيقظوه، فنزلت هذه الآية،
قاله ابن عباس.
والثالث: أن ناسا من العرب قال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا
نكن أسعد الناس به، وإن يكن ملكا نعش في جناحه، فجاؤوا، فجعلوا ينادون يا محمد، يا محمد،
فنزلت هذه الآية، قاله زيد بن أرقم.
فأما " الحجرات " فقرأ أبي بن كعب، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، ومجاهد وأبو
العالية، وابن يعمر، وأبو جعفر، وشيبة: بفتح الجيم، وأسكنها أبو رزين، وسعيد بن المسيب،
وابن أبي عبلة، وضمها الباقون. قال الفراء: وجه الكلام أن تضم الحاء والجيم، وبعض العرب
يقول: الحجرات والركبات، وربما خففوا فقالوا: " الحجرات " والتخفيف في تميم، والتثقيل في
أهل الحجاز. وقال ابن قتيبة: واحد الحجرات حجرة، مثل ظلمة وظلمات، قال المفسرون: وإنما
نادوا من وراء الحجرات، لأنهم لم يعلموا في أي الحجر رسول الله.
قوله تعالى: (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم) قال الزجاج: أي: لكان
الصبر خيرا لهم وفي وجه كونه خيرا لهم قولان:
أحدهما: لكان خيرا لهم فيما قدموا له من فداء ذراريهم، فلو صبروا خلى سبيلهم بغير فداء،
قاله مقاتل.
والثاني: لكان أحسن لآدابهم في طاعة الله ورسوله، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (والله غفور رحيم) أي: لمن تاب منهم.
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على
ما فعلتم نادمين (6) واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم
179

ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان
أولئك هم الراشدون (7) فضلان من الله ونعمة والله عليم حكيم (8)
قوله عز وجل: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية،
فلما سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إليهم، فنزلت هذه
الآية. وقد ذكرت القصد في كتاب " المغني " وفي " الحدائق " مستوفاة، وذكرت معنى " فتبينوا "
في سورة النساء، ولنبأ: الخبر، و " أن " بمعنى " لئلا "، والجهالة هاهنا: أن يجهل حال القوم،
(فتصبحوا على ما فعلتم) من إصابتهم بالخطأ (نادمين).
ثم خوفهم فقال: (واعلموا أن فيكم رسول الله) أي: إن كذبتموه أخبره الله فافتضحتم،
ثم قال: (لو يطيعكم في كثير من الأمر) أي: مما تخبرونه فيه بالباطل (لعنتم) أي: لوقعتم في
عنت. قال ابن قتيبة: وهو الضرر والفساد. وقال غيره: هو الإثم والهلاك وذلك أن المسلمين لما
سمعوا أن أولئك القوم قد كفروا قالوا: ابعث إليهم يا رسول الله واغزهم واقتلهم، ثم خاطب
المؤمنين فقال: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان) إلى قوله: (والعصيان)، ثم عاد إلى الخبر
عنهم فقال: (أولئك هم الراشدون) أي: المهتدون إلى محاسن الأمور، (فضلا من الله)
قال الزجاج: المعنى: ففعل بكم ذلك فضلا، أي: للفضل والنعمة.
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى
فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله
يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم
ترحمون (10)
قوله تعالى: (وإن طائفتان...) الآية، في سبب نزولها قولان:
أحدهما: ما روي البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث أنس بن مالك قال: قيل
180

لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي فركب حمارا وانطلق معه المسلمون يمشون، فلما أتاه
النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار
رسول الله أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه،
فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزلت فيهم " وإن طائفتان... " الآية. وقد
أخرجا جميعا من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس
فيهم عبد الله بن أبي، وعبد الله بن رواحة، فخمر ابن أبي وجهه بردائه، وقال: لا تغبروا علينا،
فذكر الحديث، وأن المسلمين والمشركين واليهود استبوا. كل وقد ذكرت الحديث بطوله في
" المغني " و " الحدائق ". وقال مقاتل: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار وهو على حمار له، فبال
الحمار، فقال عبد الله بن أبي: أف، وأمسك على أنفه، فقال عبد الله بن رواحة: والله لهو
أطيب ريحا منك، فكان بين قوم ابن أبي وابن رواحة ضرب بالنعال والأيدي والسعف، ونزلت هذه
الآية.
والقول الثاني: أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مماراة في حق بينهما، فقال
أحدهما: لآخذن حقي عنوة، وذلك لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم
يزل الأمر بينهما حتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، قاله قتادة: وقال مجاهد: المراد
بالطائفتين: الأوس والخزرج، اقتتلوا بالعصي بينهم. وقرأ أبي بن كعب، وابن مسعود، وأبو
عمران الجوني: " اقتتلا " على فعل اثنين مذكرين. وقرأ أبو المتوكل الناجي، وأبو الجون، وابن
أبي عبلة: " اقتتلتا " بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنين مؤنثتين. وقال الحسن وقتادة والسدي
(فأصلحوا بينهما) بالدعاء إلى حكم كتاب الله عز وجل والرضى بما فيه لهما وعليها (فإن بغت
إحداهما) طلبت ما ليس لها، ولم ترجع إلى الصلح، (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء) أي:
ترجع (إلى أمر الله) أي: إلى طاعته في الصلح الذي أمر به.
قوله تعالى: (وأقسطوا) أي: اعدلوا في الإصلاح بينهما.
قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) قال الزجاج: إذا كانوا متفقين في دينهم رجعوا باتفاقهم
إلى أصل النسب، لأنهم لآدم وحواء، فإذا اختلفت أديانهم افترقوا في النسب.
قوله تعالى: (فأصلحوا بين أخويكم) قرأ الأكثرون: " بين أخويكم " بياء على التثنية.
وقرأ أبي بن كعب، ومعاوية، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وقتادة، وأبو العالية، وابن
يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب: " بين إخوتكم " بتاء مع كسر الهمزة على الجمع. وقرأ علي بن
أبي طالب، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وابن سيرين: " بين
إخوانكم " بالنون وألف قبلها. قال قتادة: ويعني بذلك الأوس والخزرج.
181

يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من
نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم
الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (11)
قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم) هذه الآية نزلت على ثلاثة أسباب، فأما أولها إلى
قوله تعالى: (خيرا منهم) فنزلت على سبب، وفيه قولان:
أحدهما: أن ثابت بن قيس بن شماس جاء يوما يريد الدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان به
صمم، فقال لرجل بين يديه: افسح، فقال له الرجل: قد أصبت مجلسا، فجلس مغضبا، ثم
قال للرجل: من أنت؟ قال: أنا فلان. فقال ثابت: أنت ابن فلانة!! فذكر أما له كان يعير بها في
الجاهلية، فأغضي الرجل ونكس رأسه، ونزل قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا
خيرا منهم)، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن وفد تميم استهزؤوا بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأوا من رثاثة حالهم،
فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك ومقاتل.
وأما قوله تعالى: (ولا نساء من نساء) فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عيرن أم سلمة بالقصر، فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن
مالك. وزعم مقاتل أن عائشة استهزأت من قصر أم سلمة.
والثاني: أن امرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم سخرتا من أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكانت أم سلمة قد خرجت ذات يوم وقد ربطت أحد طرفي جلبابها على حقوها، وأرخت الطرف
الآخر خلفها، ولا تعلم، فقالت إحداهما للأخرى: انظري ما خلف أم سلمة كأنه لسان كلب،
قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يعيرنني
ويقلن: يا يهودية بنت يهوديين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي
موسى، وإن زوجي محمد " فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
وأما قوله تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب) فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة
أقوال:
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ولهم ألقاب يدعون بها، فجعل الرجل يدعو الرجل
182

بلقبه، فقيل له: يا رسول الله: إنهم يكرهون هذا، فنزل قوله تعالى: (ولا تنابزوا بالألقاب)،
قاله أبو جبيرة بن الضحاك.
والثاني: أن أبا ذر كان بينه وبين رجل منازعة، فقال له الرجل: يا ابن اليهودية، فنزلت:
" ولا تنابزوا بالألقاب "، قاله الحسن.
والثالث: أن كعب بن مالك الأنصاري كان بينه وبين عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي كلام،
فقال له: يا أعرابي، فقال له عبد الله: يا يهودي، فنزلت فيهما (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا
بالألقاب " قاله مقاتل.
وأما التفسير، فقوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم) أي: لا يستهزئ غني بفقير، ولا
مستور عليه ذنبه بمن لم يستر عليه، ولا ذو حسب بلئيم الحسب، وأشباه ذلك مما ينقصه به،
عسى أن يكون عند الله خيرا منه. وقد بينا في البقرة أن القوم اسم الرجال دون النساء،
ولذلك قال: " ولا نساء من نساء " و " تلمزوا " بمعنى تعيبوا، وقد سبق بيانه. والمراد بالأنفس
هاهنا: الإخوان. والمعنى: لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم. والتنابز: التفاعل
من النبز، وهو مصدر، والنبز الاسم. والألقاب جمع لقب، وهو اسم يدعى به الإنسان سوى
الاسم الذي سمي به. قال ابن قتيبة: " ولا تنابزوا بالألقاب) أي: لا تتداعوا بها. و " الألقاب "
و " الأنباز " واحد، ومنه الحديث: " نبزهم الرافضة " أي: لقبهم. وللمفسرين في المراد بهذه
الألقاب أربعة أقوال:
أحدها: تعيير التائب بسيئات قد كان عملها، رواه عطية العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه تسميته بعد إسلامه بدينه قبل الإسلام، كقوله لليهودي إذا أسلم: يا يهودي،
وهذا مروي عن ابن عباس أيضا، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني،
والقرطبي.
والثالث: أنه قول الرجل للرجل: يا كافر، يا منافق، قاله عكرمة.
والرابع: أنه تسميته بالأعمال السيئة، كقوله: يا زاني، يا سارق، يا فاسق، قاله ابن
زيد. قال أهل العلم: والمراد بهذه الألقاب: ما يكرهه المنادى به، أو يعد ذما له. فأما الألقاب
التي تكسب حمدا وتكون صدقا، فلا تكره، كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: فاروق،
ولعثمان: ذو النورين، ولعلي: أبو تراب، ولخالد: سيف الله، ونحو ذلك. وقوله: (بئس
الاسم الفسوق) أي: تسميته فاسقا أو كافرا وقد آمن، (ومن لم يتب) من التنابز (فأولئك هم
183

الظالمون) وفيه قولان:
أحدهما: الضارون لأنفسهم بمعصيتهم، قاله ابن عباس.
والثاني: هم أظلم من الذين قالوا لهم ذلك، قاله ابن زيد.
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب
بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب
رحيم (12)
قوله تعالى: (اجتنبوا كثيرا من الظن) قال ابن عباس: نهى الله تعالى المؤمن أن يظن بالمؤمن
شرا. وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يسمع من أخيه كلاما لا يريد به سوءا أو يدخل مدخلا لا يريد به
سوءا، فيراه أخوه المسلم فيظن به سوءا. وقال الزجاج: هو أن يظن بأهل الخير سوءا. فأما أهل
السوء والفسق، قلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم. قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية تدل على أنه لم
ينه عن جميع الظن، والظن على أربعة أضرب. محظور، ومأمور به، ومباح، ومندوب إليه، فأما
المحظور، فهو سوء الظن بالله تعالى، والواجب: حسن الظن بالله، وكذلك سوء الظن بالمسلمين
الذين ظاهرهم العدالة محظور، وأما الظن المأمور به، فهو ما لم ينصب عليه دليل يوصل إلى العلم به،
وقد تعبدنا بتنفيذ الحكم فيه، والاقتصار على غالب الظن، وإجراء الحكم عليه واجب، وذلك نحو ما
تعبدنا به من قبول شهادة العدول، وتحري القبلة، وتقويم المستهلكات، وأروش الجنايات التي لم يرد
بمقاديرها توقيف، فهذا وما كان من نظائره قد تعبدنا فيه بأحكام غالب الظنون، فأما الظن المباح،
فكالشاك في الصلاة إذا كان إماما، أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتحري والعمل على ما يغلب في ظنه، وإن فعله كان
مباحا، وإن عدل عنه إلى البناء على اليقين كان جائزا وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا
ظننتم فلا تحققوا "، وهذا من الظن الذي يعرض في قلب الإنسان في أخيه فيما يوجب الريبة، فلا ينبغي
له أن يحققه. وأما الظن المندوب إليه، فهو إحسان الظن بالأخ المسلم يندب إليه ويثاب عليه. فأما ما
روي في الحديث: " احترسوا من الناس بسوء الظن "، فالمراد: الاحتراس بحفظ المال، مثل أن
يقول: إن تركت بابي مفتوحا خشيت السراق. قوله تعالى: (إن بعض الظن إثم) قال المفسرون: هو ما تكلم به مما ظنه من السوء بأخيه
المسلم، فإن لم يتكلم به فلا بأس، وذهب بعضهم إلى أنه يأثم بنفس ذلك الظن وإن لم ينطق به.
قوله تعالى: (ولا تجسسوا) وقرأ أبو رزين، والحسن: والضحاك، وابن سيرين وأبو رجاء،
وابن يعمر: بالحاء. قال أبو عبيدة: التجسس والتحسس واحد، وهو التبحث، ومنه الجاسوس. وروي
184

عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: التجسس، بالجيم: البحث عن عورات الناس، وبالحاء: الاستماع
لحديث القوم. قال المفسرون: التجسس: البحث عن عيب المسلمين وعوراتهم، فالمعنى: لا
يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطلع عليه إذ ستره الله. وقيل لابن مسعود: هذا الوليد ابن عقيبة تقطر لحيته
خمرا، فقال: إنا نهينا عن التجسس، فإن يظهر لنا شيء نأخذه به.
قوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا) أي: لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوؤه.
وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ قال: " ذكرك أخاك بما يكره. قال: أرأيت إن كان في
أخي ما أقول؟ قال: " إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته ".
ثم ضرب الله للغيبة مثلا، فقال: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) وقرأ نافع " ميتا "
بالتشديد. قال الزجاج: وبيانه أن ذكرك بسوء من لم يحضر، بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك.
قال القاضي أبو يعلى: وهذا تأكيد لتحريم الغيبة، لأن أكل لحم المسلم محظور، ولأن النفوس تعافه من
طريق الطبع، فينبغي أن تكون الغيبة بمنزلته في الكراهة.
قوله تعالى: (فكرهتموه) وقرأ الضحاك، و عاصم الجحدري: " فكرهتموه " برفع الكاف
وتشديد الراء. قال الفراء: أي وقد كرهتموه فلا تفعلوه، ومن قرأ " فكرهتموه " أي: فقد بغض
إليكم، والمعنى واحد. قال الزجاج: والمعنى: كما تكرهون أكل لحمه ميتا، فكذلك تجنبوا ذكره
بالسوء غائبا.
قوله تعالى: (واتقوا الله) أي: في الغيبة (إن الله تواب) على من تاب (رحيم) به
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم
عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)
* قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: نزلت في ثابت بن قيس وقوله في الرجل الذي لم يفسح له: أنت ابن فلانة، وقد
ذكرناه عن ابن عباس في قوله: (لا يسخر قوم من قوم).
والثاني: أنه لما كان يوم الفتح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذن، وأراد
أن يذل المشركين بذلك، فلما أذن، قال عتاب بن أسيد: الحمد لله الذي قبض أسيدا قبل اليوم،
وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟! وقال سهيل بن عمرو:
إن يكره الله شيئا يغيره، وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقول شيئا، فإني إن قلت شيئا لتشهدن علي
السماء، ولتخبرن عني الأرض، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
والثالث: أن عبدا أسود مرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قبض فتولى غسله وتكفينه ودفنه، فأثر ذلك
عند الصحابة، فنزلت هذه الآية، قاله يزيد بن شجرة. فأما المراد بالذكر والأنثى، فآدم وحواء.
185

والمعنى: إنكم تتساوون في النسب، وهذا زجر عن التفاخر بالأنساب. فأما الشعوب، فهي جمع
شعب. وهو الحي العظيم، مثل مضر وربيعة، والقبائل دونها، كبكر من ربيعة، وتميم من
مضر، هذا قول الجمهور من المفسرين وأهل اللغة. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد
بالشعوب: الموالي، وبالقبائل: العرب. وقال أبو رزين: الشعوب: أهل الجبال الذين لا
يعتزون لأحد، والقبائل: قبائل العرب. وقال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل: إن القبائل هي
الأصول، والشعوب هي البطون التي تتشعب منها، وهذا ضد القول الأول.
قوله تعالى: (لتعارفوا) أي: ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده. قال الزجاج:
المعنى: جعلناكم كذلك لتعارفوا، لا لتفاخروا. ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلة أتقاهم، وقرأ
أبي بن كعب، وابن عباس، والضحاك، وابن يعمر، وأبان عن عاصم: " لتعرفوا " بإسكان العين
وكسر الراء من غير ألف. وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل، وابن محيصن: " لتعارفوا " بتاء واحدة
مشددة وبألف مفتوحة الراء مخففة. وقرأ أبو نهيك، والأعمش: " لتتعرفوا " بتاءين مفتوحة الراء
وبتشديدها من غير ألف.
قوله تعالى: (إن أكرمكم) وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، ومجاهد، وأبو الجوزاء:
" أن " بفتح الهمزة. قال الفراء: من فتح " أن " فكأنه قال: لتعارفوا أن الكريم التقي، ولو كان
كذلك لكانت " لتعرفوا "، غير أنه يجوز " لتعارفوا " على معنى: ليعرف بعضكم بعضا أن أكرمكم
عند الله أتقاكم ".
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم (14) إنما المؤمنون
الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم
الصادقون (15) قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل
شئ عليم (16) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم
أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين (17) إن الله يعلم غيب السماوات والأرض
والله بصير بما تعملون (18)
186

قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا) قال مجاهد: نزلت في أعراب بني أسد بن خزيمة.
ووصف غيره حالهم، فقال: قدموا المدينة في سنة مجدبة، فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين،
وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارهم، وكانوا يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون:
أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك، فنزلت فيهم هذه الآية وقال السدي: نزلت في أعراب مزينة
وجهينة وأسلم وأشجع وغفار، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة (الفتح) وكانوا يقولون: آمنا
بالله، ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا، فنزلت فيهم هذه الآية. وقال
مقاتل: كانت منازلهم بين مكة والمدينة، فكانوا إذا مرت بهم سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا:
آمنا، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية استنفرهم فلم ينفروا معه.
قوله تعالى: (قل لم تؤمنوا) أي: لم تصدقوا (ولكن قولوا أسلمنا) قال ابن قتيبة:
أي: استسلمنا من خوف السيف، وانقدنا. قال الزجاج: الإسلام: إظهار الخضوع والقبول لما
أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يحقن الدم، فإن كان معه اعتقاد وتصديق بالقلب، فذلك الإيمان،
فأخرج الله هؤلاء من الإيمان بقوله: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم): أي لم تصدقوا، إنما
أسلمتم تعوذا من القتل وقال مقاتل: " ولما " بمعنى " ولم " يدخل التصديق في قلوبكم.
قوله تعالى: (وإن تطيعوا الله ورسوله) قال ابن عباس: إن تخلصوا الإيمان (لا يألتكم)
قرأ أبو عمرو: " يألتكم " بألف وهمز، وروي عنه بألف ساكنة مع ترك الهمزة: وقرأ الباقون:
" يلتكم " بغير ألف ولا همز. فقراءة أبي عمرو من ألت يألت، وقراءة الباقين من لات يليت، قال
الفراء: وهما لغتان، قال الزجاج: معناهما واحد. والمعنى: لا ينقصكم. وقال أبو عبيدة: فيها
ثلاث لغات: ألت يألت، تقديرها: أفك يأفك، وألات يليت، تقديرها: أقال يقيل، ولات
يليت، قال رؤبة:
وليلة ذات ندى سريت * ولم يلتني عن سراها ليت
قوله تعالى: (من أعمالكم) أي: من ثوابها. ثم نعت الصادقين في إيمانهم بالآية التي
تلي هذه، ومعنى: (يرتابوا) يشكوا. وإنما ذكر الجهاد، لأن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فرضا
في ذلك الوقت، (أولئك هم الصادقون) في إيمانهم، فلما نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحلفون أنهم مؤمنون صادقون، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم) و " علم " بمعنى " أعلم " ولذلك دخلت الباء في
قوله: " بدينكم " والمعنى: أتخبرون الله بالدين الذي أنتم عليه؟!، أي: هو عالم بذلك لا
يحتاج إلى إخباركم، وفيهم نزل قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا) قالوا: أسلمنا ولم
نقاتلك، والله تعالى أعلم.
187

(50) سورة ق مكية
وآياتها خمس وأربعون
ويقال لها: سورة الباسقات
روى العوفي عن ابن عباس أنها مكية، وكذلك قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتاة،
والجمهور. وحكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها آية مدنية، وهي قوله تعالى: (ولقد خلقنا
السماوات والأرض...) الآية.
بسم الله الرحمن الرحيم
ق والقرآن المجيد (1) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ
188

عجيب (2) أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد (3) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم
وعندنا كتاب حفيظ (4) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج (5)
قوله تعالى: (ق) قرأ الجمهور بإسكان الفاء. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو
المتوكل، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: " قاف " بنصب الفاء وقرأ أبو رزين، وقتادة: " قاف " برفع
الفاء. وقرأ الحسن، وأبو عمران: " قاف " بكسر الفاء. وفي " ق " خمسة أقوال:
أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: أنه جبل من زبر جدة خضراء، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وروى عكرمة عن ابن
عباس قال: خلق الله جبلا يقال له: " ق " محيط بالعالم، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا
أراد الله عز وجل أن يزلزل قرية، أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية. وقال مجاهد:
هو جبل محيط بالأرض. وروي عن الضحاك أنه من زمردة خضراء، وعليه كنفا السماء، وخضرة السماء
منه.
والثالث: أنه جبل من نار في النار، قاله الضحاك في رواية عنه عن ابن عباس.
والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.
والخامس: أنه حرف من كلمة. ثم فيه خمسة أقوال. أحدها: أنه افتتاح اسمه " قدير "،
قاله أبو العالية. والثاني: أنه افتتاح أسمائه: القدير والقاهر والقريب ونحو ذلك، قاله القرظي.
والثالث: أنه افتتاح " قضي الأمر "، وأنشدوا:
قلنا لها قفي فقالت قاف
معناه: أقف، فاكتفت بالقاف من " أقف "، حكاه جماعة منهم الزجاج. والرابع: قف عند
أمرنا ونهينا، ولا تعدهما، قاله أبو بكر الوراق. والخامس: قل يا محمد، حكاه الثعلبي.
189

قوله تعالى: (والقرآن المجيد) قال ابن عباس، وابن جبير: المجيد: الكريم. وفي
جواب هذا القسم أربعة أقوال:
أحدها: أنه مضمر، تقديره: ليبعثن بعد الموت. قاله الفراء، وابن قتيبة، ويدل عليه قول
الكفار: (هذا شئ عجيب)
والثاني: أنه قوله: (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم)، فيكون المعنى: قاف والقرآن
المجيد لقد علمنا، فحذفت اللام لأن ما قبلها عوض منها، كقوله: (والشمس وضحاها... قد
أفلح) أي: لقد أفلح، أجاز هذا القول الزجاج.
والثالث: أنه قوله: (ما يلفظ من قول)، حكي عن الأخفش.
والرابع: أنه في سورة أخرى، حكاه أبو سليمان الدمشقي، ولم يبين في أي سورة.
قوله تعالى: (بل عجبوا) مفسر في ص إلى قوله: (شيء عجيب) أي: معجب.
أئذا متنا) قال الأخفش: هذا الكلام على جواب، كأنه قيل لهم: إنكم ترجعون،
فقالوا: أئذا متنا وكنا ترابا؟ وقال غيره: تقدير الكلام: ق والقرآن ليبعثن، فقال: أئذا متنا وكنا
ترابا، والمعنى: أنبعث إذا كنا كذلك؟! وقال ابن جرير: لما تعجبوا من وعيد الله على تكذيبهم
بمحمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا شي عجيب، كان كأنه قال لهم: ستعلمون إذا بعثتم ما يكون حالكم في
تكذيبكم محمدا، فقالوا: أئذا متنا وكنا ترابا؟
قوله تعالى: (ذلك رجع) أي: رد إلى الحياة (بعيد) قال ابن قتيبة: أي: لا يكون.
(قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) أي: ما تأكل من لحومهم ودمائهم وأشعارهم إذا ماتوا،
يعني أن ذلك لا يعزب عن علمه (وعندنا) مع علمنا بذلك (كتاب حفيظ) أي: حافظ لعددهم
وأسمائهم ولما تنقص الأرض منهم، وهو اللوح المحفوظ قد أثبت فيه ما يكون.
(بل كذبوا بالحق) وهو القرآن. والمريج: المختلط، قال ابن قتيبة: يقال: مرج أمر
الناس، ومرج الدين، وأصل هذا أن يقلق الشيء، ولا يستقر، يقال: مرج الخاتم في يدي: إذا
قلق، للهزال. قال المفسرون: ومعنى اختلاط أمرهم: أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم مرة:
ساحر، ومرة: شاعر، ومرة: معلم، ويقولون للقرآن مرة: سحر، ومرة: مفترى، ومرة:
رجز، فكان أمرهم ملتبسا مختلطا عليهم.
190

أفلم ينظروا إلى المساء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6) والأرض
مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد
منيب (8) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد (9) والنخل
باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج (11)
كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود (12) وعاد وفرعون وإخوان لوط (13) وأصحاب
الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد (14) أفعيينا بالخلق الأول بل هم في
لبس من خلق جديد (15)
ثم دلهم على قدرته على البعث بقوله: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها) بغير
عمد (وزيناها) بالكواكب (وما لها من فروج) أي: من صدوع وشقوق والزوج: الجنس.
والبهيج الحسن، قاله أبو عبيدة. وقال ابن قتيبة: البهيج: الذي يبتهج به.
قوله تعالى: (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) قال الزجاج: أي: فعلنا ذلك لنبصر وندل
على القدرة. والمنيب: الذي يرجع إلى الله ويفكر في قدرته.
قوله تعالى: (ونزلنا من السماء ماء) وهو المطر (مباركا) أي: كثير الخير، فيه حياة كل
شيء (فأنبتنا به جنات) وهي البساتين (وحب الحصيد) أراد: الحب الحصيد، فأضافه إلى
نفسه، كقوله: (لهو حق اليقين) وقوله: (من حبل الوريد) فالحبل هو الوريد، وكما
يقال: صلاة الأولى، يراد: الصلاة الأولى، ويقال: مسجد الجامع، يراد: المسجد الجامع،
وإنما تضاف هذه الأشياء إلى أنفسها لاختلاف لفظ اسمها، وهذا قول الفراء، وابن قتيبة. وقال
غيرهما: أراد حب النبت الحصيد. (والنخل) أي: وأنبتنا النخل (باسقات) و (بسوقها ":
طولها قال ابن قتيبة: يقال: بسق الشيء يبسق بسوقا: إذا طال، والنضيد: المنضود بعضه فوق
بعض، وذلك قبل أن يتفتح، فإذا انشق جف طلعه وتفرق فليس بنضيد.
قوله تعالى: (رزقا للعباد) أي: أنبتنا هذه الأشياء للرزق (وأحيينا به) أي: بالمطر
191

(بلدة ميتا كذلك الخروج) من القبور.
ثم ذكر الأمم المكذبة بما بعد هذا، وقد سبق بيانه إلى قوله: (فحق وعيد) أي: وجب
عليهم عذابي.
أفعيينا بالخلق الأول) هذا جواب لقولهم: ذلك رجع بعيد. والمعنى: أعجزنا عن
ابتداء الخلق، وهو الخلق الأول، فنعيا بالبعث وهو الخلق الثاني؟! وهذا تقرير لهم، لأنهم
اعترفوا أنه الخالق، وأنكروا البعث (بل هم في لبس) أي: في شك (من خلق جديد) وهو
البعث.
ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (16)
إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب
عتيد (18) وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (18) ونفخ في الصور
ذلك يوم الوعيد (20) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من
هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (22)
(ولقد خلقنا الإنسان) يعني ابن آدم (ونعلم ما توسوس به نفسه) أي: ما تحدثه به
نفسه. وقال الزجاج: نعلم ما يكنه في نفسه.
قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه) أي: بالعلم (من حبل الوريد) الحبل هو الوريد،
وإنما أضافه إلى نفسه لما شرحناه آنفا في قوله: " وحب الحصيد ".
قال الفراء: والوريد: عرق بين الحلقوم والعلباوين. وعنه أيضا قال: عرق بين اللبة
والعلباوين. وقال الزجاج: الوريد: عرق في باطن العنق، وهما وريدان، والعلباوان:
العصبتان الصفراوان في متن العنق، واللبتان: مجرى القرط في العنق. وقال ابن الأنباري: اللبة
حيث يتذبذب القرط مما يقرب من شحمة الأذن. وحكى بعض العلماء أن الوريد: عرق متفرق في
البدن مخالط لجميع الأعضاء، فلما كانت أبعاض الإنسان يحجب بعضها بعضا، أعلم أن علمه لا
192

يحجبه شيء. والمعنى: ونحن أقرب إليه حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان بابن آدم
يتلقيان عمله. وقوله: (إذ يتلقى المتلقيان) أي: يأخذان ذلك ويثبتانه (عن اليمين) كاتب
الحسنات (وعن الشمال) كاتب السيئات. قال الزجاج: والمعنى: عن اليمين قعيد، وعن
الشمال قعيد، فدل أحدهما على الآخر، فحذف المدلول عليه، قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك * راض والرأي مختلف
وقال آخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريئا، ومن أجل الطوي رماني
المعنى: كنت منه بريئا. وقال ابن قتيبة: القعيد بمعنى قاعد، كما يقال: " قدير " بمعنى
" قادر "، ويكون القعيد بمعنى مقاعد، كالأكيل والشريب بمنزلة: المؤاكل والمشارب.
قوله تعالى: (ما يلفظ) يعني الانسان، أي: ما يتكلم من كلام فيلفظه، أي: يرميه من
فمه، (إلا لديه رقيب) أي: حافظ، وهو الملك الموكل به، إما صاحب اليمين، وإما صاحب
الشمال (عتيد) قال الزجاج: العتيد: الثابت اللازم. وقال غيره: العتيد: الحاضر معه أينما
كان. وروى أبو أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب
السيئات على يساره، فكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب
اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة، وأراد صاحب الشمال أن يكتبها، قال صاحب اليمين: أمسك،
فيمسك عنه سبع ساعات، فإن استغفر منها لم يكتب عليه شيء، وإن لم يستغفر كتب عليه سيئة
واحدة ". وقال ابن عباس: جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل، وحافظين في النهار.
واختلوا هل يكتبان جميع أفعاله وأقواله على قولين:
أحدهما: أنهما يكتبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه، قاله مجاهد:
والثاني: أنهما لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه، أو يوزر، قاله عكرمة. فأما مجلسهما، فقد
نطق القرآن بأنهما عن اليمين وعن الشمال، وكذلك ذكرنا في حديث أبي أمامة. وقد روى علي
كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن مقعد ملكيك على ثنيتيك، ولسانك قلمهما، وريقك
مدادهما، وأنت تجري فيما لا يعنيك " وروي عن الحسن والضحاك قالا: مجلسهما تحت الشعر
على الحنك.
قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت) وهي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على
عقلة وتدله على أنه ميت (بالحق) وفيه وجهان:
أحدهما: أن معناه: جاءت بحقيقة الموت.
193

والثاني: بالحق من أمر الآخرة، فأبانت للانسان ما لم يكن بينا له من أمر الآخرة. ذكر
الوجهين الفراء، وابن جرير.
وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " وجاءت سكرة الحق بالموت "، قال ابن جرير:
ولهذه القراءة وجهان.
أحدهما: أن يكون الحق هو الله تعالى، فيكون المعنى: وجاءت سكرة الله بالموت.
والثاني: أن تكون السكرة هي الموت، أضيفت إلى نفسها، كقوله: (هذا لهو حق
اليقين)، فيكون المعنى: وجاءت السكرة الحق بالموت، بتقديم " الحق ". وقرأ ابن
مسعود، وأبو عمران: " وجاءت سكرات " على الجمع " الحق بالموت " بتقديم " الحق ". وقرأ
أبي بن كعب، وسعيد بن جبير: " وجاءت سكرات الموت " على الجمع " بالحق " بتأخير " الحق ".
قوله تعالى: (ذلك) أي: فيقال للانسان حينئذ: " ذلك " أي: ذلك الموت (ما كنت
منه تحيد) أي: تهرب وتفر. وقال ابن عباس: تكره.
قوله تعالى: " ونفخ في الصور) يعني نفخة البعث (ذلك) اليوم (يوم الوعيد) أي: يوم
وقوع الوعيد.
قوله تعالى ذلك: (معها سائق) فيه قولان:
أحدهما: أن السائق: ملك يسوقها إلى محشرها، قاله أبو هريرة.
والثاني: أنه قرينها من الشياطين، سمي سائقا، لأنه يتبعها وإن لم يحثها. وفي الشهيد
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ملك يشهد عليها بعملها، قاله عثمان بن عفان، والحسن. وقال مجاهد:
الملكان: سائق، وشهيد. وقال ابن السائب: السائق: الذي كان يكتب عليه السيئات،
والشهيد: الذي كان يكتب الحسنات.
والثاني: أنه العمل يشهد على الإنسان، قاله أبو هريرة.
والثالث: الأيدي والأرجل تشهد عليه بعمله، قاله الضحاك.
وهل هذه الآيات عامة، أم خاصة؟ فيها قولان. أحدهما: أنها عامة، قاله الجمهور.
والثاني: خاصة في الكافر، قاله الضحاك، ومقاتل.
194

قوله تعالى: (لقد كنت) أي: ويقال له: (لقد كنت في غفلة من هذا) اليوم، وفي
المخاطب بهذه الآيات ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الكافر، قاله ابن عباس، وصالح بن كيسان في آخرين.
والثاني: أنه عام في البر والفاجر، قاله حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، واختاره
ابن جرير.
والثالث: أنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن زيد. فعلى القول الأول يكون المعنى: لقد كنت
في غفلة من هذا اليوم في الدنيا بكفرك به، وعلى الثاني: كنت غافلا عن أهوال القيامة (فكشفنا
عنك غطاءك) الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك. وقيل معناه: أريناك ما كان
مستورا عنك، وعلى الثالث: لقد كنت قبل الوحي في غفلة عما أوحي إليك، فكشفنا عنك
غطاءك بالوحي (فبصرك اليوم حديد) وفي المراد بالبصر قولان.
أحدهما: البصر المعروف، قاله الضحاك.
والثاني: العلم، قاله الزجاج. وفي قوله: " اليوم " قولان:
أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه في الدنيا، وهذا على قول ابن زيد. فأما قوله: " حديد " فقال ابن قتيبة:
الحديد بمعنى الحاد. أي: فأنت ثاقب البصر. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: فبصرك حديد إلى لسان الميزان حين توزن حسناتك وسيئاتك، قاله مجاهد.
والثاني: أنه شاخص لا يطرف لمعاينة الآخرة، قاله مقاتل.
والثالث: أنه العلم النافذ، قاله الزجاج.
وقال قرينه هذا ما لدي عتيد (23) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (24) مناع للخير معتد
مريب (25) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد (26) * قال قرينه
ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد (27) قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم
بالوعيد (28) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد (29)
195

قوله تعالى: (وقال قرينه) قال مقاتل: هو ملكه الذي كان يكتب عمله السيء في دار
الدنيا، يقول لربه: قد كتبت ما وكلتني به، فهذا عندي معد حاضر من عمله الخبيث، فقد أتيتك
به وبعمله. وفي " ما " قولان:
أحدهما: أنها بمعنى " من " قاله مجاهد.
والثاني: أنها بمعنى الشيء، فتقديره: هذا شئ لدي عتيد، قاله الزجاج: وقد ذكرنا معنى
العتيد في هذه السورة، فيقول الله تعالى: (ألقيا في جهنم) وفي معنى هذا الخطاب ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه مخاطبة للواحد بلفظ الخطاب للاثنين، قال الفراء: والعرب تأمر الواحد والقوم
بأمر الاثنين، فيقولون للرجل: ويلك ارحلاها وازجراها، سمعتها من العرب، وأنشدني بعضهم:
فقلت لصاحبي لا تحبسانا * بنزع أصوله واجتز شيحا
وأنشدني أبو ثروان:
فان تزجراني يا بن عفان أنزجر * وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
ونرى أن ذلك منهم، لأن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما
تكون ثلاثة، فجرى الكلام على صاحبيه، ألا ترى الشعر أكثر شيء قيلا: يا صاحبي ويا خليلي.
قال امرؤ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب: نقضي لبانات الفؤاد المعذب
ثم قال:
ألم تر أني كلما جئت طارقا * وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
فرجع إلى الواحد، وأول كلامه اثنان، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل، وقال: " ألقيا "
خطاب للخازن، يعني خازن النار.
والثاني: أنه فعل ثني توكيدا، كأنه لما قال: " ألقيا "، ناب عن ألق ألق، وكذلك: قفا
نبك، معناه: قف قف، فلما ناب عن فعلين، ثني، قاله المبرد.
والثالث: أنه أمر للملكين، يعني السائق والشهيد، وهذا اختيار الزجاج. فأما " الكفار "،
فهو أشد مبالغة من الكافر. و " العنيد " قد فسرناه في هود.
قوله تعالى: (مناع للخير) في المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال:
196

أحدها: الزكاة المفروضة، قاله قتادة.
والثاني: أنه الإسلام، يمنع الناس من الدخول فيه، قاله الضحاك، ومقاتل، وذكر أنها
نزلت في الوليد بن المغيرة، منع بني أخيه عن الإسلام.
والثالث: أنه عام في كل خير من قول أو فعل، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (معتد) أي: ظالم لا يقر بالتوحيد (مريب) أي: شاك في الحق، من
قولهم: أراب الرجل: إذا صار ذا ريب.
قوله تعالى: (قال قرينه) فيه قولان:
أحدهما: شيطانه، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور. وفي الكلام اختصار
تقديره: إن الإنسان ادعى على قرينه من الشياطين أنه أضله فقال: (ربنا ما أطغيته) أي: لم يكن
لي قوة على إضلاله بالإكراه، وإنما طغى هو بضلاله.
والثاني: أنه الملك الذي كان يكتب السيئات. ثم فيما يدعيه الكافر على الملك قولان:
أحدهما: أنه يقول: زاد علي فيما كتب، فيقول الملك: ما أطغيته، أي: ما زدت
عليه، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: أنه يقول: كان يعجلني عن التوبة، فيقول: ربنا ما أطغيته، هذا قول الفراء.
قوله تعالى: (ولكن كان في ضلال بعيد) أي: بعيد من الهدى، فيقول الله تعالى: (لا
تختصموا لدي). في هذا الخصام قولان:
أحدهما: أنه اعتذارهم بغير عذر، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه خصامهم مع قرنائهم الذين أغووهم، قاله أبو العالية. فأما اختصامهم فيما كان
بينهم من المظالم في الدنيا، فلا يجوز أن يهمل، لأنه يوم التناصف.
قوله تعالى: (وقد قدمت إليكم بالوعيد) أي: قد أخبرتكم على ألسن الرسل بعذابي في
الآخرة لمن كفر. (ما يبدل القول لدي) فيه قولان:
أحدهما: ما يبدل القول فيما وعدته من ثواب وعقاب، قاله الأكثرون.
والثاني: ما يكذب عندي ولا يغير القول عن جهته، لأني أعلم الغيب وأعلم كيف ضلوا
وكيف أضللتموهم، هذا قول ابن السائب واختيار الفراء وابن قتيبة، ويدل عليه أنه قال تعالى:
(ما يبدل القول لدي) ولم يقل: ما يبدل قولي (وما أنا بظلام للعبيد) فأزيد على إساءة
المسئ، أو أنقص من إحسان المحسن.
197

يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد (30) وأزلفت الجنة للمتقين غير
بعيد (31) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (32) من خشي الرحمن بالغيب وجاء
بقلب منيب (33) أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود (34) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد (35)
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36) إن في
ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37) ولقد خلقنا السماوات والأرض
وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك
قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39) ومن الليل فسبحه وأدبار السجود (40)
(يوم نقول لجهنم) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " يوم
نقول " بالنون المفتوحة وضم القاف. وقرأ نافع، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم: " يوم يقول "
بالياء المفتوحة وضم القاف. وقرأ أبي بن كعب، والحسن، وعبد الوارث عن أبي عمرو: " يوم
يقال " بياء مضمومة وفتح القاف وإثبات ألف. قال الزجاج: وانتصاب " يوم " على وجهين،
أحدهما: على معنى: ما يبدل القول لدي في ذلك اليوم. والثاني: على معنى: وأنذرهم يوم
نقول لجهنم.
فائدة سؤاله إياها، وقد علم هل امتلأت أم لا، فإنه توبيخ لمن أدخلها، وزيادة في
مكروهه، ودليل على تصديق قوله: (لأملأن جهنم).
وفي قولها: (هل من مزيد) قولان عند أهل اللغة.
أحدهما: أنها تقول ذلك بعد امتلائها، فالمعنى: هل بقي في موضع لم يمتلئ؟ أي: قد
امتلأت.
والثاني: أنها تقول تغيظا على من عصى الله تعالى، وجعل الله فيها أن تميز وتخاطب، كما
جعل في النملة أن قالت: (ادخلوا مساكنكم) وفي المخلوقات أن تسبح بحمد.
قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين) أي: قربت للمتقين الشرك (غير بعيد) أي:
جعلت عن يمين العرش حيث يراها أهل الموقف، ويقال لهم: (هذا) الذي ترونه (ما توعدون)
198

وقرأ عثمان بن عفان، وابن عمر، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن: " يوعدون " بالياء (لكل
أواب) وفيه أقوال قد ذكرناها في بني إسرائيل. وفي (حفيظ) قولان:
أحدهما: الحافظ لذنوبه حتى يرجع عنها، قاله ابن عباس.
والثاني: الحافظ لأمر الله تعالى، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (من خشي الرحمن بالغيب) قد بيناه في الأنبياء (وجاء بقلب منيب)
أي: راجع إلى طاعة الله عن معصيته.
(ادخلوها) أي: يقال لهم: أدخلوا الجنة (بسلام) وذلك أنهم سلموا من عذاب الله،
وسلموا فيها من الغموم والتغير والزوال، وسلم الله وملائكته عليهم (ذلك يوم الخلود) في
الجنة، لأنه لا موت فيها ولا زوال.
(لهم ما يشاؤون فيها) وذلك أنهم يسألون الله حتى تنتهي مسائلهم، فيعطون ما شاؤوا،
ثم يزيدهم ما لم يسألوا، فذلك قوله: (ولدينا مزيد). وللمفسرين في المراد بهذا المزيد ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه النظر إلى الله عزل وجل، روى علي رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في
قوله: " ولدينا مزيد " قال: " يتجلى لهم ". وقال أنس بن مالك في قوله: " ولدينا مزيد ": يتجلى
لهم الرب تعالى في كل جمعة.
والثاني: أن السحاب يمر بأهل الجنة، فيمطرهم الحور، فتقول الحور: نحن اللواتي قال
الله عزل وجل: " ولدينا مزيد "، حكاه الزجاج.
والثالث: أن الزيادة على ما تمنوه وسألوا مما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر،
ذكره أبول سليمان الدمشقي.
ثم خوف كفار مكة بما بعد هذا إلى قوله: (فنقبوا في البلاد) قرأ الجمهور " فنقبوا " بفتح
النون والقاف مع تشديدها. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، والحسن، وابن السميفع، ويحيى
ابن يعمر كذلك، إلا أنهم كسروا القاف على جهة الأمر تهددا. وقرأ عمر بن الخطاب، وعمر بن
عبد العزيز، وقتادة، وابن أبي عبلة، وعبيدة عن أبي عمر: " فنقبوا " بفتح القاف وتخفيفها. قال
الفراء: ومعنى " فنقبوا ": ساروا في البلاد، فهل كان لهم من الموت (من محيص) فأضمرت
" كان " ها هنا، كقوله: (أهلكناهم فلا ناصر لهم) أي: فلم يكن لهم ناصر. ومن قرأ
" فنقبوا " بكسر القاف، فإنه كالوعيد، والمعنى: اذهبوا في البلاد وجيئوا فهل من الموت من
199

محيص؟! وقال الزجاج: " نقبوا ": طوقوا وفتشوا، فلم تروا محيصا من الموت. قال امرؤ
القيس:
لقد نقبت في الآفاق حتى * رضيت من الغنيمة بالإياب
فأما المحيص فهو المعدل، وقد استوفينا شرحه في سورة النساء.
قوله تعالى: (إن في ذلك) يعني الذي ذكره من إهلاك القرى (لذكرى) أي: تذكرة
وعظة (لمن كان له قلب) قال ابن عباس: أي: عقل. قال الفراء: وهذا جائز في اللغة أن
تقول: ما لك قلب، وما معك قلبك، تريد العقل. وقال ابن قتيبة: لما كان القلب موضعا للعقل
كنى به عنه. وقال الزجاج: المعنى: لمن صرف قلبه إلى التفهم (أو ألقى السمع) أي:
استمع مني (وهو شهيد) أي: وقلبه فيما يسمع. وقال الفراء: " وهو شهيد " أي: شاهد ليس
بغائب.
قوله تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض) ذكر المفسرون أن اليهود قالت: خلق الله
السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، آخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فلذلك لا
نعمل فيه شيئا، فنزلت هذه الآيات، فأكذبهم الله عز وجل بقوله: (وما مسنا من لغوب). قال
الزجاج: واللغوب: التعب والإعياء.
قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون) أي: من بهتهم وكذبهم. قال المفسرون: ونسخ
معنى قوله: " فاصبر " بآية السيف (وسبح بحمد ربك) أي: صل بالثناء على ربك والتنزيه له
مما يقول المبطلون (قبل طلوع الشمس) وهي صلاة الفجر. (وقبل الغروب) فيها قولان:
أحدهما: صلاة الظهر والعصر، قاله ابن عباس.
والثاني: صلاة العصر، قالة قتادة. وروى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث
جرير بن عبد الله، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر، فقال: " إنكم سترون ربكم عيانا كما
ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس
وقبل الغروب فافعلوا " وقرأ: " فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ".
قوله تعالى: (ومن الليل فسبحه) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها صلاة الليل كله، أي وقت صلى منه، قاله مجاهد.
والثاني: صلاة العشاء، قاله ابن زيد.
والثالث: صلاة المغرب والعشاء، قاله مقاتل.
200

قوله تعالى: (وأدبار السجود) قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وخلف: بكسر الهمزة،
وقرأ الباقون بفتحها. قال الزجاج: من فتح ألف " أدبار " فهو جمع دبر، ومن كسرها فهو مصدر:
أدبر يدبر إدبارا. وللمفسرين في هذا التسبيح ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الركعتان بعد صلاة المغرب، روي عن عمر، وعلي، والحسن بن علي،
رضي الله عنهم، وأبي هريرة، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وقتادة في آخرين،
وهو رواية العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه النوافل بعد المفروضات، قاله ابن زيد.
والثالث: أنه التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات، رواه مجاهد عن ابن عباس.
وروي عن أبي الأحوص أنه قال في جميع التسبيح المذكور في هاتين الآيتين كذلك.
واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب (41) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم
الخروج (42) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير (43) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا
ذلك حشر علينا يسير (44) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من
يخاف وعيد (45)
قوله تعالى: (واستمع يوم ينادي المنادي) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر
" ينادي المنادي " بياء في الوصل. ووقف ابن كثير بياء، ووقف نافع وأبو عمرو بغير ياء. ووقف
الباقون ووصلوا بياء. قال أبو سليمان الدمشقي: المعنى: واستمع حديث يوم ينادي المنادي. قال
المفسرون: والمنادي: إسرافيل، يقف على صخرة بيت المقدس فينادي: يا أيها الناس هلموا
إلى الحساب، إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء، وهذه هي النفخة الأخيرة. والمكان
القريب: صخرة بيت المقدس. قال كعب ومقاتل: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
وقال ابن السائب باثني عشر ميلا. قال الزجاج: ويقال: إن تلك الصخرة في وسط الأرض.
قوله تعالى: (يوم يسمعون الصيحة) وهي هذه النفخة الثانية (بالحق) أي: بالبعث
الذي لا شك فيه (ذلك يوم الخروج) من القبور:
(إنا نحن نحيي ونميت) أي: نميت في الدنيا ونحيي للبعث (وإلينا المصير) بعد البعث،
وهو قوله: (يوم تشقق الأرض عنهم) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: " تشقق " بتشديد
201

الشين، وقرأ الباقون بتخفيفها (سراعا) أي: فيخرجون منها سراعا (ذلك حشر علينا يسير)
أي: هين.
ثم عزى نبيه فقال: (نحن أعلم بما يقولون) في تكذيبك، يعني كفار مكة (وما أنت
عليهم بجبار) قال ابن عباس: لم تبعث لتجبرهم على الإسلام إنما بعثت مذكرا، وذلك قبل أن
يؤمر بقتالهم، وأنكر الفراء هذا القول فقال: العرب لا تقول: " فعال من أفعلت " لا يقولون:
" خراج " يريدون " مخرج " ولا " دخال " يريدون " مدخل "، إنما يقولون: " فعال من " فعلت "،
وإنما الجبار هنا في موضع السلطان من الجبرية، وقد قالت العرب في حرف واحد: " دراك " من
" أدركت " وهو شاذ، فإن جعل هذا على هذه الكلمة فهو وجه. وقال ابن قتيبة: (بجبار) أي:
بمسلط. والجبار: الملك، سمي بذلك لتجبره، يقول: لست عليهم بملك مسلط. قال اليزيدي:
لست بمسلط فتقهرهم على الإسلام. وقال مقاتل: لتقتلهم. وذكر المفسرون أن قوله: (وما أنت
عليهم بجبار) منسوخ بآية السيف.
قوله تعالى: (فذكر بالقرآن) أي: فعظ به (من يخاف وعيد) وقرأ يعقوب: " وعيدي " بياء
في الحالين، أي: ما أوعدت من عصاني من العذاب.
202

(51) سورة الذاريات مكية
وآياتها ستون
مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
والذاريات ذروا (1) فالحاملات وقرا (2) فالجاريات يسرا (3) فالمقسمات أمرا (4)
إنما توعدون لصادق (5) وإن الدين لواقع (6) والسماء ذات الحبك (7) إنكم
لفي قول مختلف (8) يؤفك عنه من أفك (9) قتل الخراصون (10) الذين هم في غمرة
ساهون (11) يسئلون أيان يوم الدين (12) يوم هم على النار يفتنون (13) ذوقوا فتنتكم
هذا الذي كنتم به تستعجلون (14) إن المتقين في جنات وعيون (15) آخذين ما آتهم
ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (16) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17)
وبالأسحار هم يستغفرون (18) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (19) وفي الأرض آيات
203

للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21) وفي السماء رزقكم وما توعدون (22)
فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون (23)
قوله تعالى: (والذاريات ذروا) يعني الرياح، يقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا: إذا
فرقته. قال الزجاج: يقال: ذرت فهي ذارية، وأذرت فهي مذرية، بمعنى واحد.
(والذاريات)، مجرورة على القسم، المعنى: أحلف بالذاريات وهذه الأشياء، والجواب
(إنما توعدون لصادق)، قال قوم: المعنى: ورب الذاريات، ورب الجاريات.
قوله تعالى: (فالحاملات وقرا) يعني السحاب التي تحمل وقرها من الماء. (فالجاريات
يسرا) يعني السفن تجري ميسرة في الماء جريا سهلا. (فالمقسمات أمرا) يعني الملائكة
تقسم الأمور على ما أمر الله به. قال ابن السائب: والمقسمات أربعة، جبريل، وهو صاحب الوحي
والغلظة، وميكائيل، وهو صاحب الرزق والرحمة، وإسرافيل، وهو صاحب الصور واللوح،
وعزرائيل، وهو قابض الأرواح. وإنما أقسم بهذه الأشياء لما فيها من الدلالة على صنعه وقدرته.
ثم ذكر المقسم عليه فقال: (إنما توعدون) أي: من الثواب والعقاب يوم القيامة
(لصادق) أي: لحق. (وإن الدين) فيه قولان:
أحدهما: الحساب.
204

والثاني: الجزاء (لواقع) أي: لكائن
ثم ذكر قسما آخر فقال: (والسماء ذات الحبك) وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين:
" الحبك " بكسر الحاء والباء جميعا. وقرأ عثمان بن عفان، والشعبي، وأبو العالية، وأبو حيوة:
" الحبك " بكسر الحاء وإسكان الباء. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو رجاء، وابن أبي
عبلة: " الحبك " برفع الحاء وإسكان الباء. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة: " الحبك " بفتح الحاء
والباء جميعا. وقرأ أبو الدرداء، وأبو الجوزاء، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني، وعاصم
الجحدري: " الحبك " بفتح الحاء وكسر الباء.
ثم في معنى " الحبك " أربعة أقوال. أحدها: ذات الخلق الحسن رواه ابن أبي طلحة عن
ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: البنيان المتقن، قاله مجاهد. والثالث: ذات الزينة، قاله
سعيد بن جبير. وقال الحسن: حبكها: نجومها. والرابع: ذات الطرائق، قاله الضحاك
واللغويون. وقال الفراء: الحبك: تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم
إذا مرت به الريح، والشعرة الجعدة تكسرها حبك، وواحد الحبك: حباك وحبيكة. وقال
الزجاج: أهل اللغة يقولون: الحبك: الطرائق الحسنة، والمحبوك في اللغة: ما أجيد عمله،
وكل ما تراه من الطرائق في الماء وفي الرمل إذا اصابته الريح فهو حبك. وروي عن عبد الله بن
عمرو أنه قال: هذه هي السماء السابعة.
ثم ذكر جواب القسم الثاني، قال: (إنكم) يعني أهل مكة (لفي قول مختلف) في أمر
محمد صلى الله عليه وسلم، بعضكم يقول: شاعر، وبعضكم يقول: مجنون. وفي القرآن، بعضكم يقول:
سحر، وبعضكم يقول: كهانة ورجز، إلى غير ذلك.
(يؤفك عنه من أفك) أي: يصرف عن الإيمان به من صرف فحرمه. والهاء في
" عنه " عائدة إلى القرآن، وقيل: يصرف عن هذا القول، أي: من أجله وسببه عن الإيمان من
صرف. وقرأ قتادة: " من أفك " بفتح الألف والفاء. وقرأ عمرو بن دينار: " من أفك " بفتح
الألف وكسر الفاء.
(قتل الخراصون) قال الفراء: يعني: لعن الكذابون الذين قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر
وكذاب وشاعر، خرصوا ما لا علم لهم به. وفي رواية العوفي عن ابن عباس: أنهم الكهنة. وقال
ابن الأنباري: والقتل إذ أخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول
الهالك.
قوله تعالى: (الذين هم في غمرة) أي: في عمى وجهالة بأمر الآخرة (ساهون) أي:
غافلون. والسهو: الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه. (يسألون أيان يوم الدين) أي:
205

يقولون: يا محمد متى يوم الجزاء؟! تكذيبا منهم واستهزاءا.
ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: (يوم هم على النار) قال الزجاج: " اليوم " منصوب على
معنى: يقع الجزاء يوم هم على النار (يفتنون) أي: يحرقون ويعذبون، ومن ذلك يقال للحجارة
السود التي كأنها قد أحرقت بالنار: الفتين.
قوله تعالى: (ذوقوا) المعنى: يقال لهم: ذوقوا (فتنتكم) وفيها قولان:
أحدهما: تكذيبكم، قاله ابن عباس.
والثاني: حريقكم، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة: ها هنا تم الكلام، ثم ائتنف، فقال:
(هذا الذي كنتم به تستعجلون) قال المفسرون: يعني الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاء.
ثم ذكر ما وعد الله لأهل الجنة فقال: (إن المتقين في جنات وعيون) وقد سبق شرح هذا.
قوله تعالى: (آخذين) قال الزجاج: هو منصوب على الحال، فالمعنى: في جنات
وعيون في حال أخذ (ما آتاهم ربهم) قال المفسرون: أي ما أعطاهم الله من الكرامة (إنهم كانوا
قبل ذلك محسنين) في أعمالهم. وفي الآية وجه آخر: " آخذين ما آتاهم ربهم " أي: عاملين بما
أمرهم به من الفرائض " إنهم كانوا قبل " أن تفرض الفرائض عليهم، " محسنين " أي: مطيعين،
وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مسلم البطين.
ثم ذكر إحسانهم فقال: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) والهجوع: النوم بالليل دون
النهار. وفي " ما " قولان:
أحدهما: النفي. ثم في المعنى قولان: أحدهما: كانوا يسهرون قليلا من الليل. قال أنس
ابن مالك، وأبو العالية: هو ما بين المغرب والعشاء.
والثاني: كانوا ما ينامون قليلا من الليل. واختار قوم الوقف على قوله: " قليلا " على
معنى: كانوا من الناس قليلا، ثم ابتدأ فقال: " من الليل ما يهجعون " على معنى نفي النوم عنهم
البتة، وهذا مذهب الضحاك، ومقاتل.
والقول الثاني: أن " ما " بمعنى الذي، فالمعنى: كانوا قليلا من الليل الذي يهجعونه،
وهذا مذهب الحسن، والأحنف بن قيس، والزهري. وعلى هذا يحتمل أن تكون " ما " زائدة.
قوله تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون) وقد شرحناه.
206

قوله تعالى: (وفي أموالهم حق) أي: نصيب، وفيه قولان:
أحدهما: أنه ما يصلون به رحما، أو يقرون به ضيفا، أو يحملون به كلا، أو يعينون به
محروما، وليس بالزكاة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الزكاة، قاله قتادة، وابن سيرين. قوله تعالى: (للسائل) وهو الطالب. وفي
" المحروم " ثمانية أقوال:
أحدها: أنه الذي ليس له سهم في فئ المسلمين، وهو المحارف، قاله ابن عباس. وقال
إبراهيم: هو الذي لا سهم له في الغنيمة.
والثاني: أنه الذي لا ينمى له شيء، قاله مجاهد، وكذلك قال عطاء: هو المحروم في
الرزق والتجارة.
والثالث: أنه المسلم الفقير، قاله محمد بن علي.
والرابع: أنه المتعفف الذي لا يسأل شيئا، قاله قتادة، والزهري.
والخامس: أنه الذي يجئ بعد الغنيمة، وليس له فيها سهم، قاله الحسن بن محمد ابن
الحنفية.
والسادس: أنه المصاب ثمرته وزرعه أو نسل ماشيته، قاله ابن زيد.
والسابع: أنه المملوك، حكاه الماوردي.
والثامن: أنه الكلب، روي عن عمر بن عبد العزيز، وكان الشعبي يقول: أعياني أن أعلم ما
المحروم. وأظهر الأقوال قول قتادة والزهري، لأنه قرنه بالسائل، والمتعفف لا يسأل - ولا يكاد الناس
يعطون من لا يسأل - ثم يتحفظ بالتعفف من ظهور أثر الفاقة عليه، فيكون محروما من قبل نفسه حين
لم يسأل ومن قبل الناس حين لا يعطونه، وإنما يفطن له متيقظ. وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية
منسوخة بآية الزكاة، ولا يصح.
قوله تعالى: (وفي الأرض آيات) كالجبال والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك (للموقنين)
بالله عز وجل الذين يعرفونه بصنعه.
(وفي أنفسكم) آيات إذ كنتم نطفا ثم عظاما، ثم علقا، ثم مضغا إلى غير ذلك من أحوال
الاختلاف، ثم اختلاف الصور والألوان والطبائع، وتقويم الأدوات، والسمع والبصر والعقل،
وتسهيل سبيل الحدث، إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم. وتم الكلام عند قوله:
" وفي أنفسكم "، ثم قال: (أفلا تبصرون) قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته
على البعث.
207

قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم) وقرأ أبي بن كعب، وحميد، وأبو حصين الأسدي:
" أرزاقكم " براء ساكنة، وبألف بين الزاي والقاف. وقرأ ابن معسود، والضحاك، وأبو نهيك:
" رازقكم " بفتح الراء وكسر الزاي وبألف بينهما. وعن ابن محيصن كهاتين القراءتين. وفيه قولان:
أحدهما: أنه المطر، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وليث عن مجاهد، وهو قول الجمهور.
والثاني: الجنة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
وفي قوله: (ما توعدون) قولان:
أحدهما: أنه الخير والشر كلاهما يأتي من السماء، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وابن أبي
نجيح عن مجاهد.
والثاني: الجنة، رواه ليث عن مجاهد، قال أبو عبيدة: في هذه الآية مضمر مجازه: عند من
في السماء رزقكم، وعنده ما توعدون، والعرب تضمر، قال نابغة ذبيان:
كأنك من جمال بني أقيش * يقعقع خلف رجليه بشن
أراد: كأنك جمل من جمال بني أقيش.
قوله تعالى: (إنه لحق) قال الزجاج: يعني ما ذكره من أمر الآيات والرزق وما توعدون وأمر
النبي صلى الله عليه وسلم (مثل ما أنكم تنطقون) قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " مثل " برفع اللام.
وقرأ الباقون بنصب اللام. قال الزجاج: فمن رفع " مثل " فهي من صفة الحق، والمعنى: إنه لحق
مثل نطقكم، ومن نصب فعلى ضربين.
أحدهما: أن يكون في موضع رفع، إلا أنه لما أضيف إلى " أن " فتح.
والثاني: أن يكون منصوبا على التأكيد، على معنى: إنه لحق حقا مثل نطقكم، وهذا الكلام
كما تقول: إنه لحق كما أنك تتكلم.
هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام
قوم منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين (26) فقربه إليهم قال ألا تأكلون (27)
فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم (28) فأقبلت امرأته في صرة
فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم (29) قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم (30)
* قال فما خطبكم أيها المرسلون (31) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (32) لنرسل
208

عليهم حجارة من طين (33) مسومة عند ربك للمسرفين (34) فأخرجنا من كان فيها من
المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (36) وتركنا فيها آية للذين يخافون
العذاب الأليم (37)
قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) " هل " بمعى " قد " في قول ابن
عباس، ومقاتل، فيكون المعنى: قد أتاك فاستمع نقصصه عليك، وضيفه: هم الذين جاؤوا بالبشرى.
وقد ذكرنا عددهم في هود وذكرنا هناك معنى الضيف.
وفي معنى " المكرمين " أربعة أقوال:
أحدها: لأنه أكرمهم بالعجل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
والثاني: بأن خدمهم هو وامرأته بأنفسهما، قاله السدي.
والثالث: أنهم مكرمون عند الله، قاله عبد العزيز بن يحيى.
والرابع: لأنهم أضياف، والأضياف مكرمون، قاله أبو بكر الوراق.
قوله تعالى: (فقالوا سلاما) قد ذكرناه في هود.
قوله تعالى: (قوم منكرون) قال الزجاج: ارتفع على معنى: أنتم قوم منكرون. وللمفسرين
في سبب إنكارهم أربعة أقوال:
أحدها: لأنه لم يعرفهم، قاله ابن عباس.
والثاني: لأنهم سلموا عليه، فأنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض، قاله أبو
العالية.
والثالث: لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان.
والرابع: لأنه رأى فيهم صورة البشر وصورة الملائكة.
قوله تعالى: (فراغ إلى أهله) قال ابن قتيبة: أي: عدل إليهم في خفية، ولا يكون الرواغ إلا
أن تخفي ذهابك ومجيئك.
قوله تعالى: (فجاء بعجل سمين) وكان مشويا (فقربه إليهم) قال الزجاج: والمعنى: فقربه
إليهم ليأكلوا منه، فلم يأكلوا، فقال: (ألا تأكلون)؟! على النكير، أي: أمركم في ترك الأكل مما
أنكره.
قوله تعالى: (فأوجس منهم خيفة) قد شرحناه في هود. وذكرنا معنى: " غلام عليم " في
الحجر.
209

(فأقبلت امرأته) وهي: سارة. قال الفراء وابن قتيبة: لم تقبل من موضع إلى موضع، وإنما
هو كقولك: أقبل يشتمني، وأقبل يصيح ويتكلم أي: أخذ في ذلك، والصرة: الصيحة. وقال أبو
عبيدة: الصرة: شدة الصوت. وفيما قالت في صيحتها قولان:
أحدهما: أنها تأوهت، قاله قتادة.
والثاني: أنها قالت: يا ويلتا، ذكره الفراء.
قوله تعالى: (فصكت وجهها) فيه قولان.
أحدهما: لطمت وجهها، قاله ابن عباس.
والثاني: ضربت جبينها تعجبا، قاله مجاهد، ومعن الصك، ضرب الشيء بالشيء العريض.
(وقالت عجوز) قال الفراء: هذا مرفوع بإضمار " أتلد عجوز " وقال الزجاج: المعنى: أنا
عجوز عقيم، فكيف ألد؟! وقد ذكرنا معنى " العقيم " في هود.
(قالوا كذلك قال ربك) أنك ستلدين غلاما، والمعنى: إنما نخبرك عن الله عز وجل وهو
حكيم عليم يقدر أن يجعل العقيم ولودا، فعلم حينئذ إبراهيم أنهم ملائكة.
(قال فما خطبكم) مفسر في الحجر.
قوله تعالى: (حجارة من طين) قال ابن عباس: هو الآجر
قوله تعالى: (مسومة عند ربك) قد شرحناه في هود.
قوله تعالى: (للمسرفين) قال ابن عباس: للمشركين.
قوله تعالى: (فأخرجنا من كان فيها) أي: من قرى لوط (من المؤمنين) وذلك قوله تعالى:
(فأسر بأهلك...) الآية:.
(فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) وهو لوط وابنتاه، وصفهم الله عز وجل بالإيمان
والإسلام، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم.
(وتركنا فيها آية) أي: علامة للخائفين من عذاب الله تدلهم على أن الله أهلكهم. وقد شرحنا
هذا في العنكبوت وبينا المكني عنها.
وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين (38) فتولى بركنه وقال ساحر أو
210

مجنون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم (40) وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح
العقيم (41) ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم (42) وفي ثمود إذ قيل لهم
تمتعوا حتى حين (43) فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون (44) فما استطاعوا
من قيام وما كانوا منتصرين (45) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين (46) والسماء
بنيناها بأييد وإنا لموسعون (47) والأرض فرشناها فنعم الماهدون (48) ومن كل شئ
خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49) ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين (50) ولا تجعلوا مع
الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين (51)
قوله تعالى: (وفي موسى) أي: وفيه أيضا آية (إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين) أي:
بحجة ظاهرة (فتولى) أي: أعرض (بركنه) قال مجاهد: بأصحابه. وقال أبو عبيدة: " بركنه "
و " بجانبه " سواء، إنما هي ناحيته (وقال - ساحر): قال لموسى: هذا ساحر (أو مجنون) وكان أبو
عبيدة يقول: " أو " بمعنى الواو. فأما " اليم " فقد ذكرناه في الأعراف و " مليم " في الصافات.
قوله تعالى: (وفي عاد) أي: في إهلاكهم آية أيضا (إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم)
وهي التي لا خير فيها ولا بركة، لا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا، وإنما هي للإهلاك. وقال سعيد
ابن المسيب: هي الجنوب.
(ما تذر من شيء أتت عليه) أي: من أنفسهم وأموالهم (إلا جعلته كالرميم) أي: كالشئ
الهالك البالي قال الفراء: الرميم: نبات الأرض إذا يبس وديس. وقال الزجاج: الرميم: الورق
الجاف المتحطم مثل الهشيم.
(وفي ثمود) آية أيضا (إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين) فيه قولان:
أحدهما: أنه قيل لهم: تمتعوا في الدنيا إلى وقت انقضاء آجالكم تهددا لهم.
والثاني: أن صالحا قال لهم بعد عقر الناقة: تمتعوا ثلاثة أيام: فكان الحين وقت فناء آجالهم،
211

(فعتوا عن أمر ربهم) قال مقاتل: عصوا أمره (فأخذتهم الصاعقة) يعني العذاب، وهو الموت من
صيحة جبريل. وقرأ الكسائي وحده: " الصعقة " بسكون العين من غير ألف، وهي الصوت الذي
يكون عن الصاعقة.
قوله تعالى: (وهم ينظرون) فيه قولان:
أحدهما: يرون ذلك عيانا. والثاني: وهم ينتظرون العذاب، فأتاهم صيحة يوم السبت.
قوله تعالى: (فما استطاعوا من قيام) فيه قولان:
أحدهما: ما استطاعوا نهوضا من تلك الصرعة.
والثاني: ما أطاقوا ثبوتا لعذاب الله (وما كانوا منتصرين): أي ممتنعين من العذاب.
قوله تعالى: (وقوم نوح من قبل) قرأ أبو عمرو إلا عبد الوارث، وحمزة، والكسائي:
بخفض الميم، وروى عبد الوارث رفع الميم. والباقون بنصبها. قال الزجاج: من خفض القوم
فالمعنى: وفي قوم نوح آية، ومن نصب فهو عطف على معنى قوله: " فأخذتهم الصاعقة " فإن
معناه: أهلكناهم، فيكون المعنى: وأهلكنا قوم نوح، والأحسن - والله أعلم - أن يكون محمولا على
قوله: " فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم " لأن المعنى: أغرقناه، وأغرقنا قوم نوح.
(والسماء بنيناها) المعنى: وبنينا السماء بنيناها (بأيد) أي: بقوة، وكذلك قال ابن عباس،
ومجاهد، وقتادة، وسائر المفسرين واللغويين: " بأيد " أي: بقوة. وفي قوله: (وإنا لموسعون)
خمسة أقوال:
أحدها: لموسعون الرزق بالمطر، قاله الحسن. والثاني: لموسعون السماء، قاله ابن زيد.
والثالث: لقادرون، قاله ابن قتيبة. والرابع: لموسعون ما بين السماء والأرض قاله الزجاج.
والخامس: لذو سعة لا يضيق عما يريد، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (والأرض فرشناها فنعم الماهدون) قال الزجاج: هذا عطف على ما قبله
منصوب بفعل مضمر محذوف يدل عليه قوله: " فرشناها "، فالمعنى فرشنا الأرض فرشناها " فنعم
الماهدون " أي: فنعم الماهدون نحن. قال مقاتل: " فرشناها " أي: بسطناها مسيرة خمسمائة عام،
وهذا بعيد، وقد قال قتادة: الأرض عشرون ألف فرسخ، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين) أي: صنفين ونوعين كالذكر والأنثى، والبر
والبحر والليل والنهار، والحلو والمر، والنور والظلمة، وأشباه ذلك (لعلكم تذكرون) فتعلموا أن
خالق الأزواج واحد.
(ففروا إلى الله) بالتوبة من ذنوبكم، والمعنى: اهربوا مما يوجب العقاب من الكفر
212

والعصيان إلى ما وجب الثواب من الطاعة والإيمان.
كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52) أتواصوا به بل
هم قوم طاغون (53) فتول عنهم فما أنت بملوم (54) وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (55)
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن
يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58) فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب
أصحابهم فلا يستعجلون (59) فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون (60)
قوله تعالى: (كذلك) أي: كما كذبك قومك وقالوا: ساحر أو مجنون كانوا من قبلك يقولون
للأنبياء.
قوله تعالى: (أتواصوا به) أي: أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب؟، وهذا استفهام توبيخ.
وقال أبو عبيدة: أتواطؤوا عليه فأخذه بعضهم من بعض؟!
قوله تعالى: (بل هم قوم طاغون) أي: يحملهم الطغيان فيما أعطوا من الدنيا على
التكذيب، والمشار إليهم أهل مكة.
(فتول عنهم) فقد بلغتهم (فما أنت) عليهم (بملوم) لأنك قد أديت الرسالة. ومذهب
أكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة ولهم في ناسخها قولان:
أحدهما: أنه قوله: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين). والثاني: آية السيف. وفي
قوله: " وذكر " قولان: أحدهما: عظ، قاله مقاتل. والثاني: ذكرهم بأيام الله وعذابه ورحمته، قاله
الزجاج.
قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) أثبت الياء في " يعبدون " و " يطعمون "
و " لا يستعجلون " في الحالين يعقوب. واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال:
أحدها: إلا لآمرهم أن يعبدوني، قاله علي بن أبي طالب، واختاره الزجاج،.
والثاني: إلا ليقروا بالعبودية طوعا وكرها، قاله ابن عباس، وبيان هذا قوله: (ولئن سألتهم من
خلقهم ليقولن الله).
والثالث: أنه خاص في حق المؤمنين. قال سعيد بن المسيب: ما خلقت من يعبدني إلا
213

ليعبدني. وقال الضحاك. والفراء. وابن قتيبة: هذا خاص لأهل طاعته، وهذا اختيار القاضي أبي
يعلى فإنه قال: معنى هذا الخصوص لا العموم، لأن البله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت
الخطاب وإن كانوا من الإنس، فكذلك الكفار يخرجون من هذا بدليل قوله: (ولقد ذرأنا لجهنم
كثيرا من الجن والإنس)، فمن خلق للشقاء ولجهنم، لم يخلق للعبادة.
والرابع: إلا ليخضعوا إلي ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد. وكل الخلق
خاضع ذليل لقضاء الله عز وجل، يملك خروجا عما قضاه الله عز وجل، هذا مذهب جماعة من أهل
المعاني.
قوله تعالى: (ما أريد منهم من رزق) أي: ما أريد أن يرزقوا أنفسهم (وما أريد أن
يطعمون) أي أن يطعموا أحدا من خلقي، لأني أنا الرزاق. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق
عيال الله، ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه. وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " يقول الله عز وجل يوم القيامة. يا ابن آدم: استطعمتك فلم تطعمني "، أي: لم تطعم
عبدي.
فأما (الرزاق) فقرأ الضحاك، وابن محيصن: " الرازق " بوزن " العالم ". قال الخطابي: هو
المتكفل بالرزق القائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها. (والمتين) الشديد القوة الذي لا تنقطع
قوته ولا يلحقه في أفعاله مشقة. وقد روى قتيبة عن الكسائي أنه قرأ: " المتين " بكسر النون. وكذا
قرأ أبو رزين، وقتادة، وأبو العالية، والأعمش. قال الزجاج: (ذو القوة المتين) أي: ذو الاقتدار
الشديد، ومن رفع " المتين " فهو صفة الله عز وجل، ومن خفضه جعله صفة للقوة، لأن تأنيث القوة
كتأنيث الموعظة، فهو كقوله: (فمن جاءه موعظة من ربه).
قوله تعالى: (فإن للذين ظلموا) يعني مشركي مكة (ذنوبا) أي: نصيبا من العذاب (مثل
ذنوب أصحابهم) الذين أهلكوا، كقوم نوح وعاد وثمود. قال الفراء: الذنوب في كلام العرب:
الدلو العظيمة، ولكن العرب تذهب بها إلى النصيب والحظ، قال الشاعر:
لنا ذنوب ولكم ذنوب * فإن أبيتم فلنا القليب
والذنوب، يذكر ويؤنث. وقال ابن قتيبة، أصل الذنوب: الدلو العظيمة، وكانوا يستقون،
فيكون لكل واحد ذنوب، فجعل " الذنوب " مكان " الحظ والنصيب ".
قوله تعالى: (فلا يستعجلون) أي: بالعذاب إن أخروا إلى يوم القيامة، وهو يومهم الذي
يوعدون، ويقال: هو يوم بدر.
214

(52) سورة الطور مكية
وآياتها تسع وأربعون
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
والطور (1) وكتاب مسطور (2) في رق منشور (3) والبيت المعمور (4) والسقف
المرفوع (5) والبحر المسجور (6) إن عذاب ربك لواقع (7) ما له من دافع (8) يوم
تمور السماء مورا (9) وتسير الجبال سيرا (10) فويل يومئذ للمكذبين (11) الذين هم في
خوض يلعبون (12) يوم يدعون إلى نار جهنم دعا (13) هذه النار التي كنتم بها تكذبون (14)
أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون (15) اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما
تجزون ما كنتم تعملون (16)
قوله تعالى: (والطور) هذا قسم بالجبل الذي كلم الله عز وجل عليه موسى عليه السلام،
وهو بأرض مدين واسمه زبير.
(وكتاب مسطور) أي: مكتوب، وفيه أربعة أقوال:
215

