الكتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المؤلف: ابن عطية الأندلسي
الجزء: ٥
الوفاة: ٥٤٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٣ - ١٩٩٣م
المطبعة: لبنان - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فصلت
هذه السورة مكية بإجماع من المفسرين ويروى ان عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين عليه امر مخالفته لقومه وليحتج عليه فيما بينه وبينه وليبعد ما جاء به فلما تكلم عتبة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم * (حم) * ومر في صدر هذه السورة حتى انتهى إلى قوله * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) * فصلت 13 فأرعد الشيخ وقف شعره وأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وناشده بالرحم ان يمسك وقال حين فارقه والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ولقد ظننت ان صاعقة العذاب على رأسي
قوله عز وجل
سورة فصلت 1 - 7
تقدم القول في أوائل السور مما يختص به الحواميم وامال الأعمش * (حم) * فصلت 1 الشورى 1 الدخان 1 الزخرف 1 الجاثية 1 الأحقاف 1 في كلها و * (تنزيل) * خبر الابتداء إما على أن يقدر الابتداء إما على أن يقدر الابتداء في * (حم) * على ما تقتضيه بعض الأقوال إذا جعلت اسما للسورة أو للقرآن أو إشارة إلى حروف المعجم وإما على أن يكون التقدير هذا تنزيل ويجوز ان يكون * (تنزيل) * ابتداء وخبره في قوله * (كتاب فصلت) * على معنى ذو تنزيل و * (الرحمن الرحيم) * صفتا رجاء ورحمة لله تعالى و * (فصلت) * معناه بينت آياته أي فسرت معانيه ففصل بين حلاله وحرامه وزجره وأمره ووعده ووعيده وقيل * (فصلت) * في التنزيل أي نزل نجوما لم ينزل مرة واحدة وقيل * (فصلت) * بالمواقف وأنواع أواخر الآي ولم يكن يرجع إلى قافية ونحوها كالشعر والسجع
و * (قرآنا) * نصب على الحال عند قوم وهي مؤكدة لأن هذه الحال ليست مما تنتقل
وقالت فرقة هو
3

نصب على المصدر وقالت فرقة * (قرآنا) * توطئة للحال و * (عربيا) * حال
وقالت فرقة * (قرآنا) * نصب على المدح وهو قول ضعيف
وقوله تعالى * (لقوم يعلمون) * قالت فرقة معناه يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل وينظرون على طريق نظر فكأن القرآن فصلت آياته لهؤلاء إذ هم أهل الانتفاع بها فخصوا بالذكر تشريفا ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له
وقالت فرقة * (يعلمون) * متعلق في المعنى بقوله * (عربيا) * أي جعلناه بكلام العرب لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون انها لم يخرج شيء منها عن كلام العرب وكأن الآية رادة على من زعم أن في كتاب الله ما ليس في كلام العرب فالعلم على هذا التأويل أخص من العلم على التأويل الأول والأول أشرف معنى وبين انه ليس في القرآن الا ما هو من كلام العرب إما من أصل لغتها وإما عربته من لغة غيرها ثم ذكر في القرآن وهو معرب مستعمل
وقوله * (بشيرا ونذيرا) * نعت للقرآن أي يبشر من آمن بالجنة وينذر من كفر بالنار
والضمير في * (أكثرهم) * عائد على القوم المذكورين
وقوله * (فهم لا يسمعون) * نفي لسمعهم النافع الذي يعتد به سمعا ثم حكى عنهم مقالتهم التي باعدوا فيها كل المباعدة وأرادوا ان يؤيسوهم من قبولهم دينهم وهي * (قلوبنا في أكنة) * جمع كنان وهو باب فعال وأفعلة
والكنان ما يجمع الشيء ويضمه ويحول بينه وبين غيره ومنه الكن ومنة كنانة النبل وبها فسر مجاهد هذه الآية
ومن في قوله * (مما) * الابتداء الغاية كذلك هي في قوله * (ومن بيننا) * مؤكدة ولابتداء الغاية
والوقر الثقل في الأذن الذي يمنع السمع
وقرأ ابن مصرف وقر بكسر الواو
والحجاب الذي أشاروا إليه هو مخالفته إياهم ودعوته إلى الله دون أصنامهم أي هذا أمر يحجبنا عنك وهذه مقالة تحتمل أن تكون معها قرينة الجد في المحاورة وتتضمن المباعدة ويحتمل أن تكون معها قرينة الهزل والاستخفاف وكذلك قوله * (فاعمل إننا عاملون) * يحتمل ان يكون القول تهديدا ويحتمل ان يكون متاركة محضة
وقرأ الجمهور قل إنما على الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش قل إنما على المضي والخبرعنه وهذا هو الصدع بالتوحيد والرسالة
وقوله * (قل إنما أنا بشر) * قال الحسن علمه الله تعالى التواضع وإن في قوله * (إنما) * رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله
وقوله * (فاستقيموا) * أي على محجة الهدى وطريق الشرع والتوحيد وهذا المعنى مضمن قوله * (إليه) *
والويل الحزن والثبور وفسره الطبري وغيره في هذه الآية يقبح أهل النار وما يسيل منهم
وقوله تعالى * (الذين لا يؤتون الزكاة) * قال الحسن وقتادة وغيره هي زكاة المال
وروي الزكاة قنطرة الإسلام من قطعها نجا ومن جانبها هلك
واحتج لهذا التأويل بقول أبي بكر في الزكاة وقت
4

الردة
وقال ابن عباس والجمهور * (الزكاة) * في هذه الآية لا إله الا الله التوحيد كما قال موسى لفرعون * (هل لك إلى أن تزكى) * النازعات 18 ويرجح هذا التأويل أن الآية من أول المكي وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة وإنما هذه زكاة القلب والبدن أي تطهيره من الشرك والمعاصي وقاله مجاهد والربيع
وقال الضحاك ومقاتل معنى * (الزكاة) * هنا النفقة في الطاعة وأعاد الضمير في قوله " هم كافرون " توكيدا
قوله عز وجل
سورة فصلت 8 - 10
ذكر عز وجل حالة الذين آمنوا معادلا بذلك حالة الكافرين المذكورين ليبين الفرق
وقوله * (غير ممنون) * قال ابن عباس معناه غير منقوص
وقالت فرقة معناه غيرمقطوع يقال مننت الحبل إذا قطعته
وقال مجاهد معناه غير محسوب لأن كل محسوب محصور فهو معد لأن يمن به فيظهر في الآية أنه وصفه بعدم المن والأذى من حيث هو من جهة الله تعالى فهو شريف لا من فيه وأعطيات البشر هي التي يدخلها المن
وقال السدي نزلت هذه الآية من المرضى والزمنى إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون ثم أمر تعالى نبيه أن يوقفهم موبخا على كفرهم بخالق الأرض والسماوات ومخترعها ووصف صورة خلقها ومدته والحكمة في خلقه هذه المخلوقات في مدة ممتدة مع قدرة الله على إيجادها في حين واحد
وهي إظهار القدرة في ذلك حسب شرف الإيجاد أولا أولا
قال قوم وليعلم عباده التأني في الأمور والمهل وقد تقدم القول غير مرة في نظير قوله * (أئنكم) *
واختلف رواة الحديث في اليوم الذي ابتدأ الله تعالى فيه خلق الأرض فروي عن ابن عباس وغيره ان أول يوم هو الأحد وان الله تعالى خلق فيه وفي الاثنين الأرض ثم خلق الجبال ونحوها يوم الثلاثاء
قال ابن عباس فمن هنا قيل هو يوم ثقيل
ثم خلق الشجر والثمار والأنهار يوم الأربعاء ومن هنا قيل هو يوم راحة وتفكر في هذه التي خلقت فيه
ثم خلق السماوات وما فيها يوم الخميس ويوم الجمعة وفي آخر ساعة من يوم الجمعة خلق آدم
وقال السدي وسمي يوم الجمعة لاجتماع المخلوقات فيه وتكاملها فهذه رواية فها أحاديث مشهورة
ولما لم يخلق تعالى في يوم السبت شيئا امتنع فيه بنو إسرائيل عن الشغل
ووقع في كتاب مسلم بن الحجاج ان أول يوم خلق الله فيه التربة يوم السبت ثم رتب المخلوقات على ستة أيام وجعل الجمعة عاريا من المخلوقات على ستة أيام الا من آدم وحده
والظاهر من القصص في طينة آدم ان الجمعة التي خلق فيها آدم قد تقدمتها أيام وجمع كثيرة وان هذه الأيام التي خلق الله فيها هذه
5

المخلوقات هي أول الأيام لأن بإيجاد الأرض والسماء والشمس وجد اليوم وقد يحتمل ان يجعل تعالى قوله * (يومين) * على التقدير وإن لم تكن الشمس خلقت بعد وكأن تفصيل الوقت يعطي انها الأحد ويوم الاثنين كما ذكر
والأنداد الأشباه والأمثال وهذه إشارة إلى كل ما عبد من الملائكة والأصنام وغير ذلك
قال السدي أكفاء من الرجال تطيعونهم
والرواسي هي الجبال الثوابت رسا الجبل إذا ثبت
وقوله تعالى * (وبارك فيها) * أي جعلها منبتة للطيبات والأطعمة وجعلها طهورا إلى غير ذلك من وجوه البركة
وفي قراءة ابن مسعود (وقسم فيها أقواتها)
وفي مصحف عثمان رضي الله عنه وقدر واختلف الناس في معنى قوله * (أقواتها) * فقال السدي هي أقوات البشر وأرزاقهم وأضافها إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها
وقال قتادة هي اقوات الأرض من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها
وروى ابن عباس رضي الله عنه في هذا المعنى حديثا مرفوعا فشبهها بالقوت الذي به قوام الحيوان
وقال مجاهد أراد * (أقواتها) * من المطر والمياه
وقال عكرمة والضحاك ومجاهد أيضا أراد بقوله * (أقواتها) * خصائصها التي قسمها في البلاد فجعل في اليمن أشياء ليست في غيره وكذلك في العراق والشام
والأندلس وغيرها من الأقطار ليحتاج بعضها إلى بعض ويتقوت من هذه في هذه الملابس والمطعوم وهذا نحو القول الأول الا انه بوجه أعم منه
وقوله تعالى * (في أربعة أيام) * يريد باليومين الأولين وهذا كما تقول بنيت جدار داري في يوم وأكملت جميعها في يومين أي بالأول
وقرأ الحسن البصري وأبو جعفر وجمهور الناس (سواء) بالنصب على الحال أي سواء هي وما انقضى فيها
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع (سواء) بالرفع أي هي سواء
وقرأ الحسن وعيسى وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد (سواء) بالخفض على نعت الأيام
واختلف المتأولون في معنى * (للسائلين) * فقال قتادة والسدي معناه سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة فيه فإنه يجده كما قال عز وجل
وقال ابن زيد وجماعة معناه مستو مهيأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر فعبر عنهم ب (السائلين) بمعنى الطالبين لأنهم من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به فهم في حكم من سأل هذه الأشياء إذ هم أهل حاجة إليها ولفظة * (سواء) * تجري مجرى عدل وزور في أن ترد على المفرد والمذكر والمؤنث
قوله عز وجل
سورة فصلت 11 - 12
* (استوى إلى السماء) * معناه بقدرته واختراعه أي إلى خلق السماء وإيجادها
6

وقوله تعالى * (وهي دخان) * روي أنها كانت جسما رخوا كالدخان أو البخار وروي انه مما أمره الله ان يصعد من الماء وهنا لفظ متروك ويدل عليه الظاهر وتقديره فأوجدها وأتقنها وأكمل امرها وحينئذ قيل لها وللأرض * (ائتيا طوعا أو كرها) *
وقرأ الجمهور ايتيا من اتى يأتي قالتا أتينا على وزن أفعلنا وذلك بمعنى إيتيا وإرادتي فيكما وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد (آيتيا) من آتى يؤتى (قالتا آتينا) على وزن أفعلنا وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما والإشارة بهذا كله إلى تسخيره وما قدره الله من اعمالها
وقوله * (أو كرها) * فيه محذوف ومقتضب والتقدير * (ائتيا طوعا) * والا أتيتما * (كرها) * وقوله * (قالتا) * أراد الفرقتين المذكورتين وجعل السماوات سماء والأرضين أرضا ونحو هذا قول الشاعر
(ألم يحزنك ان حبال قومي
* وقومك قد تباينتا انقطاعا) الوافر
جعلها فرقتين وعبرعنها ب * (ائتيا) *
وقوله * (طائعين) * لما كانت ممن يقول وهي حالة عقل جرى الضمير في (طائعين) ذلك المجرى وهذا كقوله * (رأيتهم لي ساجدين) * يوسف 4 ونحوه
واختلف الناس في هذه المقالة من السماء والأرض فقالت فرقة نطقت حقيقة وجعل الله تعالى لها حياة وإدراكا يقتضي نطقها
وقالت فرقة هذا مجاز وانما المعنى أنها ظهر منها من اختيار الطاعة والخضوع والتذلل ما هو بمنزلة لقول * (أتينا طائعين) * والقول الأول أحسن لأنه لا شيء يدفعه وإنما العبرة به أتم والقدرة فيه أظهر
وقوله تعالى * (فقضاهن) * معناه صنعهن وأوجدهن ومنه قول أبي ذؤيب
(وعليهما مسرودتان قضاهما
* داود أو صنع السوابغ تبع) الكامل
وقوله تعالى * (وأوحى في كل سماء أمرها) * قال مجاهد وقتادة أوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها ما شاء الله تعالى من الأمور التي بها قوامها وصلاحها
قال السدي وقتادة ومن الأمور التي هي لغيرها مثل ما فيها من جبال البرد ونحوه وأضاف الأمر إليها من حيث هو فيها ثم أخبر تعالى ان الكواكب زين بها السماء الدنيا وذلك ظاهر اللفظ وهو بحسب ما يقتضيه حسن البصر
وقوله تعالى * (وحفظا) * منصوب بإضمار فعل أي وحفظناها حفظا
وقوله * (ذلك) * إشارة إلى جميع ما ذكر أو أوجده بقدرته وعزته وأحكمه بعلمه
7

قوله عز وجل
سورة فصلت 13 - 15
المعنى فإن أعرضت قريش والعرب الذين دعوتهم إلى الله عن هذه الآيات البينة فأعلمهم بأنك تحذرهم ان يصيبهم من العذاب الذي أصاب الأمم التي كذبت كما تكذب هي الآن
وقرأ جمهور الناس (صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) وقرا النخعي وأبو عبد الرحمن وابن محيصن (صعقة مثل صعقة) فأما هذه القراءة الأخيرة فبينة المعنى لأن الصعقة الهلاك يكون معها في الأحيان قطعة نار فشبهت هنا وقعة العذاب بها لأن عادا لم تعذب الا بريح وإنما هذا تشبيه واستعارة وبالوقيعة فسر هنا (الصاعقة) قاله
قتادة وغيره
وخص عادا وثمود بالذكر لوقوف قريش على بلادها في اليمن وفي الحجر في طريق الشام
وقوله * (من بين أيديهم) * أي قد تقدموا في الزمن واتصلت نذارتهم إلى أعمار عاد وثمود وبهذا الاتصال قامت الحجة
وقوله * (من خلفهم) * أي جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم وبعد تقدم وجودهم في الزمن فلذلك قال * (ومن خلفهم) * وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمتهم خبرا ومباشرة ولا يتوجه ان يجعل * (ومن خلفهم) * عبارة عما اتى بعدهم في الزمن لأن ذلك لا يلحقهم منه تقصير واما الطبري فقال الضمير في قوله * (ومن خلفهم) * عائد على الرسل والضميرفي قوله
* (من بين أيديهم) * على الأمم وتابعه الثعلبي وهذا غير قوي لأنه يفرق الضمائر ويشعب المعنى
و * (أن) * في قوله * (ألا تعبدوا) * نصب على إسقاط الخافض التقدير (بأن)
و * (تعبدوا) * مجزوم على النهي ويتوجه ان يكون منصوبا على أن تكون * (لا) * نافية وفيه بعد
وكان من تلك الأمم إنكار بعثة البشر واستدعاء الملائكة وهذه أيضا كانت من مقالات قريش
وقوله * (فإنا بما أرسلتم به) * ليس على جهة الاقرار بأنهم ارسلوا بشيء وإنما معناه على زعمكم ودعواكم
ثم وصف حالة القوم وان عادا طلبوا التكبر ووضعوا أنفسهم فيه بغير حق بل بالكفر والمعاصي وغوتهم قوتهم وعظم أبدانهم والنعم فقالوا على جهة التقرير * (من أشد منا قوة) * فعرض الله تعالى موضع النظر بقوله " أو لم يروا " الآية وهذا بين في العقل فإن للشيء المخترع له المذهب متى شاء هو أقوى منه وأخبر تعالى عنهم بجحودهم بآياته المنصوبة للنظر والمنزلة من عنده إذ لفظ الآيات يعم ذلك كله في المعنى
8

قوله عز وجل
سورة فصلت 16 - 18
روي في الحديث أن الله تعالى امر خزنة الريح ففتحوا على عاد مقدار حلقة الخاتم ولو فتحوا مقدار منخر الثور لهلكت الدنيا وروي ان الريح كانت ترفع العير بأوقارها فتطيرها حتى تطرحها في البحر
وقال جابر بن عبد الله والتيمي حبس عنهم المطر ثلاثة أعوام وإذ أراد الله بقوم شرا حبس عنهم المطر وأرسل عليهم الرياح
واختلف الناس في الصرصر فقال قتادة والسدي والضحاك هو مأخوذ من الصر وهو البرد والمعنى ريحا باردة لها صوت
وقال مجاهد صرصر شديدة السموم
وقال الطبري وجماعة من المفسرين هو من صر يصر إذا صوت صوتا يشبه الصادر والراء وكذلك يجيء صوت الريح في كثير من الأوقات بحسب ما تلقى
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والأعوج وعيسى والنخعي بسكون الحاء وهو جمع نحس يقال يوم نحس فهو مصدر يوصف به أحيانا وعلى الصفة به جمع في هذه الآية واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله * (يوم نحس مستمر) * القمر 19
وقال النخعي * (نحسات) * وليست ب (نحسات) بكسر
وقرأ الباقون وأبو جعفر وشيبة وأبو رجاء وقتادة والجحدري والأعمش (نحسات) بكسر الحاء وهي جمع لنحس على وزن حذر فهو صفة لليوم مأخوذ من النحس
وقال الطبري نحس ونحس لغتان وليس كذلك بل اللغة الواحدة تجمعهما أحدهما مصدر والآخر من أمثلة اسم الفاعل وأنشد الفراء
(أبلغ جذاما ولخما أن إخوتهم
* طيا وبهراء قوم نصرهم نحس) البسيط
وقالت فرقة أن (نحسات) بالسكون مخفف من (نحسات) بالكسر والمعنى في هذه اللفظة مشاييم من النحس المعروف قاله مجاهد وقتادة والسدي وقال الضحاك معناه شديدة أي شديدة البرد حتى كان البرد عذابا لهم
قال أبو علي وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد
(كأن سلافة عرضت بنحس
* يحيل شفيفها الماء الزلالا)
وقال ابن عباس * (نحسات) * معناه متتابعات وكانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وعذاب الخزي في الدنيا هو العذاب بسبب الكفر ومخالفة امر الله ولا خزي أعظم من هذا الا ما في الآخرة من الخلود في النار
وقرأ جمهور الناس (ثمود) بغير حرف وهذا على إرادة القبيلة
وقرا يحيى بن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب (ثمود) بالتنوين والإجراء وهذا على إرادة الحي وبالصرف كان الأعمش يقرأ في جميع القرآن الا في قوله * (وآتينا ثمود الناقة مبصرة) * الاسراء 59 لأنه في المصحف بغير ألف
وقرا ابن أبي إسحاق والأعرج بخلاف والأعمش وعاصم (ثمود) بالنصب وهذا على إضمار فعل يدل عليه قوله
9

* (فهديناهم) * وتقديره عند سيبويه مهما يكن من شيء فهدينا ثمود هديناهم والرفع عنده أوجه وروي عن أبن أبي إسحاق والأعمش (ثمودا) منونة منصوبة وروى الفضل عن عاصم الوجهين
وقوله تعالى * (فهديناهم) * معناه بينا لهم قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد وهذا كما هي الآن شريعة الإسلام مبينة لليهود والنصارى المختلطين لنا ولكنهم يعرضون ويشتغلون بالصد فذلك استحباب العمى على الهدى
وقوله تعالى * (فاستحبوا) * عبارة عن تكسبهم في العمى والا فهو بالاختراع لله تعالى ويدلك على أنها إشارة إلى تكسبهم قوله تعالى * (بما كانوا يكسبون) *
وقوله تعالى * (العذاب الهون) * وصف بالمصدر والمعنى الذي معه هوان وإذلال ثم قرن تعالى بذكرهم ذكر من آمن واتقى ونجاته ليبين الفرق
قوله عز وجل
سورة فصلت 19 - 22
قوله تعالى * (ويوم) * نصب بإضمار فعل تقديره واذكر يوم
وقرأ نافع وحده والأعرج وأهل المدينة (نحشر) بالنون (أعداء) بالنصب الا ان الأعرج كسر الشين
وقرأ الباقون (يحشر) بالياء المرفوعة (أعداء) رفعا وهي قراءة الأعمش والحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وقتادة وعيسى وطلحة ونافع فيما روي عنه وحجتها * (يوزعون) * و * (أعداء الله) * هم الكفار المخالفون لأمره
و * (يوزعون) * قال قتادة والسدي وأهل اللغة معناه يكف أولهم حبسا على آخرتهم وفي حديث أبي قحافة يوم الفتح ذلك الوازع
وقال الحسن البصري لا بد للقاضي من وزعة وقال أبو بكر إني لا أقيد من وزعة الله تعالى و * (حتى) * غاية لهذا الحشر المذكور وهذا وصف حال من أحوالهم في بعض أوقات القيامة وذلك عند وصولهم إلى جهنم فإن الله تعالى يستقرهم عند ذلك على أنفسهم ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم فينكرون ذلك ويحسبون ان لا شاهد عليهم ويظنون السؤال سؤال استفهام واستخبار فينطق الله تعالى جوارحهم بالشهادة عليهم فروى عن النبي عليه السلام ان أول ما ينطق من الإنسان فخذه الأيسر ثم تنطق الجوارح فيقول الكافر تبا لك أيها الأعضاء فعنك كنت أدافع
وفي حديث آخر
10

يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام فيتكلم الفخذ والكف
ثم ذكر الله تعالى محاورتهم لجلودهم في قولهم * (لم شهدتم علينا) * أي وعذابنا عذاب لكم
واختلف الناس ما المراد بالجلود فقال جمهور الناس هي الجلود المعروفة
وقال عبد الله بن أبي جعفر كنى بالجلود عن الفروج وإياها أراد
واخبر تعالى ان الجلود ترد جوابهم بان الله الخالق المبدىء المعيد هو الذي أنطقهم
وقوله " أنطق كل شيء " يريد كل ناطق مما هي فيه عادة أو خرق عادة
قوله عز وجل * (وما كنتم تستترون) * يحتمل ان يكون من كلام الجلود ومحاورتها ويحتمل ان يكون من كلام الله عز وجل لهم أو من كلام ملك يأمره تعالى
وأما المعنى فيحتمل وجهين أحدهما ان يريد وما كنتم تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر خوف ان يشهد أو لأجل ان يشهد ولكن ظننتم ان الله لا يعلم فانهملتم وجاهرتم وهذا هو منحى مجاهد
والستر قد يتصرف على هذا المعنى ونحوه ومنه قول الشاعر
(والستر دون الفاحشات وما
* يلقاك دون الخير من ستر) الكامل
والمعنى الثاني ان يريد وما كنتم تمتنعون ولا يمكنكم ولا يسعكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم ولا تظنون انها تصل بكم إلى هذا الحد وهذا هو منحى السدي كان المعنى وما كنتم تدفعون بالاختفاء والستر ان يشهد لأن الجوارح لزيمة لكم وفي إلزامه إياهم الظن بأن الله تعالى لا يعلم هو إلزامهم الكفر والجهل بالله وهذا المعتقد يؤدي بصاحبه إلى تكذيب أمر الرسل واحتقار قدرة الإله لا رب غيره
وفي مصحف ابن مسعود (ولكن زعمتم ان الله)
وحكى الطبري عن قتادة أنه عبر عن * (تستترون) * ب (تبطنون) وذلك تفسير لم ينظر فيه إلى اللفظ ولا ارتباط فيه معه
وذكر الطبري وغيره حديثا عن عبد الله بن مسعود قال إني لمستتر بأستار الكعبة إذ دخل ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم فتحدثوا بحديث فقال أحدهم أترى الله يسمع ما قلنا قال الآخر أنه يسمع إذا رفعنا ولا يسمع إذا أخفينا
وقال الآخر إن كان يسمع منه شيئا فإنه يسمعه كله فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فنزلت هذه الآية * (وما كنتم تستترون) * الآية فقرأ حتى بلغ "
وأن تستعتبوا فما هم من المعتبين " فصلت 28
وذكر النقاش ان الثلاثة صفوان بن أمية وفرقد بن ثمامة وأبو فاطمة
وذكر الثعلبي ان الثقفي عبد يا ليل والقرشيان ختناه ربيعة وصفوان ابنا أمية بن خلف ويشبه ان يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية ويشبه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلا بها عند إخبار عبد الله إياه والله أعلم
11

قوله عز وجل
سورة فصلت 23 - 26
* (ذلكم) * رفع بالابتداء والإشارة به إلى قوله * (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم) * فصلت 22 قال قتادة الظن ظنان ظن منج وظن مهلك
قال القاضي أبو محمد فالمنجي هو ان يظن الموحد العارف بربه أن الله يرحمه والمهلك ظنون الكفرة الجاهلين على اختلافها وفي هذا المعنى ليحيى بن أكثم رؤيا حسنة مؤنسة
و * (ظنكم) * خبر ابتداء
وقوله * (أرداكم) * يصح ان يكون خبرا بعد خبر وجوز الكوفيون ان يكون في موضع الحال والبصريون لا يجيزون وقوع الماضي حالا إذا اقترن ب (قد) تقول رأيت زيدا قد قام وقد يجوز تقديرها عندهم وإن لم تظهر
ومعنى * (أرداكم) * أهلككم
والردى الهلاك
وقوله تعالى * (فإن يصبروا) * مخاطبة لمحمد عليه السلام والمعنى فإن يصبروا أولا يصبروا واقتصر لدلالة الظاهر على ما ترك
والمثوى موضع الإقامة
وقرأ جمهور الناس (وإن يستعتبوا) بفتح الياء وكسر التاء الأخيرة على إسناد الفعل إليهم
(فما هم من المعتبين) بفتح التاء على معنى وإن طلبوا العتبى وهي الرضى فما هم ممن يعطوها ويستوجبها
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري (وإن يستعتبوا) بضم الياء وفتح التاء
(فما هم من المعتبين) بكسر التاء على معنى وإن طلب منهم خير أو إصلاح فما هم ممن يوجد عنده لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال كما قال عليه السلام (ليس بعد الموت مستعتب) ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * الأنعام 28
ثم وصف عز وجل حالهم في الدنيا وما أصابهم به حين اعرضوا فختم عليهم فقال * (وقيضنا لهم قرناء) * أي يسرنا لهم * (قرناء) * سوء من الشياطين وغواة الإنس
وقوله * (فزينوا لهم ما بين أيديهم) * أي علموهم وقرروا في نفوسهم معتقدات سوء في الأمور التي تقدمتهم من امر الرسل والنبوات ومدح عبادة الأصنام واتباع فعل الآباء إلى غير ذلك مما يقال إنه بين أيديهم وذلك كل ما تقدمهم في الزمان واتصل إليهم أثره أو خبره وكذلك أعطوهم معتقدات سوء فيما خلفهم وهو كل ما يأتي بعدهم من القيامة والبعث ونحو ذلك مما يقال فيه إنه خلف الإنسان فزينوا لهم في هذين كل ما يرديهم ويفضي بهم إلى عذاب جهنم
وقوله * (وحق عليهم القول) * أي سبق القضاء الحتم وأمر الله بتعذيبهم في جملة أمم المعذبين كفار * (من الجن والإنس) * وقالت فرقة " في " بمعنى مع أي مع أمم والمعنى يتأدى بالحرفين ولا نحتاج ان نجعل حرفا بمعنى حرف إذ قد أبى ذلك رؤساء البصريين
12

قوله عز وجل * (لا تسمعوا لهذا القرآن) *
حكاية لما فعله بعض قريش كأبي جهل وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن في المسجد الحرام ويصغي اليه الناس من مؤمن وكافر فخشي الكفار استمالة القلوب بذلك فقالوا متى قرأ محمد فلنلغظ نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والإرجاز حتى يخفى صوته ولا يقع الاستماع منه وهذا الفعل منهم هو اللغو
وقال أبو العالية أرادوا قعوا فيه وعيبوه
واللغو في اللغة سقط القول الذي لا معنى له وهو من الخساسة والبطول في حكم لا معنى له
وقرأ جمهور الناس (والغوا) بفتح الغين وجزم الواو
وقرأ بكر بن حبيب السهمي (ألغوا) بضم الغين وسكون الواو ورويت عن عيسى وابن أبي إسحاق بخلاف عنهما وهما لغتان يقال لغا يلغو ويقال لغى يلغي ويقال أيضا لغى يلغي أصله يفعل بكسر العين فرده حرف الحلق إلى الفتح فالقراءة الأولى من يلغي والقراءة الثانية من يلغو قاله الأخفش
وقوله * (لعلكم تغلبون) * اي تطمسون امر محمد عليه السلام وتميتون ذكره وتصرفون القلوب عنه فهذه الغاية التي تمنوها
قوله عز وجل
سورة فصلت 27 - 30
وقوله تعالى * (فلنذيقن) * الفاء دخلت على لام القسم وهي آية وعيد لقريش
والعذاب الشديد هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها
والجزاء بأسوأ اعمالهم هو عذاب الآخرة
وقوله تعالى * (ذلك) * إشارة إلى الجزاء المتقدم
و * (جزاء أعداء الله) * خبر الابتداء
و * (النار) * بدل من قوله * (جزاء أعداء) * ويجوز أن يكون * (ذلك) * خبر ابتداء تقديره الأمر ذلك ويكون قوله * (جزاء أعداء) * ابتداء و * (النار) * خبره
وقوله * (لهم فيها دار الخلد) * اي موضع البقاء ومسكن العذاب الدائم فالظرفية في قوله * (فيها) * متمكنة على هذا التأويل ويحتمل ان يكون المعنى هب لهم دار الخلد ففي قوله * (فيها) * معنى التجريد كما قال الشاعر
(وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل
*)
13

وفي قراءة عبد الله بن مسعود (ذلك جزاء أعداء الله النار دار الخلد) وسقط * (لهم فيها) * وجحودهم بآيات الله مطرد في علاماته المنصوبة لخلقه وفي آيات كتابه المنزلة على نبيه
ثم ذكر عز وجل مقالة كفار يوم القيامة إذا دخلوا النار فإنهم يرون عظيم ما حل بهم وسوء منقلبهم فتجول أفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم وبادي ضلالتهم فيعظم غيظهم وحنقهم عليه ويودون ان يحصل في أشد عذاب فحينئذ يقولون " ربنا أرنا اللذين أضلانا " وظاهر اللفظ يقتضي ان الذي في قولهم " اللذين " إنما هو للجنس أي * (أرنا) * كل مغو ومضل * (من الجن والإنس) * وهذا قول جماعة من المفسرين
وقال علي بن أبي طالب وقتادة
وطلبوا ولد آدم الذي سن القتل والمعصية من البشر وإبليس الأبالسة من الجن
قال القاضي أبو محمد وتأمل هل يصح هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن ولد آدم مؤمن عاص وهؤلاء إنما طلبوا المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود وإنما القوي انهم طلبوا النوعين وقد أصلح بعضهم هذا القول بان قال يطلب ولد آدم كل عاص دخل النار من أهل الكبائر ويطلب إبليس كل كافر ولفظ الآية يزحم هذا التأويل لأنه يقتضي ان الكفرة إنما طلبوا اللذين أضلا
وقرأ نافع وحمزة والكسائي (أرنا) بكسر الراء وهي رؤية عين ولذلك فهو فعل يتعدى إلى مفعولين
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم (أرنا) بسكون الراء فقال هشام بن عمار هو خطأ
وقال أبو علي هي مخففة من (أرنا) كما قالوا ضحك وفخذ
وقرأ أبو عمرو بإشمام الراء الكسر ورويت عن أهل مكة
وقوله * (نجعلهما تحت أقدامنا) * يريدون في أسفل طبقة من النار وهي أشد عذابا
وهي درك المنافقين
وقوله تعالى * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * آية وعد للمؤمنين قال سفيان بن عبد الله الثقفي قلت للنبي عليه السلام أخبرني بأمر اعتصم به فقال قل ربي الله ثم استقم قلت فما أخوف ما تخاف علي فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال هذا
واختلف الناس في مقتضى قوله * (ثم استقاموا) * فذهب الحسن وقتادة وجماعة إلى أن معناه استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي وتلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال استقاموا والله لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب
قال القاضي أبو محمد ذهب رضي الله عنه إلى حمل الناس على الأتم الأفضل والا فلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب الا تنزل الملائكة عند الموت على غير مستقيم على الطاعة وذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجماعة معه إلى أن المعنى * (ثم استقاموا) * على قولهم * (ربنا الله) * فلم يختل توحيدهم ولا اضطرب إيمانهم
وروى انس بن مالك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرا هذه الآية وقال قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم فمن مات عليها فهو ممن استقام
المعنى فهو في أول درجات الاستقامة من الخلود فهذا كقوله عليه السلام (من كان آخر كلامه لا إله الا الله دخل الجنة) وهذا هو
14

المعتقد إن شاء الله وذلك أن العصاة من أمة محمد عليه السلام وغيرها فرقتان فأما من قضى الله بالمغفرة له وترك تعذيبه فلا محالة ممن تنزل عليه الملائكة بالبشارة وهو إنما استقام على توحيده فقط واما من قضى الله بتعذيبه مرة ثم بإدخاله الجنة فلا محالة انه يلقى جميع ذلك عند موته ويعلمه وليس يصح ان يكون حاله كحالة الكافر اليائس من رحمة الله وإذ قد كان هذا فقد حصلت له بشارة بان لا يخاف الخلود ولا يحزن منه وبأنه يصير آخرا إلى الخلود في الجنة وهل العصاة المؤمنون إلا تحت الوعد بالجنة فهم داخلون فيمن يقال لهم * (أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) * ومع هذا كله فلا يختلف ان الموحد المستقيم على الطاعة أتم حالا وأكمل بشارة وهو مقصد
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى نحو ذلك قال سفيان * (استقاموا) * عملوا بنحو ما قالوا وقال الربيع اعرضوا عما سوى الله
وقال الفضيل زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية وبالجملة فكلما كان المرء أشد استعدادا كان أسرع فوزا بفضل الله تعالى
وقوله تعالى * (ألا تخافوا ولا تحزنوا) * أمنة عامة في كل هم مستأنف وتسلية تامة عن كل فائت ماض
وقال مجاهد المعنى لا تخافون ما تقدمون عليه ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم
وفي قراءة ابن مسعود (الملائكة لا تخافوا) بإسقاط الألف بمعنى يقولون لا تخافوا
قوله عز وجل
سورة فصلت 31 - 35
المتكلم ب * (نحن أولياؤكم) * هم الملائكة القائلون (لا تخافوا ولا تحزنوا) أي يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق نحن كنا أولياءكم في الدنيا ونحن هم في الآخرة
قال السدي المعنى نحن حفظتكم في الدنيا واولياؤكم في الآخرة والضمير في قوله * (فيها) * عائد على الآخرة و * (تدعون) * معناه تطلبون و * (نزلا) * نصب على المصدر
وقراءة الجمهور بضم الواو وقرأ أبو حيوة بإسكانها
وقوله تعالى * (ومن أحسن قولا) * الآية ابتداء توصية محمد عليه السلام وهو لفظ يعم كل من دعا قديما وحديثا إلى الله تعالى والى طاعته من الأنبياء والمؤمنين والمعنى لا أحد أحسن قولا ممن هذه حاله والى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة وبين ان حالة محمد عليه السلام كانت كذلك مبرزة إلى تخصيصه بالآية ذهب السدي وابن زيد وابن سيرين
وقال قيس بن أبي حازم وعائشة أم المؤمنين وعكرمة نزلت هذه الآية في المؤذنين
قال قيس * (وعمل صالحا) * هو الصلاة بين الآذان والإقامة
وذكر النقاش
15

ذلك عن ابن عباس ومعنى القول بأنها في المؤذنين انهم داخلون فيها واما نزولها فبمكة بلا خلاف ولم يكن بمكة آذان وإنما ترتب بالمدينة وان الآذان لمن الدعاء إلى الله تعالى ولكنه جزء منه
والدعاء إالى الله بقوة كجهاد الكفار وردع الطغاة وكف الظلمة وغيره أعظم غناء من تولي الاذان إذ لا مشقة فيه والأصوب ان يعتقد ان الآية نزلت عامة
قال زيد بن علي المعنى دعا إلى الله بالسيف
وقرأ الجمهور (إنني) بنونين
وقرأ ابن أبي عبلة (إني) بنون واحدة
وقال فضيل بن رفيدة كنت مؤذنا في أصحاب ابن مسعود فقال لي عاصم بن هبيرة إذا أكملت الآذان فقل * (إنني من المسلمين) * ثم تلا هذه الآية
ثم وعظ تعالى نبيه عليه السلام ونبهه على أحسن مخاطبة فقرر ان الحسنة والسيئة لا تستوي أي فالحسنة أفضل وكرر في قوله * (ولا السيئة) * تأكيدا ليدل على أن المراد ولا تستوي الحسنة والسيئة ولا السيئة والحسنة فحذف اختصارا ودلت * (لا) * على هذا الحذف
وقوله تعالى * (ادفع بالتي هي أحسن) * آية جمعت مكارم الأخلاق وأنواع الحلم والمعنى ادفع أمورك وما يعرضك مع الناس ومخالطتك لهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن السير والفعلات فمن ذلك بذل السلام وحسن الأدب وكظم الغيظ والسماحة في القضاء والاقتضاء وغير ذلك
قال ابن عباس إذا فعل المؤمن هذه الفضائل عصمه الله من الشيطان وخضع له عدوه وفسر مجاهد وعطاء هذه الآية بالسلام عند اللقاء ولا شك ان السلام هو مبدأ الدفع بالتي هي أحسن وهو جزء منه ثم قال تعالى * (كأنه ولي حميم) * فدخل كاف التشبيه لأن الذي عنده عداوة لا يعود وليا حميما وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك الولي الحميم
والحميم هو القريب الذي يحتم للإنسان
والضمير في قوله * (يلقاها) * عائد عل هذه الخلق التي يتضمنها قوله * (ادفع بالتي هي أحسن) *
وقالت فرقه المراد ومايلقى لا إله إلا الله وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ
وقوله * (إلا الذين صبروا) * مدح بليغ للصبر وذلك بين للمتأمل لأن الصبر للطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها
والحظ العظيم يحتمل ان يريد من العقل والفضل فتكون الآية مدحا
وروي ان رجلا شتم أبا بكر الصديق بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فسكت أبو بكر ساعة ثم جاش به الغضب فرد على الرجل فقام النبي عليه السلام فاتبعه أبو بكر وقال يا رسول الله قمت حين انتصرت فقال إنه كان يرد عنك ملك فلما قربت تنتصر ذهب الملك وجاء الشيطان فلما كنت لأجالسه ويحتمل ان يريد * (ذو حظ عظيم) *
من الجنة وثواب الآخرة فتكون الآية وعدا وبالجنة فسر قتادة الحظ هنا
16

قوله عز وجل
سورة فصلت 36 - 39
* (أما) * شرط وجواب الشرط قوله * (فاستعذ) * والنزغ فعل الشيطان في قلب أو يد من إلقاء غضب وحقد أو بطش في اليد فمن الغضب هذه الآية ومن الحقد قوله * (نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) * يوسف 100 ومن البطش قول النبي عليه السلام (لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده فيلقيه في حفرة من حفر النار)
وندب تعالى في هذه الآية المتقدمة إلى مكارم الخلق في الدفع بالتي هي أحسن ثم أثنى على من لقيها ووعده وعلم أن خلقة البشر تغلب أحيانا وتثور بهم سورة الغضب ونزغ الشيطان فدلهم على مذهب ذلك وهي الاستعاذة به عز وجل
ثم عدد آياته لتعبر فيها من صدق عن التوحيد بذكر * (الليل والنهار) * وذكرهما يتضمن ما فيهما من القصر والطول والتداخل والاستواء في مواضع وسائر عبرهما وكذلك الشمس والقمر متضمن عجائبهما وحكمة الله فيهما ونفعه عباده بهما
ثم قال تعالى * (لا تسجدوا) * لهذه المخلوقات وإن كانت تنفعكم لأن النفع منهما إنما هو بتسخير الله إياهما فهو الذي ينبغي أن يسجد له
والضمير في * (خلقهن) * قالت فرقة هو عائد على الأيام المتقدم ذكرها
وقالت فرقة الضمير عائد على الشمس والقمر والاثنان جمع وجمع ما لا يعقل يؤنث فلذلك قال * (خلقهن) *
قال القاضي أبو محمد ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام ساغ ان يعود الضمير مجموعا
وقالت فرقة هو عائد على الأربعة المذكورة وشأن ضمير ما لا يعقل إذا كان العدد أقل من العشرة ان يجيء هكذا فإذا زاد أفرد مؤنثا تقول الأجذاع انكسرن والجذوع انكسرت ومنه * (إن عدة الشهور) * التوبة 36 ومنه قول حسان بن ثابت
(وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
*)
وقال السموأل
(ولا عيب فينا غير أن سيوفنا
* بها من قراع الدارعين فلول) الطويل
وهذا كثير مهيع وإن كان الأمر يوجد متداخلا بعضه على بعض ثم خاطب تعالى بما يتضمن وعيدهم وحقارة امرهم وان الله تعالى غير محتاج إلى عبادتهم بقوله * (فإن استكبروا) * الآية
17

وقوله * (فالذين) * يعني بهم الملائكة هم صافون يسبحون
و * (عند) * في هذه الآية ليست بظرف مكان وإنما هي بمعنى المنزلة والقربة كما تقول زيد عند الملك جليل وفي نفسه رفيع
ويروى ان تسبيح الملائكة قد صار لهم كالنفس لابن آدم
و " يسئمون " معناه يميلون ثم ذكر تعالى آية منصوبة ليعتبر بها في امر البعث من القبور ويستدل بما شوهد من هذه على مالم يشاهد بعد من تلك وهي آية يراها عيانا كل مفطور على عقل
وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشعث بالجدب وصليم السموم فهي عابسة كما الخاشع عابس يكاد يبكي والماء المنزل هو المطر واهتزاز الأرض هو تخلخل أجزائها بالماء وتشققها للنبات وربوها هو انتفاخها بالماء وعلو سطحها به
وقرأ الجمهور (وربت) وقرا أبو جعفر بن القعقاع (وربأت) بألف مهموزة ورواها الرواسي عن أبي عمرو وهو أيضا بمعنى علت وارتفعت ومنه الربيئة وهو الذي يرتفع حتى يرصد للقوم ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي ان يقاس على هذه الآية والعبرة وذلك إحياء الموتى
وقوله تعالى " إنه على كل شيء قدير " عموم والشيء في اللغة الموجود
قوله عز وجل
سورة فصلت 40 - 43
هذه آية وعيد
والإلحاد الميل وهو ها هنا عن الحق ومن الإلحاد لحد ميت لأنه في جانب يقال لحد الرجل وألحد بمعنى
وقرا الجمهور (يلحدون) بضم الياء من ألحد
وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش (يلحدون) بفتح الياء والحاء من لحد
واختلف المفسرون في الإلحاد الذي أشير اليه ما هو فقال قتادة وغيره الإلحاد بالتكذيب
وقال مجاهد وغيره الإلحاد بالمكاء والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه
وقال ابن عباس إلحادهم هو ان يوضع الكلام غير موضعه ولفظة الإلحاد تعم هذا كله
وقوله * (لا يخفون علينا) * أي فنحن بالمرصاد لهم وسنعذبهم ثم قرر على هذين القسمين انهما خير وهذا التقرير هم المراد به أي فقل لهم يا محمد * (أفمن) * قال مقاتل نزلت هذه الآية في أبي جهل وعثمان بن عفان وقيل في عمار بن ياسر وحسن التفضيل هنا بين الإلقاء في النار والأمن يوم القيامة وإن كانا لا يشتركان في صفة الخير من حيث كان الكلام تقريرا لا مجرد خبر لأن المقرر قد يقرر خصمه
18

على قسمين أحدهما بين الفساد حتى يرى جوابه فعساه يقع في الفاسد المعنى فيبين جهله وقد تقدم نظير هذه الآية واستيعاب القول في هذا المعنى ولا يتجه هنا ان يقال خاطب على معتقدهم كما يتجه ذلك في قوله * (خير مستقرا) * الفرقان 24 فتأمله
وقوله تعالى * (اعملوا ما شئتم) * وعيد في صيغة الأمر بإجماع من أهل العلم ودليل الوعيد ومبينه قوله " إنه بما تعملون بصير "
ثم قال تعالى * (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) * يريد قريشا
و (الذكر) القرآن بإجماع
واختلف الناس في الخبر عنهم أين هو فقالت فرقة هو في قوله * (أولئك ينادون من مكان بعيد) * فصلت 44 ذكر النقاش ان بلال بن أبي بردة سأل عن هذا في مجلسه وقال لم أجد لها نفاذا فقال له أبو عمرو بن العلاء إنه منك لقريب * (أولئك ينادون) * فصلت 44
ويرد هذا النظر كثرة الحائل وإن هنالك قوما قد ذكروا بحسن رد قوله * (أولئك ينادون) * فصلت 44 عليهم
وقالت فرقة الخبر مضمر تقديره * (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) * هلكوا أو ضلوا
وقال بعض نحويي الكوفة الجواب في قوله * (وإنه لكتاب عزيز) * حكى ذلك الطبري وهو ضعيف لا يتجه وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن هذا فقال عمرو معناه في التفسير * (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) * كفروا به * (وإنه لكتاب) * فقال عيسى بن عمر أجدت يا أبا عثمان
قال القاضي أبو محمد والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر ولكنه عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدره هؤلاء فيه وإنما هو بعد * (حكيم حميد) * وهو أشد إظهارا لمذمة الكفار به وذلك أن قوله * (وإنه لكتاب) * داخل في صفة الذكر المكذب به فلم يتم ذكر المخبر عنه الا بعد استيفاء وصفه وهذا كما تقول تخالف زيدا وهو العالم الودود الذي من شأنه ومن امره فهذه كلها أوصاف
ووصف تعالى الكتاب بالعزة لأنه بصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه وهو محفوظ من الله تعالى قال ابن عباس معناه كريم على الله تعالى قال مقاتل منيع من الشيطان
قال السدي غير مخلوق
وقوله * (لا يأتيه الباطل) * قال قتادة والسدي يريد الشيطان وظاهر اللفظ يعم الشيطان وان يجيء امر يبطل منه شيئا
وقوله * (من بين يديه) * معناه ليس فما تقدمه من الكتب ما يبطل شيئا منه
وقوله * (ولا من خلفه) * اي ليس يأتي بعده من نظر ناظر وفكرة عاقل ما يبطل أشياء منه والمراد باللفظ على الجملة لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات
وقوله * (تنزيل) * خبر ابتداء أي هو تنزيل
وقوله * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) * يحتمل معنيين أحدهما ان يكون تسلية للنبي عليه السلام عن مقالات قومه أي ما تلقى يا محمد من المكروه منهم ولا يقولون لك من الأقوال المؤلمة الا ما قد قيل ولقي به من تقدمك من الرسل فلتتأس بهم ولتمض لأمر الله ولا يهمنك شانهم
والمعنى
19

الثاني أن تكون الآية تخليصا لمعاني الشرع أي ما يقال لك من الوحي وتخاطب به من جهة الله تعالى الا ما قد قيل للرسل من قبلك ثم فسر ذلك الذي قيل لجميعهم وهو * (إن ربك لذو مغفرة) * للطائعين * (وذو عقاب) * للكافرين
وفي هذه الكلمات جماع النهي والزجر الموعظة وإليها يرجع كل نظر
قوله عز وجل
سورة فصلت 44 - 46
الأعجمي هو الذي لا يفصح عربيا كان أو غير عربي والعجمي الذي ليس من العرب فصيحا كان أو غير فصيح وهذه الآية نزلت بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم من أجل الحروف التي وقعت في القرآن وهي مما عرب من كلام العجم كالسجين والإستبرق ونحوه فقال عز وجل ولو جعلنا هذا القرآن أعجميا لا يبين لقالوا واعترضوا لولا بينت آياته
واختلف القراء في قوله * (أعجمي وعربي) * فقراءة الجمهور على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش (أأعجمي) بهمزتين وكأنهم كانوا ينكرون ذلك فيقولون لولا بين أأعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن وتأول ابن جبير ان معنى قولهم أتجيئنا عجمة ونحن عرب ما لنا وللعجمة وقرا الحسن البصري وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما (أعجمي وعربي) دون استفهام وبسكون العين كأنهم قالوا عجمة وإعراب إن هذا لشاذ أو كأنهم قالوا لولا فصل فصلين فكان بعضه أعجميا يفهمه العجم وبعضه عربيا يفهمه العرب وهذا تأويل لابن جبير أيضا
وقرأ عمرو بن ميمون (أعجمي) بهمزة واحدة دون مد وبفتح العين فأخبر الله تعالى عنهم أنه لو كان على أي وجه تخيل لكان لهم قول واعتراض فاسد هذا مقصد الكلام
وامر الله تعالى نبيه عليه السلام ان يقول لهم إن القرآن * (هدى وشفاء) * للمؤمنين المبصرين للحقائق وانه على الذين لا يؤمنون ولا يصرفون نظرهم وحواسهم في المصنوعات عمي لأنهم * (في آذانهم وقر) * وعلى قلوبهم أقفال وعلى أعينهم غشاوة
واختلف الناس في قوله * (وهو عليهم) * فقالت فرقة يريد ب " هو " القرآن
وقالت فرقة * (وهو) * يريد به الوقر
والوقر الثقل في الأذن المانع من السمع وهذه كلها استعارات أي هم لما لم يفهموا ولا حصلوا كالأعمى وصاحب الوقر
20

وقرأ ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاصي (وهو عليهم عم) بكسر الميم وتنوينه
وقال يعقوب لا أدري أنونوا أم فتحوا الياء على الفعل الماضي وبغير ياء رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتة عن ابن عباس
وهذه القراءة أيضا فيها استعارة وكذلك قوله تعالى * (أولئك ينادون) * يحتمل معنيين وكلاهما مفعول للمفسرين أحدهما انها استعارة لقلة فهمهم شبههم بالرجل ينادي على بعد يسمع منه الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه وهذا تأويل مجاهد والآخر ان الكلام على الحقيقة وان معناه انهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب وهذا تأويل الضحاك بن مزاحم
ثم ضرب تعالى امر موسى مثلا للنبي عليه السلام ولقريش أي فعل أولئك كأفعال هؤلاء حين جاءهم مثل ما جاء هؤلاء والكلمة السابقة هي ختم الله تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة والضمير في قولهم * (لفي شك منه) * يحتمل ان يعود على موسى أو على كتابه
وقوله تعالى * (من عمل صالحا) * الآية نصيحة بنية للعالم وتحذير وترجية وصدع بين الله تعالى لا يجعل شيئا من عقوبات عبيدة في غير موضعها بل هو العادل المتفضل الذي يجازي كل عبد بتكسبه
قوله عز وجل
سورة فصلت 47 - 50
المعنى ان وقت علم الساعة ومجيئها يرده كل مؤمن متكلم فيه إلى الله عز وجل
وذكر تعالى الثمار وخروجها من الأكمام وحمل الإناث مثالا لجميع الأشياء إذ كل شيء خفي فهو في حكم هذين
وقرا ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي والحسن وطلحة والأعمش (من ثمرة) بالإفراد على أنه اسم جنس
وقرأ نافع وابن عامر (ثمرات) بالجمع واختلف عن عاصم وهي قراءة أببي جعفر وشيبة والأعرج والحسن بخلاف وفي مصحف عبد الله (في ثمرة من اكمامها) والأكمام جمع كم وهو غلاف التمر قبل ظهوره
وقوله تعالى * (ويوم يناديهم) * تقديره واذكر يوم يناديهم والضمير في * (يناديهم) * ظاهره والأسبق فيه انه يريد به الكفار عبدة الأوثان
ويحتمل ان يريد به كل من عبد من دون الله من إنسان وغيره وفي هذا
21

ضعف وإنما الضمير في قوله * (وضل عنهم) * فلا احتمال لعودته الا على الكفار
و " آنذاك " قال ابن عباس وغيره معناه أعلمناك * (ما منا من شهيد) * ولا من يشهد بان لك شريكا
* (وضل عنهم) * أي نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة والأصنام ويحتمل ان يريد * (وضل عنهم) * الأصنام اي تلفت لهم فلم يجدوا منها نصرا وتلاشى لهم امرها
وقوله * (وظنوا) * يحتمل ان يكون متصلا بما قبله ويكون الوقف عليه ويكون قوله * (ما لهم من محيص) * استئناف نفي ان يكون لهم منجى أو موضع روغان يقول حاص الرجل إذا راغ يطلب النجاة من شيء ومنه الحديث فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ويكون الظن على هذا التأويل على بابه أي ظنوا ان هذه المقالة * (ما منا من شهيد) * منجاة لهم أو أمر يموهون به ويحتمل ان يكون الوقف في قوله * (من قبل) * ويكون * (وظنوا) * متصلا بقوله * (ما لهم من محيص) * أي ظنوا ذلك ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين وبه فسر السدي وهذه عبارة يطلقها أهل اللسان على الظن ولست تجد ذلك الا فيما علم علما قويا وتقرر في النفس ولم يلتبس به بعد والا فمتى تلبس بالشيء وحصل تحت إدراك الحواس فلست تجدهم يوقعون عليه لفظة الظن
وقوله تعالى " لا يسئم الإنسان " آيات نزلت في كفار قريش قيل في الوليد بن المغيرة وقيل في عتبة بن ربيعة وجل الآية يعطي انها نزلت في كفار وإن كان أولها يتضمن خلقا ربما شارك فيه بعض المؤمنين
و * (دعاء الخير) * إضافتة المصدر إلى المفعول والفاعل محذوف تقديره من دعاء الخير هو
وفي مصحف ابن مسعود (من دعاء بالخير)
و * (الخير) * في هذه الآية المال والصحة وبذلك تليق الآية بالكافر وإن قدرناه خير الآخرة فهي للمؤمن وأما اليأس والقنط على الإطلاق فمن صفة الكافر وحده
وقوله تعالى * (ليقولن هذا لي) * أي بعلمي وبما سعيت ولا يرى أن النعم إنما هي بتفضل من الله تعالى * (وما أظن الساعة قائمة) * قول بين فيه الجحد والكفر
ثم يقول هذا الكافر ولئن كان ثم رجوع كما تقولون لتكونن لي حال ترضيني من غنى ومال وبنين فتوعدهم الله تعالى بأنه سيعرفهم بأعمالهم الخبيثة مع إذاقتهم العذاب عليها فهذا عذاب وخزي
وغلظ العذاب شدته وصعوبته
وقال الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه للكافر أمنيتان اما في دنياه فهذه * (إن لي عنده للحسنى) *
واما في آخرته " فيا ليتني كنت ترابا " النبأ 40
قال القاضي أبو محمد والأماني على الله تعالى وترك الجد في الطاعة مذموم لكل أحد فقد قال عليه السلام الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله
22

قوله عز وجل
سورة فصلت 51 - 54
ذكر الله تعالى الخلق الذميمة من الإنسان جملة وهي في الكفار بينه متمكنة وأما المؤمن في الأغلب فيشكر عند النعمة وكثيرا ما يصبر عند الشدة
وقرأ جمهور والناس (ونأى بجانبه) الهمزة عين الفعل
وقرأ ابن عامر (وناء) الهمزة لام الفعل وهي قراءة أبي جعفر والمعنى فيهما واحد
قال أبو علي ناء قلب ابن آدم فعل فلع ومنه قول الشاعر كثير
(وكل خليل راءني فهو قائل
* من اجلك هذا هامة اليوم أو غد) الطويل
ومنه قول الآخر
(وقد شاءني أهل السباق وأمعنوا
*) الطويل
* (ونأى) * معناه بعد ولم يمل إلى شكر ولا طاعة
وقوله * (فذو دعاء عريض) * أي طويل أيضا فاستغني بالصفة الواحدة عن لزيمتها إذ العرض يقتضي الطول ويتضمنه ولم يقل طويل لأن الطويل قد لا يكون عريضا ف * (عريض) * أدل على الكثرة
ثم أمر تعالى نبيه ان يقف قريشا على هذا الاحتجاج موضع تغريرهم بأنفسهم فقال * (أرأيتم إن كان) * هذا الشرع * (من عند الله) * وبأمره وخالفتموه أنتم ألستم عل هلكة من قبل الله تعالى فمن أضل ممن يبقى على مثل هذا الغرر مع الله وهذا هو الشقاق ثم وعد تعالى نبيه عليه السلام بأنه سيري الكفار آياته
واختلف المتأولون في معنى قوله * (في الآفاق وفي أنفسهم) * فقال المنهال والسدي وجماعة هو وعد بما يفتحه الله تعالى على رسوله من الأقطار حول مكة وفي غير ذلك من الأرض كخبير ونحوها
* (وفي أنفسهم) * أراد به فتح مكة
قال القاضي أبو محمد وهذا تأويل حسن ينتظم الاعلام بغيب ظهر وجوده بعد كذلك ويجري معه لفظ الاستئناف الذي في الفعل
وقال الضحاك وقتادة * (سنريهم آياتنا في الآفاق) * هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما * (وفي أنفسهم) * يوم بدر وقال ابن زيد وعطاء * (الآفاق) * آفاق السماء
وأراد الآيات في الشمس والقمر والرياح وغير ذلك
* (وفي أنفسهم) * عبرة الانسان بجسمه وحواسه وغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك وهذه آيات قد كانت مرئية فليس هذا المعنى يجري مع قوله (سنري) والتأويل الأول أرجحها والله أعلم
والضمير في قوله تعالى * (أنه الحق) * عائد على الشرع والقرآن فبإظهار الله إياه وفتح البلاد عليه تبين لهم انه الحق
23

ثم قال تعالى وعدا لنبيه عليه السلام " أو لم يكف بربك " والتقدير أو لم يكف ربك والباء زائدة للتأكيد وانه يحتمل ان يكون في موضع رفع على البدل من الموضع إذ التقدير أو لم يكف ربك ويحتمل ان يكون في موضع خفض على البدل من اللفظ وهذا كله بدل الاشتمال ويصح ان يكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر أي لأنه
على كل شيء شهيد
وقرا الجمهور (انه) بفتح الألف وقرأ بعض الناس (إنه) بكسرها على الاعتراض أثناء القول
وقوله * (الآ) * استفتاح يقتضي إقبال السامع على ما يقال له فاستفتح الإخبار على أنهم في شك وريب وضلال أداهم إلى الشك في البعث
وقرأ جمهور الناس (في مرية) بكسر الميم
وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن (في مرية) بضم الميم والمعنى واحد ثم استفتح الإخبار بإحاطته بكل شيء على معنى الوعيد لهم وإحاطته تعالى هي بالقدرة والسلطان لا إله إلا هو العزيز الحكيم
نجز تفسير سورة * (حم) * السجدة والحمد لله رب العالمين
24

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشورى
هذه السورة مكية بإجماع من أكثر المفسرين وقال قتادة فيها مدني * (ذلك الذي يبشر الله عباده) * الشورى 23 إلى * (الصدور) * الشورى 24 وقوله * (والذين إذا أصابهم البغي) * الشورى 39 إلى قوله * (من سبيل) * الشورى 41
وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي إن * (حم عسق) * هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله تعالى المنزلة على كل نبي أنزل عليه الكتاب ولذلك قال تعالى * (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك) *
قوله عز وجل
سورة الشورى 1 - 5
فصلت * (حم) * من * (عسق) * ولم يفعل ذلك ب * (كهيعص) * مريم 1 لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها
وقرأ الجمهور (حم عسق)
وقرأ ابن مسعود وابن عباس (حم سق) بسقوط عين والأقوال في هذه كالأقوال في أوائل السور
وروى حذيفة في هذا حديثا مضمنه انه سيكون في هذه الأمة مدينتان يشقهما نهر بالمشرق تهلك إحداهما ليلا ثم تصبح الأخرى سالمة فيجتمع فيها جبابرة المدينتين متعجبين من سلامتها فتهلك من الليلة القابلة وان * (حم) * معناه حم هذه الأمر
وعين معناه عدلا من الله
وسين سيكون ذلك
وقاف معناه يقع ذلك بهم
وروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يستفيد علم الفتن والحروب من هذه الأحرف التي في أوائل السور
والكاف في قوله * (كذلك) * نعت لمصدر محذوف والإشارة بذلك تختلف بحسب الأقوال في الحروف
وقرأ الجمهور القراء (يوحي) بالياء على إسناد الفعل إلى الله تعالى وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي جعفر والجحدري وعيسى وطلحة والأعمش
وقرأ أبو حيوة والأعشى عن أبي بكر عن عاصم (نوحي) بنون العظمة ويكون قوله * (الله) * ابتداء وخبره * (العزيز) * ويحتمل أن يكون خبره * (وله ما في السماوات) *
25