أحدها: أنه اللوح المحفوظ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: كتب أعمال بني آدم، قاله مقاتل، والزجاج.
والثالث: التوراة.
والرابع: " القرآن " حكاهما الماوردي.
قوله تعالى: (في رق) قال أبو عبيدة: الرق: الورق. فأما المنشور فهو المبسوط.
قوله تعالى: (والبيت المعمور) فيه قولان:
أحدهما: أنه بيت في السماء. وفي أي سماء هو؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه في السماء السابعة، رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث مالك بن صعصعة الذي
أخرج في " الصحيحين " يدل عليه.
والثاني: أنه في السماء السادسة، قاله علي رضي الله عنه.
والثالث: أنه في السماء الدنيا، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: هو حيال
الكعبة يحجه كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون فيه حتى تقوم الساعة، يسمى الضراح. وقال
الربيع بن أنس: كان البيت المعمور مكان الكعبة في زمان آدم، فلما كان زمن نوح أمر الناس
بحجه، فعصوه فلما طغى الماء رفع فجعل بحذاء البيت في السماء الدنيا.
والثاني: أنه البيت الحرام، قاله الحسن: وقال أبو عبيدة: ومعنى " المعمور " الكثير
الغاشية.
قوله تعالى: (والسقف المرفوع) فيه قولان:
أحدهما: أنه السماء، قاله علي رضي الله عنه والجمهور.
والثاني: العرش، قاله الربيع.
قوله تعالى: (والبحر) فيه قولان.
أحدهما: أنه بحر تحت العرش ماؤه غليظ يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا
فينبتون في قبورهم، قاله علي رضي الله عنه.
والثاني: أنه بحر الأرض، ذكره الماوردي. وفي (المسجور) أربعة أقوال:
أحدها: المملوء، قاله الحسن، وأبو صالح، وابن السائب، وجميع اللغويين.. والثاني: أنه الموقد، قاله مجاهد، وابن زيد. وقال شمر بن عطية: هو بمنزلة التنور
المسجور.
والثالث: أنه اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب، قاله أبو العالية. وروي عن الحسن، قال:
تسجر، يعني البحار، حتى يذهب ماؤها، فلا يبقى فيها قطرة. وقول هذين يرجع إلى معنى قول
مجاهد. وقد نقل في الحديث أن الله تعالى يجعل البحار كلها نارا، فتزاد في نار جهنم.
216

والرابع: أن " المسجور " المختلط عذبه بملحه، قاله الربيع بن أنس. فأقسم الله تعالى بهذه
الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن تعذيب المشركين حق، فقال: (إن عذاب ربك
لواقع) أي: لكائن في الآخرة. ثم بين متى يقع، فقال: (يوم تمور السماء مورا) وفيه ثلاثة
أقوال:
أحدها: تدور دورا " رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وهو اختيار الفراء وابن
قتيبة والزجاج ".
والثاني: تحرك تحركا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وقال أبو عبيدة
" تمور " أي: تكفأ، وقال الأعشى.
كأن مشيتها من بيت جارتها * مور السحابة لا ريث ولا عجل
والثالث: يموج بعضها في بعض لأمر الله تعالى، قاله الضحاك. وما بعد هذا قد سبق بيانه
إلى قوله: (الذين هم في خوض يلعبون) أي: يخوضون في حديث محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب
والاستهزاء، ويلهون بذكره، فالويل لهم.
(يوم يدعون) قال ابن قتيبة: أي: يدفعون، يقال: دععته أدعه، أي: دفعته، ومنه قوله
(يدع اليتيم) قال ابن عباس: يدفع في أعناقهم حتى يردوا النار. وقال مقاتل: تغل أيديهم إلى
أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون إلى جهنم على وجوههم، حتى إذا دنوا منها
قالت لهم خزنتها: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون) في الدنيا (فأسحر هذا) العذاب الذي
ترون؟ فإنكم زعمتم أن الرسل سحرة (أم أنتم لا تبصرون) النار؟ فلما ألقوا فيها قال لهم خزنتها:
(اصلوها). وقال غيره: لما نسبوا محمد صلى الله عليه وسلم إلى أنه ساحر يغطي على الأبصار بالسحر، وبخوا
عند رؤية النار بهذا التوبيخ، وقيل: (اصلوها) أي: قاسوا شدتها (فاصبوا) على العذاب (أو
لا تصبروا سواء عليكم) الصبر والجزع (إنما تجزون) جزاء (ما كنتم تعملون) من الكفر
والتكذيب.
إن المتقين في جنات ونعيم (17) فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب
الجحيم (18) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (19) متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم
بحور عين (20)
217

ثم وصف ما للمؤمنين بما بعد هذا، وقوله: (فاكهين) قرئت بألف وبغير ألف. وقد شرحناها
في يس، (ووقاهم) أي: صرف عنهم و (الجحيم) مذكور في البقرة.
(كلوا) أي: يقال لهم: كلوا (واشربوا هنيئا) تأمنون حدوث المرض عنه. قال الزجاج:
المعنى: ليهنكم ما صرتم إليه، وقد شرحنا هذا في سورة النساء. ثم ذكر حالهم عند أكلهم
وشربهم، فقال: (متكئين على سرر) وقال ابن جرير: فيه محذوف تقديره: على نمارق على
سرر، وهي جمع سرير (مصفوفة) قد وضع بعضها إلى جنب بعض. وباقي الآية مفسر في سورة
الدخان.
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم
من شئ كل امرئ بما كسب رهين (21) وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون (22)
يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم (23) * ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ
مكنون (24) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (25) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا
مشفقين (26) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم (27) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر
الرحيم (28)
قوله تعالى: (وأتبعناهم ذرياتهم) قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي،: " واتبعتهم "
بالتاء " ذريتهم " واحدة (بهم ذريتهم) واحدة أيضا. وقرأ نافع: " واتبعتهم ذريتهم " واحد " بهم
ذرياتهم " جمعا. وقرأ ابن عامر: " وأتبعناهم ذرياتهم " " بهم ذرياتهم " جمعا في الموضعين. واختلفوا
في تفسيرها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناها: واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم من المؤمنين في الجنة،
وإن كانوا لم يبلغوا أعمال آبائهم، تكرمة من الله تعالى لآبائهم المؤمنين باجتماع أولادهم معهم،
روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: واتبعتهم ذريتهم بإيمان، أي: بلغت أن آمنت، ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين
218

لم يبلغوا الإيمان. وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. ومعنى هذا القول،
أن أولادهم الكبار، تبعوهم بإيمان منهم، وأولادهم الصغار تبعوهم بإيمان الآباء، لأن الولد يحكم
له بالإسلام تبعا لوالده.
والثالث: " وأتبعناهم ذرياتهم " بإيمان الآباء فأدخلناهم الجنة، وهذا مروي عن ابن عباس
أيضا..
قوله تعالى: (وما ألتناهم) قرأ نافع: وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم وحمزة، والكسائي:
" وما ألتناهم " بالهمزة وفتح اللام. وقرأ ابن كثير: " وما ألتناهم " بكسر اللام. وروى ابن شنبوذ عن
قنبل عنه " ومالتناهم " بإسقاط الهمزة مع كسر اللام. وقرأ أبو العالية، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ
بإسقاط الهمزة مع فتح اللام. وقرأ ابن السميفع " وما آلتناهم " بمد الهمزة وفتحها. وقرأ الضحاك،
وعاصم الجحدري: " وما ولتناهم " بواو مفتوحة من غير همزة وبنصب اللام. وقرأ ابن مسعود، وأبو
المتوكل: " وما ألتهم " مثل جعلتهم. وقد ذكرنا هذه الكلمة في الحجرات والمعنى: ما نقصنا
الآباء بما أعطينا الذرية.
(كل امرئ بما كسب رهين) أي: مرتهن بعمله لا يؤاخذ أحد بذنب أحد. وقيل: هذا
الكلام يختص بصفة أهل النار، وذلك الكلام قد تم.
قوله تعالى: (وأمددناهم) قال ابن عباس: هي الزيادة على الذي كان لهم، قوله تعالى: (يتنازعون) قال أبو عبيدة: أي: يتعاطون ويتداولون، وأنشد الأخطل:
نازعته طيب الراح الشمول وقد * صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
قال الزجاج: يتناول هذا الكأس من يد هذا، وهذا من يد هذا. فأما الكأس فقد شرحناها في
الصافات.
قوله تعالى: (لا لغو فيها ولا تأثيم) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " لا لغو فيها ولا تأثيم " نصبا
وقرأ الباقون: " لا لغو فيها ولا تأثيم " رفعا منونا، قال ابن قتيبة: أي: لا تذهب بعقولهم فيلغوا ويرفثوا
فيأثموا. كما يكون ذلك في خمر الدنيا. وقال غيره: التأثيم: تفعيل من الإثم، يقال: آثمه: إذا
جعله ذا إثم. والمعنى أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين.
(ويطوف عليهم) للخدمة (غلمان لهم كأنهم) في الحسن والبياض (لؤلؤ مكنون) أي:
مصون لم تمسه الأيدي. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا نبي الله، هذا الخادم، فكيف المخدوم؟
219

فقال: " إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ".
قوله تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) قال ابن عباس: يتذاكرون ما كانوا فيه في
الدنيا من الخوف والتعب، وهو قوله: (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا) أي: في دار الدنيا (مشفقين)
أي: خائفين من العذاب، (فمن الله علينا) بالمغفرة (ووقانا عذاب السموم) أي: عذاب النار.
وقال الحسن: السموم من أسماء جهنم. وقال غيره: سموم: جهنم. وهو ما يوجد من نفحها
وحرها، (إنا كنا من قبل ندعوه) أي: نوحده ونخلص له (إنه هو البر) وقرأ نافع، والكسائي:
" أنه " بفتح الهمزة. وفي معنى " البر " ثلاثة أقوال:
أحدها: الصادق فيما وعد، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: اللطيف، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عم ببره جميع خلقه، قاله أبو سليمان
الخطابي.
فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون (29) أم يقولون شاعر نتربص به
ريب المنون (30) قل تربصوا فإني معكم من المتربصين (31) أم تأمرهم أحلامهم
بهذا أم هم قوم طاغون (32) أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون (33) فليأتوا بحديث
مثله إن كانوا صادقين (34)
قوله تعالى: (فذكر) أي: فعظ بالقرآن (فما أنت بنعمة ربك) أي: بإنعامه عليك بالنبوة
(بكاهن) وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويخبر عما في غد من غير وحي. والمعنى: إنما تنطق
بالوحي لا كما يقول فيك كفار مكة.
(أم يقولون شاعر) أي: هو شاعر. وقال أبو عبيدة: " أم " بمعنى " بل "، قال الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا
لم يستفهم، إنما أوجب أنه رأى.
قوله تعالى: (نتربص به ريب المنون) فيه قولان:
أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس.
220

والثاني: حوادث الدهر، قاله مجاهد، قال ابن قتيبة: حوادث الدهر وأوجاعه ومصائبه،
و " المنون " الدهر، قال أبو ذؤيب.
أمن المنون وريبه تتوجع * والدهر ليس بمعتب من يجزع
هكذا أنشدناه أصحاب الأصمعي عنه، وكان يذهب إلى أن المنون الدهر، قال: وقوله
" والدهر ليس بمعتب " يدل على ذلك، كأنه قال: " أمن الدهر وريبه تتوجع؟! " قال الكسائي: العرب
تقول: لا أكلمك آخر المنون، أي: آخر الدهر.
قوله تعالى: (قل تربصوا) أي: انتظروا بي ذلك (فإني معكم من المتربصين) أي: من
المنتظرين عذابكم، فعذبوا يوم بدر بالسيف. وبعض المفسرين يقول: هذا منسوخ بآية السيف،
ولا يصح، إذ لا تضاد بين الآيتين.
قوله تعالى: (أم تأمرهم أحلامهم بهذا) قال المفسرون: كانت عظماء قريش توصف
بالأحلام، وهي العقول، فأزرى الله بحلومهم، إذ لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل. وقيل لعمرو
ابن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقول؟! فقال: تلك عقول كادها
بارئها، أي: لم لم يصحبها التوفيق. وفي قوله: " أم تأمرهم " وقوله (أم هم) قولان:
أحدهما: أنهما بمعنى " بل " قاله أبو عبيدة.
والثاني: بمعنى ألف الاستفهام، قاله الزجاج: قال: والمعنى: أتأمرهم أحلامهم بترك القبول
ممن يدعوهم إلى التوحيد ويأتيهم على ذلك بالدلائل، أم يكفرون طغيانا وقد ظهر لهم الحق؟!
وقال ابن قتيبة: المعنى: أم تدلهم عقولهم على هذا؟! لأن الحلم يكون بالعقل، فكنى عنه به.
قوله تعالى: (أم يقولون تقوله) أي: افتعل القرآن، من تلقاء نفسه؟ والتقول: تكلف القول،
ولا يستعمل إلا في الكذب (بل) أي: ليس الأمر كما زعموا (لا يؤمنون) بالقرآن، استكبارا.
(فليأتوا بحديث مثله) في نظمه وحسن بيانه، وقرأ أبو رجاء، وأبو نهيك، ومورق العجلي،
وعاصم الجحدري: " بحديث مثله " بغير تنوين (إن كانوا صادقين) أن محمدا تقوله.
أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا
يوقنون (36) أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون (37) أم لهم سلم يستمعون
فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين (38) أم له البنات ولكم البنون (39) أم تسئلهم
221

أجرا فهم من مغرم مثقلون (40) أم عندهم الغيب فهم يكتبون (41) أم يريدون كيدا فالذين
كفروا هم المكيدون (42) أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون (43)
قوله تعالى: (أم خلقوا من غير شئ) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أم خلقوا من غير رب خالق؟ والثاني: أم خلقوا من غير آباء ولا أمهات، فهم كالجماد
لا يعقلون؟ والثالث: أم خلقوا من غير شيء كالسماوات والأرض؟ أي: إنهم ليسوا بأشد خلقا من
السماوات والأرض. لأنها خلقت من غير شئ، وهم خلقوا من آدم، وآدم من تراب. والرابع: أم
خلقوا لغير شيء؟ فتكون " من " بمعنى اللام. والمعنى: ما خلقوا عبثا فلا يؤمرون ولا ينهون.
قوله تعالى: (أم هم الخالقون) فلذلك لا يأتمرون ولا ينتهون؟ لأن الخالق لا يؤمر ولا ينهى.
قوله تعالى: (بل لا يوقنون) بالحق، وهو توحيد الله وقدرته على البعث.
قوله تعالى: (أم عندهم خزائن ربك) فيه ثلاثة أقوال: أحدها: المطر والرزق، قاله ابن
عباس. والثاني: النبوة، قاله عكرمة. والثالث: علم ما يكون من الغيب، ذكره الثعلبي، وقال
الزجاج: المعنى: أعندهم ما في خزائن ربك من العلم، وقيل: من الرزق، فهم معرضون عن ربهم
لاستغنائهم؟!.
قوله تعالى: (أم هم المصيطرون) قرأ ابن كثير: " المسيطرون) بالسين. وقال ابن عباس:
المسلطون. قال أبو عبيدة: " المصيطرون ": الأرباب. يقال تسيطرت علي، اتخذتني خولا، قال:
ولم يأت في كلام العرب اسم على " مفيعل " إلا خمسة أسماء: مهيمن، ومجيمر، ومسيطر،
ومبيطر، ومبيقر، فالمهيمن: الله الناظر المحصي الذي لا يفوته شيء، ومجيمر: جبل: والمسيطر:
المسلط، ومبيطر: بيطار، والمبيقر: الذي يخرج من أرض إلى أرض، يقال: بيقر: إذا خرج من بلد
إلى بلد، قال امرؤ القيس:
ألا هل أتاها والحوادث جمة * بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا؟
قال الزجاج: المسيطرون: الأرباب المسلطون، يقال: قد تسيطر علينا وتصيطر: بالسين
والصاد، والأصل السين، وكل سين بعدها طاء، فيجوز أن تقلب صادا، تقول: سطر وصطر، وسطا
علينا وصطا. قال المفسرون: معنى الكلام: أم هم الأرباب فيفعلون ما شاؤوا ولا يكونون تحت
أمر ولا نهى؟!
قوله تعالى: (أم لهم سلم) أي: مرقى ومصعد إلى السماء (يستمعون فيه) أي: عليه
222

الوحي، كقوله: (في جذوع النخل)، فالمعنى يستمعون الوحي فيعلمون أن ما هم عليه حق
(فليأت مستمعهم) إن ادعى ذلك (بسلطان مبين) أي، بحجة واضحة كما أتى محمد بحجة على
قوله.
(أم له البنات ولكم البنون) هذا إنكار عليهم حين جعلوا لله البنات.
(أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون) أي: هل سألتهم أجرا على ما جئت به، فأعلم
ذلك الذي تطلبه منهم فمنعهم عن الإسلام؟ والمغرم بمعنى الغرم، وقد شرحناه في براءة.
قوله تعالى: (أم عندهم الغيب) هذا جواب لقولهم: " نتربص به ريب المنون "، والمعنى:
أعندهم الغيب؟ وفيه قولان:
أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، (فهم يكتبون) ما فيه ويخبرون الناس. قاله ابن عباس.
والثاني: أعندهم علم الغيب فيعلمون أن محمدا يموت قبلهم (فهم يكتبون) أي، يحكمون
فيقولون: سنقهرك. والكتاب: الحكم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " سأقضي بينكما بكتاب الله " أي:
بحكم الله عز وجل، وإلى هذا المعنى: ذهب ابن قتيبة.
قوله تعالى: (أم يريدون كيدا) وهو ما كانوا عزموا عليه في دار الندوة، وقد شرحنا ذلك في
قوله: " وإذ يمكر بك الذين كفروا " ومعنى (هم المكيدون) هم المجزيون بكيدهم، لأن ضرر
ذلك عاد عليهم فقتلوا ببدر وغيرها.
(أم لهم إله غير الله) أي ألهم إله يرزقهم ويحفظهم غير الله؟ والمعنى أن الأصنام ليست
بآلهة، لأنها لا تنفع ولا تدفع. ثم نزه نفسه عن شركهم بباقي الآية.
223

وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم (44) فذرهم حتى يلاقوا يومهم
الذي فيه يصعقون (45) يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون (46) وإن للذين
ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون (47) واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا
وسبح بحمد ربك حين تقوم (48) ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم (49)
ثم ذكر عنادهم فقال: (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا) والمعنى لو سقط بعض السماء
عليهم، لما انتهوا عن كفرهم، ولقالوا: هذه قطعة من السحاب قد ركم بعضه على بعض.
(فذرهم) أي خل عنهم (حتى يلاقوا) قرأ أبو جعفر " يلقوا " بفتح الياء والقاف وسكون اللام
من غير ألف (يومهم) وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يوم موتهم.
والثاني: يوم القيامة.
والثالث: يوم النفخة الأولى.
قوله تعالى: (يصعقون) قرأ عاصم، وابن عامر: " يصعقون " برفع الياء، من أصعقهم غيرهم،
والباقون بفتحها، من صعقوا هم. وفي قوله: (يصعقون) قولان:
أحدهما: يموتون.
والثاني: يغشى عليهم، كقوله: (وخر موسى صعقا)، وهذا يخرج على قول من قال: هو
يوم القيام، فإنهم يغشى عليهم من الأهوال. وذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا
يصح، لأن معنى الآية الوعيد.
قوله تعالى: (يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا) هذا اليوم الأول: والمعنى: لا ينفعهم
مكرهم، ولا يدفع عنهم العذاب (ولا هم ينصرون) أي: يمنعون من العذاب:
قوله تعالى: (وإن للذين ظلموا) أي: أشركوا (عذابا دون ذلك) أي: قبل ذلك اليوم، وفيه
أربعة أقوال:
أحدها: أنه عذاب القبر، قاله البراء، وابن عباس.
والثاني: عذاب القتل يوم بدر، وروي عن ابن عباس أيضا، وبه قال مقاتل.
224

والثالث: مصائبهم في الدنيا، قاله الحسن، وابن زيد.
والرابع: عذاب الجوع، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي: لا يعلمون ما هو نازل بهم.
(واصبر لحكم ربك) أي: لما يحكم به عليك (فإنك بأعيننا) قال الزجاج: فإنك بحيث
نراك ونحفظك ونرعاك، فلا يصلون إلى مكروهك. وذكر المفسرون: أن معنى الصبر نسخ بآية
السيف، ولا يصح، لأنه لا تضاد. (وسبح بحمد ربك حين تقوم) فيه ستة أقوال:
أحدها: صل لله حين تقوم من منامك، قاله ابن عباس.
والثاني: قل: " سبحانك اللهم وبحمدك " حين تقوم من مجلسك، قاله عطاء، وسعيد بن
جبير، ومجاهد في آخرين.
والثالث: قل: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " حين تقوم
في الصلاة، قاله الضحاك.
والرابع: سبح الله إذا قمت من نومك، قاله حسان بن عطية.
والخامس: صل صلاة الظهر إذا قمت من نوم القائلة، قاله زيد بن أسلم.
والسادس: اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة، قاله ابن
السائب.
قوله تعالى: (ومن الليل فسبحه) قال مقاتل: صل المغرب وصل العشاء (وإدبار النجوم)
قرأ زيد عن يعقوب، وهارون عن أبي عمرو، والجعفي عن أبي بكر: " وأدبار النجوم " بفتح
الهمزة، وقرأ الباقون بكسرها وقد شرحناها في ق، والمعنى: صل له في إدبار النجوم، أي:
حين تدبر، أي: تغيب بضوء الصبح. وفي هذه الصلاة قولان:
أحدها: أنها الركعتان قبل صلاة الفجر، رواه علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول
الجمهور.
والثاني: أنها صلاة الغداة، قاله الضحاك، وابن زيد.
225

(53) سورة النجم مكية
وآياتها ثنتان وستون
وهي مكية بإجماعهم
إلا أنه قد حكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إلا آية منها، وهي " الذين يجتنبون كبائر
الإثم " وكذلك قال مقاتل، قال: وهذه أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
بسم الله الرحمن الرحيم
والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو
إلا وحي يوحى (4)
قوله تعالى: (والنجم إذا هوى) هذا قسم. وفي المراد بالنجم خمسة أقوال:
أحدها: أنه الثريا، رواه العوفي عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. قال ابن قتيبة:
والعرب تسمي الثريا - وهي ستة أنجم - نجما. وقال غيره: هي سبعة، فستة ظاهرة وواحد خفي
يمتحن به الناس أبصارهم..
والثاني: الرجوم من النجوم، يعني ما يرمى به الشياطين، رواه عكرمة عن ابن عباس.
226

والثالث: أنه القرآن نزل نجوما متفرقة، قاله عطاء عن ابن عباس، والأعمش عن مجاهد.
وقال مجاهد: كان ينزل نجوما ثلاث آيات وأربع آيات ونحو ذلك.
والرابع: نجوم السماء كلها، وهو مروي عن مجاهد أيضا.
والخامس: أنها الزهرة: قاله السدي.
فعلى قول من قال: النجم: الثريا، يكون " هوى " بمعنى " غاب "، ومن قال: هو الرجوم،
يكون هويها في رمي الشياطين، ومن قال: القرآن، يكون معنى " هوى " نزل، ومن قال: نجوم
السماء كلها، ففيه قولان:
أحدهما: أن هويها أن تغيب.
والثاني: أن تنتثر يوم القيامة.
قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلها بفتح أواخر آياتها. وقرأ أبو عمرو ونافع بين
الفتح والكسر. وقرأ حمزة والكسائي ذلك كله بالإمالة..
قوله تعالى: (ما ضل صاحبكم) هذا جواب القسم، والمعنى: ما ضل عن طريق الهدى،
والمراد به: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وما ينطق عن الهوى) أي: ما يتكلم بالباطل. وقال أبو عبيدة: " عن " بمعنى الباء. وذلك
أنهم قالوا: إنه يقول القرآن من تلقاء نفسه.
(إن هو) أي: ما القرآن (إلا وحي) من الله (يوحى) وهذا مما يحتج به من لا يجيز للنبي
أن يجتهد، وليس كما ظنوا، لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي، جاز أن ينسب إلى الوحي.
علمه شديد القوى (5) ذو مرة فاستوى (6) وهو بالأفق الأعلى (7) ثم دنا فتدلى (8)
فكان قاب قوسين أو أدنى (9) فأوحى إلى عبده ما أوحى (10) ما كذب الفؤاد ما رأى (11)
أفتمارونه على ما يرى (12) ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة
المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من آيات
ربه الكبرى (18)
قوله تعالى (علمه شديد القوى) وهو جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن قتيبة:
وأصل هذا من " قوى الحبل " وهي طاقاته، الواحدة: قوة (ذو مرة) أي: ذو قوة، وأصل المرة:
227

الفتل. قال المفسرون: وكان من قوته أنه قلع قريات لوط وحملها على جناحه فقلبها، وصاح بثمود
فأصبحوا خامدين.
قوله تعالى: (فاستوى، وهو بالأفق الأعلى) فيه قولان:
أحدهما: فاستوى جبريل، وهو يعني النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنهما استويا بالأفق الأعلى لما
أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الفراء.
والثاني: فاستوى جبريل، هو - يعني جبريل - بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية، لأنه كان
يتمثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراه على
حقيقته، فاستوى في أفق المشرق، فملأ الأفق، فيكون المعنى: فاستوى جبريل بالأفق الأعلى في
صورته، هذا قول الزجاج. قال مجاهد: والأفق الأعلى: هو مطلع الشمس. وقال غيره: إنما قيل
له: " الأعلى " لأنه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء.
قوله تعال: (ثم دنا فتدلى) قال الفراء: المعنى: ثم تدلى فدنا، ولكنه جائز أن تقدم أي
الفعلين شئت إذا كان المعنى فيهما واحدا، فتقول: قد دنا فقرب، وقرب فدنا، وشتم فأساء، وأساء
فشتم، ومنه قوله: (اقتربت الساعة وانشق القمر)، المعنى - والله أعلم -: انشق القمر واقتربت
الساعة. قال ابن قتيبة: المعنى: تدلى فدنا، لأنه تدلى للدنو، ودنا بالتدلي، وقال الزجاج: دنا
بمعنى قرب، وتدلى: زاد في القرب، ومعنى اللفظتين واحد. وقال غيرهم: أصل التدلي: النزول
إلى الشيء حتى يقرب منه، فوضع موضع القرب. وفي المشار إليه بقوله: " ثم دنا " ثلاثة أقوال:
أحدها، أنه الله عز وجل. روى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث شريك بن أبي
نمر عن أنس بن مالك قال: دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى. وروى
أبو سلمة عن ابن عباس: " ثم دنا " قال: دنا ربه فتدلى، وهذا اختيار مقاتل. قال: دنا الرب من
محمد ليلة أسري به، فكان منه قاب قوسين أو أدنى. وقد كشفت هذا الوجه في كتاب " المغني "
وبينت أنه ليس كما يخطر بالبال من قرب الأجسام وقطع المسافة، لأن ذلك يختص بالأجسام، والله
منزه عن ذلك.
والثاني: أنه محمد دنا من ربه، قاله ابن عباس. والقرظي.
228

والثالث: أنه جبريل. ثم في الكلام قولان:
أحدهما: دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله
الحسن، وقتادة.
والثاني: دنا جبريل من ربه عز وجل فكان منه قاب قوسين أو أدنى، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (فكان قاب قوسين أو أدنى) وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين: " فكان قاد قوسين "
بالدال. وقال أبو عبيدة: ألقاب والقاد: القدر. وقال ابن فارس: ألقاب: القدر. ويقال: بل ألقاب:
ما بين المقبض والسية، ولكل قوس قابان. وقال ابن قتيبة: سية القوس: ما عطف من طرفيها.
وفي المراد بالقوسين قولان:
أحدهما: أنها القوس التي يرمى بها، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة، فقال: قدر قوسين،
وقال الكسائي: أراد بالقوسين: قوسا واحد.
والثاني: أن القوس: الذراع: فالمعنى: كان بينهما قدر ذراعين، حكاه ابن قتيبة، وهو قول
ابن مسعود، وسعيد بن جبير، والسدي. قال ابن مسعود: دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو
ذراعين.
قوله تعالى: (أو أدنى) فيه قولان:
أحدهما: أنها بمعنى " بل "، قاله مقاتل. والثاني: أنهم خوطبوا على لغتهم، والمعنى: كان
على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل، وهذا اختيار الزجاج.
قوله تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أوحى الله إلى محمد كفاحا بلا واسطة، وهذا على قول من يقول: إنه كان في ليلة
المعراج.
والثاني: أوحى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: أوحى الله إلى جبريل ما يوحيه، روي عن عائشة رضي الله عنها، والحسن،
وقتادة.
قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى) قرأ أبو جعفر، وهشام عن ابن عامر، وأبان عن
عاصم: " ما كذب " بتشديد الذال، وقرأ الباقون بالتخفيف. فمن شدد أراد: ما أنكر فؤاده ما رأته
عينه، ومن خفف أراد: ما أوهمه فؤاده أنه رأى، ولم ير، بل صدق الفؤاد رؤيته. وفي الذي رأى
قولان:
أحدهما: أنه رأى ربه عز وجل، قاله ابن عباس، وأنس والحسن، وعكرمة.
والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها، قاله ابن مسعود وعائشة.
229

قوله تعالى: (أفتمارونه) وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وخلف، ويعقوب: " أفتمرونه ".
قال ابن قتيبة: معنى " أفتمارونه ": أفتجادلونه، من المراء، ومعنى " أفتمرونه ": أفتجحدونه.
قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى) قال الزجاج: أي رآه مرة أخرى. قال ابن عباس: رأى
محمد ربه، وبيان هذا أنه تردد لأجل الصلوات مرارا، فرأى ربه في بعض تلك المرات مرة أخرى.
قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى، فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى
مرتين. وقد روي عن ابن مسعود أن هذه الرؤية لجبريل أيضا رآه على صورته التي خلق عليها.
فأما سدرة المنتهى. فالسدرة: شجرة النبق، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة ". وفي مكانها قولان:
أحدهما: أنها فوق السماء السابعة، وهذا مذكور في " الصحيحين " من حديث مالك بن
صعصعة. قال مقاتل: وهي عن يمين العرش.
والثاني: أنها في السماء السادسة، أخرجه مسلم في أفراده عن ابن مسعود وبه قال الضحاك.
قال المفسرون: وإنما سميت سدرة المنتهى، لأنه إليها منتهى ما يصعد به من الأرض، فيقبض
منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، وإليها ينتهي علم جميع الملائكة.
قوله تعالى: (عندها) وقرأ معاذ القارئ وابن يعمر: وأبو نهيك: " عنده " بهاء مرفوعة على
ضمير مذكر (جنة المأوى) قال ابن عباس: هي جنة يأوي إليها جبريل والملائكة. وقال الحسن:
هي التي يصير إليها أهل الجنة. وقال مقاتل: هي جنة إليها تأوي أرواح الشهداء. وقرأ سعيد بن
المسيب، والشعبي، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو العالية: " جنة المأوى " بهاء صحيحة
مرفوعة. قال ثعلب: يريدون أجنه، وهي شاذة. وقيل: معنى " عندها " أدركه المبيت يعني رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال:
غشيها فراش من ذهب. وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما غشيها من أمر
الله ما غشيها، تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها " وقال الحسن. ومقاتل:
تغشاها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة. وقال الضحاك: [غشيها] نور رب العالمين.
قوله تعالى: (ما زاغ البصر) أي: ما عدل بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا ولا شمالا (وما طغى)
أي: ما زاد ولا جاوز ما رأى: وهذا وصف أدبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام.
(لقد رأى من آيات ربه الكبرى) فيه قولان: أحدهما: لقد رأى من آيات ربه العظام.
230

والثاني: لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى. وللمفسرين في المراد بما رأى من الآيات ثلاثة
أقوال.
أحدها: أنه رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق، قاله ابن مسعود.
والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات، قاله ابن زيد.
والثالث: أنه رأى من أعلام ربه وأدلته الأعلام والأدلة الكبرى، قاله ابن جرير.
أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21)
تلك إذا قسمة ضيزى (22) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها
من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم
الهدى (23) أم للإنسان ما تمنى (24) فلله الآخرة والأولى (25) * وكم من ملك في السماوات
لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (26)
قال الزجاج: فلما قص الله تعالى هذه الأقاصيص قال: (أفرأيتم اللات والعزى) المعنى:
أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء؟!.
فأما " اللات " فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وهو اسم صنم كان لثقيف اتخذوه من دون الله،
وكانوا يشتقون لأصنامهم من أسماء الله تعالى، فقالوا من " الله ": اللات: ومن " العزيز ": العزى. قال
أبو سليمان الخطابي: كان المشركون يتعاطون " الله " اسما لبعض أصنامهم " فصرفه الله إلى اللات
صيانة لهذا الاسم وذبا عنه. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين: وأبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك،
وابن السميفع، ومجاهد، وابن يعمر، والأعمش، وورش عن يعقوب: " اللات " بتشديد التاء، ورد
في تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد أن رجلا كان يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره
فعبدوه. وقال الزجاج: زعموا أن رجلا كان يلت السويق ويبيعه عند ذلك الصنم، فسمي الصنم:
اللات. وكان الكسائي يقف عليها بالهاء، فيقول: " اللاه "، وهذا قياس، والأجود الوقف بالتاء،
لاتباع المصحف. وأما " العزى " ففيها قولان:
أحدهما: أنها شجرة لغطفان كانوا يعبدونها، قاله مجاهد.
والثاني: صنم لهم، قاله الضحاك. قال: وأما " مناة " فهو صنم لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكة.
231

وقال قتادة: بل كانت للأنصار. وقال أبو عبيدة: كانت اللات والعزى ومناة أصناما من حجارة في
جوف الكعبة يعبدونها. وقرأ ابن كثر: ومناءة " ممدودة مهموزة.
فأما قوله: (الثالثة) فإنه نعت ل‍ " مناة "، هي ثالثة الصنمين في الذكر، و " الأخرى " نعت لها.
قال الثعلبي: العرب لا تقول للثالثة: الأخرى، وإنما الأخرى نعت للثانية، فيكون في المعنى
وجهان:
أحدهما: أن ذلك لوفاق رؤوس الآي، كقوله (مآرب أخرى) ولم يقل، أخر، قاله
الخليل.
والثاني: أن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة، قاله
الحسين بن الفضل.
قوله تعالى: (ألكم الذكر) قال ابن السائب: إن مشركي قريش قالوا للأصنام والملائكة:
بنات الله، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره، فقال الله تعالى منكرا عليهم: (ألكم الذكر وله
الأنثى)؟ يعني الأصنام وهي إناث في أسمائها.
(تلك إذا قسمة ضيزى) قرأ عاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
" ضيزى " بكسر الضاد من غير همز، وافقهم ابن كثير في كسر الضاد، لكنه همز. وقرأ أبي بن
كعب، ومعاذ القارئ: " ضيزى " بفتح الضاد من غير همز. قال الزجاج: الضيزى في كلام العرب:
الناقصة الجائرة، يقال: ضازه يضيزه: إذا نقصه حقه، ويقال: ضأزه يضأزه بالهمز. وأجمع النحويون
أن أصل ضيزى: ضوزى، وحجتهم أنها نقلت من " فعلى " من ضوزى إلى ضيزى، لتسلم الياء،
كما قالوا: أبيض وبيض، وأصله: بوض، فنقلت الضمة إلى الكسرة. وقرأت على بعض العلماء
باللغة: في " ضيزى " لغات، يقال: ضيزى، وضوزى، وضؤزى، وضأزى على " فعلى " مفتوحة، ولا
يجوز في القرآن إلا " ضيزى " بياء غير مهموزة، وإنما لم يقل النحويون: إنها على أصلها لأنهم لا
يعرفون في الكلام " فعلى " صفة، إنما يعرفون الصفات على " فعلى " بالفتح، نحو سكرى وغضبى،
أو بالضم، نحو حبلى وفضلي.
قوله تعالى: (إن هي) يعني الأوثان (إلا أسماء) والمعنى: إن هذه الأوثان التي سموها بهذه
الأسامي لا معنى تحتها، لأنها لا تضر ولا تنفع، فهي تسميات ألقيت على جمادات، (ما أنزل الله
بها من سلطان) أي: لم ينزل كتابا فيه حجة بما يقولون: إنها آلهة. ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد
الخطاب لهم فقال: (إن يتبعون) في أنها آلهة، (إلا الظن وما تهوى الأنفس) وهو ما زين لهم
232

الشيطان، (ولقد جاءهم من ربهم الهدى) وهو البيان بالكتاب والرسول، وهذا تعجيب من حالهم إذ
لم يتركوا عبادتها بعد وضوح البيان.
ثم أنكر عليهم تمنيهم شفاعتها فقال: (أم للإنسان) يعني الكافر (ما تمنى) من شفاعة
الأصنام (فلله الآخرة والأولى) أي لا يملك فيهما أحد شيئا إلا بإذنه، ثم أكد هذا بقوله: (وكم
من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا) فجمع في الكناية، لأن معنى الكلام الجمع (إلا
من بعد أن يأذن الله) في الشفاعة (لمن يشاء ويرضى)، والمعنى أنهم لا يشفعون إلا لمن رضي
الله عنهم.
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى (27) وما لهم به من
علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا (28) فأعرض عن من
تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو
أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (30)
قوله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة) أي: بالبعث (ليسمون الملائكة تسمية الأنثى)
وذلك حين زعموا أنها بنات الله، (وما لهم) بذلك، (من علم) أي: ما يستيقنون أنها إناث (إن
يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) أي: لا يقوم مقام العلم، فالحق هاهنا بمعنى
العلم..
(فأعرض عمن تولى عن ذكرنا) يعني القرآن، وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف.
قوله تعالى: (ذلك مبلغهم من العلم) قال الزجاج: إنما يعلمون ما يحتاجون إليه في
معايشهم، وقد نبذوا أمر الآخرة.
قوله تعالى: (هو أعلم بمن ضل عن سبيله....) الآية: والمعنى أنه عالم بالفريقين
فيجازيهم.
ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين
أحسنوا بالحسنى (31) الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع
233

المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا
أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (32)
قوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض) هذا إخبار عن قدرته وسعة ملكه، وهو
كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله: (ليجزي الذين أساؤوا) لأن اللام في " ليجزي " متعلقة
بمعنى الآية الأولى، لأنه إذا كان أعلم بهما. جازى كلا بما يستحقه، وهذه لام العاقبة، وذلك أن
علمه بالفريقين أدى إلى جزائهم باستحقاقهم، وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع
الملك، فذلك أخبر به في قوله: (ولله ما في السماوات وما في الأرض). قال المفسرون:
و " أساؤوا " بمعنى أشركوا، و " أحسنوا " بمعنى وحدوا. والحسنى: الجنة. والكبائر مذكورة في سورة
النساء. وقيل: كبائر الإثم. كل ذنب ختم بالنار، والفواحش كل ذنب فيه الحد. وقرأ حمزة،
والكسائي، والمفضل، وخلف: " يجتنبون كبير الإثم " واللمم في كلام العرب: المقاربة للشئ.
وفي المراد به هاهنا ستة أقوال:
أحدها: ما ألموا به من الإثم والفواحش في الجاهلية، فإنه يغفر في الإسلام، قاله زيد بن
ثابت.
والثاني: أن يلم بالذنب مرة ثم يتوب ولا يعود، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي.
والثالث: أنه صغار الذنوب، كالنظرة والقبلة وما كان دون الزنا، قاله ابن مسعود، وأبو هريرة،
والشعبي، ومسروق، ويؤيد هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله كتب على ابن
آدم حظه من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تشتهي وتتمنى، ويصدق ذلك
ويكذبه الفرج، فإن تقدم بفرجه كان الزنا، وإلا فهو اللمم.
والرابع: أنه ما يهم به الإنسان، قاله محمد ابن الحنفية.
والخامس: أنه ألم بالقلب، أي: خطر، قاله سعيد بن المسيب.
والسادس: أنه النظر من غير تعمد، قاله الحسين بن الفضل. فعلى القولين الأولين يكون
الاستثناء من الجنس، وعلى باقي الأقوال ليس من الجنس..
قوله تعالى: (إن ربك واسع المغفرة) قال ابن عباس: لمن فعل ذلك ثم تاب. وهاهنا تم
الكلام. ثم قال: (هو أعلم بكم) يعني قبل خلقكم (إذ أنشأكم من الأرض) يعني آدم عليه
السلام (وإذ أنتم أجنة) جمع جنين، والمعنى أنه علم ما تفعلون وإلى ماذا تصيرون، (فلا تزكوا
234

أنفسكم) أي: لا تشهدوا لها أنها زكية بريئة من المعاصي. وقيل: لا تمدحوها بحسن أعمالها.
وفي سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما: أن اليهود كانوا إذا هلك لهم صبي، قالوا: صديق، فنزلت هذه الآية، هذا قول
عائشة رضي الله عنها.
والثاني: أن ناسا من المسلمين قالوا: قد صلينا وصمنا وفعلنا، يزكون أنفسهم. فنزلت هذه
الآية، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (وهو أعلم بمن اتقى) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: عمل حسنة وارعوى عن معصية، قاله علي رضي الله عنه. والثاني: أخلص العمل
لله، قاله الحسن. الثالث: اتقى الشرك فآمن، قاله الثعلبي.
أفرأيت الذي تولى (33) وأعطى قليلا وأكدى (34) أعنده علم الغيب فهو يرى (35) أم
لم ينبأ بما في صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن
ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزاء الأوفى (41)
قوله تعالى: (أفرأيت الذي تولى) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، وكان قد تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، فعيره بعض المشركين،
وقال: تركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له إن هو أعطاه شيئا
من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله عز وجل ففعل، فأعطاه بعض الذي ضمن له،
ثم بخل ومنعه فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وابن زيد.
والثاني: أنه النضر بن الحارث أعطى بعض الفقراء المسلمين خمس قلائص حتى ارتد عن
إسلامه، وضمن له أن يحمل عنه إثمه، قاله الضحاك.
والثالث: أنه أبو جهل، وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق، قاله محمد
ابن كعب القرظي.
والرابع: أنه العاص بن وائل السهمي، وكان ربما وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، قاله
السدي.
ومعنى " تولى ": أعرض عن الإيمان.
235

(وأعطى قليلا) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أطاع قليلا ثم عصى. قاله ابن عباس. والثاني: اعطى قليلا من نفسه بالاستماع ثم
أكدى بالانقطاع. قاله مجاهد. والثالث: اعطى قليلا من ماله ثم منع، قاله الضحاك. والرابع:
أعطى قليلا من الخير بلسانه ثم قطع، قاله مقاتل، قال ابن قتيبة: ومعنى " أكدى ": قطع، وهو من
كدية الركية، وهي الصلابة فيها، وإذا بلغها الحافر يئس من حفرها، فقطع الحفر، فقيل لكل من
طلب شيئا فلم يبلغ آخره، أو أعطى ولم يتم: أكدى.
قوله تعالى: (أعنده علم الغيب فهو يرى) فيه قولان:
أحدهما: فهو يرى حاله في الآخرة، قاله الفراء والثاني: فهو يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة
وغيرها، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: (أم لم ينبأ بما في صحف موسى) يعني التوراة، (وإبراهيم (أي: وصحف
إبراهيم. وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن الله تعالى أنزل على إبراهيم عشر صحائف، وأنزل
على موسى قبل التوراة عشر صحائف.
قوله تعالى (الذي وفى) قرأ سعيد بن جبير، وأبو عمران الجوني، وابن السميفع اليماني
" وفي " بتخفيف الفاء. قال الزجاج: قوله: " وفى " أبلغ من " وفى " لأن الذي امتحن به من أعظم
المحن. وللمفسرين في الذي وفي عشرة أقوال:
أحدها: أنه وفى عمل يومه بأربع ركعات في أول النهار، رواه أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه وفي في كلمات كان يقولها. روى سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح
وكلما أمسى: " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.. ". وختم الآية. والثالث: أنه وفى الطاعة فيما فعل بابنه، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال القرظي.
والرابع: أنه وفى ربه جميع شرائع الإسلام، روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس.
والخامس: أنه وفى ما أمر به من تبليغ الرسالة، روي عن ابن عباس أيضا.
والسادس: أنه عمل بما أمر به، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وقال مجاهد: وفى
ما فرض عليه.
236

والسابع: أنه وفى بتبليغ هذه الآيات، وهي: " ألا تزر وازرة وزر أخرى " وما بعدها، وهذا
مروى عن عكرمة، ومجاهد، والنخعي.
والثامن: وفي شأن المناسك، قاله الضحاك.
والتاسع: أنه عاهد أن لا يسأل مخلوقا شيئا، فلما قذف في النار قال له جبريل، ألك حاجة؟
فقال: أما إليك فلا، فوفى بما عاهد، ذكره عطاء بن السائب.
العاشر: أنه أدى الأمانة، قاله سفيان بن عيينة.
ثم بين ما في صحفهما فقال: (ألا تزر وازرة وزر أخرى) أي: لا تحمل نفس حاملة حمل
أخرى، والمعنى: لا تؤخذ بإثم غيرها.
(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) قال الزجاج: هذا في صحفهما أيضا ومعناه: ليس للإنسان
إلا جزاء سعيه، إن عمل خيرا جزي عليه خيرا، وإن عمل شرا جزي شرا. واختلف العلماء في
هذه الآية على ثمانية أقوال:
أحدها: أنها منسوخة بقوله: (وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان) فأدخل الأبناء الجنة بصلاح
الآباء، قاله ابن عباس، ولا يصح، لأن لفظ الآيتين لفظ خبر، والأخبار لا تنسخ.
والثاني: أن ذلك كان لقوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى غيرهم،
قاله عكرمة، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته: إن أبي مات ولم يحج، فقال: " حجي
عنه ".
والثالث: أن المراد بالإنسان ها هنا: الكافر، فأما المؤمن، فله ما سعى وما سعي له، قاله
الربيع بن أنس.
والرابع: أنه ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، فأما من باب الفضل، فجائز أن
يزيده الله عز وجل ما يشاء، قاله الحسين بن الفضل.
والخامس: أن معنى " ما سعى ": ما نوى، قاله أبو بكر الوراق.
والسادس: ليس للكافر من الخير إلى ما عمله في الدنيا، فيثاب عليه فيها حتى لا يبقى له في
الآخرة خير، ذكره الثعلبي.
والسابع: أن اللام بمعنى " على "، فتقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى.
والثامن: أنه ليس له إلا سعيه، غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل قرابة
وولد يترحم عليه وصديق، وتارة يسعى في خدمة الدين والعبادة، فيكتسب محبة أهل الدين،
237

فيكون ذلك سببا حصل بسعيه، حكى القولين شيخنا علي بن عبيد الله الزاغوني.
قوله تعالى: (وأن سعيه سوف يرى) فيه قولان:
أحدهما: سوف يعلم، قاله ابن قتيبة.
والثاني: سوف يرى العبد سعيه يوم القيامة، أي: يرى عمله في ميزانه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (يجزاه) الهاء عائدة على السعي (الجزاء الأوفى) أي: الأكمل الأتم
وأن إلى ربك المنتهى (42) وأنه هو أضحك وأبكى (43) وأنه هو أمات وأحيا (44) وأنه
خلق الزوجين الذكر والأنثى (45) من نطفة إذا تمنى (46) وأن عليه النشأة الأخرى (47)
وأنه هو أغنى وأقنى (48) وأنه هو رب الشعرى (49) وأنه أهلك عادا الأولى (50) وثمود
فما أبقى (51) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى (52) والمؤتفكة أهوى (53)
فغشها ما غشى (54) فبأي آلاء ربك تتمارى (55)
(وأن إلى ربك المنتهى) أي: منتهى العباد ومرجعهم. قال الزجاج: هذا كله في صحف
إبراهيم وموسى.
قوله تعالى: (وأنه هو أضحك وأبكى) قالت عائشة: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يضحكون،
فقال: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا "، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية،
فرجع إليهم، فقال " ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل، فقال: إئت هؤلاء فقل لهم: إن
الله يقول: وأنه هو أضحك وأبكى "، وفي هذا تنبيه على أن جميع الأعمال بقضاء الله وقدره حتى
الضحك والبكاء. وقال مجاهد: أضحك أهل الجنة، وأبكى أهل النار. وقال الضحاك: أضحك
الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر.
قوله تعالى: (وأنه هو أمات) في الدنيا (وأحيا) للبعث. (وأنه خلق الزوجين) أي:
الصنفين (الذكر والأنثى) من جميع الحيوانات، (من نطفة إذا تمنى) فيه قولان:
أحدهما: إذا تراق في الرحم، قاله ابن السائب.
238

والثاني: إذا تخلق وتقدر. (وأن عليه النشأة الأخرى) وهي الخلق الثاني للبعث يوم
القيامة. (وأنه هو أغنى) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أغنى بالكفاية، قاله ابن عباس.
والثاني: بالمعيشة، قاله الضحاك.
والثالث: بالأموال، قاله أبو صالح.
والرابع: بالقناعة، قاله سفيان. قوله: (أقنى) ثلاثة أقوال:
أحدها: أرضى بما أعطى، قاله ابن عباس.
والثاني: أخدم، قاله الحسن، وقتادة. وعن مجاهد كالقولين.
والثالث: جعل للإنسان قنية، وهو أصل مال، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: (وأنه هو رب الشعرى) قال ابن قتيبة: هو الكوكب الذي يطلع بعد
الجوزاء، وكان ناس من العرب يعبدونها.
قوله تعالى: (وأنه أهلك عادا الأولى) قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة،
والكسائي: " عادا الأولى " منونة. وقرأ نافع، وأبو عمرو، " عادا لولى " موصولة مدغمة. ثم
فيهم قولان:
أحدهما: أنهم قوم هود، وكان لهم عقب فكانوا عادا الأخرى، هذا قول الجمهور.
والثاني: أن قوم هود هم عاد الأخرى، وهم من أولاد عاد الأولى، قاله كعب الأحبار. وقال
الزجاج: وفي " الأولى " لغات، أجودها سكون اللام وإثبات الهمزة، والتي تليها في الجودة ضم
اللام وطرح الهمزة، ومن العرب من يقول: لولى، يريد: الأولى، فتطرح الهمزة لتحرك اللام.
قوله تعالى: (وقوم نوح من قبل) أي: من قبل عاد وثمود (إنهم كانوا هم أظلم
وأطغى) من غيرهم، لطول دعوة نوح إياهم، وعتوهم.
(والمؤتفكة) قرى قوم لوط (أهوى) أي: أسقط، وكان الذي تولى ذلك جبريل بعد أن
رفعها، وأتبعهم الله بالحجارة، فذلك قوله: (فغشاها) أي: ألبسها (ما غشى) يعني الحجارة
(فبأي آلاء ربك تتمارى) هذا خطاب للإنسان، لما عدد الله ما فعله مما يدل على وحدانيته
قال: فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تتشكك؟ وقال ابن عباس: فبأي آلاء ربك تكذب يا
وليد، يعني ابن المغيرة.
هذا نذير من النذر الأولى (56) أزفت الآزفة (57) ليس لها من دون الله كاشفة (58)
239

أفمن هذا الحديث تعجبون (59) وتضحكون ولا تبكون (60) وأنتم سامدون (61)
فاسجدوا لله واعبدوا (62)
قوله تعالى: (هذا نذير) فيه قولان:
أحدهما: أنه القرآن، نذير بما أنذرت الكتب المتقدمة، قاله قتادة.
والثاني: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، نذير بما أنذرت به الأنبياء، قاله ابن جريج.
قوله تعالى: (أزفت الآزفة) أي: دنت القيامة، (ليس لها من دون الله كاشفة) فيه
قولان:
أحدهما: إذا غشيت الخلق شدائدها وأهوالها لم يكشفها أحد ولم يردها، قاله عطاء،
وقتادة، والضحاك.
والثاني: ليس لعلمها كاشف دون الله، أي: لا يعلم علمها إلا الله، قاله الفراء، قال:
وتأنيث " كاشفة " كقوله: " هل ترى لهم من باقية " يريد: من بقاء، والعافية والباقية والناهية كله
في معنى المصدر. وقال غيره: تأنيث " كاشفة " على تقدير: نفس كاشفة.
قوله تعالى: (أفمن هذا الحديث) قال مقاتل: يعني القرآن (تعجبون) تكذيبا به،
(وتضحكون) استهزاء (ولا تبكون) مما فيه من الوعيد؟! ويعني بهذا كفار مكة، (وأنتم
سامدون) فيه خمسة أقوال:
أحدهما: لاهون، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الفراء والزجاج. قال أبو عبيدة:
يقال: دع عنك سمودك، أي: لهوك.
والثاني: معرضون، قاله مجاهد.
والثالث: أنه الغناء، وهي لغة يمانية، يقولون: اسمد لنا، أي: تغن لنا، رواه عكرمة عن
ابن عباس. وقال عكرمة: هو الغناء بالحميرية.
والرابع: غافلون، قاله قتادة.
والخامس: أشرون بطرون، قاله الضحاك.
قوله تعالى: (فاسجدوا لله) فيه قولان:
أحدهما: أنه سجود التلاوة، قاله ابن مسعود.
والثاني: سجود الفرض في الصلاة. قال مقاتل: يعني بقوله: " فاسجدوا ": الصلوات
الخمس. وفي قوله: (واعبدوا) قولان:
أحدهما: أنه التوحيد. والثاني: العبادة.
240

(54) سورة القمر مكية
وآياتها خمس وخمسون
بسم الله الرحمن الرحيم
اقترب الساعة وانشق القمر (1) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (2) وكذبوا
واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر (3) ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر (4)
حكمة بالغة فما تغن النذر (5)
وهي مكية بإجماعهم، وقال مقاتل: مكية غير آية (سيهزم الجمع) وحكي عنه أنه
241

قال: إلا ثلاث آيات، أولها: (أم يقولون نحن جميع منتصر) إلى قوله: (وأمر)، قال
ابن عباس. اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين،
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن فعلت تؤمنون؟ قالوا: نعم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن
يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: " يا فلان يا فلان اشهدوا "، وذلك
بمكة قبل الهجرة. وقد روى البخاري ومسلم في " صحيحيهما " من حديث ابن مسعود قال: انشق
القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشهدوا ". وقد روى حديث
الانشقاق جماعة، منهم عبد الله بن عمر، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عباس، وأنس بن
مالك، وعلى هذا جميع المفسرين، إلا أن قوما شذوا فقالوا: سينشق يوم القيامة. وقد روى
عثمان بن عطاء عن أبيه نحو ذلك، وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع، ولأن قوله: (وانشق)
لفظ ماض، وحمل لفظ الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله ودليل، وليس ذلك موجودا.
وفي قوله: " وإن يروا آية يعرضوا " دليل على أنه قد كان ذلك. ومعنى (اقتربت): دنت،
و (الساعة) القيامة. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، تقديره: انشق القمر واقتربت الساعة. وقال
مجاهد: انشق القمر فصار فرقتين، فثبتت فرقة، وذهبت فرقة وراء الجبل. وقال ابن زيد: لما
انشق القمر كان يرى نصفه على قعيقعان، والنصف الآخر على أبي قبيس. قال ابن مسعود: لما
انشق القمر قالت قريش: سحركم ابن أبي كبشة، فاسألوا السفار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد
رأيناه، فأنزل الله عز وجل: " اقتربت الساعة وانشق القمر ".
قوله تعالى: (وإن يروا آية) أي: آية تدلهم على صدق الرسول، والمراد بها هنا:
انشقاق القمر (يعرضوا) عن التصديق (ويقولوا سحر مستمر) فيه ثلاثة أقوال:
242

أحدها: ذاهب، من قولهم: مر الشيء واستمر: إذا ذهب، قاله مجاهد، وقتادة،
والكسائي، والفراء، فعلى هذا يكون المعنى: هذا سحر، والسحر يذهب ولا يثبت.
والثاني: شديد قوي، قاله أبو العالية، والضحاك، وابن قتيبة، قال: وهو مأخوذ من
المرة، والمرة: الفتل.
والثالث: دائم، حكاه الزجاج.
قوله تعالى: (وكذبوا) يعني كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوا من قدرة الله تعالى (واتبعوا
أهواءهم) ما زين لهم الشيطان (وكل أمر مستقر) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن كل أمر مستقر بأهله، فالخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر، قاله
قتادة.
والثاني: لكل حديث منتهى وحقيقة، قاله مقاتل.
والثالث: أن قرار تكذيبهم مستقر، وقرار تصديق المصدقين مستقر حتى يعلموا حقيقته
بالثواب والعقاب، قاله الفراء.
قوله تعالى: (ولقد جاءهم) يعني أهل مكة (من الأنباء) أي: من أخبار الأمم المكذبة في
القرآن (ما فيه مزدجر) قال ابن قتيبة: أي: متعظ ومنتهى.
قوله تعالى: (حكمة بالغة) قال الزجاج: هي مرفوعة لأنها بدل من " ما "، فالمعنى:
ولقد جاءهم حكمة بالغة. وإن شئت رفعتهما بإضمار: هو حكمة بالغة. و " ما " في قوله (فما
تغن النذر) جائز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ، فيكون المعنى: أي شئ تغني النذر؟!
وجائز أن يكون نفيا، على معنى، فليست تغني النذر. قال المفسرون: والمعنى: جاءهم القرآن
وهو حكمة تامة قد بلغت الغاية، فما تغني النذر إذا لم يؤمنوا؟!
فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شئ نكر (6) خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث
كأنهم جراد منتشر (7) مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر (8)
(فتول عنهم) قال الزجاج: هذا وقف التمام، و (يوم) منصوب بقوله: " يخرجون من
الأجداث ". وقال مقاتل: فتول عنهم إلى يوم (يدع الداعي) أثبت هذه الياء في الحالين
يعقوب، وافقه أبو جعفر، وأبو عمرو في الوصل، وحذفها الأكثرون في الحالين. و " الداعي ":
243

إسرافيل ينفخ النفخة الثانية (إلى شيء نكر) وقرأ ابن كثير: " نكر " خفيفة، أي: إلى أمر فظيع.
وقال مقاتل: " النكر " بمعنى المنكر، وهو القيامة، وإنما ينكرونه إعظاما له. والتولي المذكور في
الآية منسوخ عند المفسرين بآية السيف.
قوله تعالى: (خشعا أبصارهم) قرأ أهل الحجاز، وابن عامر، وعاصم: " خشعا " بضم
الخاء وتشديد الشين من غير ألف. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " خاشعا " بفتح الخاء
وألف بعدها وتخفيف الشين. قال الزجاج: المعنى: يخرجون خشعا، و " خاشعا " منصوب على
الحال، وقرأ ابن مسعود: " خاشعة "، ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد
والتأنيث والجمع، تقول: مررت بشبان حسن أوجههم، وحسان أوجههم، وحسنة أوجههم، قال
الشاعر:
وشباب حسن أوجههم * من إياد بن نزار بن معد
قال المفسرون: والمعنى أن أبصارهم ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب. والأجداث:
القبور، وإنما شبههم بالجراد المنتشر، لأن الجراد لا جهة له يقصدها، فهو أبدا مختلف بعضه
في بعض، فهم يخرجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يقصدها. والداعي: إسرافيل. وقد أثبت
ياء " الداعي " في الحالين ابن كثير، ويعقوب، تابعهما في الوصل نافع، وأبو عمرو، والباقون
بحذفها في الحالين. وقد بينا معنى " مهطعين " في سورة إبراهيم والعسر: الصعب الشديد.
* كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (9) فدعا ربه أني مغلوب
فانتصر (10) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر (11) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى
الماء على أمر قد قدر (12) وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن
كان كفر (14) ولقد تركناها آية فهل من مدكر (15) فكيف كان عذابي ونذر (16)
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (17) كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18)
إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19) تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل
منقعر (20) فكيف كان عذابي ونذر (21) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (22)
244

قوله تعالى: (كذبت قبلهم) أي: قبل أهل مكة (قوم نوح فكذبوا عبدنا) نوحا (وقالوا
مجنون وازدجر) قال أبو عبيدة: افتعل من زجر. قال المفسرون: زجروه عن مقالته (فدعا)
عليهم نوح (ربه) ب‍ (أني مغلوب فانتصر) أي: فانتقم لي ممن كذبني. قال الزجاج: وقرأ
عيسى بن عمر النحوي: " إني " بكسر الألف، وفسرها سيبويه فقال: هذا على إرادة القول،
فالمعنى: قال: إني مغلوب، ومن فتح، وهو الوجه، فالمعنى: دعا ربه ب‍ (أني مغلوب).
قوله تعالى: (ففتحنا أبواب السماء) قرأ ابن عامر " ففتحنا " بالتشديد. فأما المنهمر،
فقال ابن قتيبة: هو الكثير السريع الانصباب، ومنه يقال: همر الرجل: إذا أكثر من الكلام
وأسرع. وروى علي رضي الله عنه أن أبواب السماء فتحت بالماء من المجرة، وهي شرج
السماء. وعلى ما ذكرنا من القصة في هود أن المطر جاءهم، يكون هو المراد بقوله: (ففتحنا
أبواب السماء) قال المفسرون: جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوما، وفجرت الأرض من تحتهم
عيونا أربعين يوما.
(فالتقى الماء) وقرأ أبي بن كعب، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري: " الماءان " بهمزة
وألف ونون مكسورة. وقرأ ابن مسعود: " المايان " بياء وألف ونون مكسورة من غير همز. وقرأ
الحسن، وأبو عمران: " الماوان " بواو وألف وكسر النون. قال الزجاج: يعني بالماء: ماء السماء
وماء الأرض، ويجوز الماءان، لأن اسم الماء اسم يجمع ماء الأرض وماء السماء.
قوله تعالى: (على أمر قد قدر) فيه قولان:
أحدهما: كان قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض، قاله مقاتل.
والثاني: قد قدر في اللوح المحفوظ، قاله الزجاج. فيكون المعنى: على أمر قد قضي
عليهم، وهو الغرق.
قوله تعالى: (وحملناه) يعني نوحا (على ذات ألواح ودسر) قال الزجاج: أي: على
سفينة ذات ألواح. قال المفسرون: ألواحها: خشباتها العريضة التي منها جمعت. وفي الدسر
أربعة أقوال:
أحدها: أنها المسامير، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والقرظي، وابن زيد.
وقال الزجاج: الدسر: المسامير والشرط التي تشد بها الألواح، وكل شيء نحو السمر أو إدخال
شيء في شيء بقوة وشدة قهر فهو دسر، يقال: دسرت المسمار أدسره وأدسره. والدسر: واحدها
دسار، نحو حمار، وحمر.
245

والثاني: أنه صدر السفينة، سمي بذلك لأنه يدسر الماء، أي: يدفعه، رواه العوفي عن
ابن عباس، وبه قال الحسن وعكرمة، ومنه الحديث في العنبر أنه شيء دسره البحر، أي: دفعه.
والثالث: أن الدسر: أضلاع السفينة، قاله مجاهد.
والرابع: أن الدسر: طرفاها وأصلها، والألواح: جانباها، قاله الضحاك.
قوله تعالى: (تجري بأعيننا) أي: بمنظر ومرأى منا (جزاء) قال الفراء: فعلنا به وبهم ما
فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كفر به. وفي المراد ب‍ " من " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الله عز وجل، وهو مذهب مجاهد، فيكون المعنى: عوقبوا لله ولكفرهم به.
والثاني: أنه نوح كفر به وجحد أمره، قاله الفراء.
والثالث: أن " من " بمعنى " ما "، فالمعنى: جزاء لما كان كفر من نعم الله عند الذين
أغرقهم، حكاه ابن جرير. وقرأ قتادة: " لمن كان كفر بفتح الكاف والفاء ".
قوله تعالى: (ولقد تركناها) في المشار إليها قولان:
أحدهما: أنها السفينة، قال قتادة: أبقاها الله على الجودي حتى أدركها أوائل هذه الأمة.
والثاني: أنها الفعلة، فالمعنى: تركنا هذه الفعلة وأمر سفينة نوح آية، أي: علامة ليعتبر
بها، (فهل من مدكر) وأصله مدتكر، فأبدلت التاء دالا على ما بينا في قوله: (وادكر بعد
أمة) قال ابن قتيبة: أصله: مذتكر، فأدغمت التاء في الذال، ثم قلبت دالا مشددة. قال
المفسرون: والمعنى: هل من متذكر يعتبر بذلك؟ (فكيف كان عذابي ونذر) وفي هذه السورة
" ونذر " ستة مواضع، أثبت الياء فيهن في الحالين يعقوب، تابعه في الوصل ورش، والباقون
بحذفها في الحالين. وقوله: " فكيف كان عذابي " استفهام عن تلك الحالة، ومعناه التعظيم لذلك
العذاب. قال ابن قتيبة: والنذر ها هنا جمع نذير، وهو بمعنى الإنذار، ومثله النكير بمعنى
الإنكار. قال المفسرون: وهذا تخويف لمشركي مكة.
(ولقد يسرنا القرآن) أي: سهلناه (للذكر) أي: للحفظ والقراءة (فهل من مدكر) أي:
من ذاكر يذكره ويقرؤه، والمعنى: هو الحث على قراءته وتعلمه، قال سعيد بن جبير: ليس من كتب
الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن. وأما الريح الصرصر، فقد ذكرناها في حم السجدة.
قوله تعالى: (في يوم نحس مستمر) قرأ الحسن: " في يوم " بالتنوين، على أن اليوم
منعوت بالنحس. والمستمر: الدائم الشؤم، استمر عليهم بنحوسه. وقال ابن عباس: كانوا
يتشاءمون بذلك اليوم وقيل: إنه كان يوم أربعاء في آخر الشهر.
246

(تنزع الناس) أي: تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم فتصرعهم على رقابهم فتدق
رقابهم فتبين الرأس عن الجسد، ف‍ (كأنهم أعجاز نخل) وقرأ أبي بن كعب، وابن السميفع:
" أعجز نخل " برفع الجيم من غير ألف بعد الجيم. وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وأبو عمران:
" كأنهم عجز نخل " بضم العين والجيم. ومعنى الكلام: كأنهم أصول نخل " منقعر " أي:
منقلع. وقال الفراء: المنقعر: المنصرع من النخل. قال ابن قتيبة: يقال: قعرته فانقعر، أي
قلته فسقط. قال أبو عبيدة: والنخل يذكر ويؤنث، فهذه الآية على لغة من ذكر، وقوله: (أعجاز
نخل خاوية) على لغة من أنث. وقال مقاتل: شبههم حين وقعوا من شدة العذاب بالنخل
الساقطة التي لا رؤوس لها، وإنما شبههم بالنخل لطولهم، وكان طول كل واحد منهم اثني عشر
ذراعا.
كذب ثمود بالنذر (23) فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر (24) ألقي
الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر (25) سيعلمون غدا من الكذاب الأشر (26) إنا
مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر (27) ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب
محتضر (28) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر (29) فكيف كان عذابي ونذر (30) إنا أرسلنا
عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر (31) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من
مدكر (32)
قوله تعالى: كذبت ثمود بالنذر) فيه قولان:
أحدهما: أنه جمع نذير. وقد بينا أن من كذب نبيا واحدا فقد كذب الكل.
والثاني: أن النذر بمعنى الإنذار كما بينا في قوله: " فكيف كان عذابي ونذر " فكأنهم
كذبوا الإنذار الذي جاءهم به صالح، (قالوا أبشرا منا) قال الزجاج: هو منصوب بفعل مضمر
والذي ظهر تفسيره، المعنى: أنتبع بشرا منا (واحدا)، قال المفسرون: قالوا: هو آدمي
مثلنا، وهو واحد فلا نكون له تبعا (إنا إذا) إن فعلنا ذلك (لفي ضلال) أي: خطأ وذهاب عن
الصواب (وسعر) قال ابن عباس: أي: جنون. قال ابن قتيبة: هو من: تسعرت النار: إذا
247

التهبت، يقال: ناقة مسعورة، أي: كأنها مجنونة من النشاط. وقال غيره: لفي شقاء وعناء لأجل
ما يلزمنا من طاعته.
ثم أنكروا أن يكون الوحي يأتيه فقالوا: (أألقي الذكر؟) أي: أنزل الوحي (عليه من
بيننا؟) أي: كيف خص من بيننا بالنبوة والوحي؟! (بل هو كذاب أشر) وفيه قولان:
أحدهما: أنه المرح المتكبر، قاله ابن قتيبة.
والثاني: البطر، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (سيعلمون غدا) قرأ ابن عامر وحمزة: " ستعلمون " بالتاء " غدا " فيه
قولان:
أحدهما: يوم القيام، قاله ابن السائب.
والثاني: عند نزول العذاب بهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (إنا مرسلو الناقة) وذلك أنهم سألوا صالحا أن يظهر لهم ناقة من صخرة،
فقال الله تعالى: (إنا مرسلو الناقة) أي: مخرجوها كما أرادوا (فتنة لهم) أي: محنة واختبارا
(فارتقبهم) أي: فانتظر ما هم صانعون (واصطبر) على ما يصيبك من الأذى، (ونبئهم أن الماء
قسمة بينهم) أي: بين ثمود وبين الناقة، يوم لها ويوم لهم، فذلك قوله: (كل شرب محتضر)
يحضره صاحبه ويستحقه.
قوله تعالى: (فنادوا صاحبهم واسمه قدار بن سالف (فتعاطى) قال ابن قتيبة: تعاطى
عقر الناقة (فعقر) أي: قتل، وقد بينا هذا في الأعراف.
قوله تعالى (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة) وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم،
وقد أشرنا إلى قصتهم في هود (فكانوا كهشيم المحتظر) قال ابن عباس: هو الرجل يجعل
لغنمه حظيرة بالشجر والشوك دون السباع، فما سقط من ذلك وداسته الغنم، فهو الهشيم. وقد بينا
معنى " الهشيم " في (الكهف). وقال الزجاج: الهشيم: ما يبس من الورق وتكسر
وتحطم، والمعنى: كانوا كالهشيم الذي يجمعه صاحب الحظيرة بعد أن بلغ الغاية في الجفاف،
فهو يجمع ليوقد. وقرأ الحسن: " المحتظر " بفتح الظاء، وهو اسم الحظيرة، والمعنى: كهشيم
المكان الذي يحتظر فيه الهشيم من الحطب. وقال سعيد بن جبير: هو التراب الذي يتناثر من
الحيطان. وقال قتادة: كالعظام النخرة المحترقة. والمراد من جميع ذلك: أنهم بادوا وهلكوا حتى
صاروا كالشئ المتحطم.
248

كذب قوم لوط بالنذر (33) إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر
نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر (35) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر (36)
ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر (37) ولقد صبحهم بكرة
عذاب مستقر (38) فذوقوا عذابي ونذر (39) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (40)
قوله تعالى: (إنا أرسلنا عليهم حاصبا) قال المفسرون: هي الحجارة التي قذفوا بها (إلا
آل لوط) يعني لوط وابنتيه (نجيناهم) من ذلك العذاب (بسحر) قال الفراء: " سحر " ها هنا
يجري لأنه نكرة، كقوله: نجيناهم بليل، فإذا ألقت العرب منه الباء لم يجر، لأن لفظهم به
بالألف واللام، يقولون: ما زال عندنا منذ السحر، لا يكادون يقولون غيره، فإذا حذفت منه الألف
واللام لم يصرف. وقال الزجاج: إذا كان السحر نكرة يراد به سحر من الأسحار، انصرف، فإذا
أردت سحر يومك، لم ينصرف.
قوله تعالى: (كذلك نجزي من شكر) قال مقاتل: من وحد الله تعالى لم يعذب مع
المشركين.
قوله تعالى: (ولقد راودوه عن ضيفه) أي: طلبوا أن يسلم إليهم أضيافه، وهم الملائكة
(فطمسنا أعينهم) وهو أن جبريل ضرب أعينهم بجناحه فأذهبا. وقد ذكرنا القصة في سورة
هود. وتم الكلام ها هنا، ثم قال: (فذوقوا) أي: فقلنا لقوط لوط لما جاءهم العذاب:
ذوقوا (عذابي ونذر) أي: ما أنذركم به لوط، (ولقد صبحهم بكرة) أي: أتاهم صباحا (عذاب
مستقر) أي: نازل بهم. قال مقاتل: استقر بهم العذاب بكرة. قال الفراء: و العرب تجري
" غدوة " و " بكرة " ولا تجريهما، وأكثر الكلام في " غدوة " ترك الإجراء، وأكثر في " بكرة " أن
تجري، فمن لم يجرها جعلها معرفة، لأنها اسم يكون أبدا في وقت واحد بمنزلة " أمس "
و " غد "، وأكثر ما تجري العرب " غدوة " إذا قرنت بعشية، يقولون: إني لآتيهم غدوة وعشية،
وبعضهم يقول: " غدوة " فلا يجريها و " عشية " فيجريها، ومنهم من لا يجري " عشية " لكثرة
ما صحبت " غدوة ". وقال الزجاج: الغدوة والبكرة إذا كانتا نكرتين نونتا وصرفتا، فإذا أردت بهما
بكرة يومك وغداة يومك، لم تصرفهما، والبكرة ها هنا نكرة، فالصرف أجود، لأنه لم يثبت رواية
في أنه كان في يوم كذا في شهر كذا.
249

ولقد جاء آل فرعون النذر (41) كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر (42)
أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر (43) أم يقولون نحن جميع منتصر (44)
سيهزم الجمع ويولون الدبر (45) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر (46)
قوله تعالى: (ولقد جاء آل فرعون) يعني القبط (النذر) فيهم قولان:
أحدهما: جمع نذير، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى.
والثاني: أن النذر بمعنى الإنذار، وقد بيناه آنفا، (فأخذناهم) بالعذاب (أخذ عزيز) أي:
غالب في انتقامه (مقتدر) قادر على هلاكهم.
ثم خوف أهل مكة فقال: (أكفاركم) يا معشر العرب (خير) أي: أشد وأقوى (من
أولئكم؟!) وهذا استفهام معناه الإنكار، والمعنى: ليسوا بأقوى من قوم نوح وعاد وثمود، وقد
أهلكناهم (أم لكم براءة) من العذاب أنه لا يصيبكم ما أصابهم (في الزبر) أي: في الكتب
المتقدمة، (أم يقولون نحن جميع منتصر) المعنى: أيقولون: نحن يد واحدة على من خالفنا
فننتصر منهم؟ وإنما وحد المنتصر للفظ الجميع، فإنه على لفظ " واحد " وإن كان اسما للجماعة
(سيهزم الجمع) وروى أبو حاتم بن يعقوب: " سنهزم " بالنون، " الجمع " بالنصب، " وتولون "
بالتاء، ويعني بالجمع: جمع كفار مكة (ويولون الدبر) ولم يقل: الأدبار، وكلاهما جائز، قال
الفراء: مثله أن يقول: إن فلانا لكثير الدينار والدرهم. وهذا مما أخبر الله به نبيه من علم الغيب،
فكانت الهزيمة يوم بدر.
قوله تعالى: (والساعة أدهى) قال مقاتل: هي أفظع (وأمر) من القتل قال الزجاج:
ومعنى الداهية: الأمر الشديد الذي لا يهتدى لدوائه، ومعنى " أمر " أشد مرارة من القتل
والأسر.
إن المجرمين في ضلال وسعر (47) يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس
سقر (48) إنا كل شئ خلقناه بقدر (49) وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر (50) ولقد أهلكنا
أشياعكم فهل من مدكر (51) وكل شيء فعلوه في الزبر (52) وكل صغير وكبير مستطر (53)
إن المتقين في جنات ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر (55)
250

قوله تعالى: (إن المجرمين في ضلال وسعر) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن مشركي مكة جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمون في القدر، فنزلت هذه الآية
إلى قوله: (خلقناه بقدر) انفرد بإخراجه مسلم من حديث أبي هريرة وروى أبو أمامة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: " إن هذه الآية نزلت في القدرية ".
والثاني: أن أسقف نجران جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم فقال: يا محمد تزعم أن المعاصي بقدر، وليس
كذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنتم خصماء الله "، فنزلت: (إن المجرمين) إلى قوله
(بقدر)، قاله عطاء.
قوله تعالى: (وسعر) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: الجنون. والثاني: العناء، وقد ذكرناهما في صدر السورة.
والثالث: أنه نار تستعر عليهم، قاله الضحاك.
فأما (سقر) فقال الزجاج: هي اسم من أسماء جهنم لا ينصرف لأنها معرفة، وهي مؤنثة.
وقرأت على شيخنا أبي منصور قال: سقر: اسم لنار الآخرة أعجمي، ويقال: بل هو عربي، من
قولهم: سقرته الشمس: إذا أذابته، سميت بذلك لأنها تذيب الأجسام. وروى عمر بن الخطاب
رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أمر مناديا فنادى نداء
يسمعه الأولون والآخرون: أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية، فيؤمر بهم إلى النار، يقول الله
تعالى: (ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر)، وإنما قيل لهم: " خصماء الله " لأنهم
يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها. وروى هشام بن حسان عن
الحسن قال: والله لو أن قدريا صام حتى يصير كالحبل، ثم صلى حتى يصير كالوتر، ثم أخذ ظلما
وزورا حتى ذبح بين الركن والمقام لكبه الله على وجهه في سقر (إنا كل شيء خلقناه بقدر).
وروى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل شيء بقدر حتى العجز
والكيس ". وقال ابن عباس: كل شئ بقدر حتى وضع يدك على خدك. وقال الزجاج: معنى
" بقدر " أي: كل شيء خلقناه بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، ونصب " كل شئ "
بفعل مضمر، المعنى: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر.
قوله تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة) قال الفراء: أي: إلا مرة واحدة، وكذلك قال
مقاتل: مرة واحدة لا مثنوية لها. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد: إن قضائي في خلقي
أسرع من لمح البصر. وقال ابن السائب: المعنى: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كلمح
البصر. ومعنى اللمح بالبصر: النظر بسرعة.
(ولقد أهلكنا أشياعكم) أي: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم الماضية (فهل من
251