وقرأ ابن كثير وحده (يوحى) بالياء وفتح الحاء على بناء الفعل للمفعول وهي قراءة مجاهد والتقدير يوحى إليك القرآن يوحيه الله وكما قال الشاعر
(ليبك يزيد ضارع لخصومة
*)
ومنه قوله تعالى * (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) * النور 36
وقوله تعالى * (وإلى الذين من قبلك) * يريد من الأنبياء الذين نزلت عليهم الكتب
وقوله تعالى * (له ما في السماوات) * أي الملك والخلق والاختراع
و * (العلي) * من علو القدر والسلطان
و * (العظيم) * كذلك وليس بعلو مسافة ولا عظم جرم تعالى الله عن ذلك وقرا نافع والكسائي (يكاد) بالياء
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وعاصم تكاد بالتاء وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي ونافع وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وقتادة (ينفطرون) من التفطر وهو مطاوع فطرت
وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن والأعرج وأبو رجاء والجحدري (يتفطرون) من الإفطار وهو مطاوع فطر والمعنى فيهما يتصدعن ويتشققن من سرعة جريهن خضوعا
وخشية من سلطان الله تعالى وتعظيما له وطاعة وما وقع للمفسرين هنا من ذكر الثقل ونحوه مردود لأن الله تعالى لا يوصف به
وقوله * (من فوقهن) * أي من اعلاهن
وقال الأخفش علي بن سليمان الضمير للكفار
قال القاضي أبو محمد المعنى من فوق الفرق والجماعات الملحدة التي من أجل أقوالها تكاد السماوات يتفطرن فهذه الآية على هذا كالآية التي في * (كهيعص) * مريم 1
وقالت فرقة معناه من فوق الأرضين إذ قد جرى ذكر الأرض وذكر الزجاج انه قرىء (يتفطرن ممن فوقهن)
وقوله تعالى * (يسبحون بحمد ربهم) * قيل معناه يقولون سبحان الله وقيل معناه يصلون لربهم
وقوله تعالى * (ويستغفرون لمن في الأرض) * قالت فرقة هذا منسوخ بقوله تعالى في آية أخرى * (ويستغفرون للذين آمنوا) * غافر 7 وهذا قول ضعيف لأن النسخ في الإخبار لا يتصور
وقال السدي ما معناه إن ظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص في المؤمن فكأنه قال * (ويستغفرون لمن في الأرض) * من المؤمنين إذ الكفار عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
وقالت فرقة بل هي على عمومها لكن استغفار الملائكة ليس بطلب غفران الله تعالى للكفرة على أن يبقوا كفرة وإنما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تؤدي إلى الغفران لهم وكان الملائكة تقول اللهم أهد أهل الأرض واغفر لهم
ويؤيد هذا التأويل تأكيده صفة الغفران والرحمة لنفسه بالاستفتاح وذلك قوله * (ألا إن الله هو الغفور الرحيم) * أي لما كان الاستغفار لجميع من في الأرض يبعد ان يجاب رجا عز وجل بأن استفتح الكلام تهيئة السامع فقال * (ألا إن الله) * هو الذي يطلب هذا منه إذ هذه أوصافه وهو أهل المغفرة
26

قوله عز وجل
سورة الشورى 6 - 9
هذه آية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفار وإزالة عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم جميع الكلف سوى التبليغ فقط لئلا يهتم بعدم إيمان قريش وغيرهم فقال تعالى لنبيه إن الذين اتخذوا الأصنام والأوثان أولياء من دون الله الله هو الحفيظ عليهم كفرهم المحصي لأعمالهم المجازي لهم عليها بعذاب الآخرة وأنت فلست بوكيل عليهم ولا ملازم لأمرهم حتى يؤمنوا
والوكيل المقيم على الأمر وما في هذا اللفظ من موادعة فهو منسوخ بآية السيف ثم قال تعالى * (وكذلك أوحينا إليك) * أي وكما قضينا امرك هكذا وامضيناه في هذه الصورة كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا مبينا لهم لا يحتاجون معه إلى آخر سواه ولا محتج غيره إذ فهمه متأت لهم ولم يكلفك الا انذارا من ذكر
و * (أم القرى) * مكة والمراد أهل مكة ولذلك عطف " من " وهي في الأغلب لمن يعقل
و * (يوم الجمع) * هو يوم القيامة واقتصر في * (تنذر) * على المفعول الأول لأن المعنى وتنذر أهل أم القرى العذاب وتنذر الناس يوم الجمع أي تخوفهم إياه لما فيه من عذاب من كفر وسمي * (يوم الجمع) * لاجتماع أهل الأرض فيه بأهل السماء أو لاجتماع بني آدم للعرض
وقوله * (لا ريب فيه) * أي في نفسه وذاته وارتياب الكفار به لا يعتد به
وقوله * (فريق) * مرتفع على خبر الابتداء المضمر كأنه قال هم فريق في الجنة وفريق في السعير
ثم قوى تعالى تسلية نبيه عليه السلام بان عرفه ان الأمر موقوف على مشيئة الله من إيمانهم أو كفرهم وانه لو أراد كونهم أمة واحدة لجمعهم عليه ولكنه يدخل من سبقت له السعادة عنده في رحمته وييسره في الدنيا لعمل أهل السعادة وان الظالمين بالكفر الميسرين لعمل الشقوة ما لهم من ولي ولا نصير
وقوله * (أم اتخذوا) * كلام منقطع مما قبله وليست معادلة ولكن الكلام كأنه أضرب عن حجة لهم أو مقالة مقررة فقال (بل اتخذوا) هذا مشهور قول النحويين في مثل هذا وذهب بعضهم إلى أن * (أم) * هذه هي بمنزلة ألف الاستفهام دون تقدير إضراب ثم أثبت الحكم بأنه عز وجل هو الولي الذي تنفع ولايته وانه هو الذي يحيى الموتى ويحشرهم إلى الآخرة ويبعثهم من قبورهم وان قدرته على كل شيء تعطي هذا وتقتضيه
27

قوله عز وجل
سورة الشورى 10 - 12
المعنى قل لهم يا محمد * (وما اختلفتم فيه) * أيها الناس من تكذيب وتصديق وايمان وكفر وغير ذلك فالحكم فيه والمجازاة عليه ليست إلي ولا بيدي وإنما ذلك * (إلى الله) * الذي صفاته ما ذكر من إحياء الموتى والقدرة على كل شيء ثم قال ذلكم الله ربي وعليه توكلي وإليه إنابتي ورجوعي وهو * (فاطر السماوات والأرض) * أي مخترعها وخالقها شق بعضها من بعض
وقوله تعالى * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * يريد زوج الإنسان الأنثى وبهذه النعمة اتفق الذرء وليست الأزواج ها هنا الأنواع واما الأزواج المذكورة مع الأنعام فالظاهر أيضا والمتسق أنه يريد إناث الذكران ويحتمل ان يريد الأنواع والأول أظهر
وقوله * (يذرؤكم) * أي يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن قاله مجاهد والناس فلفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخرليس في خلق وهو توالي الطبقات على مر
الزمان
وقوله * (فيه) * الضمير عائد على الجعل الذي يتضمنه قوله * (جعل لكم) * وهذا كما تقول كلمت زيدا كلاما أكرمته فيه
وقال القتبي الضمير للتزويج ولفظة (في) مشتركة على معان وإن كان أصلها الوعاء وإليه يردها النظر في كل وجه
وقوله تعالى " ليس كمثله شيء " الكاف مؤكدة للتشبيه فبقي التشبيه اوكد ما يكون وذلك أنك تقول زيد كعمرو وزيد مثل عمرو فإذا أردت المبالغة التامة قلت زيد كمثل عمرو ومن هذا قول أوس بن حجر
(وقتلى كمثل جذوع النخيل
* يغشاهم سيل منهمر) المتقارب
ومنه قول الآخر
(سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم
* ما إن كمثلهم في الناس من أحد) البسيط
فجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب وتفترق الآية مع هذه الشواهد متى أردت أن تتبع بذهنك هذا اللفظ فتقدر للجزوع مثلا موجودا وتشبه القتل بذلك المثل أمكنك أو لا يمكنك هذا في جهة الله تعالى الا ان تجعل المثل ما يتحصل في الذهن من العلم بالله تعالى إذ المثل والمثال واحد وذهب الطبري وغيره إلى أن المعنى ليس كهو شيء
وقالوا لفظة مثل في الآية توكيد أو واقعة موقع هو
قال القاضي أبو محمد ومما يؤيد دخول الكاف تأكيدا انها قد تدخل على الكاف نفسها وأنشد سيبويه
(وصاليات ككما يؤثفين
*)
28

والمقاليد المفاتيح قاله ابن عباس والحسن وقال مجاهد أصلها بالفارسية وهي ها هنا استعارة لوقع كل امر تحت قدرته
وقال السدي المقاليد الخزائن وفي العبارة على هذا حذف مضاف قال قتادة من ملك مقالد خزائن فالخزائن في ملكه وبسط الرزق وقدره بين وقد مضى تفسيره
قوله عز وجل
سورة الشورى 13 - 14
المعنى * (شرع لكم) * وبين من المعتقدات والتوحيد * (ما وصى به نوحا) * قبل
وقوله * (والذي) * عطف على " ما " وكذلك ما ذكر بعد من إقامة الدين مشروع اتفقت النبوات فيه وذلك في المعتقدات أو في جملة امرها من أن كل نبوة فإنما مضمنها معتقدات واحكام فيجيء المعنى على هذا شرع لكم شرعة هي كشرعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام في أنها ذات المعتقدات المشهورة التي هي في كل نبوءة وذات احكام كما كانت تلك كلها وعلى هذا يتخرج ما حكاه الطبري عن قتادة قال * (ما وصى به نوحا) * يريد الحلال والحرام وعليه روي أن نوحا أول من اتى بتحريم البنات والأمهات
واما الأحكام بانفرادها فهي في الشرائع مختلفة وهي المراد في قوله تعالى * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * المائدة 48
و * (أن) * في قوله * (أن أقيموا) * يجوز أن تكون في موضع نصب بدلا من " ما " ويجوز في موضع خفض بدلا من الضمير في " به " وفي موضع رفع على خبر ابتداء تقديره ذلك ان و * (أن) * تكون مفسرة بمعنى أي لا موضع لها من الاعراب وإقامة الدين هو توحيد الله تعالى ورفض سواه
وقوله * (ولا تفرقوا) * نهي عن المهلك من تفرق الأنحاء والمذاهب والخير كله في الإلفة واجتماع الكلمة
ثم أخبر تعالى نبيه بصعوبة موقع هذه الدعوة إلى إقامة الدين على المشركين بالله العابدين الأصنام
قال قتادة كبرت عليهم لا إله الا الله وأبى الله إلا نصرها ثم سلاه عنهم بقوله * (الله يجتبي) * أي يختار ويصطفي قال مجاهد وغيره و * (ينيب) * معناه يرجع عن الكفر ويحرص على الخير ويطلبه
وقوله * (ولا تتفرقوا) * عبارة يجمع خطابها كفار العرب واليهود والنصارى وكل مدعو إلى الإسلام فلذلك حسن ان يقال ما تفرقوا يعني بذلك أوائل اليهود والنصارى
والعلم الذي جاءهم هو
29

ما كان حصل في نفوسهم من علم كتب الله تعالى فبغى بعضهم على بعض أداهم ذلك إلى اختلاف الرأي وافتراق الكلمة والكلمة السابقة قال المفسرون هي حتمه تعالى القضاء بأن مجازاتهم إنما تقع في الآخرة فلولا ذلك لفصل بينهم في الدنيا وغلب المحق على المبطل
وقوله تعالى * (وإن الذين أورثوا الكتاب) * إشارة إلى معاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى وقيل هي إشارة إلى العرب
و * (الكتاب) * هو القرآن
والضمير في قوله * (لفي شك) * يحتمل ان يعود على * (الكتاب) * أو على محمد أو على الأجل المسمى أي في شك من البعث على قول من رأى الإشارة إلى العرب ووصف الشك ب * (مريب) * مبالغة فيه
قوله عز وجل
سورة الشورى 15 - 16
اللام في قوله * (فلذلك) * قالت فرقة هي بمنزلة إلى كما قال تعالى * (بأن ربك أوحى لها) * الزلزلة 5 أي إليها كأنه قال فإلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد * (فادع) * وقالت فرقة بل هي بمعنى من أجل كأنه قال فمن اجل ان الأمر كذا ولكونه كذا * (فادع) * أنت إلى ربك وبلغ ما أرسلت به
وخوطب عليه السلام بأمر الاستقامة وقد كان مستقيما بمعنى دم على استقامتك وهكذا الشأن في كل مأمور بشيء هو متلبس به إنما معناه الدوام وهذه الآية ونحوها كانت نصب عين النبي صلى الله عليه وسلم وكانت شديدة الموقع من نفسه أعني قوله تعالى " فاستقم كما أمرت " هود 112 لأنها جملة تحتها جميع الطاعات وتكاليف النبوءة وفي هذا المعنى قال عليه السلام شيبتني هود وأخواتها فقيل له لم ذلك فقال لأن فيها " فاستقم كما أمرت " هود 112 وهذا الخطاب له عليه السلام بحسب قوته في امر الله تعالى وقال هو لأمته بحسب ضعفهم استقيموا
وقوله تعالى * (ولا تتبع أهواءهم) * يعني قريشا فيما كانوا يهوونه من أن يعظم آلهتهم وغير ذلك ثم امره تعالى ان يؤمن بالكتب المنزلة قبله من عند الله وهو أمر يعم سائر أمته
وقوله تعالى * (وأمرت لأعدل بينكم) * قالت فرقة اللام في * (لأعدل) * بمعنى ان التقدير بأن أعدل بينكم
وقالت فرقة المعنى وأمرت بما أمرت به من التبليغ والشرع لكي أعدل بينكم فحذف من الكلام ما يدل الظاهر عليه
وقوله * (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) * إلى آخر الآية منسوخ ما فيه من موادعة بآية السيف
30

وقوله * (لا حجة بيننا وبينكم) * أي لا جدال ولا مناظرة قد وضح الحق وأنتم تعاندون وفي قوله تعالى * (الله يجمع بيننا) * وعيد
وقوله * (والذين يحاجون في الله) * قال ابن عباس ومجاهد إنها نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومجادلتهم بأن قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل فنزلت الآية في ذلك وقيل بل نزلت في قريش لأنها كانت أبدا تحاول هذا المعنى وتطمع في رد الجاهلية و * (يحاجون في الله) * معناه في توحيد الله أي يحاجون فيه بالإبطال والإلحاد وما أشبه والضمير في * (له) * يحتمل ان يعود على * (الله) * تعالى أي بعد ما دخل في دينه ويحتمل أن يعود على الدين والشرع ويحتمل ان يعود على محمد عليه السلام و * (داحضة) * معناه زاهقة
والدحض الزلق وباقي الآية بين
قوله عز وجل
سورة الشورى 17 - 20
لما أنحى القول على الذين يحاجون في توحيد الله ويرومون إطفاء نوره صدع في هذه الآية بصفة من انزل الكتاب الهادي للناس و * (الكتاب) * هنا اسم جنس يعم جميع الكتب المنزلة
وقوله * (بالحق) * يحتمل ان يكون المعنى بأن كان ذلك حقا واجبا للمصلحة والهدى ويحتمل ان يكون المعنى مضمنا الحق أي بالحق في أحكامه وأوامره
و " الميزان " هنا العدل قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والناس
وحكى الثعلبي عن مجاهد أنه قال هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس
قال القاضي أبو محمد ولا شك انه داخل في العدل وجزء منه وكل شيء من الأمور فالعدل فيه إنما هو بوزن وتقدير مستقيم فيحتاج في الأجرام إلى آلة وهي العمود والكفتان التي بأيدي البشر ويحتاج في المعاني إلى هيئات في النفوس وفهوم توازن بين الأشياء
وقوله * (وما يدريك لعل الساعة قريب) * وعيد للمشركين أي فانظر في أي غورهم وجاء لفظ * (قريب) * مذكرا من حيث تأنيث الساعة غير حقيقي وإذ هي بمعنى الوقت
ثم وصف تعالى حال الجهلة الجهة الكاذبين بها فهم لذلك يستعجلون بها أي يطلبون تعجيلها ليبين العجز ممن يحققها فالمصدق بها مشفق خائف والمكذب مستعجل مقيم لحجته على تكذيبه بذلك
31

المستعجل به ثم استفتح الإخبار عن الممارين في الساعة بأنهم في ضلال قد بعد بهم فرجوعهم عنه صعب متعذر وفي هذا الاستفتاح مبالغة وتأكيد وتهيئة لنفس السامع ثم رجى تبارك وتعالى عباده بقوله * (الله لطيف بعباده) * و " لطيف " هنا بمعنى رفيق متحف والعباد هنا المؤمنون ومن سبق له الخلود في الجنة وذلك أن الأعمال بخواتهما ولا لطف الا ما آل إلى الرحمة واما الإنعام على الكافرين في الدنيا فليس بلطف بهم بل هو إملاء واستدراج
وقال الجنيد لطف بأوليائه حتى عرفوه ولو لطف بالكفار لما جحدوه وقيل " لطيف " معناه في أن نشر عنهم المناقب وستر عليهم المثالب وقيل هو الذي لا يخاف الا عدله ولا يرجى الا فضله
وقوله * (من كان يريد) * معناه إرادة مستعد عامل عارف لا إرادة متمن لم يدر نفسه
والحرث في هذه الآية عبارة عن السعي والتكسب والإعداد
ولما كان حرث الأرض أصلا من أصول المكاسب استعير لكل متكسب ومنه قول ابن عمر أحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا
وقوله تعالى " نزد في حرثه " وعد منتجز
وقوله في * (حرث الدنيا نؤته منها) * معناه ما شئنا ولمن شئنا فرب ممتحن مضيق عليه حريص على حرث الدنيا مريد له لا يحس بغيره نعوذ بالله من ذلك وهذا الذي لا يعقل غير الدنيا هو الذي نفى ان يكون له نصيب في الآخرة
وقرأ سلام * (نؤته) * برفع الهاء وهي لغة لأهل الحجاز ومثله قراءتهم * (فخسفنا به وبداره الأرض) * القصص 81 برفع الهاء فيهما
قوله عز وجل
سورة الشورى 21 - 23
* (أم) * هذه هي منقطعة لا معادلة وهي بتقدير بل وألف الاستفهام
والشركاء في هذه الآية يحتمل ان يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم ويكون الضمير في * (لهم) * للكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم أي شرع الشركاء لهم ما لم يأذن به الله فالاشتراك ها هنا هو في الكفر
32

والغواية وليس بشركة الاشراك بالله ويحتمل ان يكون المراد ب (الشركاء) الأصنام والأوثان على معنى أم لهم أصنام جعلوها لله في ألوهيته ويكون الضمير في * (شرعوا) * لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم
والضمير في * (لهم) * للأصنام الشركاء أي شرع هؤلاء الكفار لأصنامهم وأوثانهم مالم يأذن به الله و * (شرعوا) * معناه أثبتوا ونهجوا ورسموا
و * (الدين) * هنا العوائد والأحكام والسيرة ويدخل في ذلك أيضا المعتقدات لأنهم في جميع ذلك وضعوا أوضاعا فأما في المعتقدات فقولهم إن الأصنام آلهة وقولهم إنهم يعبدون الأصنام زلفى وغير ذلك وأما في الأحكام فكالبحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك من السوائب ونحوها والإذن في هذه الآية الأمر
و * (كلمة الفصل) * هي ما سبق من قضاء الله تعالى بأنه يؤخر عقابهم إلى الآخرة والقضاء بينهم هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم
وقرأ جمهور الناس (وإن الظالمين) بكسر الهمزة على القطع والاستئناف
وقرا مسلم بن جندب (وان الظالمين) بفتح الهمزة وهي في موضع رفع عطف على * (كلمه) * المعنى وان الظالمين لهم في الآخرة عذاب
وقوله * (ترى الظالمين) * هي رؤية بصر و * (الظالمين) * مفعول و * (مشفقين) * حال وليس لهم في هذا الاشفاق مدح لأنهم إنما أشفقوا حين نزل بهم ووقع وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من الساعة كما تقدم
وقوله تعالى * (وهو واقع بهم) * جملة في موضع الحال والروضات المواضع المؤنفة النظرة وهي مرتفعة في الأغلب من الاستعمال وهي الممدوحة عند العرب وغيرهم ومن ذلك قوله تعالى * (كمثل جنة بربوة) * البقرة 265 ومن ذلك تفضيلهم روضات الحزن لجودة هوائها قال الطبري ولا تقول العرب لموضع الأشجار رياض
وقوله تعالى * (ذلك الذي يبشر الله عباده) * إشارة إلى قوله تعالى في الآية الأخرى * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) * الأحزاب 47
وقرا جمهور الناس (يبشرهم) بضم الياء وفتح الباء وشد الشين المكسورة وذلك على التعدية بالتضعيف
وقرا مجاهد وحميد (يبشر) بضم الياء وسكون الباء وكسر الشين على التعدية بالهمزة
قرأ ابن مسعود وابن يعمر وابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة (يبشر) بفتح الياء وضم الشين ورويت عن ابن كثير
وقال الجحدري في تفسيرها ترى النضرة في الوجوه
وقوله تعالى " قل لا أسألكم عليه إلا المودة في القربى " اختلف الناس في معناه فقال له ابن عباس وغيره وهي آية مكية نزلت في صدر الاسلام ومعناها استكفاف شر الكفار ودفع أذاهم أي ما أسألكم على القرآن والدين والدعاء إلى الله الا ان تودوني لقرابة هي بيني وبينكم فتكفوا عني أذاكم
قال ابن عباس وابن إسحاق وقتادة ولم يكن في قريش بطن الا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نسب أو صهر فالآية على هذا هي استعطاف ما ودفع أذى وطلب سلامة منهم وذلك كله منسوخ بآية السيف ويحتمل على هذا التأويل أن يكون معنى الكلام استدعاء نصرهم أي لا أسألكم غرامة ولا شيئا الا أن
33

تودوني لقرابتي منكم وأن تكونوا أولى بي من غيركم
وقال مجاهد المعنى إلا أن تصلوا رحمي باتباعي
وقال ابن عباس أيضا ما يقتضي انها مدنية وسببها أن قوما من شباب الأنصار فاخروا المهاجرين ومالوا بالقول على قريش فنزلت الآية في ذلك على معنى الا ان تؤدوني فتراعونني في قرابتي وتحفظونني فيهم وقال بهذا المعنى في الآية علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم واستشهد بالآية حين سيق إلى الشام أسيرا وهو تأويل ابن جبير وعمرو بن شعيب وعلى هذا التأويل قال ابن عباس قيل يا رسول الله من قرابتك الذين أمرنا بمودتهم فقال علي وفاطمة ابناهما وقيل هو ولد عبد المطلب
قال القاضي أبو محمد وقريش كلها عندي قربى وإن كانت تتفاضل وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من مات على حب آل محمد مات شهيدا ومن مات على بغضهم لم يشم رائحة الجنة) وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي سبب هذه الآية أن الأنصار جمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالا وساقته إليه فرده عليهم ونزلت الآية في ذلك
وقال ابن عباس أيضا معنى الآية من قربى الطاعة والتزلف إلى الله تعالى كأنه قال إلا أن تودوني لأني أقربكم من الله وأريد هدايتكم وأدعوكم إليها
وقال الحسن بن أبي الحسن معناه الا ان يتوددوا إلى الله بالتقرب اليه
وقال عبد الله بن القاسم في كتاب الطبري معنى الآية الا ان تتوددوا بعضكم إلى بعض وتصلوا قراباتكم فالآية على هذا أمر بصلة الرحم
وذكر النقاش عن ابن عباس ومقاتل والكلبي والسدي ان الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة سبأ * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) * سبأ 47 والصواب أنها محكمة وعلى كل قول فالاستثناء منقطع و * (الآ) * بمعنى لكن و " يقترف " معناه يكتسب ورجل قرفة إذا كان محتالا كسوبا
وقرأت فرقة (يزد) على إسناد الفعل إلى الله تعالى وقرأ جمهور الناس (نزد) على نون العظمة وزيادة الحسن هو التضعيف الذي وعد الله تعالى به مؤمني عباده قاله الحسن بن أبي الحسن و * (غفور) * معناه ساتر عيوب عبيده و * (شكور) * معناه مجاز على الدقيقة من الخير لا يضيع عنده لعامل عمل
قوله عز وجل
سورة الشورى 24 - 27
* (أم) * هذه أيضا منقطعة مضمنة اضرابا عن كلام متقدم وتقريرا على هذه المقالة منهم
وقوله تعالى * (فإن يشأ الله يختم) * معناه في قول قتادة وفرقة من المفسرين ينسيك القرآن والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان إبطالها وذلك كأنه يقول وكيف يصح أن تكون مفتريا وأنت من الله بمرأى
34

ومسمع وهو قادر لو شاء على أن يختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك فمقصد اللفظ في هذا المعنى وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصارا واقتصارا
وقال مجاهد في كتاب الثعلبي وغيره المعنى * (فإن يشأ الله يختم على قلبك) * بالصبر لأذى الكفار ويربط عليه بالجلد فهذا تأويل لا يتضمن الرد على مقالتهم
وقوله تعالى * (ويمح) * فعل مستقبل خبر من الله أنه يمحو الباطل ولا بد إما في الدنيا وإما في الآخرة وهذا بحسب نازلة
وكتبت * (يمح) * في المصحف بحاء مرسلة كما كتبوا * (ويدع الإنسان) * الإسراء 11 إلى غير ذلك مما ذهبوا فيه إلى الحذف والاختصار
وقوله * (بكلماته) * معناه بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء بالكلمات المعاني القائمة التي لا تبديل لها
وقوله تعالى * (إنه عليم بذات الصدور) * خبر مضمنه وعيد
ثم ذكر النعمة في تفضله بقبول التوبة عن عباده وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمنه وأعماله مقطوع به بهذه الآية وأما ما سلف من اعماله فينقسم فأما التوبة من الكفر فماحية كل ما تقدمها من مظالم العباد الفانية واما التوبة من المعاصي فلأهل السنة قولان هل تذهب المعاصي السالفة للعبد بينه وبين خالقه فقالت فرقة هي مذهبة لها وقالت فرقة هي في مشيئة الله تعالى وأجمعوا على أنها لا تذهب مظالم العباد
وحقيقة التوبة الاقلاع عن المعاصي والإقبال والرجوع إلى الطاعات وبلزمها الندم على ما فات والعزم على ملازمة الخيرات
وقال سري السقطي والتوبة العزم على ترك الذنوب والإقبال بالقلب إلى علام الغيوب
وقال يحيى بن معاذ التائب من كسر شبابه على رأسه وكسر الدنيا على رأس الشيطان ولزم الفطام حتى اتاه الحمام
وقوله تعالى * (عن عباده) * بمعنى من عباده وكأنه قال التوبة الصادرة عن عباده
وقرا جمهور القراء والأعرج وأبو جعفر والجحدري وقتادة (يفعلون) بالياء على الكنابة عن غائب
وقرا حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وعلقمة (تفعلون) بالتاء على المخاطبة وفي الآية توعد
وقوله تعالى * (ويستجيب) * قال الزجاج وغيره معناه يجيب والعرب تقول أجاب واستجاب بمعنى ومنه قول الشاعر كعب بن سعد الغنوي
(وداع دعا يا من يجيب الندا
* فلم يستجبه عند ذاك مجيب) الطويل
و * (الذين) * على هذا القول مفعول ب * (يستجيب) * وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل ونحوه عن ابن عباس وقالت فرقة المعنى ويستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة
ودل قوله * (ويزيدهم من فضله) * على أن المعنى فيجيبهم وحملت هذه الفرقة استجاب على المعهود من باب استفعل أي طلب الشيء و * (الذين) * على هذا القول فاعل ب * (يستجيب) *
وقالت
35

فرقة المعنى ويجيب المؤمنون ربهم ف * (الذين) * فاعل بمعنى يجيبون دعوة شرعه ورسالته
والزيادة من فضله هي تضعيف الحسنات وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هي قبول الشفعات في المذنبين والرضوان
وقوله تعالى * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) * قال عمرو بن حريث وغيره إنها نزلت لأن قوما من أهل الصفة طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق فأعلمهم الله تعالى انه لو جاء الرزق على اختيار البشر واقتراحهم لكان سبب بغيهم وإفسادهم ولكنه تعالى أعلم بالمصلحة في كل أحد وله بعبيده خبرة وبصر بأخلاقهم ومصالحهم فهو ينزل لهم من الرزق القدر الذي به صلاحهم فرب إنسان لا يصلح وتكتف عاديته الا بالفقر وآخر بالغنى
وروى انس بن مالك في هذا المعنى التقسم حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال أنس اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم الا الغنى فلا تفقرني
وقال خباب بن الأرت فينا نزلت * (ولو بسط الله الرزق) * الآية لأنا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت الآية
قوله عز وجل
سورة الشورى 28 - 33
هذه تعديد نعمة الله تعالى الدالة على وحدانيته وأنه الإله الذي يستحق أن يعبد دون سواه من الأنداد
وقرأ (ينزل) مثقلة جمهور القراء وقرأها (ينزل) مخففة ابن وثاب والأعمش ورويت عن أبي عمرو ورجحها أبو حاتم وقرأ جمهور الناس (قنطوا) بفتح النون وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بكسر النون وقد تقدم ذكرها وهما لغتان قنط وقنط وروي ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له أجدبت الأرض وقنط الناس فقال مطروا إذا بمعنى ان الفرج عند الشدة واختلف المتأولون في قوله تعالى * (وينشر رحمته) * فقالت فرقة أراد بالرحمة المطر وعدد النعمة بعينها بلفظتين الثاني منهما يؤكد الأول
وقالت فرقة الرحمة في هذا الموضع الشمس فذلك تعديد نعمة غير الأولى وذلك أن المطر إذا ألم بعد القنط حسن موقعه فإذا دام سئم فتجيء الشمس بعده عظيمة الموضع
وقوله تعالى * (وهو الولي الحميد) * أي من هذه أفعاله فهو الذي ينفع إذا والى وتحمد أفعاله ونعمه
36

لا كالذي لا يضر ولا ينفع من أوثانكم
ثم ذكر تعالى الآية الكبرى الصنعة الدالة على الصانع وذلك * (خلق السماوات والأرض) *
وقوله تعالى * (وما بث فيهما) * يتخرج على وجوه منها ان يريد إحداهما فيذكر الاثنين كما قال * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * الرحمن 22 وذلك إنما يخرج من الملح وحده ومنها ان يكون تعالى قد خلق السماوات وبث دواب لا نعلمها نحن ومنها ان يريد الحيوانات التي توجد في السحاب وقد يقع أحيانا كالضفادع ونحوها فإن السحاب داخل في اسم السماء
وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال في تفسير * (وما بث فيهما من دابة) * هم الناس والملائكة وبعيد غير جار على عرف اللغة ان تقع الدابة على الملائكة
وقوله تعالى * (وهو على جمعهم) * يريد القيامة عند الحشر من القبور وقوله تعالى * (وما أصابكم من مصيبة) * قرأ جمهور القراء (فبما) بفاء وكذلك هي في جل المصاحف
وقرا نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة (بما) دون فاء
وحكى الزجاج ان أبا جعفر وحده من المدنيين أثبت الفاء
قال أبو علي الفارسي (أصاب) من قوله (وما أصاب) يحتمل ان يكون في موضع جزم وتكون " ما " شرطية وعلى هذا لا يجوز حذف الفاء عند سيبويه وجوز حذفها أبو الحسن الأخفش وبعض البغداديين على أنها مرادة في المعنى ويحتمل ان يكون (أصاب) صلة لما وتكون " ما " بمعنى الذي وعلى هذا يتجه حذف الفاء وثبوتها لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم أي لولا كسبكم ما أصابتكم مصيبة والمصيبة إنما هي بسبب كسب الأيدي ومعنى الكلام مع حذفها يجوز ان يكون التلازم ويجوز ان يعرى منه واما في هذه الآية فالتلازم مطرد مع الثبوت والحذف
واما معنى الآية فاختلف الناس فيه فقالت فرقة هي إخبار من الله تعالى بأن الرزايا والمصائب في الدنيا إنما هي مجازاة من الله تعالى على ذنوب المرء وخطاياه وان الله تعالى يعفو عن كثير فلا يعاقب عليه بمصيبة وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق الا بذنب وما يعفو عنه أكثر) وقال عمران بن حصين وقد سئل عن مرضه إن أحبه إلي أحبه إلى الله وهذا بما كسبت يداي وعفو ربي كثير
وقال مرة الهمداني رأيت على ظهر كف شريح قرحة فقلت ما هذا قال هذا بما كسبت يدي * (ويعفو عن كثير) * وقيل لأبي سليمان الداراني ما بال الفضلاء لا يلومون من أساء إليهم فقال لأنهم يعلمون ان الله تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم
وروي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله أكرم من أن يثني على عبده العقوبة إذا أصابته في الدنيا بما كسبت يداه)
وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية في الحدود أي ما أصابكم من حد من حدود الله وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه فإنما هي بكسب أيديكم * (ويعفو عن كثير) * فستره على العبد حتى لا يحد عليه
ثم اخبر عن قصور ابن آدم وضعفه وانه في قبضة القدرة لا يعجز طلب ربه ولا يمكنه الفرار منه " الجواري " جمع جارية وهي السفينة
وقرأ (الجواري) بالياء نافع و عاصم وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة ومنهم من أثبتها في الوصل ووقف
37

على الراء
وقرأ أيضا عاصم بحذف الياء في وصل ووقف
وقال أبو حاتم نحن نثبتها في كل حال
و (الأعلام) الجبال ومنه قول الخنساء
(وإن صخرا لتأتم الهداة به
* كأنه علم في رأسه نار) البسيط
ومنه المثل إذا قطعن علما بدا علم فجرى السفن في الماء آية عظيمة وتسخير الريح لذلك نعمة منه تعالى وهو تعالى لو شاء ان يديم سكون الريح عنها لركدت أي أقامت وقرت ولم يتم منها غرض
وقرأ أبو عمرو وعاصم (الريح) واحدة
وقرأ (الرياح) نافع وابن كثير والحسن
وقرأ الجمهور (فيظللن) بفتح اللام وقرأ قتادة (فيظللن) بكسر اللام
وباقي الآية فيه الموعظة وتشريف الصبار الشكور بالتخصيص والصبر والشكر فيهما الخير كله ولا يكونان الا في عالم
قوله عز وجل
سورة الشورى 34 - 38
أوبقت الرجل إذا أنشبته في امر يهلك فيه فالإيباق في السفن هو تغريقها والضمير في * (كسبوا) * هو لركابها من البشر أي بذنوب البشر
ثم ذكر تعالى ثانية * (ويعف عن كثير) * مبالغة وإيضاحا
وقرأ نافع وابن عامر والأعرج وأبو جعفر وشيبة (ويعلم) بالرفع على القطع والاستئناف وحسن ذلك إذا جاء بعد الجزاء
وقرأ الباقون والجمهور (ويعلم) بالنصب على تقدير أن وهذه الواو نحو التي يسميها الكوفيون واو الصرف لأن حقيقة واو الصرف هي التي يريد بها عطف فعل على اسم فيقدر ان لتكون مع الفعل بتأويل المصدر فيحسن عطفه على اسم وذلك نحو قول الشاعر
(تقضي لبانات ويسام سائم
*) الطويل
فكأنه أراد وسآمة سائم فقدر وان يسأم لتكون ذلك بتأويل المصدر الذي هو سآمة قال أبو علي حسن النصب إذ كان قبله شرط وجزاء وكل واحد منهما غير واجب وقوله تعالى * (ما لهم من محيص) * هو معلومهم الذي أراد ان يعلمه المجادلون في آياته عز وجل
والمحيص المنجي وموضوع الروغان يقال حاص إذا راغ وفي حديث هرقل فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ثم وعظ تعالى عباده
38

وحقر عندهم امرالدنيا وشانها ورغبهم فيما عنده من نعيمهم والمنزلة الرفيعة لديه وعظم قدر ذلك في قوله * (فما أوتيتم) * الآية
وقوله * (والذين يجتنبون) * عطف على قوله * (الذين آمنوا) * وقرأ جمهور الناس (كبائر) على الجمع قال الحسن هي كل ما توعد فيه بالنار
وقال الضحاك أو كان فيه حد من الحدود
وقال ابن مسعود الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية
وقال علي وابن عباس هي كل ما ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب
وقرا حمزة والكسائي وعاصم (كبير) على الإفراد الذي هو اسم الجنس
وقال ابن عباس كبير الإثم هو الشرك
* (والفواحش) * قال السدي الزنا
وقال مقاتل موجبات الحدود ويحتمل أن يكون كبير اسم جنس بمعنى كبائر فتدخل موبقات السبع على ما قد تفسر من امرها في غير هذه
وقوله تعالى * (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) * حض على كسر الغضب والتدرب في إطفائه إذ هو جمهرة من جهنم وباب من أبوابها وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال لا تغضب قال زدني قال لا تغضب قال زدني قال لا تغضب ومن جاهد هذا العارض من نفسه حتى غلبه فقد كفي هما عظيما في دنياه وآخرته
وقوله تعالى * (والذين استجابوا) * مدح لكل من آمن بالله وقبل شرعه ومدح تعالى القوم الذين امرهم شورى بينهم لأن في ذلك اجتماع الكلمة والتحاب واتصال الأيدي والتعاضد على الخير وفي الحديث (ما تشاور قوم الا هدوا لأحسن ما بحضرتهم)
وقوله * (ومما رزقناهم ينفقون) * معناه في سبيل الله وبرسم الشرع وعلى حدوده وفي القوام الذي مدحه تعالى في غير هذه الآية
وقال ابن زيد قوله تعالى * (والذين استجابوا لربهم) * الآية نزلت في الأنصار والظاهر أن الله تعالى مدح كل من اتصف بهذه الصفة كائنا من كان وهل حصل الأنصار في هذه الصفة الا بعد سبق المهاجرين لها رضي الله تعالى عن جميعهم بمنه
قوله عز وجل
سورة الشورى 39 - 41
مدح الله تعالى في هذه الآية قوما بالانتصار من البغي ورجح ذلك قوم من العلماء وقالوا الانتصار بالواجب تغيير منكر ومن لم ينتصر مع إمكان الانتصار فقد ترك تغيير المنكر واختلف الناس في المراد بالآية بعد اتفاقهم على أن من بغي عليه وظلم فجائز له ان ينتصر بيد الحق وحاكم المسلمين فقال مقاتل الآية في المجروح ينتصف من الجارح بالقصاص
وقالت فرقة إنها نزلت في بغي المشرك على المؤمن فأباح الله لهم الانتصار منهم دون تعد وجعل العفو والاصلاح مقرونا بأجر ثم نسخ ذلك بآية السيف
39

وقالت هذه الفرقة وهي الجمهور إن المؤمن إذا بغى على مؤمن وظلمه فلا يجوز للاخر ان ينتصف منه بنفسه ويجازيه على ظلمه مثال ذلك ان يخون الإنسان آخر ثم يتمكن الإنسان من خيانته فمذهب مالك رحمه الله ان لا يفعل وهو مذهب جماعة عظيمة معه ولم يروا هذه الآية من هذا المعنى واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)
وهذا القول انزه وأقرب إلى الله تعالى
وقالت طائفة من أهل العلم هذه الآية عامة في المشركين والمؤمنين ومن بغي عليه وظلم فجائز له ان ينتصف لنفسه ويخون من خانه في المال حتى ينتصر منه وقالوا إن الحديث (ولا تخن من خانك) إنما هو في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يزني بحرمة من زنا بحرمته فقال له النبي عليه السلام ذلك يريد به الزنا وكذلك ورد الحديث في معنى الزنا ذكر ذلك الرواة أما ان عمومه ينسحب في كل شيء
وقوله تعالى * (وجزاء سيئة سيئة) * قال الزجاج سمى العقوبة باسم الذنب
قال القاضي أبو محمد وهذا إذا أخذنا السيئة في حق الله تعالى بمعنى المعصية وذلك أن المجازاة من الله تعالى ليست سيئة الا بأن سميت باسم موجبتها واما إن أخذنا السيئة بمعنى المعصية في حق البشر أي يسوء هذا هذا ويسوء الآخر فلسنا نحتاج إلى أن نقول سمى العقوبة باسم الذنب بل الفعل الأول والآخر * (سيئة) * وقال ابن أبي نجيح والسدي معنى الآية ان الرجل إذا شتم بشتمة فله ان يردها بعينها دون ان يتعدى
قال الحسن بن أبي الحسن ما لم يكن حدا أو عوراء جدا واللام في قوله * (لمن انتصر) * لام التقاء القسم
وقوله * (من سبيل) * يريد * (من سبيل) * حرج ولا سبيل حكم وهذا إبلاغ في إباحة الانتصار والخلاف فيه هل هو بين المؤمن والمشرك أو بين المؤمنين على ما تقدم
قوله عز وجل
سورة الشورى 42 - 45
المعنى إنما سبيل الحكم والإثم * (على الذين يظلمون الناس) * أي الذين يضعون الأشياء غير مواضعها من القتل واخذ المال والأذى باليد وباللسان
والبغي بغير الحق وهو نوع من أنواع الظلم خصه بالذكر تنبيها على شدته وسوء حال صاحبه ثم توعدهم تعالى بالعذاب الأليم في الآخرة
40

وقوله تعالى * (إنما السبيل) *
وقوله * (أليم) * اعتراض بين الكلامين ثم عاد في قوله * (ولمن صبر) * إلى الكلام الأول كأنه قال ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ولمن صبر وغفر
واللام في قوله * (ولمن صبر) * يصح أن تكون لام القسم ويصح أن تكون لام الابتداء
و (من) ابتداء
وخبره في قوله * (ان ذلك) *
و * (عزم الأمور) * محكها ومتقنها والحميد العاقبة منها
ومن رأى أن هذه الآية هي فيما بين المؤمنين والمشركين وان الضمير للمشركين كان أفضل قال إن الآية نسخت بآية السيف ومن رأى أن الآية إنما هي بين المؤمنين قال هي محكمة والصبر والغفران أفضل إجماعا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم فيقوم عنق من الناس كثير فيقال ما اجركم فيقولون نحن الذين عفونا ظلمنا في الدنيا)
وقوله تعالى * (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده) * تحقير لأمر الكفرة فلا يبال بهم أحد من المؤمنين فقد أضارهم كفرهم وإضلال الله إياهم إلى ما لا فلاح لهم معه
ثم وصف تعالى لنبيه عليه السلام حالهم في القيامة عند رؤيتهم العذاب فاجتزى من صفتهم وصفة حالتهم بأنهم يقولون * (هل إلى مرد من سبيل) * وهذه المقالة تدل على سوء ما اطلعوا عليه والمراد موضوع الرد إلى الدنيا والمعنى الذي قصدوه ان يكون رد فيكون منهم استدراك للعمل والايمان
والرؤية في هذه الآية رؤية عين
والضمير في قوله * (عليها) * عائد على النار وعاد الضمير مع أنها لم يتقدم لها ذكر من حيث دل عليها قوله * (رأوا العذاب) * وقوله * (من الذل) * يحتمل ان يتعلق ب * (خاشعين) * ويحتمل ان يتعلق بما بعده من قوله * (ينظرون) *
وقرأ طلحة بن مصرف (من الذل) بكسر الذال
والخشوع الاستكانة وقد يكون محمودا وما يخرجه إلى حالة الذم قوله * (من الذل) * فيقوى على هذا تعلق " من " ب * (خاشعين) *
وقوله * (من طرف خفي) * يحتمل ثلاثة معان
قال ابن عباس خفي ذليل
قال القاضي أبو محمد لما كان نظرهم ضعيفا ولحظهم بمهانة وصفة بالخفاء ومن هذا المعنى قول الشاعر جرير بن عطية
(فغض الطرف إنك من نمير
*)
وقال قوم فيما حكى الطبري لما كانوا يحشرون عميا وكان نظرهم بعيون قلوبهم جعله طرفا خفيا أي لا يبدو نظرهم وفي هذا التأويل تكلف
وقال قتادة والسدي المعنى يسارقون النظر لما كانوا من الهم وسوء الحال لا يستطيعون النظر بجميع العين وإنما ينظرون من بعضها
قال * (من طرف خفي) * أي قليل
ف (الطرف) هنا على هذا التأويل يحتمل ان يكون مصدرا أي يطرف طرفا خفيا
وقول * (الذين آمنوا) * هو في يوم القيامة عندما عاينوا حال الكفار وسوء منقلبهم
وخسران الأهلين يحتمل ان يراد به أهلوهم الذين كانوا في الدنيا ويحتمل ان يراد به أهلوهم الذين كانوا يكونون لهم في الجنة ان لو دخلوها
41

وقوله تعالى * (ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) * يحتمل ان يكون من قول المؤمنين يومئذ حكاه الله عنهم ويحتمل ان يكون استئنافا من قول الله تعالى وإخباره لمحمد عليه السلام
قوله عز وجل
سورة الشورى 46 - 48
قوله تعالى * (وما كان لهم من أولياء) * إنحاء على الأصنام والأوثان التي اظهر الكفار ولايتها واعتقدت ذلك دينا المعنى فما بالهم يوالون هذه التي لا تضر ولا تنفع ولكن من يضلل الله * (فما له من سبيل) * هدى ونجاة ثم امر تعالى نبيه ان يأمرهم بالاستجابة لدعوة الله وشريعته وحذرهم اتيان يوم القيامة الذي لا يرد أحد بعده إلى عمل والذي لا ملجأ ولا منجا لأحد فيه إلا إلى العلم بالله تعالى والعمل الصالح في الدنيا فأخبرهم انه لا ملجأ لهم ولا نكير
والنكير مصدر بمعنى الإنكار وهو بمنزلة عديد الحي ونحوه من المصادر ويحتمل ان يكون من أبنية اسم الفاعل من نكر وإن كان المعنى يبعد به لأن نكر إنما معناه لم يميز وظن الأمر غير ما عهده
وقوله تعالى * (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا) * تأنيس لمحمد عليه السلام وإزالة لهمه بهم وأعلمه انه ليس عليه الا البلاغ وتوصيل الحجة ثم جاءت عبارة في باقي الآية هي بمنزلة ما يقول والقوم عتو وتناقض اخلاق واضطراب وإذا أذيقوا رحمة فرحوا بها وبطروا وإن أصابت سيئة أي مصيبة تسوءهم في أجسامهم أي في نفوسهم وذلك بذنوبهم وقبيح فعلهم فإنهم كفر عند ذلك غير صبر
وعبر ب * (الإنسان) * الذي هو اسم عام ليدخل في الآية والمذمة جميع الكفرة من المجاورين يومئذ ومن غيرهم وجمع الضمير في قوله * (تصبهم) * وهو عائد على لفظ * (الإنسان) * من حيث هو اسم جنس يعم كثيرا
42

قوله عز وجل
سورة الشورى 49 - 53
الآية الأولى آية اعتبار دال على القدرة والملك المحيط بالجميع وان مشيئته تبارك وتعالى نافذة في جميع خلقه وفي كل امرهم وهذا لا مدخل لصنم فيه فإن الذي يخلق ما يشاء ويخترع فإنما هو الله تبارك وتعالى وهو الذي يقسم الخلق فيهب الإناث لمن يشاء أي يجعل بنيه نساء ويهب الذكور لمن يشاء على هذا الحد أو ينوعهم مرة يهب ذكرا ويهب أنثى وذلك معنى قوله تعالى * (أو يزوجهم) *
وقال محمد بن الحنفية يريد بقوله تعالى * (أو يزوجهم) * التوأم أي يجعل في بطن زوجا من الذرية ذكرا و أنثى
والعقيم الذي لا يولد له وهذا كله مدبر بالعلم والقدرة وهذه الآية تقضي بفساد وجود الخنثى المشكل
وبدىء في هذه الآية بذكر الإناث تأنيسا بهن وتشريفا لهن ليتهمم بصونهن والإحسان إليهن وقال النبي عليه السلام (من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له حجابا من النار)
وقال واثلة بن الأسقع من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث حكاه الثعلبي
وقال إسحاق بن بشر نزلت هذه الآية في الأنبياء ثم عمت فلوط أبو البنات لم يولد له ذكر وإبراهيم ضده ومحمد عليه السلام ولد له الصنفان ويحيى بن زكرياء عقيم
وقوله تعالى * (وما كان لبشر أن يكلمه الله) * الآية نزلت بسبب خوض كان للكفار في معنى تكليم الله موسى ونحو ذلك ذهبت قريش واليهود في ذلك إلى تجسيم ونحوه فنزلت الآية مبينة صورة تكليم الله عباده كيف هو فبين الله انه لا يكون لأحد من الأنبياء ولا ينبغي له ولا يمكن فيه ان يكلمه الله إلابان يوحي إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام
قال مجاهد والنفث في القلب
وقال النقاش أو وحي في منام قال إبراهيم النخعي كان من الأنبياء من يخط له في الأرض ونحو هذا أو بأن يسمعه كلامه دون ان يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزا كموسى عليه السلام وهذا معنى * (من وراء حجاب) * أي من خفاء عن المتكلم لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه وليس كالحجاب في الشاهد أو بأن يرسل اليه ملكا يشافهه بوحي الله تعالى
وقرأ جمهور القراء والناس (أو يرسل) بالنصب (فيوحي) بالنصب أيضا
وقرا نافع وابن عامر وأهل المدينة (أو يرسل) بالرفع (فيوحي) بسكون الياء ورفع الفعل
فأما القراءة الأولى قال سيبويه سالت الخليل عنها فقال هي محمولة على * (أن) * غير التي في قوله * (أن يكلمه الله) * لأن المعنى كان يفسد لو عطف على هذه وإنما التقدير في قوله * (وحيا) * الا أن يوحى وحيا
وقوله * (من وراء حجاب) * " من " متعلقة بفعل يدل ظاهر الكلام عليه تقديره أو يكلمه من وراء حجاب ثم عطف (أو يرسل) على هذا الفعل المقدر
واما القراءة الثانية فعلى ان (يرسل) في موضع الحال أو على القطع كأنه قال أو هو يرسل وكذلك يكون قوله * (إلا وحيا) * مصدر في موضع الحال كما تقول أتيتك ركضا وعدوا وكذلك قوله * (من وراء حجاب) * (في موضع الحال كما هو قوله * (ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين) * آل
43

عمران 46 في موضع الحال فكذلك " من " آل عمران 46 وما عملت فيه هذه الآية أيضا ثم عطف قوله (أو يرسل) على هذه الحال المتقدمة
وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكليم وان الحالف المرسل حانث إذا حلف ان لا يكلم إنسانا فأرسل اليه وهو لم ينو المشافهة وقت يمينه
وقوله تعالى * (وكذلك أوحينا إليك) * المعنى وبهذه الطرق ومن هذا الجنس أوحينا إليك أو بالرسل
والروح في هذه الآية القرآن وهدى الشريعة سماه * (روحا) * من حيث يحيي به البشر والعالم كما يحيي الجسد بالروح فهذا على جهة التشبيه
وقوله تعالى * (من أمرنا) * أي واحد من أمورنا ويحتمل ان يكون الأمر بمعنى الكلام و " من " لابتداء الغاية
وقوله تعالى * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * توقيف على مقدار النعمة
والضمير في * (جعلناه) * عائد عى الكتاب و * (يهدي) * بمعنى يرشد
وقرأ جمهور الناس (وإنك لتهدي) بفتح التاء وكسر الدال
وقرأ حوشب (تهدى) بضم التاء وفتح الدال على بناء الفعل للمفعول وفي حرف أبى (لتدعو) وهي تعضد قراءة الجمهور
وقرأ ابن السميفع وعاصم والجحدري (لتهدي) بضم التاء وكسر الدال
وقوله * (صراط الله) * يعني صراط شرع الله ورحمته وجنته فبهذا الوجه ونحوه من التقدير أضيف الصراط إلى الله تعالى
واستفتح القول في الإخبار بصيرورة الأمور إلى الله تعالى مبالغة وتحقيقا وتثبيتا والأمور صائرة على الدوام إلى الله تعالى ولكن جاءت هذه العبارة مستقبلة تقريبا لمن في ذهنه ان شيئا من الأمور إلى البشر وقال سهيل بن أبي الجعد احترق مصحف فلم يبق منه الا قوله * (ألا إلى الله تصير الأمور) *
44

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزخرف
هذه السورة مكية بإجماع من أهل العلم
قوله عز وجل
سورة الزخرف 1 - 9
تقدم القول في الحروف في أوائل السور
وقوله * (والكتاب) * خفض بواو القسم و * (المبين) * يحتمل ان يكون من أبان الذي هو بمعنى بان أي ظهر فلا يحتاج إلى مفعول ويحتمل ان يكون معدى من بان فهذا لا بد من مفعول تقديره المبين الهدى أو الشرع ونحوه
وقوله تعالى * (إنا جعلناه) * معناه سميناه وصيرناه وهو إخبار عليه وقع القسم والضمير في * (جعلناه) * عائدعلى * (الكتاب) * و * (عربيا) * معناه بلسانكم لئلا يبقى لكم عذر
وقوله * (لعلكم تعقلون) * ترج بحسب معتقد البشر أي إذا أبصر المبصر من البشر هذا الفعل منا ترجى منه ان يعقل الكلام ويفهم
وقوله تعالى (وإنه) عطف على قوله * (إنا جعلناه) * وهذا الإخبار الثاني واقع أيضا تحت القسم
و * (أم الكتاب) * اللوح المحفوظ وهذا فيه تشريف للقرآن وترفيع
واختلف المتاولون كيف هو في * (أم الكتاب) * فقال عكرمة وقتادة والسدي وعطية بن سعيد القرآن بأجمعه فيه منسوخ ومنه كان جبريل عليه السلام ينزل وهناك هو علي حكيم
وقال جمهور الناس إنما في اللوح المحفوظ ذكره ودرجته ومكانته من العلو والحكمة
45

وقرأ جمهور الناس (في أم) بضم الهمزة وقرأها بكسر الهمزة يوسف والي العراق وعيسى بن عمر
وقوله * (أفنضرب) * بمعنى افترك تقول العرب أضربت عن كذا وضربت إذا أعرضت وتركته
و * (الذكر) * هنا الدعاء إلى الله والتذكير بعذابه والتخويف من عقابه وقال أبو صالح * (الذكر) * هنا هو العذاب نفسه وقال الضحاك ومجاهد * (الذكر) * القرآن
وقوله تعالى * (صفحا) * انتصابه كانتصاب * (صنع الله) * النمل 88 فيحتمل ان يكون بمعنى العفو والغفر للذنب فكأنه يقول أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفوا عنكم وغفرا لإجرامكم إذ كنتم أو من اجل ان كنتم قوما مسرفين أي هذا لا يصلح وهذا قول ابن عباس ومجاهد ويحتمل قوله * (صفحا) * ان يكون بمعنى مغفولا عنه أي نتركه يمر لا تؤخذون بقبوله ولا بتدبر ولا تنبهون عليه وهذا المعنى نظير قول الشاعر
(تمر الصبا صفحا بساكن ذي الغضا
* ويصدع قلبي إن يهب هبوبها) الطويل
أي تمر مغفولا عنها فكأن هذا المعنى أفنترككم سدى وهذا هو منحى قتادة وغيره ومن اللفظة قول كثير
(صفوحا فما تلقاك الا بخيلة
* فمن مل منها ذلك الوصل ملت) الطويل
وقرا السميط بن عمرو السدوسي (صفحا) بضم الصاد
وقرا نافع وحمزة والكسائي (إن كنتم) بكسر الألف وهو جزاء دل ما تقدم على جوابه
وقرأ الباقون والأعرج وقتادة (ان كنتم) بفتح الألف
بمعنى من أجل ان وفي قراءة ابن مسعود (إذ كنتم) والإسراف في الآية هو الكفر والضلال البعيد في عبادة غير الله عز وجل والتشريك به
وقوله تعالى " وكم أرسلنا من نبيء في الأولين " الآيات تسلية لمحمد عليه السلام وذكر إسوة له ووعيد لهم وتهديد بان يصيبهم ما أصاب من هو أشد بطشا
والأولون هم الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم والضمير في قوله " كانوا يستهزئون " ظاهره العموم والمراد به الخصوص فيمن استهزأ والا فقد كان في الأولين من لم يستهزئ والضمير في * (منهم) * عائد على قريش
وقوله تعالى * (ومضى مثل الأولين) * أي سلف امرهم وسنتهم وصاروا عبرة عابر الدهر
وقوله تعالى " لئن سألتهم " الآية ابتداء احتجاج على قريش يوجب عليهم التناقض في امرهم وذلك أنهم يقرون ان الخالق الموجد لهم وللسماوات والأرض هو الله تعالى وهم مع ذلك يعبدون أصناما ويدعونها آلهتهم ومقتضى جواب قريش ان يقولوا (خلقهن الله) فلما ذكر تعالى المعنى جاءت العبارة عن الله ب * (العزيز العليم) * ليكون ذلك توطئة لما عدد بعد من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش
46

قوله عز وجل
سورة الزخرف 10 - 14
هذه أوصاف فعل وهي نعم من الله تعالى على البشر تقوم بها الحجة على كل كافر مشرك بالله تعالى
وقوله * (الذي جعل لكم) * ليس من قول المسؤولين بل هو ابتداء إخبار من الله تعالى
وقرأ جمهور الناس (مهادا) وقرا ابن مسعود وطلحة والأعمش (مهدا) والمعنى واحد أي يتمهد ويتصرف فيها
والسبل الطرق و * (تهتدون) * معناه في المقاصد من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر ويحتمل أن يريد * (تهتدون) * بالنظر والاعتبار
وقوله تعالى * (من السماء) * هو المطر بإجماع واختلف المتاولون في معنى قوله " بقدر " فقالت فرقة معناه بقضاء وحتم في الأزل
وقال آخرون المعنى بقدر في الكفاية للصلاح لا إكثار فيفسد ولا قلة فيقصر بل غيثا مغيثا سبيلا نافعا
وقالت فرقة معناه بتقدير وتحرير أي قدرا معلوما ثم اختلف قائلوا هذه المقالة فقال بعضهم ينزل كل عام ماء قدرا واحدا لا يفضل عام عاما لكن يكثر مرة هنا ومرة ها هنا
وقالت فرقة بل ينزل الله تقديرا ما في عام وينزل في آخر تقديرا آخر بحسب ما سبق به قضاؤه لا اله غيره
و * (أنشرنا) * معناه أحيينا يقال نشر الميت وأنشره الله و * (بلدة) * اسم جنس ووصفها ب * (ميتا) * دون ضمير من حيث هي واقعة موقع قطر ونحوه إذ التأنيث فيها غير حقيقي
وقرا الجمهور (ميتا) بسكون الياء
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع (ميتا) بياء مكسورة مشددة وهي قراءة عيسى بن عمر والأول أرجح لشبه لفظها بزور وعدل فحسن وصف المؤنث بها
وقرأ أكثر السبعة والأعرج وأبو جعفر (كذلك يخرجون) بضم التاء وفتح الراء
وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وعبد الله بن جبير المصيح (وكذلك تخرجون) بفتح التاء وضم الراء
و * (الأزواج) * الأنواع من كل شيء و " من " في قوله * (من الفلك) * للتبعيض وذلك أنه لا يركب من الأنعام غير الإبل وتدخل الخيل والبغال والحمير فيما يركب بالمعنى
واللام في قوله * (لتستووا) * لام الأمر ويحتمل أن تكون لام كي و " ما " في قوله * (ما تركبون) * واقعة على النوع
47

المركوب والضمير في * (ظهوره) * عائد على النوع الذي وقعت عليه " ما "
وقد بينت آية ما يقال عند ركوب الفلك وهو " باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم " هود 41 وإنما هذه خاصة فيما يركب من الحيوان ويقال (-) عند النزول منها اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين
والسنة للراكب إذا ركب ان يقول الحمد لله على نعمة الإسلام أو على النعمة بمحمد صلى الله عليه وسلم أو على النعمة في كل حال وقد روي هذا اللفظ عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول * (سبحان الذي) * الآية وركب أبو مجلز لاحق بن حميد وقال (سبحان الله) الآية ولم يذكر نعمة وسمعه الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال ما هكذا أمرتم قال أبو مجلز فقلت له كيف أقول قال قل الحمد لله الذي هدانا للإسلام أو نحو هذا ثم تقول بعد ذلك * (سبحان الذي) * الآية وكان طاوس إذا ركب قال اللهم هذا من منك وفضلك ثم يقول * (سبحان الذي) * الآية وإن قدرنا ان ذكر النعمة هو بالقلب والتذكير بدأ الراكب ب * (سبحان الذي سخر) * وهو يرى نعمة الله في ذلك وفي سواه
والمقرن الغالب الضابط المستولي على الأمر المطيق له
وروي ان بعض الأعراب ركب جملا فقيل له " سبحان الذي سخر لنا وهذا ما كنا له مقرنين " فقال اما والله إني لمقرن تياه فضرب به الجمل فوقصه فقتله
وقوله * (وإنا إلى ربنا لمنقلبون) * امر بالإقرار بالبعث وترداد القول به وذلك داعية إلى استشعار النظر فيه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ان الإنسان إذا ركب ولم يقل هذه الآية جاءه الشيطان فقال تغنه فإن كان يحسن غنى وإلا قال له تمنه فيتمنى الأباطيل ويقطع زمنه بذلك
قوله عز وجل
سورة الزخرف 15 - 19
الضمير في * (جعلوا) * لكفار قريش والعرب والضمير في * (له) * لله تعالى
والجزء القطع من الشيء وهو بعض الكل فكأنهم جعلوا جزءا من عباده نصيبا له وحظا وذلك في قول كثير من المتأولين قول العرب الملائكة بنات الله وقال بعض أهل اللغة الجزء الإناث يقال أجزأت المرأة إذا ولدت أنثى ومنه قول الشاعر
(إن أجزأت يوما فلا عجب
* قد تجزىء المرأة المذكار أحيانا) البسيط
وقد قيل في هذا البيت إنه بيت موضوع
وقال قتادة المراد بالجزء الأصنام وفرعون وغيره ممن عبد
48