مدكر) أي متعظ (وكل شيء فعلوه) يعني الأمم. وفي (الزبر) قولان:
أحدهما: أنه كتب الحفظة.
والثاني: اللوح المحفوظ. (وكل صغير وكبير) أي: من الأعمال المتقدمة (مستطر)
أي: مكتوب، قال ابن قتيبة: هو " مفتعل من " سطرت ": إذا كتبت، وهو مثل " مسطور ".
قوله تعالى: (في جنات ونهر) قال الزجاج: المعنى: في جنات وأنهار، والاسم الواحد
يدل على الجميع، فيجتزأ به من الجميع. أنشد سيبويه والخليل:
بها جيف الحسرى، فأما عظامها * فبيض وأما جلدها فصليب
يريد: وأما جلودها، ومثله:
في حلقكم عظم وقد شجينا
ومثله:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا
وحكى ابن قتيبة عن الفراء أنه وحد لأنه رأس آية، فقابل بالتوحيد رؤوس الآي، قال:
ويقال: النهر: الضياء والسعة، من قولك: أنهرت الطعنة: إذا وسعتها، قال قيس بن الخطيم
يصف طعنة:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءها
أي: أوسعت فتقها. قلت: وهذا قول الضحاك. وقرأ الأعمش " ونهر ".
قوله تعالى: (في مقعد صدق) أي: مجلس حسن، وقد نبهنا على هذا المعنى في
قوله: (أن لهم قدم صدق). فأما المليك، فقال الخطابي: المليك: هو المالك، وبناء
فعيل للمبالغة في الوصف، ويكون المليك بمعنى الملك، ومنه هذه الآية. والمقتدر مشروح في
الكهف.
252

(55) سورة الرحمن مدنية
وآياتها ثمان وسبعون
وفي نزولها قولان.
أحدها: أنها مكية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعطاء،
ومقاتل، والجمهور، إلا أن ابن عباس قال: سوى آية، وهي قوله: (يسأله من في السماوات
والأرض).
والثاني: أنها مدنية، رواه عطية عن ابن عباس. وبه قال ابن مسعود.
بسم الله الرحمن الرحيم
الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علمه البيان (4) الشمس
والقمر بحسبان (5) والنجم والشجر يسجدان (6) والسماء رفعها ووضع الميزان (7)
ألا تطغوا في الميزان (8) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (9)
253

للأنام (10) فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام (11) والحب ذو العصف والريحان (12)
فبأي آلاء ربكما تكذبان (13)
قوله [عز وجل]: (الرحمن. علم القرآن) قال مقاتل: لما نزل قوله: (اسجدوا
للرحمن) قال كفار مكة: وما الرحمن؟! فأنكروه وقالوا: لا نعرف الرحمن، فقال تعالى:
" الرحمن " الذي أنكروه هو الذي " علم القرآن ".
وفي قوله: (علم القرآن) قولان:
أحدهما: علمه محمدا، وعلمه محمد أمته، قاله ابن السائب.
والثاني: يسر القرآن، قاله الزجاج.
قوله [عز وجل]: (خلق الإنسان) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اسم جنس، فالمعنى: خلق الانسان جميعا، قاله الأكثرون. فعلى هذا،
في " البيان " ستة أقوال. أحدها: النطق والتمييز، قاله الحسن. والثاني: الحلال
والحرام، قاله قتادة. والثالث: ما يقول وما يقال له، قاله محمد بن كعب. والرابع: الخير
والشر، قاله الضحاك. والخامس: [طرق] الهدى، قاله ابن جريج. والسادس: الكتابة
والخط، قاله يمان.
والثاني: أنه آدم، قاله ابن عباس، وقتادة. فعلى هذا في " البيان " ثلاثة أقوال. أحدها:
أسماء كل شيء. والثاني: بيان كل شيء. والثالث اللغات.
والقول الثالث: أنه محمد صلى الله عليه وسلم، علمه بيان كل شيء ما كان وما يكون، قاله ابن كيسان.
قوله [عز وجل]: (الشمس والقمر بحسبان) أي: بحساب ومنازل، لا يعدوانها [قاله
ابن عباس و قتادة و أبو مالك]، وقد كشفنا هذا المعنى في الأنعام. قال الأخفش: أضمر
254

الخبر، وأظنه - والله أعلم - أراد: يجريان بحسبان.
قوله [تعالى]: (والنجم والشجر يسجدان) في النجم قولان: أحدهما: أنه كل نبت
ليس له ساق، وهو مذهب ابن عباس، والسدي، ومقاتل، واللغويين. والثاني: أنه نجم
السماء، والمراد به: جميع النجوم، قاله مجاهد. فأما الشجر: فكل ماله ساق. قال الفراء:
سجودهما: أنهما يستقبلان الشمس إذا أشرقت، ثم يميلان معها حتى ينكسر الفئ. وقد أشرت
في النحل إلى معنى سجود ما لا يعقل. قال أبو عبيدة: وإنما ثني فعلهما على لفظهما.
قوله [عز وجل]: (والسماء رفعها) وإنما فعل ذلك ليحيا الحيوان وتمتد الأنفاس بينها وبين
الأرض، كما يتروح [الخلق]. ولولا ذلك لماتت الخلائق كربا.
قوله [عز وجل]: (ووضع الميزان) فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: آية العدل، قاله الأكثرون، منهم مجاهد والسدي واللغويون. قال الزجاج: وهذا
لأن المعادلة: موازنة الأشياء.
والثاني: أنه الميزان المعروف، ليتناصف الناس في الحقوق، قاله الحسن، وقتادة،
والضحاك.
والثالث: أنه القرآن، قاله الحسين بن الفضل.
قوله [عز وجل]: (ألا تطغوا) ذكر الزجاج في " أن " وجهين.
أحدهما: [أنها] بمعنى اللام، والمعنى: لئلا تطغوا.
والثاني: أنها للتفسير، فتكون " لا " للنهي، والمعنى: أي: لا تطغوا، أي لا تجاوزوا
العدل.
255

قوله [عز وجل]: (ولا تخسروا الميزان) قال ابن قتيبة، أي: لا تنقصوا الوزن. فأما
الأنام، ففيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الناس، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: كل ذي روح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وقتادة،
والسدي، والفراء.
والثالث: (الإنس والجن، قاله الحسن، والزجاج.
قوله [عز وجل]: (فيها فاكهة) أي: ما يتفكه به من ألوان الثمار (والنخل ذات
الأكمام) والأكمام: الأوعية والغلف، وقد استوفينا شرح هذا في حم السجدة.
قوله [عز وجل]: (والحب) يريد: جميع الحبوب، كالبر والشعير وغير ذلك. وقرأ
ابن عامر: " والحب " بنصب الباء " ذا العصف " بالألف " والريحان " بنصب النون. وقرأ حمزة،
والكسائي إلا ابن أبي سريج، وخلف: " والحب ذو والعصف والريحان " بخفض النون، وقرأ
الباقون بضم النون.
وفي " العصف " قولان:
أحدهما: أنه تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح، قاله ابن عباس. وكذلك قال مجاهد:
هو ورق الزرع. قال ابن قتيبة: العصف: ورق الزرع، ثم يصير إذا جف ويبس وديس تبنا.
والثاني: أن العصف: المأكول من الحب، حكاه الفراء. وفي " الريحان " أربعة أقوال:
أحدها: أنه الورق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير،
والسدي. قال الفراء: الريحان في كلام العرب: الرزق، يقولون: خرجنا طلب ريحان الله،
وأنشد الزجاج للنمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه * ورحمته وسماء درر
والثاني: خضرة الزرع، رواه الوالبي عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدمشقي: فعلى
هذا، سمي ريحانا، لاستراحة النفس بالنظر إليه.
256

ولثالث: أنه ريحانكم هذا الذي يشم، روى العوفي عن ابن عباس قال: " الريحان ": ما
أنبتت الأرض من الريحان، وهذا مذهب الحسن، والضحاك، وابن زيد.
والرابع: أنه ما يؤكل من الحب، والعصف: المأكول منه، حكاه الفراء.
قوله [عز وجل]: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن قيل: كيف خاطب اثنين، وإنما ذكر
الإنسان وحده؟ فعنه جوابان ذكرهما الفراء.
أحدهما: أن العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين كما بينا في قوله: (ألقيا في
جهنم).
والثاني: أن الذكر أريد به: الإنسان والجان، فجرى مجرى الخطاب لهما من أول السورة
إلى آخرها. قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان
وتعليم البيان وخلق الشمس والقمر والسماء والأرض، خاطب الجن والإنس، فقال: (فبأي آلاء
ربكما تكذبان) أي: [فبأي نعم] ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة، لأنها [كلها]
منعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم. وقال ابن قتيبة:
الآلاء: النعم، واحدها: ألا، مثل: قفا، وإلا، مثل: معي.
خلق الإنسان من صلصال كالفخار (14) وخلق الجان من مارج من نار (15) فبأي آلاء
ربكما تكذبان (16) رب المشرقين ورب المغربين (17) فبأي آلاء ربكما تكذبان (18)
مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20) فبأي آلاء ربكما تكذبان (21)
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (22) فبأي آلاء ربكما تكذبان (23) وله الجوار المنشآت في
البحر كالأعلام (24) فبأي آلاء ربكما تكذبان (25)
وقوله [عز وجل]: (خلق الإنسان) يعني آدم (من صلصال) قد ذكرنا في الحجر
257

الصلصال والجان. فأما قوله: (كالفخار) فقال أبو عبيدة: خلق من طين يابس لم يطبخ، فله
صوت إذا نقر، فهو من يابسه كالفخار، والفخار: ما طبخ بالنار.
وأما المارج، فقال ابن عباس: هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال
مجاهد: هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا
أوقدت. وقال: هو لهب النار الصافي من غير دخان. وقال أبو عبيدة: المارج: خلط
النار. وقال ابن قتيبة: المارج: لهب النار، من قولك: قد مرج الشيء: إذا اضطرب ولم
يستقر، وقال الزجاج: هو اللهب المختلط بسواد النار.
وإن قيل: قد أخبر الله تعالى عن خلق آدم بألفاظ مختلفة، فتارة يقول: " خلقه من
تراب "، وتارة: " من صلصال "، وتارة: " من طين لازب "، وتارة: " كالفخار "،
وتارة: " من حمأ مسنون "، فالجواب: أن الأصل التراب فجعل طينا، ثم صار كالحمأ
المسنون، ثم صار صلصالا كالفخار، هذه أخبار عن حالات أصله. فإن قيل: ما الفائدة في
تكرار قوله: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " الجواب أن ذلك التكرير لتقرير النعم وتأكيد التذكير
بها. قال ابن قتيبة: من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار
للتخفيف والإيجاز، لأن افتنان المتكلم والخطيب في الفنون أحسن من اقتصاره في المقام على فن
واحد، يقول القائل: والله لا أفعله، ثم والله لا أفعله، إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع من أن
يفعله، كما تقول: والله أفعله، بإضمار " لا " إذا أراد الاختصار، ويقول القائل للمستعجل:
اعجل اعجل وللرامي: ارم ارم، قال الشاعر:
كم نعمة كانت له وكم وكم
وقال الآخر:
هلا سألت جموع كندة * يوم ولوا أين أينا
258

وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانية لأنها كلمة واحدة، فغيروا
منها حرفا ثم أتبعوها الأولى، كقولهم، عطشان نطشان، وشيطان ليطان، وحسن بسن. قال ابن
دريد: ومن الاتباع: جائع نائع، ومليح قريح، وقبيح شقيح، وشحيح نحيح، وخبيث نبيث،
وكثير نثير: وسيغ ليغ، وسائغ لائغ، وحقير نقير، وضئيل بئيل، وخضر مضر، وعفريت
نقريب، وثقة نقة، وكن إن، وواحد فاحد، وحائر بائر، وسمج لمج. قال ابن قتيبة: فلما عدد
الله تعالى في هذه السورة نعماءه، وأذكر عباده آلاءه، ونبههم على قدرته، جعل كل كلمة من ذلك
فاصلة بين كل نعمتين، ليفهمهم النعم ويقررهم بها، كقولك للرجل: ألم أبوئك منزلا وكنت
طريدا؟ أفتنكر هذا؟ ألم أحج بك وأنت صرورة؟ أفتنكر هذا؟. وروى الحاكم أبو عبد الله في
" صحيحه " من حديث جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها
قال: " مالي أراكم سكوتا؟! للجن كانوا أحسن منكم ردا، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة
(فبأي آلاء ربكما تكذبان) إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ".
قوله [عز وجل]: (رب المشرقين) قرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة: " رب المشرقين
ورب المغربين " بالخفض، وهما مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغرب الصيف ومغرب الشتاء
[للشمس والقمر جميعا].
قوله [تعالى]: (مرج البحرين) أي: أرسل العذب والملح وخلاهما وجعلهما
(يلتقيان)، (بينهما برزخ) أي: حاجز من قدرة الله تعالى (لا يبغيان) أي: لا يختلطان.
فيبغي أحدهما على الآخر. وقال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام. وقال
الحسين: " مرج البحرين " يعني بحر فارس والروم، بينهما برزخ، يعني الجزائر، وقد سبق بيان
هذا في الفرقان.
259

قوله [عز وجل]: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) قال الزجاج: إنما يخرج من البحر
الملح، وإنما جمعهما، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد أخرج منهما، ومثله (وجعل القمر فيهن
نورا) وقال أبو علي الفارسي: أراد: يخرج من أحدهما، فحذف المضاف. وقال ابن جرير:
إنما قال " منهما " لأنه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء. فأما اللؤلؤ والمرجان، ففيهما
قولان:
أحدهما: أن المرجان: ما صغر من اللؤلؤ، واللؤلؤ: العظام، قاله الأكثرون، منهم ابن
عباس، وقتادة، والضحاك، والفراء. وقال الزجاج: اللؤلؤ: اسم جامع للحب الذي يخرج من
البحر، والمرجان: صغاره.
والثاني: أن اللؤلؤ: الصغار، والمرجان: الكبار، قاله مجاهد، والسدي، ومقاتل. قال
ابن عباس: إذا أمطرت السماء، فتحت الأصداف أفواهها، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ، وقال
ابن جريج: حيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: ذكر
بعض أهل اللغة أن المرجان أعجمي معرب. قال أبو بكر، يعني ابن دريد: ولم أسمع فيه بفعل
منصرف، وأحر به أن يكون كذلك. قال ابن مسعود: المرجان: الخرز الأحمر. وقال
الزجاج: المرجان أبيض شديد البياض. وحكى القاضي أبو يعلى أن المرجان: ضرب من اللؤلؤ
كالقضبان.
قوله [عز وجل]: (وله الجوار) يعني السفن (المنشآت) قال مجاهد: هو ما قد رفع
قلعه من السفن دون ما لم يرفع قلعه القلع مكسور القاف وقال ابن قتيبة: هن اللواتي أنشئن، أي:
ابتدئ بهن (في البحر)، وقرأ حمزة: " المنشئات "، فجعلهن اللواتي ابتدأن، يقال: أنشأت
260

السحابة تمطر: إذا ابتدأت، وأنشأ الشاعر يقول، والأعلام: الجبال، وقد سبق هذا.
كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27) فبأي آلاء ربكما
تكذبان (28) يسئله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن (29) فبأي
آلاء ربكما تكذبان (30)
قوله [عز وجل]: (كل من عليها فإن) أي: على الأرض، وهي كناية عن غير المذكور.
" فان " أي، هالك.
(ويبقى وجه ربك) أي: ويبقى ربك (ذو الجلال والإكرام) قال أبو سليمان الخطابي:
الجلال: مصدر الجليل، يقال: جليل بين الجلالة والجلال. والإكرام: مصدر أكرم يكرم
إكراما، والمعنى أنه يكرم أهل ولايته وأن الله مستحق [أن] يجل ويكرم، ولا يجحدونه ولا
يكفروا به، وقد يحتمل أن يكون المعنى: أنه يكرم أهل ولايته ويرفع درجاتهم، وقد يحتمل
أن يكون أحد الأمرين - وهو الجلال - مضافا إلى الله تعالى بمعنى الصفة له، والآخر مضافا إلى
العبد بمعنى الفعل منه، كقوله تعالى: (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) فانصرف أحد الأمرين
إلى الله تعالى وهو المغفرة، والآخر إلى العباد وهو التقوى.
قوله [تعالى]: (يسأله من في السماوات والأرض) المعنى أن الكل يحتاجون اليه
فيسألونه وهو غني (كل يوم هو في شأن) مثل أن يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويشفي مريضا،
ويعطي سائلا، إلى غير ذلك من أفعاله. وقال الحسين بن الفضيل: هو سوق المقادير إلى
المواقيت. قال مقاتل: وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالت: إن الله لا يقضي في يوم السبت
شيئا، فنزلت: " كل يوم هو في شأن " [عن عبد الله به حبيب عن رسول الله قال لما سئل عن
ذاك الشأن: " يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين "].
261

سنفرغ لكم أيه الثقلان (31) فبأي آلاء ربكما تكذبان (32) يا معشر الجن والإنس
إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (33)
فبأي آلاء ربكما تكذبان (34) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران (35) فبأي
آلاء ربكما تكذبان (36)
قوله [عز وجل]: (سنفرغ لكم) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن
عامر: " سنفرغ " بنون مفتوحة. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، والأعمش، وحمزة، والكسائي،
وعبد الوارث: " سيفرغ " بياء مفتوحة. وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، وأبو عبيدة، وعاصم
الجحدري والحلبي عن عبد الوارث: " سيفرغ " بضم الياء وفتح الراء. قال الفراء: هذا وعيد من
الله تعالى، لأنه لا يشغله شيء عن شيء، تقول للرجل الذي لا شغل له: قد فرغت لي، قد
فرغت تشتمني؟! أي: قد أخذت في هذا وأقبلت عليه؟ وقال الزجاج: الفراغ في اللغة على
ضربين. أحدهما: الفراغ من شغل. والآخر: القصد للشيء، تقول: قد فرغت مما كنت فيه،
أي: قد زال شغلي به، وتقول: سأتفرغ لفلان، أي: سأجعله قصدي، ومعنى الآية:
سنقصد لحسابكم. فأما " الثقلان " فهما الجن والإنس، سميا بذلك لأنهما ثقل الأرض.
قوله [عز وجل]: (أن تنفذوا) أي: تخرجوا، يقال: نفذ الشيء من الشيء: إذا
خلص منه، كالسهم ينفذ من الرمية، والأقطار: النواحي والجوانب وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال.
أحدها: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا، قاله ابن عباس.
والثاني: إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السماوات والأرض فاهربوا
واخرجوا منها، والمراد: أنكم حيثما كنتم أدرككم الموت، هذا قول الضحاك ومقاتل في آخرين.
262

والثالث: إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر
عليكم فجوزوا، وإنما يقال لهم هذا يوم القيامة، ذكره ابن جرير.
قوله [عز وجل]: (لا تنفذون إلا بسلطان) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تنفذون إلا في سلطان الله عز وجل، قاله ابن عباس.
[والثاني: لا تنفذون] إلا بحجة، قاله مجاهد.
والثالث: لا تنفذون إلا بملك، وليس [لكم] ملك، قاله قتادة.
قوله [عز وجل]: (يرسل عليكما) فثنى على اللفظ. وقد جمع في قوله: (إن
استطعتم) على المعنى.
فأما " الشواظ " ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لهب النار، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع من
النار.
والثاني: الدخان، قاله سعيد بن جبير. والثالث: النار المحضة، قاله الفراء.
وقال أبو عبيدة: هي النار التي تأجج لا دخان فيها، ويقال: شواط وشواظ. وقرأ ابن كثير
بكسر الشين، وقرأ أيضا هو وأهل البصرة: " ونحاس " بالخفض، والباقون برفعهما وفي
" النحاس " قولان.
أحدهما: أنه دخان النار، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، والفراء
وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج، ومنه قول الجعدي يذكر امرأة:
تضئ كضوء سراج السليط * لم يجعل الله فيه نحاسا
263

وذكر الفراء في السليط أربعة أقوال.
أحدها: أنه دهن السنام، وليس له دخان إذا استصبح به.
والثاني: أنه دهن السمسم.
والثالث: أنه الزيت.
والرابع: أنه الصفر المذاب يصب على رؤوسهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال
مجاهد، وقتادة. قال مقاتل: والمراد بالآية: كفار الجن والإنس، يرسل عليهما في الآخرة لهب
النار والصفر الذائب، وهي خمسة أنهار تجري على رؤوس أهل النار ثلاثة أنهار من تحت
العرش على مقدار الليل، ونهران على مقدار أنهار الدنيا، (فلا تنتصران) أي: فلا تمتنعان
من ذلك.
فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان (37) فبأي آلاء ربكما تكذبان (38) فيومئذ
لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان (39) فبأي آلاء ربكما تكذبان (40) يعرف المجرمون
بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام (41) فبأي آلاء ربكما تكذبان (42) هذه جهنم
التي يكذب بها المجرمون (43) يطوفون بينها وبين حميم آن (44) فبأي آلاء ربكما تكذبان (45)
قوله [تعالى]: (فإذا انشقت السماء) أي: انفرجت من المجرة لنزول من فيها يوم
القيامة (فكانت وردة) وفيها قولان.
أحدهما: كلون الفرس الوردة، قاله أبو صالح، والضحاك. وقال الفراء: الفرس
264

الوردة، تكون في الربيع وردة إلى الصفرة، فإذا اشتد الحر كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك
كانت وردة إلى الغبرة، فشبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل، وكذلك قال الزجاج: " فكانت
وردة " كلون فرس [وردة] والكميت: الورد يتلون، فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في
الصيف، ولونه في الصيف خلاف لونه في الشتاء، والسماء تتلون من الفزع الأكبر. وقال ابن
قتيبة: المعنى: فكانت حمراء في لون الفرس الورد.
والثاني: أنها وردة النبات، وقد تختلف ألوانها، إلا أن الأغلب عليها الحمرة، ذكره
الماوردي.
وفي الدهان قولان:
أحدهما: أنه واحد، وهو الأديم الأحمر، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه جمع دهن، والدهن تختلف ألوانه بخضرة وحمرة وصفرة، حكاه
اليزيدي، وإلى نحوه ذهب مجاهد. وقال الفراء: شبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل، وشبه
الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن.
قوله [تعالى]: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يسألون ليعلم حالهم، لأن الله تعالى أعلم منهم بذلك.
والثاني: لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله لاشتغال كل واحد منهم بنفسه، روي القولان عن
ابن عباس.
والثالث: لا يسألون عن ذنوبهم لأنهم يعرفون بسيماهم، فالكافر أسود الوجه، والمؤمن أغر
الوجه محجل من أثر وضوئه، قاله الفراء. قال الزجاج: لا يسأل أحد عن ذنبه ليستفهم، ولكنه
يسأل سؤال توبيخ [وتقريع].
قوله [عز وجل]: (يعرف المجرمون بسيماهم) قال الحسن: بسواد الوجوه، وزرق
265

الأعين (فيؤخذ بالنواصي والأقدام) فيه قولان:
أحدهما: أن خزنة جهنم تجمع بين نواصيهم إلى أقدامهم من وراء ظهورهم، ثم يدفعونهم
على وجوههم في النار، قاله مقاتل.
والثاني: يؤخذ بالنواصي والأقدام، فيسحبون إلى النار، ذكره الثعلبي. وروى مردويه
الصائغ، قال: صلى بنا الإمام صلاة الصبح فقرأ سورة " الرحمن " ومعنا علي بن الفضيل بن
عياض، فلما قرأ " يعرف المجرمون بسيماهم " خر علي مغشيا عليه حتى فرغنا من الصلاة، فلما
كان بعد ذلك قلنا له: أما سمعت الإمام يقرأ " حور مقصورات في الخيام "؟ قال: شغلني عنها
" يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ".
قوله [عز وجل]: (هذه جهنم) أي: يقال لهم. هذه جهنم (التي يكذب بها
المجرمون) يعني المشركين، (يطوفون بينها) وقرأ أبو العالية، وأبو عمران الجوني:
" يطوفون " بياء مضمومة مع تشديد الواو، وقرأ الأعمش مثله إلا أنه بالتاء.
قوله [عز وجل] (وبين حميم آن) قال ابن قتيبة: الحميم: الماء الحار، والآني:
الذي قد انتهت شدة حره. قال المفسرون: المعنى أنهم يسعون بين عذاب الحميم وبين عذاب
الجحيم، إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة.
ولمن خاف مقام ربه جنتان (46) فبأي آلاء ربكما تكذبان (47) ذواتا أفنان (48) فبأي
آلاء ربكما تكذبان (49) فيهما عينان تجريان (50) فبأي آلاء ربكما تكذبان (51) فيهما
من كل فاكهة زوجان (52) فبأي آلاء ربكما تكذبان (53)
قوله [عز وجل]: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) فيه قولان.
أحدهما: قيامه بين يدي الله عز وجل يوم الجزاء.
والثاني: قيام الله على عبده بإحصاء ما اكتسب وجاء في التفسير، أن العبد يهم بمعصية
فيتركها خوفا من الله عز وجل وجل فله جنتان، وهما بستانان (ذواتا أفنان) فيه قولان:
266

أحدهما: أنها الأغصان، وهي جمع فنن، وهو الغصن المستقيم طولا، وهذا قول مجاهد،
وعكرمة، وعطية، والفراء، والزجاج.
والثاني: أنها الألوان والضروب من كل شئ، وهي جمع فن، وهذا قول سعيد بن جبير.
وقال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة. وجمع عطاء بين القولين، فقال: في كل غصن فنون
من الفاكهة.
قوله [تعالى]: (فيهما عينان تجريان) قال ابن عباس: تجريان بالماء الزلال،
إحداهما: السلسبيل، والأخرى: التسنيم. وقال عطية: إحداهما: من ماء غير آسن،
والأخرى: من خمر. وقال أبو بكر الوراق: فيهما عينان تجريان لمن كانت له في الدنيا عينان
تجريان من البكاء.
قوله [عز وجل]: (فيهما من كل فاكهة زوجان) أي: صنفان ونوعان: قال
المفسرون: فيهما من كل ما يتفكه به نوعان، رطب ويابس، لا يقصر أحدهما عن الآخر في
فضله.
متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان (54) فبأي آلاء ربكما
تكذبان (55) فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (56) فبأي آلاء ربكما
تكذبان (57) كأنهن الياقوت والمرجان (58) فبأي آلاء ربكما تكذبان (59) هل جزاء
الإحسان إلا الإحسان (60) فبأي آلاء ربكما تكذبان (61)
267

(متكئين) هذا حال المذكورين (على فرش) جمع فراش (بطائنها) جمع بطانة،
وهي التي تحت الظهارة. وقال أبو هريرة: هذه البطائن، فما ظنكم بالظهائر؟! وقال ابن
عباس: إنما ترك وصف الظواهر، لأنه ليس أحد يعلم ما هي. وقال قتادة: البطائن: هي الظواهر
بلغة قوم. وكان الفراء يقول: قد تكون البطانة ظاهرة، والظهارة باطنة، لأن كل واحد منهما قد
يكون وجها، والعرب تقول: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء، لظاهرها، وهو الذي نراه،
وقال ابن الزبير نعيب قتلة عثمان: خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كل قتلة،
ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب. يعني هربوا ليلا، فجعلوا ظهور الكواكب بطونا، وذلك
جائز في العربية. وأنكر هذا القول ابن قتيبة جدا، وقال: إنما أراد الله أن يعرفنا - من حيث نفهم -
فضل هذه الفرش وأن ما ولي الأرض منها إستبرق، وإذا كانت [البطانة] كذلك، فالظهارة
أعلى وأشرف. وهل يجوز لأحد أن يقول لوجه مصل: هذا بطانته، ولما ولي الأرض
منه: هذا بطانته؟! وإنما يجوز هذا في ذي الوجهين المتساوين، تقول لما وليك من الحائط:
[هذا ظهر الحائط]، ويقول جارك لما وليه: هذا ظهر الحائط، وكذلك السماء ما ولينا منها:
ظهر، وهي لمن فوقها: بطن. وقد ذكرنا الإستبرق في " الكهف ".
قوله [عز وجل]: (وجنى الجنتين دان) قال أبو عبيدة: أي: ما يجتنى قريب لا يعني
الجاني.
قوله [عز وجل]: (فيهن قاصرات الطرف) قد شرحناه في الصافات. وفي قوله:
" فيهن " قولان:
أحدهما: أنها تعود إلى الجنتين وغيرهما مما أعد لصاحب هذه القصة، قاله الزجاج.
268

والثاني: أنها تعود إلى الفرش، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
قوله [عز وجل]: (لم يطمثهن) قرأ الكسائي بضم الميم، والباقون بكسرها، وهما
لغتان: يطمث ويطمث، مثل يعكف ويعكف. وفي معناه قولان.
أحدهما: لم يقتضهن، والطمث: النكاح بالتدمية، ومنه قيل للحائض: طامث، قاله
الفراء.
والثاني: لم يمسسهن، يقال: ما طمث هذا البعير حبل، أي: ما مسه، قاله أبو عبيدة.
قال مقاتل: وذلك لأنهن خلقن من الجنة، فعلى قوله، هذا صفة الحور. وقال الشعبي: هن من
نساء الدنيا لم يمسسهن مذ أنشئن خلق. وفي الآية دليل على أن الجني يغشى المرأة كالإنسي.
قوله [عز وجل]: (كأنهن الياقوت والمرجان) قال قتادة: هن في صفاء الياقوت
وبياض المرجان. وذكر الزجاج أن أهل التفسير وأهل اللغة قالوا: هن في صفاء الياقوت
وبياض المرجان: صغار اللؤلؤ، وهو أشد بياضا. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال:
" الياقوت " فارسي معرب، والجمع " اليواقيت "، وقد تكلمت به العرب، قال مالك بن نويرة
اليربوعي:
لن يذهب اللؤم تاج قد حبيت به * من الزبرجد والياقوت والذهب
قوله [عز وجل]: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) قال الزجاج، أي: ما جزاء من
أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة. وقال ابن عباس: هل جزاء من قال: " لا إله إلا
الله " وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة. وروى أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه
الآية، وقال: " هل تدرون ما قال ربكم "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " فإن ربكم
يقول: هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة "؟!
269

ومن دونهما جنتان (62) فبأي آلاء ربكما تكذبان (63) مدهامتان (64) فبأي آلاء ربكما تكذبان (65) فيهما عينان نضاختان (66) فبأي آلاء ربكما تكذبان (67) فيهما فاكهة
ونخل ورمان (68) فبأي آلاء ربكما تكذبان (69) فيهن خيرات حسان (70) فبأي
آلاء ربكما تكذبان (71) حور مقصورات في الخيام (72) فبأي آلاء ربكما تكذبان (73)
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (74) فبأي آلاء ربكما تكذبان (75) متكئين على رفرف
خضر وعبقري حسان (76) فبأي آلاء ربكما تكذبان (77) تبارك اسم ربك ذي الجلال
والإكرام (78)
قوله [عز وجل]: (ومن دونهما جنتان) قال الزجاج: المعنى: ولمن خاف مقام ربه
جنتان، وله من دونهما جنتان. وفي قوله: " ومن دونهما " قولان:
أحدهما: دونهما في الدرج، قاله ابن عباس.
والثاني: دونهما في الفضل كما روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " جنتان من ذهب
وجنتان من فضة "، وإلى نحو هذا ذهب ابن زيد، ومقاتل.
قوله [عز وجل]: (مدهامتان) قال ابن عباس وابن الزبير: خضراوان من الري تضرب
خضرتهما إلى السواد، وكل نبت أخضر فتمام خضرته وريه أن يضرب إلى السواد.
قوله [عز وجل]: (نضاختان) قال أبو عبيدة: فوارتان. وقال ابن قتيبة: تفوران،
270

و " النضخ " أكثر من " النضح ". وفيما يفوران به أربعة أقوال:
أحدها: بالمسك والكافور، قاله ابن مسعود.
والثاني: بالماء، قاله ابن عباس.
والثالث: بالخير والبركة، قاله الحسن.
والرابع: بأنواع الفاكهة، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: (ونخل ورمان) قال ابن عباس: نخل الجنة: جذوعها زمرد أخضر،
وكربها: ذهب أحمر، وسعفها: كسوة أهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم. وقال سعيد بن جبير:
نخل الجنة: جذوعها من ذهب، وعروقها من ذهب، وكرانيفها من زمرد، ورطبها كالدلاء أشد
بياضا من اللبن، وألين من الزبد، وأحلى من العسل، ليس له عجم. قال أبو عبيد: الكرانيف:
أصول السعف الغلاظ، الواحدة: كرنافة. وإنما أعاد ذكر النخل والرمان - وقد دخلا في الفاكهة -
لبيان فضلهما كما ذكرنا في قوله: (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) هذا قول جمهور
المفسرين واللغويين. وحكى الفراء والزجاج أن قوما قالوا: ليسا من الفاكهة، قال الفراء: وقد
ذهبوا مذهبا، ولكن العرب تجعلهما فاكهة. قال الأزهري: ما علمت أحدا من العرب قال في
النخيل والكروم وثمارها: إنها ليست من الفاكهة، وإنما قال من قال، لقلة علمه بكلام العرب،
والعرب تذكر أشياء جملة ثم تخص شيئا منها بالتسمية تنبيها على فضل فيه، كقوله: " جبريل
وميكال "، فمن قال: ليسا من الملائكة كفر، ومن قال: ثمر النخل والرمان ليس من الفاكهة
جهل.
قوله [عز وجل]: (فيهن) يعني في الجنان الأربع (خيرات) يعني الحور. وقرأ
معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: " خيرات " بتشديد الياء. قال اللغويون: أصله
" خيرات " بالتشديد، فخفف، كما قيل: هين وهين، ولين ولين. وروت أم سلمة عن النبي
271

صلى الله عليه وسلم [قال] " خيرات الأخلاق حسان الوجوه ".
قوله [عز وجل]: (حور مقصورات) قد بينا في سورة " الدخان " معنى الحور.
وفي المقصورات قولان.
أحدهما: المحبوسات في الحجال، قاله ابن عباس، وهو مذهب الحسن، وأبي
العالية، والقرظي، والضحاك، وأبي صالح.
والثاني: المقصورات الطرف على أزواجهن، فلا يرفعن طرفا إلى غيرهم، قاله الربيع.
وعن مجاهد كالقولين.
والأول أصح، فإن العرب تقول: امرأة مقصورة وقصيرة وقصورة: إذا كانت ملازمة خدرها،
قاله كثير:
لعمري لقد حببت كل قصيرة * إلي، وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال، ولم أرد * قصار الخطى، شر النساء البحاتر
وبعضهم ينشده: قصورة، وقصورات، والبحاتر: القصار. وفي " الخيام " قولان.
أحدهما: أنها البيوت.
والثاني: خيام تضاف إلى القصور. وقد روى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث
أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في
السماء ستون ميلا، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضا ". وقال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، وابن مسعود، وابن عباس: الخيام: در مجوف. وقال ابن عباس:
الخيمة: لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
قوله [عز وجل]: (متكئين على رفرف) أخضر وقرأ عثمان بن عفان، وعاصم
272

الجحدري، وابن محيصن: " على رفارف " جمع غير مصروف. وقرأ الضحاك، وأبو العالية،
وأبو عمران الجوني مثلهم، إلا أنهم صرفوا " رفارف " قال ثعلب: إنما لم يقل: أخضر، لأن
الرفرف جمع، واحدته: رفرفة، كقوله: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) ولم يقل:
الخضر، لأن الشجر جمع، تقول: هذا حصى أبيض، وحصى أسود، قال الشاعر:
أحقا عباد الله أن لست ماشيا * بهرجاب ما دام الأراك به خضرا.
واختلف المفسرون في المراد بالرفرف على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها فضول المجالس والبسط، رواه [العوفي] عن ابن عباس: وقال أبو عبيدة:
هي: الفرش والبسط. وحكى الفراء، وابن قتيبة: أنها المجالس. وقال النقاش: الرفرف:
المجالس الخضر فوق الفرش.
والثاني: أنها رياض الجنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير [رياض
الجنة خضراء مخصبة].
والثالث: أنها الوسائد، قاله الحسن.
قوله [عز وجل]: (وعبقري حسان) فيه قولان.
أحدهما: أنها الزرابي، قاله ابن عباس، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وكذلك
قال ابن قتيبة: العبقري: الطنافس الثخان. قال أبو عبيدة: يقال لكل شيء من البسط: عبقري.
والثاني: أنه الديباج الغليظ، قاله مجاهد. قال الزجاج: أصل العبقري في اللغة أنه صفة
لكل ما بولغ في وصفه، وأصله أن عبقر: بلد كان يوشى فيه البسط وغيرها، فنسب كل شيء
جيد إليه، قال زهير:
273

بخيل عليها جنة عبقرية * جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا
وقرأ عثمان بن عفان، وعاصم الجحدري، وابن محيصن: " وعباقري " بألف مكسورة
القاف مفتوحة الياء من غير تنوين، قال الزجاج: ولا وجه لهذه القراءة في العربية، لأن الجمع الذي
بعد الفه حرفان، نحو، مساجد ومصابح، لا يجوز أن يكون فيه مثل عباقري، لأن ما جاوز الثلاثة
لا يجمع بياء النسب، فلو جمعت " عبقري " فإن جمعه " عباقرة "، كما أنك لو جمعت " مهلبي "
كان جمعه " مهالبة "، ولم تقل: " مهالبي " قال: فإن قيل: " عبقري " واحد، و " حسان "
جمع، فكيف جاز هذا؟ فالأصل أن واحد هذا " عبقرية " والجمع " عبقري "، كما تقول: ثمرة
وثمر، ولوزة، ولوز، ويكون أيضا " عبقري " اسما للجنس.
وقرأ الضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران: " وعباقري " بألف مع التنوين.
قوله [عز وجل]: (تبارك اسم ربك) فيه قولان:
أحدهما: أن ذكر " الاسم " صلة، والمعنى: تبارك ربك.
والثاني: أنه أصل. قال ابن الأنباري: المعنى: تفاعل من البركة، أي: البركة تكتب وتنال بذكر
اسمه. وقد بينا معنى " تبارك " في " الأعراف " وذكرنا في هذه السورة معنى " ذي الجلال
والإكرام "، وكان ابن عامر يقرأ: " ذو الجلال " وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، والباقون:
" ذي الجلال " وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق، وهم متفقون على الموضع الأول أنه
" ذو ".
274

(56) سورة الواقعة مكية
وآياتها ست وتسعون
وفيها قولان:
أحدها: أنها مكية، قاله الأكثرون، منهم ابن عباس، والحسن، وعطاء وعكرمة، وقتادة،
وجابر، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس أن فيها آية مدنية وهي قوله: (وتجعلون رزقكم أنكم
تكذبون).
والثاني: أنها مدنية، رواه عطية عن ابن عباس.
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا وقعت الواقعة (1) ليس لوقعتها كاذبة (2) خافضة رافعة (3) إذا رجت الأرض رجا (4)
وبست الجبال بسا (5) فكانت هباء منبثا (6) وكنتم أزواجا ثلاثة (7) فأصحاب
الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة (9) والسابقون
السابقون (10) أولئك المقربون (11) في جنات النعيم (12)
قوله [تعالى]: (إذا وقعت الواقعة) قال أبو سليمان الدمشقي: لما قال المشركون: متى هذا
الوعد، متى هذا الفتح؟! نزل قوله: (إذا وقعت الواقعة)، قال أبو سليمان الدمشقي فالمعنى:
275

يكون إذا وقعت. قال المفسرون: والواقعة: القيامة، وكل آت يتوقع، يقال له إذا كان: قد وقع،
والمراد بها ها هنا: النفخة في الصور لقيام الساعة.
(ليس لوقعتها) أي لمجيئها وظهورها (كاذبة) أي: كذب كقوله عز وجل: (لا تسمع فيها
لاغية) أي: لغوا. قال الزجاج: و " كاذبة " مصدر، كقولك، عافاه الله عافية، وكذب كذبة،
فهذه أسماء في موضع المصدر. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: لا رجعة لها ولا ارتداد، قاله قتادة. والثاني: ليس الإخبار عن وقوعها كذبا، حكاه
الماوردي.
قوله [عز وجل] (خافضة) [أي: هي خافضة] (رافعة) وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن،
وأبو العالية، والحسن، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، واليزيدي في اختياره: " خافضة رافعة "
بالنصب فيها - وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: أنها خفضت فأسمعت القريب، ورفعت فأسمعت البعيد، رواه العوفي عن ابن
عباس وهذا يدل على أن الواقعة صيحة القيامة.
والثاني: أنها خفضت ناسا، ورفعت آخرين، رواه عكرمة عن ابن عباس. قال المفسرون:
تخفض أقواما إلى أسفل السافلين في النار، وترفع أقواما إلى عليين في الجنة.
قوله [عز وجل]: (إذا رجت الأرض رجا) أي: حركت حركة شديدة وزلزلت، وذلك
أنها ترتج حتى يتهدم ما عليها من بناء، ويتفتت ما عليها من جبل. وفي ارتجاجها قولان.
أحدهما: أنه لإماتة من عليها من الأحياء. والثاني: لإخراج من في بطنها من الموتى.
قوله [عز وجل]: (وبست الجبال بسا) فيه قولان:
أحدهما: فتتت فتا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. قال ابن قتيبة فتت
276

حتى صارت كالدقيق والسويق المبسوس.
والثاني: لتت، قاله قتادة: وقال الزجاج: خلطت ولتت. قال الشاعر:
لا تخبزن خبزا وبس بسا
وفي " الهباء " أقوال قد ذكرناها في الفرقان. وذكر ابن قتيبة أن الهباء المنبث: ما سطع من
سنابك الخيل، وهو من " الهبوة "، والهبة: الغبار. والمعنى: كانت ترابا منتشرا.
قوله [عز وجل]: (وكنتم أزواجا) أي: أصنافا (ثلاثة). (فأصحاب الميمنة) فيهم ثمانية
أقوال:
أحدها: أنهم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت ذريته من صلبه، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، قاله الضحاك، والقرظي.
والثالث: أنهم الذين كانوا ميامين على أنفسهم، أي: مباركين، قاله الحسن، والربيع.
والرابع: أنهم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن، قاله زيد بن أسلم.
والخامس: أنهم الذين منزلتهم عن اليمين، قاله ميمون بن مهران.
والسادس: أنهم أهل الجنة، قاله السدي.
والسابع: أنهم أصحاب المنزلة الرفيعة، قاله الزجاج:
والثامن: أنهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
قوله [عز وجل] (ما أصحاب الميمنة) قال الفراء: عجب نبيه صلى الله عليه وسلم منهم، والمعنى: أي
شيء هم؟! قال الزجاج: وهذا اللفظ في العربية مجراه مجرى التعجب، ومجراه من الله عز وجل
في مخاطبة العباد ما يعظم به الشأن عندهم، ومثله، (ما الحاقة)، (ما القارعة)، قال ابن
قتيبة: ومثله أن تقول: زيد ما زيد أي رجل هو! (وأصحاب المشأمة [ما أصحاب المشأمة])
أي: أصحاب الشمال، والعرب تسمي اليد اليسرى: الشؤمى، والجانب الأيسر: الأشأم، ومنه
قيل: اليمن والشؤم، فاليمن: كأنه جاء عن اليمين، والشؤم ما [جاء] عن الشمال، ومنه سميت
277

[اليمن] و " الشأم " لأنها عن يمين الكعبة وشمالها. قال المفسرون: أصحاب الميمنة: هم الذين
يؤخذ بهم ذات اليمين، ويعطون كتبهم بأيمانهم، وتفسير أصحاب المشأمة على ضد تفسير أصحاب
الميمنة سواء، والمعنى: أي قوم هم؟! ماذا أعد لهم من العذاب؟!
قوله [عز وجل] (والسابقون السابقون) فيهم خمسة أقوال:
أحدها: أنهم السابقون إلى الإيمان من كل أمة، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني: أنهم الذين صلوا القبلتين، قاله ابن سيرين. والثالث: أهل القرآن، قاله كعب.
والرابع: الأنبياء، قاله محمد بن كعب. والخامس: السابقون إلى المساجد وإلى الخروج في سبيل
الله، قاله عثمان بن أبي سودة.
وفي إعادة ذكرهم قولان:
أحدهما: أن ذلك للتوكيد.
والثاني: أن المعنى: السابقون إلى طاعة الله تعالى السابقون إلى رحمة الله، ذكره الزجاج.
قوله [عز وجل] (أولئك المقربون) قال أبو سليمان الدمشقي: يعني عند الله في ظل عرشه
وجواره.
ثلة من الأولين (13) وقليل من الآخرين (14) على سرر موضونة (15) متكئين عليها
متقابلين (16) يطوف عليهم ولدان مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من معين (18)
لا يصدعون عنها ولا ينزفون (19) وفاكهة مما يتخيرون (20) ولحم طير مما يشتهون (21) وحور
عين (22) كأمثال اللؤلؤ المكنون (23) جزاء بما كانوا يعملون (24) لا يسمعون
فيها لغوا ولا تأثيما (25) إلا قيلا سلاما سلاما (26)
278

قوله [تعالى]: (ثلة من الأولين) الثلة: الجماعة غير محصورة العدد. وفي الأولين والآخرين
هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الأولين: الذين كانوا من زمن آدم إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم، والآخرين: هذه الأمة.
والثاني: أن الأولين: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخرين: التابعون.
والثالث: أن الأولين والآخرين: من أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فعلى الأول يكون المعنى: إن السابقين جماعة من الأمم المتقدمة الذين سبقوا بالتصديق
لأنبيائهم من جاء بعدهم مؤمنا، من أمة محمد [صلى الله عليه وسلم]، لأن الذين عاينوا الأنبياء أجمعين وصدقوا
بهم أكثر ممن عاين نبينا وصدق به.
وعلى الثاني: أن السابقين: جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الأولون من المهاجرين
والأنصار، وقليل من التابعين وهم الذين اتبعوهم بإحسان.
وعلى الثالث: أن السابقين: الأولون من المهاجرين والأنصار، وقليل ممن جاء بعدهم لعجز
المتأخرين أن يلحقوا الأولين، فقليل منهم من يقاربهم في السبق.
وأما " الموضونة "، فقال ابن قتيبة: هي المنسوجة، كأن بعضها أدخل في بعض، أو نضد
بعضها على بعض، ومنه قيل للدرع: موضونة، ومنه قيل: وضين الناقة، وهو بطان من سيور
يدخل بعضه في بعض. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الآجر موضون بعضه على بعض،
أي: مسروح وللمفسرين في معنى " موضونة " قولان:
أحدهما: مرمولة بالذهب، رواه مجاهد عن ابن عباس، وقال عكرمة: مشبكة بالدر
والياقوت، وهذا معنى ما ذكرناه عن ابن قتيبة، وبه قال الأكثرون.
والثاني: مصفوفة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
وما بعد هذا قد تقدم بيانه إلى قوله: (ولدان مخلدون) الولدان: الغلمان. وقال الحسن،
279

البصري: هؤلاء أطفال لم يكن لهم حسنات فيجزون بها، ولا سيئات فيعاقبون عليها، فوضعوا
بهذا الموضع. وفي المخلدين قولان:
أحدهما: أنه من الخلد: والمعنى أنهم مخلدون للبقاء لا يتغيرون، وهم على سن واحد. قال
الفراء: والعرب تقول للإنسان إذا كبر ولم يشمط: أو لم تذهب أسنانه عن الكبر: إنه لمخلد، هذا
قول الجمهور.
والثاني: أنهم المقرطون، ويقال: المسورون، ذكره الفراء، وابن قتيبة، وأنشدوا في ذلك.
ومخلدات باللجين كأنما * أعجازهن أفاوز الكثبان
قوله [عز وجل]: (بأكواب وأباريق) الكوب: إناء لا عروة له ولا خرطوم، وقد ذكرناه في
" الزخرف: والأباريق: آنية لها عرى وخراطيم، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال:
الإبريق: فارسي معرب، وترجمته من الفارسية أحد شيئين، إما أن يكون: طريق الماء، أو: صب
الماء على هينة، وقد تكلمت به العرب قديما، قال عدي بن زيد:
ودعا بالصبوح ويوما فجاءت * قينة في يمينها إبريق
وباقي الآية في " الصافات ".
قوله [عز وجل] (لا يصدعون عنها [ولا ينزفون]) فيه قولان.
أحدهما: لا يلحقهم الصداع الذي يلحق شاربي خمر الدنيا. و " عنها " كناية عن الكأس
المذكورة، والمراد بها: الخمر، وهذا قول الجمهور.
والثاني: لا يتفرقون عنها، من قولك: صدعته فانصدع، حكاه ابن قتيبة. قوله " ولا ينزفون "
280

مفسر في " الصافات ".
قوله [عز وجل]: (مما يتخيرون) أي: يختارون، تقول: تخيرت الشيء: إذا أخذت خيره.
قوله [عز وجل]: (ولحم طير) قال ابن عباس: يخطر على قلبه الطير، فيصير ممثلا بين
يديه على ما اشتهى. وقال مغيث بن سمي: يقع على أغصان شجرة طوبى كأمثال البخت. فإذا
اشتهى الرجل طيرا دعاه، فيجيء حتى يقع على خوانه، فيأكل من أحد جانبيه قديدا والآخر
شواء، ثم يعود طيرا فيطير فيذهب.
قوله [عز وجل]: (وحور عين) قرأ ابن كثير،، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " وحور
عين " بالرفع فيهما. وقرأ أبو جعفر، وحمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم: بالخفض فيهما
وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: " وحورا عينا " بالنصب فيهما. قال
الزجاج: والذين رفعوا كرهوا الخفض، لأنه معطوف على قوله: (يطوف عليهم) قالوا: والحور
ليس مما يطاف به، ولكنه مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء لأن المعنى: يطوف عليهم ولدان
مخلدون بأكواب ينعمون بها، فكذلك ينعمون بلحم طير، وكذلك ينعمون بحور عين، والرفع
أحسن، والمعنى: فلهم حور عين، ومن قرأ " وحورا عينا " حمله على المعنى، لأن المعنى: يعطون
هذه الأشياء ويعطون حورا عينا، إلا أنها تخالف المصحف فيكره. ومعنى (كأمثال اللؤلؤ) أي:
صفاؤهن وتلألؤهن وهو كصفاء اللؤلؤ وتلألئه. والمكنون: الذي لم يغيره الزمان واختلاف أحوال
في الاستعمال، فهن كاللؤلؤ حين يخرج من صدفه.
(جزاء) منصوب مفعول له، والمعنى: يفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم، وجوز أن يكون
منصوبا على أنه مصدر، لأن معنى " يطوف عليهم ولدان مخلدون ": يجازون جزاء بأعمالهم، وأكثر
النحويين على هذا الوجه.
قوله [عز وجل]: (لا يسمعون فيها لغوا) قد فسرنا معنى اللغو والسلام في سورة
281

مريم ومعنى التأثيم في الطور ومعنى " ما أصحاب اليمين " في أول هذه السورة.
فإن قيل: التأثيم لا يسمع فكيف ذكره مع المسموع؟.
فالجواب: أن العرب يتبعون آخر الكلام أوله، وإن لم يحسن في أحدهما ما يحسن في
الآخر، فيقولون: أكلت خبزا ولبنا، واللبن لا يؤكل، إنما حسن هذا لأنه كان مع ما يؤكل، قال
الفراء: أنشدني بعض العرب:
إذا ما الغانيات برزن يوما * وزججن الحواجب والعيونا
قال: والعين لا تزجج إنما تكحل، فردها على الحاجب لأن المعنى يعرف وأنشدني آخر:
ولقيت زوجك في الوغى * متقلدا سيفا ورمحا
وأنشدني:
علفتها تبنا وماء باردا
والماء لا يعلف وإنما يشرب، فجعله تابعا للتبن، قال الفراء: وهذا هو وجه قراءة من
قرأ، " وحور عين " بالخفض، لاتباع آخر الكلام أوله، وهو وجه العربية.
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين (27) في سدر مخضود (28) وطلح منضود (29) وظل
ممدود (30) وماء مسكوب (31) وفاكهة كثيرة (32) لا مقطوعة ولا ممنوعة (33) وفرش
مرفوعة (34) إنا أنشأناهن إنشاء (35) فجعلناهن أبكارا (36) عربا أترابا (37) لأصحاب
اليمين (38) ثلة من الأولين (39) وثلة من الآخرين (40)
وقد شرحنا معنى قوله: (وأصحاب اليمين) في قوله: " فأصحاب الميمنة ". وقد روي
عن علي رضي الله عنه أنه قال: أصحاب اليمين: أطفال المؤمنين.
قوله [عز وجل]: (في سدر مخضود) سبب نزولها أن المسلمين نظروا إلى وج. وهو واد
282

بالطائف مخصب. فأعجبهم سدره. فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أبو
العالية، والضحاك. وفي قوله المخضود ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الذي لا شوك فيه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقسامة
ابن زهير. وقال ابن قتيبة: كأنه خضد شوكه. أي: قلع، ومنه قول النبي صلى عليه وسلم في المدينة: " لا
يخضد شوكها ".
والثاني: أنه الموقر حملا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك.
والثالث: أنه الموقر الذي لا شوك فيه، ذكره قتادة وفي الطلح قولان:
أحدهما أنه الموز، قاله علي، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري،
والحسن، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة..
الثاني: أنه شجر عظام كبار الشوك، قال أبو عبيدة: هذا هو الطلح عند العرب، قال
الحادي.
بشرها دليلها وقالا * غدا ترين الطلح والجبالا
فإن قيل: ما الفائدة في الطلح؟
فالجواب أن له نورا وريحا طيبة، فقد وعدهم ما يعرفون ويميلون إليه، وإن لم يقع التساوي
بينه وبين ما في الدنيا، وقال مجاهد: كانوا يعجبون ب‍ " وج " وظلاله من طلحه وسدره، فأما
المنضود، فقال ابن قتيبة: هو الذي قد نضد بالحمل أو بالورق والحمل من أوله إلى آخره. فليس
له ساق بارزة، فقال مسروق: شجر الجنة نضد من أسفلها إلى أعلاها.
قوله [عز وجل]: (وظل ممدود) أي: دائم لا تنسخه الشمس.
283

(وماء مسكوب) أي: جار غير منقطع.
قوله [عز وجل]: (لا مقطوعة ولا ممنوعة) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا مقطوعة في حين دون حين، ولا ممنوعة بالحيطان والنواظر إنما هي مطلقة لمن
أرادها، هذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة. ولخصه بعضهم فقال: لا مقطوعة
بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان.
والثاني: لا تنقطع إذا جنيت، ولا تمنع من أحد إذا أريدت، روي عن ابن عباس.
والثالث: لا مقطوعة بالفناء، ولا ممنوعة بالفساد، ذكره الماوردي.
قوله [عز وجل]: (وفرش مرفوعة) فيها قولان:
أحدهما: رفعها أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم. وفي رفعها قولان: أحدهما: أنها
مرفوعة فوق السرر. والثاني: أن رفعها: زيادة حشوها ليطيب الاستمتاع بها..
والثاني: أن المراد بالفرش: النساء، والعرب تسمي المرأة: فراشا وإزارا ولباسا، وفي
معنى رفعهن ثلاثة أقوال: أحدها: أنهن رفعن بالجمال على نساء أهل الدنيا، والثاني: رفعن عن
الأدناس، والثالث: رفعن في القلوب لشدة الميل إليهن.
قوله [تعالى]: (إنا أنشأناهن إنشاء) يعني النساء. قال ابن قتيبة: اكتفى بذكر الفرش
لأنها محل النساء عن ذكرهن. وفي المشار إليهن قولان:
أحدهما: أنهن نساء أهل الدنيا المؤمنات، ثم في إنشائهن قولان: أحدهما: أنه إنشاؤهن
من القبور، قاله ابن عباس. والثاني: إعادتهن بعد الشمط والكبر صغارا، قاله الضحاك.
والثاني: أنهن الحور العين، وإنشاؤهن: إيجادهن عن غير ولادة، قاله الزجاج: والصواب
أن يقال: إن الإنشاء عمهن كلهن، فالحور أنشئن ابتداء، والمؤمنات أنشئن بالإعادة وتغيير
284

الصفات، وقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا
عجائز عمشا رمصا ".
قوله [عز وجل]: (فجعلناهن أبكارا) أي: عذارى. قال ابن عباس: لا يأتيها زوجها إلا
وجدها بكرا.
قوله [عز وجل]: (عربا) قرأ الجمهور: بضم الراء. وقرأ حمزة، وخلف: بإسكان
الراء، قال ابن جرير: هي لغة تميم وبكر. وللمفسرين في معنى " عربا " خمسة أقوال:
أحدها: أنهن المتحببات إلى أزواجهن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن
جبير، وابن قتيبة، والزجاج.
والثاني: أنهن العواشق، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة،
ومقاتل، والمبرد، وعن مجاهد كالقولين.
والثالث: الحسنة التبعل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة.
والرابع: المغنجات، قاله عكرمة.
والخامس: الحسنة الكلام، قاله ابن زيد.
فأما الأتراب فقد ذكرناهن في ص:.
قوله [عز وجل]: (ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين) هذا من نعت أصحاب اليمين.
وفي الأولين والآخرين خلاف، وقد سبق شرحه. وقد زعم أنه لما أنزلت الآية الأولى، وهي قوله:
" وقليل من الآخرين " وجد المؤمنون من ذلك وجدا شديدا حتى أنزلت " وثلة من الآخرين " فنسختها.
وروي عن عروة بن رويم نحو هذا المعنى.
قلت: وادعاء النسخ ها هنا لا وجه له لثلاثة أوجه.
285

أحدها: أن علماء الناسخ والمنسوخ لم يوافقوا على هذا.
والثاني: أن الكلام في الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ،
والثالث: أن الثلة بمعنى الفرقة والفئة، قال الزجاج: اشتقاقهما من القطعة، والثل: الكسر
والقطع. فعلى هذا قد يجوز أن تكون الثلة في معنى القليل.
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال (41) في سموم وحميم (42) وظل من يحموم (43)
لا بارد ولا كريم (44) إنهم كانوا قبل ذلك مترفين (45) وكانوا يصرون على الحنث
العظيم (46) وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون (47) أو آباؤنا
الأولون (48) قل إن الأولين والآخرين (49) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم (50)
ثم إنكم أيها الضالون المكذبون (51) لآكلون من شجر من زقوم (52) فمالؤن منها
البطون ((53) فشاربون عليه من الحميم (54) فشاربون شرب الهيم (55) هذا نزلهم يوم
الدين (56)
قوله [عز وجل]: (ما أصحاب الشمال) قد بينا أنه بمعنى التعجب من حالهم، والمعنى:
ما لهم، وما أعد لهم [من] الشر؟! ثم بين سوء منقلبهم فقال: (في سموم) قال ابن قتيبة: هو
حر النار.
قوله [عز وجل]: (وظل من يحموم) قال ابن عباس: ظل من دخان: قال الفراء:
اليحموم: الدخان الأسود، (لا بارد ولا كريم) فوجه الكلام الخفض تبعا لما قبله، ومثله (زيتونة لا
شرقية ولا غربية)، وكذلك قوله: (وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة)، ولو رفعت ما بعد
286

" لا " لكان صوابا، والعرب تجعل الكريم تابعا لكل شيء نفت عنه فعلا ينوي به الذم، فتقول: ما
هذه الدار بواسعة ولا كريمة، وما هذا بسمين ولا كريم. قال ابن عباس: لا بارد المدخل ولا كريم
المنظر.
قوله [عز وجل]: (إنهم كانوا قبل ذلك) أي: في الدنيا (مترفين) أي: متنعمين في ترك
أمر الله، فشغلهم ترفهم عن الاعتذار والتعبد.
(وكانوا يصرون) أي: يقيمون (على الحنث) وفيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه الشرك، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك، وابن زيد.
والثاني: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه، قاله مجاهد. وعن قتادة كالقولين.
والثالث: أنه اليمين الغموس، قاله الشعبي.
والرابع: الشرك والكفر بالبعث، قاله الزجاج.
قوله [عز وجل]: (أو آباؤنا الأولون) قال أبو عبيدة: الواو متحركة لأنها ليست بواو وإنما
هي " وآباؤنا "، فدخلت عليها ألف الاستفهام فتركت مفتوحة. وقرأ أهل المدينة، وابن عامر،: " أو
آباؤنا " باسكان الواو.
وقد سبق بيان ما لم نذكره ها هنا إلى قوله: (فشاربون شرب الهيم) قرأ أهل المدينة،
وعاصم، وحمزة: " شرب إليهم " [بضم الشين]، والباقون بفتحها.. وأكثر أهل نجد يقولون:
شربا بالفتح، أنشدني عامتهم:
تكفيه حزة فلذ إن ألم بها * من الشواء ويكفي شربه الغمر
وزعم الكسائي أن قوما من بني سعد بن تميم يقولون: " شرب الهيم " بالكسر. وقال الزجاج:
" الشرب " المصدر، و " الشرب " بالضم: الاسم، قال: وقد قيل: إنه مصدر أيضا. وفي " الهيم "
قولان:
أحدهما: الإبل العطاش، رواه ابن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
هي الإبل يصيبها داء فلا تروى من الماء، يقال: بعير أهيم، وناقة هيماء.
287

والثاني: أنها الأرض الرملة التي لا تروى من الماء، وهو مروي عن ابن عباس أيضا. قال
أبو عبيدة: الهيم: ما لا يروى من رمل أو بعير.
قوله [عز وجل]: (هذا نزلهم) أي: رزقهم وروى عباس عن أبي عمرو: " نزلهم " بسكون
الزاي، وفي " الدين " قولان قد ذكرناهما في " الفاتحة ".
نحن خلقناكم فلولا تصدقون (57) أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن
الخالقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم
وننشئكم في ما لا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون (62)
قوله [عز وجل]: (نحن خلقناكم) أي: أوجدناكم ولم تكونوا شيئا، وأنتم تقرون بهذا
(فلولا) أي: فهلا (تصدقون) بالبعث؟!
ثم احتج على بعضهم بالقدرة على ابتدائهم فقال: (أفرأيتم ما تمنون) قال الزجاج: أي:
ما يكون منكم من المني يقال: أمنى الرجل يمنى، ومنى يمني، فيجوز على هذا " تمنون "
بفتح التاء إن ثبتت به رواية.
قوله [عز وجل]: (أأنتم تخلقونه [أم نحن الخالقون]) أم تخلقون ما تمنون بشرا؟! وفيه
تنبيه على شيئين.
أحدهما: الامتهان: إذا خلق من الماء المهين بشرا سويا.
والثاني: أن من قدر على خلق ما شاهدتموه من أصل وجودكم كان أقدر على خلق ما غاب
عنكم من إعادتكم.
قوله [عز وجل]: (نحن قدرنا بينكم الموت) وقرأ ابن كثير: " قدرنا " بتخفيف الدال. وفي
288

معنى الكلام قولان:.
أحدهما: قضينا عليكم بالموت.
والثاني: سوينا بينكم في الموت قوله: (وما نحن بمسبوقين، على أن نبدل أمثالكم) قال
الزجاج: المعنى: إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم [لا] يسبقنا سابق، ولا يفوتنا ذلك. وقال ابن
قتيبة: لسنا مغلوبين على أن نستبدل بكم أمثالكم.
قوله [عز وجل]: (وننشئكم في ما لا تعلمون) وفيه أربعة أقوال:
أحدها: نبدل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم، قاله الحسن.
والثاني: ننشئكم في حواصل طير سود تكون ب‍ " برهوت " كأنها الخطاطيف، قاله سعيد بن
المسيب.
والثالث: نخلقكم في أي خلق شئنا، قاله مجاهد.
والرابع: نخلقكم في سوى خلقكم، قاله السدي. قال مقاتل: نخلقكم سوى خلقكم في ما
لا تعلمون من الصور.
قوله [عز وجل]: (ولقد علمتم النشأة الأولى) أي وهي ابتداء خلقكم من نطفة وعلقة
(فلولا تذكرون) أي: فهلا تعتبرون فتعلموا قدرة الله فتقروا بالبعث.
أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزراعون (64) لو نشاء لجعلناه حطاما
فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67) أفرأيتم الماء الذي
تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا
تشكرون (70) أفرأيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون (72) نحن
جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73) فسبح باسم ربك العظيم (74)
قوله [عز وجل]: (أفرأيتم ما تحرثون) أي: ما تعملون في الأرض من إثارتها، وإلقاء
289

البذور فيها، (أأنتم تزرعونه) أي: تنبتونه؟! وقد نبه هذا الكلام على أشياء منها إحياء الموتى،
ومنها الامتنان بإخراج القوت، ومنها القدرة العظيمة الدالة على التوحيد.
قوله [عز وجل]: (لجعلناه) يعني الزرع (حطاما) قال عطاء: تبنا لا قمح فيه. وقال
الزجاج: أبطلناه حتى يكون منحطما لا حنطة فيه، ولا شيء.
قوله [عز وجل]: (فظلتم) وقرأ الشعبي، وأبو العالية، وابن أبي عدي: " فظلتم " بكسر
الظاء، قد بيناه في قوله: (ظلت عليه عاكفا).
قوله [عز وجل]: (تفكهون) وقرأ أبي بن كعب، وابن السميفع، والقاسم بن محمد،
وعكرمة: " تفكنون " بالنون. وفي المعنى أربعة أقوال.
أحدها: تعجبون، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل. قال الفراء: تتعجبون مما
نزل بكم في زرعكم.
والثاني: تندمون، قاله الحسن، والزجاج. وعن قتادة كالقولين. قال ابن قتيبة: يقال:
" تفكهون ": تندمون، ومثلها: تفكنون، وهي لغة لعكل.
والثالث: تلاومون قاله عكرمة.
والرابع: تتفجعون، قاله ابن زيد.
قوله [عز وجل]: (إنا لمغرمون) قال الزجاج: أي: تقولون: قد غرمنا وذهب زرعنا.
وقال ابن قتيبة: " لمغرمون " أي: لمعذبون.
قوله [عز وجل]:: (بل نحن محرومون) أي: حرمنا ما كنا نطلب من الريع في الزرع.
وقد نبه بهذا على أمرين.
290

أحدهما: إنعامه عليهم إذ لم يجعل زرعهم حطاما.
والثاني: قدرته على إهلاكهم كما قدر على إهلاك الزرع. فأما المزن، فهي السحاب،
واحدتها: مزنة.
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: (التي تورون) قال أبو عبيدة: أي تستخرجون، من أوريت،
وأكثر ما يقال: وريت. وقال ابن قتيبة: " تورون " أي: تقدحون، تقول: أوريت النار: إذا قدحتها.
قوله [عز وجل]: (أأنتم أنشأتم شجرتها) في المراد بشجرتها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الحديد، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنها الشجرة التي تتخذ منها الزنود، وهو خشب يحك بعضه ببعض فتخرج منه
النار، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج.
والثالث: أن شجرتها: أصلها، ذكره الماوردي.
قوله [عز وجل]: (نحن جعلناها تذكرة) قال المفسرون: إذا رآها الرائي ذكر نار جهنم،
وما يخافه من عذابها، فاستجار بالله منها (ومتاعا) أي: منفعة (للمقوين) وفيهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم المسافرون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. قال ابن قتيبة: سموا بذلك
لنزلهم القوى، وهو القفر. وقال بعض العلماء: المسافرون أكثر حاجة إليها من المقيمين،
لأنهم إذا أوقدوها هربت منهم السباع واهتدى به الضال.
والثاني: أنهم المسافرون والحاضرون، قاله مجاهد.
والثالث: أنهم الجائعون،. قال ابن زيد: المقوي: الجائع في كلام العرب.
والرابع: أنهم الذين لا زاد معهم ولا مرد لهم، قاله أبو عبيدة.
قوله [عز وجل]: (فسبح باسم ربك العظيم) قال الزجاج: لما ذكر ما يدل على توحيده،
291

وقدرته، وإنعامه، قال: " فسبح باسم ربك " أي: برئ الله ونزهه عما يقولون في وصفه. وقال
الضحاك: معناه: فصل باسم ربك، أي: استفتح الصلاة بالتكبير. وقال ابن جرير: سبح بذكر
ربك وتسميته. وقيل: الباء زائدة. والاسم يكون بمعنى الذات، والمعنى: فسبح ربك.
فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنه لقرآن كريم (77) في
كتاب مكنون (78) لا يمسه إلى المطهرون (79) تنزيل من رب العالمين (80) أفبهذا
الحديث أنتم مدهنون (81) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون (82)
قوله [عز وجل]: (فلا أقسم) في " لا " قولان:
أحدهما: أنها دخلت توكيدا. والمعنى: فأقسم، ومثله (لئلا يعلم أهل الكتاب) قاله
الزجاج: وهو مذهب سعيد بن جبير.
والثاني: أنها على أصلها. ثم في معناها قولان.
أحدهما: أنها ترجع إلى ما تقدم، ومعناها: النهي، تقدير الكلام: فلا تكذبوا، ولا
تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج، قاله الماوردي.
والثاني: أن " لا " ردا لما يقوله الكفار في القرآن: إنه سحر، وشعر، وكهانة، ثم استأنف
القسم على أنه قرآن كريم، قاله علي بن أحمد النيسابوري: وقرأ الحسن: فلأقسم بغير ألف بين
الكلام والهمزة.
قوله [عز وجل]: (بمواقع) وقرأ حمزة، والكسائي: " بموقع " على التوحيد. قال أبو علي:
مواقعها: مساقطها. ومن أفرد، فلأنه اسم جنس. ومن جمع فلاختلاف ذلك. وفي " النجوم "
قولان:
أحدهما: نجوم السماء، قاله الأكثرون. فعلى هذا في مواقعها ثلاثة أقوال. أحدها:
انكدارها وانتثارها يوم القيامة، قاله الحسن. والثاني: منازلها، قاله عطاء، وقتادة. والثالث:
292

مغيبها في المغرب، قاله أبو عبيدة.
والثاني: أنها نجوم القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. فعلى هذا سميت نجوما
لنزولها متفرقة، ومواقعها: نزولها قوله: (وإنه لقسم) الهاء كناية عن القسم. وفي الكلام تقديم
وتأخير، تقديره: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عظمه. ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى: (إنه لقرآن
كريم) والكريم: اسم جامع لما يحمد، وذلك أن فيه البيان، والهدى، والحكمة، وهو معظم
عند الله عز وجل.
قوله [عز وجل]: (في كتاب) فيه قولان:
أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس. والثاني: أنه المصحف الذي بأيدينا، قاله
مجاهد، وقتادة. وفي " المكنون " قولان:
أحدهما: مستور من الخلق، قاله مقاتل، وهذا على القول الأول.
والثاني: مصون، قاله الزجاج.
قوله [عز وجل]: (لا يمسه إلا المطهرون) قال مقاتل: إنه اللوح المحفوظ. فالمطهرون
عنده: الملائكة، وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد وسعيد بن جبير. فعلى هذا يكون الكلام
خبرا. ومن قال: هو المصحف، ففي المطهرين أربعة أقوال:
أحدها: أنهم المطهرون من الأحداث، قاله الجمهور. فيكون ظاهر الكلام النفي، ومعناه
النهي.
والثاني: المطهرون من الشرك، قاله ابن السائب.
والثالث: المطهرون من الذنوب والخطايا، قاله الربيع بن أنس.
والرابع: أن معنى الكلام: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، حكاه الفراء.
قوله [عز وجل]: (تنزيل) أي: هو تنزيل. والمعنى: هو منزل، فسمي المنزل تنزيلا على
293

اتساع اللغة، كما تقول للمقدور: قدر، وللمخلوق: خلق.
قوله [عز وجل]: (أفبهذا الحديث) يعني: القرآن (أنتم مدهنون) فيه قولان:
أحدهما: مكذبون، قاله ابن عباس، والضحاك، والفراء.
والثاني: ممالئون الكفار على الكفر به، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة: المدهن: المداهن،
وكذلك قال ابن قتيبة " مدهنون " أي: مداهنون. يقال: أدهن في دينه، وداهن. قوله (وتجعلون رزقكم
أنكم تكذبون) روى مسلم في " " صحيحه من حديث ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر ". قالوا: هذه رحمة آتية
وضعها الله حيث شاء. وقال بعضهم: لقد صدق نو كذا، وكذا، فنزلت هذه الآية " فلا أقسم بمواقع
النجوم " حتى بلغ " أنكم تكذبون ". وروى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث زيد بن
خالد الجهني، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل،
فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: " قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما المؤمن فقال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك
مؤمن بي، كافر بالكواكب. وأما من قال: مطرنا بنو كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب ".
وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الرزق ها هنا بمعنى الشكر. روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (وتجعلون رزقكم) قال: " شكركم "، وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس. وكان علي
يقرأ " وتجعلون شكركم ".
294

والثاني: أن المعنى: وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم، قاله الأكثرون. وذلك انهم كانوا
يمطرون، فيقولون: مطرنا بنوء كذا.
والثالث: أن الرزق بمعنى الحظ. فالمعنى: وتعجلون أحظكم ونصيبكم من القرآن أنكم
تكذبون، ذكره الثعلبي. وقرأ أبي بن كعب، والمفضل عن عاصم " تكذبون " بفتح التاء،
وإسكان الكاف، مخففة الذال.
فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن
لا تبصرون (85) فلولا إن كنتم غير مدينين (86) ترجعونها إن كنتم صادقين (87)
فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنت نعيم (89) وأما إن كان من أصحاب
اليمين (90) فسلام لك من أصحاب اليمين (91) وأما إن كان من المكذبين الضالين (92)
فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94) إن هذا لهو حق اليقين (95) فسبح باسم
ربك العظيم (96)
قوله [عز وجل]: (فلولا) أي: فهلا (إذا بلغت الحلقوم) يعني: النفس فترك ذكرها
لدلالة الكلام، وأنشدوا من ذلك:
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
قوله [عز وجل]: (وأنتم) يعني أهل الميت (تنظرون) للانسان في تلك الحالة، ولا
295

تملكون له شيئا (ونحن أقرب إليه منكم) فيه قولان:
أحدهما: ملك الموت أدنى إليه من أهله (ولكن لا تبصرون) الملائكة، رواه أبو صالح
عن ابن عباس.
والثاني: [ونحن] أقرب إليه منكم بالعلم والقدرة والرؤية (ولكن لا تبصرون) أي: لا
تعلمون، والخطاب للكفار، ذكره الواحدي.
قوله [عز وجل]: (فلولا أن كنتم غير مدينين) فيه خمسة أقوال:
أحدها: محاسبين، رواه الضحاك، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة.
والثاني: موقنين، قاله مجاهد. والثالث: مبعوثين قاله قتادة والرابع: مجزيين. ومنه يقال: دنته،
وكما تدين تدان قاله أبو عبيدة. والخامس: مملوكين إذا من قولك: دنت له بالطاعة، قاله ابن
قتيبة.
قوله [عز وجل]: (ترجعونها) أي: تردون النفس. والمعنى: إن جحدتم للإله الذي
يحاسبكم ويجازيكم، فهلا تردون هذه النفس؟! فإذا لم يمكنكم ذلك، فاعلموا أن الأمر لغيركم.
قال الفراء: وقوله [عز وجل]: (ترجعونها) هو جواب لقوله: [عز وجل]: (فلولا إذا
بلغت الحلقوم) ولقوله [عز وجل]: (فلولا إن كنتم غير مدينين) فإنهما أجيبتا بجواب واحد.
ومثله قوله [عز وجل]: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم) ثم ذكر
طبقات الخلق عند الموت فقال [عز وجل]: (فأما إن كان من القربين) يعني: الذي بلغت
نفسه الحلقوم (من المقربين) عند الله. قال أبو العالية: هم السابقون (فروح) أي: فله روح.
والجمهور يفتحون الراء. وفي معناها ستة أقوال:
أحدها: الفرح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: الراحة، رواه ابن أبي طلحة
عن ابن عباس. والثالث: المغفرة والرحمة، رواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: الجنة، قاله
مجاهد. والخامس: روح من الغم الذي كانوا فيه، قاله محمد بن كعب. والسادس: روح في
القبر، أي: طيب نسيم، قاله ابن قتيبة. وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رزين، والحسن، وعكرمة وابن
296

يعمر، وقتادة، ورويس عن [يعقوب]، وابن أبي سريج عن الكسائي: " فروح " برفع الراء. وفي
معنى هذه القراءة قولان:
أحدهما: أن معناها: فرحمة، قاله قتادة.
والثاني: فحياة وبقاء، قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: معناه: فحياة دائمة لا موت معها.
وفي " الريحان " أربعة أقوال.
أحدها: أنه الرزق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أنه المستراح، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنه الجنة، قاله مجاهد، وقتادة.
والرابع: أنه الريحان المشموم. وقال أبو العالية: لا تخرج أحد من المقربين من الدنيا
حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة، فيشمه، ثم تقبض فيه روحه، وإلى نحو هذا ذهب الحسن.
وقال أبو عمران الجوني: بلغنا أن المؤمن إذا قبض روحه تلقى بضبائر الريحان من الجنة فتجعل،
روحه فيه.
قوله [عز وجل]: (فسلام لك من أصحاب اليمين) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: فسلامة لك من العذاب، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: تسلم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين، قاله عطاء.
والثالث: أن المعنى: أنك ترى فيهن ما تحب من السلامة. وقد علمت ما أعد لهم من
الجزاء، قاله الزجاج.
قوله [عز وجل]: (وأما إن كان من المكذبين الضالين) أي: بالبعث (الضالين) عن
الهدى (فنزل) وقد بيناه في هذه السورة.
297

قوله [عز وجل]: (إن هذا) يعني: ما ذكر في هذه السورة (لهو حق اليقين) أي: هو
اليقين حقا، فأضافه إلى نفسه، كقولك: صلاة الأولى، وصلاة العصر، ومثله: (ولدار
الآخرة) وقد سبق هذا المعنى وقال قوم: معناه: وإنه للمتقين حقا. وقيل للحق: اليقين.
قوله [عز وجل]: (فسبح باسم ربك العظيم) قد ذكرناه في هذه السورة.
298

سورة الحديد مدنية
وآياتها تسع وعشرون
وفيها قولان:
أحدهما: أنها مدنية، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة،
وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: أنها مكية، قاله ابن السائب.
بسم الله الرحمن الرحيم
سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (1) له ملك السماوات
والأرض يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير (2) هو الأول والآخر والظاهر والباطن
وهو بكل شئ عليم (3) هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على
العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو
معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4) له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع
299