من دون الله أي جزءا ندا فعلى هذا التأويل فتعقيب الكفرة في فصلين في امر الأصنام وفي امر الملائكة وعلى هذا التأويل الأول فالآية كلها في امر الملائكة
وقوله تعالى * (إن الإنسان لكفور) * أي بلفظ الجنس العام والمراد بعض الإنسان وهو هؤلاء الجاعلون ومن أشبههم و * (مبين) * في هذا الموضع غير متعد
وقوله تعالى * (أم اتخذ) * إضراب وتقرير وهذه حجة بالغة عليهم
إذ المحمود من الأولاد والمحبوب قد خوله الله بني آدم فكيف يتخذ هو لنفسه النصيب الأدنى
* (وأصفاكم) * معناه خصكم وجعل ذلك صفوة لكم ثم قامت الحجة عليهم في هذا المعنى وبانت بقوله تعالى * (وإذا بشر) * الآية
و * (مسودا) * خبر * (ظل) * والكظيم الممتلىء غيظا الذي قد رد غيظه إلى جوفه فهو يتجرعه ويروم رده وهذا محسوس عند الغيظ ثم زاد توبيخهم وإفساد رأيهم بقوله * (أو من ينشأ) * و " من " في موضع نصب بفعل يدل عليه * (جعلوا) * كأنه قال أو من ينشأ في الحيلة وهو الذي خصصتم به الله ونحو هذا والمراد به " من " النساء قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي و * (ينشأ) * معناه ينبت ويكبر
وقرأ جمهور القراء (ينشأ) بفتح الياء
وقرا ابن عباس وقتادة (ينشئ) بضم الياء على تعدية الفعل بالهمزة
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص (ينشأ) بضم الياء وفتح الشين على تعدية الفعل بالتضعيف وهي قراءة ابن عباس أيضا والحسن ومجاهد وفي مصحف ابن
مسعود (أو من لا ينشأ الا في الحلية)
و * (الحلية) * الحلي من الذهب والفضة والأحجار
و * (الخصام) * المحاجة ومجاذبة المحاورة وقل ما تجد امرأة الا تفسد الكلام وتخلط المعاني وفي مصحف ابن مسعود (وهو في الكلام غير مبين) و * (مبين) * في هذه الآية متعد والتقدير * (غير مبين) * غرضا أو منزعا ونحو هذا
وقال ابن زيد المراد ب * (من ينشأ في الحلية) * الآية الأصنام والأوثان لأنهم كانوا يتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة وكانوا يجعلون الحلي على كثير منها
ولما فرغ تعنيفهم على ما اتوا في جهة الله تعالى بقولهم الملائكة بنات الله بين تعالى فسادا في مقالتهم بعينها من جهة أخرى من الفساد وذلك شنيع قولهم في عباد الله مختصين مقربين انهم إناث
وقرأ أكثر السبعة وابن عباس وابن مسعود وابن جبير وعلقمة (عباد الرحمن إناثا)
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه (عند الرحمن إناثا) وهذه القراءة أدل على رفع المنزلة وقربها في التكرمة كما قيل ملك مقرب وقد يتصرف المعنيان في كتاب الله تعالى في وصف الملائكة في غير هذه الآية فقال تعالى * (بل عباد مكرمون) * الأنبياء 26 وقال تعالى في أخرى * (فالذين عند ربك) * فصلت 38 وفي مصحف ابن مسعود (وجعلوا الملائكة عبد الرحمن إناثا)
وقرأ نافع وحده (أأشهدوا) بالمهمزتين وبلا مد بينهما وبفتح الأولى وضم الثانية وتسهيلها بين الهمزة
49

والواو ورواها المفضل عن عاصم بتحقيق الهمزتين وقرأ المسيبي عن نافع بمد بين الهمزتين
وقرأ أبو عمرو ونافع أيضا وعلي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد (أ شهدوا) بتسهيل الثانية بلا مد
وقرا جماعة من القراء بالتسهيل في الثانية ومدة بينهما
وقرأ آخرون (أشهدوا) بهمزة واحدة بغير استفهام وهي قراءة الزهري وهي صفة لإناث أي مشهدا خلقهم
ومعنى الآية التوبيخ وإظهار فساد عقولهم وادعائهم وانها مجردة من الحجة وهذا نظير الآية الرادة على المنجمين وأهل الطبائع وهي قوله تعالى " ما أشهدتم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم " الكهف 51 الآية
وقرا جمهور الناس (ستكتب شهادتهم) برفع الشهادة وبناء الفعل للمفعول
وقرا الأعرج وابن عباس وأبو جعفر وأبو حيوة (سنكتب) بنون الجمع (شهادتهم) بالنصب وقرأت فرقة (سيكتب) بالياء على معنى سيكتب الله (شهادتهم) بالنصب
وقرا الحسن بن أبي الحسن (ستكتب شهاداتهم) على بناء الفعل للمفعول وجمع الشهادات
وفي قوله تعالى * (ويسألون) * وعيد مفصح
و * (أشهدوا) * في هذه الآية معناه احضروا وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب ان تؤدى
قوله عز وجل
سورة الزخرف 20 - 25
ذكر الله تعالى احتجاج الكفار لمذهبهم ليبين فساد منزعهم وذلك انهم جعلوا إمهال الله لهم وإنعامه عليهم وهم يعبدون الأصنام دليلا على أنه يرضى عبادة الأصنام دينا وان ذلك كالأمر به فنفى الله عن الكفرة ان يكون لهم علم بهذا وليس عندهم كتاب منزل يقتضي ذلك وإنما هم يظنون و * (يخرصون) * ويخمنون وهذا هو الخرص والتخرص
وقرا جمهور الناس (على أمة) بضم الهمزة وهي بمعنى الملة والديانة والآية على هذا تعيب عليهم التقليد
وقرا مجاهد والعبدري وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (على أمة) بكسر الهمزة وهي بمعنى النعمة ومنه قول الأعشى
(ولا الملك النعمان يوم لقيته
* بإمته يعطي القطوط ويافق)
50

ومنه قول عدي بن زيد
(ثم بعد الفلاح والملك والإمة
* وارتهم هناك القبور) الخفيف
فالآية على هذا استمرار في احتجاجهم لأنهم يقولون وجدنا آباءنا في نعمة من الله وهم يعبدون الأصنام فذلك دليل رضاه عنهم وكذلك اهتدينا نحن بذلك * (على آثارهم) *
وذكر الطبري عن قوم ان الأمة الطريقة مصدر من قولك أممت كذا أمة ثم ضرب تعالى المثل لنبيه محمد عليه السلام وجعل له الإسوة فيمن مضى من النذر والرسل وذلك أن المترفين من قومهم وهم أهل التنعم والمال قد قابلوهم بمثل هذه المقالة
وقرأ جمهور القراء (قل أو لو) والمعنى فقلنا للنذير قل
وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم (قال أو لو) ففي (قال) ضمير يعود على النذير
وباقي الآية يدل على أن (قل) في قراءة من قرأها ليست بأمر لمحمد عليه السلام وإنما هي حكاية لما امر به النذير
وقوله تعالى * (أو لو) * هي ألف الاستفهام دخلت على واو عطف جملة كلام على جملة متقدمة و * (لو) * في هذا الموضع كأنها شرطية بمعنى ان كان معنى الآية وإن جئتكم بأبين وأوضح مما كان آباؤكم عليه فيصح لجاجكم وتقليدكم فأجاب الكفار حينئذ لرسلهم * (إنا بما أرسلتم به كافرون) *
وفي قوله تعالى * (فانتقمنا منهم) * الآية وعيد لقريش وضرب مثل بمن سلف من الأمم المعذبة المكذبة بأنبيائها كما كذبت هي بمحمد عليه السلام
وقرأ جمهور الناس (أو لو جئتكم) وقرأ أبو جعفر وأبو شيخ وخالد (أو لو جئناكم)
وقرأ الأعمش (أو لو أتيتم)
قوله عز وجل
سورة الزخرف 26 - 30
المعنى واذكر إذا قال إبراهيم ولما ضرب تعالى المثل لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنذر وجعلهم إسوة له خص إبراهيم بالذكر لعظم منزلته وذكر محمدا صلى الله عليه وسلم بمنابذة إبراهيم عليه السلام لقومه اي فافعل أنت فعله وتجلد جلده و * (براء) * صفة تجري على الواحد والاثنين والجميع كعدل وزور
وقرأ جمهور الناس (براء) بفتح الباء
وقرأت فرقة (براء) بضم الباء
وفي مصحف عبد الله وقراءة الأعمش (إني) بنون واحدة (برئ) قال الفراء ومن الناس من يكتب شكل الهمزة المخففة ألفا في كل
51

موضع ولا يراعى حركة ما قبلها قال فربما كان خط مصحف عبد الله بألف كما في مصحف الجماعة لكن كان يلفظ بها (برئ) بكسر الراء
وقوله * (إلا الذي فطرني) * قالت فرقة الاستثناء متصل وكانوا يعرفون الله ويعظمونه الا انهم كانوا يشركون معه أصنامهم فكان إبراهيم قال لهم انا لا اوافقكم الا على عبادة الله الفاطر
وقالت فرقة الاستثناء منقطع والمعنى لكن الذي فطرني معبودي وعلى هذا فلم يكونوا يعبدون الله الا قليلا ولا كثيرا وعلل إبراهيم لقومه عبادته بأنه الهادي المنجي من العذاب وفي هذا استدعاء لهم وترغيب في الله وتطميع برحمته والضمير في قوله * (وجعلها كلمة) * قالت فرقة ذلك عائد على كلمته بالتوحيد في قوله * (إنني براء) * وقال مجاهد وقتادة والسدي ذلك مراد به لا إله الا الله وعاد الضمير عليها وإن كانت لم يجر لها ذكر لأن اللفظ يتضمنها
وقال ابن زيد المراد بذلك الإسلام ولفظته وذلك قوله عليه السلام * (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) * البقرة 128 وقوله * (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) * البقرة 131 وقول الله تعالى * (هو سماكم المسلمين من قبل) * الحج 78
والعقب الذرية وولد الولد ما امتد فرعهم
قوله عز وجل * (بل متعت) * الآية كلام متصل بما قبله لأنه لما قال في عقبه وكانت قريش من عقبه اقتضى الكلام ان يقدر فيه لكن هؤلاء ليسوا ممن بقيت الكلمة فيهم بل متعتهم
والمعنى في الآية بل أمهلت هؤلاء ومتعتهم بالنعمة مع كفرهم حتى جاءهم الحق والرسول وذلك هو شرع الإسلام والرسول محمد عليه السلام
و (متعت) بضم التاء هي قراءة الجمهور
وقرأ قتادة (متعت) بفتح التاء الأخيرة على معنى قل يا رب متعت ورواها يعقوب عن نافع
وقرا الأعمش (بل متعنا) وهي تعضد قراءة الجمهور و * (مبين) * في هذه الآية يحتمل التعدي وترك التعدي
ثم أخبر تعالى عنهم على جهة التقريع بأنهم * (قالوا) * للقرآن * (هذا سحر) * وأنهم كفروا به وإنما جعلوه بزعمهم سحرا من حيث كان عندهم يفرق بين المرء وولده وزوجه فجعلوه لذلك كالسحر ولم ينظروا إلى الفرق في أن المفارق بالقرآن يفارق عن بصيرة في الدين والمفارق بالسحر يفارق عن خلل في ذهنه
52

قوله عز وجل
سورة الزخرف 31 - 35
الضمير في * (قالوا) * لقريش وذلك انهم استبعدوا أولا ان يرسل الله بشرا فلما تقرر امر موسى وعيسى وإبراهيم ولم يكن لهم في ذلك مدفع رجعوا يناقضون فيما يخض محمدا عليه السلام بعينه فقالوا لم كان محمد ولم يكن نزول الشرع * (على رجل) * من إحدى الفرقتين * (عظيم) * وقدر المبرد قولهم على رجل من رجلين من القريتين والقريتان مكة والطائف ورجل مكة الذي أشاروا إليه قال ابن عباس وقتادة هو الوليد بن المغيرة المخزومي
وقال مجاهد هو عتبة بن ربيعة
وقال قتادة بلغنا انه لم يبق فخذ من قريش الا ادعاه
ورجل الطائف قال قتادة هو عروة بن مسعود
وقال ابن عباس حبيب بن عبد بن عمير
وقال مجاهد كنانة بن عبد ياليل
قال القاضي أبو محمد وإنما قصدوا إلى من عظم ذكره بالسن والقدم والا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان حينئذ أعظم من هؤلاء لكن لما عظم أولئك قبل مدة النبي وفي صباه استمر ذلك لهم
ثم وقف على جهة التوبيخ لهم بقوله * (أهم يقسمون رحمة ربك) * المعنى على اختيارهم وإرادتهم تنقسم الفضائل والمكانة عند الله
والرحمة اسم يعم جميع هذا
ثم اخبر تعالى خبرا جازما بأنه قاسم المعايش والدرجات في الدنيا ليسخر بعض الناس بعضا المعنى فإذا كان اهتمامنا بهم ان نقسم هذا الحقير الفاني فأحرى ان نقسم الأهم الخطير
وفي قوله تعالى * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم) * تزهيد في السعايات وعون على التوكل على الله تعالى ولله در القائل
(لما اتى نحن قسمنا بينهم زال المرا
*) الرجز
وقرأ الجمهور (معيشتهم)
وقرأ ابن مسعود والأعمش (معائشهم)
وقرأ جمهور الناس (سخريا) بضم السين
وقرأ أبو رجاء وابن محيصن (سخريا) بكسر السين وهما لغتان في معنى التسخير ولا مدخل لمعنى الهزء في هذه الآية
وقوله تعالى * (ورحمة ربك خير مما يجمعون) * قال قتادة والسدي يعني الجنة
قال القاضي أبو محمد لا شك ان الجنة هي الغاية ورحمة الله في الدنيا بالهداية والايمان خير من كل مال وهذا اللفظ تحقير للدنيا ثم استمر القول في تحقيرها بقوله * (ولولا أن يكون الناس) * الآية وذلك أن معنى الآية ان الله تعالى أبقى على عبيده وانعم بمراعاة بقاء الخير والإيمان وشاء حفظه على طائفة منهم بقية الدهر ولولا كراهية ان يكون الناس كفارا كلهم وأهل حب في الدنيا وتجرد لها لوسع على الكفار غاية التوسعة ومكنهم من الدنيا إذ حقارتهم عنده تقتضي ذلك لأنها لا قدر لها ولا وزن لفنائها وذهاب رسومها فقوله * (أمة واحدة) * معناه في الكفر قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي ومن
53

هذا المعنى قول النبي عليه السلام (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء) ثم يتركب معنى الآية على معنى هذا الحديث
واللام في قوله " لكن يكفر بالرحمن " لام الملك
واللام في قوله * (لبيوتهم) * لام تخصيص كما تقول هذا الكساء لزيد لدابته أي هو لدابته حلس ولزيد ملك
قال المهدوي ودلت هذه الآية على أن السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو إذ هو منسوب إلى البيوت وهذا تفقه واهن
وقرا جمهور القراء (سقفا) بضم السين والقاف
وقرا مجاهد (سقفا) بضم السين وسكون القاف على الإفراد
والمعارج الأدراج التي يطلع عليها قاله ابن عباس وقتادة والناس
وقرأ طلحة (معاريج) بزيادة ياء و * (يظهرون) * معناه يعلون ومنه حديث عائشة رضي الله عنها والشمس في حجرتها لم تظهر
والسرر جمع سرير
واختلف الناس في الزخرف فقال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي الزخرف الذهب نفسه وروي عن النبي عليه السلام أنه قال (إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان)
قال القاضي أبو محمد الحسن احمر والشهوات تتبعه
وقال ابن زيد الزخرف أثاث البيت وما يتخذ له من الستور والنمارق ونحوه
وقالت فرقة الزخرف التزاويق والنقش ونحوه من التزيين وشاهد هذا القول * (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت) * يونس 24
وقرا جمهور القراء (وإن كل ذلك لما) بتخفيف الميم من (لما) ف (إن) مخففة من الثقيلة واللام في (لما) داخلة لتفصل بين النفي والإيجاب
وقرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه والحسن وطلحة والأعمش وعيسى (لما متاع) بتشديد الميم من (لما) فإن (لما) نافية بمعنى ما
و * (لما) * بمعنى إلا وقد حكى سيبويه نشدتك الله لما فعلت وحمله على إلا
وفي مصحف أبي بن كعب (وما ذلك الا متاع الحياة الدنيا)
وقرأ أبو رجاء (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم ف (ما) بمعنى الذي والعائد عليها محذوف والتقدير وإن كل ذلك للذي هو متاع الحياة الدنيا
وفي قوله تعالى * (والآخرة عند ربك للمتقين) * وعد كريم وتحريض على التقوى إذ في الآخرة هو التباين في المنازل
قوله عز وجل
سورة الزخرف 36 - 39
" من " في قوله * (ومن يعش) * شرطية وعشى يعشو معناه قل الإبصار منه كالذي يعتري في
54

اليل وكذلك هو الأعشى من الرجال ويقال أيضا عشى الرجل يعشي عشاء إذا فسد بصره فلم ير أو لم ير الا قليلا
وقرأ قتادة ويحيى بن سلام البصري (ومن يعش) بفتح الشين وهي من قولهم عشى يعشي والأكثر عشى يعشو ومنه قول الشاعر الحطيئة
(متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
* تجد خير نار عندها خير موقد) الطويل
وفي شعر آخر عبد الله بن الحر
(تجد حطبا جزلا وجمرا تاججا
*)
وقرأ الأعمش (ومن يعش عن الرحمن) وسقط * (ذكر) *
فالمعنى في الآية ومن يقل نظره في شرع الله ويغمض جفونه عن النظر في ذكر الرحمن أي فيما ذكر به عباده فالمصدر إلى الفاعل * (نقيض له شيطانا) * أي نيسر له ونعد وهذا هو العقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح وهذا كما يقال إن الله يعاقب على المعصية بالتزيد في المعاصي ويجازي على الحسنة بالتزيد من الحسنات وقد روي هذا المعنى مرفوعا
وقرا الجمهور (نقيض) بالنون
وقرأ الأعمش (يقيض) بالياء (شيطانا) أي يقيض الله
وقرأ ابن عباس (يقيض له شيطان) بفتح الياء الثانية وشدها ورفع النون من (شيطان)
والضمير في قوله * (وأنهم) * عائد على الشياطين
وفي (يصدونهم) على الكفار
و * (السبيل) * هي سبيل الهدى والفوز
والضمير في * (يحسبون) * للكفار
وقرا نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وأبو جعفر وشيبة وقتادة والزهري والجحدري (حتى إذا جاءانا) على التثنية يريد العاشي والقرين قاله سعيد الجريري وقتادة
وقرأ أبو عمرو والحسن وابن محيصن والأعرج وعيسى والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي (جاءنا) يريد العاشي وحده وفاعل " قال " هو العاشي
وقوله * (بعد المشرقين) * يحتمل ثلاثة معان أحدهما ان يريد بعد المشرق من المغرب فسماهما مشرقين كما يقال القمران والعمران قال الفرزدق
(لما قمراها والنجوم الطوالع
*)
والثاني ان يريد مشرق الشمس في أطول يوم ومشرقها في أقصر يوم فكأنه أخذ نهايتي المشارق
والثالث ان يريد * (بعد المشرقين) * من المغربين فاكتفى بذكر * (المشرقين) *
وقوله تعالى * (ولن ينفعكم اليوم) * الآية حكاية عن مقالة تقال لهم يوم القيامة وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي لأنه يوقفهم بها على أنهم لا ينفعهم التأسي وذلك لعظم المصيبة وطول العذاب واستمرار مدته إذ التأسي راحة كل شيء في الدنيا في الأغلب الا ترى إلى قول الخنساء
55

(لولا كثرة الباكين حولي
* على إخوانهم لقتلت نفسي)
(وما يبكون مثل أخي ولكن
* أعزي النفس عنه بالتأسي) الوافر
فهذا التأسي قد كفاها مؤونة قتل النفس فنفى الله تعالى عنهم الانتفاع بالتأسي وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل خير وفاعل قوله * (ينفعكم) * الاشتراك
وقرأ جمهور القراء (أنكم) بفتح الألف
وقرأ ابن عامر وحده (إنكم) بكسر الألف وقد يجوز ان يكون الفاعل * (ينفعكم) * التبري الذي يدل عليه قوله * (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) * وعلى هذا
يكون (أنكم) في موضع نصب على المفعول من اجله وتخرج الآية على معنى نفي الأسوة
قوله عز وجل
سورة الزخرف 40 - 45
لما ذكر تعالى حال الكفرة في الآخرة وما يقال لهم وهم في العذاب اقتضى ذلك ان تشفق النفوس وان ينظر كل سامع لنفسه ويسعى في خلاصها فلما كانت قريش مع هذا الذي سمعت لم تزل عن عتوها وإعراضها عن امر الله رجعت المخاطبة إلى محمد عليه السلام على جهة التسلية له عنهم وشبههم ب * (الصم) * و * (العمي) * إذ كانت حواسهم لا تفيد شيئا
وقوله * (ومن كان في ضلال مبين) * يريد بذلك قريشا بأنفسهم ولذلك لم يقل (من كان) بل جاء بالواو العاطفة كأنه يقول وهؤلاء ويؤيد ذلك أيضا عود الضمير عليهم في قوله * (فإنا منهم) * ولم يجر لهم ذكر الا في قوله * (ومن كان) *
وقوله تعالى * (فإما نذهبن بك) * الآية تتضمن وعيدا واقعا وذهب جمهور العلماء إلى أن المتوعدين هم الكفار وان الله تعالى أرى نبيه الذي توعدهم في بدر والفتح وغير ذلك وذهب الحسن وقتادة إلى أن المتوعدين هم في هذه الأمة وان الله تعالى أكرم نبيه على أن ينتقم منهم بحضرته وفي حياته فوقعت النقمة منهم بعد ان ذهب به وذلك في الفتن الحادثة في صدر الإسلام مع الخوارج وغيرهم قال الحسن وقتادة أكرم الله نبيه على أن يرى في أمته ما يكره كما رأى الأنبياء فكانت بعد ذهابه صلى الله عليه وسلم وقد روي حديث عن جابر بن عبد الله أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ * (فإنا منهم منتقمون) * فقال بعلي بن أبي طالب والقول الأول من توعد الكفار أكثر ثم أمر تعالى نبيه بالتمسك بما جاء من عند الله من الوحي المتلو وغيره
والصراط الطريق
56

وقرا الجمهور (أوحي) على بناء الفعل للمفعول
وقرأ الضحاك (أوحى) على الفعل المبني للفاعل أي أوحى الله
وقوله * (وإنه لذكر لك) * يحتمل ان يريد وإنه لشرف وحمد في الدنيا
والقوم على هذا قريش ثم العرب وهذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن زيد
قال ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل فإذا قالوا له فلمن يكون الأمر بعدك سكت حتى نزلت هذه الآية فكان إذا سئل بعد ذلك قال لقريش فكانت العرب لا تقبل على ذلك حتى قبلته الأنصار وروي عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يزال الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان) وروى أبو موسى الأشعري عنه صلى الله عليه وسلم (لا يزال الأمر في قريش ما زالوا إذا حكوا عدلوا وإذا استرحموا رحموا وإذا عاهدوا وفوا فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجميعن)
وروى معاوية إنه عليه السلام قال (لا يزال هذا الأمر في قريش ما أقاموا الدين)
ويحتمل ان يريد وإنه لتذكرة وموعظة ف (القوم) على هذا أمة بأجمعها وهذا قول الحسن بن أبي الحسن وقوله " وسوف تسئلون " قال ابن عباس وغيره معناه عن أوامر القرآن ونواهيه وقال الحسن بن أبي الحسن معناه عن شكر النعمة فيه واللفظ يحتمل هذا كله ويعمه
واختلف المفسرون في المراد بالسؤال في قوله " وسئل من أرسلنا " فقالت فرقة أراد ان اسأل جبريل ذكر ذلك النقاش وفيه بعد
وقال ابن زيد وابن جبير والزهري أراد واسأل الرسل إذا لقيتهم ليلة الاسراء إما ان النبي عليه السلام لم يسأل الرسل ليلة الإسراء عن هذا لأنه كان أثبت يقينا من ذلك ولم يكن في شك
وقالت فرقة أراد واسألني أو واسألنا عمن أرسلنا والأولى على هذا التأويل ان يكون * (من أرسلنا) * استفهاما امره ان يسال له كان سؤاله يا رب من أرسلت قبلي من رسلك أجعلت في رسالته الأمر بآلهة يعبدون ثم ساق السؤال محكي المعنى فرد المخاطبة إلى محمد عليه السلام في قوله * (من قبلك) *
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وعطاء أراد وسل تباع من أرسلنا وحملة شرائعهم لأن المفهوم انه لا سبيل إلى سؤاله الرسل الا بالنظر في آثارهم وكتبهم وسؤال من حفظها
وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب (وسئل الذين أرسلنا إليهم رسلنا) فهذه القراءة تؤيد هذا المعنى وكذلك قوله " وسئل القرية " يوسف 82 مفهوم إنه لا يسأل الا أهلها ومما ينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " النساء 59 فمفهوم ان الرد إنما هو إلى كتاب الله وسنة رسوله وان المحاور في ذلك إنما هو تباعهم وحفظة الشرع
وقوله * (يعبدون) * أخرج ضميرهم على حد من يعقل مراعاة للفظ الآلهة
57

قوله عز وجل
سورة الزخرف 46 - 50
هذه آية ضرب مثل وإسوة لمحمد عليه السلام بموسى عليه السلام ولكفار قريش بفرعون " وملائه "
والآيات التي أرسل بها موسى وهي التسع المذكورة وغير ذلك مما جاءت به الروايات وخص الملأ المذكور لأنهم يسدون مسد جميع الناس ثم وصفهم تعالى بالضحك من آيات موسى كما كانت قريش تضحك وتسخر من اخبار محمد عليه السلام ثم وصف تعالى صورة عرض الآيات عليهم وإنما كانت شيئا بعد شيء
وقوله * (إلا هي أكبر من أختها) * عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة امرها وحدوثه وذلك أن أول آية عرض موسى هي العصا واليد وكانت أكبر آياته ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندهم لحينها وتكبر لأنهم قد كانوا انسوا التي قبلها فهذا كما قال الشاعر
(على أنها تعفو الكلوم وإنما
* توكل بالأدنى وان جل ما يقضى) الطويل
وذهب الطبري إلى أن الآيات هي الحجج والبينات
ثم ذكر تعالى اخذهم بالعذاب في العمل والضفادع والدم وغير ذلك وهذا كما اخذ قريش بالسنين والدخان
وقوله * (لعلهم) * ترج بحسب معتقد البشر وظنهم
و * (يرجعون) * معناه يتوبون ويقلعون
وقوله تعالى " وقالوا يا أيه الساحر " جائز ان يكون قائل ذلك من اعلمهم بكفر السحر فيقول قوله استهزاء وهو يعلم قدر السحر وانحطاط منزلته ويكون قوله * (عندك) * بمعنى في زعمك وعلى قولك ويحتمل ان يكون القائل ليس من المتمردين الحذاق ويطلق لفظة الساحر لأحد وجهين إما لأن السحر كان عند عامتهم علم الوقت فكأنه قال يا أيه العالم وإما لأن هذه الاسمية قد كانت انطلقت عندهم على موسى لأول ظهورها فاستصحبها هذا القائل في مخاطبة قلة تحرير وغباوة ويكون القول على هذا التأويل جدا من القائل ويكون قوله " إنا لمهتدون " بمعنى إن نفعتنا دعوتك وهذا التأويل أرجح أعني ان كلام هذا القائل مقترن بالجد
وقرأ ابن عامر وحده (يا أي) بياء مضمومة فقط
ثم أخبر عنهم انه لما كشف عنهم العذاب نكثوا ولو كان الكلام هزلا من أوله لما وقع نكث
58

قوله عز وجل
سورة الزخرف 51 - 56
نداء فرعون يحتمل ان يكون بلسانه في ناديه ويحتمل ان يكون بان أمر من ينادي في الناس ومعنى هذه الحجة التي نادى بها انه أراد ان يبين فضله على موسى إذ هو ملك مصر وصاحب الأنهار والنعم وموسى خامل متقلل لا دنيا له قال فلو ان إله موسى يكون حقا كما يزعم لما ترك الأمر هكذا و * (مصر) * من بحر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل
و * (الأنهار) * التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل وعظمها نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط ونهر طولون
وقوله * (أم أنا خير) * قال سيبويه * (أم) * هذه المعادلة والمعنى أم أنتم لا تبصرون فوضع موضع قوله أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق ان يبصر عنده وهو انه خير من موسى
و (لا) على هذا النظر نافية
وقالت فرقة * (أفلا تبصرون) * أم لا تبصرون ثم اقتصر على * (أم) * لدلالة ظاهر الكلام على المحذوف منه وابتدأ قوله * (أنا خير) * إخبارا منه فقوله * (أفلا) * على هذا النظر بمنزلة هلا ولولا على معنى التخصيص
وقالت فرقة * (ا) * بمعنى بل
وقرأ بعض الناس (أما انا خير) حكاه الفراء وكان مجاهد يقف على * (أم) * ثم يبتدئ * (أنا خير) *
قال قتادة وفي مصحف أبي بن كعب (أم انا خير أم هذا)
و * (مهين) * معناه ضعيف وقوله * (ولا يكاد يبين) * إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة وذلك انها كانت أحدثت في لسانه عقدة فلما دعا في أن تحل ليفقه قوله أجيبت دعوته لكنه بقي أثر كان البيان يقع منه لكن فرعون عير به
وقوله * (ولا يكاد يبين) * يقتضي انه كان يبين
وقرأ أبو جعفر بن علي (يبين) بفتح الياء الأولى
وقوله * (فلولا ألقي عليه) * يريد من السماء على معنى التكرمة
وقراءة الجمهور (ألقي) على بناء الفعل للمفعول
وقرا الضحاك (ألقى) بفتح الهمزة والقاف على بنائه للفاعل (أساورة) نصبا
وقرأ جمهور القراء (أساورة) وقرأ حفص عن عاصم (أسورة) وهي قراءة الحسن والأعرج وقتادة وأبي رجاء ومجاهد
وقرأ أبي بن كعب (أساور)
وفي مصحف ابن مسعود (أساوير) ويقال سوار وأسوار لما يجعل في الذراع من الحلي حكى أبو زيد اللغتين وأبو عمرو بن العلاء وهو كالقلب قاله ابن عباس وكانت عادة الرجال يومئذ حبس ذلك والتزيي به
و " أساورة " جمع أسوار ويجوز ان يكون جمع أسورة كأسقية وأساقي وكذلك أساور جمع أسوار
والهاء في " أساورة " عوض من الياء المحذوفة لأن الجمع إنما هو أساوير كما في مصحف ابن مسعود فحذفوا الياء وجعلوا الهاء عوضا منها
59

كما فعلوا ذلك في زنادقة وبطارقة وغير ذلك وأساورة جمع سوار
وقوله * (مقترنين) * أي يحمونه ويشهدون له ويقيمون حجته
ثم أخبر تعالى عن فرعون أنه استخف قومه بهذه المقالة أي طلب خفتهم وإجابتهم إلى غرضه فأجابوه إلى ذلك وأطاعوه في الكفر لفسقهم ولما كانوا بسبيله من الفساد
و * (آسفونا) * معناه أغضبونا بلا خلاف وإغضاب الله تعالى هو ان تعمل الأعمال الخبيثة التي تظهر من أجلها أفعاله الدالة على إرادة السوء بمن شاء
والغضب على هذا صفة فعل وهو مما يتردد فإذا كان بمعنى ما يظهر من الأفعال فهو صفة فعل وإذا رد إلى الإرادة فهو صفة ذات وفي هذا نظر
وقرأ جمهور القراء (سلفا) بفتح السين واللام جمع سالف كحارس وحرس
والسلف هو الفارط من الأمم المتقدم أي جعلناهم متقدمين للأمم الكافرة عظة ومثلا لهم يعتبرون بهم أو يقعون فيما وقعوا فيه ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام (يذهب الصالحون أسلافا) وقوله في ولده إبراهيم (ندفنه عند سلفنا الصالح عثمان بن مظعون)
وقرأ حميد الأعرج وحمزة والكسائي (سلفا) بضم السين واللام وهي قراءة عبد الله وأصحابه وسعد بن عياض وابن كثير وهو جمع سليف
وذكر الطبري عن القاسم بن معن انه سمع العرب تقول مضى سلف من الناس بمعنى السلف
وقرأ علي بن أبي طالب وحميد الأعرج أيضا (سلفا) بضم السين وفتح اللام كأنه جمع سلفة بمعنى الأمة والقطعة
والآخرون هو من يأتي من البشر إلى يوم القيامة
قوله عز وجل
سورة الزخرف 57 - 62
روي عن ابن عباس وغيره في تفسير هذه الآية انه لما نزلت * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * آل عمران 59 ونزل مع ذلك ذكر عيسى وحاله وكيف خلق من غير فحل قالت فرقة ما يريد محمد من ذكر عيسى الا ان نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى فهذا كان صدورهم من ضربه مثلا
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو جعفر والأعرج والنخعي وأبو رجاء وابن وثاب (يصدون) بضم الصاد بمعنى يعرضون
وقرا الباقون وابن عباس وابن جبير والحسن وعكرمة (يصدون) بكسر الصاد بمعنى يضحكون وانكر ابن عباس ضم الصاد ورويت عن علي بن أبي طالب وقال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد مثل (يعرشون ويعرشون)
60

وقوله تعالى * (آلهتنا) * ابتداء معنى ثان وذلك أنه لما نزلت * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * الأنبياء 98 جاء عبد الله بن الزعبري ونظراؤه فقالوا نحن نخصم محمدا آلهتنا خير أم عيسى وعلموا ان الجواب ان يقال عيسى قالوا وهذه آية الحصب لنا أو لكل الأمم من الكفار فقال النبي عليه السلام بل لكل من تقدم أو تأخر من الكفار فقالوا نحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى إذ هو خير منها وإذ قد عبد فهو من الحصب إذا فقال " وما ضربوه لك الا جدلا " أي ما مثلوا هذا التمثيل الا جدلا منهم ومغالطة ونسوا ان عيسى لم يعبد برضى منه ولا عن إرادة ولا له في ذلك ذنب
وقرا ابن كثير وأبو عمرو (آءالهتنا) بهمزة استفهام وهمزة بعدها بين بين وألف بعدها
وقرا عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بهمزتين مخففتين بعد الثانية ألف
وقرأ ورش عن نافع بغير استفهام (آلهتنا) على مثال الخبر
وقرأ قالون عن نافع (آلهتنا) على الاستفهام بهمزة واحدة بعدها مدة
وفي مصحف أبي بن كعب (خير أم هذا) فالإشارة إلى محمد وخرجت هذه القراءة على التأويل الأول الذي فسرناه وكذلك قالت فرقة ممن قرأ * (أم هو) * إن الإرادة محمد عليه السلام وهو قول قتادة
وقال ابن زيد والسدي المراد ب " هو " عيسى هذا هو المترجح
والجدال عند العرب المحاورة بمغالطة أو تحقيق أو ما اتفق من القول انما المقصد به ان يغلب صاحبه في الظاهر الا ان يتطلب الحق في نفسه وروى أبو امامة عن النبي عليه السلام أنه قال (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه الا اتوا الجدل) ثم قرأ * (ما ضربوه لك إلا جدلا) * قال أبو امامة ورأى عليه السلام قوما يتنازعون فغضب حتى كأنما صب في وجهه الخل وقال (لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فما ضل قوم الا أوتوا الجدل) ثم اخبر تعالى عنهم انهم أهل خصام ولدد وأخبر عن عيسى انه عبد أنعم الله عليه بالنبوءة والمنزلة العالية وجعله مثلا لبني إسرائيل
وقوله تعالى * (ولو نشاء) * الآية أي لا تستغربوا ان يخلق عيسى من غير فحل فإن القدرة تقضي ذلك وأكثر منه
وقوله * (لجعلنا منكم) * معناه لجعلنا بدلا منكم اي لو شاء الله لجعل بدلا من بني آدم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون بني آدم فيها
وقال مجاهد وابن عباس يخلف بعضهم بعضا
والضمير في قوله * (وإنه لعلم) * قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد الإشارة به إلى عيسى
وقالت فرقة إلى محمد عليه السلام
وقال الحسن أيضا وقتادة إلى القرآن
وقرأ جمهور الناس (لعلم) بكسر العين وسكون اللام
وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة وأبو هند الغفاري ومجاهد وأبو نضرة ومالك بن دينار والضحاك (لعلم) بفتح العين واللام وقرا عكرمة مولى ابن عباس (للعلم) بلامين الأولى مفتوحة
وقرأ أبي بن كعب (لذكر للساعة)
فمن قال إن الإشارة إلى عيسى حسن مع تأويله علم وعلم أي هو إشعار بالساعة وشرط من أشراطها
61

يعني خروجه في آخر الزمان وكذلك من قال الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم أي هو آخر الأنبياء فقد تميزت الساعة به نوعا وقدرا من التمييز وبقي التحديد التام الذي انفرد الله بعلمه ومن قال الإشارة إلى القرآن حسن قوله في قراءة من قرأ (لعلم) بكسر العين وسكون اللام أي يعلمكم بها وبأهوالها وصفاتها وفي قراءة من قرأ (لذكر)
وقوله * (فلا تمترن) * أي قل لهم يا محمد لا تشكون فيها
وقوله * (هذا صراط مستقيم) * إشارة إلى الشرع ثم أمره بتحذير العباد من الشيطان وإغوائه ونبههم على عداوته
قوله عز وجل
سورة الزخرف 63 - 68
(البينات) التي جاء بها عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص إلى غير ذلك
وقال قتادة الإنجيل والحكمة النبوءة قاله السدي وغيره
وقوله * (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) * قال أبو عبيدة * (بعض) * بمعنى كل وهذا ضعيف ترده اللغة ولا حجة له من قول لبيد
(أو يعتلق بعض النفوس حمامها
*)
لأنه أراد نفسه ونفس من معه وذلك بعض النفوس وإنما المعنى الذي ذهب إليه الجمهور أن الاختلاف بين الناس هو في أمور كثيرة لا تحصى عددا منها أمور آخروية ودينية ومنها ما لا مدخل له في الدين فكل نبي فإنما يبعث ليبين أمر الأديان والآخرة فلذلك بعض ما يختلف فيه
وقوله تعالى * (هذا صراط مستقيم) * حكاية عن عيسى عليه السلام إذ أشار إلى شرعه
و * (الأحزاب) * المذكورون قال جمهور المفسرين أراد اختلف بنو إسرائيل وتحزبوا فمنهم من آمن به وهو قليل وكفر الغير وهذا إذا كان معهم حاضرا
وقال قتادة * (الأحزاب) * هم الأربعة الذين كان الرأي والمناظرة صرفت إليهم في امر عيسى عليه السلام
وقال ابن حبيب وغيره * (الأحزاب) * النصارى افترقت مذاهبهم فيه بعد رفعه عليه السلام فقالت فرقة هو الله وهم اليعقوبية قال الله عز وجل * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) * المائدة 17
وقالت فرقة هو ابن الله وهم النسطورية قال الله تعالى فيهم * (وقالت النصارى المسيح ابن الله) * التوبة 30
وقالت فرقة هو ثالث ثلاثة وهم
62

الملكانية قال الله تعالى فيهم * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) * المائدة 73
وقوله تعالى * (من بينهم) * بمعنى من تلقائهم ومن أنفسهم ثار شرهم ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم
والضمير في * (ينظرون) * لقريش والمعنى ينتظرون
و * (بغتة) * معناه فجأة دون مقدمة ولا إنذار بها
ثم صرف تعالى بعض حال القيامة وإنها لهول مطلعها والخوف المطبق بالناس فيها يتعادى ويتباغض كل خليل كان في الدنيا على غير تقى لأنه يرى أن الضرر دخل عليه من قبل خليله وأما المتقون فيرون ان النفع دخل بهم من بعضهم على بعض هذا معنى كلام علي رضي الله عنه
وقوله * (يا عبادي) * المعنى يقال لهم أي للمتقين
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر (يا عبادي) بفتح الياء وهذا هو الأصل
وقرا نافع وأبو عمرو وابن عامر (يا عبادي) بسكون الياء
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم (يا عباد) بحذف الياء
قال أبو علي وحذفها أحسن لأنه في موضع تنوين وهي قد عاقبته فكما يحذف التنوين في الاسم المنادى المفرد كذلك تحذف الياء هنا لكونها على حرف كما أن التنوين كذلك ولأنها لا تنفصل من المضاف كما لا ينفصل التنوين من المنون
وذكر الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد الا فزع فينادي مناد * (لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) * فيرجوها الناس كلهم قال فيتبعها
* (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) * الزخرف 69 قال فييأس منها جميع الكفار
وقرأ الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويعقوب (لاخوف) بنصب الفاء من غير تنوين
وقرأ ابن محيصن برفع الفاء من غير تنوين
قوله عز وجل
سورة الزخرف 69 - 73
* (الذين) * نعت للعباد في قوله * (يا عبادي) * الزخرف 68
ثم ذكر أمره إياهم بدخول الجنة هم وأزواجهم
و * (تحبرون) * معناه تنعمون وتسرون
والحبرة السرور
والأكواب ضرب من الأواني كالأباريق الا انها لا آذان لها ولا مقابض
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر وشيبة (ما تشتهيه) بإثبات الهاء الأخيرة وكذلك
63

في مصحف المدينة ومصاحف الشام وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم والجمهور (ما تشتهي) بحذف الهاء وكذلك وقع في أكثر المصاحف وحذفها من الصلة لطول القول حسن وكذلك كثر في التنزيل كقوله تعالى * (أهذا الذي بعث الله) * الفرقان 41 وفي قوله * (وسلام على عباده الذين اصطفى) * النمل 58 وغير ذلك وفي مصحف ابن مسعود (ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين)
وقوله تعالى * (أورثتموها بما كنتم تعملون) * ليس المعنى ان الأعمال أوجبت على الله إدخالهم الجنة وإنما المعنى ان حظوظهم منها على قدر اعمالهم واما نفس دخول الجنة وأن يكون من أهلها فبفضل الله وهداه
قوله عز وجل
سورة الزخرف 74 - 81
لما ذكر تعالى حال أهل الجنة وما يقال لهم عقب ذلك بذكر حال الكفرة من الخلود في النار ولتتضح الأمور التي منها النذارة والمجرمون في هذه الآية الكفار بدليل الخلود وما تتضمنه الألفاظ من مخاطبة مالك وغيره
والمبلس المبعد اليائس من الخيرة قاله قتادة وغيره
وقرا ابن مسعود (وهم مبلسون) أي في جهنم
وقوله تعالى " وما ظلمناهم " أي ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه ولكن هم ظلموا في أن وضعوا العبادة فيمن لا يستوجبها وضعفوا الكفر والتفريط في جنب الله تعالى
وقرا الجمهور (كانوا هم الظالمين) على الفصل
وقرا ابن مسعود (هم الظالمون) على الابتداء والخبر وأن تكون الجملة خبر (كان)
ثم ذكر تعالى عن أهل النار انهم ينادون مالكا خازن النار فيقولون على معنى الرغبة التي هي في صيغة الأمر * (ليقض علينا ربك) * أي ليمتنا مرة حتى يتكرر عذابنا
وقرأ النبي عليه السلام على المنبر (يا مالك) بالكاف وهي قراءة الجمهور
وقرأ ابن مسعود ويحيى والأعمش (يا مال) بالترخيم ورويت عن علي بن أبي طالب ورواها أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم
والقضاء في هذه الآية بمعنى الموت كما قال تعالى * (فوكزه موسى فقضى عليه) * القصص 15 وروي في تفسير هذه الآية عن ابن عباس ان مالكا يقيم بعد سؤالهم ألف سنة وقال
64

نوف مائة سنة وقيل ثمانين سنة وقال عبد الله بن عمر وأربعين سنة ثم حينئذ يقول لهم " إنكم ما كثون "
وقوله * (لقد جئناكم) * الآية يحتمل ان يكون من قول مالك لأهل النار ويكون قوله * (جئناكم) * على حد ما يدخل أحد جملة الرئيس كناية عن نفسه في فعل الرئيس فيقول غلبناكم وفعلنا بكم ونحو هذا ثم ينقطع كلام مالك في قوله * (كارهون) * ويحتمل ان يكون قوله * (جئناكم) * من قول الله تعالى لقريش بعقب حكاية أمر
الكفار مع مالك وفي هذا توعد وتخويف فصيح بمعنى انظروا كيف تكون حالكم ثم تتصل الآية على هذا بما بعدها من أمر قريش
وقوله تعالى * (أم أبرموا أمرا) * من أمور كفرهم وتدبيرهم على عهد محمد صلى الله عليه وسلم كما فعلوا في اجتماعهم على قتله في دار الندوة إلى غير ذلك و * (أم) * في هذه الآية المنقطعة
وقوله * (فإنا مبرمون) * أي فإنا فحكمو نصره وحمايته
والإبرام ان تجمع خيطين ثم تفتلهما فتلا متقنا والبريم خيط فيه لونان
وقوله تعالى * (أم يحسبون) * الآية قال محمد بن كعب القرظي نزلت لأن كثيرا من العرب كانوا يعتقدون ان الله تعالى لا يسمع السر ومنه حديث الثقفي والقرشيين الذين سمعهم ابن مسعود يقولون عند الكعبة أترى الله يسمعنا فقال أحدهم يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا الحديث فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يسمع أي يدرك السر والنجوى وان رسله الحفظة من الملائكة يكتبون اعمال البشر مع ذلك وتعد للجزاء يوم القيامة
واختلف المفسرون في قوله تعالى * (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) * فقالت فرقة العابدون
هو من العبادة ثم اختلفوا في معنى الآية بعد ذلك فقال قتادة والسدي والطبري المعنى
* (قل) * لهم * (إن كان للرحمن ولد) * كما تقولون فأنا أول من يعبده على ذلك ولكن ليس به شيء من ذلك تعالى وجل
قال الطبري فهذا الطاف في الخطاب ونحوه قوله * (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) * سبأ 24
قال القاضي أبو محمد وقوله تعالى في مخاطبة الكفار * (أين شركائي) * النحل 27 القصص 62 - 72 فصلت 47
وقال مجاهد المعنى إن كان لله ولد في قولكم فأنا أول من عبد الله وحده وكذبكم
وقال قتادة أيضا وزهير بن محمد وابن زيد * (أن) * نافية بمعنى ما فكأنه قال ما كان للرحمن ولد
وهنا هو الوقف على هذا التأويل ثم يبتدئ قوله * (فأنا أول العابدين) * قاله أبو حاتم
وقالت فرقة العابدون في الآية من عبد الرجل إذا أنف وأنكر الشيء ومنه قول الشاعر
(متى يشأ ذو الود يصرم خليله
* ويعبد عليه لا محالة ظالما)
ومنه حديث عثمان وعلي في المرجومة حين قال علي * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) *
65

الأحقاف 15 قال فما عبد عثمان ان بعث إليها لترد
والمعنى إن جعلتم للرحمن ولدا وكان ذلك في قولكم فأنا أول الآنفين المنكرين لذلك
وقرأ الجمهور (ولد) بفتح الواو واللام
وقرا ابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش (ولد) بضم الواو وسكون اللام
وقرا أبو عبد الرحمن (فأنا أول العابدين) وهي على هذا المعنى قال أبو حاتم العبد بكسر الياء الشديد الغضب
وقال أبو عبيدة معناه أول الجاحدين والعرب تقول عبدني حقي أي جحدني
قوله عز وجل
سورة الزخرف 82 - 85
لما قال تعالى * (فأنا أول العابدين) * الزخرف 81 نزه الرب تعالى عن هذه المقالة التي قالوها
و * (سبحان) * تنزيه
وخص * (السماوات والأرض) * و * (العرش) * لأنها عظم المخلوقات
وقوله تعالى * (فذرهم يخوضوا) * مهادنة ما وترك وهي مما نسخت بآية السيف وقرا الجمهور (يلاقوا) وقرأ أبو جعفر وابن محيصن (حتى يلقوا)
وقال جمهور اليوم الذي توعدهم به هو القيامة
وقال عكرمة وغيره هو يوم بدر
وقوله تعالى * (وهو الذي في السماء إله) * الآية آية حكم بعظمته وإخبار بألوهيته أي هو النافذ أمره
وقرأ عمر بن الخطاب وجابر بن زيد وأبو شيخ والحكم بن أبي العاصي وبلال بن أبي بردة وابن مسعود ويحيى بن يعمر وأبي بن كعب وابن السميفع (وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله) و * (الحكيم) * المحكم
* (وتبارك) * تفاعل من البركة أي تزيدت بركاته
و * (السماوات والأرض وما بينهما) * حصر لجميع الموجودات المحسوسات
و * (علم الساعة) * معناه علم تحديد قيامها والوقف على تعيينه وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه والا فنحن عندنا علم الساعة أي إنها واقعة وإنها ذات أهوال وبصفات ما والمصدر في قوله * (علم الساعة) * مضاف إلى المفعول
وقرأ أكثر القراء (وإليه يرجعون) بالياء من تحت
وقرا نافع بن عمرو (ترجعون) بالتاء من فوق مضمومة
66

قوله عز وجل
سورة الزخرف 86 - 89
قوله تعالى * (ولا يملك) * الآية مخاطبة لمحمد عليه السلام
و * (الذين) * هم المعبودون والضمير في * (يدعون) * هو للكفار الذين عبدوا غير الله عز وجل فأعلم تعالى ان من عبد من دون الله فإنه لا يملك شفاعة عند الله يوم القيامة
وقرأ الجمهور (يدعون) بالياء من تحت
وقرأ ابن وثاب (تدعون) بالتاء من فوق ثم استثنى تعالى من هذه الأخبار واختلف الناس في المستثنى فقال قتادة استثنى ممن عبد من دون الله عيسى وعزيزا والملائكة والمعنى فإنهم يملكون شفاعة بان يملكها الله إياهم إذ هم ممن شهد بالحق وهم يعلمونه في كل أحوالهم فالاستثناء على هذا التأويل متصل وقال مجاهد وغيره استثنى من في المشفوع فيهم فكأنه قال لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزيز وعيسى الا فيمن شهد بالحق وهو يعلمه أي هو بالتوحيد فالاستثناء على هذا التأويل منفصل كأنه قال لكن من يشهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء والتأويل الأول أصوب والله أعلم
ثم اظهر تعالى عليهم الحجة من أقوالهم وإقرارهم بان الله هو خالقهم وموجدهم بعد العدم ثم وقفهم على جهة التقرير والتوبيخ بقوله * (فأنى يؤفكون) * أي فلأي جهة يصرفون
وقرأ جمهور القراء بالنصب وهو مصدر كالقول والضمير فيه لمحمد عليه السلام وحكى مكي قولا أنه لعيسى وهو ضعيف واختلف الناس في الناصب فقالت فرقة هو معطوف على قوله * (سرهم ونجواهم) * الزخرف 80
وقالت فرقة العامل فيه * (يكتبون) * الزخرف 80 أي أقوالهم من أفعالهم
* (وقيله) *
وقالت فرقة الناصب له ما في قوله " وعند علم الساعة " الزخرف 85 من قوة الفعل أي ويعلم قيله ونزل قوله تعالى * (وقيله يا رب) * بمنزلة وشكوى محمد واسغاثته من كفرهم وعتوهم
وقرأ عاصم وحمزة وابن وثاب والأعمش و (قيله) بالخفض عطفا على * (الساعة) * الزخرف 85
وقرأ الأعرج وأبو قلابة ومجاهد (وقيله) بالرفع على الابتداء
وخبره في قوله * (يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) * اي قيله هذا القول أو يكون التقدير وقيله يا رب مسموع ومتقبل ف * (يا رب) * على هذا منصوب الموضع ب (قيله) وقرأ أبو قلابة (يا رب) بفتح الباء المشددة وأراد يا رب على لغة من يقول يا غلاما ثم حذف الألف تخفيفا واتباعا لخط المصحف
وقوله * (فاصفح عنهم) * موادعة منسوخة بآيات السيف
وقوله * (سلام) * تقديره وقل أمري سلام أي مسالمة
(وقالت فرقة) المعنى وقل سلام عليكم على جهة الموادعة والملاينة والنسخ قد أتى على هذا السلام فسواء كان تحية أو عبارة عن الموادعة
وقرأ جمهور القراء (يعلمون) بالياء
وقرأ نافع وابن عامر في رواية هشام عنه والحسن والأعرج وأبو جعفر (تعلمون) بالتاء من فوق
67

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الدخان
هذه السورة مكية لا أحفظ خلافا في شيء منها
قوله عز وجل
سورة الدخان 1 - 10
تقدم القول في * (حم) *
وقوله * (والكتاب المبين) * قسم أقسم الله تعالى به
و * (المبين) * يحتمل ان يكون من الفعل المتعدي أي يبين الهدى والشرع ونحوه ويحتمل ان يكون من غير المتعدي أي هو مبين في نفسه
وقوله تعالى * (إنا أنزلناه) * يحتمل ان يقع القسم عليه ويحتمل ان يكون * (إنا أنزلناه) * من وصف الكتاب فلا يحسن وقوع القسم عليه وهذا اعتراض يتضمن تفخيم الكتاب ويحسن القسم به ويكون الذي وقع القسم عليه * (إنا كنا منذرين) *
واختلف الناس في تعيين الليلة المباركة فقال قتادة والحسن هي ليلة القدر وقالوا إن كتب الله كلها إنما نزلت في رمضان التوراة في أوله والإنجيل في وسطه والزبور في نحو ذلك ونزل القرآن في آخره في ليلة القدر ومعنى هذا النزول أن ابتداء النزول كان في ليلة القدر وهذا قول الجمهور
وقالت فرقة بل انزله الله جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور ومن هنالك كان جبريل يتلقاه
وقال عكرمة وغيره الليلة المباركة هي النصف من شعبان
وقوله * (فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا) * معناه يفصل من غيره ويتخلص وروي عن عكرمة في تفسير هذه الآية ان الله تعالى يفصل للملائكة في ليلة النصف من شعبان وقال الحسن وعمير مولى غفرة ومجاهد وقتادة في ليلة القدر كل ما في العام المقبل من الأقدار والآجال والأرزاق وغير ذلك
68

ويكتب ذلك لهم إلى مثلها من العام المقبل
قال هلال بن يساف كان يقال انتظروا القضاء في شهر رمضان
وروي في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الرجل يتزوج ويعرس وقد خرج اسمه في الموتى لأن الآجال تقطع في شعبان)
وقرا الحسن والأعرج والأعمش (يفرق) بفتح الياء وضم الراء و * (حكيم) * بمعنى محكم
وقوله * (أمرا من عندنا) * نصب على المصدر
وقوله * (من عندنا) * صفة لقوله * (أمرا) *
وقوله * (إنا كنا مرسلين) * يحتمل ان يريد الرسل والأنبياء ويحتمل ان يريد الرحمة التي ذكر بعد وعلى التأويل الأول نصب قوله * (رحمة) * على المصدر ويحتمل ان يكون نصبها على الحال
وقوله * (إن كنتم موقنين) * تقرير وتثبيت أي إن كنت موقنا بهذا يكون يقينك كما تقول لإنسان تقيم نفسه العلم غرضك إن كنت رجلا
وقوله * (ربكم ورب آبائكم الأولين) * أي مالككم ومالك آبائكم الأولين
وقرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (رب السماوات) بالرفع على القطع والاستئناف وهي قراءة الأعرج وابن أبي إسحاق وأبي جعفر وشيبة
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالكسر على البدل * (من ربك) * المتقدم وهي قراءة ابن محيصن والأعمش
واما قوله تعالى (ربكم ورب) فالجمهور على رفع الباء
وقرأ الحسن بالكسر رواها أبو موسى عن الكسائي
وقوله تعالى * (بل هم في شك) * إضراب قبله نفي مقدر كأنه يقول ليس هؤلاء ممن يؤمن ولا ممن يتبع وصاة بل هم في شك يلعبون في أقوالهم وأعمالهم
واختلف الناس في الدخان الذي امر الله تعالى بارتقابه فقالت فرقة منها علي بن أبي طالب وزيد بن علي وابن عمر وابن عباس والحسن بن أبي الحسن وأبو سعيد الخدري هو دخان يجيء قبل يوم القيامة يصيب المؤمن منه مثل الزكام وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين حتى تكون كأنها مصلية حنيذة
وقالت فرقة منها عبد الله بن مسعود وأبو العالية وإبراهيم النخعي هو الدخان الذي رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف فكان الرجل يرى من الجدب والجوع دخانا بينه وبين السماء وما يأتي من الآيات يقوي هذا التأويل
وقال ابن مسعود خمس قد مضين الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم وذكر الطبري حديثا عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن أول آيات الساعة الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن) وضعف البطري سند هذا الحديث واختار قول ابن مسعود رضي الله عنه في الدخان قال ويحتمل ان صح حديث حذيفة ان يكون قد مر دخان ويأتي دخان
69

قوله عز وجل
سورة الدخان 11 - 18
* (يغشى) * معناه يغطي
وقوله تعالى * (هذا عذاب أليم) * يحتمل ان يكون إخبارا من الله تعالى كأنه يعجب منه على نحو من قوله تعالى لما وصف قصة الذبح * (إن هذا لهو البلاء المبين) * الصافات 106 ويحتمل ان يكون * (هذا عذاب أليم) * من قول الناس كان تقدير الكلام يقولون هذا عذاب أليم ويؤيد هذا التأويل سياقه حكاية عنهم انهم يقولون * (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) * وعلم الله تعالى ان قولهم في حال الشدة * (إنا مؤمنون) * إنما هو عن غير حقيقة منهم فدل على ذلك بقوله * (أنى لهم الذكرى) * أي من أين لهم أن يتذكروا وهم قد تركوا الذكرى وراء ظهورهم بأن جاءهم رسول مبين وهو محمد عليه السلام فكفروا به
أي أعرضوا * (تولوا عنه) * أيأعرضوا وقالوا إنه يعلم هذا الكلام الذي يتلو وانه * (مجنون) * وإخباره تعالى بأنه يكشف عنهم * (العذاب قليلا) * إخبار عن إقامة الحجة عليهم ومبالغة في الإملاء لهم ثم أخبرهم بأنهم عائدون إلى الكفر
وقال قتادة هو توعد بمعاد الآخرة ثم أخبرهم بأنه ينتقم منهم بسبب هذا كله في يوم البطشة وقدم اليوم وذكره على الذي عمل فيه تهمما به وتخويفا منه والعامل فيه * (منتقمون) * وقد ضعف البصريون هذا من حيث هو خبر إن وأبعدوا ان يعمل خبرها فيما قبلها وقالوا العامل فعل مضمر يدل عليه * (منتقمون) *
واختلف الناس في يوم * (البطشة الكبرى) * فقال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة هو يوم القيامة وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس أيضا وأبي بن كعب ومجاهد هو يوم بدر
وقرا جمهور الناس (نبطش) بفتح النون وكسر الطاء
وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضم الطاء
وقرا الحسن أيضا وأبو رجاء وطلحة بن مصرف بضم النون وكسر الطاء ومعناها نسلط عليهم من يبطش بهم ثم ذكر تعالى قوم فرعون على جهة المثال لقريش
و * (فتنا) * معناه امتحنا واختبرنا
والرسول الكريم قال قتادة هو موسى عليه السلام ومعنى الآية يعطي ذلك بلا خلاف وهنا متروك يدل عليه الظاهر تقديره قال لهم * (أدوا) * هذا مأخوذ من الأداء كأنه يقول أن ادفعوا إلي وأعطوني ومكنوني
واختلف المتأولون في الشيء المؤدى في هذه الآية ما هو فقال مجاهد وابن زيد وقتادة طلب منهم ان يؤدوا اليه بني إسرائيل وإياهم أراد بقوله * (عباد الله) * وقال ابن عباس المعنى اتبعوني إلى ما أدعوكم اليه من الحق فقوله * (عباد الله) * منادى مضاف والمؤدى هي الطاعة والإيمان والأعمال
قال القاضي أبو محمد والظاهر من شرع موسى عليه السلام انه بعث إلى دعاء فرعون إلى الإيمان
70

وان يرسل بني إسرائيل فلما أبى ان يؤمن ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل وفي إرسالهم هو قوله * (أن أدوا إلي عباد الله) * أي بني إسرائيل ويقوي ذلك قوله بعد * (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) * الدخان 21 وهذا قريب نص في أنه إنما يطلب بني إسرائيل فقط ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى * (فأسر بعبادي) * فيظهر انه إياهم أراد موسى بقوله * (عباد الله) * وقوله * (رسول أمين) * معناه على وحي الله تعالى أوديه إلى عباده
قوله عز وجل
سورة الدخان 19 - 28
المعنى كانت رسالته وقوله * (أن أدوا) * الدخان 18 " وان تعلوا " وعبر بالعلو عن الطغيان والعتو على الله تعالى وعلى شرعه وعلى رسوله
وقرا الجمهور (إني آتيكم) بكسرالألف على الإخبار المؤكد والسلطان الحجة فكأنه قال لا تكفروا فإن الدليل المؤدي إلى الإيمان بين
وقرأت فرقة (إني آتيكم) بفتح الألف
و (أن) في موضع نصب بمعنى لا تكفروا من اجل أني آتيكم بسلطان مبين فكأن مقصد هذا الكلام التوبيخ كما تقول لإنسان لا تغضب لأن الحق قيل لك
وقوله * (وإني عذت) * الآية كلام قاله موسى عليه السلام لخوف لحقه من فرعون وملئه و * (عذت) * معناه استجرت وتحرمت
وادغم الدال في التاء الأعرج وأبو عمرو
واختلف الناس في قوله * (أن ترجمون) * فقال قتادة وغيره أراد الرجم بالحجارة المؤدي إلى القتل
وقال ابن عباس وأبو صالح أراد الرجم بالقول من السباب والمخالفة ونحوه والأول أظهر لأنه أعيذ منه ولم يعذ من الآخر بل قيل فيه عليه السلام وله
وقوله * (تؤمنوا لي) * بمعنى تؤمنوا بي
والمعنى تصدقوا
وقوله * (فاعتزلون) * مشاركة صريحة
قال قتادة أراد خلوا سبيلي
وقوله * (فدعا ربه) * قبله محذوف من الكلام تقديره فما كفوا عنه بل تطرقوا اليه وعتوا عليه وعلى دعوته * (فدعا ربه) *
وقرا الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى (إن هؤلاء) بكسر الألف من (إن) على معنى (قال إن) وقرأ جمهور الناس والحسن أيضا (ان هؤلاء) بفتح الألف والقراءتان حسنتان
71