الأمور (5) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور (6)
قوله [عز وجل]: (سبح لله ما في السماوات والأرض) أما تسبيح ما يعقل، فمعلوم،
وتسبيح ما لا يعقل، قد ذكرنا معناه في قوله [عز وجل]: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده).
قوله [عز وجل]: (هو الأول) قال أبو سليمان الخطابي الأول هو السابق للأشياء
(والآخر) الباقي بعد فناء الخلق (والظاهر) بحجته الباهرة، وبراهينه النيرة، وشواهده الدالة
على صحة وحدانيته. ويكون: الظاهر فوق كل شيء بقدرته. وقد يكون الظهور بمعنى العلو،
ويكون بمعنى الغلبة. والباطن: هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يستولي عليه توهم الكيفية
وقد يكون معنى الظهور والبطون: احتجابه عن أبصار الناظرين، وتجليه لبصائر المتفكرين. ويكون
معناه: العالم بما ظهر من الأمور، والمطلع على ما بطن من الغيوب. قوله: (هو الذين خلق
السماوات والأرض) مفسر في الأعراف، إلى قوله [عز وجل]: (يعلم ما يلج في الأرض)
وهو مفسر في سبأ إلى قوله [عز وجل]: وهو معكم أينما كنتم) أي: بعلمه وقدرته. وما بعده
ظاهر إلى قوله [عز وجل]: (آمنوا بالله ورسوله) قال المفسرون: هذا الخطاب لكفار قريش
(وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) يعني: المال الذي كان بأيدي غيرهم، فأهلكهم الله،
وأعطى قريشا ذلك المال، فكانوا فيه خلفاء من مضى.
امنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر
كبير (7) وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن
كنتم مؤمنين (8) هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور
300

وإن الله بكم لرؤف رحيم (9) وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات
والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين
أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10) من ذا الذي
يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم (11)
قوله [عز وجل]: (وما لكم لا تؤمنون بالله) هذا استفهام إنكار، والمعنى: أي شيء لكم
من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله (وقد أخذ ميثاقكم؟) قرأ أبو عمرو " أخذ " بالرفع. وقرأ
الباقون " أخذ " بفتح الخاء (ميثاقكم) بالفتح. والمراد به: حين أخرجتم من ظهر آدم (إن كنتم
مؤمنين) بالحجج والدلائل.
قوله [عز وجل]: (هو الذي ينزل على عبده) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم (آيات بينات) يعني:
القرآن (ليخرجكم من الظلمات) يعني الشرك إلى نور الإيمان (وإن الله بكم لرؤوف رحيم) حين
بعث الرسول ونصب الأدلة. ثم حثهم على الإنفاق فقال: (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله
ميراث السماوات والأرض): أي شيء لكم في ترك الإنفاق مما يقرب إلى الله عز وجل وأنتم ميتون
تاركون أموالكم؟! ثم بين فضل من سبق بالإنفاق فقال: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح)
وفيه قولان:
أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: أنه فتح الحديبية، قاله الشعبي. والمعنى: لا يستوي من أنفق [قبل] ذلك
(وقاتل) ومن فعل ذلك بعد الفتح. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق قوله:
(أولئك أعظم درجة) قال ابن عباس: أعظم منزلة عند الله. قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل،
فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزجاج: لأن المتقدمين كانت بصائرهم أنفذ. ونالهم
من المشقة أكثر (وكلا وعد الله الحسنى) أي: وكلا الفرقين وعده الله الجنة. وقرأ ابن عامر
" وكل " بالرفع.
301

قوله [عز وجل]: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له) قرأ ابن كثير، وابن
عامر " فيضعفه " مشددة العين بغير ألف، إلا أن ابن كثير يضم الفاء، وابن عامر يفتحها. وقرأ نافع،
وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي " فيضاعفه " بالألف وضم الفاء، وافقهم عاصم [إلا أنه] فتح
الفاء. قال أبو علي: يضاعف ويضعف بمعنى واحد، إلا أن الرفع في " يضاعف " هو الوجه، لأنه
محمول على " يقرض ". أو على الانقطاع من الأول كأنه [أراد أن يقول) فهو يضاعف. ويحمل
قول [الذي] نصب على المعنى، لأنه إذا قال: من ذا الذي يقرض الله، [أراد أن يقول]
أيقرض الله أحد قرضا فيضاعفه. والآية مفسرة في البقرة والأجر الكريم: الجنة.
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم (12) يوم يقول المنافقون
والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا
فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب (13) ينادونهم ألم
نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء
أمر الله وغركم بالله الغرور (14) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم
النار هي مولاكم وبئس المصير (15)
قوله [عز وجل]: (يسعى نورهم) قال المفسرون: يضيء لهم نور عملهم على الصراط
على قدر أعمالهم. قال ابن مسعود: منهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا نوره على إبهامه
يطفئ مرة، ويوقد أخرى، وفي قوله [عز وجل) قولان:
302

أحدهما: أنه كتبهم يعطونها بأيمانهم، قاله الضحاك.
والثاني: أنه نورهم يسعى، أي: يمضي بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم،
والباء بمعنى: " في ". و " في " بمعنى " عن "، هذا قول الفراء.
قوله [عز وجل]: (بشراكم اليوم) هذا قول الملائكة لهم.
قوله [عز وجل]: (انظرونا نقتبس) وقرأ حمزة: " أنظرونا " بقطع الهمزة، وفتحها، وكسر
الظاء، قال المفسرون: تغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة، فيعطى المؤمنون النور، فيمشي
المنافقون بنور المؤمنين، قالوا: انظرونا نقتبس من نوركم (قيل: ارجعوا وراءكم) في القائل
لهم قولان:
أحدهما: أنهم المؤمنون، قاله ابن عباس.
والثاني: الملائكة، قاله مقاتل، وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: ارجعوا إلى المكان الذي قبستم فيه النور، فيرجعون، فلا يرون شيئا.
والثاني: ارجعوا فاعملوا عملا يجعله الله لكم نورا.
والثالث: أن المعنى: لا نور لكم عندنا قوله: (فضرب بينهم بسور) قال ابن عباس: هو
الأعراف، وهو سور (من قبله العذاب) وهو جهنم. وقد ذهب قوم إلى أن السور يكون ببيت
المقدس في مكان السور الشرقي بين الوادي الذي يسمى: وادي جهنم، وبين الباب الذي يسمى:
باب الرحمة، وإلى نحو هذا ذهب عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمر، وكعب.
قوله [عز وجل]: (ينادونهم) أي: ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور: (ألم نكن
معكم) أي: على دينكم نصلي بصلاتكم، ونغزو معكم؟! فيقول لهم المؤمنون: (بلى
ولكنكم فتنتم أنفسكم) (وتربصتم) فيه قولان:
303

أحدهما: تربصتم بالتوبة.
والثاني: تربصتم بمحمد الموت، وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح [وارتبتم] شككتم في
الحق (وغرتكم الأماني) يعني: ما كانوا يتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين (حتى جاء أمر
الله) وفيه قولان:
أحدهما: أنه الموت.
والثاني: إلقاؤهم في النار (وغركم بالله الغرور) أي: غركم الشيطان بحكم الله وإمهاله
(فاليوم لا يؤخذ منكم فدية) وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب " لا تؤخذ " بالتاء، أي: بدل
وعوض عن عذابكم. وهذا خطاب للمنافقين، ولهذا [قال] [عز وجل]: (ولا من الذين
كفروا).
قوله [عز وجل]: (هي مولاكم) قال أبو عبيدة، أي: أولى بكم.
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلبوهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا
كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم
فاسقون (16) إعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون (17)
قوله [عز وجل]: (ألم يأن للذين آمنوا) اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في المؤمنين. قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا، وبين أن عوتبنا
بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا.
304

والثاني: أنها نزلت في المنافقين، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال مقاتل: سأل المنافقون
سلمان الفارسي فقالوا: حدثنا عن التوراة فقال فإن فيها العجائب، فنزلت هذه الآية. وقال الزجاج:
نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حثوا على الرقة والخشوع. فأما من كان وصفه الله عز وجل
بالخشوع، والرقة، فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء. فعلى الأول: يكون الإيمان حقيقة. وعلى
الثاني: يكون المعنى: " ألم يأن للذين آمنوا " بألسنتهم. قال ابن قتيبة: المعنى: ألم يحن. تقول:
آن الشيء: إذا حان.
قوله [عز وجل]: (أن تخشع قلوبهم) أي: ترق وتلين لذكر الله. المعنى، أنه يجب أن
يورثهم الذكر خشوعا (وما نزل من الحق) قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة،
والكسائي " وما نزل " بفتح النون، والزاي، مع تشديد الزاي. وقرأ نافع، وحفص، والمفضل عن
عاصم [" نزل "] بفتح النون، وتخفيف الزاي. وقرأ أبو عبد [الرحمن] السلمي، وأبو العالية،
وابن يعمر، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم " نزل " برفع النون، وكسر الزاي، مع
تشديدها. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء " وما أنزل " بهمزة مفتوحة، وفتح الزاي. وقرأ أبو مجلز،
وعمرو بن دينار مثله، إلا أنه بضم الهمزة، وكسر الزاي. و " الحق " القرآن (ولا يكونوا) قرأ
رويس عن يعقوب " ولا تكونوا " بالتاء (كالذين أوتوا الكتاب) يعني: اليهود: والنصارى (فطال
عليهم الأمد) وهو: الزمان. وقال ابن قتيبة: الأمد: الغاية. والمعنى: أنه بعد عهدهم بالأنبياء
والصالحين (فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) وهم الذين لم يؤمنوا بعيسى ومحمد عليهما
السلام (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها) أي: يخرج منها النبات بعد يبسها، فكذلك
يقدر على إحياء الأموات (قد بينا لكم الآيات) الدالة على وحدانيته وقدرته (لعلكم تعقلون)،
أي: لكي تتأملوا.
305

إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم (18)
والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم
ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (19)
قوله [عز وجل]: (إن المصدقين والمصدقات) قرأ ابن كثير، وعاصم إلا حفصا
بتخفيف الصاد فيهما على معنى التصديق وقرأ الباقون. بالتشديد على معنى الصدقة.
قوله [عز وجل]: (أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) اختلفوا في نظم الآية على
قولين:
أحدهما: أن تمام الكلام عند قوله [عز وجل]: (أولئك هم الصديقون) ثم ابتدأ فقال
[عز وجل] (والشهداء عند ربهم) هذا قول ابن عباس، ومسروق، والفراء في آخرين.
والثاني: أنها على نظمها. والواو في " والشهداء " واو النسق ثم في معناها قولان:
أحدهما: أن كل مؤمن صديق شهيد، قاله ابن مسعود، ومجاهد.
والثاني: أنها نزلت في قوم مخصوصين، وهم ثمانية نفر سبقوا إلى الإسلام: أبو بكر،
وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة بن عبد المطلب، وطلحة، والزبير، وسعد، وزيد، قاله الضحاك.
وفي الشهداء قولان:
[أحدهما: أنه جمع شاهد. ثم فيهم قولان: أحدهما] أنهم الأنبياء خاصة، قاله ابن
306

عباس. والثاني: أنهم الشاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان بالله، قاله مجاهد.
والقول الثاني: جمع شهيد، قاله الضحاك، ومقاتل.
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل
غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب
شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (20) سابقوا إلى مغفرة
من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (21)
قوله [عز وجل]: (اعلموا أنما الحياة الدنيا) يعني: الحياة في هذه الدار (لعب ولهو)
أي: غرور ينقضي عن قليل. وذهب بعض المفسرين إلى أن المشار بهذا إلى حال الكافر في
دنياه، لأن حيات تنقضي على لهو ولعب وتزيين الدنيا، وتفاخر ويفاخر قرناءه وجيرانه، ويكاثرهم
بالأموال والأولاد، فيجمع من غير حله، ويتطاول على أولياء الله بماله، وخدمه، وولده، فيفنى
عمره في هذه الأشياء، ولا يلتفت إلى العمل للآخرة. ثم بين لهذه الحياة شبها، فقال: (كمثل
غيث) يعني: مطرا (أعجب الكفار) وهم الزراع، وسموا كفارا، لأن الزارع إذا ألقى البذر في
الأرض كفره، أي: غطاه (نباته) [أي: ما نبت من ذلك الغيث (ثم يهيج) أي: ييبس] (فتراه
مصفرا) بعد خضرته وريه (ثم يكون حطاما) أي: ينحطم، وينكسر بعد يبسه. وشرح هذا
المثل قد تقدم في " يونس " عند قوله: [عز وجل] (إنما مثل الحياة الدنيا)، وفى " الكهف "
307

عند قوله [عز وجل] (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا).
قوله [عز وجل]: (وفي الآخرة عذاب شديد) أي: لأعداء الله (ومغفرة من الله
ورضوان) لأوليائه وأهل طاعته. وما بعد هذا مذكور في آل عمران: إلى قوله: (ذلك فضل الله)
فبين أنه لا يدخل الجنة أحد إلا بفضل الله.
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك
على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل
مختال فخور (23) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني
الحميد (24)
قوله [عز وجل]: (ما أصاب من مصيبة في الأرض) [يعني: قحط المطر، وقلة النبات،
ونقص الثمار] (ولا في أنفسكم) يعني الأمراض، وفقد الأولاد (إلا في كتاب) وهو اللوح
المحفوظ (من قبل أن نبراها) أن نخلقها، يعني: الأنفس (إن ذلك على الله يسير) أي: أن إثبات
ذلك على كثرته هين على الله عز وجل (لكيلا تأسوا) أي: تحزنوا (على ما فاتكم) من الدنيا
(ولا تفرحوا بما آتاكم) وقرأ أبو عمرو - إلا اختيار اليزيدي - بالقصر على معنى: جاءكم من
الدنيا. وقرأ الباقون بالمد على معنى ما: أعطاكم الله منها. وأعلم أنه من علم أن ما قضي لا بد أن
يصيبه قل حزنه وفرحه. وقد روى قتيبة بن سعيد قال: دخلت بعض أحياء العرب، فإذا بفضاء من
الأرض فيه من الإبل ما لا يحصى عدده كلها قد مات، فسألت عجوزا: لمن كانت هذه الإبل؟
فأشارت إلى شيخ على تل يغزل ألوف، فقلت له: يا شيخ لك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت
308

باسمي، قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها، قلت: فهل قلت [في ذلك] شيئا؟
قال: نعم، قلت:
لا والذي أنا عبد في عبادته
والمرء في الدهر نصب الرزء والحزن
ما سرني أن إبلي في مباركها
وما جرى في قضا الله لم يكن
وما بعد هذا قد ذكرناه في سورة النساء والذي قيل في البخل هناك هو الذي قيل ها هنا إلى
قوله: (ومن يتول) أي: عن الإيمان (فإن الله الغني) عن عباده (حميد) إلى أوليائه. وقد سبق
معنى الاسمين في البقرة وقرأ نافع وابن عامر " فإن الله الغني الحميد " ليس فيها " هو " وكذلك هو
في مصاحف أهل المدينة، والشام.
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب
إن الله قوي عزيز (25)
قوله [عز وجل]: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) أي: بالآيات والحجج (وأنزلنا معهم
الكتاب) ببيان الشرائع، والأحكام. وفي " الميزان " قولان:.
أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنه الذي يوزن به، قاله ابن زيد ومقاتل. فعلى القول الأول: يكون المعنى: وأمرنا
309

بالعدل. وعلى الثاني: ووضعنا الميزان، أي: أمرنا به (ليقوم الناس بالقسط) أي: لكي يقوموا
بالعدل.
قوله [عز وجل]: (وأنزلنا الحديد) فيه قولان:
أحدهما: أن الله تعالى [أنزل] مع آدم السندان، والكلبتين، والمطرقة، قاله ابن عباس.
والثاني: أن معنى " أنزلنا ": أنشأنا وخلقنا، كقوله [عز وجل]: (وأنزل لكم من الأنعام
ثمانية أزواج).
قوله [عز وجل]: (فيه بأس شديد) قال الزجاج: وذلك أنه يمتنع به، ويحارب به (ومنافع
للناس) يستعملونه في أدواتهم، وما ينتفعون به من آنية وغيرها.
قوله [عز وجل]: (وليعلم الله) [هذا معطوف على قوله تعالى: (ليقوم الناس)،
والمعنى: ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله] (من ينصره بالقتال في سبيله، ونصرة دينه، وذلك
أنه أمر في الكتاب الذي أنزل بذلك. وقد سبق معنى قوله [عز وجل]: (وليعلم الله) في مواضع
. وقوله [عز وجل]: (بالغيب) أي: ولم ير الله، ولا أحكام الآخرة، وإنما يجهد ويثاب من
أطاع بالغيب.
ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير
310

منهم فاسقون (26) ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل
وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء
رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون (27)
قوله [عز وجل]: (وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) يعني: الكتب (فمنهم) يعني: من
الذرية (مهتد وكثير منهم فاسقون) فيه قولان:
أحدهما: كافرون، قاله ابن عباس. والثاني: عاصون، قاله مقاتل..
قوله [عز وجل]: (ثم قفينا على آثارهم) أي: أتبعنا على آثار نوح، وإبراهيم، وذريتهما
(بعيسى) وكان آخر أنبياء بني إسرائيل، قوله: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه) يعني: الحواريين
وغيرهم من أتباعه على دينه (رأفة) وقد سبق بيانها والمعنى انهم كانوا متوادين، كما وصف الله
تعالى أصحاب نبينا عليه والسلام، فقال [عز وجل]: (رحماء بينهم).
قوله [عز وجل]: (ورهبانية ابتدعوها) ليس هذا معطوف على ما قبله، وإنما [انتصب]
بفعل مضمر، يدل عليه ما بعده، تقديره: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، أي: [جاؤوا بها] من قبل
أنفسهم، وهي غلوهم في العبادة، وحمل المشاق على أنفسهم في الامتناع، عن المطعم والمشرب
والملبس والنكاح والتعبد في الجبال (ما كتبناها عليهم) أي: ما فرضناها عليهم. وفي قوله [عز
وجل]: (إلا ابتغاء رضوان الله) قولان:
[أحدهما]: أن الاستثناء يرجع إلى قوله [عز وجل]: " ابتدعوها " والمعنى ابتدعوها طلبا
لرضوان الله، ولم يكتبها عليهم وهذا قول الجمهور.
والثاني: أنه راجع إلى قوله [عز وجل]: " ما كتبناها " ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوعا إلا ابتغاء رضوان الله. قال الحسن: تطوعا
بابتداعها ثم كتبها الله عليهم. وقال الزجاج: لما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع لزمهم إتمامه، كما أن
الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفترض عليه، لزمه أن يتمه. قال القاضي أبو يعلى: والابتداع
311

قد يكون [بالقول، وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه، وقد] يكون بالفعل بالدخول فيه. وعموم
الآية تتضمن الأمرين، فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة، قولا، أو فعلا، فعليه رعايتها
وإتمامها. والثاني: أن المعنى: ما أمرناهم منها إلا بما يرضي الله عز وجل، لا غير [ذلك]،
قاله ابن قتيبة.
قوله [عز وجل]: (فما رعوها حق رعايتها) في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم ما رعوها لتبديل دينهم وتغييرهم له، قاله عطية العوفي. والثاني: لتقصيرهم فيما
ألزموه أنفسهم. والثالث: لكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث، ذكر القولين الزجاج:
والثاني: أنهم الذين تبعوا مبتدعي الرهبانية في رهبانيتهم، ما رعوها بسلوك طريق أوليهم،
روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قوله [عز وجل]: (فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم) فيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: الذين آمنوا بمحمد (وكثير منهم فاسقون) وهم الذين لم يؤمنوا به.
والثاني: أن الذين آمنوا: المؤمنون بعيسى عليه السلام والفاسقون: المشركون.
والثالث: أن الذين آمنوا: مبتدعو في الرهبانية، والفاسقون: متبعوهم على غير القانون
الصحيح.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم
نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم (28) لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على
شئ من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (29)
قوله [عز وجل]: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله) عامة المفسرين على أن
هذا الخطاب لليهود والنصارى، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله، وآمنوا
برسوله محمد صلى الله عليه وسلم (يؤتكم كفلين من رحمته) أي: نصيبين، وحظين (من رحمته) قال الزجاج:
312

الكفل: كساء يمنع الراكب أن يسقط، فالمعنى: يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي.
وقد بينا معنى " الكفل " في سورة النساء [وفي] المراد بالكفلين هاهنا قولان:
أحدهما: أن أحدهما لإيمانهم بمن تقدم من الأنبياء، والآخر: لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن
عباس.
والثاني: أن أحدهما: [أجر] الدنيا. والثاني: [أجر] الآخرة، قاله ابن زيد. قوله [عز
وجل]: (ويجعل لكم نورا). تمشون به على الصراط رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: الهدى، قاله مجاهد. والرابع: الإيمان، قاله ابن السائب.
قوله [عز وجل]: (لئلا يعلم) " لا " زائدة. قال الفراء: والعرب تجعل " لا " صلة في كل
كلام دخل في آخره أو أوله جحد، فهذا مما جعل في آخره جحد. والمعنى: ليعلم (أهل الكتاب)
الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم (ألا يقدرون) أي: أنهم لا يقدرون (على شيء من فضل الله)
والمعنى: أنه جعل [الأجرين] لمن آمن بمحمد [صلى الله عليه وسلم] ليعلم من لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا
نصيب في فضل الله (وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) فآتاه المؤمنين. هذا تلخيص قول
الجمهور في هاتين الآيتين. وقد ذهب قوم إلى أنه لما نزل في مسلمي أهل الكتاب قوله:
(الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) إلى قوله [عز وجل]: (أولئك يؤتون أجرهم
مرتين) افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هاتان الآيتان،
وهذا المعنى في رواية أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. فعلى هذا يكون الخطاب
للمسلمين، ويكون المعنى: يؤتكم أجرين ليعلم مؤمنو أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من
فضل الله الذي خصكم به، فإنه فضلكم على جميع الخلائق. وقال قتادة: لما نزل قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله...) الآية، حسد أهل الكتاب المسلمين، فأنزل الله
تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب...) الآية.
313

سورة المجادلة مدينة
وآياتها ثنتان وعشرون
وهي مدنية في قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة وقتادة والجمهور. وروي عن
عطاء أنه قال: العشر الأول منها مدني، والباقي مكي. وعن ابن السائب: أنها مدنية سوى آية،
وهي قوله [عز وجل]: (ما يكون من نجوى ثلاثة).
بسم الله الرحمن الرحيم
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن
الله سميع بصير (1)
قوله [تعالى]: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) أما سبب نزولها، فروى
عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، ولقد جاءت
المجادلة فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في جانب البيت أسمع كلامها، ويخفى علي بعضه، وهي
314

تشتكي زوجها وتقول: يا رسول [الله]: أبلى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني،
وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه
الآيات.
فأما تفسيرها، فقوله [عز وجل]: (قد سمع الله) قال الزجاج: إدغام الدال في السين حسن
لقرب المخرجين، لأنهما من حروف طرف اللسان وادغام الدال في السين تقوية للحرف، وإظهار
الدال جائز، لأنه وإن قرب من مخرج السين، فله حيز على حدة، ومن موضع الدال الطاء والتاء،
فهذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد، والسين والزاي والصاد من موضع واحد، وهي تسمى:
حروف الصغير. وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال:
أحدها: خولة بنت ثعلبة، رواه مجاهد، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقتادة، والقرظي.
والثاني: خولة بنت خويلد، رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال عكرمة وقتادة. والقرظي.
والثالث: خولة بنت الصامت، رواه العوفي عن ابن عباس.
والرابع: خولة بنت الدليج، قاله أبو العالية، واسم زوجها: أوس بن الصامت، وكانا من
الأنصار.
قال ابن عباس: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: [أنت] علي كظهر أمي، حرمت
عليه، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، ثم ندم، وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] [فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات فأما مجادلتها رسول الله] [صلى الله عليه وسلم]، قيل فإنه كان
كلما قال لها: قد حرمت عليه تقول: والله ما ذكر طلاقا، فقال: ما أوحي إلي في هذا شيء،
315

فجعلت تشتكي إلى الله. وتشتكي بمعنى: تشكو. يقال: اشتكيت ما بي، وشكوته بمعنى شكوى
شاك اي اشكيته. وقالت: إن لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي
جاعوا. فأما التحاور، فهو مراجعة الكلام. قال عنترة في فرسه:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى * ولكان عمرو لو علم الكلام مكلمي
الذين يظهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا الائى ولدنهم
وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور (2) والذين يظاهرون من
نسائهم ثم يعودون لم قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله
بما تعملون خبير (3) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم
يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين
عذاب أليم (4)
قوله [عز وجل]: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو
" يظهرون " بفتح الياء، وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر،
وحمزة، والكسائي بفتح الياء، وتشديد الظاء، وبألف، وتخفيف الهاء. وقرأ عاصم " يظاهرون "
بضم الياء، وتخفيف الظاء والهاء، وكسر الهاء في الموضعين مع إثبات الألف. وقرأ ابن مسعود
" يتظاهرون " بياء، وتاء، وألف. وقرأ أبي بن كعب " يتظهرون " بياء وتاء وتخفيف الظاء، وتشديد
الهاء من غير ألف. وقرأ الحسن، وقتادة، والضحاك " يظهرون " بفتح الياء، وفتح الظاء، مخففة،
مكسورة الهاء مشددة. والمعنى: تقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا (ما هن أمهاتهم) قرأ الأكثرون
بكسر التاء. وروى المفضل عن عاصم رفعها. والمعنى [ما] اللواتي تجعلن كالأمهات بأمهات
لهم (إن أمهاتهم) أي: ما أمهاتهم (إلا اللائي ولدنهم) قال الفراء: وانتصاب " الأمهات " هاهنا
316

بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله " ما هن بأمهاتهم "، ومثله،: (ما هذا بشرا)، المعنى: ما
هذا ببشر، فلما ألقيت الباء أبقي أثرها، وهو: النصب، وعلى هذا كلام أهل الحجاز. فأما أهل
نجد، فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا، وقالوا: " ما هن أمهاتهم " و " ما هذا بشر " أنشدني بعض العرب:
ركاب حسيل آخر الصيف بدن * وناقة عمرو ما يحل لها رحل
ويزعم حسل أنه فرع قومه * وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل
قوله [عز وجل]: (وإنهم) يعني: المظاهرين (ليقولون منكرا من القول) لتشبيههم
الزوجات بالأمهات، والأمهات محرمات على التأبيد، بخلاف الزوجات (وزورا) أي: كذبا (وإن
الله لعفو غفور) إذا شرع الكفارة لذلك.
قوله [عز وجل]: (ثم يعودون لما قالوا) اللام في " لما " يعني " إلى " والمعنى: ثم يعودون
إلى تحليل ما حرموا على أنفسهم من وطء الزوجة بالعزم على الوطء، قال الفراء: معنى الآية:
يرجعون عما قالوا، وفي [نقض] ما قالوا. وقال سعيد بن جبير: المعنى: يريدون أن يعودوا
للجماع الذي قد حرموه على أنفسهم. وقال الحسن، وطاوس، والزهري: العود: هو الوطء.
وهذا يرجع إلى ما قلناه. وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد الظهار مدة يمكنه طلاقها فيها فلا
يطلقها. فإذا وجد هذا، استقرت [عليه] الكفارة، لأنه قصد بالظهار تحريمها، فإن وصل إلى
ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه، وإن سكت عن الطلاق، فقد ندم على ما ابتدأ به، فهو عود
إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة. وقال داود: هو إعادة اللفظ ثانيا، لأن ظاهر قوله [عز
وجل]: (يعودون) يدل على تكرير اللفظ. قال الزجاج: وهذا قول من لا يدري اللغة. وقال أبو
علي الفارسي: ليس في هذا كما ادعوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه.
قبل وسميت الآخرة معادا، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها. قال الهذلي:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل
سوى أهل الحق شيئا واستراح العواذل
317

وقد شرحنا هذا في قوله [عز وجل]: (وإلى الله ترجع الأمور) وقال ابن قتيبة: من
توهم أن الظهار لا يقع [حتى] يلفظ به ثانية، فليس بشيء، لأن الناس قد أجمعوا أن الظهار يقع
بلفظ واحد. وإنما تأويل الآية: أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في
الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية، وأنزل قوله [عز وجل]: (والذين يظاهرون منكم من
نسائهم) يريد في الجاهلية ثم " يعودون لما قالوا " في الإسلام، أي: يعودون لما كانوا يقولونه من
هذا الكلام، (فتحرير رقبة) قال المفسرون: المعنى: فعليهم، أو فكفارتهم تحرير رقبة، أي:
عتقها. وهل يشترط أن تكون مؤمنة؟ فيه عن أحمد روايتان.
قوله [عز وجل]: (من قبل أن يتماسا) وهو: كناية عن الجماع على أن العلماء قد اختلفوا
هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة؟ وعن أحمد روايتان. وقال أبو الحسن الأخفش:
تقدير الآية " والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم.
يفصل
إذا وطئ المظاهر قبل ان يكفر أثم، واستقرت الكفارة، وقال أبو حنيفة: يسقط الظهار
والكفارة. واختلف العلماء فيما يجب عليه إذا فعل ذلك، فقال الحسن، وسعيد بن المسيب،
وطاوس، ومجاهد، وإبراهيم، وابن سيرين: عليه كفارة واحدة، وقال الزهري، وقتادة في
آخرين: عليه كفارتان. فإن قال: أنت علي كظهر أمي اليوم، بطل الظهار بمضي اليوم، هذا قول
أصحابنا، وأبي حنيفة، والثوري، والشافعي، وقال ابن أبي ليلى، ومالك، والحسن بن صالح: هو
مظاهر أبدا.
واختلفوا في الظهار من الأمة، فقال ابن عباس: ليس من أمة ظهار، وبه قال [سعيد بن
المسيب، والشعبي، والنخعي، و] أبو حنيفة، والشافعي، وقال سعيد بن جبير، وطاوس،
وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك: هو ظهار. ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: لا يكون
مظاهرا من أمته، ولكن يلزمه كفارة الظهار، كما قال في المرأة إذا ظاهرت من زوجها لم تكن
مظاهرة، وتلزمها كفارة الظهار.
واختلفوا فيمن قال أنت علي كظهر أبي فقال مالك هو مظاهر وهو قول أصحابنا وقال أبو حنيفة
والشافعي، لمن لا يكون مظاهرا.
318

واختلفوا فيمن ظاهر مرارا، قال أبو حنيفة، والشافعي: إن كان في مجالس، فكفارات، وإن
كان في مجلس واحد، فكفارة: قال القاضي أبو يعلى: وعلى قول أصحابنا: يلزمه كفارة واحدة،
سواء كان في مجلس واحد، أو في مجالس، ما لم يكفر، وهذا قول مالك.
قوله [عز وجل]: (ذلكم توعظون به) قال الزجاج: ذلكم التغليظ توعظون به.
والمعنى: أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار.
قوله [عز وجل]: (فمن لم يجد) يعني: الرقبة (فصيام شهرين) أي: فعليه
صيام شهرين (متتابعين فمن لم يستطع) الصيام (ف‍) كفارته (إطعام ستين مسكينا ذلك) أي:
الفرض ذلك الذي وصفنا (لتؤمنوا بالله ورسوله) أي: تصدقوا بأن الله أمر بذلك، وتصدقوا بما
أتى به الرسول (وتلك حدود الله) يعني: ما وصفه الله من الكفارات في الظهار (وللكافرين
عذاب أليم) قال ابن عباس: لمن جحد هذا وكذب به.
إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات
بينات وللكافرين عذاب مهين (5) يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا
أحصاه الله ونسوه والله على كل شئ شهيد (6) ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما
في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك
ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم (7)
قوله [عز وجل]: (إن الذين يحادون الله [ورسوله]) قد ذكرنا معنى المحادة في التوبة
ومعنى " كبتوا " في (آل عمران) عند قوله [عز وجل]: (أو يكبتهم) وقال ابن عباس:
319

أخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي الذين من قبلهم ممن قاتل الرسل.
قوله [عز وجل]: (يوم يبعثهم الله جميعا) أي: من قبورهم (فينبئهم بما عملوا)
من معاصيه، وتضييع فرائضه (أحصاه الله) أي: حفظه الله عليهم (ونسوه والله على كل شيء)
من أعمالهم في السر والعلانية (شهيد) (ألم تر) أي: ألم تعلم.
قوله [عز وجل]: (ما يكون من نجوى ثلاثة) وقرأ أبو جعفر " ما تكون " بالتاء. قال
ابن قتيبة: النجوى: السرار. وقال الزجاج: ما يكون من خلوة ثلاثة يسرون شيئا، ويتناجون به
(إلا هو رابعهم) أي: عالم به. و " نجوى " مشتق من النجوة، وهو ما ارتفع. وقرأ يعقوب
" ولا أكثر " بالرفع. وقال الضحاك: " إلا هو معهم " أي: علمه معهم.
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان
ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا
الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير (8) يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم
فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه
تحشرون (9) إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا
إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (10)
قوله [تعالى]: (ألم ترى إلى الذين نهوا عن النجوى) في سبب نزولها قولان.
أحدهما: نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين،
وينظرون إلى المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا قد
بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا، قتل أو موت، أو مصيبة، فيقع ذلك في
320

قلوبهم، ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى تقدم أصحابهم. فلما طال ذلك وكثر، شكا
المؤمنون إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك،
فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في اليهود، قاله مجاهد. قال مقاتل: وكان بين اليهود وبين رسول الله
موادعة، فإذا رأوا رجلا من المسلمين وحده تناجوا بينهم، فيظن المسلم أنهم يتناجون بقتله، أو
بما يكره، فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فنهاهم عن النجوى، فلم
ينتهوا، وعادوا إليها، فنزلت هذه الآية. وقال ابن السائب: نزلت في المنافقين. والنجوى:
بمعنى المناجاة (ثم يعودون) إلى المناجاة التي نهوا عنها (ويتناجون) قرأ حمزة، ويعقوب إلا
زيدا، وروحا " ويتنجون " وقرأ الباقون " ويتناجون " بألف. وفي معنى تناجيهم (بالإثم والعدوان)
وجهان.
أحدهما: يتناجون بما يسوء المسلمين، فذلك الإثم والعدوان ومعصية الرسول، ويوصي
بعضهم بعضا بمعصية الرسول.
والثاني: يتناجون بعد نهي الرسول، لهم ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول.
قوله [عز وجل]: (وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله) اختلفوا فيمن نزلت على
قولين.
أحدهما: أنها نزلت في اليهود. قالت عائشة عليهما السلام: جاء ناس من اليهود إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم، فقال
رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: مه يا عائشة، فإن [الله] لا يحب الفحش، ولا التفحش، فقلت: يا
رسول الله: ترى ما يقولون؟ [فقال: ألست ترين أرد عليهم ما يقولون، و] أقول: وعليكم
السام، قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك. قال الزجاج: والسام: الموت.
والثاني: أنها نزلت في المنافقين، رواه عطية عن ابن عباس.
قال المفسرون: ومعنى " " حيوك سلموا عليك بغير سلام الله عليك، وكانوا يقولون:
321

[السام عليك. فإذا] خرجوا يقولون في أنفسهم، أو يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيا عذبنا
بقولنا له ما نقول.
قوله [عز وجل]: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم) فيها قولان:
أحدهما: نزلت في المنافقين، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بزعمهم، وهذا قول عطاء
ومقاتل.
والثاني: أنها في المؤمنين، والمعنى: أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود، وهذا مذهب
جماعة، منهم الزجاج.
قوله [عز وجل]: (فلا تتناجوا) هكذا قرأ الجماعة بألف. وقرأ يعقوب وحده " فلا
تتنجوا ". فأما " البر " فقال مقاتل: هو الطاعة، و " التقوى " ترك المعصية. وقال أبو سليمان
الدمشقي: " البر " الصدق، و " التقوى " ترك الكذب. ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون، من
الشيطان، فقال [عز وجل]: (إنما النجوى من الشيطان) أي: من ترتيبه، والمعنى:
إنما يزين لهم ذلك (ليحزن الذين آمنوا) وقد بينا آنفا ما كان يحزن المؤمنين من هذه النجوى
(وليس بضارهم شيئا) أي: وليس الشيطان بضار المؤمنين شيئا (إلا بإذن [الله]) أي: بإرادته
(وعلى الله فليتوكل المؤمنون) أي: فليكلوا أمورهم إليه.
يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل
انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير (11)
قوله [عز وجل]: (إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس) وقرأ عاصم " في المجالس "
على الجمع، وذلك أن كل جالس له مجلس، فالمعنى: ليفسح كل رجل منكم في مجلسه. قال
المفسرون: نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون إلى مجلس رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فإذا أقبل
المهاجرون وأهل السابقة، لم يجدوا موضعا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه أولو الفضل
322

ليحفظوا عنه، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة جالس في صفة ضيقة في المسجد، جاء نفر من أهل
بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس، فسلموا وانتظروا أن يوسعوا لهم، فأوسعوا لبعضهم، وبقي
بعضهم، فشق ذلك على رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقال: قم يا فلان، قم يا فلان، حتى أقام من
المجلس على عدة من هو قائم من أهل السابقة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه من أقامهم
الكراهة، وتكلم المنافقون في ذلك وقالوا: والله ما عدل، فنزلت هذه الآية. وقال قتادة: كانوا
يتنافسون في مجلس رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: فإذا أقبل مقبل ضنوا بمجلسهم، فأمرهم الله أن يفسح
بعضهم لبعض. قال المفسرون: ومعنى " تفسحوا " توسعوا وذلك أنهم كانوا يجلسون متصافين
حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد غيرهم مجلسا عنده، فأمرهم أن يوسعوا لغيرهم ليتساوى الناس في
الحظ منه، ويظهر فضيلة المقربين إليه من أهل بدر وغيرهم. وفي المراد " بالمجلس " ها هنا
ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه مجلس الحرب، ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصف، فيقول
لهم: توسعوا، فيأبون عليه لحرصهم على القتال، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وأبي
العالية، والقرظي.
والثاني: أنه مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد. وقال قتادة: كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم ومن حوله
خاصة.
والثالث: مجالس الذكر كلها، روي عن قتادة أيضا. وقرأ علي بن أبي طالب عليه السلام،
وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، ومجاهد، والحسن، وعكرمة، وقتادة، وابن أبي عبلة،
والأعمش: " تفسحوا في المجالس " بألف على الجمع.
قوله [عز وجل]: (يفسح الله لكم) أي: يوسع الله لكم الجنة، والمجالس فيها.
(وإذا قيل انشزوا) [قرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم " انشزوا] فانشزوا " برفع
الشين فيهما. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بكسر الشين فيهما. ومعنى
" انشزوا " قوموا. قال الفراء: وهما لغتان. وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال.
أحدها: أنه القيام إلى الصلاة، وكان رجال يتثاقلون عنها، فقيل لهم: إذا نودي للصلاة
323