وحكم عليهم بالإجرام المضمن للكفر حين يئس منهم وهنا أيضا محذوف من الكلام تقديره فقال الله له * (فأسر بعبادي) * وهذا هو الأمر الذي انفذه الله إلى موسى بالخروج من ديار مصر ببني إسرائيل وقد تقدم شرحه وقصصه في سورة الأنبياء وغيرها
وقرا جمهور الناس (فاسر) موصوله بالألف
وقرأ (فأسر) بقطع الألف الحسن وعيسى ورويت عن أبي عمرو
واعلمه تعالى بأنهم * (متبعون) * اي يتبعهم فرعون وجنوده
واختلف المفسرون في قوله تعالى * (واترك البحر رهوا) * متى قالها لموسى فقالت فرقة هو كلام متصل * (إنكم متبعون واترك البحر) * إذا انفرق لك * (رهوا
) *
وقال قتادة وغيره خوطب به بعد ما اجتاز البحر وخشي ان يدخل فرعون وقومه وراءه وأن يخرجوا من المسالك التي خرج منها بنو إسرائيل فهم موسى ان يضرب البحر عسى ان يلتئم ويرجع إلى حاله فقيل له عند ذلك * (واترك البحر رهوا) *
واختلفت عبارة المفسرين في تفسير الرهو فقال مجاهد وعكرمة معناه يبسا من قوله تعالى * (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) * طه 77
وقال الضحاك بن مزاحم معناه دمثا لينا
وقال عكرمة أيضا جردا وقال ابن زيد سهلا
وقال ابن عباس معناه ساكنا اي كما جزته وهذا القول الأخير هو الذي تؤيده اللغة فإن العيش الواهي هو الذي هو في خفض ودعة وسكون حكاه المبرد وغيره
والرهو في اللغة هو هذا المعنى ومنه قول عمرو بن شييم القطامي
(يمشون رهوا فلا الإعجاز خاذلة
* ولا الصدور على الاعجاز تتكل)
فإن معناه يمشون اتئادا وسكونا وتماهلا
ومنه قول الآخر
(وأمة خرجت رهوا إلى عيد
*)
أي خرجوا في سكون وتماهل فقيل لموسى عليه السلام اترك البحر ساكنا على حاله من الانفراق ليقضي الله امرا كان مفعولا
والرهو من أسماء الكركي الطائر ولا مدخل له في تفسير هذه الآية ويشبه عندي ان سمي رهوا لسكونه وانه أبدا على تماهل
وقوله * (كم تركوا) * الآية قبله محذوف تقديره فغرقوا وقطع الله دابرهم ثم أخذ يعجب من كثرة ما تركوا من الأمور الرفيعة الغبيطة في الدنيا و * (كم) * خبر للتكثير
والجنات والعيون روي أنها كانت متصلة ضفتي النيل جميعا من رشيد إلى أسوان
واما العيون فيحتمل انه أراد الخلجان الخارجة من النيل فشبهها بالعيون ويحتمل انه كانت ثم عيون ونضبت كما يعتري في كثير من بقاع الأرض
وقرا قتادة ومحمد بن السميفع اليماني ونافع في رواية خارجة عنه (ومقام) بضم الميم أي موضع إقامة
وكذلك قرأ اليماني في كل القرآن الا في مريم * (خير مقاما) * مريم 73 فكأن المعنى * (كم تركوا) * من موضع حسن كريم في قدره ونفعه
وقرا جمهور الناس ونافع (ومقام) بفتح الميم أي موضع قيام فعلى هذه القراءة قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير أراد المنابر
وعلى ضم الميم في (مقام) قال قتادة أراد المواضع الحسان من المساكن وغيرها والقول بالمنابر بهي جدا
72

والنعمة بفتح النون غضارة العيش ولذاذة الحياة والنعمة بكسر النون أعم من هذا لأن النعمة بالفتح هي من جملة النعم بالكسر وقد تكون الأمراض والآلام والمصائب نعما ولا يقال فيها نعمة بالفتح
وقرا أبو رجاء (ونعمة) بالنصب
وقرأ جمهور الناس (فاكهين) بمعنى ناعمين
والفاكه الطيب النفس أو يكون بمعنى أصحاب فاكهة كلابن وتامر
وقرا أبو رجاء والحسن بخلاف عنه وابن القعقاع (فكهين) ومعناه قريب من الأول لأن الفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزىء فكأنه هنا يقول كانوا في هذه النعمة مستخفين بشكرها والمعرفة بقدرها
وقوله * (كذلك وأورثناها) * معناه الأمر كذلك وسماها وراثة من حيث كانت أشياء أناس وصلت إلى قوم آخرين من بعد موت الأولين وهذه حقيقة الميراث في اللغة وربطها الشرع بالنسب وغيره من أسباب الميراث والآخرون من ملك مصر بعد القبط
وقال قتادة القوم الآخرون هو بنو إسرائيل وهذا ضعيف لأنه لم يرو ان بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ولا ملكوها قط الا ان يريد قتادة انهم ورثوا نوعها في بلاد الشام وقد ذكر الثعلبي عن الحسن ان بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون
قوله عز وجل
سورة الدخان 29 - 36
نفت هذه الآية أن تكون السماء والأرض بكت على قوم فرعون فاقتضى ان للسماء والأرض بكاء
واختلف المتأولون في معنى ذلك فقال علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد وابن جبير إن الرجل المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض موضع عبادته أربعين صباحا
وبكى عليه من السماء موضع صعود عمله قالوا فلم يكن في قوم فرعون من هذه حاله فهذا معنى الآية
وقال السدي وعطاء بكاء السماء حمرة أطرافها
وقالوا إن السماء احمرت يوم قتل الحسين بن علي وكان ذلك بكاء عليه وهذا هو معنى الآية
قال القاضي أبو محمد والمعنى الجيد في الآية أنها استعارة باهية فصيحة تتضمن تحقير امرهم وانهم لم يتغير عن هلاكهم شيء وهذا نحو قوله تعالى * (وإن كان مكرهم لتزول) * إبراهيم 46 على قراءة من قرأ (لتزول) بكسر اللام ونصب الفعل وجعل * (أن) * إبراهيم 46 نافية ومثل هذا المعنى قول النبي عليه السلام (لا ينتطح فيهاعنزان) فإنه يتضمن التحقير لكن هذه الألفاظ هي بحسب ما قيلت فيه
73

وهو قتل المراة الكافرة التي كانت تؤذي النبي عليه السلام
وعظم قصة فرعون وقومه يجيء بحسبها جمال الوصف وبهاء العبارة في قوله * (فما بكت عليهم السماء والأرض) * ومن نحو هذا ان يعكس قول جرير
(لما اتى خبر الزبير تواضعت
* سور المدينة والجبال الخشع) الكامل
فيقال في تحقير مات فلان ما خشعت الجبال ونحو هذا وفي الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال (ما مات مؤمن في غربة عنه فيها بواكيه الا بكت عليه السماء والأرض) ثم قرأ هذه الآية وقال (إنهما لا يبكيان على كافر)
ومن التفخيم ببكاء المخلوقات العظام قول يزيد بن مفرغ
(الريح تبكي شجوه
* والبرق يلمع في غمامه) مجزوء الكامل
وقول الفرزدق
(فالشمس طالعة ليست بكاسفة
* تبكي عليك نجوم الليل والقمرا)
و * (منظرين) * معناه مؤخرين وممهلين
ثم ذكر تعالى نعمته على بني إسرائيل في إنجائهم من فرعون وقومه و * (العذاب المهين) * هو ذبح الأبناء والتسخير في المهن كالبنيان والحفر وغيره
وفي قراءة ابن مسعود (من عذاب المهين) بسقوط التعريف بالألف واللام من العذاب
وقوله * (من فرعون) * بدل من قوله * (من العذاب) * و (من) بكسر الميم هي قراءة الجمهور
وروى قتادة أن ابن عباس كان يقرأها (من) بفتح الميم) (فرعون) برفع النون
وقوله * (على علم) * أي على شيء سبق عندنا فيهم وثبت في علمنا أنه سينفذ
وقوله * (على العالمين) * يريد على جميع الناس هذا على التأويل المتقدم في العلم
والمعنى لقد اخترناها لهذا الإنجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم وخصصناهم بذلك دون العالم ويحتمل قوله * (على علم) * أن يكون معناه على علم وفضائل فيهم والمعنى اخترناهم للنبوءات والرسالات فيكون قوله * (على العالمين) * في هذا التأويل معناه على عالم زمانهم وذلك بدليل فضل أمة محمد لهم وعليهم وان أمة محمد خير أمة أخرجت للناس
وقوله تعالى * (وآتيناهم من الآيات) * لفظ جامع لمعجزات موسى وللعبر التي ظهرت في قوم فرعون من الجراد والقمل والضفادع وغير ذلك ولما أنعم به على بني إسرائيل من تظليل الغمام والمن والسلوى وغير ذلك فإن لفظ * (الآيات) * يعم جميع هذا
والبلاء في هذا الموضع الامتحان والاختبار وهذا كما قال تعالى * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) * الأنبياء 35 و * (مبين) * بمعنى بين
ثم ذكر تعالى قريشا وحكى عنهم على جهة الإنكار لقولهم حين أنكروا فيه ما هو جائز في العقل
74

فقال * (إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى) * أي ما آخر أمرنا ومنتهى وجودنا الا عند موتتنا وما نحن بمبعوثين من القبور يقال أنشر الله الميت فنشر هو وقول قريش * (فأتوا) * مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم الا انه من حيث كان النبي عليه السلام مسندا في أقواله وأفعاله إلى الله تعالى وبواسطة ملك خاطبوه كما تخاطب الجماعة وهم يريدونه وربه وملائكته
واستدعاء الكفار في هذه الآية ان يحيي لهم بعض آبائهم وسموا قصيا لكي يسألوهم عما رأوا في آخرتهم ولم يستقص في هذه الآية الرد عليهم لبيانه ولأنه مثبوت في غير ما آية من كتاب الله فإن الله تعالى قد جزم البعث من القبور في اجل مسمى لا يتعداه أحد وقد بينت الأمثلة من الأرض الميتة وحال النبات امر البعث من القبور
قوله عز وجل
سورة الدخان 37 - 44
قوله تعالى * (أهم خير) * الآية تقرير فيه وعيد و * (تبع) * ملك حميري وكان يقال لكل ملك منهم * (تبع) * الا ان المشار إليه في هذه الآية رجل صالح من التبابعة
قال كعب الأحبار ذم الله تعالى قومه ولم يذمه ونهى العلماء عن سبه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق سهل بن سعد ان تبعا هذا أسلم وآمن بالله وروي ان ذلك كان على يد أهل كتاب كانوا بحضرته
وقال ابن عباس كان * (تبع) * نبيا
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أدري أكان * (تبع) * نبيا أم غير نبي
وقال ابن جبير هو الذي كسا الكعبة وقد ذكره ابن إسحاق في السيرة والله أعلم
وقوله تعالى " إنهم كانوا مجرمين " يريد بالكفر
وقرأت فرقة (انهم) بفتح الألف
وقرأ الجمهور بكسرها
وقوله تعالى * (وما خلقنا السماوات) * الآية إخبار فيه تنبيه وتحذير
وقوله * (إلا بالحق) * يريد بالواجب المقتضي للخيرات وفيض الهبات
و * (يوم الفصل) * هو يوم القيامة وهذا هو الاخبار بالبعث وهو امر جوزه العقل وأثبته الشرع بهذه الآية وغيرها
والمولى في هذه الآية يعم جميع الموالي من القرابات وموالي العتق وموالي الصداقة
وقوله * (ولا هم ينصرون) * إن كان الضمير يراد به العالم فيصح ان يكون من قوله * (إلا من) * في موضع نصب على الاستثناء المتصل وإن كان الضمير يراد به الكفار فالاستثناء منقطع ويصح ان يكون في موضع رفع علة الابتداء والخبر تقديره
فإنه يغني بعضهم عن بعض في الشفاعة ونحوها أو يكون تقديره فإن الله ينصره
75

وقوله تعالى * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) * روي عن ابن زيد * (الأثيم) * المشار اليه أبو جهل ثم هي بالمعنى تتناول كل أثيم وهو كل فاجر يكتسب الإثم وروي عن ابن زيد ان أبا الدرداء أقرأ أعرابيا فكان يقول (طعام اليتيم) فرد عليه أبو الدرداء مرارا فلم يلقن فقال له قل (طعام الفاجر) فقرئت كذلك وإنما هي على التفسير
و " شجرت الزقوم " هي الشجرة الملعونة في القرآن وهي تنبت في أصل الحجيم وهي التي طلعها كأنه رؤوس الشياطين
وروي ان أبا جهل لما نزلت هذه الآية فيه وأشار الناس بها إليه جمع عجوة بزبد ودعا إليها ناسا وقال لهم (تزقموا فإن الزقوم هو عجوة يثرب بالزبد وهو طعامي الذي حدث به محمد) وإنما قصد بذلك ضربا من المغالطة والتلبيس على الجهلة
قوله عز وجل
سورة الدخان 45 - 59
قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما (المهل) دردي الزيت وعكره
وقال ابن مسعود وابن عباس أيضا (المهل) ما ذاب من ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص ونحوه
قال الحسن كان ابن مسعود على بيت المال لعمر بالكوفة فأذاب يوما فضة مكسرة فلما انماعت قال يدخل من الباب فدخلوا فقال لهم هذا أشبه ما رأينا في الدنيا بالمهل
والمعنى ان هذه الشجرة إذا طعمها الكافر في جهنم صارت في جوفه تفعل كما يفعل المهل السخن من الإحراق والإفساد
وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر (تغلي) بالتاء على معنى تغلي الشجرة وهي قراءة عمرو بن ميمون وأبي رزين والحسن والأعرج وابن محيصن وطلحة
وقرا ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص (يغلي) على معنى يغلي الطعام وهي قراءة مجاهد وقتادة والحسن بخلاف عنه
و * (الحميم) * الماء الساخن الذي يتطاير من غليانه
وقوله تعالى * (خذوه) * الآية معناه يقال يومئذ للملائكة عن هذا الأثيم * (خذوه فاعتلوه) *
76

والعتل السوق بعنف وإهانة ودفع قوي متصل كما يساق أبدا مرتكب الجرائم وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بضم التاء والباقون بكسرها وقد روي الضم عن أبي عمرو وكذلك روي الوجهان عن الحسن وقتادة والأعرج
والسواء الوسط وقيل المعظم وذلك متلازم في العظم أبدا من مثل هذا إنما هو في الوسط وفي الآية ما يقتضي ان الكافر يصب على رأسه من حميم جهنم وهو ما يغلى فيها من ذوب وهذا كما في قوله تعالى * (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) * الحج 19 وإلى هذا نظر بعض ولاة المدينة فإنه كان يصب الخمر على رأس الذي شربها أو توجد عنده عقوبة له وأدبا وذكر ذلك ابن حبيب في الواضحة
وقوله تعالى * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * مخاطبة على معنى هذا التقريع ويروى عن قتادة أن أبا جهل لما نزلت * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) * الدخان 43
- 44 قال أيتهددني محمد وانا ما بين جبليها أعزمني وأكرم فنزلت هذه الآيات وفي آخرها * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * أي على قولك وهذا كما قال جرير
(ألم يكن في وسوم قد وسمت بها
* من خان موعظة يا زهرة اليمن)
يقولها للشاعر الذي سمى نفسه به وذلك في قوله
(أبلغ كليبا وأبلغ عنك شاعرها
* أني الأعز واني زهرة اليمن)
فجاء بيت جرير على هذا الهزء
وقرأ الجمهور (إنك) بكسر الهمزة
وقرأ الكسائي وحده (أنك) بفتح الألف والمعنى واحد في المقصد وإن اختلف المؤخذ اليه وبالفتح قراها على المنبر الحسين بن علي بن أبي طالب أسنده إليه الكسائي وأتبعه فيها
وقوله تعالى * (إن هذا ما كنتم به تمترون) * عبارة عن قول يقال للكفرة عند عذابهم أي هذه الآخرة وجهنم التي كنتم تشكون فيها
ثم ذكر تعالى حالة المتقين بعقب ذكر حالة الكافر ليبين الفرق
وقرا نافع وابن عامر (في مقام) بضم الميم وهي قراءة أبي جعفر وشيبة وقتادة وعبد الله بن عمر بن الخطاب والحسن والأعرج
وقرا الباقون (في مقام) بفتحها وهي قراءة أبي رجاء وعيسى ويحيى والأعمش
و * (امين) * يؤمن فيه الغير فكأنه فعيل بمعنى مفعول أي مأمون فيه
وكسر عاصم العين من (عيون) قال أبو حاتم وذلك مردود عند العلماء ومثله شيوخ وبيوت بكسر الشين والباء
والسندس رقيق الحرير
والإستبرق خشينه
وقرأ ابن محيصن (وإستبرق) بالوصل وفتح القاف
77

وقوله * (متقابلين) * وصف لمجالس أهل الجنة لأن بعضهم لا يستدبر بعضا في المجالس وقوله * (كذلك وزوجناهم) * تقديره والأمر كذلك
وقرا الجمهور (عين) وهو جمع عيناء
وقرأ ابن مسعود (عيس) وهو جمع عيساء وهي أيضا البيضاء وكذلك هي من النوق
وقرا عكرمة (بحور عين) على ترك التنوين في (حور) وأضافها إلى (عين) قال أبو الفتح الإضافة هنا تفيد ما تفيد الصفة وروى أبو قرصافة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إخراج القمامة من المسجد من مهور الحور العين)
وقوله تعالى * (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) * معناه يدعون الخدمة والمتصرفين
وقوله تعالى * (إلا الموتة الأولى) * قدر قوم * (الآ) * بسوى وضعف ذلك الطبري وقدرها ببعد وليس تضعيفه بصحيح بل يصح المعنى بسوى ويتسق واما معنى الآية فبين انه نفى عنهم ذوق الموت وانه لا ينالهم من غير ذلك ما تقدم في الدنيا والضمير في قوله * (يسرناه) * عائد على القرآن
وقوله * (بلسانك) * معناه بلغة العرب ولم يرد الجارحة
وقوله * (فارتقب إنهم مرتقبون) * معناه * (فارتقب) * نصرنا لك * (إنهم مرتقبون) * فيما يظنون الدوائر عليك وفي هذه الآية وعد له ووعيد لهم وفيها متاركة وهذا وما جرى منسوخ بآية السيف
78

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجاثية
هذه السورة مكية لا خلاف في ذلك
قوله عز وجل
سورة الجاثية 1 - 6
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور
و * (تنزيل) * رفع بالابتداء أو على خبر ابتداء مضمر
و * (العزيز) * معناه عام في شدة أخذه إذا انتقم ودفاعه إذا حمي ونصر وغير ذلك
و * (الحكيم) * المحكم للأشياء
وذكر تبارك الآيات التي في السماوات والأرض مجملة غير مفصلة فكأنها إحالة على غوامض تثيرها الفكر ويخبر بكثير منها الشرع فلذلك جعلها للمؤمنين إذ في ضمن الايمان العقل والتصديق
ثم ذكر تعالى خلق البشر والحيوان وكأنه أغمض مما أحال عليه أولا وأكثر تلخيصا فجعله للموقنين الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين في معتقداتهم
ثم ذكر تعالى اختلاف الليل والنهار والعبرة بالمطر والرياح فجعل ذلك * (لقوم يعقلون) * إذ كل عاقل يحصل هذه ويفهم قدرها وإن كان هذا النظر ليس بلازم ولا بد فإن اللفظ يعطيه
و * (يبث) * معناه ينشر في الأرض
والدابة كل حيوان يدب أو يمكن فيه ان يدب يدخل في ذلك الطير والحوت وشاهد الطير قول الشاعر
(صواعقها لطيرهن دبيب
*) الطويل
وقول الاخر
(دبيب قطا البطحاء في كل منهل
*) الطويل
وشاهد الحوت قول أبي موسى وقد ألقى البحر دابة مثل الظرب ودواب البحر لفظ مشهور في اللغة
79

وقرا حمزة والكسائي (آيات) بالنصب في الموضعين الآخرين
وقرا الباقون والجمهور (آيات) بالرفع فيهما فاما من قرأ بالنصب فحمل (آيات) في الموضعين على نصب * (أن) * في قوله * (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين) * ولا يعرض في ذلك العطف على عاملين الذي لا يجيزه سيبويه وكثير من النحويين لأنا نقدر " في " معادة في قوله * (واختلاف) * وكذلك هي في مصحف ابن مسعود (وفي اختلاف) فكأنه قال على قراءة الجمهور (وفي اختلاف الليل) وذلك أن ذكرها قد تقدم في قوله * (وفي خلقكم) * فلما تقدم ذكر الجار جاز حذفه من الثاني ويقدر مثبتا كما قدر سيبويه في قول الشاعر أبو دؤاد الأيادي
(أكل امرئ تحسبين امرا
* ونار توقد بالليل نارا) المتقارب
أي وكل نار وكما قال الآخر
(أوصيت من برة قلبا حرا
* بالكلب خيرا والحماة شرا) الرجز
أي وبالحماة وهذا الاعتراض كله إنما هو في * (آيات) * الثاني لأن الأول قبله حرف الجر ظاهر
وفي قراءة أبي بن كعب وابن مسعود في الثلاثة المواضع (الآيات)
قال أبو علي وهذا يدل على أن الكلام محمول على أن في قراءة من أسقط اللامات في الاثنين الآخرين واما من رفع (آيات) في الموضعين فوجهه العطف على موضع * (أن) * وما عملت فيه لأن موضعها رفع بالابتداء ووجه آخر وهو ان يكون قوله * (وفي خلقكم وما يبث) * مستأنفا ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة وقال بعض الناس يجوز ان يكون جملة في موضع الحال فلا تكون غريبة على هذا
* (واختلاف الليل والنهار) * إما بالنور والظلام وإما بكونهما خلفة
والرزق المنزل من السماء هو المطر سماه رزقا بمآله لأن جميع ما يرتزق فعن المطر هو
* (وتصريف الرياح) * وهو بكونها صبا ودبورا وجنوبا وشمالا وأيضا فبكونها مرة رحمة ومرة عذابا قال قتادة وأيضا بلينها وشدتها وبردها وحرها
وقرا طلحة وعيسى (وتصريف الريح) بالإفراد وكذلك في جميع القرآن الا ما كان فيه مبشرات وخالف عيسى في الحجر فقرأ * (الرياح لواقح) * الحجر 22
وقوله * (تلك آيات الله) * إشارة إلى ما ذكر
وقوله * (نتلوها) * فيه حذف مضاف أي يتلو شأنها وتفسيرها وشرح العبرة لها ويحتمل ان يريد ب * (آيات الله) * القرآن المنزل في هذه المعاني فلا يكون في * (نتلوها) * حذف مضاف
وقوله * (بالحق) * معناه بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها
وقوله * (فبأي حديث) * الآية توبيخ وتقريع وفيه قوة التهديد
وقرا ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة (يؤمنون) بالياء من تحت
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم أيضا والأعمش (تؤمنون) بالتاء على مخاطبة الكفار
وقرا طلحة بن مصرف (توقنون) بالتاء من فوق من اليقين
80

قوله عز وجل
سورة الجاثية 7 - 11
الويل في كلام العرب المصائب والحزن والشدة من هذه المعاني وهي لفظة تستعمل في الدعاء على الإنسان
وروي في بعض الآثار ان في جهنم واديا اسمه * (ويل) * وذهب الطبري إلى أنه المراد بالآية ومقتضى اللغة انه الدعاء على أهل الإفك والإثم بالمعاني المتقدمة
والإفاك الكذاب الذي يقع منه الإفك مرارا
والأثيم بناء مبالغة اسم فاعل من أثم يأثم
وروي ان سبب هذه الآية أبو جهل وقيل النضر بن الحارث والصواب ان سببها ما كان المذكوران وغيرهما يفعل وانها تعم كل من دخل تحت الأوصاف المذكورة إلى يوم القيامة و * (يصر) * معناه يثبت على عقيدته من الكفر
وقوله * (فبشره بعذاب) * حسن ذلك أفصح عن العذاب ولو كانت البشارة غير مقيدة بشيء لما حصلت الا على المحاب
وقرا جمهور الناس (وإذا علم) بفتح العين وتخفيف اللام والمعنى وإذا أخبر بشيء * (من آياتنا) * فعلم نفس الخبر لا المعنى الذي تضمنه الخبر ولو علم المعاني التي تضمنها إخبار الشرع وعرف حقائقها لكان مؤمنا
وقرا قتادة ومطر الوراق (علم) بضم العين وشد اللام
وقوله * (أولئك) * رد على لفظ كل أفاك لأنه اسم جنس له الصفات المذكورة بعد قوله * (من ورائهم جهنم) * قال فيه بعض المفسرين معناه من امامهم وهذا نحو الخلاف الذي في قوله تعالى * (وكان وراءهم ملك) * الكهف 79 ولحظ قائل هذه المقالة الأمر من حيث تأول ان الإنسان كأنه من عمره يسير إلى جنة أو نار فهما امامه وليس لفظ الوراء في اللغة كذلك وإنما هو ما يأتي خلف الإنسان وإذا اعتبر الأمر بالتقدم أو التأخر في الوجود على أن الزمان كالطريق للأشياء استقام الأمر فما يأتي بعد الشيء في الزمان فهو وراءه فكان الملك وأخذه السفينة وراء ركوب أولئك إياها وجهنم وإحراقها للكفرة يأتي بعد كفرهم وأفعالهم وهذا كما تقول افعل كذا وانا من ورائك عضدا وكما تقول ذلك على التهديد انا من وراء التقصي عليك ونحو هذا
وقوله تعالى * (ولا ما اتخذوا) * يعني بذلك الأوثان
وقوله تعالى * (هذا هدى) * إشارة إلى القرآن
81

وقرا ابن كثير وعاصم في رواية حفص (أليم) على النعت ل * (عذاب) * وهي قراءة ابن محيصن وابن مصرف وأهل مكة
وقرأ الباقون (أليم) على النعت ل * (رجز) * وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وشيبة وعيسى والأعمش
والرجز أشد العذاب
وقوله * (لهم عذاب) * بمنزلة قولك لهم حظ فمن هذه الجهة ومن جهة تغاير اللفظتين حسن قوله * (عذاب من رجز) * إذ الرجز هو العذاب
قوله عز وجل
سورة الجاثية 12 - 14
هذه آية عبرة في جريان السفينة في البحر وذلك أن الله تعالى سخر هذا المخلوق العظيم لهذا المخلوق الحقير الضعيف
وقوله * (بأمره) * أقام القدرة والإذن مناب ان يأمر البحر والناس بذلك
والابتغاء من فضل الله هو بالتجارة في الأغلب وكذلك مقاصد البر من حج أو جهاد هي أيضا ابتغاء فضل والتصير فيه هو ابتغاء فضل
وتسخير * (ما في السماوات) * هو تسخير الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء والملائكة الموكلة بهذا كله ويروي ان بعض الأحبار نزل به ضيف فقدم اليه رغيفا فكان الضيف احتقره فقال له المضيف لا تحتقره فإنه لم يستدر حتى تسخر فيه من المخلوقات والملائكة ثلاثمائة وستون بين ما ذكرنا من مخلوقات السماء وبين الملائكة وبين صناع بني آدم الموصلين إلى استدارة الرغيف وتسخير ما في الأرض هو تسخير البهائم والمياه والأودية والجبال وغير ذلك
ومعنى قوله * (جميعا منه) * قال ابن عباس كل إنعام فهو من الله تعالى
وقرأ جمهور الناس (منه) وهو وقف جيد
وقرأ مسلمة بن محارب (منه) بفتح الميم وشد النون المضمومة بتقدير هو منه
وقرأ ابن عباس بكسر الميم وفتح النون المشددة ونصب التاء على المصدر
قال أبو حاتم سند هذه القراءة إلى ابن عباس مظلم وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وعبد الله بن عمر والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير
وقرا مسلمة بن محارب أيضا (منة) بكسر الميم وبالرفع في التاء
وقوله تعالى * (قل للذين آمنوا يغفروا) * الآية آية نزلت في صدر الإسلام أمر الله المؤمنين فيها ان يتجاوزوا عن الكفار وان لا يعاقبوهم بذنب بل يأخذون أنفسهم
بالصبر قاله محمد بن كعب القرظي والسدي
قال أكثر الناس وهذه آية منسوخة بآية القتال وقالت فرقة الآية محكمة والآية تتضمن الغفران عموما فينبغي ان يقال إن الأمور العظام كالقتل والكفر مجاهرة ونحو ذلك قد نسخ غفرانه آية السيف
82

والجزية وما احكمه الشرع لا محالة وإن الأمور المحقرة كالجفاء في القول ونحو ذلك يحتمل ان يتقى محكمه وأن يكون العفو عنها أقرب إلى التقوى
وقال ابن عباس لما نزلت * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * البقرة 245 قال فنحاص اليهودي
احتاج رب محمد فأخذ عمر سيفه ومر ليقتله فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (إن ربك يقول * (قل للذين آمنوا) *) الآية فهذا احتجاج بها مع قدم نزولها
وقد ذكر مكي وغيره انها نزلت بمكة في عمر رضي الله عنه لما أراد ان يبطش بمشرك شتمه
واما الجزم في قوله * (يغفروا) * فهو جواب شرط مقدر تقديره قل اغفروا فإن يجيبوا يغفروا
وأخصر عندي من هذا ان * (قل) * هي بمثابة أندب المؤمنين إلى الغفر
وقوله * (أيام الله) * قالت فرقة معناه أيام إنعامه ونصره وتنعيمه في الجنة وغير ذلك ف * (يرجون) * على هذا هو من بابه
وقال مجاهد * (أيام الله) * تعالى هي أيام نقمه وعذابه ف * (يرجون) * على هذا هي التي تتنزل منزلة يخافون وإنما تنزلت منزلتها من حيث الرجاء والخوف متلازمان لا تجد أحدهما إلا والآخر معه مقترن وقد تقدم شرح هذا غير مرة وقرا جمهور القراء (ليجزي) بالياء على معنى ليجزي الله
وقرا ابن عامر وحمزة والكسائي والأعمش وأبو عبد الرحمن وابن وثاب
(لنجزي) بالنون
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بخلاف عنه (ليجزى) على بناء الفعل للمفعول (قوما وهذا على أن يكون التقدير ليجزي الجزاء قوما وباقي الآية وعيد
قوله عز وجل
سورة الجاثية 15 - 17
لما تقرر في التي قبل هذه أن الله يجزي قوما بكسبهم ويعاقبهم بذنوبهم واجترامهم أكد ذلك بقوله تعالى * (من عمل صالحا فلنفسه) *
وقوله * (فلنفسه) * هي لام الحظ لأن الحظوظ والمحاب إنما يستعمل فيها اللام التي هي كلام الملك تقول الأمور لزيد متاتية وتستعمل في ضد ذلك على فتقول الأمور على فلان مستصعبة وتقول لزيد مال وعليه دين وكذلك جاء العمل الصالح في هذه الآية باللام والإشارة ب (على)
وقوله تعالى * (ثم إلى ربكم ترجعون) * معناه إلى قضائه وحكمه و * (الكتاب) * في قوله * (آتينا بني إسرائيل الكتاب) * هو التوراة
* (والحكم) * هو السنة والفقه فيقال إنه لم يتسع فقه الأحكام على لسان نبي ما اتسع على لسان موسى عليه السلام " والنبوءة " هي ما تكرر فيهم من الأنبياء
وقوله تعالى * (ورزقناهم من الطيبات) * يعني المستلذات الحلال وبهذين تتم النعمة ويحسن
83

تعديدها وهذه إشارة إلى المن والسلوى وطيبات الشام بعد إذ هي الأرض المباركة وقد تقدم القول في معنى * (الطيبات) * وتلخيص قول مالك والشافعي في ذلك
وقوله تعالى * (على العالمين) * يريد على عالم زمانهم
والبينات من الأمر هو الوحي الذي فصلت لهم به الأمور
ثم أوضح تعالى خطأهم وعظمه بقوله " فما اختلفوا الا من بعد ماجاءهم العلم بغيا بينهم " وذلك انهم لو اختلفوا اجتهادا في طلب صواب لكان لهم عذر في الاختلاف وإنما اختلفوا بغيا وقد تبينوا الحقائق ثم توعدهم تعالى بوقف أمرهم على قضائه بينهم يوم القيامة
قوله عز وجل
سورة الجاثية 18 - 21
المعنى * (ثم جعلناك على شريعة) * فلا محالة انه سيختلف عليك كما تقدم لبني إسرائيل فاتبع شريعتك والشريعة في كلام العرب الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ومنه قول الشاعر
(وفي الشرائع من جلال مقتنص
* رث الثياب خفي الشخص منسرب) البسيط
قشريعة الدين هي من ذلك كأنها من حيث يرد الناس أمر الحدود ورحمته والقرب منه
وقال قتادة الشريعة الفرائض والحدود والأمر والنهي
وقوله * (من الأمر) * يحتمل ان يكون واحد الأمور أي من دون الله ونبواته التي بثها في سالف الزمان ويحتمل ان يكون مصدرا من امر يأمر أي على شريعة من الأوامر والنواهي فسمى جميع ذلك أمرا و * (الذين لا يعلمون) * هم الكفار الذين كانوا يريدون صرف محمد صلى الله عليه وسلم إلى إرادتهم
و * (يغنوا) * من الغناء أي لن يكون لهم عنك دفاع
ثم حقر تعالى شان الظالمين مشيرا بذلك إلى كفار قريش ووجه التحقير أنه قال هؤلاء يتولى بعضهم بعضا والمتقون يتولاهم الله فخرجوا عن ولاية الله وتبرأت منهم ووكلهم الله بعضهم إلى بعض
وقوله تعالى * (هذا بصائر) * يريد القرآن
والبصائر جمع بصيرة وهي المعتقد الوثيق في الشيء كأنه مصدر من إبصار القلب فالقرآن فيه بيانات ينبغي أن تكون بصائر
والبصيرة في كلام العرب الطريقة من الدم ومنه قول الشاعر يصف جده في طلب الثأر وتواني غيره
84

(راحوا بصائرهم على أكتافهم
* وبصيرتي يعدو بها عتد وأي) الكامل
وفسر الناس هذا البيت بطريقة الدم إذ كانت عادة طالب الدم عندهم ان يجعل طريقة من دم خلف ظهره ليعلم بذلك انه لم يدرك ثأره وأنه يطلبه ويظهر فيه انه يريد بصيرة القلب أي قد اطرح هؤلاء بصائرهم وراء ظهورهم
وقوله تعالى * (أم حسب) * الآية قول يقتضي انه نزل بسبب افتخار كان للكفار على المؤمنين قالوا لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن عليكم فيها كما فضلنا في الدنيا و * (أم) * هذه ليست بمعادلة وهي بمعنى بل مع ألف الاستفهام و * (اجترحوا) * معناه اكتسبوا ومنه جوارح الإنسان ومنه الجوارح في الصيد وتقول العرب فلان جارحة أهله أي كاسبهم
وقرأ أكثر القراء (سواء) بالرفع (محياهم ومماتهم) بالرفع وهذا على أن (سواء) رفع بالابتداء (ومحياهم ومماتهم) خبره
و * (كالذين) * في موضع المفعول الثاني ل (نجعل) وهذا على أحد معنيين إما ان يكون الضمير في * (محياهم) * يختص بالكفار المجترحين فتكون الجملة خبرا عن أن حالهم في الزمنين حال سوء
والمعنى الثاني ان يكون الضمير في * (محياهم) * يعم الفريقين والمعنى ان محيا هؤلاء ومماتهم سواء وهو كريم ومحيا الكفار ومماتهم سواء وهو غير كريم ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى وذهن السامع يفرقه إذ تقدم أبعاد ان يجعل الله هؤلاء كهؤلاء
قال مجاهد المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه مقتضى هذا الكلام ان لفظ الآية خبر ويظهر لي ان قوله * (سواء محياهم ومماتهم) * داخل في المحسبة المنكرة السيئة وهذا احتمال والأول أيضا جيد
وقرا طلحة وعيسى بخلاف عنه (سواء) بالنصب (محياهم ومماتهم) بالرفع وهذا يحتمل وجهين أحدهما ان يكون قوله * (كالذين) * في موضع المفعول الثاني ل (جعل) كما هو في قراءة الرفع وينصب قوله (سواء) على الحال من الضمير في * (نجعلهم) *
والوجه الثاني ان يكون قوله * (كالذين) * في نية التأخير ويكون قوله (سواء) مفعولا ثانيا ل (جعل) وعلى كلا الوجهين (محياهم ومماتهم) مرتفع ب (سواء) على أنه فاعل
وقرا حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش (سواء) بالنصب (محياهم ومماتهم) بالنصب وذلك على الظرف أو على أن يكون (محياهم) بدلا من الضمير في * (نجعلهم) * أي نجعل محياهم ومماتهم سواء وهذه الآية متناولة بلفظها حال العصاة من حال أهل التقوى وهي موقف للعارفين فيكون عنده فيه وروي عن الربيع بن خيثم انه كان يرددها ليلة جمعاء وكذلك عن الفضيل بن عياض وكان يقول لنفسه ليت شعري من أي الفريقين أنت وقال الثعلبي كانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين
قال القاضي أبو محمد واما لفظها فيعطي انه اجتراح الكفر بدليل معادلته بالإيمان ويحتمل أن تكون المعادلة بين الاجتراح وعمل الصالحات ويكون الإيمان في الفريقين ولهذا ما بكى الخائفون رضوان الله عليهم وإما مفعولا * (حسب) * فقولهم * (أن نجعلهم) * يسد مسد المفعولين
وقوله * (ساء ما) *
85

يحكمون) * ما " مصدرية والتقدير ساء الحكم حكمهم
قوله عز وجل
سورة الجاثية 22 - 24
* (وخلق الله السماوات والأرض بالحق) * معناه بأن خلقها حق واجب متأكد في نفسه لما فيه من فيض الخيرات ولتدل عليه ولتكون صنعة حاكمة لصانع وقيل لبعض الحكماء لم خلق الله السماوات والأرض قال ليظهر جوده
واللام في قوله * (لتجزى) * يظهر أن تكون لام كي فكأن الجزاء من أسباب خلق السماوات ويحتمل أن تكون لام الصيرورة أي صار الأمر فيها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون لأن يجازى كل أحد بعلمه وبما اكتسب من خير أو شر
وقوله تعالى * (أفرأيت) * سهل بعض القراء الهمزة وخففها قوم وكذلك هي في مصحف ابن مسعود مخففة وفي مصحف أبي بن كعب (أفرأيت) دون همز
وهذه الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم عن المعرضين عن الإيمان أي لا تعجل بهم ولا تهتم بأمرهم فليس فيهم حيلة لبشر لأن الله تعالى أضلهم
وقال ابن جبير قوله * (إلهه هواه) * إشارة إلى الأصنام إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة وقال قتادة المعنى لا يهوى شيئا الا ركبه لا يخاف الله وهذا كما يقال الهوى إله معبود
وقرأ الأعرج وابن جبير (آلهة هواه) على التأنيث في (آلهة)
وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفر فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة قال ابن عباس ما ذكر الله هوى الا ذمه
وقال الشعبي سمي هوى لهوية بصاحبه
وقال النبي عليه السلام (والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله) وقال سهل التستري هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك
وقال سهل إذا شككت في خير امرين فانظر أبعدهما من هواك فأته ومن حكمة الشعر في هذا قول القائل
(إذا أنت لم تعص قادك الهوى
* إلى كل ما فيه عليك مقال)
وقوله تعالى * (على علم) * قال ابن عباس المعنى على علم من الله تعالى سابق
وقالت فرقة أي على علم من هذا الضال بأن الحق هو الذي يترك ويعرض عنه فتكون الآية على هذا من آيات العناد من نحو قوله * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * النمل 14 وعلى كلا التأويلين ف * (على علم) * حال
وقوله تعالى * (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) * استعارات كلها إذ هو الضال لا ينفعه ما يسمع ولا ما يفهم ولا ما يرى فكأنه بهذه الأوصاف المذكورة وهذه الآية لا حجة للجبرية فيها
86

لأن التكسب فيها منصوص عليه في قوله * (اتخذ) * وفي قوله * (على علم) * على التأويل الأخير فيه ولو لم ينص على الاكتساب لكان مرادا في المعنى
وقرا أكثر القراء (غشاوة) بكسر الغين
وقرأ عبد الله بن مسعود (غشاوة) بفتح الغين وهي لغة ربيعة وحكي عن الحسن وعكرمة (غشاوة) بضم الغين وهي لغة عكل وقرا حمزة والكسائي (غشوة) بفتح الغين وإسكان الشين
وقرا الأعمش وابن مصرف بكسر الغين دون ألف
وقوله * (من بعد الله) * فيه حذف مضاف تقديره من بعد إضلال الله إياه
وقرا عاصم وأراه الجحدري (تذكرون) بتخفيف الذال
وقرا جمهور الناس (تذكرون) على الخطاب أيضا بتشديد الذال
وقرأ الأعمش (تتذكرون) بتاءين
وقوله تعالى * (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) * الآية حكاية مقالة بعض قريش وهذه صنيفة دهرية من كفار العرب
ومعنى قولهم ما في الوجود الا هذه الحياة التي نحن فيها وليست ثم آخرة ولا بعث
واختلف المفسرون في معنى قولهم * (نموت ونحيا) * فقالت فرقة المعنى نحن موتى قبل ان نوجد ثم نحيا في وقت وجودنا
وقالت فرقة المعنى * (نموت) * حين نحن نطف ودم ثم * (نحيا) * بالأرواح فينا وهذا قول قريب من الأول ويسقط على القولين ذكر الموت المعروف الذي هو خروج الروح من الجسد وهو الأهم في الذكر
وقالت فرقة المعنى نحيا ونموت فوقع في اللفظ تقديم وتأخير
وقالت فرقة الغرض من اللفظ العبارة عن حال النوع فكأن النوع بجملته يقول إنما نحن تموت طائفة وتحيا طائفة دأبا
وقولهم * (وما يهلكنا إلا الدهر) * أي طول الزمان هو المهلك لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها فنفى الله تعالى علمهم بهذا وأعلم انها ظنون وتخرص تفضي بهم إلى الإشراك بالله تعالى
و * (الدهر) * والزمان تستعمله الغرب بمعنى واحد
وفي قراءة ابن مسعود (وما يهلكنا الا دهر يمر)
وقال مجاهد * (الدهر) * هنا الزمان وروى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار ويفارق هذا الاستعمال قول النبي عليه السلام (لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر) وفي حديث آخر (قال الله تعالى يسب ابن آدم الدهر وانا الدهر بيدي الليل والنهار) ومعنى هذا الحديث فإن الله تعالى يفعل ما تنسبونه إلى الدهر وتسبونه بسبه
وإذا تأملت مثالات هذا في الكلام ظهرت إن شاء الله تعالى
87

قوله عز وجل
سورة الجاثية 25 - 29
الضمير في * (عليهم) * عائد على كفار قريش
والآيات هي آيات القرآن وحروفه بقرينة قوله * (تتلى) * وعابت هذه الآية سوء مقاولتهم وأنهم جعلوا بدل الحجة التمني المتشطط والطلب لما قد حتم الله ان لا يكون الا إلى أجل مسمى
وقرا الحسن وعمرو بن عبيد وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد وعاصم فيما روى هارون وحسين عن أبي بكرعنه (حجتهم) بالرفع على اسم * (كان) * والخبر في * (أن) *
وقرا جمهور الناس (حجتهم) بالنصب على مقدم واسم * (كان) * في * (أن) *
وكان بعض قريش قد قال أحي لنا قصيا فإنه كان شيخ صدق حتى نسأله إلى غير ذلك من هذا النحو فنزلت الآية في ذلك وقالوا لمحمد عليه السلام * (ائتوا) * من حيث المخاطبة له والمراد هو وإلهة والملك الوسيط الذي ذكر هولهم فجاء من ذلك جملة قيل لها * (ائتوا) * و * (إن كنتم) *
ثم امر تعالى نبيه ان يخبرهم بالحال السالفة في علم الله التي لا تبدل وهي انه يحيي الخلق ويميتهم بعد ذلك ويحشرهم بعد إماتتهم * (إلى يوم القيامة) *
وقوله: * (لا ريب فيه) * أي في نفسه وذاته والأكثر الذي لا يعلم هم الكفار والأكثر هنا على بابه
وقوله * (ويوم تقوم الساعة) * قالت فرقة العامل في * (يوم) * قوله * (يخسر) * وجاء قوله * (يومئذ) * بدلا مؤكدا
وقالت فرقة العامل في * (يوم) * فعل يدل عليه الملك وذلك أن يوم القيامة حال ثالثة ليست بالسماء ولا بالأرض لأن ذلك يتبدل فكأنه قال * (ولله ملك السماوات والأرض) * والملك يوم القيامة وينفرد * (يخسر) * بالعمل في قوله * (يومئذ) * و * (المبطلون) * الداخلون في الباطل
وقوله تعالى * (وترى كل أمة جاثية كل أمة) * وصف حال القيامة وهولها
والأمة الجماعة العظيمة من الناس التي قد جمعها معنى أو وصف شامل لها
وقال مجاهد الأمة الواحد من الناس وهذا قلق في اللغة وإن قيل في إبراهيم عليه السلام أمة وقالها النبي عليه السلام في قس بن ساعدة فذلك تجوز على جهة التشريف والتشبيه
و * (جاثية) * معناه على الركب قاله مجاهد والضحاك وهي هيئة المذنب الخائف المعظم وفي الحديث (فجثا عمر على ركبتيه)
وقال سلمان في القيامة ساعة قدر عشر سنين يخر الجميع فيها جثاة على الركب
وقرأ جمهور الناس (كل أمة) بالرفع على الابتداء
وقرأ يعقوب الحضرمي (كل أمة تدعى) بالنصب على البدل من (كل) الأولى إذ في (كل) الثانية إيضاح موجب الجثو وقرا الأعمش (وترى كل أمة جاثية تدعى) بإسقاط * (كل أمة) * الثاني
واختلف المتأولون في قوله * (إلى كتابها) * فقالت فرقة أراد * (إلى كتابها) * المنزل عليها فتحاكم
88

إليه هل وافقته أو خالفته
وقالت فرقة أراد * (إلى كتابها) * الذي كتبته الحفظة على كل واحد من الأمة فباجتماع ذلك قيل له * (كتابها) * وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره يقال لهم اليوم تجزون
وقوله تعالى * (هذا كتابنا) * يحتمل أن تكون الإشارة إلى الكتب المنزلة أو إلى اللوح المحفوظ قال مجاهد ومقاتل يشهد بما سبق فيه من سعادة أو شقاء أو تكون الكتب الحفظة وقال ابن قتيبة هي إلى القرآن
واختلف الناس في قوله تعالى * (نستنسخ) * فقالت فرقة معناه نكتب وحقيقة النسخ وإن كانت ان تنقل خط من أصل ينظر فيه فإن أعمال العباد هي في هذا التأويل كالأصل فالمعنى إنا كنا نقيد كل ما عملتم
قال الحسن هو كتب الحفظة على بني آدم وروى ابن عباس وغيره حديثا أن الله تعالى يأمر بعرض أعمال العباد كل يوم خميس فينقل من الصحف التي رفع الحفظة كل ما هو معد ان يكون عليه ثواب أو عقاب ويلغى الباقي
قالت هذه الفرقة فهذا هو النسخ من أصل
وقال ابن عباس أيضا معنى الآية ان الله تعالى يجعل الحفظة تنسخ من اللوح المحفوظ كل ما يفعل العباد ثم يمسكونه عندهم فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك فتقيد أيضا فذلك هو الاستنساخ
وكان ابن عباس يقول ألستم عربا وهل يكون الاستنساخ الا من أصل
قوله عز وجل
سورة الجاثية 30 - 33
ذكر الله تعالى حال الطائفتين من المؤمنين والكافرين وقرن بينهم في الذكر ليبين الأمر في نفس السامع فإن الأشياء تتبين بذكر أضدادها و * (الفوز) * هو نيل البغية
وقوله تعالى * (وأما الذين كفروا أفلم تكن) * فإن التقدير * (وأما الذين كفروا) * فيقال لهم * (أفلم تكن) * فحذف يقال اختصارا وبقيت الفاء دالة على الجواب الذي تطلبه * (أما) * ثم قدم عليها ألف الاستفهام من حيث له صدر القول على كل حالة ووقف الله تعالى الكفارعلى الاستكبار لأنه من شر الخلال
وقرأ حمزة وحده (والساعة) بالنصب عطفا على قوله * (وعد الله) * ورويت عن أبي عمرو وعيسى والأعمش
وقرأ ابن مسعود (حق وأن الساعة لا ريب فيها) وكذلك قرأ أيضا الأعمش
وقرأ الباقون (والساعة) رفعا ولذلك وجهان أحدهما الابتداء والاستئناف والآخرالعطف على موضع * (أن) * وما
89

عملت فيه لأن التقدير وعد الله حق قاله أبو علي في الحجة
وقال بعض النحاة لا يعطف على موضع * (أن) * الا إذا كان العامل الذي عطلته * (أن) * باقيا وكذلك هي على موضع الباء في قوله فلسنا بالجبال ولا الحديد فلما كانت ليس باقية جاز العطف على الموضع قبل دخول الباء ويظهر نحو هذا النظر من كتاب سيبويه ولكن قد ذكرنا ما حكى أبو علي وهو القدوة
وقولهم * (إن نظن إلا ظنا) * معناه * (إن نظن) * بعد قبول خبركم) * (إلا ظنا) * وليس يعطينا خبرا
وقوله تعالى * (وبدا لهم) * الآية حكاية حال يوم القيامة
* (وحاق) * معناه نزل وأحاط وهي مستعملة في المكروه وفي قوله * (ما كانوا) * حذف مضاف تقديره جزاء ما كانوا أي عقاب كونهم " يستهزئون "
قوله عز وجل
سورة الجاثية 34 - 37
* (ننساكم) * معناه نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا فلم يقع منكم استعداد له ولا تأهب فسميت العقوبة في هذه الآية باسم الذنب والماوى الموضع الذي يسكنه الإنسان ويكون فيه عامة أوقاته أو كلها اجمع و * (آيات الله) * لفظ جامع لآيات القرآن وللأدلة التي نصبها الله تعالى لينظر فيها العباد
وقرأ أكثر القراء (لا يخرجون) بضم الياء المنقوطة من تحت وفتح الراء
وقرا حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش والحسن (يخرجون) بإسناد الفعل إليهم بفتح الياء وضم الراء
و * (يستعتبون) * تطلب منهم مراجعة إلى عمل صالح
وقوله تعالى * (فلله الحمد) * إلى آخر السورة تحميد لله تعالى وتحقيق لألوهيته وفي ذلك كسر لأمر الأصنام والأنصاب
وقراءة الناس (رب) بالخفض في الثلاثة على الصفة
وقرأ ابن محيصن بالرفع فيها على معنى هو رب
و * (الكبرياء) * بناء مبالغة وفي الحديث يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني منهما شيئا قصمته
90

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحقاف
هذه السورة مكية ولم يختلف منها الا في آيتين وهي قوله * (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم) * الأحقاف 10 وقوله " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " الأحقاف 35 الآية فقال بعض المفسرين هاتان آيتان مدنيتان وضعتا في سورة مكية
قوله عزو وجل
سورة الأحقاف 1 - 6
تقدم القول في الحروف المقطعة التي في أوائل السور
و * (تنزيل) * رفع بالابتداء أو خبر ابتداء مضمر و * (الكتاب) * القرآن
والعزة والإحكام صفتان مقتضيتان ان من هي له غالب كل من حاده
وقوله * (وما خلقنا السماوات) * الآية موعظة وزجر أي فانتبهوا أيها الناس وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم
وقوله تعالى * (إلا بالحق) * معناه بالواجب الحسن الذي قد حق ان يكون وب * (أجل مسمى) * وقتناه وجعلناه موعدا لفساد هذه البنية وذلك هو يوم القيامة
وقوله تعالى * (عما أنذروا) * (ما) مصدرية والمعنى عن الانذار ويحتمل أن تكون (ما) بمعنى الذي والتقدير عن ذكر الذي انذروا به والتحفظ منه أو نحو هذا
وقوله تعالى * (قل أرأيتم) * يحتمل * (أرأيتم) * وجهين أحدهما أن تكون متعدية و " ما " مفعولة بها ويحتمل أن تكون منبهة لا تتعدى وتكون " ما " استفهاما على معنى التوبيخ
و * (تدعون) * معناه تعبدون
قال الفراء وفي قراءة عبد الله بن مسعود (قل أرأيتكم من تدعون)
وقوله * (من الأرض) * " من " للتبعيض لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه فهو من الأرض
91

ثم وقفهم على السماوات هل لهم فيها شرك ثم استدعى منهم كتابا منزلا قبل القرآن يتضمن عبادة صنم
وقوله * (أو أثارة) * معناه أو بقية قديمة من علم أحد العلماء يقتضي عبادة الأصنام
وقرأ جمهور الناس (أو إثارة) على المصدر كالشجاعة والسماحة وهي البقية من الشيء كأنها أثره
وقال الحسن بن أبي الحسن المعنى من علم تستخرجونه فتثيرونه
وقال مجاهد المعنى هل من أحد يأثر علما في ذلك
وقال القرظي هو الإسناد ومن هذا المعنى قول الأعشى
(إن الذي فيه تماريتما
* بين للسامع والآثر) السريع
آثر أي للسند عن غيره ومنه قول عمر رضي الله عنه
فما خلفنا بها ذاكرا ولا آثرا
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة والمعنى وخاصة من علم فاشتقاقها من الأثرة كأنها قد آثر الله بها من هي عنده وقال عبد الله بن العباس المراد ب (الأثارة) الخط في التراب وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر وهذا من البقية والأثر وروي ان النبي عليه السلام سئل عن ذلك فقال (كان نبي من الأنبياء يخطه فمن وافق خطه فذاك) وظاهر الحديث تقوية أمر الخط في التراب وانه شيء له وجه إذا وفق أحد اليه وهكذا تأويله كثير من العلماء
وقالت فرقة بل معناه الإنكار أي أنه كان من فعل نبي قد ذهب وذهب الوحي إليه والإلهام في ذلك ثم قال فمن وافق خطه على جهة الإبعاد أي ان ذلك لا يمكن ممن ليس بنبي ميسر لذلك وهذا كما يسألك أحد فيقول أيطير الانسان فتقول إنما يطير الطائر فمن كان له من الناس جناحان طار أي ان ذلك لا يكون
والأثارة تستعمل في بقية الشرف فيقال لبني فلان أثارة من شرف إذا كانت عندهم شواهد قديمة وتستعمل في غير ذلك ومنه قول الراعي
(وذات أثارة أكلت عليه
* نباتا في أكمتها قصارى) الوافر
يريد الأثارة من الشحم أي البقية وقرا عبد الرحمن السلمي فيما حكى الطبري (أو أثرة) بفتح الهمزة والثاء والراء دون ألف وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وقتادة وعكرمة وعمرو بن ميمون والأعمش وهي واحدة جمعها أثر كقترة وقتر
وحكى الثعلبي ان عكرمة قرأ (أو ميراث من علم)
وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي فيما حكى أبو الفتح بسكون الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر أي وقد قنعت لكم حجة بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم
وقرات فرقة (أثرة) بضم الهمزة وسكون الثاء وهذه كلها بمعنى هل عندكم شيء خصكم الله به من علم وآثركم به
وقوله تعالى * (ومن أضل) * الآية توبيخ لعبدة الأصنام أي لا أحد أضل ممن هذه صبغته وجاءت الكنايات في هذه الآية عن الأصنام كما تجيء عمن يعقل وذلك أن الكفار قد انزلوها منزلة الآلهة وبالمحل الذي دونه البشر فخوطبوا على نحو معتقدهم فيها وفي مصحف عبد الله بن مسعود (ما لا يستجيب)
والضمير في قوله " ومن هم من دعائهم غافلون " هو للأصنام في قول جماعة ووصف الأصنام بالغفلة من حيث عاملهم معاملة من يعقل ويحتمل ان يكون الضمير في قوله * (وهم) * وفي
92

* (غافلون) * للكفار أي ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب فلا يتأملون ما عليهم في دعاء من هذه صفته
وقوله تعالى * (كانوا لهم أعداء) * وصف لما يكون يوم القيامة بين الكفار وأصنامهم من التبري والمناكرة وقد بين ذلك في غير هذه الآية
وذلك قوله تعالى حكاية عنهم * (تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) * القصص 63
قوله عز وجل
سورة الأحقاف 7 - 9
الآيات المذكورة هي آيات القرآن بدليل قوله * (تتلى) * وبقول الكفار * (هذا سحر) * وإنما قالوا ذلك عن القرآن من حيث قالوا هو يفرق بين المرء وبين ولده وبينه وبين زوجه إلى نحو هذا مما يوجد مثله للسحر بالوجه الأخس
وقوله تعالى * (أم يقولون افتراه) * * (أم) * مقطوعة مقدرة ب * (بل) * وألف الاستفهام و * (افتراه) * معناه اشتقه واختلقه فأمره الله تعالى ان يقول * (إن افتريته) * فالله حسبي في ذلك وهو كان يعاقبني ولا يمهلني
ثم رجع القول إلى الاستسلام إلى الله تعالى والاستنصار به عليهم وانتظار ما يقتضيه علمه " بما يفيضون فيه " من الباطل ومرادة الحق وذلك يقتضي معاقبتهم ففي اللفظة تهديد
والضمير في قوله * (فيه) * يحتمل ان يعود على القرآن ويحتمل العودة على * (بما) *
والضمير في " به " عائد على الله تعالى
و " به " في موضع رفع وأفاض الرجل في الحديث والسب ونحوه إذا خاض فيه واستمر
وقوله * (وهو الغفور الرحيم) * ترجيه واستدعاء إلى التوبة لأنه في خلال تهديده إياهم بالله تعالى جاءت هاتان الصفتان
ثم امره تعالى ان يحتج عليهم بأنه لم يكن * (بدعا من الرسل) * أي قد جاء غيري قبلي قاله ابن عباس والحسن وقتادة
والبدع البديع من الأشياء ما لم ير مثله ومنه قول ترجمة عدي بن زيد
(فما انا بدع من حوادث تعتري
* رجالا عرت من بعد بؤسى وأسعد) الطويل
وقرا عكرمة وابن أبي عبلة وأبوحيوة (بدعا) بفتح الدال
قال أبو الفتح التقدير ذا بدع فحذف المضاف كما قال النابغة الجعدي
(وكيف تواصل من أصبحت
* خلالته كأبي مرحب) المقارب
93

واختلف الناس في قوله * (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم) * فقال ابن عباس وأنس بن مالك والحسن وقتادة وعكرمة معناه في الآخرة وكان هذا في صدر الإسلام ثم بعد ذلك عرفه الله تعالى بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وبان المؤمنين لهم من الله فضل كبير وهو الجنة وبأن الكافرين في نار جهنم والحديث الذي وقع في جنازة عثمان بن مظعون يؤيده هذا وهو قوله (فوالله ما أدري وانا رسول الله ما يفعل بي) وفي بعض الرواية (به) ولا حجة في الحديث على رواية (به) والمعنى عندي في هذا القول انه لم تكشف له الخاتمة فقال لا أدري واما ان من وافى على الايمان فقد أعلم بنجاته من أول الرسالة والا فكان للكفار ان يقولوا وكيف تدعونا إلى ما لا تدري له عاقبة وقال الحسن أيضا وجماعة
معنى الآية * (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) * في الدنيا من أن انصر عليكم أو من أن تمكنوا مني ونحو هذا من المعنى
وقالت فرقة معنى الآية " وما يفعل بي ولا بكم " من الأوامر والنواهي وماتلزم الشريعة من اعراضها
وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال نزلت الآية في امر كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظره من الله في غير الثواب والعقاب وروي عن ابن عباس انه لما تأخر خروج النبي عليه السلام من مكة حين رأى في النوم انه يهاجر إلى أرض ذات نخل وسبخة قلق المسلمون لتأخر ذلك فنزلت هذه الآية
وقوله * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * معناه الاستسلام والتبري من علم المغيبات والوقوف مع النذارة من عذاب الله عز وجل
قوله عز وجل
سورة الأحقاف 10 - 11
هذه الآية توقيف على الخطر العظيم الذي هم بسبيله في أن يكذبوا بأمر نافع لهم منج من العذاب دون حجة ولا دليل لهم على التكذيب فالمعنى كيف حالكم مع الله وماذا تنتظرون منه وأنتم قد كفرتم بما جاء من عنده وجواب هذا التوقيف محذوف تقديره أليس قد ظلمتم ودل على هذا المقدر قوله تعالى * (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * و * (أرأيتم) * في هذه الآية يحتمل أن تكون منبهة فهي لفظ موضوع للسؤال لا يقتضي مفعولا ويحتمل أن تكون الجملة * (كان) * وما عملت فيه تسد مسد مفعوليها
واختلف الناس في المراد ب * (الشاهد) * فقال الحسن ومجاهد وابن سيرين هذه الآية مدنية والشاهد عبد الله بن سلام وقوله * (على مثله) * الضمير فيه عائد على قول محمد عليه السلام في القرآن إنه من عند الله
وقال الشعبي الشاهد رجل من بني إسرائيل غير عبد الله بن سلام كان بمكة والآية مكية
وقال سعد بن أبي وقاص ومجاهد وفرقة الآية مكية والشاهد عبد الله بن سلام وهي من الآيات التي تضمنت غيبا أبرزه الوجود وقد روي عن عبد الله بن سلام أنه قال في نزلت
وقال مسروق بن الأجدع والجمهور الشاهد موسى بن عمران عليه السلام والآية مكية ورجحه الطبري
94

وقوله * (على مثله) * يريد بالمثل التوراة والضمير عائد في هذا التأويل على القرآن أي جاء شاهد من بني إسرائيل بمثله وشهد انه من عند الله تعالى
وقوله * (فآمن) * على هذا التأويل يعني به تصديق موسى بأمر محمد وتبشيره به فذلك إيمان به واما من قال الشاهد عبد الله بن سلام فإيمانه بين وكذلك إيمان الإسرائيلي الذي كان بمكة في قول من قاله وحكى بعضهم ان الفاعل ب (آمن) هو محمد عليه السلام وهذا من القائلين بأن الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام وإنما اضطر إلى هذا لأنه لم ير وجه إيمان موسى عليه السلام ثم قرر تعالى استكبارهم وكفرهم بإيمان هذا المذكور فبان ذنبهم وخطؤهم
وقوله تعالى * (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) * قال قتادة هي مقالة قريش يريدون عمارا وصهيبا وبلالا ونحوهم ممن أسلم وآمن بالنبي عليه السلام
وقال الزجاج والكلبي وغيره هي مقالة كنانة وعامر وسائر قبائل العرب المجاورة قالت ذلك حين أسلمت غفار ومزينة وجهينة
وقال الثعلبي هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام وغيره منهم
والإفك الكذب ووصفوه بالقدم بمعنى انه في أمور متقادمة وهذا كما تقول لرجل حدثك عن اخبار كسرى وقيصر هذا حديث قديم ويحتمل ان يريدوا أنه إفك قيل قديما
قوله عز وجل
سورة الأحقاف 12 - 15
الضمير في قوله * (ومن قبله) * للقرآن و * (كتاب موسى) * هو التوراة
وقرا الكلبي (كتاب موسى) بنصب الباء على إضمار انزل الله أو نحو ذلك
والإمام خيط البناء وكل ما يهتدي ويقتدى به فهو إمام
ونصب * (إماما) * على الحال * (ورحمة) * عطف على إمام والإشارة بقوله * (وهذا كتاب) * إلى القرآن و * (مصدق) * معناه للتوراة التي تضمنت خبره وامر محمد فجاء هو مصدقا لذلك الإخبار وفي مصحف عبد الله بن مسعود (مصدق لما بين يديه لسانا) واختلف الناس في نصب قوله * (لسانا) * فقالت فرقة من النحاة هو منصوب على الحال وقالت فرقة * (لسانا) * توطئة مؤكدة
و * (عربيا) * حال وقالت فرقة * (لسانا) * مفعول ب * (مصدق) * والمراد على هذا القول باللسان محمد رسول الله ولسانه
95