فانهضوا، هذا قول عكرمة، والضحاك.
والثاني: أنه القيام إلى قتال العدو، قاله الحسن.
والثالث: أنه القيام إلى كل خير، من قتال، أو أمر بمعروف، ونحو ذلك، قاله مجاهد.
والرابع: أنه الخروج من بيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم آخرهم عهدا به، فأمروا أن ينشزوا إذا قيل لهم:
انشزوا، قاله ابن زيد.
والخامس: أن المعنى: قوموا وتحركوا وتوسعوا لإخوانكم، قاله الثعلبي.
قوله [عز وجل]: (يرفع الله الذين آمنوا منكم) أي: يرفعهم بايمانهم على من ليس
بمنزلتهم من أهل الإيمان (و) يرفع (الذين أوتوا العلم) على من ليس بعالم. وهل هذا الرفع
في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه وجهان.
أحدهما: أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنة.
والثاني: أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدين
والعلم. وكان ابن مسعود يقول: أيها الناس: افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم، فإن الله يرفع
المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات.
يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم
وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم (12) أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات
فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير
بما تعملون (13)
324

قوله [عز وجل]: (إذا ناجيتم الرسول) في سبب نزولها قولان.
أحدهما: أن الناس سألوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف عن نبيه
فأنزل هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في الأغنياء، وذلك [أنهم] كانوا يكثرون مناجاة رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله [صلى الله عليه وسلم] [ذلك]، فنزلت
هذه الآية، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئا، وأما أهل الميسرة فبخلوا، واشتد ذلك على
أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فنزلت الرخصة، قاله مقاتل بن حيان، وإلى نحوه ذهب مقاتل بن
سليمان، إلا أنه قال: فقدر الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، ولم يقدم أحد من
أهل الميسرة صدقة غير علي بن أبي طالب عليه رضي الله عنه.
وروى مجاهد عن علي رضي الله عنه قال: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولن
يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى. [كان] لي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فكلما أردت أن
أناجي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قدمت درهما، فنسختها الآية الأخرى (أأشفقتم أن تقدموا...)
الآية.
قوله [عز وجل]: (ذلك خير لكم وأطهر) أي: تقديم الصدقة على المناجاة خير
لكم، لما فيه من طاعة الله، وأطهر لذنوبكم (فإن لم تجدوا) يعني: الفقراء (فإن الله غفور
رحيم) إذ عفا عمن لا يجد.
قوله [عز وجل]: (أأشفقتم) أي: خفتم بالصدقة الفاقة (وتاب الله عليكم) أي:
فتجاوز عنكم، وخفف بنسخ إيجاب الصدقة. قال مقاتل بن حيان: إنما كان [ذلك] عشر
ليال. قال قتادة: ما كان إلا ساعة من نهار.
ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب
325

وهم يعلمون (14) أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون (15) اتخذوا أيمانهم
جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين (16) لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم
من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (17) يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون
له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون (18) استحوذ عليهم
الشيطان فأنسهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون (19)
قوله [عز وجل]: (ألم ترى إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم) نزلت في المنافين
الذين تولوا اليهود، وتقولوا إليهم أسرار المؤمنين. وقال السدي، ومقاتل: نزلت في عبد الله بن
نبتل المنافق، وذلك أنه كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع حديثه إلى اليهود، فدخل عليه يوما،
وكان أزرق، فقال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما
فعل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " فعلت " فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبوه، فأنزل الله هذه
الآيات. وروى الحاكم أبو عبد الله في " صحيحه " من حديث ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
في ظل حجرة من حجره، وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني
شيطان، فإذا أتاكم فلا تكلموه، فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علام تشتمني
أنت وفلان وفلان؟ فانطلق [الرجل] فدعاهم، فحلفوا بالله واعتذروا إليه، فأنزل الله تعالى:
(يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون...) الآية.
326

فأما التفسير، فالذين تولوا: هم المنافقون، والمغضوب عليهم: [هم] اليهود (ما هم
منكم) يعني: المنافين ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود (ويحلفون على الكذب) وهو ما
ذكرنا في سبب نزولها. وقال بعضهم: حلفوا أنهم ما سبوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ولا تولوا اليهود
(وهم يعلمون) أنهم كذبة (اتخذوا أيمانهم جنة) أي: سترة [يتقون بها القتل. قال ابن
قتيبة: المعنى: استتروا] بالحلف، فكلما ظهر لهم شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين،
(فصدوا عن سبيل الله) فيه قولان.
أحدهما: صدوا الناس عن دين الإسلام قاله السدي.
والثاني: صدوا عن جهادهم بالقتل وأخذ مالهم.
قوله [عز وجل]: (فيحلفون له) قال مقاتل، وقتادة: يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا
مؤمنين، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا (ويحسبون أنهم على شيء) من أيمانهم الكاذبة (ألا إنهم
هم الكاذبون) في قولهم وأيمانهم.
قوله [عز وجل]: (استحوذ عليهم الشيطان) قال أبو عبيدة: غلب عليهم، وحاذهم،
وقد بينا هذا في سورة (النساء) عند قوله [عز وجل]: (ألم نستحوذ عليكم)، وما بعد
هذا ظاهرا إلى قوله [عز وجل]: (أولئك في الأذلين) أي: في المغلوبين، فلهم في
الدنيا [ذل] وفي الآخرة خزي.
إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين (20) كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله
قوي عزيز (21) لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو
كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم
بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه
أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون (22)
327

قوله [عز وجل]: (كتب الله) أي: قضى الله (لأغلبن أنا ورسلي) وفتح الياء نافع،
وابن عامر.
قال المفسرون: من بعث من الرسل بالحرب، فعاقبة الأمر له، ومن لم يبعث بالحرب، فهو
غالب بالحجة (إن الله قوي عزيز) أي: مانع حزبه من أن يذل.
قوله [عز وجل]: (لا تجد قوما...) الآية. اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال.
أحدها: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه يوم أحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم
بدر إلى البراز، فقال: يا رسول الله دعني أكون في الرعلة الأولى، فقال: متعنا بنفسك يا أبا
بكر، وفي مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد، وفي عمر قتل خاله العاص
ابن هشام يوم بدر. وفي علي وحمزة قتلا عتبة وشيبة يوم بدر. قاله ابن مسعود.
والثاني: أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وذلك أن أبا قحافة سب رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]، فصكه أبو بكر الصديق صكة شديدة [سقط منها، ثم ذكر ذلك لرسول الله] [صلى الله عليه وسلم]،
[فقال] " أو فعلته "؟ قال: نعم. قال: فلا تعد إليه، فقال أبو بكر: [والله] لو كان السيف
قريبا مني لقتلته، فنزلت هذه الآية، قاله ابن جريج.
والثالث: نزلت في عبد الله بن عبد الله (بن أبي)، وذلك أنه كان جالسا إلى جنب رسول
الله، فشرب رسول الله ماء، فقال عبد الله: يا رسول الله أبق فضلة من شرابك، قال: وما تصنع
بها؟ فقال، أسقيها أبي، لعل الله سبحانه يطهر قلبه، ففعل، فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟
[قال]: فضلة من شراب رسول الله جئتك بها لتشربها، لعل الله يطهر قلبك، فقال: هلا
جئتني ببول أمك؟ فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: ائذن لي في قتل أبي، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفق به، وأحسن إليه، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم أن رسول الله
328

صلى الله عليه وسلم قد عزم على قصدهم، قاله مقاتل، واختاره الفراء، والزجاج.
وهذه الآية قد بينت أن مودة الكفار تقدح في صحة الإيمان، وأن من كان مؤمنا لم يوال
كافرا وإن كان أباه أو ابنه أو أحدا من عشيرته.
قوله [عز وجل]: (أولئك) الذين، يعني: الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله (كتب
في قلوبهم الإيمان) وقرأ المفضل عن عاصم " كتب " برفع الكاف والنون من " الإيمان ". وفي
معنى " كتب " خمسة أقوال:
أحدها: أثبت في قلوبهم الإيمان، قاله الربيع بن أنس.
والثاني: جعل، قاله مقاتل.
والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان، حكاه الماوردي.
والرابع: حكم لهم بالإيمان. وإنما ذكر القلوب، لأنها موضع الإيمان، ذكره الثعلبي.
والخامس: جمع في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه، قاله الواحدي.
قوله [عز وجل]: (وأيدهم) أي: قواهم (بروح منه) وفي المراد " بالروح " ها ها
خمسة أقوال.
أحدها: أنه النصر، قاله ابن عباس، والحسن. فعلى هذا سمي النصر روحا، لأن أمرهم
يحيا به.
والثاني: الإيمان، قاله السدي.
والثالث: القرآن، قاله الربيع.
والرابع: الرحمة، قاله السدي [و] مقاتل.
والخامس: جبريل عليه السلام أيدهم به يوم بدر، ذكره الماوردي. فأما (حزب الله)
فقال الزجاج: هم الداخلون في الجمع الذين اصطفاهم الله وارتضاهم، " وألا " كلمة تنبيه
وتوكيد للقصة.
329

سورة الحشر مدنية
وآياتها اربع وعشرون
وهي مدنية كلها باجماعهم
وذكر المفسرون أن جميعها أنزلت في بني النضير، وكان ابن عباس يسمي هذه السورة
" سورة بني النضير " وهذه الإشارة إلى قصتهم.
ذكر أهل العلم بالتفسير والسير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مسجد قباء، ومعه نفر من
أصحابه، فصلى فيه، ثم أتى بني النضير، فكلمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما،
فقتلهما عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم، فقالوا: نفعل، وهموا بالغدر به، وقال عمرو بن
جحاش: أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلام حق بن مشكم: لا تفعلوا، والله
ليخبرن بما هممتهم به، وجاء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الخبر، فنهض سريعا، فتوجه إلى المدينة،
فلحقه أصحابه، [فقالوا]: قمت ولم نشعر؟! فقال: همت يهود بالغدر، فأخبرني الله
بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدتي، فلا
تساكنوني، وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجلتكم عشرا. فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا
أياما يتجهزون، فأرسل إليهم ابن أبي: لا تخرجوا، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدكم
قريظة، وحلفاؤكم من غطفان، وطمع حيي فيما قال ابن أبي، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا
330

نخرج، فاصنع ما بدا لك، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت يهود،
ثم سار إليهم في أصحابه، فما رأوه، قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة، فاعتزلتهم
قريظة، وخذلهم ابن أبي، وحلفاؤهم من غطفان، وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى
مكة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله، فأخبر الله رسوله نبيه بذلك، فبعث محمد بن مسلمة
فاغتره فقتله، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم، فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم
عن المدينة، فمضى بعضهم إلى الشام، وبعضهم إلى خيبر، وقبض أموالهم وسلاحهم، فوجد
خمسين [درعا]، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا.
فأما التفسير [فقد ذكرنا] فاتحة هذه السورة في أول الحديد.
بسم الله الرحمن الرحيم
سبخ لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم (1) هو الذي أخرج الذين
كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم
حصونهم من الله فأتهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم
وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار (2) ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في
الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار (3) ذلك بأنهم شقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله فإن
الله شديد العقاب (4) ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي
الفاسقين (5)
قوله [تعالى]: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب) يعني: يهود بني
النضير (من ديارهم) أي: من منازلهم (لأول الحشر) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أول من حشر وأخرج من داره، قاله ابن عباس. وقال ابن السائب: هم أول
من نفي من أهل الكتاب.
والثاني: أن هذا كان أول حشرهم، والحشر الثاني: إلى أرض المحشر يوم القيامة، قاله
331

الحسن. قال عكرمة: من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم
يومئذ: اخرجوا، فقالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر.
والثالث: أن الحشر الثاني: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، قاله قتادة.
والرابع: هذا كان أول حشرهم من المدينة، والحشر الثاني: من خيبر، وجميع جزيرة
العرب إلى أذرعات، وأريحا من أرض الشام في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قاله مرة
الهمداني.
قوله [عز وجل]: (ما ظننتم) يخاطب المؤمنين (أن يخرجوا) من ديارهم لعزهم.
ومنعتهم، وحصونهم (وظنوا) يعني: بني النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله
(فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) وذلك أنه أمر نبيه بقتالهم وإجلائهم، ولم يكونوا يظنون أن
ذلك يكون، ولا يحسبونه (وقذف في قلوبهم الرعب) لخوفهم من رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وقيل:
لقتل سيدهم كعب بن الأشرف (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) قرأ أبو عمرو
" يخربون " بالتشديد. وقرأ الباقون " يخربون " بالتخفيف وهل بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان.
أحدهما: أن المشددة معناها: النقض والهدم. والمخففة معناها: يخرجون منها ويتركونها
خرابا معطلة، حكاه ابن جرير. روي عن أبي عمرو أنه قال: إنما اخترت التشديد، لأن بني
النضير نقضوا منازلهم، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة.
الثاني: أن القراءتين بمعنى واحد. والتخريب والإخراب لغتان بمعنى، حكاه ابن جرير
عن أهل اللغة. وللمفسرين فيما [فعلوا] بمنازلهم أربعة أقوال:
أحدها: أنه كان [المسلمون] كلما ظهروا على دار من دورهم هدموها ليتسع لهم مكان
القتال، وكانوا هم ينقبون دورهم، فيخرجون إلى ما يليها، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم نقضوا ما يبنون به الذي خربه
332

المسلمون، قاله الضحاك.
والثالث: أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم، أو العمود، أو الباب،
فيستحسنونه، فيهدمون البيوت، وينزعون ذلك منها، ويحملونه معهم، ويخرب المؤمنون باقيها، قاله
الأزهري.
والرابع: أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسدا منهم، وبغيا، قاله ابن زيد.
قوله [عز وجل]: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) الاعتبار: النظر في الأمور، ليعرف بها
شيء آخر من جنسها، و " الأبصار " العقول. والمعنى: تدبروا ما نزل بهم (ولولا أن كتب
الله) أي: قضى (عليهم الجلاء) وهو خروجهم من أوطانهم. وذكر الماوردي بين الإخراج
والجلاء فرقين.
أحدهما: أن الجلاء: ما كان [مع] الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل
والولد.
والثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة. والإخراج: قد يكون لواحد ولجماعة
والمعنى: لولا أن الله قضى عليهم بالخروج (لعذبهم في الدنيا) بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة
(ولهم في الآخرة) مع [ما حل بهم] في الدنيا (عذاب النار، ذلك) الذي أصابهم (بأنهم
شاقوا الله) وقد سبق بيان الآية. قال القاضي أبو يعلى: فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة
أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق، ولا جزية، ولا دخول في ذمة،
وهذا حكم منسوخ إذا كان في المسلمين قوة على قتالهم، لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى
يسلموا، أو يؤدوا الجزية. وإنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا
على إدخالهم في الإسلام أو الذمة، فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم.
وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم
على أرضهم، وعلى الحلقة، وترك لهم ما أقلت الإبل، وذلك مجهول.
333

وقوله [عز وجل]: (ما قطعتم من لينة) سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني
النضير، وقطع فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر. وذكر
المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصنوا في حصونهم، فأمر بقطع نخيلهم، وإحراقها،
فجزعوا، وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟
وهل وجدت فيما أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ووجد
المسلمون في أنفسهم من قولهم. واختلف المسلمون، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء
الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من
قطعه، من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله تعالى، وفي المراد " باللينة " ستة أقوال:
أحدها: أنه النخل كله ما خلا العجوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال عكرمة،
وقتادة، والفراء.
والثاني: أنها النخل والشجر، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: أنه ألوان النخل كلها إلا العجوة، والبرنية، قاله الزهري، وأبو عبيدة، وابن
قتيبة. وقال الزجاج: أهل المدينة يسمون جميع النخيل: الألوان، ما خلا البرني، والعجوة.
وأصل " لينة " لونة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.
والرابع: أنها النخل كله، قاله مجاهد وعطية، وابن زيد. قال ابن جرير: معنى الآية: ما
قطعتم من ألوان النخيل.
334

والخامس: أنها كرام النخل، قاله سفيان.
والسادس: أنها ضرب من النخل يقال لتمرها: اللون، وهي شديد الصفرة، ترى نواه
من خارج، وكان أعجب تمرهم إليهم، قاله مقاتل. وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم قطعوا وأحرقوا ستة نخلات، قاله الضحاك.
والثاني: أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة، قاله ابن إسحاق.
والثالث: قطعوا أربع نخلات، قاله مقاتل.
قوله [عز وجل]: (فبإذن الله) قال يزيد بن رومان ومقاتل: بأمر الله.
قوله [عز وجل]: (وليخزي الفاسقين) يعني اليهود. وخزيهم: أن يريهم أموالهم
يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا. والمعنى: وليخزي الفاسقين أخذ في ذلك، ودل على المحذوف
قوله: (فإذن الله).
وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط
رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير (6) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء
منكم وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7)
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا
وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8) والذين تبوء والدار والإيمان من
قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9) والذين
335

جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا
غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم (10)
قوله [عز وجل]: (وما أفاء الله [على رسوله]) أي: ما رد عليهم (منهم) يعني:
[من] بني النضير (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) قال: الإيجاف: الإيضاع،
والركاب: الإبل. قال ابن قتيبة: يقال: وجف الفرس والبعير، وأوجفته، ومثله: الإيضاع، وهو
الإسراع في السير، وقال الزجاج: معنى الآية: أنه لا شيء لكم في هذا، إنما هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم
خاصة.
قال المفسرون: طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخمس أموال بني النضير لما أجلوا،
فنزلت هذه الآية تبين أنها فيء لم تحصل لهم بمحاربتهم، وإنما هو بتسليط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو له
خاصة، يفعل فيه ما يشاء، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منه شيئا،
إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.
ثم ذكر حكم الفيء فقال [عز وجل]: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) أي: من
أموال كفار أهل القرى (فلله) أي: يأمركم فيه بما أحب، (ولرسوله) بتحليل الله إياه.
وقد ذكرنا " [ذوي القرى واليتامى " في الأنفال وذكرنا هناك الفرق] بين الفيء والغنيمة.
فصل
واختلف العلماء في حكم هذه الآية فذهب قوم إلى أن المراد بالفيء ها هنا: الغنيمة التي
يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة، وكانت في بدو الإسلام للذين سماهم الله ها هنا دون
336

الغانمين الموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال (واعلموا أنما غنمتم من
شيء...) الآية، هذا قول قتادة ويزيد بن رومان. وذهب قوم إلى أن هذا الفيء: ما أخذ من
أموال المشركين ما لم يوجف بخيل ولا ركاب، كالصلح، والجزية، والعشور، ومال من
مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أخماس،
فأربعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بها ما يشاء، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية.
واختلف العلماء فيما يصنع بسهم رسول بعد موته على ما بيناه في الأنفال فعلى هذا تكون
هذه الآية مبينة لحكم الفيء والتي في الأنفال مبينة لحكم [الغنيمة]، فلا يتوجه النسخ.
قوله [تعالى]: (كي لا يكون) يعني: الفيء (دولة) وهو اسم للشيء يتداوله القوم.
والمعنى: لئلا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبون الفقراء عليه. قال الزجاج: [الدولة]: اسم
الشيء يتداوله. والدولة، بالفتح: الفعل والانتقال من حال إلى حال (وما آتاكم الرسول) من
الفيء (فخذوه وما نهاكم) عن أخذه (فانتهوا) وهذا نزل في أمر الفيء، وهو عام في كل ما
أمر به، ونهى عنه. قال الزجاج: ثم بين من المساكين الذين لهم الحق، فقال: [عز وجل]:
(للفقراء [المهاجرين] الذين أخرجوا من ديارهم) قال المفسرون: يعني بهم المهاجرين
(يبتغون فضلا من [الله]) أي: رزقا يأتيهم (ورضوانا) رضي ربهم حين خرجوا إلى دار
الهجرة (أولئك هم الصادقون) في إيمانهم. ثم مدح الأنصار حين طابت نفوسهم عن الفيء،
فقال [تعالى]: (والذين تبوؤا الدار) يعني: دار الهجرة، وهي المدينة (والإيمان من
قبلهم) فيها تقديم وتأخير، تقديره: والذين تبوؤوا الدار من قبلهم، أي: من قبل المهاجرين،
والإيمان عطف على " الدار " في الظاهر، لا في المعنى، لأن " الإيمان " ليس بمكان يتبوأ، وإنما
337

تقديره: وآثروا الإيمان، وإسلام المهاجرين قبل الأنصار، وسكنى الأنصار المدينة قبل
المهاجرين. وقيل: الكلام [على ظاهره]، والمعنى: تبوؤا الدار والإيمان قبل الهجرة
(يحبون من هاجر إليهم) وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم (ولا يجدون في صدورهم
حاجة) أي: حسدا وغيظا مما أوتي المهاجرون. وفيما أوتوه قولان:
أحدهما: مال الفيء، قاله الحسن. وقد ذكرنا آنفا أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قسم أموال بني النضير
بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر.
والثاني: الفضل والتقدم، ذكره الماوردي.
قوله [عز وجل]: (ويؤثرون [على أنفسهم]) يعني الأنصار يؤثرون المهاجرين على
أنفسهم بأموالهم ومنازلهم (ولو كان بهم خصاصة) أي فقر وحاجة، فبين الله عز وجل أن
إيثارهم لم يكن عن غنى. وفي سبب نزول هذا الكلام قولان:
أحدهما: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصابه الجهد، فقال: يا رسول الله: إني جائع
فأطعمني، فبعث رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى أزواجه: هل عندكن شيء؟ فكلهن قلن: والذي
بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء، فقال: ما عند رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما يطعمك هذه الليلة. ثم
قال: " من يضيف هذا هذه الليلة رحمه الله؟ " فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله،
فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرميه ولا تدخري عنه شيئا، فقالت: ما عندنا إلا قوت
الصبية، فقال: قومي فعلليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئا، ثم أصبحي سراجك، فإذا
أخذ الضيف ليأكل، فقومي كأنك تصلحين السراج، فأطفئيه، وتعالي نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشبع، ففعلت ذلك، فظن الضيف أنهما يأكلان معه، فشبع هو، وباتا طاويين،
فلما أصبحا غدوا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فلما نظر إليهما تبسم، ثم قال: ضحك الله الليلة، أو
عجب من فعالكما، فأنزل الله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم) الآية. خرجه البخاري ومسلم
338

في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة: أن الضيف كان من
أهل الصفة، والمضيف كان من الأنصار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقد عجب من فعالكما أهل
السماء ".
والثاني: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاة، فقال: إن أخي فلانا
وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تناولها سبعة أهل
أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر. وروي نحو هذه القصة عن
أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي، وكان مجهودا، فوجه به له فتناوله
تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية.
قوله [عز وجل]: (ومن يوق شح نفسه) وقرأ ابن السميفع، [وأبو رجاء " ومن يوق "
بتشديد القاف. قال المفسرون]: هو أن لا يأخذ شيئا مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئا أمره الله
بأدائه. والمعنى: أن الأنصار ممن وقي شح نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيء للمهاجرين.
فصل
وقد اختلف العلماء في الشح والبخل، هل بينهما فرق، أم لا؟ فقال ابن جرير: الشح في
كلام العرب: البخل ومنع الفضل من المال. وقال أبو سليمان الخطابي: الشح أبلغ في المنع من
البخل، وإنما الشح بمنزلة الجنس، والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال في البخل: إنما هو
في أفراد الأمور وخواص الأشياء، [والشح] عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع
والجبلة. وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يضن بماله، والشح: أن يبخل بماله
ومعروفه. وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت،
قال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله يقول: " ومن يوق شح نفسه " وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من
يدي شيء، فقال: ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، الشح: أن تأكل مال أخيك
ظلما، إنما ذلك البخل، وبئس الشيء البخيل وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
339

" برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة ".
قوله [عز وجل]: (والذين جاؤوا من بعدهم) يعني التابعين إلى يوم القيامة. قال
الزجاج: إن المعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين، وللذين يجيئون من
بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله [عز
وجل]: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون) أي: الذين جاؤوا في حال قولهم: (ربنا اغفر
لنا ولإخواننا) فمن ترحم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غل لهم، فله حظ من
فيء المسلمين، ومن شتمهم ولم يترحم عليهم، أو كان في قلبه غل لهم، فما جعل الله له حقا
في شئ من فيء المسلمين بنص الكتاب. وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال:
من تنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين،
ثم تلا هذه الآيات.
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم
لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون (11)
لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن غير الأدبار ثم لا
ينصرون (12) لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون (13) لا
يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا
وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (14) كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم
ولهم عذاب أليم (15) كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني برئ
منك إني أخاف الله رب العالمين (16) فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك
جزاء الظالمين (17)
340

قوله [عز وجل]: (ألم تر إلى الذين نافقوا) يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه (يقولون
لإخوانهم) في الدين، لأنهم كفار ملتهم، وهم اليهود (لئن أخرجتم) من المدينة (لنخرجن
معكم ولا نطيع فيكم) أي: في خذلانكم (أحدا أبدا) فكذبهم الله تعالى [في ذلك بقوله:
(والله يشهد إنهم لكاذبون)] ثم ذكر أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي
تلي هذه، فكان الأمر على ما ذكره الله تعالى، لأنهم أخرجوا فلم يخرج معهم الباقون، وقوتلوا فلم
ينصرونهم، ومعنى (ولئن نصروهم): لئن قدر وجود نصرهم، لأن الله نفى نصرهم، فلا يجوز
وجوده. وقوله [عز وجل]: (ثم لا ينصرون) يعني: بني النضير.
قوله [عز وجل]: (لأنتم أشد) يعني: المؤمنين أشد (رهبة في صدورهم) وفيهم
قولان:
أحدهما: أنهم المنافقون، قاله مقاتل.
والثاني: بنو النضير، قاله الفراء. تعالى [عز وجل]: (لا يقاتلونكم جميعا) فيهم
قولان.
أحدهما: أنهم اليهود، قاله مقاتل.
والثاني: اليهود والمنافقون، قاله أبو سليمان الدمشقي. والمعنى: أنهم لا يبرزون
لحربكم، إنما يقاتلون متحصنين (في قرى محصنة أو من وراء جدر) وقرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، وأبان " من وراء جدار " بألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي
" جدر " بضم الجيم والدال. وقرأ أبو بكر الصديق، وابن أبي عبلة " جدر " بفتح الجيم والدال
جميعا، وقرأ عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعاصم الجحدري " جدر " بفتح الجيم وسكون
الدال. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والحسن، وابن
سيرين، وابن يعمر " جدر " بضم الجيم وإسكان الدال (بأسهم بينهم شديد) وفيه قولان:
أحدهما: عداوة بعضهم لبعض شديدة. والثاني: أن بأسهم بينهم فيما وراء الحصون شديد، وإذا
341

خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله.
قوله [عز وجل]: (تحسبهم جميعا) فيهم قولان.
أحدهما: أنهم اليهود والمنافقون، قاله مقاتل.
والثاني: بنو النضير، قاله الفراء.
قوله [عز وجل]: (وقلوبهم شتى) قال الزجاج: أي: هم مختلفون لا تستوي
قلوبهم، ولا يتعاونون بنيات مجتمعة، لأن الله تعالى ناصر حزبه، وخاذل أعدائه.
قوله [عز وجل]: (ذلك) يعني: ذلك الاختلاف (بأنهم قوم لا يعقلون) ما فيه
الحظ لهم. ثم ضرب لليهود مثلا، فقال [عز وجل]: (كمثل الذين من قبلهم قريبا) وفيه ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنهم قينقاع وقال ابن عباس وكانوا بنو قينقاع يهود، وكانوا وادعوا رسول الله، ثم
غدروا، فحصروهم، ثم نزلوا على حكمه أن له أموالهم، ولهم النساء والذرية. فالمعنى: مثل بني
النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع.
والثاني: أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد. والمعنى: هؤلاء اليهود كمثل
المشركين الذين كانوا من قبلهم قريبا، وذلك لقرب غزاة بني النضير من غزاة بدر.
والثالث: أنهم بنو قريظة، فالمعنى: مثل بني النضير كبني قريظة (ذاقوا وبال أمرهم) بأن
قتلت مقاتلتهم، وسبيت ذراريهم، وهؤلاء أجلوا عن ديارهم فذاقوا وبال أمرهم (ولهم عذاب
أليم) في الآخرة. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال [عز وجل]: (كمثل الشيطان).
والمعنى: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير، وقولهم: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولئن
قوتلتم لننصرنكم، كمثل الشيطان (إذ قال للإنسان اكفر) وفيه قولان.
أحدهما: أنه مثل ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان، وهو عام في جميع الناس،
342

والثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لشخص معين، وعلى هذا جمهور المفسرين، وهذا شرح
قصته.
أهل التفسير أن عابدا من بني إسرائيل كان يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له أربعين
سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع إبليس يوما مردة الشياطين، فقال: ألا أحد منكم يكفيني
برصيصا، فقال الأبيض، [وهو] صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرهبان.
فأتى صومعته، فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر
إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل
برصيصا، اطلع فرآه منتصبا يصلي على هيئة حسنة، فناداه: ما حاجتك؟ فقال: إني أحببت
أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا: إني
لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يقبل إليه برصيصا أربعين
يوما، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول،
فأذن له، فصعد إليه، فأقام معه حولا لا يفطر إلا كل أربعين يوما، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل
أربعين يوما، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إليه نفسه،
فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد
اجتهادا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا، وكره
مفارقته، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي
بها المبتلي، فقال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلا، فأخاف أن يعلم
الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة، فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إبليس فقال: قد
والله أهلكت الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبب،
343

فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونا فأعالجه؟ يقول قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنيه،
ولكن سأرشدكم إلى من يدعو له فيعافى، فانطلقوا إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات، فذهب
عنه الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا، فيعافون، إلى أن
انطلق إلى جارية من بنات ملوك إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة
متطبب، فقال: أعالجها؟ قالوا: نعم. قال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن
سأرشدكم إلى رجل تدعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا: ومن هو؟ قال:
بريصصا، قالوا: وكيف لنا أن يقبلها منا، وهو أعظم شأنا من ذلك؟! قال: إن قبلها، وإلا
[فضعوها] في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا اليه، فأبى عليهم،
فوضعوها عنده. وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب
صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال له: انزل إليها فامسحها لأن بيدك تعافى، وتنصرف إلى
أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي ترتكض، فسقطت عنها
ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسنا وجمالا، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على
أذنه، فجعل يختلف إليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت،
فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فإن سألوك عنها قلت: [جاء] شيطانها، فذهب بها، فلم
يزل بها حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يسألون
عنها، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟: قد جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه،
فصدقوه، وانصرفوا. وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت لها، فعافاها الله، ورجعت إليكم،
فتفرقوا ينظرون لها أثرا، فلما أمسوا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك: إن
برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم،
وبرصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، وهو لا يكترث، فانطلق إلى الأوسط كذلك، ثم
344

إلى الأصغر بمثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا وكذا، فقال الأوسط: وأنا والله،
فقال الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا، فسألوه عنها، فقال: قد أعلمتكم بحالها، فكأنكم
اتهمتموني، قالوا: لا والله، واستحيوا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها
لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إزارها لخارج من التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها،
فقالوا: يا عدو الله لم قتلتها؟ اهبط، فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم
قادوه إلى الملك فأقر على نفسه، وذلك أن الشيطان عرض له، فقال: تقتلها ثم تكابر، فاعترف،
فأمر الملك بقتله وصلبه، فعرض له الأبيض، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك
الذي علمتك الدعوات، ويحك ما اتقيت الله في أمانة خنت أهلها، أما استحييت من الله؟! ألم
يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مت على هذه الحالة لم
تفلح، ولا أحد من نظرائك، قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة حتى أنجيك، وآخذ
بأعينهم، وأخرجك من مكانك، قال: ما هي؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال: هذا الذي أردت
منك صارت عاقبة أمرك أن كفرت (إني بريء منك) ثم قتل. فضرب الله هذا المثل لليهود حتى
غرهن المنافقون، ثم أسلموهم.
قوله [عز وجل]: (إني أخاف الله) ونصب ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ياء " إني "
وأسكنها الباقون. وقد بينا المعنى في الأنفال (فكان عاقبتهما) يعني: الشيطان وذلك الكافر.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير
بما تعملون (18) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنسهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون (19)
لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون (20)
قوله [عز وجل]: (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) أي: لينظر أحدكم أي شيء قدم؟ عملا
345

صالحا ينجيه؟ أم شيئا يوبقه؟ (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أي: تركوا أمره (فأنساهم أنفسه)
أي: أنساهم حظوظ أنفسهم - فلم يعملوا بالطاعة، ولم يقدموا خيرا. قال ابن عباس: يريد قريظة،
والنضير، وبني قينقاع.
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال
نضربها للناس لعلهم يتفكرون (21) هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو
الرحمن الرحيم (22) هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز
الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون (23) هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء
الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (24)
قوله [عز وجل]: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل) أخبر الله بهذا عن تعظيم شأن
هذا القرآن، وأنه لو جعل في جبل - على قساوته وصلابته - تمييزا، كما جعل في بني آدم، ثم أنزل
عليه القرآن لتشقق فإن خشية من الله، وخوفا أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن. و " الخاشع ":
المتطاطئ الخاضع، و " المتصدع ": المتشقق. وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثر في قلبه
مع الفهم والعقل، ويدلك على هذا المثل قوله [عز وجل]: (وتلك الأمثال نضربها للناس) ثم
أخبر بعظمته وربوبيته، فقال [عز وجل]: (هو الله الذي لا إله إلا هو) قال الزجاج: قوله: [عز
وجل]: (هو الله) رد على قوله [عز وجل] في أول السورة (سبح لله ما في السماوات الأرض
وهو العزيز الحكيم).
هذه الأسماء، فقد سبق ذكر " الله " " الرحمن " " الرحيم " في (الفاتحة) وذكرنا معنى
" عالم الغيب والشهادة " في الأنعام. و " الملك " في سورة المؤمنين.
346

فأما " القدوس " فقرأ أبو الأشهب، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بفتح القاف. قال أبو سليمان
الخطابي: " القدوس ": الطاهر من العيوب، المنزه عن الأنداد والأولاد. و " القدس ": الطاهر.
ومنه سمي: بيت المقدس، ومعناه: المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب. وقيل للجنة: حظيرة
القدس، لطهارتها من آفات الدنيا. والقدس: السطل الذي يتطهر فيه، ولم يأت من الأسماء على
فعول بضم الفاء إلا " قدوس "، و " سبوح " وقد يقال أيضا: قدوس، وسبوح بالفتح فيهما، وهو
القياس في الأسماء، كقولهم: سفود، وكلوب.
فأما " السلام " فقال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاما، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب
والنقص والفناء. وقال الخطابي: معناه: ذو السلام. السلام في صفة الله سبحانه وتعالى: هو الذي
سلم من كل عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين. قال: وقد قيل: هو الذي سلم
الخلق من ظلمه. فأما " المؤمن "، ففيه ستة أقوال:
أحدها: أنه الذي أمن الناس ظلمه، وأمن من آمن به عذابه، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أنه المجير، قاله القرظي.
والثالث: الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه، قاله ابن زيد.
والرابع: أنه الذي وحد نفسه، لقوله [عز وجل]: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) ذكره
الزجاج.
والخامس: أنه الذي يصدق عباد وعده، قاله ابن قتيبة.
والسادس: أنه يصدق ظنون عباده المؤمنين، ولا يخيب آمالهم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما
يحكيه عن ربه عز وجل: " أنا عند ظن عبدي بي " حكاه الخطابي.
فأما " المهيمن " ففيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس: ومجاهد: وقتادة، والكسائي. قال الخطابي: ومنه قوله
[عز وجل]: (ومهيمنا عليه)، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل.
347

والثاني: لأمين، قاله الضحاك، قال الخطابي: وأصله: مؤيمن، فقلبت الهمزة هاء، لأن
الهاء أخف عليهم من الهمزة. ولم يأت مفعيل في غير التصغير، إلا في ثلاثة أحرف " مسيطر "
و " مبيطر " و " مهيمن " وقد ذكرنا في سورة الطور: عن أبي عبيدة، أنها خمسة أحرف.
والثالث: المصدق فيما أخبر، قاله ابن زيد.
والرابع: أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له، قاله الخليل. قال الخطابي: وقال بعض أهل
اللغة. الهيمنة: القيام على الشيء، والرعاية له، وأنشد:
ألا إن خير الناس بعد نبيه * مهيمنه التاليه في العرف والنكر
يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم. وقد زدنا هذا شرحا في المائدة: وبينا معنى
" العزيز " في البقرة. فأما " الجبار " ففيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه العظيم قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد، قاله القرظي والسدي. وقال قتادة:
جبر خلقه على ما شاء. وحكى الخطابي: أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه، يقال:
جبره السلطان، وأجبره.
والثالث: أنه الذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب المعاش والرزق.
والرابع: أنه العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات: إذا طال وعلا، ذكر القولين
الخطابي.
فأما " المتكبر " ففيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه الذي تكبر عن كل سوء، قاله قتادة.
348

والثاني: أنه الذي تكبر عن ظلم عباده، قاله الزجاج.
والثالث: أنه ذو الكبرياء، وهو الملك، قاله ابن الأنباري.
والرابع: أنه المتعالي عن صفات الخلق.
والخامس: أنه الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة، فقصمهم، ذكرهما
الخطابي، قال: والتاء في " المتكبر " تاء التفرد، والتخصص، لا تاء التعاطي والتكلف، والكبر لا
يليق بأحد [من] المخلوقين، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل. وقيل: إن المتكبر من الكبرياء
الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق.
وأما " الخالق " فقال الخطابي: هو المبتدئ للخلق المخترع له على غير مثال سبق، فأما
في نعوت الآدميين، فمعنى الخلق التقدير: كقول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض * القوم يخلق ثم لا يفري
تقول: إذا قدرت شيئا قطعته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، أي: يتمنى ما لا يبلغه (والبارئ)
الخالق: يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم. و " المصور ": هو الذي أنشأ خلته على صور مختلفة
ليتعارفوا بها. ومعنى: التصوير: التخطيط والتشكيل. وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء، وأبو عمران،
وابن السميفع " البارئ المصور " بفتح الواو والراء جميعا، يعنون: آدم عليه السلام. وما بعد هذا
قد تقدم بيانه إلى آخر السورة.
349