فكان القرآن بإعجازه وأحواله البارعة يصدق الذي جاء به وهذا قول صحيح المعنى جيد وغيره مما قدمناه متجه
وقرا نافع وابن عامر وابن كثير فيما روي عنه وأبو جعفر والأعرج وشيبة وأبو رجاء والناس (لتنذر) بالتاء أي أنت يا محمد ورجحها أبو حاتم وقرا الباقون والأعمش (لينذر) أي القرآن و * (الذين ظلموا) * هم الكفار الذين جعلوا العبادة في غير موضعها في جهة الأصنام والأوثان
وقوله * (وبشرى) * يجوز ان يكون في موضع رفع عطفا على قوله * (مصدق) * ويجوز أن تكون في موضع نصب واقعة موقع فعل عطفا على " لتنذر " أي وتبشر المحسنين ولما عبرعن الكفار ب * (الذين ظلموا) * عبرعن المؤمنين ب (المحسنين) لتناسب لفظ الإحسان في مقابلة الظلم
ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع الظلم
ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين بالطاعات ورفع عنهم الخوف والحزن وذهب كثير من الناس إلى أن معنى الآية * (ثم استقاموا) * بالطاعات والأعمال الصالحات
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه المعنى * (ثم استقاموا) * بالدوام على الإيمان وترك الانحراف عنه
قال القاضي أبو محمد وهذا القول أعم رجاء وأوسع وإن كان في الجملة المؤمنة من يعذب وينفذ عليه الوعيد فهو ممن يخلد في الجنة وينتفي عنه الخوف والحزن الحال بالكفرة والخوف هو الهم لما يستقبل والحزن هو الهم بما مضى وقد يستعمل فيما يستقبل استعارة لأنه حزن لخوف أمر ما
وقرا ابن السميفع (فلا خوف) دون تنوين
وقوله * (جزاء بما كانوا يعملون) * (ما) واقعة على الجزء الذي هو اكتساب العبد وقد جعل الله الأعمال أمارات على صبور العبد لا أنها توجب على الله شيئا
وقوله تعالى * (ووصينا الإنسان بوالديه) * يريد النوع أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي فهي وصية من الله في عباده
وقرأ جمهور القراء (حسنا) بضم الحاء وسكون السين ونصبه على تقدير وصيناه ليفعل امرا ذا حسن فكأن الفعل تسلط عليه مفعولا ثانيا
وقرا علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن وعيسى (حسنا) بفتح الحاء والسين وهذا كالأول ومحتمل كونهما مصدرين كالبخل والبخل ومحتمل ان يكون هذا الثاني اسما لا مصدرا أي ألزمناه بهما فعلا حسنا
وقرا عاصم وحمزة والكسائي (إحسانا) ونصب هذا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور والباء متعلقة ب * (وصينا) * أو بقوله (إحسانا)
وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها وعقوقهما كبيرة وقال النبي صلى الله عليه وسلم كل شيء بينه وبين الله حجاب الا شهادة ان لا إله إلا الله ودعوة الوالدين
قال القاضي أبو محمد ولن يدعوا الا إذا ظلمهما الولد فهذا الحديث في عموم قوله عليه السلام (اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)
96

ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب والأب في واحدة جمعهما الذكر في قوله * (بوالديه) * ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع بها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر والربع للأب وذلك إذ قال له رجل يا رسول الله من أبر قال أمك قال ثم من قال ثم أمك قال ثم من قال ثم أمك قال ثم من قال أباك وقوله * (كرها) * معناه في ثاني استمرار الحمل حين تتوقع حوادثه ويحتمل ان يريد في وقت الحمل إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه وقال مجاهد والحسن وقتادة المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة
وقرا أكثر القراء (كرها) بضم الكاف
وقرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج (كرها) بفتح الكاف وقرا بهما معا مجاهد وأبو رجاء وعيسى
قال أبو علي وغيره هما بمعنى الضم الاسم والفتح المصدر
وقالت فرقة الكره بالضم المشقة والكره بالفتح هو الغلبة والقهر وضعفوا على هذا قراءة الفتح
قال بعضهم لو كان (كرها) لرمت به عن نفسها إذ الكره القهر والغلبة والقول الذي قدمناه أصوب
وقرا جمهور الناس (وفصاله) وذلك انها مفاعلة من اثنين كأنه فاصل أمه وفاصلته
وقرا الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري (وفصله) كأن الأم هي التي فصلته
وقوله * (ثلاثون شهرا) * يقتضي ان مدة الحمل والرضاع هذه المدة لأن في القول حذف مضاف تقديره ومدة حمله وفصاله وهذا لا يكون الا بان يكون أحد الطرفين ناقصا وذلك إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين وإما بان تلد لتسعة على العرف وترضع عامين غير ربع العام فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع وبالعكس فيترتب من هذا ان أقل مدة الحمل ستة أشهر
وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر وإكمال العامين هو لمن أراد ان يتم الرضاعة وهذا في امر الحمل هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة ومذهب مالك رحمه الله
واختلف الناس في الأشد فقال الشعبي وزيد بن أسلم البلوغ إذا كتبت عليه السيئات وله الحسنات
وقال ابن إسحاق ثمانية عشر عاما وقيل عشرون عاما وقال ابن عباس وقتادة ثلاثة وثلاثون عاما وقال الجمهور من النظار ثلاثة وثلاثون
وقال هلال بن يساف وغيره أربعون وأقوى الأقوال ستة وثلاثون ومن قال بالأربعين قال في الآية إنه أكد وفسر الأشد بقوله * (وبلغ أربعين سنة) *
قال القاضي أبو محمد وإنما ذكر تعالى الأربعين لأنها حد للإنسان في فلاحه ونجابته وفي الحديث (إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول بأبي وجه لا يفلح) وقال أيمن بن خريم الأسدي
(إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن
* له دون ما يأتي حياء ولا ستر)
(فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى
* وإن جر أسباب الحياة له العمر) الطويل
وفي مصحف ابن مسعود (حتى إذا استوى أشده وبلغ أربعين سنة) وقوله * (أوزعني) * معناه
97

ادفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل ان أشكر نعمتك ويحتمل ان يكون * (أوزعني) * بمعنى اجعل حظي ونصيبي وهذا من التوزيع والقوم الأوزاع ومن قوله توزعوا المال ف (أن) على هذا مفعول صريح
وقال ابن عباس * (نعمتك) * في التوحيد
و * (صالحا ترضاه) * الصلوات
والإصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخيرية وهذه الآية معناها ان هكذا ينبغي للإنسان ان يفعل وهذه وصية الله للإنسان في كل الشرائع
وقال الطبري وذكر ان هذه الآية من أولها نزلت في شأن أبي بكر الصديق ثم هي تتناول من بعده وكان رضي الله عنه قد أسلم أبواه فلذلك قال * (وعلى والدي) * وفي هذا القول اعتراض بأن هذه الآية نزلت بمكة لا خلاف على ذلك وأبو قحافة أسلم عام الفتح فإنما يتجه هذا التأويل على أن أبا بكر كان يطمع بإيمان أبويه ويرى مخايل ذلك فيهما فكانت هذه نعمة عليهما ان ليسا ممن عسا في الكفر ولج وحتم عليه ثم ظهر إيمانهما بعد والقول بأنها عامة في نوع الإنسان لم يقصد بها أبو بكر ولا غيره أصح وباقي الآية بين إلى قوله * (من المسلمين) *
قوله عز وجل
سورة الأحقاف 16 - 19
قوله تعالى * (أولئك) * دليل على أن الإشارة بقوله * (ووصينا الإنسان) * الأحقاف 15 إنما أراد الجنس
وقرأ جمهور القراء (يتقبل) بالياء على بناء الفعل للمفعول وكذلك (يتجاوز)
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فيهما بالنون التي للعظمة (نتقبل) (أحسن) بالنصب (ونتجاوز) وهي قراءة طلحة وابن وثاب وابن جبير والأعمش بخلاف عنه
وقرا الحسن (يتقبل) بياء مفتوحة (ويتجاوز) كذلك أي الله تعالى وقوله * (في أصحاب الجنة) * يريد الذين سبقت لهم رحمة الله
وقوله * (وعد الصدق) * نصب على المصدر المؤكد لما قبله
وقوله تعالى * (والذي قال لوالديه أف لكما) * الآية * (الذي) * يعني به الجنس على حد العموم الذي في الآية التي قبلها في قوله * (ووصينا الإنسان) * الأحقاف 15 هذا قول الحسن وجماعة ويشبه ان لها سببا من رجل قال ذلك لأبويه
فلما فرغ من ذكر الموفق عقب بذكر هذا العاق
وقال ابن عباس في كتاب الطبري هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر ولم يسمه
98

وقال مروان بن الحكم نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقاله قتادة وذلك أنه كان أكبر ولد أبي بكر وشهد بدرا وأحدا مع الكفار وقال لأبيه في الحرب
(لم يبق الا شكة ويعبوب
* وصارم يقتل ضلال الشيب)
ودعاه إلى المبارزة فكان بمكة على نحو هذه الخلق فقيل إن هذه الآية نزلت فيه
وروي ان مروان بن الحكم خطب وهو أمير المدينة فدعا الناس إلى بيعة يزيد فقال عبد الرحمن بن أبي بكر جعلتموها هرقلية كلما مات هرقل ولي هرقل وكلما مات قيصر ولي قيصر فقال مروان بن الحكم خذوه فدخل عبد الرحمن بيت عائشة أخته أم المؤمنين فقال مروان إن هذا هو الذي قال الله فيه * (والذي قال لوالديه أف لكما) * فسمعته عائشة فأنكرت ذلك عليه وسبت مروان وقالت له والله ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي وإني لأعرف فيمن نزلت هذه الآية
وذكر ابن عبد البر ان الذي خطب هو معاوية وذلك وهم والأصوب أن تكون عامة في أهل هذه الصفات ولم يقصد بها عبد الرحمن ولا غيره من المؤمنين والدليل القاطع على ذلك قوله * (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم) * وكان عبد الرحمن رحمه الله من أفضل الصحابة ومن الأبطال وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة بن مصرف (أف) بكسر الفاء بغير تنوين وذلك فيها علامة تعريف
وقرا ابن كثير وابن عامر وابن محيصن وشبل وعمرو بن عبيد (أف) بالفتح وهي لغة الكسر والفتح
وقرا نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج (أف) بالكسر والتنوين وذلك علامة تنكير وهي كصه وغاق وكما تستطعم رجلا حديثا غير معين فتقول (إيه) منونة فإن كان حديثا مشار اليه قلت (إيه) بغير تنوين
و (أف) أصلها في الأقذار كانت العرب إذا رأت قذرا قالت (أف) ثم صيره الاستعمال يقال في كل ما يكره من الأفعال والأقوال
وقرا هشام عن ابن عامر وعاصم وأبو عمرو (أتعداني) وقرا أبو عمرو ونافع وشيبة والأعرج والحسن وأبو جعفر وقتادة وجمهور القراء (أتعدانني) بنونين والقراءة الأولى هي بإدغام النون في النون وقرا نافع أيضا وجماعة (أتعداني) بنون واحدة وإظهار الياء
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة وأبو رجاء وابن وثاب وجمهور الناس (أن أخرج) بضم الهمزة وفتح الراء
وقرا الحسن وابن يعمر والأعمش وابن مصرف والضحاك
(أن أخرج) بفتح الهمزة وضم الراء
والمعنى ان أخرج من القبر للحشر والمعاد وهذا القول منه استفهام بمعنى الهزء والاستبعاد
وقوله * (وقد خلت القرون من قبلي) * معناه هلكت ومضت ولم يخرج منهم أحد وقوله * (وهما) * يعني الوالدين ويقال استغثت الله واستغثت بالله بمعنى واحد
و * (ويلك) * دعاء يقال هنا لمن يحفز ويحرك لأمر ما يستعجل اليه
وقرأ الأعرج (ان وعد الله) بفتح الهمزة والناس على كسرها
وقوله * (ما هذا إلا أساطير) * أي ما هذا القول الذي يتضمن البعث من القبور الا شيء قد سطره
99

الأولون في كتبهم يعني الشرائع وظاهر ألفاظ هذه الآية انها نزلت في مشار اليه قال وقيل له فنعى الله أقواله وتحذيرا من الوقوع في مثلها
وقوله * (أولئك) * ظاهره انها إشارة إلى جنس يتضمنه قوله * (والذي قال) * ويحتمل إن كانت الآية في مشار إليه ان يكون قوله * (أولئك) * بمعنى صنف هذا المذكور وجنسهم * (الذين حق عليهم القول) * أي قول الله إنه يعذبهم
وقوله * (قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) * يقتضي ان * (الجن) * يموتون كما يموت البشر قرنا بعد قرن وقد جاء حديث يقتضي ذلك
وقال الحسن بن أبي الحسن في بعض مجالسه إن الجن لا يموتون فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت
وقوله تعالى * (ولكل درجات) * يعني المحسنين والمسيئين
قال ابن زيد ودرجات المحسنين تذهب علوا ودرجات المسيئين تذهب سفلا
وقرا أبو عبد الرحمن (ولتوفيهم) بالتاء من فوق أي الدرجات
وقرأ جمهور الناس (وليوفيهم) بالياء
وقرأ نافع بخلاف عنه وأبو جعفر وشيبة والأعرج وطلحة والأعمش (ولنوفيهم) بالنون قال اللؤلؤي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود (ولنوفينهم) بنون أولى ونون ثانية مشددة وكل امرئ يجني ثمرة عمله من خير أو شر ولا يظلم في مجازاته بل يوضع كل امر موضعه من ثواب أو عقاب
قوله عز وجل
سورة الأحقاف 20 - 22
المعنى واذكر يوم يعرض وهذا العرض هو بالمباشرة كما تقول عرضت العود على النار والجاني على السوط والمعنى يقال لهم * (أذهبتم طيباتكم) *
وقرا جمهور القراء (أذهبتم) على الخبر حسنت الفاء بعد ذلك
وقرا ابن كثير والحسن والأعرج وأبو جعفر ومجاهد وابن وثاب
(أذهبتم) بهمزة مطولة على التوبيخ والتقرير الذي هو في لفظ الاستفهام
وقرأ ابن عامر (أأذهبتم) بهمزتين تقريرا
والتقرير والتوبيخ إخبار بالمعنى ولذلك حسنت الفاء والا فهي لا تحسن في جواب على حد هذه مع الاستفهام المحض
والطيبات الملاذ وهذه الآية وإن كانت في الكفار فهي رادعة لأولي النهى من المؤمنين عن
100

الشهوات واستعمال الطيبات ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه أتظنون انا لا نعرف طيب الطعام ذلك لباب البر بصغار المعزى ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم انهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ذكر هذا في كلامه مع الربيع بن زياد
وقال أيضا نحو هذا لخالد بن الوليد حين دخل الشام فقدم إليه طعام طيب فقال عمر هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير فقال خالد لهم الجنة فبكى عمر وقال لئن كان حظنا في الحطام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا
وقال جابر بن عبد الله اشتريت لحما بدرهم فرآني عمر فقال أو كلما اشتهى أحدكم شيئا اشتراه فاكله اما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية وتلا (أذهبتم) الآية
" وعذاب الهون " العذاب الذي اقترن به هوان وهذا هو عذاب العصاة المواقعين ما قد نهوا عنه وهذا بين في عذاب الدنيا فعذاب المحدود في معصية كالحرابة ونحوها مقترن بهون وعذاب المقتول في حرب لا هون معه فالهون والهوان بمعنى
ثم امر تعالى نبيه بذكر هود وقومه عاد على جهة المثال لقريش وهذه الأخوة هي أخوة القرابة لأن هودا كان من أشراف القبيلة التي هي عاد
واختلف الناس في هذه الأحقاف أين كانت فقال ابن عباس والضحاك هي جبل بالشام وقيل كانت بلاد نخيل وقيل هي الرمال بين مهرة وعدن
وقال ابن عباس أيضا بين عمان ومهرة
وقال قتادة هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني
وقال ابن إسحاق هي بين حضرموت وعمان والصحيح من الأقوال ان بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت إرم ذات العماد
و (الأحقاف) جمع حقف وهو الجبل المستطيل والمعوج من الرمل (قال الخليل هي الرمال الأحقاف) وكثيرا ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل في الصحارى لأن الريح تصنع ذلك
وقوله تعالى * (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) * اعتراض مؤكدة مقيم للحجة أثناء قصة هود لأن قوله * (ألا تعبدوا إلا الله) * هو من نذارة هود
و * (خلت) * معناه مضت إلى الخلاء ومرت ازمانها
وفي مصحف عبد الله (وقد خلت النذر من قبله وبعده)
وروي أن فيه (وقد خلت النذر من بين يديه ومن بعده)
و * (النذر) * جمع نذير بناء اسم فاعل
وقولهم * (لتأفكنا) * معناه لتصرفنا
وقولهم * (فأتنا بما تعدنا) * تصميم على التكذيب وتعجيز منهم له في زعمهم
101

قوله عز وجل
سورة الأحقاف 23 - 26
المعنى قال لهم هود إن هذا الوعيد ليس من قبلي وإنما الأمر إلى الله وعلم وقته عنده وإنما علي ان أبلغ فقط
وقرا جمهور الناس (وأبلغكم) بفتح الباء وشد اللام
قال أبو حاتم وقرأ أبو عمرو في كل القرآن بسكون الباء وتخفيف اللام
و " أراكم تجهلون " اي مثل هذا من امر الله تعالى وتجهلون خلق أنفسكم
والضمير في * (رأوه) * يحتمل ان يعود على العذاب ويحتمل ان يعود على الشيء المرئي الطارىء عليهم وهو الذي فسره قوله * (عارضا) * والعارض ما يعرض في الجو من السحاب الممطر ومنه قول الأعشى
(يا من رأى عارضا قد بت ارمقه
* كأنما البرق في حافاته الشعل)
وقال أبو عبيدة العارض الذي في أقطار السماء ثم يصبح من الغد قد استوى
وروي في معنى قوله * (مستقبل أوديتهم) * ان هؤلاء القوم كانوا قد قحطوا مدة فطلع هذا العارض على الهيئة والجهة التي يمطرون بها أبدا جاءهم من قبل واد لهم يسمونه المغيث
قال ابن عباس ففرحوا به و * (قالوا هذا عارض ممطرنا) * وقد كذب هود فيما أوعد به فقال لهم هود عليه السلام ليس الأمر كما رأيتم * (بل هو ما استعجلتم به) * في قولكم * (فأتنا بما تعدنا) * الأحقاف 22 ثم قال * (ريح فيها عذاب أليم) *
وفي قراءة ابن مسعود (قال هود بل هو) بإظهار المقدر لأن قراءة الجمهور هي كقوله تعالى " يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم " الرعد 23 أي يقولون سلام
قال الزجاج وقرأ قوم (ما استعجلتم) بضم التاء الأولى وكسر الجيم
و * (ريح) * بدل من المبتدأ في قوله * (هو ما) * و * (ممطرنا) * هو نعت ل * (عارض) * وهو نكرة إضافته غير محضة لأن التقدير ممطر لنا في المستقبل فهو في حكم الانفصال
وقد مضى في غير هذه السورة قصص الريح التي هبت عليهم وانها كانت تحمل الطعينة كجرادة و * (تدمر) * معناه تهلك
والدمار الهلاك ومنه قول جرير
(وكان لهم كبكر ثمود لما
* رغا دهرا فدمرهم دمارا) الوافر
وقوله " كل شيء " ظاهره العموم ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره وروي ان هذه الريح رمتهم أجمعين في البحر
وقرأ جمهور القراء (لا ترى) أيها المخاطب
وقرأ عاصم وحمزة (لا يرى) بالياء على بناء الفعل للمفعول (مساكنهم) رفعا
التقدير لا يرى شيء منهم وهذه قراءة ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن بخلاف عنه ومجاهد وعيسى وطلحة
وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجحدري وقتادة وعمرو بن ميمون والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو رجاء ومالك بن دينار بغير خلاف عنهما خاصة ممن ذكر (لا ترى) بالتاء
102

منقوطة من فوق مضمومة (مساكنهم) رفعا ورويت عن ابن عامر وهذا نحو قول ذي الرمة
(كأنه جمل وهم وما بقيت
* الا النجيزة والألواح والعصب) البسيط
ونحو قوله
(فما بقيت الا الضلوع الجراشع
*) الطويل
وفي هذه القراءة استكراه
وقرا الأعمش وعيسى الهمداني (الا مسكنهم) على الافراد الذي هو اسم الجنس والجمهور على الجمع في اللفظة ووجه الإفراد تصغير الشأن وتقريبه كما قال تعالى * (ثم يخرجكم طفلا) * غافر 67
ثم خاطب تعالى قريشا على جهة الموعظة بقوله " ولقد مكناهم في ما إن مكناهم فيه " ف " ما " بمعنى الذي و * (أن) * نافية وقعت مكان " ما " ليختلف اللفظ ولا تتصل " ما " ب " ما " لأن الكلام كأنه قال في الذي ما مكناكم فيه
ومعنى الآية ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسط في الأموال والأجسام مالم نعطكم ونالهم بسبب كفرهم هذا العذاب فأنتم أحرى بذلك إذا كفرتم
وقالت فرقة * (أن) * شرطية والجواب محذوف تقديره في الذي إن مكناكم فيه طغيتم وهذا تنطع في التأويل
ثم عدد تعالى عليهم نعم الحواس والإدراك واخبر انها لم تغن حين لم تستعمل على ما يجب و (ما) نافية في قوله * (فما أغنى عنهم) * ويقوي ذلك دخول " من " في قوله " من شيء "
وقالت فرقة (ما) في قوله * (فما أغنى عنهم) * استفهام بمعنى التقرير و " من شيء " على هذا تأكيد وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول من في الواجب
* (وحاق) * معناه وجب ولزم وهو مستعمل في المكاره والمعنى جزاء " ما كانوا به يستهزئون "
قوله عز وجل
سورة الأحقاف 27 - 29
وقوله * (ولقد أهلكنا ما حولكم) * مخاطبة لقريش على جهة التمثيل لهم بمأرب وسدوم وحجر ثمود وقوله * (وصرفنا الآيات) * يعني لهذه القرى المهلكة
وقوله * (فلولا نصرهم) * الآية يعني هلا نصرتهم أصنامهم التي اتخذوها
و * (قربانا) * إما أن يكون المفعول الثاني ب * (اتخذوا) * و * (آلهة) * بدل منه وإما ان يكون حالا و * (آلهة) * المفعول الثاني والمفعول الأول هو الضمير العائد على * (الذين) * التقدير اتخذوهم
وقوله تعالى * (بل ضلوا عنهم) *
103

معناه انتلفوا لهم حتى لم يجدوهم في وقت حاجة
وقوله * (وذلك) * الإشارة به تختلف بحسب اختلاف القراءات في قوله * (إفكهم) * فقرأ جمهور القراء (إفكهم) بكسر الهمزة وسكون الفاء وضم الكاف فالإشارة ب * (ذلك) * على هذه القراءة إلى قولهم في الأصنام إنها آلهة وذلك هو اتخاذهم إياها وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ (أفكهم) بفتح الهمزة وهي لغة في الإفك وهما بمعنى الكذب وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرا (أفكهم) بفتح الهمزة والفاء على الفعل الماضي بمعنى صرفهم وهي قراءة ابن عباس وأبي عياض وعكرمة وحنظلة بن النعمان
وقرا أبو عياض أيضا وعكرمة فيما حكى الثعلبي (أفكهم) بشد الفاء وفتح الهمزة والكاف وذلك على تعدية الفعل بالتضعيف
وقرا عبد الله بن الزبير (آفكهم) بالمد وفتح الفاء والكاف على التعدية بالهمزة
قال الزجاج معناه جعلهم يأفكون كما يقال أكفرهم
وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب (آفكهم) بفتح الهمزة والمد وكسر الفاء وضم الكاف على وزن فاعل بمعنى صارفهم
وحكى الفراء انه يقرأ (أفكهم) بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف وهي لغة في الإفك والإشارة ب * (ذلك) * على هذه القراءة التي ليست مصدرا يحتمل أن تكون إلى الأصنام
وقوله * (وما كانوا يفترون) * ويحتمل أن تكون " ما " مصدرية فلا يحتاج إلى عائد ويحتمل أن تكون بمعنى الذي فهناك عائد محذوف تقديره يفترونه
وقوله تعالى " وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن " ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم
و * (صرفنا) * معناه رددناهم عن حال ما يحتمل انها الاستماع في السماء ويحتمل ان يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون وروي ان الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة فضاقت الجن ذرعا بذلك فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك
واختلف الرواة بعد فقالت فرقة جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهو لا يشعر فسمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ وهو يقرأ في صلاة الفجر
وقالت فرقة بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك ووفد عليه أهل نصيبين منهم
قال القاضي أبو محمد والتحرير في هذا ان النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون ان يعرف بهم وهم المتفرقون من اجل الرجم وهذا هو قوله تعالى * (قل أوحي إلي) * الجن 1 ثم بعد ذلك وفد عليه وفد وهو المذكور صرفه في هذه الآية
قال قتادة صرفوا إليه من نينوى أشعر به قبل وروده
وقال الحسن لم يشعر
واختلف في عددهم اختلافا متباعدا فاختصرته لعدم الصحة في ذلك أما ان ابن عباس رضي الله عنه قال كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر كانوا تسعة فيهم زوبعة وروي في ذلك أحاديث عن
104

عبد الله بن مسعود ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إني خارج إلى وفد الجن فمن شاء يتبعني) فسكت أصحابه فقالها ثانية فسكتوا فقال عبد الله انا اتبعك قال فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون فأدار لي دائرة وقال لي لا تخرج منها ثم ذهب عني فسمعت لغطا ودويا كدوي النسور الكاسرة ثم في آخر اليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ان قرا عليهم القرآن وعلمهم وأعطاهم زادا في كل عظم وروثة فقال يا عبد الله ما رأيت فأخبرته فقال لقد كنت اخشى ان تخرج فيتخطفك بعضهم قلت يا رسول الله سمعت لهم لغطا فقال إنهم تداراوا في قتيل لهم فحكمت بالحق
واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود وروي عنه ما ذكرنا
وذكر عنه انه رأى رجالا من الجن وبهم شبه رجال الزط السود الطوال حين رآهم بالكوفة
وروي عنه أنه قال ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها
وقوله * (نفرا) * يقتضي ان المصروفين رجالا لا أنثى فيهم
والنفر والرهط القوم الذين لا أنثى فيهم
وقوله تعالى " فلما حضروه وقالوا أنصتوا " فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرا جمهور الناس (قضي) على بناء الفعل للمفعول
وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز (قضى) على بناء الفعل للفاعل أي قضى محمد القراءة
وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله قرأ عليهم سورة الرحمن فكان إذا قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * الرحمن 3 قالوا لا بشيء من آلائك نكذب ربنا لك الحمد ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن
قال قتادة ما أسرع ما عقل القوم
قال القاضي أبو محمد فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباههم صلى الله على محمد عبده ورسوله
قوله عز وجل
سورة الأحقاف 30 - 33
المعنى قال هؤلاء المنذورن لما بلغوا قومهم * (يا قومنا إنا سمعنا كتابا) * وهو القرآن العظيم وخصصوا * (موسى) * عليه السلام لأحد أمرين إما لأن هذه الطائفة كانت تدين بدين اليهود وإما لأنهم
105

كانوا يعرفون أن موسى قد ذكر محمدا وبشر به فأشاروا إلى موسى من حيث كان هذا الأمر مذكورا في توراته
قال ابن عباس في كتاب الثعلبي لم يكونوا علموا امر عيسى عليه السلام فلذلك قالوا * (من بعد موسى) * وقولهم * (مصدقا لما بين يديه) * يؤيد هذا
و * (ما بين يديه) * هي التوراة والإنجيل
و * (الحق) * و (الطريق المستقيم) هنا بمعنى يتقارب لكن من حيث اختلف اللفظ وربما كان * (الحق) * أعم وكان أحدهما قد يقع في مواضع لا يقع فيها الآخر حسن التكرار
و * (داعي الله) * هو محمد عليه السلام والضمير في " به " عائد على الله تعالى
وقوله * (يغفر) * معناه يغفر الله * (ويجركم) * معناه يمنعكم ويجعل دونكم جوار حفظه حتى لا ينالكم عذاب
وقوله تعالى * (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز) * الآية يحتمل ان يكون من كلام المنذرين ويحتمل ان يكون من كلام الله تعالى لمحمد عليه السلام والمراد بها إسماع الكفار وتعلق اللفظ إلى هذا المعنى من قول الجن * (أجيبوا داعي الله) * فلما حكى ذلك قيل ومن لا يفعل هذا فهو بحال كذا والمعجز الذاهب في الأرض الذي يبدي عجز طالبه ولا يقدر عليه وروي عن ابن عامر (وليس لهم من دونه) بزيادة ميم
وقوله تعالى " أو لم يروا " الضمير لقريش وهذه آية مثل واحتجاج لأنهم قالوا إن الأجساد لا يمكن ان تبعث ولا تعاد وهم مع ذلك معترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض فأقيمت عليهم الحجة من أقوالهم
والرؤية في قوله " أو لم يروا " رؤية القلب
وقرأ جمهور الناس (ولم يعي) بسكون العين وفتح الياء الأخيرة
وقرا الحسن بن أبي الحسن (يع) بكسر العين وسكون الياء وذلك على حذف
والباء في قوله * (بقادر) * زائدة مؤكدة ومن حيث تقدم نفي في صدر الكلام حسن التأكيد بالباء وإن لم يكن المنفي ما دخلت علي عليه كما هي في قولك ما زيد بقائم كان بدل " أو لم يروا " أو ليس الذي خلق
وقرا ابن عباس وجمهور الناس (بقادر) وقرا الجحدري والأعرج وعيسى وعمرو بن عبيد (يقدر) بالياء على فعل مستقبل ورجحها أبو حاتم وغلط قراءة الجمهور لقلق الباء عنده
وفي مصحف عبد الله بن مسعود (بخلقهن قادر)
و * (بلي) * جواب بعد النفي المتقدم فهي إيجاب لما نفي والمعنى بلى رأوا ذلك ان لو نفعهم ووقع في قلوبهم ثم استأنف اللفظ الإخبار المؤكد بقوله " إنه على كل شيء قدير "
106

قوله عز وجل
سورة الأحقاف 34 - 35
المعنى واذكر يوم وهذا وعيد للكفار من قريش وسواهم
والعرض في هذه الآية عرض مباشرة كما تقولون عرضت الجاني على السوط
والمعنى يقال لهم أليس هذا العذاب حقا وقد كنتم تكذبون به فيجيبون * (بلى وربنا) * وذلك تصديق حيث لا ينفع وروي عن الحسن أنه قال إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون انه العدل فيقول لهم المحاور من الملائكة عند ذلك * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * أي بسبب كفركم
وقوله تعالى * (فاصبر) * الفاء عاطفة هذه الجملة من الوصاة على هذه الجملة من الأخبار عن حال الكفرة في الآخرة والمعنى بينهما مرتبط أي هذه حالهم مع الله فلا تستعجل أنت فيما حملته واصبر له ولا تخف في الله أحدا
وقوله * (من الرسل) * " من " للتبعيض والمراد من حفظت له مع قومه شدة ومجاهدة كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلى الله عليهم هذا قول عطاء
الخراساني وغيره
وقال ابن زيد ما معناه إن " من " لبيان الجنس
قال والرسل كلهم " أولو العزم " ولكن قوله " كما صبر أولو العزم " يتضمن رسلا وغيرهم فبين بعد ذلك جنس الرسل خاصة تعظيما لهم ولتكون القدوة المضروبة لمحمد عليه السلام أشرف وذكر الثعلبي هذا القول عن علي بن مهدي الطبري
وحكي عن أبي القاسم الحكيم أنه قال الرسل كلهم أولو عزم الا يونس عليه السلام وقال الحسن بن الفضل هم الثمانية عشر المذكورين في سورة الأنعام لأنه قال بعقب ذكرهم * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * الأنعام 90
وقال مقاتل هم ستة نوح صبر على أذى قومه طويلا وإبراهيم صبر للناس وإسحاق صبر نفسه للذبح ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال * (فصبر جميل) * يوسف 83 ويوسف على السجن وفي البئر وأيوب صبر على البلاء
قال القاضي أبو محمد وانظر ان النبي عليه السلام قال في موسى (يرحم الله موسى) أوذي بأكثر من هذا فصبر) ولا محالة أن لكل نبي ورسول عزما وصبرا
وقوله * (ولا تستعجل لهم) * معناه لا تستعجل لهم عذابا فإنهم إليه صائرون ولا تستطل تعميرهم في هذه النعمة فإنهم يوم يرون العذاب كأنهم لم يلبثوا في الدنيا الا ساعة لاحتقارهم ذلك لأن المنقضي من الزمان إنما يصير عدما فكثيره الذي ساءت عاقبته كالقليل
وقرا أبي بن كعب (ساعة من النهار)
وقرأ جمهور القراء والناس (بلاغ) وذلك يحتمل معاني أحدها ان يكون خبر ابتداء المعنى هذا بلاغ وتكون الإشارة بهذا إلى القرآن والشرع أي هذا إنذار وتبليغ وإما إلى المدة تكون كساعة كأنه قال * (لم يلبثوا إلا ساعة) * كانت بلاغهم وهذا كما تقول متاع قليل ونحوه من المعنى
والثاني ان يكون ابتداء والخبر محذوف
والثالث ما قاله أبو مجلز
107

فإنه كان يقف على قوله * (ولا تستعجل) * ويقول (بلاغ) ابتداء وخبره متقدم في قوله * (لهم) * وقدح الناس في هذا القول بكثرة الحائل
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وعيسى (بلاغا) وهي قراءة تحتمل المعنيين اللذين في قراءة الرفع وليس يدخلها قول أبي مجلز ونصبها بفعل مضمر
وقرا أبو مجلز وأبو سراج الهذلي (بلغ) على الأمر
وقرا الحسن بن أبي الحسن (بلاغ) بالخفض نعتا ل * (نهار) *
وقرا جمهور الناس
(فهل يهلك) على بناء الفعل للمفعول
وقرأ بعضهم فيما حكى هارون (فهل يهلك) ببناء الفعل للفاعل وكسر اللام وحكاها أبو عمرو عن الحسن وابن محيصن (يهلك) بفتح الياء واللام قال أبو الفتح وهي مرغوب عنها
وروى زيد بن ثابت عن النبي عليه السلام (فهل يهلك) بضم الياء وكسر اللام (الا القوم الفاسقين) بالنصب
وفي هذه الألفاظ وعيد محض وإنذار بين وذلك أن الله تعالى جعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها وامر بالطاعة ووعد عليها بالجنة ونهى عن الكفر وأوعد عليه بالنار فلن يهلك على الله الا هالك كما قال صلى الله عليه وسلم
قال الثعلبي يقال إن قوله * (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) * أرجى آية في كتاب الله تعالى للمؤمنين
108

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة محمد
هذه السورة مدنية بإجماع غير أن بعض الناس قال في قوله تعالى * (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك) * محمد 13 إنها نزلت بمكة في وقت دخول النبي فيها عام الفتح أو سنة الحديبية وما كان مثل هذا فهو معدود في المدني لأن المراعى في ذلك إنما هو ما كان قبل الهجرة أو بعدها
قوله عز وجل
سورة محمد 1 - 3
قوله تعالى * (الذين كفروا) * الآية إشارة إلى أهل مكة الذين اخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقوله * (والذين آمنوا) * الآية إشارة إلى الأنصار أهل المدينة الذين آووه وفي الطائفتين نزلت الآيتان قاله ابن عباس ومجاهد ثم هي بعد تعم كل من دخل تحت ألفاظها
وقوله * (وصدوا) * يحتمل ان يريد الفعل المجاوز فيكون المعنى * (وصدوا) * غيرهم ويحتمل ان يكون الفعل غير متعد فيكون المعنى * (وصدوا) * أنفسهم
و * (سبيل الله) * شرعه وطريقه الذي دعا إليه
وقوله * (أضل أعمالهم) * أي اتلفها لم يجعل لها غاية خير ولا نفعا وروي ان هذه الآية نزلت بعد بدر وان الإشارة بقوله * (أضل أعمالهم) * هي إلى الإنفاق الذي
انفقوه في سفرتهم إلى بدر وقيل المراد بالأعمال أعمالهم البرة في الجاهلية من صلة رحم ونحوه واللفظ يعم ذلك
وقرا الناس (نزل) بضم النون وشد الزاي
وقرا الأعمش (أنزل) معدى بالهمزة وقوله تعالى * (وأصلح بالهم) * قال قتادة معناه وأصلح حالهم
وقرا ابن عباس (أمرهم)
وقال مجاهد شأنهم
وتحرير التفسير في اللفظة انها بمعنى الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب فإذا صلح ذلك صلحت حاله فكأن اللفظة مشيرة إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع فقولك خطر في
109

بالي كذا وقولك أصلح الله بالك المراد بهما واحد ذكره المبرد
والبال مصدر كالحال والشأن ولا يستعمل منها فعل وكذلك عرفه ان لا يثني ولا يجمع وقد جاء مجموعا لكنه شاذ فإنهم قالوا بالات
وقوله تعالى * (ذلك بأن الذين كفروا) * الإشارة إلى هذه الأفعال التي ذكر الله انه فعلها بالكفار وبالمؤمنين
و * (الباطل) * الشيطان وكل ما يأمر به قاله مجاهد
و * (الحق) * هنا هو الشرع ومحمد عليه السلام
وقوله * (كذلك) * يبين امر كل فرقة ويجعل لها ضربها من القول وصنفها
وضرب المثل مأخوذ من الضريب والضرب الذي هو بمعنى النوع
قوله عز وجل
سورة محمد 4 - 9
قال ابن عباس وقتادة وابن جريج والسدي إن هذه الآية منسوخة بآية السيف التي في براءة * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * التوبة 5 وإن الأسر والمن والفداء مرتفع فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد وروي نحوه عن أبي بكر الصديق
وقال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء ما معناه إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك والمن والفداء ثابت وقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال وفادى أسرى بدر وقاله الحسن وقال لا يقتل الأسير الا في الحرب يهيب بذلك على العدو
وكان عمر بن عبد العزيز يفادي رجلا برجل ومنع الحسن أن يفادوا بالمال
وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له انه قتل مسلمين
وقالت فرقة هذه الآية خصصت من الأخرى أهل الكتاب فقط ففيهم المن والفداء وعباد الأوثان ليس فيهم الا القتل
وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان
وقوله هنا * (فضرب الرقاب) * بمثابة قوله هناك * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * التوبة 5 وصرح هنا بذكر المن والفداء ولم يصرح به هنالك وهو مراد متقرر وهذا هو القول القوي
وقوله * (فضرب الرقاب) * مصدر بمعنى الفعل اي فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره والمراد اقتلوهم بأي وجه أمكن وقد زادت آية * (واضربوا منهم كل بنان) * الأنفال 12 وهي من انكى ضربات الحرب لأنها تعطل من المضروب جميع جسده إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها
و * (أثخنتموهم) * معناه بالقتل والاثخان في القوم ان يكثر فيهم القتلى والجرحى والمعنى فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه الا الأسر
و * (منا) * و * (فداء) *
110

مصدران منصوبان بفعلين مضمرين
وقرا جمهور الناس (فداء) وقرأ شبل عن ابن كثير (فدى) مقصورا
وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه القتل أو الاسترقاق أو ضرب الجزية أو الفداء أو المن ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك
وقوله تعالى * (حتى تضع الحرب أوزارها) * معناه حتى تذهب وتزول أثقالها
والأوزار الأثقال فيها والآلات لها ومنه قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي
(وأعددت للحرب أوزارها
* رماحا طوالا وخيلا ذكورا) المتقارب
وقال الثعلبي وقيل الأوزار في هذه الآية الآثام جمع وزر لأن الحرب لا بد ان يكون فيها آثام في أحد الجانبين
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها * (تضع الحرب أوزارها) * فقال قتادة حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها
وقال حذاق أهل النظر حتى تغلبوهم وتقتلوهم
وقال مجاهد حتى ينزل عيسى ابن مريم
قال القاضي أبو محمد وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبدا وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع اوزراها فجاء هذا كما تقول انا أفعل كذا إلى يوم القيامة فإنما تريد إنك تفعله دائما
وقوله تعالى * (ذلك) * تقديره الأمر ذلك
ثم قال * (ولو يشاء الله لانتصر منهم) * أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وان يبلو بعض الناس ببعض
وقرا جمهور الناس (قاتلوا) وقرا عاصم الجحدري بخلاف عنه (قتلوا) بفتح القاف والتاء
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم والأعرج وقتادة والأعمش (قتلوا) بضم القاف وكسر التاء
وقرا زيد بن ثابت والحسن والجحدري وأبو رجاء (قتلوا) بضم القاف وكسر التاء وشدها والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى وقال قتادة نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم أحد من المؤمنين
وقوله تعالى * (سيهديهم) * أي إلى طريق الجنة وقد تقدم القول في إصلاح البال
وروى عباس بن المفضل عن أبي عمرو (ويدخلهم) بسكون اللام
وفي سورة التغابن * (يوم يجمعكم) * التغابن 9 وفي سورة الانسان * (إنما نطعمكم) * الإنسان 9 بسكون العين والميم
وقوله تعالى * (عرفها لهم) * قال أبو سعيد الخدري وقتادة ومجاهد معناه بينها لهم أي جعلهم يعرفون منازلهم منها وفي نحو هذا المعنى هو قول النبي عليه السلام لأحدكم بمنزلة في الجنة اعرف منه بمنزله في الدنيا
وقالت فرقة معناه سماها لهم ورسمها كل منزل باسم صاحبه فهذا نحو من التعريف
وقالت فرقة معناه شرفها لهم ورفعها وعلاها وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها ومنه أعراف
111

الخيل
وقال مؤرج وغيره معناه طيبها مأخوذ من العرف ومنه طعام معرف أي مطيب وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل
وقوله تعالى * (إن تنصروا الله) * فيه حذف مضاف أي دين الله ورسوله والمعنى تنصروه بجدكم واتباعكم وإيمانكم * (ينصركم) * بخلق القوة لكم والجرأة وغير ذلك من المعاون
وقرأ جمهور الناس (ويثبت) بفتح التاء المثلثة وشد الباء
وقرأ المفضل عن عاصم (ويثبت) بسكون الثاء وتخفيف الباء وهذا التثبيت هو في مواطن الحرب على الإسلام وقيل على الصراط في القيامة
وقوله تعالى * (فتعسا لهم) * معناه عثارا وهلاكا فيه وهي لفظة تقال للعاثر إذا أريد به الشر ومنه قول الشاعر
(يا سيدي إن عثرت خذ بيدي
* ولا تقل لا ولا تقل تعسا) المنسرح
وقال الأعشى
(بذات لوت عفرناة إذا عثرت
* فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا) البسيط
ومنه قول أم مسطح لما عثرت في مرطها تعس مسطح
قال ابن السكيت التعس ان يخر على وجهه
و * (تعسا) * مصدر نصبه قعل مضمر
وقوله تعالى * (كرهوا ما أنزل الله) * يريد القرآن
وقوله * (فأحبط أعمالهم) * يقتضي ان أعمالهم في كفرهم التي هي بر مقيدة محفوظة ولا خلاف ان الكافر له حفظة يكتبون سيئاته
واختلف الناس في حسناتهم فقالت فرقة هي ملغاة يثابون عليها بنعم الدنيا فقط
وقالت فرقة هي محصاة من أجل ثواب الدنيا ومن اجل انه قد يسلم فينضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام وهذا أحد التأويلين في قول النبي عليه السلام لحكيم بن حزام (أسلمت على ما سلف لك من خير)
فقوم قالوا تأويله أسلمت على أن يعد لك ما سلف من خير وهذا هو التأويل الذي أشرنا إليه
وقالت فرقة معناه أسلمت على إسقاط ما سلف لك من خير إذ قد ثوبت عليه بنعم دنياك
وذكر الطبري ان اعمالهم التي أخبر في هذه الآية بحبطها عبادتهم الأصنام وكفرهم
ومعنى * (أحبط) * جعلها من العمل الذي لا يزكو ولا يعتد به فهي لذلك كالذي أحبط
112

قوله عز وجل
سورة محمد 10 - 13
قوله تعالى * (أفلم يسيروا) * توقيف لقريش وتوبيخ و * (الذين من قبلهم) * يريد ثمود وقوم لوط وقوم شعيب وأهل السد وغيرهم
والدمار الإفساد وهدم البناء وإذهاب العمران
وقوله * (دمر الله عليهم) * من ذلك
والضمير في قوله * (أمثالها) * يصح ان يعود على العاقبة المذكورة ويصح ان يعود على الفعلة التي يتضمنها قوله * (دمر الله عليهم) *
وقولهم * (ذلك بأن) * ابتداء وخبر في (أن) وما عملت فيه
والمولى الناصر الموالي وفي مصحف عبد الله بن مسعود (ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا)
وقال قتادة إن هذه الآية نزلت يوم أحد ومنها انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رده على أبي سفيان حين قال له (قولوا الله مولانا ولا مولى لكم)
وقوله تعالى * (ويأكلون كما تأكل الأنعام) * أي أكلا مجردا من فكرة ونظر فالتشبيه بالمعنى إنما وقع فيما عدا الأكل من قلة الفكر وعدم النظر فقوله * (كما) * في موضع الحال وهذا كما تقول لجاهل يعيش كما تعيش البهيمة فأما بمقتضى اللفظ فالجاهل والعالم والبهيمة من حيث لهم عيش فهم سواء ولكن معنى كلامك يعيش عديم النظر والفهم كما تعيش البهيمة
والمثوى موضع الإقامة وقد تقدم القول غير مرة في قوله * (وكأين) *
وضرب الله تعالى لمكة مثلا بالقرى المهلكة على عظمها كقرية قوم عاد وغيرها
و * (أخرجتك) * معناه وقت الهجرة
ونسب الإخراج إلى القرية حملا على اللفظ
وقال * (أهلكناهم) * حملا على المعنى
ويقال إن هذه الآية نزلت إثر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في طريق المدينة
وقيل نزلت بالمدينة
وقيل نزلت بمكة عام دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية
وقيل نزلت عام الفتح وهو مقبل إليها
وهذا كله حكمه حكم المدني
قوله عز وجل
سورة محمد 14 - 16
قوله تعالى * (أفمن كان) * الآية توقيف وتقرير على شيء متفق عليه وهي معادلة بين هذين الفريقين
وقال قتادة الإشارة بهذه الآية إلى محمد عليه السلام في أنه الذي هو على بينة وإلى كفار قريش في أنهم الذين زين لهم سوء أعمالهم
قال القاضي أبو محمد وبقي اللفظ عاما لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر وقوله * (على بينة) * معناه
113

على قصة واضحة وعقيدة نيرة بينة ويحتمل ان يكون المعنى على امر بين ودين بين وألحق الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة
والذي يسند إليه قوله * (زين) * الشيطان
واتباع الأهواء طاعتها كأنها تذهب إلى ناحية والمرء يذهب معها
واختلف الناس في قوله تعالى " مثل الجنة " الآية فقال النضر بن شميل وغيره * (مثل) * معناه صفة كأنه قال صفة الجنة ما تسمعون فيها كذا وكذا وقال سيبويه المعنى فيما يتلى عليكم مثل الجنة ثم فسر ذلك الذي يتلى بقوله فيها كذا وكذا
قال القاضي أبو محمد والذي ساق ان يجعل * (مثل) * بمثابة صفة هو ان الممثل به ليس في الآية ويظهر ان القصد في التمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه فيها كذا وكذا فإنه يتصور عند ذلك بقاعا على هذه الصورة وذلك هي " مثل الجنة " ومثالها وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر كأنه يقول " مثل الجنة " ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف
وقرأ علي بن أبي طالب (مثال الجنة)
وقرا علي بن أبي طالب أيضا وابن عباس (أمثال الجنة)
وعلى هذه التأويلات كلها ففي قوله * (كمن هو خالد) * حذف تقديره أساكن هذه أو تقديره أهؤلاء إشارة إلى المتقين ويحتمل عندي أيضا ان يكون الحذف في صدر الآية
كأنه قال أمثل أهل الجنة * (كمن هو خالد) * ويكون قوله * (مثل) * مستفهما عنه بغير ألف الاستفهام فالمعنى أمثل أهل الجنة وهي بهذه الأوصاف * (كمن هو خالد في النار) * فتكون الكاف في قوله * (كمن) * مؤكدة في التشبيه ويجيء قوله * (فيها أنهار) * في موضع الحال على هذا التأويل
" وماء غير آسن " معناه غير متغير قاله ابن عباس وقتادة وسواء أنتن أو لم ينتن يقال أسن الماء بفتح السين وأسن بكسرها
وقرا جمهور القراء (أسن) على وزن فاعل
وقرا ابن كثير (أسن) على وزن فعل وهي قراءة أهل مكة والأسن أيضا هو الذي يخشى عليه من ريح منتنة من ماء ومنه قول الشاعر
(التارك القرن مصرا أنامله
* يميل في الرمح ميل المائح الأسن)
وقال الأخفش (آسن) لغة والمعنى الإخبار به عن الحال ومن قال (آسن) على وزن فاعل فهو يريد به أن يكون كذلك في المستقبل فنفى ذلك في الآية
وقرأت فرقة (غير يسن) بالياء
قال أبو علي وذلك على تخفيف الهمزة قال أبو حاتم عن عوف كذلك كانت في المصحف (يسن) فغيرها الحجاج
وقوله في اللبن * (لم يتغير طعمه) * نفي لجميع وجوه الفساد في اللبن وقوله * (لذة للشاربين) * جمعت طيب المطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره و * (لذه) * نعت على النسب أي ذات لذة
وتصفية العسل مذهبه لمومه وضرره
وقوله * (ومن كل الثمرات) * أي من هذه الأنواع لكنها بعيدة الشبه إذ تلك لا عيب فيها ولا تعب بوجه
وقوله * (ومغفرة من ربهم) * معناه وتنعيم أعطته المغفرة وسببته فالمغفرة إنما هي قبل الجنة وقوله * (وسقوا) * الضمير عائد على (من) لأن المراد به جمع
وقوله تعالى * (ومنهم من يستمع إليك) * يعني بذلك المنافقين من أهل المدينة وذلك انهم كانوا
114

يحضرون عند النبي عليه السلام فيسمعون كلامه وتلاوته فإذا خرجوا قال بعضهم لمن شاء من المؤمنين الذين علموا وانتفعوا " ما ذا قال آنفا " فكان منهم من يقول هذا استخفافا أي ما معنى ما قال وما نفعه وما قدره ومنهم من كان يقول ذلك جهالة ونسيانا لأنه كان في وقت الكلام مقبلا على فكرته في امر دنياه وفي كفره فكان القول يمر صفحا فإذا خرج قال * (ماذا قال آنفا) * وهذا أيضا فيه ضرب من الاستخفاف لأنه كان يصرح أنه كان يقصد الإعراض وقت الكلام ولو لم يكن ذلك بقصد لم يبعد أن يجري على بعض المؤمنين
وروي ان عبد الله بن مسعود وابن عباس ممن سئل هذا السؤال حكاه الطبري عن ابن عباس
وقرا الجمهور (آنفا) على وزن فاعل وقرا ابن كثير وحده (انفا) على وزن فعل وهما اسما فاعل من ائتنف وجريا على غير فعلهما وهذا كما جرى فقير على افتقر ولم يستعمل فقر وهذا كثير والمفسرون يقولون (أنفا) معناه الساعة الماضية القريبة منا وهذا تفسير بالمعنى
ثم أخبر تعالى أنه * (طبع) * على قلوب هؤلاء المنافقين الفاعلين لهذا وهذا الطبع يحتمل ان يكون حقيقة ويحتمل ان يكون استعارة وقد تقدم القول فيه
قوله عز وجل
سورة محمد 17 - 19
لما ذكر تعالى المنافقين بما هم أهله من قوله * (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم) * محمد 16 عقب ذلك بذكر المؤمنين ليبين الفرق وشرفهم بإسناد فعل الاهتداء إليهم وهي إشارة إلى تكسبهم
وقوله تعالى * (زادهم هدى) * يحتمل ان يكون الفاعل في * (زادهم) * الله تعالى والزيادة في هذا المعنى تكون إما بزيادة التفهيم والأدلة وإما بورود الشرائع والنواهي والأخبار فيزيد الاهتداء لتزيد علم ذلك كله والإيمان به وذلك بفضل الله تعالى ويحتمل ان يكون الفاعل في * (زادهم) * قول المنافقين واضطرابهم لأن ذلك مما يتعجب المؤمن منه ويحمد الله على إيمانه ويتزيد بصيرة في دينه فكأنه قال المهتدون والمؤمنون زادهم فعل هؤلاء المنافقين هدى أي كانت الزيادة بسببه فأسند الفعل إليه وقالت فرقة إن هذه الآية نزلت في قوم من النصارى آمنوا بمحمد فالفاعل في * (زادهم) * محمد عليه السلام كان سبب الزيادة فأسند الفعل اليه
وقوله على هذا القول * (اهتدوا) * يريد في إيمانهم بعيسى عليه السلام ثم * (زادهم) * محمد * (هدى) * حين آمنوا به
والفاعل في * (آتاهم) * يتصرف بحسب التأويلات المذكورة وأقواها ان الفاعل الله تعالى
* (وأتاهم) * معناه أعطاهم أي جعلهم متقين له فالتقدير تقواهم إياه
115

وقرا الأعمش (وأنطاهم تقواهم) وهي بمعنى أعطاهم ورواها محمد بن طلحة عن أبيه
وهي في مصحف عبد الله
وقوله تعالى * (فهل ينظرون) * يريد المنافقين والمعنى * (فهل ينظرون) * أي هكذا هو الأمر في نفسه وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك فإن ما في أنفسهم غير مراعى لأنه باطل
وقرأ جمهور الناس (أن تأتيهم) ف * (أن) * بدل من * (الساعة) *
وقوله تعالى على هذه القراءة
* (فقد جاء أشراطها) * إخبار مستأنف والفاء عاطفة جملة من الكلام على جملة
وقرأ أهل مكة فيما روى الرؤاسي (إن تأتهم) بكسر الألف وجزم الفعل على الشرط والفاء في قوله * (فقد جاء أشراطها) * جواب الشرط وليست بعاطفة على القراءة الأولى فثم نحو من معنى الشرط
و * (بغتة) * معناه فجأة وروي عن أبي عمرو (بغتة) بفتح الغين وشد التاء
وقوله * (فقد جاء أشراطها) * على القراءتين معناه فينبغي ان يقع الاستعداد والخوف منها لمن جزم ونظر لنفسه
والذي جاء من أشراط الساعة محمد عليه السلام لأنه آخر الأنبياء فقد بان من امر الساعة قدر ما وفي الحديث عنه عليه السلام أنه قال (أنا من أشراط الساعة وقد بعثت انا والساعة كهاتين وكفرسي رهان)
ويقال شرط وشرط بسكون الراء وتخفيفها وأشرط الرجل نفسه ألزمها أمورا
وقال أوس بن حجر
(فأشرط فيها نفسه وهو معصم
* وألقى بأسباب له وتوكلا) الطويل
وقوله تعالى * (فأنى لهم) * الآية يحتمل ان يكون المعنى * (فأنى لهم) * الخلاص أو النجاة * (إذ جاءتهم) * الذكرى بما كانوا يخبرون به في الدنيا فيكذبون به وجاءهم العذاب مع ذلك
ويحتمل ان يكون المعنى فأنى لهم ذكراهم وعملهم بحسبها إذا جاءتهم الساعة وهذا تأويل قتادة نظيره * (وأنى لهم التناوش من مكان بعيد) * سبأ 52
وقوله تعالى * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * الآية إضراب عن امر هؤلاء المنافقين وذكر الأهم والمعنى دم على علمك وهذا هو القانون في كل امر بشيء هو متلبس به وهذا خطاب للنبي عليه السلام وكل واحد من الأمة داخل معه فيه
واحتج بهذه الآية من قال من أهل السنة إن العلم والنظر قبل القول والإقرار في مسألة أول الواجبات
وبوب البخاري رحمه الله العلم قبل القول والعمل لقوله تعالى * (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) * الآية وواجب على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات فإنها صدقة
وقال الطبري وغيره * (متقلبكم) * تصرفكم في يقظتكم
* (ومثواكم) * منامكم
وقال ابن عباس * (متقلبكم) * تصرفكم في حياتكم الدنيا
* (ومثواكم) * في قبوركم وفي آخرتكم
116

قوله عز وجل
سورة محمد 20 - 23
هذا ابتداء وصف حال المؤمنين في جدهم في دين الله وحرصهم على ظهوره وحال المنافقين من الكسل والفشل والحرص عل فساد دين الله وأهله وذلك أن المؤمنين كان حرصهم يبعثهم على تمني الظهور وتمني قتال العدو وفضيحة المنافقين ونحو ذلك مما هو ظهور للإسلام فكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ والله تعالى قد جعل ذلك بآماد مضروبة وأوقات لا تتعدى فمدح الله المؤمنين بحرصهم
وقولهم * (لولا نزلت سورة) * معناه تتضمن إظهارنا وأمرنا بمجاهدة العدو ونحوه
ثم اخبر تعالى عن حال المنافقين عند نزول امر القتال
وقوله * (محكمة) * معناه لا يقع فيها نسخ وبهذا الوجه خصص السورة بالأحكام واما الأحكام الذي هو بمعنى الإتقان فالقرآن فيه كله سواء
وقال قتادة كل سورة فيها القتال فهي محكمة وهو أشد القرآن على المنافقين
قال القاضي أبو محمد وهذا امر استقرأه قتادة من القرآن وليس من تفسير هذه الآية في شيء
وفي مصحف ابن مسعود (سورة محدثة)
والمرض الذي في القلوب استعارة لفساد المعتقد وحقيقة الصحة والمرض في الأجسام وتستعار للمعاني ونظر الخائف الموله قريب من نظر * (المغشي عليه) *
وخسسهم هذا الوصف والتشبيه
وقوله تعالى * (فأولى لهم) * الآية (أولى) وزنه أفعل من وليك الشيء يليك
وقالت فرقة وزنه أفلع وفيه قلب لأنه مشتق من الويل والمشهور من استعمال (أولى) أنك تقول هذا أولى بك من هذا أي أحق وقد تستعمل (أولى) فقط على جهة الحذف والاختصار لما معها من القول فتقول على جهة الزجر والتوعد أولى لك يا فلان وهذه الآية من هذا الباب ومنه قوله تعالى * (أولى لك فأولى) * القيامة 34 - 35 ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه للحسن أولى لك
وقالت فرقة من المفسرين (أولى) رفع بالابتداء و * (طاعة) * خبره
قال القاضي أبو محمد فهذا هو المشهور من استعمال (أولى)
وقالت فرقة من المفسرين * (أولى لهم) * ابتداء وخبر معناه الزجر والتوعد
ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى قوله * (طاعة وقول معروف) * فقال بعضها التقدير * (طاعة وقول معروف) * أمثل وهذا هو تأويل مجاهد ومذهب الخليل وسيبويه وحسن الابتداء بالنكرة لأنها مخصصة ففيها بعض التعريف
وقال بعضها التقدير الأمر * (طاعة وقول معروف) * أي الأمر المرضي لله تعالى
وقال بعضها التقدير قولهم لك يا محمد على جهة الهزء والخديعة * (طاعة وقول معروف) * فإذا عزم الأمر كرهوه ونحو هذا من التقدير قاله قتادة
وقال أيضا ما معناه إن تمام الكلام الذي معناه الزجر والتوعد ب (أولى)
وقوله * (لهم) *
117

ابتداء كلام ف * (طاعة) * على هذا القول ابتداء وخبره * (لهم) * والمعنى ان ذلك منهم على جهة الخديعة فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا
وقوله * (عزم الأمر) * استعارة كما قال
(قد جدت الحرب بكم فجدوا
*)
ومن هذا الباب نام ليلك ونحوه
وقوله * (صدقوا الله) * يحتمل ان يكون من الصدق الذي هو ضد الكذب ويحتمل ان يكون من قولك عود صدق والمعنى متقارب
وقوله تعالى: * (فهل عسيتم) * مخاطبة لهؤلاء (الذين في قلوبهم مرض) أي قل لهم يا محمد.
وقرا نافع وأهل المدينة (عسيتم) بكسر السين
وقرأ أبو عمرو والحسن وعاصم وأبو جعفر وشيبة (عسيتم) بفتح السين والفتح أفصح لأنه من عسى التي تصحبها (أن)
والمعنى فهل عسى أن تفعلوا * (إن توليتم) * غير * (أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) * وكأن الاستفهام الداخل على عسى غير معناها بعض التغيير كما يغير الاستفهام قولك أو لو كان كذا وكذا
وقوله * (إن توليتم) * معناه إن أعرضتم عن الحق
وقال قتادة كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن
وقرا جمهور القراء (إن توليتم) والمعنى إن أعرضتم عن الإسلام
وقال كعب الأحبار ومحمد بن كعب القرظي المعنى إن توليتم أمور الناس من الولاية وعلى هذا قيل إنها نزلت في بني هاشم وبني أمية ذكره الثعلبي
وروى عبد الله بن مغفل عن النبي عليه السلام (إن وليتم) بواو مضمومة ولام مكسورة
قرأ علي بن أبي طالب (إن توليتم) بضم التاء والواو وكسر اللام المشددة على معنى إن وليتكم ولاية الجور فملتم إلى دنياهم دون إمام العدل أو على معنى إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وأفعال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والسباء فإنما كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم وقيل معناها إن توليكم الناس ووكلكم الله إليهم
وقرا جمهور الناس (وتقطعوا) بضم التاء وشد الطاء المكسورة
وقرا أبو عمرو (وتقطعوا) بفتح التاء والطاء المخففة وهي قراءة سلام ويعقوب
وقوله تعالى " أولئك الذين لعهنم الله " إشارة إلى مرضى القلوب المذكورين
و * (لعنهم) * معناه أبعدهم
وقوله * (فأصمهم وأعمى أبصارهم) * استعارة لعدم سمعهم فكأنهم عمي وصم
118

قوله عز وجل
سورة محمد 24 - 28
قوله تعالى * (أفلا يتدبرون القرآن) * توقيف وتوبيخ وتدبر القرآن زعيم بالتبيين والهدى و * (أم) * منقطعة وهي المقدرة ببل وألف الاستفهام
وقوله تعالى * (أم على قلوب أقفالها) * استعارة للرين الذي منعهم الإيمان
وروي ان وفد اليمن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب فقرا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال الفتى عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويفرجها قال عمر فعظم في عيني فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي الخلافة فاستعان بذلك الفتى
وقوله تعالى * (إن الذين ارتدوا على أدبارهم) * الآية قال قتادة إنها نزلت في قوم من اليهود كانوا قد عرفوا من التوراة امر محمد عليه السلام وتبين لهم الهدى بهذا الوجه فلما باشروا أمره حسدوه فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى
وقال ابن عباس وغيره نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم
والآية تعم كل من دخل في ضمن لفظها غابر الدهر
و * (سول) * معناه أرجاهم سولهم وامانيهم وقال أبو الفتح عن أبي علي أنه بمعنى دلاهم مأخوذ من السول وهو الاسترخاء والتدلي
وقرا جمهور القراء (واملى لهم) وامال ابن كثير وشبل وابن مصرف (أملى)
وفاعل * (املي) * هنا قال الحسن هو * (الشيطان) * جعل وعده الكاذب بالبقاء كالإملاء وذلك أن الإملاء هو الإبقاء ملاوة من الدهر يقال ملاوة وملاوة وملاوة بضم الميم وفتحها وكسرها وهي القطعة من الزمن ومنه الملوان الليل والنهار فإذا املى الشيطان إملاء لا صحة له الا بطمعهم الكاذب ويحتمل ان يكون الفاعل في * (املي) * الله عز وجل كأنه قال الشيطان سول لهم وأملى الله لهم
وحقيقة الإملاء إنما هو بيد الله عز وجل وهذا هو الأرجح
وقرأ الأعرج ومجاهد والجحدري والأعمش (وأملي لهم) بضم الهمزة وكسر اللام وإرسال ياء المتكلم ورواها الخفاف عن أبي عمرو (وأملي) بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول وهي قراءة شيبة وابن سيرين والجحدري وعيسى البصري وعيسى الهمذاني وهذا يحتمل فاعله من الخلاف ما في القراءة الأولى
وقوله تعالى * (ذلك بأنهم قالوا) * الآية قيل إنها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدم ذكرهم في تفسير قوله * (إن الذين ارتدوا) * وروي ان قوما من قريظة والنضير كانوا يعدون المنافقين في امر رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلاف عليه بنصر وموازرة وذلك قولهم * (سنطيعكم في بعض الأمر) *
وقرا جمهور القراء (أسرارهم) بفتح الهمزة وذلك على جمع سر لأن أسرارهم كانت كثيرة وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (إسرارهم) بكسر الهمزة وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش وهو مصدر اسم الجنس
119

وقوله تعالى * (فكيف إذا توفتهم) * الآية يحتمل ان يتوعدوا به على معنيين أحدهما هذا هلعهم وجزعهم لفرض القتال وفراع الأعداء * (فكيف) * فزعهم وجزعهم * (إذا توفتهم الملائكة) * والثاني ان يريد هذه معاصيهم وعنادهم وكفرهم * (فكيف) * تكون حالهم مع الله * (إذا توفتهم الملائكة) * وقال الطبري المعنى * (والله يعلم إسرارهم فكيف) * علمه بها * (إذا توفتهم الملائكة) *
و * (الملائكة) * هنا ملك الموت والمصرفون معه
والضمير في * (يضربون) * ل * (الملائكة) * وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال ومن قال إن الضمير في * (يضربون) * للكفار الذين يتوفون فذلك ضعيف
و * (ما أسخط الله) * هو الكفر
والرضوان هنا الشرع والحق المؤدي إلى رضوان وقد تقدم القول في تفسير قوله * (أحبط أعمالهم) *
وقرأ الأعمش (فكيف إذا توفاهم الملائكة)
قوله عز وجل
سورة محمد 29 - 32
هذه الآية توبيخ للمنافقين وفضح لهم
وقوله * (أم حسب) * توقيف وهي * (أم) * المنقطعة وتقدم تفسير مرض القلب
وقوله * (أن لن يخرج الله أضغانهم) * أي يبديها من مكانها في نفوسهم
والضغن الحقد
وقوله تعالى " ولو نشاء لأريناكم " مقاربة في شهرتهم ولكنه تعالى لم يعينهم قط بالأسماء والتعريف التام إبقاء عليهم وعلى قرابتهم وإن كانوا قد عرفوا ب * (لحن القول) * وكانوا في الاشتهار على مراتب كعبد الله بن أبي والجد بن قيس وغيرهم ممن دونهم في الشهرة
والسيما العلامة التي كان تعالى يجعل لهم لو أراد التعريف التام بهم
وقال ابن عباس والضحاك إن الله تعالى قد عرفه بهم في سورة براءة
في قوله * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) * التوبة 84 وفي قوله " قل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا " التوبة 83
قال القاضي أبو محمد وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تام بل هو لفظ يشير إليهم على الإجمال لا أنه سمى أحدا
وأعظم ما روي في اشتهارهم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوما فأخرجت منهم جماعة من المسجد كأنه وسمهم بهذا لكنهم أقاموا على التبري من ذلك وتمسكوا بلا اله إلا الله فحقنت دماؤهم
وروي عن حذيفة ما يقتضي ان النبي عليه السلام عرفه بهم أو ببعضهم وله في ذلك كلام مع عمر رضي الله عنه
ثم أخبر الله تعالى أنه سيعرفهم * (في لحن القول) * ومعناه في مذهب القول ومنحاه
120

ومقصده وهذا هو كما يقول لك إنسان معتقده وتفهم أنت من مقاطع كلامه وهيئته وقرائن أمره انه على خلاف ما يقول وهذا معنى قوله * (في لحن القول) * ومن هذا المعنى قول النبي عليه السلام (فلعل بعضكم ان يكون ألحن بحجته من بعض) الحديث أي أذهب بها في جهات الكلام وقد يكون هذا اللحن متفقا عليه
ان يقول الإنسان قولا يفهم السامعون منه معنى ويفهم الذي اتفق مع المتكلم معنى آخر ومنه الحديث الذي قال سعد بن معاذ وابن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عضل والقارة وفي هذا المعنى قول الشاعر مالك بن أسماء
(وخير الحديث ما كان لحنا
*) الخفيف
أي ما فهمه عنك صاحبك وخفي على غيره فأخبر الله محمدا رسوله عليه السلام ان أقوالهم المحرفة التي هي على خلاف عقدهم ستتبين له فيعرفهم بها واحتج بهذه الآية من جعل في التعريض بالقذف
وقوله تعالى * (والله يعلم أعمالكم) * مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر
وقرأ جمهور القراء (ولنبلونكم) بالنون وكذلك (نعلم) وكذلك (نبلوا) وقرأ عاصم في رواية أبي بكر (وليبلونكم الله) وكذلك (يعلم) (ويبلو) وروى رويس عن يعقوب (ويبلو) بالرفع على القطع والإعلام بان ابتلاءه دائم
وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال اللهم لا تبتلنا فإنك إن ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا
وقوله تعالى * (حتى نعلم المجاهدين) * أي حتى يعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود وبان تكسبهم الذي به يتعلق ثوابهم وعلم الله بالمجاهدين قديم أزلي وإنما المعنى ما ذكرناه
وقوله تعالى * (وصدوا) * يحتمل ان يكون المعنى * (وصدوا) * غيرهم ويحتمل ان يكون غير متعد بمعنى وصدوهم في أنفسهم
وقوله * (وشاقوا الرسول) * معناه خالفوه فكانوا في شق وهو في شق
وقوله * (من بعد ما تبين لهم الهدى) * قالت فرقة نزلت في قوم من بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل بعد تبينهم لأمر محمد عليه السلام من التوراة
وقالت فرقة نزلت في قوم من المنافقين حدث النفاق في نفوسهم بعد ما كان الإيمان داخلها
وقال ابن عباس نزلت في المطعمين سفرة بدر و (تبين الهدى) هو وجوده عند الداعي اليه
وقالت فرقة بل هي عامة في كل كافر وألزمهم انه قد * (تبين لهم الهدى) * من حيث كان الهدى بينا في نفسه وهذا كما تقول لإنسان يخالفك في احتجاج على معنى التوبيخ له أنت تخالف في شيء لا خفاء به عليك بمعنى انه هكذا هو في نفسه
وقوله * (لن يضروا الله) * تحقير لهم
وقوله * (وسيحبط أعمالهم) * إما على قول من يرى أن أعمالهم الصالحة من صلة رحم ونحوه تكتب فيجيء هذا الإحباط فيها متمكنا وإما على قول من لا يرى ذلك فمعنى * (وسيحبط أعمالهم) * أنها عبارة عن إعدامه أعمالهم وإفسادها وإنها لا توجد شيئا منتفعا به فذلك إحباط على تشبيه واستعارة
121

قوله عز وجل
سورة محمد 33 - 35
روي أن هذه الآية نزلت في بني أسد من العرب وذلك انهم أسلموا وقالوا لرسول الله عليه السلام نحن قد آثرناك على كل شيء وجئناك بنفوسنا وأهلنا كأنهم منوا بذلك فنزل فيهم * (يمنون عليك أن أسلموا) * الحجرات 17 ونزلت فيهم هذه الآية
قال القاضي أبو محمد فإن كان هذا فالإبطال الذي نهوا عنه ليس بمعنى الإفساد التام لأن الإفساد التام لا يكون إلا بالكفر والا فالحسنات لا تبطلها المعاصي وإن كانت الآية عامة على ظاهرها نهي الناس عن إبطال أعمالهم بالكفر والإبطال هوالإفساد التام
وقوله تعالى * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار) * روي أنها نزلت بسبب عدي بن حاتم قال يا رسول الله إن حاتما كانت له أفعال بر فما حاله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هو في النار) فبكى عدي وولى فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار
ونزلت هذه الآية في ذلك وظاهر الآية العموم في كل ما تناولته الصفة
وقوله تعالى * (فلا تهنوا) * معناه فلا تضعفوا من وهن الرجل إذا ضعف
وقرا جمهور الناس (وتدعوا) وقرا أبو عبد الرحمن (وتدعوا) بشد الدال
وقرأ جمهور القراء (إلى السلم) بفتح السين
وقرا حمزة وأبو بكر عن عاصم (إلى السلم) بكسر السين
وهي قراءة الحسن وأبي رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وهو بمعنى المسالمة
وقال الحسن بن أبي الحسن وفرقة ممن كسر السين إنه بمعنى إلى الإسلام أي لا تهنوا وتكونوا داعين إلى الإسلام فقط دون مقاتلين بسببه
وقال قتادة معنى الآية لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت للأخرى
قال القاضي أبو محمد وهذا حسن ملتئم مع قوله * (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) * الأنفال 61
وقوله * (وأنتم الأعلون) * يحتمل موضعين أحدهما ان يكون في موضع الحال المعنى لا تهنوا وأنتم في هذه الحال
والمعنى الثاني ان يكون إخبارا بنصره ومعونته
و (يتر) معناه ينقص ويذهب ومنه قوله عليه السلام (من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) أي ذهب بجميع ذلك على جهة التغلب والقهر والمعنى لن يتركم ثواب أعمالكم وجزاء أعمالكم
واللفظة مأخوذة من الوتر الذي هو الدحل وذهب قوم إلى أنه مأخوذ من الوتر الذي هو الفرد المعنى لن يفردكم من ثواب أعمالكم والأول أصح وفسر ابن عباس وأصحابه * (يتركم) * بيظلمكم
122

قوله عز وجل
سورة محمد 36 - 38
قوله تعالى * (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) * تحقير لأمر الدنيا أي فلا تهنوا في الجهاد بسببها ووصفها باللعب واللهو هو على أنها وما فيها مما يختص بها لعب وإلا ففي الدنيا ما ليس بلعب ولا لهو وهو الطاعة وامر الآخرة وما جرى مجراه
وقوله تعالى * (وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم) * معناه هذا هو المطلوب منكم لا غيره لا تسالون أموالكم ان تنفقوها في سبيل الله وقال سفيان بن عيينة لا يسألكم كثيرا من أموالكم إحفاء إنما يسألكم غيضا من فيض ربع العشر فطيبوا أنفسكم ثم قال تعالى منبها على خلق ابن آدم * (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا) * والإحفاء هو أشد السؤال وهو المخجل المخرج ما عند المسؤول كرها ومنه حفاء الرجل والتحفي من البحث عن الشيء
وقوله * (تبخلوا) * جزم على جواب الشرط
وقرا جمهور القراء (ويخرج) جزما على * (تبخلوا) *
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو (ويخرج) بالرفع على القطع بمعنى هو يخرج وحكاها أبو حاتم عن عيسى وقرات فرقة " و " بالنصب على معنى يكن بخل وإخراج فلما جاءت العبارة بفعل دل على أن التي مع الفعل بتأويل المصدر الذي هو الإخراج والفاعل في قوله * (ويخرج) * على كل الاختلافات يحتمل ان يكون الله ويحتمل ان يكون البخل الذي تضمنه اللفظ ويحتمل ان يكون السؤال الذي يتضمنه اللفظ أيضا
وقرا ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب (يخرج) بفتح الياء (أضغانكم) رفعا على أنها فاعلة وروي عنهم (وتخرج) بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله
وقرا يعقوب (ونخرج) بضم النون وكسر الراء (أضغانكم) نصبا
والأضغان كما قلنا معتقدات السوء وهذا الذي كان يخاف ان يعتري المسلمين هو الذي تقرب به محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف حين قال له إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال ثم وقف تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم * (ها أنتم هؤلاء) * وكرر هاء التنبيه تأكيدا
وقوله * (عن نفسه) * يحتمل معنيين أحدهما فإنه يبخل عن شح نفسه والأخر ان يكون بمنزلة على لأنك تقول بخلت عليك وبخلت عنك بمعنى أمسكت عنك
وقوله تعالى * (والله الغني وأنتم الفقراء) * معنى مطرد في قليل الأشياء وكثيرها
123

وقوله تعالى " يستبدل قوما غيركم " قيل الخطاب لقريش والقوم الغير هم أهل المدينة
وقال عبد الرحمن بن جبير وشريح بن عبيد الخطاب لمن حضر المدينة
والقوم الغير فارس
وروى أبو هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا وكان سلمان إلى جنبه فوضع يده على فخذه وقال (قوم هذا لو كان الدين بالثريا لناله رجال من أهل فارس)
وقوله * (أمثالكم) * معناه في الخلاف والتولي والبخل بالأموال ونحو هذا وحكى الثعلبي ان القوم الغير هم الملائكة
نجز تفسير سورة القتال والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
124

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفتح
هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الحديبية وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس وابن مسعود وغيرهما تقتضي صحته وهي بهذا في حكم المدني
وقال الزهراوي عن مجاهد وعن ابن عباس إنها نزلت بالمدينة والأول أصح ويشبه ان منها بعضا نزل بالمدينة واما صدر السورة ومعظمها فكما قلنا ويقضي بذلك قول النبي عليه السلام لعمر وهما في تلك السفرة (لقد نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها)
قال القاضي أبو محمد ذكر مكي هنا ان المعنى بشرط ان تبقى الدنيا ولا تفنى وفي هذا نظر
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في تلك الوجهة ليعتمر بمكة فصده المشركون القصة المشهورة سنة ست من الهجرة
قوله عز وجل
سورة الفتح 1 - 4
قال قوم فيما حكى الزهراوي * (فتحنا لك) * يريد به فتح مكة وحكاه الثعلبي أيضا ونسبه النقاش إلى الكلبي وأخبره تعالى به على معنى قضينا به والفتك القاضي بلغة اليمن وقيل المراد * (إنا فتحنا لك) * بأن هديناك إلى الإسلام ليغفر
وقال جمهور الناس والصحيح الذي تعضده قصة الحديبية ان قوله * (إنا فتحنا لك) * إنما معناه إن ما يسر الله لك في تلك الخرجة فتح مبين تستقبله ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين لأنهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي عليه السلام فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت ومذهبه ما كان في قلوبهم ومنه حديث عمر الشهير وما قاله للنبي عليه السلام ولأبي بكر واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة انه هادن عدوه ريثما يتقوى هو وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه سهمه وثاب الماء حتى كفى الجيش واتفقت بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب
وبلغ هديه محله قاله الشعبي واستقبل فتح خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين خيرا ولم يفتحها الا أهل الحدييبة ولم يشركهم فيها أحد
125

قال القاضي أبو محمد وفيه نظر لأن أصحاب السفينة مع جعفر بن أبي طالب شاركوهم في القسم فينبغي ان يقال لم يشاركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية واتفقت في ذلك الوقت ملحمة عظيمة بين الروم وفارس ظهرت فيها الروم فكانت من جملة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسر بها هو والمؤمنون لظهور أهل الكتاب على المجوس وانخضاد الشوكة العظمى من الكفر
ثم عظم الله أمر نبيه بان نبأه انه غفر له * (ما تقدم) * من ذنبه * (وما تأخر) * فقوله * (ليغفر) * هي لام كي لكنها تخالفها في المعنى والمراد هنا ان الله فتح لك لكي يجعل ذلك أمارة وعلامة لغفرانه لك فكأنها لام صيرورة ولهذا قال عليه السلام (لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي من الدنيا)
وقال الطبري وابن كيسان المعنى * (إنا فتحنا لك) * فسبح بحمد ربك واستغفره ليغفر لك وبنيا هذه الآية مع قوله تعالى * (إذا جاء نصر الله والفتح) * النصر 1 السورة إلى آخرها
قال القاضي أبو محمد وهذا ضعيف من وجهين أحدهما ان سورة * (إذا جاء نصر الله والفتح) * النصر 1 إنما نزلت من آخر مدة النبي عليه السلام ناعية له نفسه حسبما قال ابن عباس عندما سأل عمر عن ذلك
والآخر ان تخصيص النبي عليه السلام بالتشريف كان يذهب لأن كل أحد من المؤمنين هو مخاطب بهذا الذي قال الطبري أي سبح واستغفر لكي يغفر الله ولا يتضمن هذا ان الغفران قد وقع وما قدمناه أولا يقتضي وقوع الغفران للنبي عليه السلام ويدل على ذلك قول الصحابة له حين قام حتى تورمت قدماه أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال (أفلا أكون عبدا شكورا) فهذا نص في أن الغفران قد وقع
وقال منذر بن سعيد المعنى مجاهدتك بالله المقترنة بالفتح هي ليغفر
وحكى الثعلبي عن الحسن بن الفضل ان المعنى * (إنا فتحنا لك) * فاستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات * (ليغفر لك) * الآية وهذا نحو قول الطبري
وقوله * (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * قال سفيان الثوري * (ما تقدم) * يريد قبل النبوءة * (وما تأخر) * كل شيء لم تعلمه وهذا ضعيف وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب البتة واجمع العلماء على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل وجوز بعضهم الصغائر التي ليست برذائل واختلفوا هل وقع ذلك من محمد عليه السلام أو لم يقع وحكى الثعلبي عن عطاء الخراساني أنه قال * (ما تقدم) * هو ذنب آدم وحواء أي ببركتك * (وما تأخر) * هي ذنوب أمتك بدعائك
قال الثعلبي الإمامية لا تجوز الصغائر على النبي ولا على الإمام والآية ترد عليهم
وقال بعضهم * (وما تقدم) * هو قوله يوم بدر (اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد)
* (وما تأخر) * هو قوله يوم حنين (لن نغلب اليوم من قلة)
قال القاضي أبو محمد وإتمام النعمة عليه هو إظهاره وتغلبه على عدوه والرضوان في الآخرة
وقوله تعالى * (ويهديك صراطا مستقيما) * معناه إلى صراط فحذف الجار فتعدى الفعل وقد يتعدى هذا بغير حرف جر والنصر العزيز هو الذي معه غلبة العدو والظهور عليه والنصر غير العزيز هو الذي مضمنه الحماية ودفع العدو فقط
وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين وهي فعلية من السكون هو
126

تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت وعلموا ان وعد الله على لسان رسوله حق فازدادوا بذلك إيمانا إلى إيمانهم الأول وكثر تصديقهم
قال ابن عباس لما آمنوا بالتوحيد زادهم العبادات شيئا شيئا
فكانوا يزيدون ايمانا حتى قال لهم * (اليوم أكملت لكم دينكم) * المائدة 3 فمنحهم أكمل إيمان أهل السماوات والأرض لا إله الا الله
وفسر ابن عباس * (السكينة) * بالرحمة
وقوله * (ولله جنود السماوات والأرض) * إشارة إلى تسكين النفوس أيضا وأن تكون مسلمة لأنه ينصر متى شاء وعلى أي صورة شاء مما لا يدبره البشر ومن جنده * (السكينة) * التي انزلها في قلوب أصحاب محمد فثبت بصائرهم
وقوله تعالى * (وكان الله) * أي كان ويكون فهي دالة على الوجود بهذه الصفة لا معينة وقتا ماضيا والعلم والإحكام صفتان مقتضيتان عزة النصر لمن أراد الموصوف بهما نصره
قوله عز وجل
سورة الفتح 5 - 7
قوله تعالى * (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) * الفتح 4 معناه فازدادوا وتلقوا ذلك
فتمكن بعد ذلك قوله * (ليدخل المؤمنين) * أي بتكسبهم القبول لما انزل الله عليهم
ويروى في معنى هذه الآية انه لما نزلت * (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) * الأحقاف 9 تكلم فيها أهل الكتاب وقالوا كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به وبالناس معه فبين الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * الفتح 2 فلما سمعها تلمؤمنون قالوا هنيئا مريئا هذا لك يا رسول الله فما لنا فنزلت هذه الآية * (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) * إلى قوله * (وساءت مصيرا) * فعرفه الله تعالى ما يفعل به وبالمؤمنين والكافرين
وذكر النقاش ان رجلا من عك قال هذه لك يا رسول الله فما لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم (هي لي ولأمتي كهاتين) وجمع بين أصبعيه
وقوله * (ويكفر عنهم سيئاتهم) * فيه ترتيب الجمل في السرد لا ترتيب وقوع معانيها لأن تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة
وقوله * (الظانين بالله ظن السوء) * قيل معناه من قولهم * (لن ينقلب الرسول) * الفتح 12 فكأنهم ظنوا بالله ظن السوء في جهة الرسول والمؤمنين وقيل ظنوا بالله ظن سوء إذ هم يعتقدونه بغير صفاته فهي ظنون سوء من حيث هي كاذبة مؤدية إلى عذابهم في نار جهنم
وقوله تعالى * (عليهم دائرة السوء) * كأنه يقوي التأويل الآخر أي أصابهم ما أرادوه بكم وقرا
127

جمهور القراء (دائرة السوء) كالأول ورجحها الفراء وقال قل ما تضم العرب السين قال أبو علي هما متقاربان والفتح أشد مطابقة في اللفظ
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (ظن السوء) بفتح السين و (دائرة السوء) بضم السين وهو اسم أي (دائرة السوء) الذي أرادوه بكم في ظنهم السوء
وقرأ الحسن بضم السين في الموضعين وروى ذلك عن أبي عمرو ومجاهد وسمى المصيبة التي دعا بها عليهم * (دائرة) * من حيث يقال في الزمان إنه يستدير ألا ترى ان السنة والشهر كأنها مستديرات تذهب على ترتيب وتجيء من حيث هي تقديرات للحركة العظمى ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) فيقال الأقدار والحوادث التي هي في طي الزمان دائرة لأنها تدور بدوران الزمان كأنك تقول إن امرا كذا يكون في يوم كذا من سنة كذا فمن حيث يدور ذلك اليوم حتى يبرز إلى الوجود تدور هي أيضا فيه وقد قالوا أربعاء لا تدور ومن هذا قول الشاعر
(ودائرات الدهر قد تدور
*)) الرجز
ومنه قول الآخر
(ويعلم ان النائبات تدور
*) الطويل
وهذا كثير ويحسن ان تسمى المصيبة دائرة من حيث كمالها أن تحيط بصاحبها كما يحيط شكل الدائرة على السواء من النقطة وقد أشار النقاش إلى هذا المعنى * (وغضب الله) * تعالى متى قصد به الإرادة فهو صفة ذات ومتى قصد به ما يظهر من الأفعال على المغضوب عليه فهي صفة فعل * (ولعنهم) * معناه أبعدهم من رحمته وقال تعالى في هذه * (وكان الله عزيزا حكيما) * فذكر صفة العزة من حيث تقدم الانتقام من الكفار وفي التي قبل قرن بالحكمة والعلم من حيث وعده بمغيبات وقرن
باللفظتين ذكر جنود الله تعالى التي منها السكينة ومنها نقمة من المنافقين والمشركين فلكل لفظ وجه من المعنى وقال ابن المبارك في كتاب النقاش جنود الله في السماء والملائكة وفي الأرض الغزاة في سبيل الله قال عبد الحق وهذا بعض من كل
قوله عز وجل
سورة الفتح 7 - 10
من جعل الشاهد محصل الشهادة من يوم يحصلها فقوله * (شاهد) * حال واقعة ومن جعل الشاهد مؤدي الشهادة فهي حال مستقبلة
وهي التي يسميها النحاة المقدرة المعنى * (شاهدا) * على الناس بأعمالهم وأقوالهم حين بلغت إليهم الشرع * (ومبشرا) * معناه أهل الطاعة برحمة الله * (ونذيرا) * معناه أهل الكفر تنذرهم من عذاب الله
128

وقرا جمهور الناس في كل الأمصار (لتؤمنوا بالله) على مخاطبة الناس على معنى قل لهم وكذلك الأفعال الثلاثة بعد وقرا أبو عمرو بن العلاء وابن كثير وأبو جعفر (ليؤمنوا) بالياء على استمرار خطاب محمد عليه السلام وكذلك الأفعال الثلاثة بعد وقرا الجحدري (وتعزروه) بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي
وقرأ محمد بن السميفع اليماني وابن عباس (وتعززوه) بزاءين من العزة
وقرأ جعفر بن محمد (وتعزروه) بفتح التاء وسكون العين وكسر الزاي ومعنى * (تعزروه) * تعظموه وتكبروه قاله ابن عباس وقال قتادة معناه تنصروه بالقتال وقال بعض المتأولين الضمائر في قوله * (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه) * هي كلها لله تعالى
وقال الجمهور * (تعزروه وتوقروه) * هما لنبي عليه السلام * (وتسبحوه) * هي لله وهي صلاة البردين
وقرا عمر بن الخطاب (وتسبحوا الله) وفي بعض ما حكى أبو حاتم (وتسبحون الله) بالنون وقرا ابن عباس (وتسبحوا الله) والبكرة الغدو
والأصيل العشي
وقوله تعالى * (إن الذين يبايعونك) * يريد في بيعة الرضوان وهي بيعة الشجرة حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأهبة لقتال قريش لما بلغه قتل عثمان بن عفان رسوله إليهم وذلك قبل ان ينصرف من الحديبية وكان في ألف وأربعمائة رجل
قال النقاش وقيل كان في ألف وثمانمائة وقيل سبعمائة وقيل ستمائة وقيل ومائتين
قال القاضي أبو محمد وبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد حتى قال سلمة بن الأكوع وغيره بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وقال عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر
والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع لأن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة وبقي اسم البيعة بعد معاقدة الخلفاء والملوك وعلى هذا سمت الخوارج أنفسهم الشراة أي اشتروا بزعمهم الجنة بأنفسهم
ومعنى * (إنما يبايعون الله) * أن صفقتهم إنما يمضيها ويمنح ثمنها الله تعالى
وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب * (إنما يبايعون الله) * قال أبو الفتح ذلك على حذف المفعول لدلالة الأول عليه وقربه منه
وقوله تعالى * (يد الله) * قال جمهور المتأولين اليد بمعنى النعمة أي نعمة الله في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها
" وفوق أيديهم " التي مدوها لبيعتك
وقال آخرون * (يد الله) * هنا بمعنى قوة الله فوق قواهم أي في نصرك ونصرهم فالآية على هذا تعديد نعمة عليهم مستقبلة مخبر بها وعلى التأويل الأول تعديد نعمة حاصلة تشرف بها الأمر
قال النقاش * (يد الله) * في الثواب
وقوله * (فمن نكث) * أي فمن نقض هذا العهد فإنما يجني عل نفسه وإياها يهلك فنكثه عليه لا له
وقرا جمهور القراء (بما عهد عليه الله) بالنصب على التعظيم
وقرأ ابن أبي إسحاق (ومن أوفى
129

بما عاهد عليه الله) بالرفع على أن الله هو المعاهد
وقرأ حفص عن عاصم (عليه) مضمومة الهاء وروي ذلك عن ابن أبي إسحاق
والأجر العظيم الجنة لا يفنى نعيمها ولا ينقضي أمرها
وقرا عاصم وأبو عمر وحمزة والكسائي والعامة (فسيؤتيه) بالياء
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر (فسنؤتيه) بالنون
وفي مصحف ابن مسعود (فسيؤتيه الله)
وقوله عز وجل
سورة الفتح 11 - 12
* (المخلفون من الأعراب) * قال مجاهد وغيره هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل فإنهم في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرته عام الحديبية رأوا انه يستقبل عدوا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش ولم يكن تمكن إيمان أولئك الأعراب المجاورين للمدينة فقعدوا عن النبي عليه السلام وتخلفوا وقالوا لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ففضحهم الله في هذه الآية وأعلم محمد بقولهم واعتذارهم قبل ان يصل إليهم فكان كذلك قالوا شغلتنا الأموال والأهلون فاستغفر لنا وهذا منهم خبث وإبطال فلذلك قال تعالى * (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) * قال الرماني لا يقال أعرابي الا لأهل البوادي خاصة ثم قال لنبيه عليه السلام * (قل) * لهم * (فمن يملك لكم من الله شيئا) * أي من يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءا
وقرا جمهور القراء (إن أراد بكم ضرا) بفتح الضاد
وقرا حمزة والكسائي (ضرا) بالضم ورجحها أبو علي وهما لغتان
وفي مصحف ابن مسعود (إن أراد بكم سوءا)
ثم رد عليهم بقوله * (بل كان الله بما تعملون خبيرا) * ثم فسر لهم العلة التي تخلفوا من اجلها بقوله * (بل ظننتم) * الآية وفي قراءة عبد الله (إلى أهلهم) بغير ياء
و * (بورا) * معناه فاسدين هلكى بسبب فسادهم
والبوار الهلاك وبارت السلعة مأخوذ من هذا
وبور يوصف به الجمع والإفراد ومنه قول ابن الزبعري
(يا رسول المليك إن لساني
* راتق ما فتقت إذ انا بور) الخفيف
والبور في لغة أزد عمان الفاسد ومنه قول أبي الدرداء فأصبح ما جمعوا بورا أي فاسدا ذاهبا ومنه قول حسان بن ثابت
(لا ينفع الطول من نوك القلوب وقد
* يهدي الإله سبيل المعشر البور)
وقال الطبري في قوله تعالى * (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) * يعني به قولهم * (فاستغفر لنا) *
130

لأنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم قال قوله تعالى * (قل فمن يملك) * الآية معناه وما ينفعكم استغفاري وهل املك لكم شيئا والله قد أراد ضركم بسبب معصيتكم كما لا املك بان أراد بكم النفع في أموالكم وأهليكم
قوله عز وجل
سورة الفتح 13 - 15
لما قال لهم * (وكنتم قوما بورا) * الفتح 12 توعدهم بعد ذلك بقوله * (ومن لم يؤمن بالله ورسوله) * الآية وأنتم هكذا فأنتم ممن أعدت لهم السعير وهي النار المؤججة
والمسعر ما يحرك النار ومنه قوله عليه السلام (ويل من مسعر حرب)
ثم رجى بقوله تعالى * (ولله ملك السماوات والأرض) * الآية لأن القوم لم يكونوا مجاهرين بالكفر فلذلك جاء وعيدهم وتوبيخهم ممزوجا فيه بعض الإمهال والترجية لأن الله تعالى قد كان علم منهم انهم سيؤمنون ثم إن الله تعالى أمر نبيه على ما روي بغزو خيبر ووعده بفتحها وأعلمه ان المخلفين إذا رأوا مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود وهم عدو مستضعف طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا والغنيمة فكان كذلك
وقوله تعالى * (يريدون أن يبدلوا كلام الله) * معناه يريدون ان يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر
وقال عبد الله بن زيد بن أسلم * (كلام الله) * قوله تعالى " قل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا " التوبة 83 وهذا قول ضعيف لأن هذه الآية نزلت في رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وهذا في آخر عمره وآية هذه السورة نزلت سنة الحديبية وأيضا فقد غزت جهينة ومزينة بعد هذه المدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فضلهم رسول الله بعد ذلك على تميم وغطفان وغيرهم من العرب الحديث المشهور فامره الله تعالى ان يقول لهم في هذه الغزوة إلى خيبر * (لن تتبعونا) * وخص الله بها أهل الحديبية
وقوله تعالى * (كذلكم قال الله من قبل) * يريد وعده قبل باختصاصهم بها وقول الأعراب * (بل تحسدوننا) * معناه بل يعز عليكم ان نصيب مغنما ومالا فرد الله على هذه المقالة بقوله * (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) * أي لا يفقهون من الأمور مواضع الرشد وذلك هو الذي خلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ذلك سببا إلى منعهم من غزوة خيبر
وقرا أبو حيوة (تحسدوننا) بكسر السين
وقرا الجمهور من القراء (كلام) قال أبو علي هو أخص بما كان مفيدا حديثا
وقرأ الكسائي وحمزة وابن مسعود وطلحة وابن وثاب (كلم) والمعنى فيهما متقارب
131

قوله عز وجل
سورة الفتح 16
أمر الله نبيه عليه السلام بالتقدمة إلى هؤلاء المخلفين بأنهم سيؤمرون بقتال عدو بئيس وهذا يدل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام وإلا فلم يكونوا اهلا لهذا الأمر واختلف الناس من القوم المشاراليهم في قوله * (إلى قوم أولي بأس شديد) * فقال عكرمة وابن جبير وقتادة هم هوازن ومن حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين
قال القاضي أبو محمد ويندرج في هذا القول عندي من حورب وغلب في فتح مكة
وقال كعب هم الروم الذين خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة
وقال الزهري والكلبي هم أهل الردة وبنو حنيفة باليمامة
وقال منذر بن سعيد يتركب على هذا القول إن الآية مؤذنة بخلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما يريد لما كشف الغيب أنهما دعوا إلى قتال أهل الردة
وحكى الثعلبي عن رافع بن خديج أنه قال والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا انهم أريدوا
وقال ابن عباس وابن أبي ليلى هم الفرس
وقال الحسن هم فارس والروم
وقال أبو هريرة هم قوم لم يأتو بعد والقولان الأولان حسنان لأنهما الذي كشف الغيب وباقيهما ضعيف
وقال منذر بن سعيد رفع الله في هذه الجزية وليس الا القتال أو الإسلام وهذا لا يوجد الا في أهل الردة
قال القاضي أبو محمد وهو من حورب في فتح مكة
وقرا الجمهور من القراء (أو يسلمون) على القطع أي أو هم يسلمون دون حرب وقرا أبي بن كعب فيما حكى الكسائي (أو يسلموا) بنصب الفعل على تقدير أو يكون ان يسلموا ومثله من الشعر قول امرئ القيس
(فقلت له لا تبك عيناك إنما
* نحاول ملكا أو نموت فنعذرا) الطويل
يروى (نموت) بالنصب
و (نموت) بالرفع فالنصب على تقدير أو يكون ان نموت والرفع على القطع أو نحن نموت
وقوله * (فإن تطيعوا) * معناه فيما تدعون إليه والعذاب الذي توعدهم يحتمل ان يريد به عذاب الدنيا واما عذاب الآخرة فبين فيه
132

وقوله عز وجل
سورة الفتح 17 - 19
لما بالغ عز وجل في عتب هؤلاء المتخلفين من القبائل المجاورة للمدينة لجهينة ومزينة وغفارا وأسلم وأشجع عقب ذلك بان عذر أهل الأعذار من العرج والعمى والمرض جملة ورفع الحرج عنهم والضيق والمأثم وهذا حكم هؤلاء المعاذير في كل جهاد إلى يوم القيامة الا ان يحزب حازب في حضرة ما فالفرض متوجه بحسب الوسع ومع ارتفاع الحرج فجائز لهم الغزو واجرهم فيه مضاعف لأن الأعرج احرى الناس بالصبر وان لا يفر وقد غزا ابن أم مكتوم وكان يمسك الراية في بعض حروب القادسية وقد خرج النسائي هذا المعنى وذكر ابن أم مكتوم رحمه الله
وقرا الجمهور من القراء (يدخله) بالياء
وقرأ ابن عامر ونافع وأبو جعفر والأعرج والحسن وشيبة وقتادة (ندخله) بالنون وكذلك (نعذبه) و (يعذبه)
وقوله تعالى * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) * تشريف وإعلام برضاه عنهم حين البيعة وبهذا سميت بيعة الرضوان والرضى بمعنى الإرادة فهو صفة ذات
ومن جعل * (إذ) * مسببة بمعنى لأنهم بايعوا تحت الشجرة جاز ان يجعل * (رضى) * بمعنى إظهار النعم عليهم بسبب بيعتهم فالرضى على هذا صفة فعل وقد تقدم القول بالمبايعة ومعناها
وكان سبب هذه المبايعة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث إلى مكة رجلا يبين على قريش ان النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد حربا وإنما جاء معتمرا فبعث إليهم خراش بن أمية الخزاعي وحمله على جمل يقال له الثعلب فلما كلمهم عقروا الجمل وأرادوا قتل خراش فمنعه الأحابيش فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بعث عمر بن الخطاب فقال له عمر يا رسول الله انا قد علمت فظاظتي على قريش وهم يبغضونني وليس هناك من بني عدي بن كعب من يحميني ولكن ابعث عثمان بن عفان فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي فنزل عن دابته فحمله عليها وأجاره حتى إذا جاء قريشا فأخبرهم فقالوا له إن
شئت يا عثمان ان تطوف بالبيت فطف واما دخولكم علينا فلا سبيل اليه فقال عثمان ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن بني سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال فصرخ صارخ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وقالوا لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة ونادى مناديه أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس فما تخلف عن البيعة أحد ممن شهد الحديبية الا الجد بن قيس المنافق
133

وحينئذ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده وقال هذه يد لعثمان وهي خير من يد عثمان ثم جاء عثمان بعد ذلك سالما
و * (الشجرة) * سمرة كانت هنالك ذهبت بعد سنين فمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فاختلف أصحابه في موضعها فقال عمر سيروا هذا التكلف
وقوله تعالى * (فعلم ما في قلوبهم) * قال قوم معناه من كراهة البيعة على الموت ونحوه وهذا ضعيف فيه مذمة للصحابة
وقال الطبري ومنذر بن سعيد معناه من الإيمان وصحته والحب في الدين والحرص عليه وهذا قول حسن ولكنه من كانت هذه حاله فلا يحتاج إلى نزول ما يسكنه أما أنه يحتمل ان يجازى ب * (السكينة) * والفتح القريب والمغانم
وقال آخرون معناه من الهم بالانصراف عن المشركين والأنفة في ذلك على نحو ما خاطب فيه عمر وغيره وهذا تأويل حسن يترتب معه نزول * (السكينة) * والتعريض بالفتح القريب
و * (السكينة) * هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول امر الله تعالى والصبر له
وقرا الناس (وأثابهم) قال هارون وقد قرئت (وأتابهم) بالتاء بنقطتين والفتح القريب خبير وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف بالمؤمنين إلى المدينة وقد وعده الله بخيبر وخرج إليها لم يلبث قال أبو جعفر النحاس وقد قيل الفتح القريب فتح مكة والمغانم الكثيرة فتح خيبر
وقرا يعقوب في رواية رويس (تأخذونها) على مخاطبتهم بالتاء من فوق
وقرا الجمهور (يأخذونها) على الغيبة
واختلف في عدة المبايعين فقيل ألف وخمسمائة قاله قتادة وقيل وأربعمائة قاله جابر بن عبد الله وقيل وخمسمائة وخمسة وعشرون قاله ابن عباس وقيل ثلاثمائة قال ابن أبي أوفى وقيل غير هذا مما ذكرناه من قبل وأول من بايع في ذلك رجل من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب قاله الشعبي
قوله عز وجل
سورة الفتح 20 - 24
قوله تعالى * (وعدكم الله) * الآية مخاطبة للمؤمنين ووعد بجميع المغانم التي اخذها المسلمون ويأخذونها إلى يوم القيامة قاله مجاهد وغيره
134

وقوله * (فعجل لكم هذه) * يريد خيبر وقال زيد بن أسلم وابنه المغانم الكثيرة خيبر و * (هذه) * إشارة إلى البيعة والتخلص من امر قريش وقاله ابن عباس وقوله * (وكف أيدي الناس عنكم) * يريد من ولي عورة المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين منها وذلك أنه كان من أحياء العرب ومن اليهود من يعادي وكانت قد أمكنتهم فرصة فكفهم الله عن ذراري المسلمين وأموالهم وهذه للمؤمنين العلامة على أن الله ينصرهم ويلطف لهم قاله قتادة وحكى الثعلبي أنه قال كف الله غطفان ومن معها عن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاؤوا لنصر أهل خيبر وذكره النقاش وقال الثعلبي أيضا عن بعضهم إنه أراد كف قريش
وقوله * (وأخرى لم تقدروا عليها) * قال عبد الله بن عباس الإشارة إلى بلاد فارس والروم
وقال الضحاك الإشارة إلى خيبر
وقال قتادة والحسن الإشارة إلى مكة وهذا هو القول الذي يتسق معه المعنى ويتأيد
قوله * (قد أحاط الله بها) * معناه بالقدرة والقهر لأهلها أي قد سبق في علمه ذلك وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها
وقوله * (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار) * إشارة إلى قريش ومن والاها في تلك السنة قاله قتادة وفي هذا تقوية لنفوس المؤمنين وقال بعض المفسرين أراد الروم وفارس
قال القاضي أبو محمد وهذا ضعيف وإنما الإشارة إلى العدو الأحضر
وقوله * (سنة الله) * إشارة إلى وقعة بدر وقيل إشارة إلى عادة الله من نصر الأنبياء قديما ونصب * (سنة) * على المصدر ويجوز الرفع ولم يقرأ به
وقوله تعالى * (وهو الذي كف أيديهم) * الآية روي في سببها ان قريشا جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافا متفاوتا فلذلك اختصرته فلما أحس بهم المسلمون بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم خالد بن الوليد وسماه حينئذ سيف الله في جملة من المسلمين ففروا امامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم جملة فسيقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عليهم واطلقهم فهذا هو أن كف الله أيديهم عن المسلمين بالرعب وكف أيدي المسلمين عنهم بالنهي في بيوت مكة وغيرها وذلك هو (بطن مكة)
وقال قتادة أسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجملة بالحديبية عند عسكره ومن عليهم وذلك هو (بطن مكة)
قال النقاش الحرام كله * (مكة) * والظفر عليهم هو أسر من أسر منهم وباقي الآية تحريض على العمل الصالح لأن من استشعر ان الله يبصر عمله أصلحه
وقرا الجمهور من القراء (بما تعملون) بالتاء على الخطاب
وقرأ أبو عمرو وحده (بما يعملون) بالياء على ذكر الكفار وتهددهم
135

قوله عز وجل
سورة الفتح 25 - 26
يريد بقوله تعالى * (هم الذين كفروا) * أهل مكة الذين تقدم ذكرهم
وقوله * (وصدوكم عن المسجد الحرام) * هو منعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من العمرة عام الحديبية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد العمرة وتعظيم البيت وخرج معه بمائة بدنة قاله النقاش وقيل بسبعين قاله المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم فلما دنا من مكة قال أهل مكة هذا محمد الذي قد حاربنا وقتل فينا يريد ان يدخل مكة مراغمة لنا والله لا تركناه حتى نموت دون ذلك فاجتمعوا لحربه واستنجدوا بقبائل من العرب وهم الأحابيش وبعثوا فغوروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم المياه التي تقرب من مكة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر الحديبية وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمرا حتى كفى الجيش ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة عثمان وبعث أهل مكة إليه رجالا منهم عروة بن مسعود وبديل بن ورقاء وتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك أياما حتى سفر سهيل بن عمرو وبه انعقد الصلح على أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ويعتمر من العام القادم فهذا كان صدهم إياه وهو مستوعب في كتب السير فلذلك اختصرناه
وقرا الجمهور (والهدي) بسكون الدال
وقرأ الأعرج والحسن بن أبي الحسن (والهدي) بكسر الدال وشد الياء وهما لغتان وهو معطوف على الضمير في قوله * (وصدوكم) * أي وصدوا الهدي و * (معكوفا) * حال ومعناه محبوسا تقول عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته وقد قال أبو علي إن عكف لا يعرفه متعديا وحكى ابن سيده وغيره تعديه وهذا العكف الذي وقع للهدي كان من قبل المشركين بصدهم ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونظرهم في امرهم فحبسوا هديهم
و * (أن) * في قوله * (أن يبلغ) * يحتمل ان يعمل فيها الصد كأنه قال وصدوا الهدي كراهة ان أو عن أن ويحتمل ان يعمل فيها العكف فتكون مفعولا من أجله أي الهدي المحبوس لأجل * (أن يبلغ محله) * و * (محله) * مكة
وذكر الله تعالى العلة في أن صرف المسلمين ولم يمكنهم من دخول مكة في تلك الوجهة وهو انه كان بمكة مؤمنون من رجال ونساء خفي إيمانهم فلو استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين
قال قتادة فدفع الله عن المشركين ببركة أولئك المؤمنين وقد يدفع بالمؤمنين عن الكفار
136

وقوله تعالى * (لم تعلموهم) * صفة للمذكورين
وقوله * (أن تطؤوهم) * يحتمل ان يكون * (أن) * بدلا من * (رجال) * كأنه قال ولولا قوم مؤمنون ان تطؤوهم أي لولا وطئكم قوما مؤمنين فهو على هذا في موضع رفع يحتمل أن تكون في موضع نصب بدلا من الضمير في قوله * (لم تعلموهم) * كأنه قال لم تعلموا وطأهم أنه وطء المؤمنين والوطء هنا الإهلاك بالسيف وغيره على وجه التشبيه ومنه قول الشاعر زهير
(ووطئتنا وطئا على حنق
* وطء المقيد ثابت الهرم) الكامل
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم اشدد وطأتك على مضر) ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن آخرة وطأة الرب يوم وج بالطائف) لأنها كانت آخر وقعة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها ذكر هذا المعنى النقاش و (المعرة) السوء والمكروه اللاصق مأخوذ من العر والعرة وهي الجرب الصعب اللازم
واختلف الناس في تعيين هذه المعرة فقال ابن زيد هي المأثم وقال ابن إسحاق هي الدية
قال القاضي أبو محمد وهذان ضعيفان لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان من أهل الحرب
وقال الطبري حكاه الثعلبي هي الكفارة
وقال منذر المعرة ان يعيبهم الكفار ويقولوا قتلوا أهل دينهم
وقال بعض المفسرين هي الملام والقول في ذلك وتألم النفس منه في باقي الزمن
قال القاضي أبو محمد وهذه أقوال حسان
وجواب * (لولا) * محذوف تقديره لمكناكم من دخول مكة وأيدناكم عليهم
وقرأ الأعمش (فتنالكم منه معرة)
واللام في قوله * (ليدخل) * يحتمل ان يتعلق بمحذوف من القول تقديره لولا هؤلاء لدخلتم مكة لكن شرفنا هؤلاء المؤمنين بان رحمناهم ودفعنا بسببهم عن مكة * (ليدخل الله) * أي ليبين للناظر ان الله تعالى يدخل من يشاء في رحمته أو ليقع دخولهم في رحمة الله ودفعه عنهم ويحتمل ان يتعلق بالإيمان المتقدم الذكر فكأنه قال ولولا
قوم مؤمنون آمنوا ليدخل الله من يشاء في رحمته وهذا مذكور لكنه ضعيف لأن قوله * (من يشاء) * يضعف هذا التأويل
ثم قال تعالى * (لو تزيلوا) * أي لو ذهبوا عن مكة تقول أزلت زيدا عن موضعه إزالة أي أذهبته وليس هذا الفعل من زال يزول وقد قيل هو منه
وقرأ أبو حيوة وقتادة بألف بعد الزاي أي (تزايلوا) أي ذهب هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء
وقوله * (منهم) * لبيان الجنس إذا كان الضمير في * (تزيلوا) * للجميع من المؤمنين والكافرين وقال النحاس
وقد قيل إن قوله * (ولولا رجال مؤمنون) * الآية
يريد من في أصلاب الكافرين من سيؤمن في غابر الدهر وحكاه الثعلبي والنقاش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
137

مرفوعا
والعامل في قوله * (إذ جعل) * قوله (لعذبنا) ويحتمل ان يكون المعنى أذكر إذ جعلنا
و * (الحمية) * التي جعلوها هي حمية أهل مكة في الصد قال الزهري وحمية سهيل ومن شاهد عقد الصلح في أن منعوا ان يكتب بسم الله الرحمن الرحيم ولجوا حتى كتب باسمك اللهم وكذلك منعوا ان يثبت هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله
ولجوا حتى قال صلى الله عليه وسلم لعلي (امح واكتب) هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث وجعلها تعالى (حمية جاهلية) لأنها كانت بغير حجة وفي غير موضعها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جاءهم محاربا لعذرهم في حميتهم وإنما جاء معظما للبيت لا يريد حربا فكانت حميتهم جاهلية صرفا
والسكينة هي الطمأنينة إلى امر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثقة بوعد الله والطاعة وزوال الأنفة التي لحقت عمر وغيره
و * (كلمة التقوى) * قال الجمهور هي لا إله إلا الله وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال عطاء بن أبي رباح هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
وقال أبو هريرة وعطاء الخراساني هي لا إله إلا الله محمد رسول الله
وقال علي بن أبي طالب هي لا إله إلا الله والله أكبر وحكاه الثعلبي عن ابن عمر
قال القاضي أبو محمد وهذه كلها أقوال متقاربة حسان لأن هذه الكلمة تقي النار فهي * (كلمة التقوى) *
وقال الزهري عن المسور ومروان * (كلمة التقوى) * المشار إليها هي باسم الله الرحمن الرحيم وهي التي أباها كفار قريش فألزمها الله المؤمنين وجعلهم * (أحق بها) *
قال القاضي أبو محمد ولا إله الا الله أحق باسم * (كلمة التقوى) * من بسم الله الرحمن الرحيم
وفي مصحف ابن مسعود (وكانوا أهلها وأحق بها)
والمعنى كانوا أهلها على الإطلاق في علم الله وسابق قضائه لهم وقيل * (أحق بها) * من اليهود والنصارى في الدنيا وقيل أهلها في الآخرة بالثواب
وقوله تعالى " وكان الله بكل شيء عليما " إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية فيروى انه لما انعقد امن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة وامتزجوا وعلت دعوة الإسلام وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب وزاد عدد الإسلام أضعاف ما كان قبل ذلك
قال القاضي أبو محمد ويقتضي ذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الحديبية في أربع عشرة مائة ثم سار إلى مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس صلى الله عليه وسلم
138

قوله عز وجل
سورة الفتح 27 - 29
روي في تفسير هذه الآية ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة انه يطوف بالبيت وهو وأصحابه بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون
وقال مجاهد أرى ذلك بالحديبية فأخبر الناس بهذه * (الرؤيا) * ووثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك وقد كان سبق في علم الله تعالى ان ذلك يكون
لكن ليس في تلك الجهة
وروي ان رؤياه إنما كانت ان ملكا جاءه فقال له * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين) * وإنه بهذا اعلم الناس فلما قضى الله في الحديبية بأمر الصلح وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصد وقال المنافقون وأين الرؤيا ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك فانزل الله تعالى " لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق "
و * (صدق) * هذه تتعدى إلى مفعولين تقول صدقت زيدا الحديث واللام في * (لتدخلن) * لام القسم الذي تقتضيه * (صدق) * لأنها من قبيل تبين وتحقق ونحوها مما يعطي القسم
واختلف الناس في معنى الاستثناء في هذه الآية فقال بعض المتأولين هو استثناء من الملك المخبر للنبي عليه السلام في نومه فذكر الله تعالى مقالته كما وقعت وقال آخرون هو اخذ من الله تعالى عباده بأدبه في استعماله في كل فعل يوجب وقوعه كان ذلك مما يكون ولا بد أو كان مما قد يكون وقد لا يكون وقال بعض العلماء إنما استثنى من
حيث كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن ان يتم الوعد فيه وان لا يتم إذ قد يموت الانسان أو يمرض أو يغيب وكل واحد في ذاته محتاج إلى الاستثناء فلذلك استثنى عز وجل في الجملة إذ فيهم ولا بد من يموت أو يمرض
وقال آخرون استثنى لأجل قوله * (أمنين) * لأجل إعلامه بالدخول فكان الاستثناء مؤخر عن موضعه ولا فرق بين الاستثناء من أجل الأمن أو من أجل الدخول لأن الله تعالى قد أخبر بهما ووقت الثقة بالأمرين فالاستثناء من أيهما كان فهو استثناء من واجب
وقال قوم * (أن) * بمعنى إذ فكأنه قال إذ شاء الله
قال القاضي أبو محمد وهذا حسن في معناه ولكن كون * (أن) * بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب وللناس بعد في هذا الاستثناء أقوال مخلطة غير هذه اختصرت ذكرها لأنها لا طائل فيها
وقرا ابن مسعود (إن شاء الله لا تخافون) بدل * (أمنين) *
ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون ان تلك الرؤيا فيما يستأنفون من الزمن واطمأنت قلوبهم
139

بذلك وسكنت وخرجت في العام المقبل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم
وقوله * (فعلم ما لم تعلموا) * يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه وما كان أيضا بمكة من المؤمنين دفع الله بهم
وقوله تعالى * (من دون ذلك) * أي من قبل ذلك وفيما يدنو إليكم
واختلف الناس في الفتح القريب فقال كثير من الصحابة هو بيعة الرضوان وروي عن مجاهد وابن إسحاق انه الصلح بالحديبية
وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أو فتح هو يا رسول الله قال نعم وقال ابن زيد الفتح القريب خيبر حسبما تقدم من ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتحها
وقال قوم الفتح القريب فتح مكة وهذا ضعيف لأن فتح مكة لم يكن من دون دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة بل كان بعد ذلك بعام لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة ويحسن ان يكون الفتح هنا اسم جنس يعم كل ما وقع مما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ظهور وفتح عليه
وقد حكى مكي في ترتيب أعوام هذه الأخبار عن قطرب قولا خطأ جعل فيه الفتح سنة عشر وجعل حج أبي بكر قبل الفتح وذلك كله تخليط وخوض فيما لم يتقنه معرفة
وقوله عز وجل * (هو الذي أرسل رسوله) * الآية تعظيم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام بأنه يظهره على جميع الأديان
ورأى بعض الناس لفظة * (ليظهره) * تقتضي محو غيره به فلذلك قالوا إن هذا الخبر يظهر للوجود عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام فإنه لا يبقى في وقته غير دين الإسلام وهو قول الطبري والثعلبي
ورأى قوم إن الإظهار هو الإعلاء وإن بقي من الدين الآخر أجزاء وهذا موجود الآن في دين الإسلام فإنه قد عم أكثر الأرض وظهر على كل دين
وقوله تعالى * (وكفى بالله شهيدا) * معناه شاهدا وذلك يحتمل معنيين أحدهما شاهدا عندكم بهذا الخبر ومعلما به
والثاني شاهدا على هؤلاء الكفار المنكرين امر محمد الرادين في صدره ومعاقبا لهم بحكم الشهادة والآية على هذا وعيد للكفار الذين شاحوا في أن يكتب محمد رسول الله فرد عليهم بهذه الآية كلها
وقوله تعالى * (محمد رسول الله) * قال جمهور الناس هو ابتداء وخبر استوفي فيه تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم
وقوله و * (الذين معه) * ابتداء وخبره * (أشداء) * و * (رحماء) * خبر ثان
وقال قوم من المتأولين * (محمد) * (ابتداء) و * (رسول الله) * صفة له * (والذين) * عطف عليه و * (أشداء) * خبر عن الجميع و * (رحماء) * خبر بعد خبر ففي القول الأول اختص النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه وهؤلاء بوصفهم وفي القول الثاني اشترك الجميع في الشدة والرحمة
قال القاضي أبو محمد والأول عندي أرجح لأنه خبر مضاد لقول الكفار لا نكتب محمد رسول الله
وقوله * (والذين معه) * إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور وحكى الثعلبي عن ابن عباس ان
140

الإشارة إلى من شهد الحديبية ب * (الذين معه) * و * (أشداء) * جمع شديد أصله أشدداء أدغم لاجتماع المثلين
وقرا الجمهور (أشداء) (رحماء) بالرفع وروى قرة عن الحسن (أشداء) (رحماء) بنصبهما قال أبو حاتم ذلك على الحال والخبر * (تراهم) * قال أبو الفتح وإن شئت نصبت (أشداء) على المدح
وقوله * (تراهم ركعا سجدا) * أي ترى هاتين الحالتين كثيرا فيهم و * (يبتغون) * معناه يطلبون وقرا عمر وابن عبيد (ورضوانا) بضم الراء
وقوله * (سيماهم) * معناه علامتهم
واختلف الناس في تعيين هذه السيما فقال مالك بن أنس كانت جباههم متربة من كثرة السجود في التراب كان يبقى على المسح أثره وقاله عكرمة
وقال أبو العالية يسجدون على التراب لا على الأثواب
وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية هو وعد بحالهم يوم القيامة من أن الله تعالى يجعل لهم نورا * (من أثر السجود) *
قال القاضي أبو محمد كما يجعل غرة من أثر الوضوء الحديث ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله * (فضلا من الله ورضوانا) * كأنه قال علامتهم في تحصيلهم الرضوان يوم القيامة * (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) *
ويحتمل أن تكون السيما بدلا من قوله * (فضلا) *
وقال ابن عباس السمت الحسن هو السيما وهو الخشوع خشوع يبدو على الوجه
قال القاضي أبو محمد وهذه حالة مكثري الصلاة لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر وتقل الضحك وترد النفس بحالة تخشع معها الأعضاء
وقال الحسن بن أبي الحسن وشمر بن عطية السيما بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجوه من السهر
وقال منصور سألت مجاهدا أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل فقال لا وقد تكون مثل ركبة البعير وهو أقسى قلبا من الحجارة
وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن انس السيما حسن يعتري وجوه المصلين
قال القاضي أبو محمد وذلك لأن الله تعالى يجعل لها في عين الرأي حسنا تابعا للإجلال الذي في نفسه ومتى اجل الإنسان امرا حسن عنده منظره ومن هذا الحديث الذي في الشهاب (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار)
قال القاضي أبو محمد وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد سمع شريك بن عبد الله يقول حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ثم نزع شريك لما رأى ثابت الزاهد فقال يعنيه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار فظن ثابت ان هذا الكلام متركب على السند المذكور فحدث به عن شريك
وقرأ الأعرج (من إثر) بسكون الثاء وكسر الهمزة قال أبو حاتم هما بمعنى
وقرا قتادة (من آثار) جمعا
141

وقوله تعالى * (ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل) * الآية المثل هنا الوصف أو الصفة
وقال بعض المتأولين التقدير الأمر * (ذلك) * وتم الكلام
ثم قال * (مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع) * وقال مجاهد وجماعة من المتأولين المعنى * (ذلك) * الوصف هو * (مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل) * وتم القول و * (كزرع) * ابتداء تمثيل يختص بالقرآن
وقال الطبري وحكاه عن الضحاك المعنى * (ذلك) * الوصف هو * (مثلهم في التوراة) * وتم القول ثم ابتدأ * (ومثلهم في الإنجيل كزرع) * وقال آخرون المثلان جميعا هي في التوراة وهي في الإنجيل
وقوله تعالى * (كزرع) * هو على كل الأقوال وفي أي كتاب منزل فرض مثل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وحده فكان كالزرع حبة واحدة ثم كثر المسلمون فهم كالشطء وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل يقال أشطأت الشجرة إذا خرجت غصونها وأشطأ الزرع إذا خرج شطأه
وقرا ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر (شطأ) بفتح الطاء والهمز دون مد وقرأ الباقون بسكون الطاء وقرا عيسى بن عمر (شطاه) بفتح الطاء دون همز وقرا أبو جعفر (شطه) رمى بالهمزة وفتح الطاء ورويت عن نافع وشيبة
وروي عن عيسى (شطاءه) بالمد والهمز وقرا الجحدري (شطوه) بالواو
قال أبو الفتح هي لغة أو بدل من الهمزة ولا يكون الشطو إلا في البر والشعير وهذه كلها لغات
وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال الزرع النبي صلى الله عليه وسلم (فآزره) علي بن أبي طالب رضي الله عنه * (فاستغلظ) * بأبي بكر * (فاستوى على سوقه) * بعمر بن الخطاب
وقوله تعالى * (فآزره) * وزنه أفعله أبو الحسن ورجحه أبو علي وقرا ابن ذكوان عن ابن عامر (فأزره) على وزن فعله دون مد ولذلك كله معنيان أحدهما ساواه طولا ومنه قول امرئ القيس
(بمحنية قد آزر الضال نبتها
* بجر جيوش غانمين وخيب) الطويل
أي هو موضع لم يزرع فكمل نبته حتى ساوى شجر الضال فالفاعل على هذا المعنى الشطء والمعنى الثاني إن آزره وأزره بمعنى اعانه وقواه مأخوذ ذلك من الأزر وشده فيحتمل ان يكون الفاعل الشطء ويحتمل ان يكون الفاعل الزرع لأن كل واحد منهما يقوي صاحبه وقال ابن مجاهد وغيره (آزره) وزنه فاعله والأول أصوب ان وزنه أفعله ويدلك عل ذلك قول الشاعر المنسرح
(لا مال إلا العطاف تؤزره
* أم ثلاثين وابنة الجبل)
وقرأ ابن كثير (على سؤقه) بالهمز وهي لغة ضعيفة يهمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر جرير
(وجعدة إذا أضاءهما الوقود
*)
و * (يعجب الزراع) * جملة في موضع الحال وإذا أعجب * (الزراع) * فهو أحرى أن يعجب غيرهم
142

لأنه لا عيب فيه إذ قد أعجب العارفين بالعيوب ولو كان معيبا لم يعجبهم وهنا تم المثل
وقوله تعالى * (ليغيظ بهم الكفار) * ابتداء كلام قبله محذوف تقديره جعلهم الله بهذه الصفة * (ليغيظ بهم الكفار) * و * (الكفار) * هنا المشركون
قال الحسن من غيظ الكفار قول عمر بمكة لا عبد الله سرا بعد اليوم
وقوله تعالى * (منهم) * هي لبيان الجنس وليست للتبعيض لأنه وعد مرج للجميع
143

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجرات
وهي مدنية بإجماع من أهل التأويل رضي الله عنهم
قوله عز وجل
سورة الحجرات 1 - 3
كانت عادة العرب وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء وان يتكلم كل بما شاء يفعل ما أحب فمشى بعض الناس ممن لم تتمرن نفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم على بعض ذلك قال قتادة فربما قال قوم لو نزل كذا وكذا في معنى كذا وكذا وينبغي ان يكون كذا وأيضا فإن قوما ذبحوا ضحاياهم قبل النبي صلى الله عليه وسلم حكاه الحسن بن أبي الحسن وقوما فعلوا في بعض حروبه وغزواته أشياء بآرائهم فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك وحكى الثعلبي عن مسروق أنه قال دخلت على عائشة في يوم الشك فقالت للجارية اسقه عسلا فقلت إني صائم فقالت نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام هذا اليوم وفيه نزلت * (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) *
وقال ابن زيد معنى * (لا تقدموا) * لا تمشوا " بين يدي رسول الله " وكذلك بين يدي العلماء فأنهم ورثة الأنبياء
وتقول العرب تقدمت في كذا وكذا وتقدمت فيه إذ قلت فيه
وقرا الجمهور من القراء (تقدموا) بضم التاء وكسر الدال
وقرا ابن عباس والضحاك ويعقوب بفتح التاء والدال على معنى لا تتقدموا وعلى هذا يجيء تأويل ابن زيد في المشي
والمعنى على ضم التاء * (بين يدي) * قول الله ورسوله
وروي ان سبب هذه الآية هو ان وفد بني تميم لما قدم قال أبو بكر الصديق يا رسول الله لو أمرت الأقرع بن حابس
وقال عمر بن الخطاب لا يا رسول الله بل أمر القعقاع بن معبد فقال له أبو بكر ما أدرن إلى خلافي ويروى الا خلافي فقال عمر ما أردت خلافك وارتفعت أصواتهما فنزلت الآية في ذلك
وذهب بعض قائلي هذه المقالة إلى أن قوله * (لا تقدموا) * معناه * (لا تقدموا) * ولاة فهو من تقديم
144

الأمراء وعموم اللفظ أحسن أي اجعلوه مبدأ في الأقوال والأفعال
و * (سميع) * معناه لأقوالكم * (عليم) * معناه بأفعالكم ومقتضى أقوالكم
وقوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا) * الآية هي أيضا في ذلك الفن المتقدم وروى حيح انها نزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت والعنجهية وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه في صوته جهارة فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج وهو كئيب حزين حتى عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره فبعث فيه فأنسه وقال له (امش في الأرض بسطا فإنك من أهل الجنة)
وقال له مرة (أما ترضى ان تعيش حميدا وتموت شهيدا) فعاش كذلك ثم قتل باليمامة يوم مسيلمة
وفي قراءة ابن مسعود (لا ترفعوا بأصواتكم) بزيادة الباء
وقوله * (كجهر بعضكم لبعض) * أي كحال جهركم في جفائه وكونه مخاطبة بالأسماء والألقاب وكانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم
با محمد يا محمد قاله ابن عباس وغيره فأمرهم الله بتوقيره وان يدعوه بالرسالة والنبوءة والكلام اللين فتلك حالة الموقر وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم
وبحضرة العالم وفي المساجد وفي هذه كلها آثار
وقوله تعالى * (أن تحبط) * مفعول من أجله أي مخافة * (أن تحبط) * والحبط إفساد العمل بعد تقرره يقال حبط بكسر الباء واحبطه الله وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافا واستحقارا وجرأة فذلك كفر
والحبط معه على حقيقته وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجريا على طبعه فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض
الصوت عنده ان لو فعل ذلك فكأنه قال إن تحبط الأعمال التي هي معدة ان تعملوها فتؤجروا عليها
ويحتمل ان يكون المعنى ان تأثموا ويكون ذلك سببا إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتجرد القهقري حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط الأعمال حقيقة
وظاهر الآية انها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقارا وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة وأنت لا تشعر لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملا
وفي قراءة عبد الله بن مسعود (فتحبط أعمالكم)
ثم مدح الصنف المخالف لمن تقدم ذكره وهم * (الذين يغضون أصواتهم) * عند النبي صلى الله عليه وسلم
وغض الصوت خفضه وكسره وكذلك البصر ومنه قول جرير
(فغض الطرف إنك من نمير
*) الوافر
وروي ان أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم الا كأخي السرار وان النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ لأنه كان لا يسمعه من إخفائه إياه
و * (امتحن الله) * معناه اختبر وظهر كما يمتحن الذهب بالنار فيسرها وهيأها للتقوى
وقال عمر بن الخطاب امتحن للتقوى أذهب عنها الشهوات
قال القاضي أبو محمد من غلب شهوته وغضبه فذلك الذي * (امتحن الله) * قلبه للتقوى وبذلك تكون الاستقامة
145

قوله عز وجل
سورة الحجرات 4 - 8
قوله تعالى * (إن الذين ينادونك) * إلى قوله * (رحيم) * نزلت في وفد بني تميم حيث كان الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وغيرهم وذلك أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي تسعة فجعلوا ولم ينتظروا فنادوا بجملتهم يا محمد اخرج الينا يا محمد اخرج الينا فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير فتربص رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم فقال له الأقرع بن حابس يا محمد إن مدحي زين وذمي شين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (ويلك ذلك الله تعالى) واجتمع الناس في المسجد فقام خطيبهم وفخر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس فخطب وذكر الله والاسلام فأربى على خطيبهم ثم قام شاعرهم فأنشد مفتخرا فقام حسان بن ثابت ففخر بالله وبالرسول وبالبسالة فكان أشعر من شاعرهم فقال بعضهم لبعض والله إن هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ثم نزلت فيهم هذه الآية
هذا تلخيص ما تظاهرت به الروايات في هذه الآية وقد رواه موسى بن عقبة عن أبي سلمة عن الأقرع بن حابس وفي مصحف ابن مسعود (أكثرهم بنو تميم لا يعقلون) و * (الحجرات) * جمع حجرة
وقرا جمهور القراء (الحجرات) بضم الحاء والجيم
وقرأ أبو جعفر القاري وحده * (الحجرات) * بضم الحاء وفتح الجيم
وقوله تعالى * (لكان خيرا لهم) * يعني في الثواب عند الله وفي انبساط نفس النبي صلى الله عليه وسلم وقضائه لحوائجهم ووده لهم وذلك كله خير لا محالة ان بعضه انزوى بسبب جفائهم
وقوله تعالى * (والله غفور رحيم) * ترجية لهم وإعلام بقبوله توبة التائب وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع
وقوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) * سببها ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدقا فروي انه كان معاديا لهم فأراد إذا يتهم فرجع من
146

بعض طريقه وكذب عليهم قاله الضحاك وقال للنبي صلى الله عليه وسلم إنهم منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بغزوهم ونظر في ذلك وبعث خالد بن الوليد إليهم فورده وفدهم منكرين لذلك وروي عن أم سلمة وابن عباس ان الوليد بن عقبة لما قرب منهم خرجوا اليه متلقين له فرآهم على بعد ففزع منهم وظن بهم الشر وانصرف فقال ما ذكرناه وروي انه لما قرب منهم بلغه عنهم انهم قالوا لا نعطيه الصدقة ولا نعطيه فعمل على صحة هذا الخبر وانصرف فقال ما ذكرناه فنزلت الآية بهذا السبب والوليد على ما ذكر مجاهد هو المشار إليه بالفاسق وحكى الزهراوي قالت أم سلمة هو الوليد بن عقبة
قال القاضي أبو محمد ثم هي باقية فيمن اتصف بهذه الصفة غابر الدهر
والفسق الخروج عن نهج الحق وهو مراتب متباينة كلها مظنة للكذب وموضع تثبت وتبين وتأنس القائلون بقبول خبر الواحد بما يقتضيه دليل خطاب هذه الآية لأنه يقتضي ان غير الفاسق إذا جاء بنبأ أن يعمل بحسبه وهذا ليس باستدلال قوي وليس هذا موضع الكلام على مسألة خبر الواحد
وقرا الجمهور من القراء (فتبينوا) من التبين
وقرا الحسن وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى (فتثبتوا)
و (أن) في قوله * (أن تصيبوا) * مفعول من اجله كأنه قال مخافة (ان تصيبوا) قال قتادة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزلت هذه الآية التثبت من الله والعجلة من الشيطان
قال منذر بن سعيد هذه الآية ترد على من قال إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول
قال القاضي أبو محمد فالمجهول الحال يخشى ان يكون فاسقا والاحتياط لازم
قال النقاش (تبينوا) أبلغ لأنه قد يتثبت من لا يتبين
وقوله تعالى * (واعلموا أن فيكم رسول الله) * توبيخ للكذبة ووعيد للفضيحة أي فليفكر الكاذب في أن الله عز وجل يفضحه على لسان رسوله ثم قال * (لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) * أي لشقيتم وهلكتم والعنت المشقة أي لو يطيعكم أيها المؤمنون في كثير مما ترونه باجتهادكم وتقدمكم بين يديه
وقوله تعالى * (ولكن الله حبب إليكم) * الآية كأنه قال ولكن الله أنعم بكذا وكذا وفي في ذلك كفاية وأمر لا تقومون بشكره فلا تتقدموا في الأمور واقنعوا بإنعام الله عليكم وحبب الله تعالى الإيمان وزينه بأن خلق في قلوب المؤمنين حبه وحسنه وكذلك تكريه الكفر والفسق والعصيان وحكى الرماني عن الحسن أنه قال حبب الايمان بما وصف من الثواب عليه وكره الثلاثة المقابلة للإيمان بما وصف من العقاب عليها
وقوله تعالى * (أولئك هم الراشدون) * رجوع من الخطاب إلى ذكر الغيب كأنه قال ومن فعل هذا وقبله وشكر عليه فأولئك هم الراشدون
147

وقوله تعالى * (فضلا من الله ونعمة) * مصدر مؤكد لنفسه لأن ما قبله هو بمعناه إن التحبيب والتزيين هو نفس الفضل وقد يجيء المصدر مؤكدا لما قبله إذا لم يكن هو نفس ما قبله كقولك جاءني زيد حقا ونحوه وكان قتادة رحمه الله يقول قد قال الله تعالى لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم * (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) * وأنتم والله أسخف الناس رأيا وأطيش احلاما فليتهم رجل نفسه ولينتصح كتاب الله تعالى
قوله عز وجل
سورة الحجرات 9 - 10
* (طائفتان) * مرفوع بإضمار فعل
والطائفة الجماعة وقد تقع على الواحد واحتج لذلك بقوله تعالى * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) * التوبة 122
ورأى بعض الناس ان يشهد حدا لزناة رجل واحد
فهذه الآية الحكم فيها في الأفراد وفي الجماعات واحد
واختلف الناس في سبب هذه الآية
فقال انس بن مالك والجمهور سببها ما وقع بين المسلمين والمتحزبين منهم مع عبد الله بن أبي ابن سلول حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه
فقال عبد الله بن أبي لما غشيه حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تغبروا علينا ولقد آذانا نتن حمارك
فرد عليه عبد الله بن رواحه الحديث بطوله
فتلاحى الناس حتى وقع بينهم ضرب بالجريد ويروى بالحديد
وقال أبو مالك والحسن سببها أن فرقتين من الأنصار وقع بينهما قتال فأصلحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جهد ونزلت الآية في ذلك وقال السدي كانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر ولها زوج من غيرهم فوقع بينهما شيء أوجب ان يأنف لها قومها وله قومه
فوقع قتال نزلت الآية بسببه
و * (بغت) * معناه طلبت العلو بغير الحق ومدافعة الفئة الباغية متوجه في كل حال واما التهيؤ لقتالها فمع الولاة
وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أمشركون أهل صفين والجمل قال لا
من الشرك فروا قيل افمنافقون قال لا
لأن المنافقين لا يذكرون الله الا قليلا
قيل فما حالهم قال إخواننا بغوا علينا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم حكم الله في الفئة الباغية ان لا يجهز على جريح ولا يطلب هارب
ولا يقتل أسير و " تفيء " معناه ترجع والإقساط الحكم بالعدل
وقوله تعالى * (إنما المؤمنون إخوة) * يريد إخوة الدين
وقرأ الجمهور من القراء (بين إخويكم) وذلك رعاية لحال أقل عدد يقع فيه القتال والتشاجر والجماعة متى فصل الاصلاح فإنما هو بين رجلين رجلين
وقرأ ابن عامر والحسن بخلاف عنه (بين إخوتكم)
148

وقرا ابن سيرين وزيد بن ثابت وابن مسعود والحسن وعاصم الجحدري وحماد بن سلمة (بين إخوانكم) وهي حسنة
لأن الأكثر من جمع الأخ في الدين ونحوه من النسب إخوان
والأكثر في جمعه من النسب إخوة وإخاء
قال الشاعر
(وجدتم أخاكم دوننا إذ نسيتم
* وأي بني الإخاء تنبو مناسبه) الطويل
وقد تتداخل هذه الجموع في كتاب الله فمنه * (إنما المؤمنون إخوة) * أو بيوت إخوانكم فهذا جاء على الأقل من الاستعمال
قوله عز وجل
سورة الحجرات 11 - 12
هذه الآيات والتي بعدها نزلت في خلق أهل الجاهلية
وذلك لأنهم كانوا يجرون مع الشهوات نفوسهم لم يقومهم امر من الله ولا نهي
فكان الرجل يسطو ويهمز ويلمز وينبز بالألقاب ويظن الظنون
فيتكلم بها
ويغتاب ويفتخر بنسبه إلى غير ذلك من أخلاق النفوس الباطلة
فنزلت هذه الآية تأديبا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
وذكر بعض الناس لهذه الآيات أسبابا
فمما قيل إن هذه الآية * (لا يسخر قوم) * نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه كان يمشي بالمدينة مسلما فقال له قوم هذا ابن فرعون هذه الأمة فعز ذلك عليه وشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال القاضي أبو محمد والقوي عندي ان هذه الآية نزلت تقويما كسائر أمر الشرع ولو تتبعت الأسباب لكانت أكثر من أن تحصى
و * (يسخر) * معناه يستهزئ
والهزء إنما يترتب متى ضعف امرؤ إما لصغر وإما لعلة حادثة أو لرزية أو لنقيصة يأتيها فنهي المؤمنون عن الاستهزاء في هذه الأمور وغيرها نهيا عاما فقد يكون ذلك المستهزأ به خيرا من الساخر والقوم في كلام العرب واقع على الذكران وهو من أسماء الجمع كالرهط والنفر وقول من قال إنه من القيام أو جمع قائم ضعيف ومنه قول الشاعر وهو زهير
(وما أدري وسوف إخال أدري
* أقوم آل حصن أم نساء) الوافر
وهذه الآية أيضا تقتضي اختصاص القوم بالذكران وقد يكون مع الذكران نساء فيقال لهم قوم على تغليب حال الذكور ثم نهى تعالى النساء عما نهى عنه الرجال من ذلك
149

وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود (عسوا ان يكونوا) (وعسين أن يكن)
و * (تلمزوا) * معناه يطعن بعضكم على بعض بذكر النقائص ونحوه وقد يكون اللمز بالقول وبالإشارة ونحوه مما يفهمه آخر والهمز لا يكون الا باللسان وهو مشبه بالهمز بالعود ونحوه مما يقتضي المماسة قال الشاعر رؤبة
(ومن همزنا عزه تبركعا
*)
وقيل لأعرابي أتهمز الفأرة فقال الهر يهمزها
وحكى الثعلبي ان اللمز ما كان في المشهد والهمز ما كان في المغيب
وحكى الزهراوي عن علي بن سليمان عكه من ذلك فقال الهمز ان يعيب حضرة واللمز في الغيبة
ومنه قوله تعالى * (ويل لكل همزة لمزة) * الهمزة 1 ومنه قوله تعالى * (ومنهم من يلمزك في الصدقات) * التوبة 58
وقرأ الجمهور (تلمزوا) بكسر الميم
وقرأ الأعرج والحسن (تلمزوا) بضم الميم
قال أبو عمرو بن العلاء هي عربية قراءتنا بالضم وأحيانا بالكسر
وقوله تعالى * (أنفسكم) * معناه بعضكم بعضا كما قال * (ولا تقتلوا أنفسكم) * النساء 29 كان المؤمنين كنفس واحدة إذ هم إخوة
فهم كما قال صلى الله عليه وسلم (كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى) وهم كما قال أيضا (كالبنيان يشد بعضه بعضا)
والتنابز التلقب والنبز واللقب واحد
أو اللقب هو ما يعرف به الإنسان من الأسماء التي يكره سماعها
وروي ان بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا منهم فقال له يا فلان فقيل له إنه يغضب من هذا الاسم ثم دعا آخر كذلك
فنزلت الآية في هذا
وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش
وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه وليس فيه قصد استخفاف وأذى
وقد قال عبد الله بن مسعود لعلقمة وتقول أنت ذلك يا أعور
وأسند النقاش إلى عطاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنوا أولادكم قال عطاء مخافة الألقاب
وقال ابن زيد
معنى * (ولا تنابزوا بالألقاب) * أي لا يقول أحد لأحد يا يهودي بعد إسلامه ولا يا فاسق بعد توبته
ونحو هذا
وحكى النقاش ان كعب بن مالك وابن أبي حدرد تلاحيا فقال له كعب يا أعرابي
يريد ان يبعده من الهجرة
فقال له الآخر يا يهودي
يريد لمخالطة الأنصار اليهود في يثرب
فنزلت الآية
وقوله تعالى * (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) * يحتمل معنيين أحدهما بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فساقا بالمعصية بعد إيمانكم
والثاني بئس ما يقول الرجل لأخيه يا فاسق بعد إيمانه
وقال الرماني هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسق والإيمان
قال القاضي أبو محمد وهذه نزعة اعتزالية
ثم شدد تعالى عليهم النهي
بأن حكم بظلم من لم يتب ويقلع عن هذه الأشياء التي نهى عنها
ثم امر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن
وان لا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه لما في ذلك وفي التجسس
150

من التقاطع والتدابر
وحكم على بعضه بأنه * (إثم) *
إذ بغضه ليس بإثم
ولا يلزم اجتنابه وهو ظن الخير بالناس وحسنه بالله تعالى
والمظنون من شهادات الشهود والمظنون به من أهل الشر
فإن ذلك سقوط عدالته وغير ذلك هي من حكم الظن به
وظن الخير بالمؤمن محمود والظن المنهي عنه هو ان تظن سوءا برجل ظاهره الصلاح
بل الواجب تنزيل الظن وحكمه وتتأول الخير
وقال بعض الناس * (إثم) * معناه كذب
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث
وقال بعض الناس معنى * (إن بعض الظن إثم) * أي إذا تكلم الظان أثم
وما لم يتكلم فهو في فسحة
لأنه لا يقدر على دفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم (الحزم سوء الظن)
قال القاضي أبو محمد وما زال أولو العلم يحترسون من سوء الظن ويسدون ذرائعه
قال سلمان الفارسي إني لأعد غراف قدري فخافة الظن
وذكر النقاش عن انس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (احترسوا من الناس بسوء الظن)
وكان أبو العالية يختم على بقية طعامه مخافة ظن السوء بخادمه
وقال ابن مسعود الأمانة خير من الخاتم
والخاتم خير من سوء الظن
وقوله * (ولا تجسسوا) * أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن
واجتزوا بالظاهر الحسنة
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين والهذليون (لا تحسسوا) بالحاء غيرمنقوطة
وقال بعض الناس التجسس بالجيم في الشر
والتحسس بالحاء في الخير وهكذا ورد القرآن ولكن قد يتداخلاون في الاستعمال
وقال أبو عمرو بن العلاء التجسس ما كان من وراء وراء
والتحسس بالحاء الدخول والاستعلام
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا)
وذكر الثعلبي حديث حراسة عمرو بن عوف ووجودهما الشرب في بيت ربيعة بن أمية بن خلف
وذكر أيضا حديثه في ذلك مع أبي محجن الثقفي
وقال زيد بن وهب
قيل لابن مسعود هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا فقال إنا نهينا عن التحسس
فإن يظهر لنا شيء أخذنا به
* (ولا يغتب) * معناه ولا يذكر أحدكم من أخيه شيئا هو فيه يكره سماعه
وروي ان عائشة قالت عن امرأة ما رأيت أجمل منها الا انها قصيرة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (اغتبتها نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرته) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته وإذا ذكرت ما ليس فيه فقد بهته)
وفي حديث آخر (الغيبة ان تذكر المؤمن بما يكره)
قيل وإن كان حقا قال إذا قلت باطلا فذلك هو البهتان
وقال معاوية بن قرة وأبو إسحاق السبيعي إذا مر بك رجل أقطع
فقلت ذلك الأقطع كان ذلك غيب
وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الغيبة أشد من الزنا لأن الزاني يتوب فيتوب الله عليه والذي يغتاب يتوب فلا يتاب عليه حتى يستحل)
قال القاضي أبو محمد وقد يموت من اغتيب أو يأبى
وروي ان رجلا قال لابن سيرين إني قد اغتبتك فحللني
فقال له ابن سيرين إني لا أحل ما حرم
151

الله
والغيبة مشتقة من غاب يغيب
وهي القول في الغائب واستعملت في المكروه ولم يبح في هذا المعنى الا ما تدعو الضرورة اليه من تجريح في الشهود وفي التعريف لمن استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أما معاوية فصعلوك لا مال له) وما يقال في الفسقة أيضا وفي ولاة الجور ويقصد به التحذير منه
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (أعن الفاجر ترعون اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرفه الناس إذا لم تذكروه) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (بئس ابن العشيرة)
ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم فمنه قول الشاعر سويد بن أبي كاهل اليشكري
(فإذا لاقيته عظمني
* وإذا يخلو له لحمي رتع) الرمل
ويروي فيحييني إذا لاقيته
ومنه قول الآخر المقنع الكندي
(وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
* وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا)
فوفقهم الله تعالى على جهة التوبيخ بقوله * (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) * فالجواب عن هذا لا
وهم في حكم من يقولها
فخوطبوا على أنهم قالوا لا فقيل لهم * (فكرهتموه) * وبعد هذا مقدر تقديره
فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك
وعلى هذا المقدر يعطف قوله * (واتقوا الله) * قاله أبو علي الفارسي
وقال الرماني كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع
وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل
وهو أحق ان يجاب
لأنه بصير عالم
والطبع أعمى جاهل
وقرا الجمهور (ميتا) بسكون الياء
وقرأ نافع وابن القعقاع وشيبة ومجاهد (ميتا) بكسرها والشد
وقرأ أبو حيوة (فكرهتموه) بضم الكاف وشد الراء
ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم اعلم بأنه * (تواب رحيم) * إبقاء منه تعالى وإمهالا وتمكينا من التوبة
قوله عز وجل
سورة الحجرات 13 - 14
قوله تعالى * (من ذكر وأنثى) * يحتمل ان يريد آدم وحواء
فكأنه قال إنا خلقنا جميعكم من آدم وحواء
ويحتمل ان يريد الذكر والأنثى اسم الجنس
فكأنه قال إنا خلقنا كل واحد منكم من ماء ذكر وماء أنثى
وقصد هذه الآية التسوية بين الناس
ثم قال تعالى * (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) * أي لئلا تفاخروا ويريد بعضكم ان يكون أكرم من بعض
فإن الطريق إلى الكرم غير هذا * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * وروى أبو بكرة قيل يا رسول الله من خير الناس قال (من طال عمره وحسن عمله)
وفي
152

حديث آخر من خير الناس قال (آمرهم بالمعروف وانهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم واتقاهم)
وحكى الزهراوي ان سبب هذه الآية غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة وحكى الثعلبي عن ابن عباس ان سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح عند النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن فلانة فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له (إنك لا تفضل أحدا الا في الدين والتقوى) فنزلت هذه الآية ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضا والشعوب جمع شعب وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطا بنسب واحد ويتلوه القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الأسرة والفصيلة وهما قرابة الرجل الأدنون فمضر وربيعة وحمير شعوب وقيس وتميم ومذحج ومراد قبائل مشبهة بقبائل الرأس (لأنها قطع تقابلت) وقريش ومحارب وسليم عمارات وبنو قصي وبنو مخزوم بطون وبنو هاشم وبنو أمية أفخاذ وبنو عبد المطلب أسرة وفصيلة وقال ابن جبير الشعوب الأفخاذ
وروي عن ابن عباس الشعوب البطون وهذا غير ما تمالأ عليه اللغويون
قال الثعلبي وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل
واما الشعب الذي هو في همدان الذي ينسب اليه الشعبي فهو بطن يقال له الشعب
قال القاضي أبو محمد وقيل للأمم التي ليست بعرب شعوبية نسبة إلى الشعوب وذلك أن تفصيل أنسابها خفي فلم يعرف أحد منهم الا بان يقال فارسي تركي رومي زناتي
فعرفوا بشعوبهم وهي أعم ما يعبر به عن جماعتهم ويقال لهم الشعوبية بفتح الشين وهذا من تغيير النسب وقد قيل فيهم غير ما ذكرت وهذا أولى عندي
وقرا الأعمش (لتتعارفوا) وقرا عبد الله بن عباس (لتعرفوا ان) على وزن تفعلوا بكسر العين وفتح الألف من (ان) وبإعمال (لتعرفوا) فيها ويحتمل على هذه القراءة أن تكون اللام في قوله (لتعرفوا) لام كي ويضطرب معنى الآية مع ذلك ويحتمل أن تكون لام الأمر وهو أجود في المعنى ويحتمل ان يكون المفعول محذوفا تقديره
الحق وإذا كانت لام كي فكأنه قال يا أيها الناس أنتم سواء من حيث أنتم مخلوقون لأن تتعارفوا ولأن تعرفوا الحقائق واما الشرف والكرم فهو بتقوى الله تعالى وسلامة القلوب
وقرا ابن مسعود (لتعارفوا بينكم وخيركم عند الله أتقاكم)
وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من سره ان يكون أكرم الناس فليتق الله)
ثم نبه تعالى على الحذر بقوله * (إن الله عليم خبير) * أي بالمتقي الذي يستحق رتبة الكرم في الإيمان أي لم تصدقوا بقلوبكم * (ولكن قولوا أسلمنا) *
والإسلام يقال بمعنيين أحدهما الدين يعم الإيمان والأعمال وهو الذي في قوله * (إن الدين عند الله الإسلام) * آل عمران 19 والذي في قوله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس) والذي في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له ما الإسلام قال بان تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان والذي في قوله لسعد بن أبي وقاص أو مسلما إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه الحديث فهذا الإسلام ليس هو في قوله * (ولكن قولوا أسلمنا) * والمعنى الثاني للفظ الاسلام هو الاستسلام والإظهار الذي يستعصم به ويحقن الدم وهذا هو الإسلام في قوله * (ولكن قولوا أسلمنا) * و * (الإيمان) * الذي هو التصديق أخص من الأول واعم بوجه ثم صرح لهم بان
153

* (الإيمان) * لم يدخل قلوبهم ثم فتح لهم باب التوبة بقوله * (وإن تطيعوا الله) * الآية وطاعة الله ورسوله في ضمنها الايمان والأعمال
وقرا جمهور القراء (لا يلتكم) من لات يليت إذا نقص يقال لاته حقه إذا نقصه منه ولت السلطان إذا لم يصدقه فيما سأل عنه
وقرا أبو عمرو والأعرج والحسن وعمرو (لا يألتكم) من ألت يألت وهو بمعنى لات وكذلك يقال الت بكسر اللام يألت ويقال أيضا في معنى لات ألت يولت ولم يقرا بهذه اللغة وباقي الآية ترجية
قوله عزو وجل
سورة الحجرات 15 - 18
قوله تعالى * (إنما) * في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى
وقوله تعالى * (ثم لم يرتابوا) * أي لم يشكوا في ايمانهم ولم يداخلهم ريب " وهم الصادقون " إذ جاء فعلهم مصدقا لقولهم ثم امره تعالى بتوبيخهم بقوله * (قل أتعلمون الله بدينكم) * أي بقولكم * (آمنا) * الحجرات 14 وهو يعلم منكم خلاف ذلك لأنه العليم بكل شيء
وقوله * (يمنون عليك أن أسلموا) * نزلت في بني أسد أيضا وذلك انهم قالوا في بعض الأوقات للنبي صلى الله عليه وسلم إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت محارب خصفة وهوازن غطفان وغيرهم فنزلت هذه الآية حكاه الطبري وغيره وقرأ ابن مسعود (يمنون عليك إسلامهم) وقوله يحتمل ان يكون مفعولا صريحا
ويحتمل ان يكون مفعولا من اجله
وقوله * (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) * بزعمكم إذ تقولون آمنا فقد لزمكم ان الله مان عليكم ويدلك على هذا المعنى قوله * (إن كنتم صادقين) * فتعلق عليهم الحكمان هم ممنون عليهم على الصدق وأهل ان يقولوا أسلمنا من حيث هم كذبة
وقرا ابن مسعود (إذ هداكم)
وقوله تعالى * (يمن عليكم) * يحتمل ان يكون بمعنى ينعم كما تقول من الله عليك ويحتمل ان يكون بمعنى يذكر إحسانه فيجيء معادلا ل * (يمنون عليك) * وقال الناس قديما إذا كفرت النعمة حسنت المنة
وإنما المنة المبطلة للصدقة المكروهة ما وقع دون كفر النعمة
وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة وقتادة وابن وثاب (تعملون) بالتاء على الخطاب
وقرا ابن كثير وعاصم في رواية أبان (يعملون) بالياء من تحت على ذكر الغيب
154

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ق
وهي مكية بإجماع من المتأولين روى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من قرأ سورة (ق) هون الله عليه الموت وسكراته)
قوله عز وجل
سورة ق 1 - 8
قال ابن عباس * (ق) * اسم من أسماء القرآن
وقال أيضا اسم من أسماء الله تعالى
وقال قتادة والشعبي هو اسم السورة وقال يزيد وعكرمة ومجاهد والضحاك هو اسم الجبل المحيط بالدنيا وهو فيما يزعمون من زمردة خضراء منها خضرة السماء وخضرة البحر
و * (المجيد) * الكريم في أوصافه الذي جمع كل معلوة
و * (ق) * على هذه الأقوال مقسم به وب * (القرآن المجيد) * وجواب القسم منتظر
واختلف الناس فيه فقال ابن كيسان جوابه " وما يلفظ من قول " ق 18 وقيل الجواب * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) * ق 37 وقال الزهراوي عن سعيد الأخفش الجواب * (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) * وضعفه النحاس وقال الكوفيون من النحاة الجواب * (بل عجبوا) * والمعنى لقد عجبوا
قال منذر بن سعيد إن جواب القسم في قوله " وما يبدل القول لدي " ق 29 وفي هذه الأقوال تكلف وتحكم على اللسان
وقال الزجاج والمبرد والأخفش الجواب مقدر تقديره * (ق) * و * (القرآن المجيد) * لتبعثن وهذا قول حسن وأحسن منه ان يكون الجواب الذي يقع عنه الاضراب ب * (بل) * كأنه قال * (ق والقرآن المجيد) * ما ردوا امرك بحجة أو ما كذبوك ببرهان ونحو هذا مما لا بد لك من تقديره بعد الذي قدر
155

الزجاج لأنك إذا قلت الجواب لتبعثن فلا بد بعد ذلك ان يقدر خبر عنه يقع الاضراب وهذا الذي جعلناه جوابا وجاء المقدر أخصر
وقال جماعة من المفسرين في قوله * (ق) * إنه حرف دال على الكلمة على نحو قول الشاعر الوليد بن المغيرة
(قلت لها قفي فقالت قاف
*) الرجز
واختلفوا بعد فقال القرطبي هو دال على أسماء الله تعالى هي قادر وقاهر وقريب وقاض وقابض وقيل المعنى قضي الأمر من رسالتك ونحوه * (والقرآن المجيد) * فجواب القسم في الكلام الذي يدل عليه قاف
وقال قوم المعنى قف عند أمرنا
وقيل المعنى قهر هؤلاء الكفرة وهذا أيضا وقع عليه القسم ويحتمل ان يكون المعنى قيامهم من القبور حق * (والقرآن المجيد) * فيكون أول السورة من المعنى الذي اطرد بعد وعلى هذه الأقوال فثم كلام مضمر عنه وقع الإضراب كأنه قال ما كذبوك ببرهان ونحو هذا مما يليق مظهرا
وقرا جمهور من القراء * (ق) * بسكون الفاء
قال أبو حاتم ولا يجوز غيرها الا جواز سوء
قال القاضي أبو محمد وهذه القراءة تحسن مع أن يكون * (ق) * حرفا دالا على كلمة
وقرا الثقفي وعيسى قاف بفتح الفاء وهذه تحسن مع القول بأنها اسم للقرآن أو الله تعالى وكذلك قرأ الحسن وابن أبي إسحاق بكسر الفاء وهي التي في رتبة قبلها في أن الحركة للالتقاء وفي انها اسم للقرآن
و * (المجيد) * الكريم الأوصاف الكثير الخير
واختلف الناس في الضمير في * (عجبوا) * لمن هو فقال جمهور المتأولين هو لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن كل مفطور عجب من بعثة بشر رسول الله لكن المؤمنون نظروا واهتدوا والكافرون بقوا في عمايتهم وصموا وحاجوا بذلك العجب ولذلك قال تعالى " فقال الكافرون هذا شيء عجيب " وقال آخرون بل الضمير في * (عجبوا) * للكافرين وكرر الكلام تأكيدا ومبالغة
والإشارة بهذا يحتمل أن تكون إلى نفس مجيء البشر
ويحتمل أن تكون إلى القول الذي يتضمنه الانذار وهو الخبر بالبعث ويؤيد هذا القول ما يأتي بعد
وقرا الأعرج وشيبة وأبو جعفر (إذا) على الخبر دون استفهام والعامل * (رجع بعيد) * قال ابن جني ويحتمل ان يكون المعنى (أإذا متنا بعد رجعنا) فيدل ذلك * (رجع بعيد) * على هذا الفعل الذي هو بعد ويحل محل الجواب لقولهم (إذا) والرجع مصدر رجعته
وقوله * (بعيد) * في الأوهام والفكر كونه فأخبر الله تعالى ردا على قولهم بأنه يعلم ما تأكل الأرض من ابن آدم وما تبقى منه وإن ذلك في الكتاب وكذلك يعود في الحشر معلوما ذلك كله
و (الحفيظ) الجامع الذي لم يفته شيء
وقال الرماني * (حفيظ) * متبع أن يذهب ببلى ودروس وروي في الخبر الثابت ان الأرض تأكل ابن آدم الا عجب الذنب وهو عظم كالخردلة فمنه يركب ابن آدم وحفظ ماتنقض الأرض إنما هو ليعود بعينه يوم القيامة وهذا هو (الحق)
وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعثرة المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه وهذا عندي خلاف لظاهر كتاب الله ولو كانت
156

غيرها فكيف كانت تشهد الأيدي والأرجل على الكفرة إلى غير ذلك مما يقتضي ان أجساد الدنيا هي التي تعود
وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور المعنى ما تنقص من لحومهم وأبشارهم وعظامهم
وقال السدي معنى قوله * (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) * أي ما يحصل في بطنها من موتاهم وهذا قول حسن مضمنه الوعيد
وقال ابن عباس أيضا في ما حكى الثعلبي معناه قد علمنا ما تنقص أرض الإيمان من الكفرة الذين يدخلون في الإيمان وهذا قول أجنبي من المعنى الذي قبل وبعد وقيل قوله
* (بل كذبوا) * مضمر عنه وقع الإضراب تقديره ما اجادوا النظر أو نحو هذا والذي يقع عنه الإضراب ب * (بل) * الأغلب فيه انه منفي تقضي * (بل) * بفساده وقد يكون أمرا موجبا تقضي * (بل) * بترك القول فيه لا بفساده وقرأ الجمهور (لما) بفتح اللام وشد الميم
وقرا الجحدري (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم قال أبو الفتح هي كقولهم أعطيته لما سأل وكما في التاريخ لخمس خلون ونحو هذا ومنه قوله تعالى * (لا يجليها لوقتها) * الأعراف 187 ومنه قول الشاعر
(إذا هبت لقاربها الرياح
*) الوافر
و (المريج) معناه المختلط قاله ابن زيد أي بعضهم يقول ساحر وبعضهم كاهن وبعضهم شاعر إلى غير ذلك من تخليطهم وكذلك عادت فكرة كل واحد منهم مختلطة في نفسها قال ابن عباس المريج المنكر
وقال مجاهد الملتبس والمريج المضطرب أيضا وهو قريب من الأول ومنه الحديث مرجت عهود الناس ومنه * (مرج البحرين) * الفرقان 53 الرحمن 19 وقال الشاعر أبو دؤاد
(مرج الدين فأعددت له
* مشرف الحارك محبوك الكتد)
ثم دل تعالى على العبرة بقوله * (أفلم ينظروا إلى السماء) * الآية (وزيناها) معناه بالنجوم
و (الفروج) الفطور والشقوق خلالها وأثناءها قاله مجاهد وغيره وحكى النقاش ان هذه الآية تعطي ان السماء مستديرة وليس الأمر كما حكي إذا تدبر اللفظ وما يقتضي
و (الرواسي) الجبال و (الزوج) النوع
و (البهيج) قال ابن عباس وقتادة وابن زيد هو الحسن المنظر وقوله عز وجل * (تبصرة وذكرى) * منصوب على المصدر بفعل مضمر
و (المنيب) الراجع إلى الحق عن فكرة ونظر
قال قتادة وهو المقبل بقلبه إلى الله وخص هذه الصنيفة بالذكر تشريفا من حيث هي المنتفعة بالتبصرة والذكرى والا فهذه المخلوقات هي تبصرة وذكرى لكل بشر
وقال بعض النحويين * (تبصرة وذكرى) * مفعولان من أجله وهذا يحتمل والأول أرجح
157

قوله عز وجل
سورة ق 9 - 15
قوله تعالى * (ماء مباركا) * قيل يعني جميع المطر كله يتصف بالبركة وإن ضر بعضه أحيانا ففيه مع ذلك الضر الخاص البركة العامة
وقال أبو هريرة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء المطر فسالت الميازيب قال (لا محل عليكم العام) وقال بعض المفسرين * (ماء مباركا) * يريد به ماء مخصوصا خالصا للبركة ينزله الله كل سنة وليس كل المطر يتصف بذلك
* (وحب الحصيد) * الحنطة
و * (باسقات) * معناه طويلات ذاهبات في السماء ومنه قول ابن نوفل في ابن هبيرة
(يا ابن الذين لمجدهم
* بسقت على قيس فزارة) مجزوء الكامل مرفل
وروى قطبة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ (باصقات) بالصاد قال أبو الفتح الأصل السين وإنما الصاد بدل منه لاستعلاء القاف
و (الطلع) أول ظهور التمر في الكفرى وهو أبيض منضد كحب الرمان
فما دام ملتصقا بعضه ببعض فهو * (نضيد) * فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد
و * (رزقا) * نصب على المصدر والضمير في " به " عائد على المطر
ووصف البلدة ب (ميت) على تقدير القطر والبلد
وقرا الناس (ميتا) مخففا وقرا أبو جعفر وخالد (ميتا) بالتثقيل
ثم بين تعالى موضع الشبه فقال * (كذلك الخروج) * هذه الآيات كلها إنما هي أمثلة وأدلة على البعث
و * (الخروج) * يريد به من القبور * (وأصحاب الرس) * قوم كان لهم بئر عظيمة وهي * (الرس) * وكل ما لم يطو من بئر أو معدن أو نحوه فهو رس وأنشد أبو عبيدة للنابغة الجعدي
(سبقت إلى قرطبا هل
* تنابلة يحفرون الرساسا)
وجاءهم نبي يسمى حنظلة بن صفوان فيما روي فجعلوه في * (الرس) * وردموا عليه
فأهلكهم الله وقال كعب الأحبار في كتاب الزهراوي * (أصحاب الرس) * هم أصحاب الأخدود وهذا ضعيف لأن أصحاب الأخدود لم يكذبوا نبيا إنما هو ملك احرق قوما
وقال الضحاك * (الرس) * بئر قتل فيها صاحب ياسين قال منذر وروي عن ابن عباس انهم قوم عاد
و * (الأيكة) * الشجر الملتف وهم قوم شعيب والألف واللام من * (الأيكة) * غير معرفة لأن (ايكة) اسم علم كطلحة يقال أيكة وليكة فهي كالألف واللام في الشمس والقمر وفي الصفات الغالبة وفي هذا نظر
وقرأ (الأيكة) بالهمز وأبو جعفر ونافع وشيبة وطلحة
* (وقوم تبع) * هم حمير و * (تبع) * سم فيهم يذهب تبع ويجيء تبع ككسرى في الفرس وقيصر في الروم وكان أسعد أبو كرب أحد التبابعة رجلا صالحا صحب حبرين فتعلم منهما دين موسى عليه السلام ثم إن قومه أنكروا ذلك عليه فندبهم إلى محاجة الحبرين فوقعت بينهم مجادلة واتفقوا على أن يدخلوا
158

جميعم النار التي في القربان فمن اكلته فهو المبطل فدخلوها فاحترق * (قوم تبع) * وخرج الحبران تعرق جباههما فهلك القوم المخالفون وآمن سائر * (قوم تبع) * بدين الحبرين
وفي الحديث اختلاف كثير
أثبت أصح ذلك على ما في سير ابن هشام
وذكر الطبري عن سهل بن سعد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تلعنوا تبعا فإنه كان قد أسلم) وحكى الثعلبي عن ابن عباس ان تبعا كان نبيا
وقوله تعالى * (كل كذب الرسل) * قال سيبويه التقدير كلهم وحذف لدلالة كل عليه إيجازا
و (الوعيد) الذي حق هو ما سبق به القضاء من تعذيب الكفرة وإهلاك الأمم المكذبة ففي هذا تخويف من كذب محمد صلى الله عليه وسلم
وقوله تعالى * (أفعيينا) * توقيف للكفار وتوبيخ وإقامة للحجة الواضحة عليهم وذلك أن جوابهم على هذا التوقيف هو لم يقع عي ثم هم مع ذلك في لبس من الإعادة وهذا تناقض ويقال عيي يعيى إذا عجز عن الأمر ويلح به ويدغم هذا الفعل الماضي من هذا الفعل ولا يدغم المستقبل منه فيقال عي ومنه قول الشاعر عبيد بن الأبرص
(عيوا بأمرهم كما
* عيت ببيضتها الحمامة)
و (الخلق الأول) إنشاء الانسان من نطفة على التدرج المعلوم وقال الحسن (الخلق الأول) آدم عليه السلام حكاه الرماني واللبس الشك والريب واختلاط النظر
والخلق الجديد البعث في القبور
قوله عز وجل
سورة ق 16 - 21
هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث والجزاء
والخلق إنشاء الشيء على ترتيب وتقدير حكمي
و * (الإنسان) * اسم الجنس
قال بعض المفسرين * (الإنسان) * هنا آدم عليه السلام و * (توسوس) * معناه تتحدث في فكرتها وسمي صوت الحلي وسواسا لخفائه والوسوسة إنما تستعمل في غير الخير وقوله تعالى * (نحن أقرب إليه من حبل الوريد) * عبارة عن قدرة الله على العبد وكون العبد في قبضة القدرة والعلم قد أحيط به فالقرب هو بالقدرة والسلطان إذ لا ينحجب عن علم الله باطن ولا ظاهر وكل قريب من الإجرام فبينه وبين قلب الإنسان حجب
و * (الوريد) * عرق كبير في العنق يقال إنهما وريدان عن يمين وشمال قال الفراء هو ما بين الحلقوم والعلباوت وقال الحسن * (الوريد) * الوتين
قال الأثرم هو نهر الجسد هو في القلب الوتين وفي الظهر الأبهر وفي الذراع والفخذ والأكحل والنسا وفي الخنصر الا سليم (والحبل) اسم مشترك فخصصه بالإضافة إلى * (الوريد) * وليس هذا
159

بإضافة الشيء إلى نفسه بل هي كإضافة الجنس إلى نوعه كما تقول لا يجوز حي الطير بلحمه
وأما قوله تعالى * (إذ يتلقى المتلقيان) * فقال المفسرون العامل في * (إذ) * * (أقرب) * ويحتمل عندي ان يكون العامل فيه فعلا مضمرا تقديره اذكر * (إذ يتلقى المتلقيان) * ويحسن هذا المعنى لأنه أخبر خبرا مجردا بالخلق والعلم بخطرات الأنفس والقرب وبالقدرة والملك فلما تم الإخبار أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر وتبين وروده عند السامع فمنها * (إذ يتلقى المتلقيان) * ومنها مجيء سكرة الموت ومنها النفخ في الصور ومنها مجيء كل نفس و * (المتلقيان) * الملكان الموكلان بكل إنسان ملك اليمين الذي يكتب الحسنات وملك الشمال الذي يكتب السيئات
قال الحسن الحفظة أربعة اثنان بالنهار واثنان بالليل
قال القاضي أبو محمد ويؤيد ذلك الحديث (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) الحديث بكامله
ويروى ان ملك اليمين أمير على ملك الشمال وان العبد إذا أذنب يقول ملك اليمين للآخر تثبت لعله يتوب رواه إبراهيم التيمي وسفيان الثوري
و * (قعيد) * معناه قاعد وقال قوم هو بمنزلة أكيل فهو بمعنى مقاعد وقال الكوفيون أراد قعودا فجعل الواحد موضع الجنس والأول أصوب لأن المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان وقال مجاهد * (قعيد) * رصد ومذهب سيبويه ان التقدير عن اليمين قعيد فاكتفى بذكر الآخر عن ذكر الأول ومثله عنده قول الشاعر كثير عزة
(وعزة ممطول معنى غريمها
*) الطويل
ومثله قول الفرزدق
(إني ضمنت لمن أتاني ما جنى
* وأبى وكان وكنت غير غدور) الكامل
وهذه الأمثلة كثيرة ومذهب المبرد ان التقدير عن اليمين * (قعيد) * وعن الشمال فأخر * (قعيد) * عن مكانه ومذهب الفراء ان لفظ * (قعيد) * يدل على الاثنين والجمع فلا يحتاج إلى تقدير غير الظاهر وقوله تعالى * (ما يلفظ من قول) * قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة يكتب الملكان الكلام فيثبت الله من ذلك الحسنات والسيئات ويمحو غير ذلك وهذا هو ظاهر الآية قال أبو الجوزاء ومجاهد يكتبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه وقال عكرمة المعنى * (ما يلفظ من قول) * خير أو شر واما ما خرج من هذا فإنه لا يكتب والأول أصوب وروي ان رجلا قال لجمله حل فقال ملك اليمين لا اكتبها وقال ملك الشمال لا اكتبها فأوحى الله إلى ملك الشمال ان اكتب ما ترك ملك اليمين وروي نحوه عن هشام الحمصي وهذه اللفظة إذا اعتبرت فهي بحسب مشيه ببعيره فإن كان في طاعة فحل حسنة وإن كان في معصية فهي سيئة والمتوسط بين هذين عسير الوجود ولا بد ان يقترن بكل أحوال المرء قرائن تخلصها للخير أو لخلافه
وحكى الثعلبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن مقعد الملكين على الثنيتين قلمهما اللسان ومدادهما الريق) وقال الضحاك والحسن مقعدهما تحت الشعر وكان الحسن يحب ان ينظف غفقته لذلك قال الحسن حتى إذا مات طويت صحيفته وقيل له يوم
160

القيامة * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * الإسراء 14 عدل والله عليه من جعله حسيب نفسه
والرقيب المراقب والعتيد الحاضر وقوله * (وجاءت) * عطف عندي على قوله * (إذ يتلقى) * فالتقدير وإذ تجيء سكرة الموت وجعل الماضي في موضع المستقبل تحقيقا وتثبيتا للأمر وهذا احث على الاستعداد واستشعار القرب وهذه طريقة العرب في ذلك ويبين هذا في قوله * (ونفخ في الصور) * * (وجاءت كل نفس) * فإنها ضرورة بمعنى الاستقبال
وقرأ أبو عمرو * (وجاءت سكرة) * بإدغام التاء في السين
و * (سكرة الموت) * ما يعتري الإنسان عند نزاعه والناس فيها مختلفة أحوالهم لكن لكل واحد سكرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزاعه يقول (إن للموت سكرات)
وقوله * (بالحق) * معناه بلقاء الله وفقد الحياة الدنيا
وفي مصحف عبد الله بن مسعود (وجاءت سكرة الحق بالموت)
وقرأها ابن جبير وطلحة ويروى ان أبا بكر الصديق رضي الله عنه قالها كذلك لابنته عائشة وذلك انها قعدت عند رأسه وهو ينازع فقالت
(لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
* إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر) الطويل
ففتح أبو بكر رضي الله عنه عينه فقال لا تقولي هكذا وقولي (وجاءت سكرة الحق بالموت) * (ذلك ما كنت منه تحيد) *
وقد روي هذا الحديث على مشهور القراءة * (وجاءت سكرة الموت بالحق) * فقال أبو الفتح إن شئت علقت الباء ب * (جاءت) * كما تقول جئت بزيد وإن شئت كانت بتقدير ومعها الموت
واختلف المتأولون في معنى (وجاءت سكرة الحق بالموت) فقال الطبري وحكاه الثعلبي (الحق) الله تعالى وفي إضافة السكرة إلى اسم الله تعالى بعد وإن كان ذلك سائغا من حيث هي خلق له ولكن فصاحة القرآن ورصفه لا يأتي فيه هذا
وقال بعض المتأولين المعنى وجاءت سكرة فراق الحياة بالموت وفراق الحياة حق يعرفه الانسان ويحيد منه بأمله
ومعنى هذا الحيد انه يقول أعيش كذا وكذا فمتى فكر فرق في قرب الموت حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمن وأيضا فحذر الموت وتحرزاته ونحو هذا حيد كله
وقد تقدم القول في النفخ في الصور مرارا
و * (يوم الوعيد) * هو يوم القيامة وأضافه إلى الوعيد تخويفا
وقوله تعالى * (وجاءت كل نفس معها) * وقرا طلحة بن مصرف (محها) بالحاء المثقلة
والسائق الحاث على السير
واختلف الناس في السائق والشهيد فقال عثمان بن عفان ومجاهد وغيره ملكان موكلان بكل إنسان أحدهما يسوقه والآخر من حفظته يشهد عليه
وقال أبو هريرة السائق ملك والشهيد العمل وقال منذر بن سعيد السائق الملك والشهيد النبي صلى الله عليه وسلم قال وقيل الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشورا
وقال بعض النظار * (سائق) * اسم جنس و * (شهيد) * كذلك فالساقة للناس ملائكة يوكلون بذلك والشهداء الحفظة في الدنيا وكل ما يشهد
161

وقال ابن عباس والضحاك السائق ملك والشهيد جوارح الانسان وهذا يبعد على ابن عباس لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي
وقوله تعالى * (كل نفس) * يعم الصالحين فإنما معناه وشهيد بخيره وشره ويقوى في * (شهيد) * اسم الجنس فتشهد بالخير والملائكة والبقاع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء الا شهد له يوم القيامة)
وكذلك يشهد بالشر الملائكة والبقاع والجوارح
وقال أبو هريرة السائق ملك والشهيد العمل وقال ابن مسلم السائق شيطان حكاه عنه الثعلبي والقول في كتاب منذر بن سعيد وهو ضعيف
قوله عز وجل
سورة ق 22 - 28
قرا الجحدري (لقد كنت) على مخاطبة النفس وكذلك كسر الكافات بعد
وقال صالح بن كيسان والضحاك وابن عباس معنى قوله * (لقد كنت) * اي يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد إذا حصل بين يدي الرحمن وعاين الحقائق التي كان لا يصدق بها في الدنيا ويتغافل عن النظر فيها * (لقد كنت في غفلة من هذا) * فلما كشف الغطاء عنك الآن احتد بصرك اي بصيرتك وهذا كما تقول فلان حديد الذهن والفؤاد ونحوه وقال مجاهد هو بصر العين إذا احتد التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة
وقال زيد بن أسلم قوله تعالى * (ذلك ما كنت منه تحيد) * ق 19 وقوله تعالى * (لقد كنت) * الآية مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم والمعنى انه خوطب بهذا في الدنيا أي لقد كنت يا محمد في غفلة من معرفة هذا القصص والغيب حتى أرسلناك وانعمنا عليك وعلمناك * (فبصرك اليوم حديد) *
وهذا التأويل يضعف من وجوه أحدها ان الغفلة إنما تنسب أبدا إلى مقصر ومحمد صلى الله عليه وسلم لا تقصير له قبل بعثه ولا بعده وثان ان قوله بعد هذا * (وقال قرينه) * يقتضي ان الضمير إنما يعود على أقرب مذكور وهو الذي يقال له * (فبصرك اليوم حديد) * وإن جعلناه عائدا على ذي النفس في الآية المتقدمة جاء هذا الاعتراض لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الكلامين غير متمكن فتأمله
وثالث ان معنى توقيف الكافر وتوبيخه على حاله في الدنيا يسقط وهو أحرى بالآية وأولى بالرصف والوجه عندي ما قاله الحسن وسالم بن عبد الله إنها مخاطبة للإنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر
و * (فكشفنا عنك غطاءك) * قال ابن عباس هي الحياة بعد الموت وينظر إلى معنى كشف
162

الغطاء قول النبي صلى الله عليه وسلم (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)
وقوله تعالى * (وقال قرينه هذا ما لدي عتيد) * قال جماعة من المفسرين * (قرينه) * من زبانية جهنم أي قال هذا العذاب الذي لدي لهذا الإنسان الكافر حاضر عتيد ففي هذا تحريض على الكافر واستعجال به
وقال قتادة وابن زيد * (قرينه) * الملك الموكل بسوقه فكأنه قال هذا الكافر الذي جعل إلى سوقه فهو لدي حاضر
وقال الزهراوي وقيل * (قرينه) * شيطانه
قال القاضي أبو محمد وهذا ضعيف وإنما أوقع فيه ان القرين في قوله * (قال قرينه ربنا ما أطغيته) * هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف
ولفظ القرين اسم جنس فسائقه قرين وصاحبه من الزبانية قرين وكاتب سيئاته في الدنيا قرين وتحتمله هذه الآية أي هذا الذي أحصيته عليه عتيد لدي وهو موجب عذابه ومماشي الإنسان في طريقه قرين وقال الشاعر عدي بن زيد العبادي
(عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
* فكل قرين بالمقارن يقتدي) الطويل
والقرين الذي في هذه الآية غير القرين الذي في قوله * (قال قرينه ربنا ما أطغيته) * إذ المقارنة تكون على أنواع وقال بعض العلماء * (قرينه) * في هذه الآية عمله قلبا وجارحا وقوله عز وجل * (ألقيا في جهنم) * معناه يقال * (ألقيا في جهنم) *
واختلف الناس لم يقال ذلك فقال جماعة من المفسرين هو قول الملكين من ملائكة العذاب
وقال عبد الرحمن بن زيد في كتاب الزهراوي هو قول للسائق والشهيد وحكى الزهراوي ان المأمور بإلقاء الكافر في النار اثنان وعلى هذين القولين لا نظر في قوله * (القيا) * وقال مجاهد وجماعة من المتأولين هو قول للقرين إما السائق وإما الذي هو من الزبانية حسبما تقدم واختلف أهل هذه المقالة في معنى قوله * (القيا) * وهو مخاطبة لواحد فقال المبرد معناه الق الق فإنما أراد تثنية الأمر مبالغة وتأكيدا فرد التثنية إلى الضمير اختصارا كما قال امرؤ القيس
(لفتك الأمين على نابل
*)
يريد ارم ارم
وقال بعض المتأولين (ألقين) فعوض من النون الف كما تعوض من التنوين
وقال جماعة من أهل العلم بكلام العرب
هذا جرى على عادة العرب وذلك انها كان الغالب عندها ان تترافق في الأسفار ونحوها ثلاثة فكل واحد منهم يخاطب اثنين فكثر ذلك في أشعارها وكلامها حتى صار عرفا في المخاطبة فاستعمل في الواحد ومن هذا قولهم في الأشعار خليلي وصاحبي وقفا نبك ونحوه وقد جرى المحدثون على هذا الرسم فيقول الواحد حدثنا وإن كان سمع وحده ونظير هذه الآية في هذا القول قول الزجاج يا حارسي اضربا عنقه وهو دليل على عادة العرب ومنه قول الشاعر سويد بن كراع العكلي
(فإن تزجراني بابن عفان أنزجر
* وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا) الطويل
163

وقرأ الحسن بن أبي الحسن (ألقين) بتنوين الياء و * (كفار) * مبالغة و * (عنيد) * معناه عاند عن الحق أي منحرف عنه
وقوله تعالى * (مناع للخير) * لفظ عام للمال والكلام الحسن والمعاون على الأشياء
وقال قتادة ومجاهد وعكرمة معناه الزكاة المفروضة وهذا التخصيص ضعيف و * (معتد) * معناه بلسانه ويده و * (مريب) * معناه متلبس بما يرتاب به أراب الرجل إذا أتى بريبة ودخل فيها
قال الثعلبي قيل نزلت في الوليد بن المغيرة
وقال الحسن * (مريب) * شاك في الله تعالى ودينه
وقوله تعالى * (الذي جعل) * الآية يحتمل ان يكون * (الذي) * بدلا من * (كفار) * ويحتمل ان يكون صفة به من حيث تخصص * (كفار) * بالأوصاف المذكورة فجاز وصفه بهذه المعرفة ويحتمل ان يكون * (الذي) * ابتداء وخبره قوله * (فألقياه) * ودخلت الفاء في قوله (فألقياه) للإبهام الذي في * (الذي) * فحصل الشبه بالشرط وفي هذا نظر
قال القاضي أبو محمد ويقوى عندي ان يكون * (الذي) * ابتداء ويتضمن القول حينئذ بني آدم والشياطين المغوين لهم في الدنيا ولذلك تحرك القرين الشيطان المغوي في الدنيا فرام ان يبرئ نفسه ويخلصها بقوله * (ربنا ما أطغيته) * لأنه كذب من نفي الإطغاء عن نفس جملة والحقيقة انه أطغاه بالوسوسة والتزين وأطغاه الله بالخلق والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه لا رب غيره وبوصف الضلال بالبعيد مبالغة أي لتعذر رجوعه إلى الهدى
وقوله تعالى * (لا تختصموا لدي) * معناه قال الله * (لا تختصموا لدي) * بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئا إذ قد استوجب جميعكم النار وقد اخبر بأنه تقع الخصومة لديه في الظلامات ونحوها مما فيه اختصاص
واقتضاء فائدة بقوله تعالى * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) * الزمر 31 وجمع الضمير في قوله " ولا تختصموا " يريد بذلك مخاطبة جميع القرناء إذ هو امر شائع لا يقف على اثنين فقط وهذا كما يقول الحاكم لخصمين لا تغلطوا علي يريد الخصمين ومن هو في حكمهما
وتقدمته إلى الناس بالوعيد هو ما جاءت به الرسل والكتب من تعظيم الكفرة
قوله عز وجل
سورة ق 29 - 35
المعنى قدمت بالوعيد أني أعذب الكفار في ناري فلا يبدل قولي ولا ينقص ما أبرمه كلامي ثم أزال عز وجل موضع الاعتراض بقوله * (وما أنا بظلام للعبيد) * أي هذا عدل فيهم لأني أعذرت وامهلت
164

وأنعمت بالإدراكات وهديت السبيل والنجدين وبعثت الرسل وقال الفراء معنى قوله * (ما يبدل القول لدي) * ما يكذب لدي لعلمي بجميع الأمور
قال القاضي أبو محمد فتكون الإشارة على هذا إلى كذب الذي قال * (ما أطغيته) * ق 27 وقوله تعالى * (يوم يقول) * يجوز ان يعمل في الظرف قوله * (بظلام) * ويجوز أن يعمل فيه فعل مضمر
وقرا جمهور من القراء وحفص عن عاصم (نقول) بالنون وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر والأعمش ورجحها أبو علي بما تقدم من قوله (قدمت وما انا) وقرا نافع وعاصم في رواية أبي بكر (يقول) على معنى يقول الله وهي قراءة الأعرج وشيبة وأهل المدينة وقرا ابن مسعود والحسن والأعمش أيضا (يقال) على بناء الفعل للمفعول
وقوله * (هل امتلأت) * تقرير وتوقيف واختلف الناس هل وقع هذا التقرير وهي قد امتلأت أو هي لم تمتلئ فقال بكل وجه جماعة من المتأولين وبحسب ذلك تأولوا قولها * (هل من مزيد) *
فمن قال إنها كانت ملأى جعل قولها * (هل من مزيد) * على معنى التقرير ونفي المزيد أي هل عندي موضع يزاد فيه شيء ونحو هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم (وهل ترك لنا عقيل منزلا) وهو تأويل الحسن وعمرو وواصل ومن قال إنها كانت غير ملأى جعل قولها * (هل من مزيد) * على معنى السؤال والرغبة في الزيادة
قال الرماني وقيل المعنى وتقول خزنتها والقول إنها القائلة اظهر
واختلف الناس أيضا في قول جهنم هل هو حقيقة أو مجاز أي حالها حال من لو نطق لقال كذا وكذا فيجري هذا مجرى شكا إلى جملي طول السرى ومجرى قول ذي الرمة تكلمني أحجاره وملاعبه
والذي يترجح في قول جهنم * (هل من مزيد) * انها حقيقة وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى وهو قول انس بن مالك وبين ذلك الحديث الصحيح المتواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم (يقول الله لجهنم هل امتلأت وتقول * (هل من مزيد) * حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض) واضطرب الناس في معنى هذا الحديث وذهبت جماعة من المتكلمين إلى أن الجبار اسم جنس وأنه يريد المتجبرين من بني آدم وروي ان الله تعالى يعد من الجبابرة طائفة يملأ بهم جهنم آخرا
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن جلدة الكافر يصير في غلظها أربعون ذراعا) ويعظم بدنه على هذه النسبة وهذا كله من ملء جهنم وذهب الجمهور إلى أن الجبار اسم الله تعالى وهذا هو الصحيح فإن في الحديث الصحيح (فيضع رب العالمين فيها قدمه) وتأويل هذا أن القدم لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها ومنه قول الله تعالى * (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) * يونس 2 فالقدم هنا ما قدم من شيء ومنه قول الشاعر الوضاح الخصي
(صل لربك واتخذ قدما
* ينجيك يوم العثار والزلل) المنسرح
ومنه قول العجاج
(وسني الملك لملك ذي قدم
*) الرمل
165

أي ذي شرف متقدم وهذا التأويل مروي عن ابن المبارك وعن النضر بن شميل وهو قول الأصوليين
وفي كتاب مسلم بن الحجاج فيضع الجبار فيها رجله ومعناه الجمع الذي أعد لها يقال للجمع الكثير من الناس رجل تشبيها برجل الجراد قال الشاعر
(فمر بها رجل من الناس وانزوى
* إليها من الحي اليمانين أرجل)
وملاك النظر في هذا الحديث ان الجارحة والتشبيه وما جرى مجراه منتف كل ذلك فلم يبق الا إخراج ألفاظ على هذه الوجوه السابقة في كلام العرب
و * (أزلفت) * معناه قربت و * (غير بعيد) * تأكيد وبيان ان هذا التقدير هو في المسافة لأن قربت كان يحتمل ان معناه بالوعد والاخبار فرفع الاحتمال بقوله * (غير بعيد) *
وقوله تعالى * (هذا ما توعدون) * الآية يحتمل ان يكون معناه يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة هذا هو الذي كنتم توعدون في الدنيا ويحتمل ان يكون المعنى خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أي هذا الذي توعدون به أيها الناس * (لكل أواب حفيظ) * والأواب الرجاع إلى الطاعة وإلى مراشد نفسه
وقال ابن عباس وعطاء الأواب المسبح لقوله * (يا جبال أوبي معه) * سبأ 10
وقال الشعبي ومجاهد هو الذي يذكر ذنوبه فيستغفر
وقال المحاسبي هو الراجح بقلبه إلى ربه
وقال عبيد بن عمير
كنا نحدث أنه الذي إذا قام من مجلسه استغفر الله مما جرى في ذلك المجلس وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل
والحفيظ معناه بأوامر الله فيمتثلها أو لنواهيه فيتركها
وقال ابن عباس * (حفيظ) * لذنوبه حتى يرجع عنها
وقوله تعالى * (من خشي) * يحتمل ان يكون " من " نعت الأواب أو بدلا
ويحتمل ان يكون رفعا بالابتداء والخبر يقال لهم * (ادخلوها) * ويحتمل أن تكون شرطية فيكون الجواب يقال لهم ادخلوها
وقوله * (بالغيب) * أي غير مشاهد له إنما يصدق رسوله ويسمع كلامه وجاء معناه يوم القيامة
والمنيب الراجع إلى الخير المائل اليه
وقوله تعالى * (ادخلوها) * تقديره يقال لهم على ما تقدم
و * (بسلام) * معناه بامن وسلامة من جميع الآفات
وقوله تعالى * (ذلك يوم الخلود) * معادل لقوله قبل في الكفار * (ذلك يوم الوعيد) * ق 20
وقوله تعالى * (لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد) * خبر بأنهم يعطون آمالهم أجمع
ثم أبهم تعالى الزيادة التي عنده للمؤمنين المنعمين وكذلك هي مبهمة في قوله تعالى * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) * السجدة 17 وقد فسر ذلك الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم (يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بل ما اطلعتهم عليه) وقد ذكر الطبري وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديث مطولة وأشياء ضعيفة لأن الله تعالى يقول " فلا تعلم نفس ما أخفي لها " السجدة 17 وهم يعينونها تكلفا وتعسفا
وروي عن جابر بن عبد الله وأنس بن مالك ان المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف
166

قوله عز وجل
سورة ق 36 - 40
* (كم) * للتكثير وهي خبرية المعنى كثيرا * (أهلكنا قبلهم) *
والقرن الأمة من الناس الذين يمر عليهم قدر من الزمن
واختلف الناس في ذلك القدر فقال الجمهور مائة سنة وقيل غير هذا وقد تقدم القول فيه غير مرة
وشدة البطش هي كثرة القوة والأموال والملك والصحة والأدهان إلى غير ذلك
وقرا جمهور من الناس (فنقبوا) بشد القاف المفتوحة على إسناد الفعل إلى القرون الماضية والمعنى ولجوا البلاد من أنقابها
وفي الحديث (ان على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)
والمراد تطوفوا ومشوا طماعين في النجاة من الهلكة ومنه قول الشاعر امرؤ القيس
(وقد نقبت في الآفاق حتى
* رضيت من الغنيمة بالإياب) الوافر
ومنه قول الحارث بن حلزة
(نقبوا في البلاد من حذر الموت
* وجالوا في الأرض كل مجال) الخفيف
وقرأ ابن يعمر وابن عباس ونصر بن سيار وأبو العالية (فنقبوا) بشد القاف المكسورة على الأمر لهؤلاء الحاضرين
و * (هل من محيص) * توقيف وتقرير اي لا محيص والمحيص المعدل موضع الحيص وهو الروغان والحياد قال قتادة حاص الكفرة فوجدوا امر الله منيعا مدركا وفي صدر البخاري فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب
وقال ابن عبد شمس في وصف ناقته
(إذا حاص الدليل رأيت منها
* جنوحا للطريق على اتساق) الوافر
وقرأ أبو عمرو في رواية عبيد عنه (فنقبوا) بفتح القاف وتخفيفها هي بمعنى التشديد واللفظة أيضا قد تقال بمعنى البحث والطلب تقول نقب عن كذا أي استقصى عنه ومنه نقيب القوم لأنه الذي يبحث عن أمورهم ويباحث عنها وهذا عندي تشبيه بالدخول من الأنقاب
وقوله تعالى * (إن في ذلك) * يعني إهلاك من مضى والذكرى التذكرة والقلب عبارة عن العقل إذ هو محله والمعنى * (لمن كان له قلب) * واع ينتفع به
وقال الشبلي معناه قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين
167

وقوله تعالى * (أو ألقى السمع وهو شهيد) * معناه صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وأثبته في سماعها فذلك إلقاء له عليها ومنه قوله تعالى * (وألقيت عليك محبة مني) * طه 39 أي أثبتها عليك وقال بعض الناس قوله تعالى * (ألقى السمع) * وقوله * (ضربنا على آذانهم) * الكهف 11 وقوله * (سقط في أيديهم) * الأعراف 149 هي كلها مما قل استعمالها الآن وبعدت معانيها
قال القاضي أبو محمد وقول هذا القائل ضعيف بل هي بينة المعاني وقد تقدمت في موضعها
وقوله تعالى * (وهو شهيد) * قال بعض المتأولين معناه وهو مشاهد مقبل على الأمر غير معرض ولا منكر في غير ما يسمع
وقال قتادة هي إشارة إلى أهل الكتاب فكأنه قال إن هذه العبرة التذكرة لمن له فهم فيتدبر الأمر أو لمن سمعها من أهل الكتاب فيشهد بصحتها لعلمه بها من كتابه التوراة وسائر كتب بني إسرائيل ف * (شهيد) * على التأويل الأول من المشاهدة وعلى التأويل الثاني من الشهادة
وقرا السدي (ألقى السمع) قال ابن جني ألقى السمع منه حكى أبو عمرو الداني ان قراءة السدي ذكرت لعاصم فمقت السدي وقال أليس الله يقول * (يلقون السمع) * الشعراء 223
وقوله تعالى * (ولقد خلقنا السماوات والأرض) * الآية خبر مضمنه الرد على اليهود الذين قالوا إن الله خلق الأشياء كلها في ستة أيام ثم استراح يوم السبت فنزلت * (وما مسنا من لغوب) * واللغوب الإعياء والنصب والسأم يقال لغب الرجل يلغب إذا أعيى
وقرا السلمي وطلحة (لغوب) بفتح اللام
وتظاهرت الأحاديث بان خلق الأشياء كان يوم الأحد وفي كتاب مسلم وفي الدلائل لثابت حديث مضمنه ان ذلك كان يوم السبت وعلى كل قول فأجمعوا على أن آدم خلق يوم الجمعة
فمن قال إن البداءة يوم السبت جعل خلق آدم كخلق بنيه لا يعد مع الجملة الأولى وجعل اليوم الذي كملت المخلوقات عنده يوم الجمعة
وقوله تعالى * (فاصبر على ما يقولون) * قال بعض المفسرين أراد أهل الكتاب لقولهم ثم استراح يوم السبت
قال القاضي أبو محمد وهذه المقالات من أهل الكتاب كانت بمكة قبل الهجرة
وقال النظار من المفسرين قوله تعالى * (فاصبر على ما يقولون) * يراد به أهل الكتاب وغيرهم من الكفرة وعم بذلك جميع الأقوال الزائغة من قريش وغيرهم وعلى هذا التأويل يجيء قول من قال الآية منسوخة بآية السيف
* (وسبح) * معناه صل بإجماع من المتأولين وقوله * (بحمد ربك) * الباء للإقتران أي سبح سبحة يكون معها حمد ومثله تنبت بالدهن على بعض الأقوال فيها و * (قبل طلوع الشمس) * هي الصبح * (وقبل الغروب) * هي العصر قاله قتادة وابن زيد والناس وقال ابن عباس * (قبل الغروب) * هي العصر والظهر * (ومن الليل) * هي صلاة العشاءين وقال ابن زيد هي العشاء فقط
وقال مجاهد هي صلاة الليل وقوله * (وأدبار السجود) * قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأبو هريرة والحسن والشعبي وإبراهيم ومجاهد والأوزاعي هي الركعتان بعد المغرب
168

وأسنده الطبري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه روعي إدبار صلاة النهار كما روعي إدبار النجوم في صلاة الليل فقيل هي الركعتان مع الفجر
وروي عن ابن عباس أن * (أدبار السجود) * الوتر حكاه الثعلبي وقال ابن زيد وابن عباس أيضا ومجاهد هي النوافل إثر الصلوات وهذا جار مع لفظ الآية وقال بعض العلماء العارفين هي صلاة الليل قال الثعلبي وقال بعض العلماء في قوله * (قبل طلوع الشمس) * هي ركعتا الفجر * (وقبل الغروب) * الركعتان قبل المغرب وقال بعض التابعين رأيت أصحاب محمد يهبون إليها كما يهبون إلى المكتوبة وقال قتادة ما أدركت أحدا يصلي الركعتين قبل المغرب إلا أنسا وأبا برزة
وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى وشبل وطلحة والأعمش (وإدبار) بكسر الألف وهي مصدر أضيف اليه وقت ثم حذف الوقت كما قالوا جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم ونحوه وقرا الباقون والحسن والأعرج (وأدبار) بفتح الهمزة وهو جمع دبر كطنب وأطناب أي وفي (أدبار السجود) أي في أعقابه وقال أوس بن حجر
(على دبر الشهر الحرام بأرضنا
* وما حولها جدب سنون تلمع) الطويل
قوله عز وجل
سورة ق 41 - 45
قوله تعالى * (واستمع) * بمنزلة وانتظر وذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بان يستمع في يوم النداء لأن كل من فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار وقيل لمحمد تحسس وتسمع هذا اليوم وارتقبه وهذا كما تقول لمن تعده بورود فتح استمع كذا وكذا أي كن منتظرا له مستمعا وعلى هذا فنصب * (يوم) * إنما هو على المفعول الصريح
وقرأ ابن كثير (المنادي) بالياء في الوصل والوقف على الأصل الذي هو ثبوتها إذ الكلام غير تام وإنما الحذف أبدا في الفواصل والكلام التام تشبيها بالفواصل
وقرأ أبو عمرو ونافع بالوقف بغير ياء لأن الوقف موضع تغيير ألا ترى أنها تبدل من التاء فيه الهاء في نحو طلحة وحمزة ويبدل من التنوين الألف ويضعف فيه الحرف كقولك هذا فرج ويحذف فيه الحرف في القوافي وقرا الباقون وطلحة والأعمش وعيسى بحذف الياء في الوصل والوقف جميعا وذلك اتباع لخط المصحف وأيضا فإن الياء تحذف مع التنوين فوجب ان تحذف مع معاقب التنوين وهي الألف واللام
وقوله تعالى * (من مكان قريب) * قيل وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن ملكا ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة هلم إلى الحساب الوقوف بين يدي الله)
وقال كعب الأحبار وقتادة وغيرهما المكان صخرة بيت المقدس
169

واختلفوا في معنى صفته بالقرب فقال قوم وصفها بذلك لقربها من النبي صلى الله عليه وسلم أي من مكة
وقال كعب الأحبار وصفه بالقرب من السماء وروي انها أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا وهذا الخبر إن كان بوحي والا سبيل للوقوف على صحته
و * (الصيحة) * هي صيحة المنادي و * (الخروج) * هو من القبور و (يومه) هو يوم القيامة و * (يوم الخروج) * في الدنيا هو يوم العيد قال حسان بن ثابت
(ولأنت أحسن إذ برزت لنا
* يوم الخروج بساحة القصر)
(من درة أغلى الملوك بها
* مما تربب حائر البحر) الكامل
وقوله تعالى * (يوم تشقق) * العامل في * (يوم) * * (المصير) *
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر
(تشقق) بتشديد الشين
وقرا الباقون (تشقق) بتخفيف الشين
و * (سراعا) * حال قال بعض النحويين وهي من الضمير في قوله * (عنهم) * والعامل في الحال * (تشقق) * وقال بعضهم التقدير * (يوم تشقق الأرض عنهم) * يخرجون * (سراعا) * فالحال من الضمير في (يخرجون) والعامل (يخرجون)
وقوله تعالى * (ذلك حشر علينا يسير) * كلام معادل لقول الكفرة * (ذلك رجع بعيد) * ق 3
وقوله تعالى * (نحن أعلم بما يقولون) * وعيد محض للكفرة
واختلف الناس في معنى قوله * (وما أنت عليهم بجبار) *
فقال قتادة نهى الله عن التجبر وتقدم فيه فمعناه وما أنت عليهم بمتعظم من الجبروت
وقال الطبري وغيره معناه وما أنت عليهم بمسلط تجبرهم على الإيمان ويقال جبرته على كذا أي قسرته ف (جبار) بناء مبالغة من جبر وانشد المفضل
(عصينا عزمة الجبار حتى
* صحبنا الخوف إلفا معلمينا) الوافر
قال أراد ب (الجبار) النعمان بن المنذر لولايته ويحتمل ان نصب عزمة على المصدر وأراد عصينا مقدمين عزمة جبار فمدح نفسه وقومه بالعتو والاستعلاء أخلاق الجاهلية والحياة الدنيا وروى ابن عباس ان المؤمنين قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت * (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) *
قال القاضي أبو محمد ولو لم يكن هذا سببا فإنه لما اعلمه انه ليس بمسلط على جبرهم أمره بالاقتصار على تذكير الخائفين من الناس
170

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الذاريات
وهي مكية بإجماع من المفسرين
قوله عز وجل
سورة الذاريات 1 - 16
أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات تنبيها عليها وتشريفا لها ودلالة على الاعتبار فيها حتى يصير الناظر فيها إلى توحيد الله تعالى
* (والذاريات) * الرياح بإجماع من المتأولين يقال ذرت الريح وأذرت بمعنى وفي الرياح معتبر من شدتها حينا ولينها حينا وكونها مرة رحمة ومرة عذابا إلى غير ذلك
و * (ذروا) * نصب على المصدر
و * (الحاملات وقرا) * قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي السحاب الموقرة بالماء
وقال ابن عباس وغيره هي السفن الموقرة بالناس وامتاعهم
وقال جماعة من العلماء هي أيضا مع هذا جميع الحيوان الحامل وفي جميع ذلك معتبر
و * (وقرا) * مفعول صريح و * (الجاريات يسرا) * قال علي بن أبي طالب وغيره هي السفن في البحر وقال آخرون هي السحاب بالريح وقال آخرون هي الجواري من الكواكب واللفظ يقتضي جميع هذا
و * (يسرا) * نعت لمصدر محذوف وصفات المصادر المحذوفة تعود أحوالا و * (يسرا) * معناه بسهولة وقلة تكلف و * (المقسمات أمرا) * الملائكة والأمر هنا اسم الجنس فكأنه قال والجماعات التي تقسم أمور الملكوت من الأرزاق والآجال والخلق في الأرحام وامر الرياح والجبال وغير ذلك لأن كل هذا إنما هو بملائكة تخدمه فالآية تتضمن جميع الملائكة لأنهم كلهم في أمور مختلفة وانث * (المقسمات) * من حيث أراد الجماعات
171

وقال أبو طفيل عامر بن واثلة كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر فقال لا تسألوني عن آية من كتاب الله أو سنة ماضية الا قلت فقام إليه ابن الكواء فسأله عن هذه فقال * (الذاريات) * الرياح
و * (الحاملات) * السحاب و * (الجاريات) * السفن و * (المقسمات) * الملائكة
ثم قال له سل سؤال تعلم ولا تسأل سؤال تعنت وهذا القسم واقع على قوله * (إنما توعدون لصادق) * و * (توعدون) * يحتمل ان يكون من الإيعاد ويحتمل ان يكون من الوعد وأيها كان فالوصف له بالصدق صحيح و * (صادق) * هنا موضوع بدل صدق ووضع الاسم موضع المصدر و * (الدين) * الجزاء
وقال مجاهد الحساب والأظهر في الآية انها للكفار وانها وعيد محض بيوم القيامة
ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر فقال * (والسماء ذات الحبك) * فظاهر لفظة * (السماء) * انها لجميع السماوات وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي هي السماء السابعة و * (الحبك) * بضم الحاء والباء الطرائق التي هي على نظام في الإجرام فحبك الرمان والماء الطرائق التي تصنع فيها الريح الهابة عليها ومنه قول زهير
(مكلل بعميم النبت تنسجه
* ريح خريف لضاحي مائة حبك)
وحبك الدرع الطرائق المتصلة في موضع اتصال الحلق بعضها ببعض وفي بعض أجنحة الطير حبك على نحو هذا ويقال لتكسر الشعر حبك وفي الحديث (أن من ورائكم الكذاب المضل وان من ورائه حبكا حبكا) يعني جعودة شعره فهو يكسره ويظهر في المنسوجات من الأكسية وغيرها طرائق في موضع تداخل الخيوط هي حبك ويقال نسج الثوب فأجاد حبكه فهذه هي الحبك في اللغة
وقال منذر بن سعيد إن في السماء في تألق جرمها هي هكذا لها حبك وذلك لجودة خلقتها وإتقان صنعتها ولذلك عبر ابن عباس في تفسير قوله * (والسماء ذات الحبك) * بأن قال حبكها حسن خلقتها وقال ابن جبير * (الحبك) * الزينة
وقال الحسن حبكها كواكبها وقال ابن زيد * (الحبك) * الشدة وحبكت شدت وقرأ * (سبعا شدادا) * النبأ 12 وقال ابن جني * (الحبك) * طرائق الغيم ونحو هذا وواحد * (الحبك) * حباك ويقال للظفيرة التي يشد بها حظار القصب ونحوه وهي مستطيلة تمنع في ترجيب الغرسات المصطفة حباك وقد يكون واحد * (الحبك) * حبيكة وقال الراجز
(كأنما جللها الحواك
* طنفسة في وشيها حباك) الوافر
وقرأ جمهور الناس الحبك بضم الحاء والباء وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو مالك الغفاري بضم الحاء وسكون الباء تخفيفا وهي لغة بني تميم كرسل في رسل وهي قراءة أبي حيوة وأبي السمال وقرأ الحسن أيضا وأبو مالك الغفاري الحبك بكسر الحاء والباء على أنها لغة كإبل وإطل
وقرا الحسن أيضا فيما روي عنه (الحبك) بكسر الحاء وسكون الباء كما قالوا على جهة التخفيف إبل وإطل بسكون الباء والطاء
وقرا ابن عباس (الحبك) بفتح الحاء والباء
وقرا الحسن أيضا فيما روي عنه (الحبك) بكسر الحاء وضم الباء وهي لغة شاذة غير متوجهة وكأنه أراد كسرهما ثم توهم (الحبك) قراءة الضم بعد ان كسر الحاء فضم الباء وهذا على تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء
وقرأ
172

عكرمة (الحبك) بضم الحاء وفتح الباء جمع حبكة وهذه كلها لغات والمعنى ما ذكرناه
والفرس المحبوك الشديد الخلقة الذي له حبك في مواضع من منابت شعره وذلك دليل على حسن بنيته
وقوله تعالى * (إنكم لفي قول مختلف) * يحتمل ان يكون خطابا لجميع الناس مؤمن وكافر أي اختلفتم بأن قال فريق منكم آمنا بمحمد وكتابه وقال فريق آخر كفرنا وهذا قول قتادة
ويحتمل ان يكون خطابا للكفرة فقط أي أنتم في جنس من الأقوال مختلف في نفسه قوم منكم يقولون ساحر وقوم كاهن وقوم شاعر وقوم مجنون إلى غير ذلك وهذا قول ابن زيد والضمير في * (عنه) * قال الحسن وقتادة هو عائد على محمد أو كتابه وشرعه و * (يؤفك) * معناه يصرف فالمعنى يصرف عن كتاب الله من صرف ممن غلبت شقاوته وكان قتادة يقول المأفوك منا اليوم عن كتاب الله كثيرا ويحتمل ان يعود الضمير على القول أي يصرف بسببه من أراد الإسلام بأن يقال له هو سحر هو كهانة وهذا حكاه الزهراوي ويحتمل ان يعود الضمير في * (عنه) * على القول أي يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته وهذا على أن يكون قوله * (إنكم لفي قول مختلف) * للكفار فقط
قال القاضي أبو محمد وهذا وجه حسن لا يخل به الا ان عرف الاستعمال في (أفك) إنما هو في الصرف من خير إلى شر وتأمل ذلك تجدها أبدا في المصروفين المذمومين وحكى أبو عمرو عن قتادة أنه قرا (من أفك) بفتح الهمزة والفاء
وقوله تعالى * (قتل الخراصون) * دعاء عليهم كما تقول قاتلك الله ومثلك الله وعقرى حلقي ونحوه وقال بعض المفسرين معناه لعن الخراصون وهذا تفسير لا تعطيه اللفظة
والخراص المخمن القائل بظنه فتحته الكاهن والمرتاب وغيره ممن لا يقين له والإشارة إلى مكذبي محمد على كل جهة من طروقهم والغمرة ما يغشى الانسان ويغطيه كغمرة الماء والمعنى في غمرة من الجهالة و * (ساهون) * معناه عن انهم * (في غمرة) * وعن غير ذلك من وجوه النظر
وقوله تعالى * (يسألون أيان يوم الدين) * معناه يقولون متى يوم الدين على معنى التكذيب وجائز ان يقترن بذلك من بعضهم هزء وان لا يقترن
وقرا السلمي والأعمش (إيان) بكسر الهمزة وفتح الياء المخففة
وقوله تعالى * (يوم هم على النار يفتنون) * قال الزجاج نصبوا * (يوم) * على الظرف من مقدر تقديره هو كائن * (يوم هم على النار) * ونحو هذا وقال الخليل وسيبويه نصبه على البناء لما أضيف إلى غير متمكن
قال بعض النحاة وهو في موضع رفع على البدل من * (يوم الدين) * و * (يفتنون) * معناه يحرقون ويعذبون في النار قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والجميع ومنه قيل للحرة فتين كأن الشمس أحرقت حجارتها
ومنه قول كعب بن مالك
(معاطي تهوى إليها الحقوق
* يحسبها من وراءها الفتينا)
173

وفتنت الذهب أحرقته ولما كان لا يحرق الا لمعنى الاختبار قيل لكل اختبار فتنة واستعملوا فتن بمعنى اختبر وعلى هنا موصلة إلى معنى في وفي قوله تعالى * (ذوقوا فتنتكم) * معناه يقال لهم ذوقوا حرقكم وعذابكم قاله قتادة وغيره والذوق هنا استعارة وهذا إشارة إلى حرقهم واستعجالهم هو قولهم * (أيان يوم الدين) * وغير ذلك من الآيات التي تقتضي استعجالهم على جهة التكذيب منهم
ولما ذكر تعالى حالة الكفرة وما يلقون من عذاب الله عقب ذلك بذكر المتقين وما يلقون من النعيم ليبين الفرق ويتبع الناس طريق الهدى والجنات والعيون معروف والمتقي في الآية مطلق في اتقاء الكفر والمعاصي
وقوله تعالى * (آخذين) * نصب على الحال وقرأ ابن أبي عبلة (آخذون) بواو
وقال ابن عباس المعنى * (آخذين) * في دنياهم * (ما آتاهم ربهم) * من أوامره ونواهيه وفرائضه وشرعه فالحال على هذا محكية وهي متقدمة في الزمان على كذبهم في جنات وعيون
وقال جماعة من المفسرين معنى قوله * (آخذين ما آتاهم ربهم) * أي محصلين لنعم الله التي أعطاهم من جنته ورضوانه وهذه حال متصلة في المعنى بكونهم في الجنات
وهذا التأويل أرجح عندي لاستقامة الكلام به وقوله * (قبل ذلك) * يريد في الدنيا محسنين بالطاعة والعمل الصالح
قوله عز وجل
سورة الذاريات 17 - 27
معنى قوله عز وجل * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) * أن نومهم كان قليلا لاشتغالهم بالصلاة والعبادة فالمراد من كل ليلة والهجوع النوم
وقال الأحنف بن قيس لست من أهل هذه الآية وهذا إنصاف منه
وقيل لبعض التابعين مدح الله قوما * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) * ونحن قليل من الليل ما نقوم فقال رحم الله عبدا رقد إذا نعس وأطاع ربه إذا استيقظ
وفسر انس بن مالك هذه الآية بأنهم كانوا ينتقلون بين المغرب والعشاء وقال الربيع بن خيثم المعنى كانوا يصيبون من الليل حظا
وقال مطرف بن عبد الله المعنى قل ليلة أتت عليهم هجوعها كله وقاله ابن أبي نجيح ومجاهد فالمراد عند هؤلاء بقوله * (من الليل) * أي من الليالي وظاهر الآية عندي أنهم كانوا يقومون الأكثر من ليلهم أي من كل ليلة وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية كابدوا قيام الليل لا ينامون منه الا قليلا
واما إعراب الآية فقال الضحاك في كتاب الطبري ما يقتضي ان المعنى * (كانوا قليلا) * في عددهم
174

وتم خبر كان ثم ابتدأ * (من الليل ما يهجعون) * ف " ما " نافية
و * (قليلا) * وقف حسن
وقال بعض النحاة " ما " زائدة و * (قليلا) * مفعول مقدم ب * (يهجعون) *
وقال جمهور النحويين (ما) مصدرية و * (قليلا) * خبر (كان) والمعنى كانوا قليلا من الليل هجوعهم
والهجوع مرتفع ب (قليل) على أنه فاعل وعلى هذا الاعراب يجيء قول الحسن وغيره وهو الظاهر عندي أن المراد كان هجوعهم من الليل قليلا
وفسر ابن عمر والضحاك * (يستغفرون) * ب (يصلون)
وقال الحسن معناه يدعون في طلب المغفرة و * (الأسحار) * مظنة الاستغفار
ويروى ان أبواب الجنة تفتح سحر كل يوم
وفي قصة يعقوب عليه السلام في قوله * (سوف أستغفر لكم ربي) * يوسف 98 قال آخر الاستغفار لهم إلى السحر
قال ابن زيد في كتاب الطبري السحر السدس الآخر من الليل
وقوله تعالى * (وفي أموالهم حق) * الصحيح انها محكمة وان هذا الحق هو على وجه الندب لا على وجه الفرض و * (معلوم) * يراد به متعارف وكذلك قيام الليل
الذي مدح به ليس من الفرائض وأكثر ما تقع الفريضة بفعل المندوبات وقال منذر بن سعيد هي الزكاة المفروضة وهذا ضعيف لأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة
وقال قوم من المتأولين كان هذا ثم نسخ بالزكاة وهذا غير قوي وما شرع الله عز وجل بمكة قبل الهجرة شيئا من أخذ الأموال
واختلف الناس في * (المحروم) * اختلافا هو عندي تخليط من المتأخرين إذ المعنى واحد وإنما عبر علماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالا وحصرها مكي ثمانية
و * (المحروم) * هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله حرمان وفاقة وهو مع ذلك لا يسأل فهذا هو الذي له حق في أموال الأغنياء كما للسائل حق قال الشعبي أعياني ان اعلم ما * (المحروم) * وقال ابن عباس * (المحروم) * المعارف الذي ليس له في الاسلام سهم مال فهو ذو الحرفة المحدود
وقال أبو قلابة جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا * (المحروم) *
وقال زيد بن أسلم هو الذي أجيحت ثمرته من المحرومين والمعنى الجامع لهذه الأقوال انه الذي لا مال له لحرمان أصابه والا فالذي أجيحت ثمرته وله مال كثير غيرها فليس في هذه الآية بإجماع وبعد هذا مقدرمن الكلام تقديره فكونوا مثلهم أيها الناس وعلى طريقتهم فإن النظر المؤدي إلى ذلك متوجه ف * (في الأرض آيات) * لمن اعتبر وأيقن
قال القاضي أبو محمد وهذه إشارة إلى لطائف الحكمة وعجائب الخلقة التي في الأرضين والجبال والمعادن والعيون وغير ذلك
وقرأ قتادة (آية) على الإفراد
وقوله تعالى * (وفي أنفسكم) * إحالة على النظر في شخص الإنسان فإنه أكثر المخلوقات التي لدينا عبرة لما جعل الله فيه مع كونه من تراب من لطائف الحواس ومن امر النفس وجهاتها ونطقها واتصال هذا الجزء منها بالعقل ومن هيئة الأعضاء واستعدادها لتنفع أو تجمل أو تعين قال ابن زيد إنما القلب مضغة في جوف ابن آدم جعل الله فيه العقل أفيدري أحد ما ذاك العقل وما صفته وكيف هو وقال الرماني النفس خاصة الشيء التي لو بطل ما سواها مما ليست مضمنة به لم تبطل وهذا تعمق لا احمده
وقوله * (أفلا تبصرون) * توقيف وتوبيخ
175

وقوله تعالى * (وفي السماء رزقكم) *
قال الضحاك وابن جبير أراد المطر والثلج
وقال واصل الأحدب ومجاهد أراد القضاء والقدر اي الرزق عند الله يأتي به كيف يشاء لا رب غيره وقرأ ابن محيصن (وفي السماء رازقكم)
و * (توعدون) * يحتمل ان يكون من الوعد ويحتمل ان يكون من الوعيد والكل في السماء
قال الضحاك المراد من الجنة والنار
وقال مجاهد المراد الخير والشر
وقال ابن سيرين المراد الساعة
ثم أقسم تعالى بنفسه على صحة هذا القول والخبر وشبهه في اليقين به بالنطق من الإنسان وهو عنده في غاية الوضوح ولا يمكن ان يقع فيه من اللبس ما يقع في الرؤية والسمع بل النطق أشد تخليصا من هذه واختلف القراء في قوله * (مثل ما) * فقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر (مثل) بالرفع ورويت عن الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عنهم
وقرا نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأهل المدينة وجل الناس (مثل) بالنصب فوجه الأولى الرفع على النعت وجاز نعت النكرة بهذا الذي قد أضيف إلى المعرفة من حيث كان لفظ مثل شائعا عاما لوجوه كثيرة فهو لا تعرفه الإضافة إلى معرفة لأنك إذا قلت رأيت مثل زيد فلم تعرف شيئا لأن وجوه المماثلة كثيرة فلما بقي الشياع جرى عليه حكم النكرة فنعتت به النكرة
و " ما " زائدة تعطي تأكيدا وإضافة (مثل) هي إلى قوله * (إنكم) *
ووجه قراءة النصب أحد ثلاثة وجوه إما ان يكون مثل قد بني لما أضيف إلى غير متمكن وهو في موضع رفع على الصفة * (لحق) * ولحقه البناء لأن المضاف اليه قد يكسب المضاف بعض صفته كالتأنيث في قوله شرقت صدر القناة ونحوه وكالتعريف في غلام زيد إلى غير ذلك ويجري (مثل) حينئذ مجرى * (عذاب يومئذ) * المعارج 11 على قراءة من فتح الميم ومنه قول الشاعر النابغة الذبياني
(على حين عاتبت المشيب على الصبا
*) الطويل
ومنه قول الآخر
(لم يمنع الشرب منها غير أن هتفت
*) البسيط
ف (غير) فاعلة ولكنه فتحها
والوجه الثاني وهو قول المازني إن (مثل) بني لكونه مع " ما " شيئا واحدا وتجيء على هذا في مضمار ويحما وأينما ومنه قول حميد بن ثور
(ألا هيما مما لقيت وهيما
* وويها لمن لم يدر ما هن ويحما) الطويل
فلولا البناء وجب ان يكون منونا وكذلك قول الشاعر حسان بن ثابت
(فأكرم بنا أما وأكرم بنا ابن ما
*) الطويل
والوجه الثالث ان تنصب (مثل) على الحال من قوله * (لحق) * وهي حال من نكرة وفيه خلاف لكن جوز ذلك الجرمي واما غيره فيراه حالا من الذكر المرفوع في قوله * (لحق) * لأن التقدير * (لحق) * هو وفي هذا نظر
والنطق في هذه الآية الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني
وروي ان بعض الأعراب الفصحاء سمع هذه الآية فقال من أحوج الكريم إلى أن يحلف والحكاية وقعت في كتاب الثعلبي وسبل
176

الخيرات متممة على الأصمعي وروي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه) وروى أبو سعيد الخدري ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لو فر أحدكم من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت) وأحاديث الرزق والأشعار فيه كثيرة
وقوله * (هل أتاك) * تقرير لتجتمع نفس المخاطب وهذا كما تبدأ المرء إذا أردت ان تحدثه بعجيب فتقرره هل سمع منك أم لا فكأنه تقتضي منه ان يقول لا ويستطعمك الحديث
و " ضيف " اسم جنس يقع للجميع والواحد
وروي ان أضياف إبراهيم هؤلاء جبريل وميكائيل وإسرافيل وأتباع لهم من الملائكة
وجعلهم الله تعالى (مكرمين) اما لأنهم عنده كذلك وهذا قول الحسن وإما من حيث أكرمهم إبراهيم وخدمهم هو وسارة
وذبح لهم العجل
وقيل من حيث رفع مجالسهم و * (سلاما) * منصوب على المصدر كأنهم قالوا تسلم سلاما أو سلمت سلاما ويتجه فيه ان يعمل فيه * (قالوا) * على أن نجعل * (سلاما) * بمنزلة قولا
ويكون المعنى حينئذ أنهم قالوا تحية وقولا معناه * (سلاما) * وهذا قول مجاهد
وقوله * (سلام) * مرتفع على خبر ابتداء
أي أمر * (سلام) * أو واجب لكم * (سلام) * أو على الابتداء والخبر محذوف كأنه قال سلام عليكم وإبراهيم عليه السلام قد حيا بأحسن لأن قولهم دعاء وقوله واجب قد تحصل لهم
وقرا ابن وثاب والنخعي وحمزة والكسائي وطلحة وابن جبير قال (سلم) بكسر السين وسكون اللام
والمعنى نحن سلم وأنتم سلم
وقوله * (قوم منكرون) * معناه لا نميزهم ولا عهد لنا بهم
وهذا أيضا على تقدير أنتم * (قوم منكرون) * وقال أبو العالية انكر سلامهم في تلك الأرض وفي ذلك الزمن و (راغ) معناه مضى إثر حديثه مخفيا زواله مستعجلا
كأنه لم يرد ان يفارقهم فمضى إلى ناحية من داره مستعجلا ورجع من حينه
وهذا تشبيه بالروغان المعروف لأن الرائغ يوهم انه لم يزل
والعجل هو الذي حنذه والقصة قد مضت مستوعبة في غير هذه السورة وروي عن قتادة ان أكثر مال إبراهيم كان البقر وكان مضيافا
وحسبك انه أوقف للضيافة أوقافا تمضيها الأمم على اختلاف أديانها واجناسها
قوله عز وجل
سورة الذاريات 27 - 36
المعنى * (فقربه إليهم) * فأمسكوا عنه فقال * (ألا تأكلون) * فيروى في الحديث انهم قالوا لا
177

نأكل الا ما أدينا ثمنه
فقال إبراهيم وانا لا أبيحه لكم الا بثمن
قالوا وما هو قال إن تسموا الله تعالى عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل
فقال بعضهم لبعض بحق اتخذه الله خليلا
فلما استمروا على ترك الأكل " أوجس منهم خيفة " والوجيس تحسيس النفس وخواطرها في الحذر
وذلك أن اكل الصيف امنه ودليل على انبساط نفسه والطعام حرمة وذمام
والامتناع منه وحشة
فخشي إبراهيم عليه السلام ان امتناعهم من اكل طعامه إنما هو لشر يريدونه فقالوا له * (لا تخف) * وعرفوه انهم ملائكة * (وبشروه) * وبشروا سارة معه * (بغلام عليم) * أي عالم في حال تكليفه وتحصيله أي سيكون عليما و * (عليم) * بناء مبالغة
وجمهور الناس على أن الغلام هنا إسحاق ابن سارة الذي ذكرت البشارة به في غير موضع وقال مجاهد هذا الغلام هو إسماعيل
والأول أرجح وهذا وهم
ويروى انه إنما عرف كونهم ملائكة استدلالا من بشارتهم إياه بغيب
وقوله تعالى * (فأقبلت امرأته) * يحتمل ان يكون قربت إليهم من ناحية من نواحي المنزل ويحتمل ان يكون هذا الإقبال كما تقول أقبل فلان يشتمني أو يفعل كذا إذا جد في ذلك وتلبس به والصرة الصيحة كذا فسره ابن عباس ومجاهد وسفيان والضحاك والمصطر الذي يصيح وقال قتادة معناه في رقة
وقال الطبري قال بعضهم أوه بصياح وتعجب
قال النحاس وقيل * (في صرة) * في جماعة نسوة يتبادرن نظرا إلى الملائكة
وقوله * (فصكت وجهها) * معناه ضربت وجهها قال ابن عباس لطمت وهذا مما يفعله الذي يرد عليه امر يستهوله
وقال سفيان والسدي ومجاهد معناه ضربت بكفها جبهتها وهذا مستعمل في الناس حتى الآن
وقولها * (عجوز عقيم) * إما ان يكون تقديره انا * (عجوز عقيم) * فكيف ألد وإما أن يكون التقدير * (عجوز عقيم) * تكون منها ولادة وقدره الطبري اتلد * (عجوز عقيم) *
ويروى انها كانت لم تلد قط
والعقيم من النساء التي لا تلد ومن الرياح التي لا تلقح شجرا فهي لا بركة فيها وقولهم * (كذلك قال ربك) * أي كقولنا الذي أخبرناك قال ربك ان يكون و * (الحكيم) * ذو الحكمة
و * (العليم) * معناه بالمصالح وغير ذلك من العلومات ثم قال إبراهيم عليه السلام للملائكة * (فما خطبكم) * والخطب الأمر المهم وقل ما يعبر به الا عن الشدائد والمكاره حتى قالوا خطوب الزمان ونحو هذا فكأنه يقول لهم ما هذه الطامة التي جئتم لها فأخبروه حينئذ انهم أرسلوا إلى سدوم قرية لوط بإهلاك أهلها الكفرة العاصين المجرمين والمجرم فاعل الجرائم وهي صعاب المعاصي كفر ونحوه واحدتها جريمة
وقولهم * (لنرسل عليهم) * أي لنهلكهم بهذه الحجارة
ومتى اتصلت (أرسل) ب (على) فهي بمعنى المبالغة في المباشرة والعذاب ومتى اتصلت ب (إلى) فهي أخف
وانظر ذلك تجده مطردا
وقوله تعالى * (حجارة من طين) * بيان يخرج عن معتاد حجارة البرد التي هي من ماء
ويروى انه طين طبخ في نار جهنم حتى صار حجارة كالآجر
و * (مسومة) * نعت ل * (حجارة) * وقيل معناه متروكة وسومها من الإهلاك والانصباب
وقيل معناه معلمة بعلامتها من السيما والسومى وهي العلامة أي انها ليست من حجارة الدنيا وقال الزهراوي والرماني وقيل معناه على كل حجر اسم المضروب به
وقال
178

الرماني وقيل كان عليها أمثال الخواتم
وقال ابن عباس تسويمها إن كان في الحجارة السود نقط بيض وفي البيض سود
ويحتمل أن يكون المعنى انها بجملتها معلومة عند ربك لهذا المعنى معلمة له
لا ان كل واحد منها له علامة خاصة به
والمسرف الذي يتعدى الطور فإذا جاء مطابقا فهو لأبعد الغايات الكفر فما دونه
ثم أخبر تعالى أنه أخرج بأمره من كان في قرية لوط * (من المؤمنين) * منجيا لهم
وأعاد الضمير على القرية
ولم يصرح لها قبل ذلك بذكر لشهرة امرها
ولأن القوم المجرمين معلوم انهم في قرية ولا بد
قال المفسرون ولا فرق بين تقدم ذكر المؤمنين وتأخره وإنما هما وصفان ذكرهم أولا بأحدهما ثم آخر بالثاني قال الرماني الآية دالة على أن الإيمان هو الإسلام
قال القاضي أبو محمد ويظهر إلي ان في المعنى زيادة تحسن التقديم للإيمان وذلك أنه ذكره مع الإخراج من القرية كأنه يقول نفذ أمرنا بإخراج كل مؤمن ولا يشترط فيه ان يكون عاملا بالطاعات
بل التصديق بالله فقط
ثم لما ذكر حال الموحدين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها وهي الكاملة التصديق والأعمال والبيت من المسلمين هو بيت لوط وكان هو وابنتاه وقيل ونبته
وفي كتاب الثعلبي وقيل لوط وأهل بيته ثلاثة عشر وهلكت امرأته فيمن هلك وهذه القصة بجملتها ذكرت على جهة المثال لقريش
أي أنهم إذا كفروا وأصابهم مثل ما أصاب هؤلاء المذكورين
قوله عز وجل
سورة الذاريات 37 - 44
المعنى * (وتركنا) * في القرية المذكورة وهي سدوم أثرا من العذاب باقيا مؤرخا لا يفني ذكره فهو * (أيه) * أي علامة على قدرة الله وانتقامه من الكفرة
ويحتمل ان يكون
والمعنى * (وتركنا) * في امرها كما قال * (لقد كان في يوسف) * يوسف 7 وقال ابن جريج ترك فيها حجرا منضودا كثيرا جدا
و * (للذين يخافون العذاب) * هم العارفون بالله تعالى
وقوله تعالى * (وفي موسى) * يحتمل ان يكون عطفا على قوله * (فيها) * اي وتركنا في موسى وقصته أثرا أيضا هو آية
ويحتمل ان يكون عطفا على قوله قيل * (وفي الأرض آيات) * الذرايات 20 * (وفي موسى) * و * (فرعون) * هو صاحب مصر
والسلطان في هذه الآية الحجة و * (تولي) * معناه فأعرض وأدبر عن امر الله و * (بركنه) * بسلطانه وجنده وشدة أمره
وهو الأمر الذي يركن فرعون اليه ويسند في
179

شدائده
قال ابن زيد * (بركنه) * بجموعه قال قتادة بقومه وقول فرعون في موسى * (ساحر أو مجنون) * هو تقسيم ظن أن موسى لا بد ان يكون أحد هذين
وقال أبو عبيدة * (أو) * هنا بمعنى الواو
واستشهد ببيت جرير
(أثعلبة الفوارس أو رياحا
* عدلت بهم طهية والخشابا) الوافر والخشاب بيوت في بني تميم وقول أبي عبيدة ضعيف لا داعية اليه في هذا الموضع
و * (نبذناهم) * معناه طرحناهم و * (أليم) * البحر وفي مصحف ابن مسعود (فنبذناه) و (المليم) الذي اتى من المعاصي ونحوها ما يلام عليه وقال أمية بن أبي الصلت
(ومن يخذل أخاه فقد ألاما
*) الوافر
وقوله * (وفي عاد) * عطف على قوله * (وفي موسى) * و (عاد) هي قبيلة هود النبي عليه السلام
و * (العقيم) * التي لا بركة فيها ولا تلقح شجرا ولا تسوق مطرا
وقال سعيد بن المسيب كانت ريح الجنوب
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال كانت نكباء
وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه لأنه مردود بقوله صلى الله عليه وسلم (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور) و: * (تذر) * معناه تدع وقوله تعالى " من شيء أتت عليه " يعني مما أذن لها في إهلاكه و * (الرميم) * الفاني المتقطع يبسا أو قدما من الأشجار والورق والحبال والعظام ومنه قوله تعالى * (من يحيي العظام وهي رميم) * يس 78 أي في قوام الرمال وروي ان تلك الريح كانت تهب على الناس فيهم العادي وغيره فتنتزع العادي من بين الناس وتذهب به
وقوله تعالى * (وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين) * يحتمل ان يريد إذ قيل لهم في أول بعث صالح آمنوا وأطيعوا فتمتعوا متاعا حسنا إلى آجالكم وهو الحين على هذا التأويل وهو قول الحسن حكاه عن الرماني ويجيء قوله تعالى * (فعتوا) * مرتبا لفظا في الآية ومعنى في الوجود متأخرا عن القول لهم " تمتعوا " ويحتمل أن يريد إذ قيل لهم بعد عقر الناقة " تمتعوا " في داركم ثلاثة وهي الحين على هذا التأويل وهو قول الفراء ويجيء قوله * (فعتوا) * غير مرتب المعنى في وجوده لأن عتوهم كان قبل ان يقال لهم (تمتعوا) وكأن المعنى فكان من أمرهم قبل هذه المقالة ان عتوا وهو السبب في أن قيل لهم ذلك وعذبوا
وقرا جمهور القراء (الصاعقة) وقرا الكسائي وهي قراءة عمر وعثمان (الصعقة) وهي على القراءتين الصيحة العظيمة ومنه يقال لوقعة الشديدة من الرعد صاعقة
وهي التي تكون معها النار التي يروى في الحديث انها من المخراق الذي بيد ملك يسوق السحاب
وقوله * (وهم ينظرون) * يحتمل ان يريد فجأة وهم يبصرون بعيونهم حالهم وهذا قول الطبري ويحتمل ان يريد * (وهم ينظرون) * ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموا به فيها وراوا علاماته في تلونه وهذا قول مجاهد حسبما تقدم تفسيره وانتظارهم العذاب هو أشد من العذاب
180

قوله عز وجل
سورة الذاريات 45 - 52
قال بعض المفسرين * (من قيام) * معناه ما استطاعوا ان يقوموا من مصارعهم
وقال قتادة وغيره معناه ما قيام بالأمر ودفعه كما تقول ما ان له بكذا وكذا قيام أي استضلاع وانتهاض
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم (وقوم نوح) بالنصب وهو عطف إما على الضمير في قوله * (فأخذتهم) * الذاريات 44 إذ هو بمنزلة أهلكناهم وإما على الضمير في قوله * (فنبذناهم) * الذرايات 40 وقرأ أبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث (وقوم نوح) بالرفع وذلك على الابتداء وإضمار الخبر وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي (وقوم) بالخفض عطفا على ما تقدم من قوله * (وفي ثمود) * الذاريات 43 وقد روى النصب عن أبي عمرو
وقوله * (والسماء) * نصب بإضمار فعل تقديره وبنينا السماء بنيناها
والأيد القوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ووقعت في المصحف بياءين وذلك على تخفيف الهمز وفي هذا نظر
وقوله * (لموسعون) * يحتمل ان يريد إنا نوسع الأشياء قوة وقدرة كما قال تعالى * (على الموسع قدره) * البقرة 236 أي الذي يوسع أهله انفاقا ويحتمل ان يريد * (لموسعون) * في بناء السماء أي جعلناها واسعة وهذا تأويل ابن زيد وقال الحسن أوسع الرزق بمطر السماء والماهد المهيىء الموطىء للموضع الذي يتمهد ويفترش
وقوله تعالى " ومن كل شيء خلقنا زوجين " أي مصطحبين ومتلازمين فقال مجاهد معناه ان هذه إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار والشقوة والسعادة والهدى والضلالة والأرض والسماء والسواد والبياض والصحة والمرض والكفر والإيمان ونحو هذا ورجحه الطبري بأنه دل على القدرة التي توجد الضدين بخلاف ما يفعل بطبعه فعلا واحدا كالتسخيين والتبريد
وقال ابن زيد وغيره هي إشارة إلى الأنثى والذكر من كل حيوان والترجي الذي في قوله * (لعلكم) * هو بحسب خلق البشر وعرفها
وقرأ الجمهور (تذكرون) بشد الذال والإدغام
وقرأ أبي بن كعب (تتذكرون) بتاءين وخفة الذال
وقوله * (ففروا) * أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار لينبه على أن وراء الناس عقابا وعذابا وأمرا حقه ان يفر منه فجمعت لفظة (فروا) بين التحذير والاستدعاء وينظر إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ملجأ ولا منجى منك الا إليك) الحديث قال الحسن بن الفضل من فر إلى غير الله
181

وقوله * (ولا تجعلوا مع الله) * الآية نهي عن عبادة الأصنام والشياطين وكل مدعو من دون الله وفائدة تكرار قوله * (إني لكم منه نذير مبين) * الإبلاغ وهز النفس وتحكيم التحذير وإعادة الألفاظ بعينها في هذه المعاني بليغة بقرينة شدة الصوت
وقوله تعالى * (كذلك) * تقديره سيرة الأمم كذلك أو الأمر في القديم كذلك
وقوله * (إلا قالوا ساحر أو مجنون) * معناه الا قال بعض هذا وبعض هذا وبعض الجميع الا ترى ان قوم نوح لم يقولوا قط * (ساحر) * وإنما قالوا * (به جنة) * سبأ 8 فلما اختلف الفرق جعل الخبر عن ذلك بإدخال أو بين الصفتين وليس المعنى ان كل أمة قالت عن نبيها إنه ساحر أو هو مجنون فليست هذه كالمتقدمة في فرعون بل هذه كأنه قال الا قالوا هو ساحر وهو مجنون
قوله عز وجل
سورة الذاريات 53 - 60
قوله تعالى * (أتواصوا به) * توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء على تفرق أزمانهم اي انهم لم يتواصوا لكنهم فعلوا فعل من يتواصى
والعلة في ذلك ان جميعهم طاغ والطاغي المستعلي في الأرض المفسد العاتي على الله
وقوله تعالى * (فتول عنهم) * أي عن الحرص المفرط عليهم وذهاب النفس حسرات ويحتمل ان يراد فقول عن التعب المفرط في دعائهم وضمهم إلى الإسلام فلست بمصيطر عليهم ولست * (بملوم) * إذ قد بلغت فنح نفسك عن الحزن عليهم وذكر فقط فإن الذكرى نافعة للمؤمنين ولمن قضي له ان يكون منهم في ثاني حال وعلى هذا التأويل فلا نسخ في الآية
الا في معنى الموادعة التي فيها إن آية السيف نسخت جميع الموادعات
وروى قتادة وذكره الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه انه لما نزلت * (فتول عنهم فما أنت بملوم) * حزن المسلمون وظنوا انه مر بالتوالي عن الجميع وان الوحي قد انقطع حتى نزلت * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * فسروا بذلك
وقوله تعالى * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * اختلف الناس في معناه مع إجماع أهل السنة على أن الله تعالى لم يرد ان تقع العبادة من الجميع لأنه لو أراد ذلك لم يصح وقوع الأمر بخلاف إرادته فقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما المعنى ما خلقت الجن والإنس الا لآمرهم بعبادتي وليقروا لي بالعبودية فعبر عن ذلك بقوله * (ليعبدون) * إذ العبادة هي مضمن الأمر وقال زيد بن
182

أسلم وسفيان المعنى خاص والمراد * (وما خلقت) * الطائعين من * (الجن والإنس) * الا لعبادتي ويؤيد هذا التأويل ان ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ (وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين الا ليعبدوني) وقال ابن عباس أيضا معنى * (ليعبدون) * أي ليتذللوا لي ولقدرتي وإن لم يكن ذلك على قوانين الشرع
قال القاضي أبو محمد وعلى هذا التأويل فجميع الجن والإنس عابد متذلل والكفار كذلك ألا تراهم عند القحط والأمراض وغير ذلك
وتحتمل الآية ان يكون المعنى ما خلقت الجن والإنس الا معدين ليعبدون وكان الآية تعديد نعمة أي خلقت لهم حواس وعقولا وأجساما منقادة نحو العبادة وهذا كما تقول البقر مخلوقة للحرث والخيل للحرب وقد يكون منها ما لا يحارب به أصلا فالمعنى ان الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك ويؤيد هذا المنزع قول النبي صلى الله عليه وسلم (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)
وقوله (كل مولود يولد على الفطرة) والحديث وقوله * (من رزق) * أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم
وقوله * (أن يطعمون) * إما ان يكون المعنى ان يطعموا خلقي فأضيف ذلك إلى الضمير على جهة التجوز وهذا قول ابن عباد
وإما أن يكون الاطعام هنا بمعنى النفع على العموم كما تقول أعطيت فلانا كذا وكذا طعمة وأنت قد أعطيته عرضا أو بلدا يحييه ونحو هذا فكأنه قال ولا أريد ان ينفعوني فذكر جزءا من المنافع وجعله دالا على الجميع
وقرا الجميع (إن الله هو الرزاق) وروى أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن يزيد قال أبو عمرو الداني عن ابن مسعود قال أقراني رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني انا الرزاق) وقرأ الجمهور (إن الله هو الرزاق) وقرأ ابن محيصن (هو الرازق)
وقرأ جمهور القراء (المتين) بالرفع إما على أنه خبر بعد خبر أو صفة ل * (الرزاق) *
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش (المتين) بالخفض على النعت ل * (القوة) * وجاز ذلك من حيث تأنيث * (القوة) * غير حقيقي
فكأنه قال ذو الأيد أو ذو الحبل ونحوه * (فمن جاءه موعظة) * البقرة 275 وجوز أبو الفتح ان يكون خفض (المتين) على الجواز و * (المتين) * الشديد
وقوله تعالى * (فإن للذين ظلموا) * يريد أهل مكة وهذه آية وعيد صراح وقرأ الأعمش " فإن للذين كفروا " والذنوب الحظ والنصيب وأصله من الدلو وذلك أن الذنوب هو ملء الدلو من الماء وقيل الذنوب الدلو العظيمة ومنه قول الشاعر
(إنا إذا نازلنا غريب
* له ذنوب ولنا ذنوب)
(فإن أبيتم فلنا القليب
*) الرجز
وهو السجل ومنه قول علقمة بن عبدة
(وفي كل حي قد خبطت بنعمة
* فحق لشأس من نداك ذنوب) الطويل
فيروى ان الملك لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة ومنه قول حسان
183

(لا يبعدن ربيعة عن مكدم
* وسقى الغوادي قبره بذنوب) الطويل
و * (أصحابهم) * يريد به من تقدم من الأمم المعذبة
وقوله * (فلا يستعجلون) * تحقيق للأمر بمعنى هو نازل بهم لا محالة في وقته المحتوم فلا يستعجلوه وقرا يحيى بن وثاب (فلا تستعجلون) بالتاء من فوق
ثم أوجب تعالى لهم الويل من يومهم الذي يأتي فيه عذابهم
والويل الشقاء والهم وروي ان في جهنم واديا يسمى ويلا
والطبري يذهب أبدا إلى أن التوعد إنما هو به وذلك في هذا الموضع قلق لأن هذا الويل إنما هو * (من يومهم) * الذي هو في الدنيا و " من " لابتداء الغاية
وقال جمهور المفسرين هذا التوعد هو بيوم القيامة
وقال آخرون ذكره الثعلبي هو يوم بدر وفي * (يوعدون) * ضمير عائد التقدير يوعدون به أو يوعدونه
نجز تفسير سورة (الذاريات) والحمد لله رب العالمين كثيرا وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعن جميع تابعيه
184

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطور
وهي مكية بإجماع من المفسرين والرواة
قوله تعالى
سورة الطور 1 - 14
هذه مخلوقات أقسم الله بها تنبيها منها وتشريفا وليكون ذلك سبب النظر فيها والاعتبار بها وذلك يؤول إلى التوحيد والمعرفة بحقوق الله
* (والطور) * قال بعض أهل اللغة كل جبل طور فكأنه أقسم بالجبال إذ هو اسم جنس وقال آخرون (الطور) كل جبل أجرد لا ينبت شجرا
وقال مجاهد في كتاب الطبري (الطور) الجبل بالسريانية وهذا ضعيف لأن ما حكاه في العربية يقضي على هذا ولا خلاف ان في الشام جبلا يسمى ب (الطور) وهو طور سيناء
وقال نوف البكالي إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال إذ قد روي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال اني مهبط على أحدكم أمري
يريد رسالة موسى عليه السلام فتطاولت كلها الا الطور فإنه استكان لأمر الله وقال حسبي الله فأهبط الله الأمر عليه
ويقال إنه بمدين
وقال مقاتل بن حيان هما طوران
والكتاب المسطور معناه بإجماع المكتوب أسطارا
واختلف الناس في هذا المكتوب المقسم به فقال بعض المفسرين هو الكتاب المنتسخ من اللوح المحفوظ للملائكة لتعرف منه ما تفعله وتصرفه في العالم
وقال آخرون بل أقسم الله تعالى بالقرآن فإنه قد كان علم أنه يتخلد * (في رق منشور) *
وقال آخرون أقسم بالكتب القديمة المنزلة الإنجيل والتوراة والزبور وقال الفراء فيما حكى الرماني أقسم بالصحف التي تعطي وتؤخذ يوم القيامة بالإيمان والشمائل وقال قوم أقسم بالكتاب الذي فيه أعمال الخلق وهو الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها
185

وكتب بعض الناس (مصطورا) بالصاد
والقصد بذلك تشابه النطق بالحروف والجمهور على السين والرق الورق المعدة للكتب وهي مرققة فلذلك سميت رقا وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان
والمنشور خلاف المطوي وقد يحتمل ان يكون نشره بمعنى بشره وترقيقه وصنعته وقرا أبو السمال (في رق) بكسر الراء
واختلف الناس في * (البيت المعمور) * فقال الحسن بن أبي الحسن البصري هي الكعبة
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وعكرمة هو بيت في السماء يقال له الضراح وهو بحيال الكعبة ويقال الضريح ذكر ذلك الطبري وهو الذي ذكر في حديث الإسراء
قال جبريل عليه السلام هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون اليه آخر ما عليهم وبهذا عمارته
ويروى انه في السماء السابعة
وقيل في السادسة وقيل إنه مقابل الكعبة لو خر لسقط عليها
وقال مجاهد وقتادة وابن زيد في كل سماء بيت معمور وفي كل أرض كذلك وهي كلها على خط مع الكعبة
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه * (والسقف المرفوع) * السماء * (والسقف) * طول في انحناء ومنه أسقف النصارى ومنه السقف لأن الجدار وسقفه فيهما طول في انحناء
واختلف الناس في معنى * (المسجور) * فقال مجاهد وشمر بن عطية معناه الموقد نارا
وروي أن البحر هو جهنم
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليهودي أين جهنم فقال هي البحر فقال علي ما أظنه الا صادقا وقرأ * (والبحر المسجور) * ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن البحر طبق جهنم)
قال الثعلبي وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يركبن البحر الا حاج أو معتمر أو مجاهد فإن تحت البحر نارا)
وفي حديث آخر (فإن البحر نار في نار) وقال قتادة * (المسجور) * المملوء
وهذا معروف في اللغة
ورجحه الطبري بوجود نار البحر كذلك وإلى هذا يعود القول الأول لأن قولهم سجرت التنور معناه ملأتها بما يحترق ويتقد و * (البحر المسجور) * المملوء ماء وهكذا
هو معرض للعبرة ومن هذا قول النمر بن تولب
(إذا شاء طالع مسجورة
* ترى حولها النبع والسماسما)
(سقتها رواعد من صيف
* وإن من خريف فلن يعدما) المتقارب
يصف ثورا أو عينا مملوءة ماء وقال ابن عباس هو الذي ذهب ماؤه ف * (المسجور) * الفارغ ويروى ان البحار يذهب ماؤها يوم القيامة وقيل يوقد البحر نارا يوم القيامة فذلك هو سجره
وقال ابن عباس أيضا * (المسجور) * المحبوس ومنه ساجور الكلب وهو القلادة من عود أو حديد التي تمسكه وكذلك لولا أن البحر يمسك لفاض على الأرض وقال علي بن أبي طالب أيضا وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما البحر المقسم به هو في السماء تحت العرش والجمهور على أنه بحر الدنيا ويؤيد ذلك قوله تعالى * (وإذا البحار سجرت) * التكوير 6
186

وقال منذر بن سعيد ان المعنى هو القسم بجهنم وسماها بحرا لسعتها وتموجها كما قال صلى الله عليه وسلم في الفرس (وإن وجدناه لبحر) والقسم واقع على قوله * (إن عذاب ربك لواقع) * ويريد عذاب الآخرة للكفار
قال قتادة والعامل في * (يوم) * (واقع) ويجوز ان يكون العامل فيه * (دافع) * والأول أبين
وقال مكي لا يعمل فيه * (دافع) * و * (تمور) * معناه تذهب وتجيء بالرياح متقطعة متفتتة والغبار الموار الذي يجتمع ويذهب ويجيء بالريح ثم هو كله إلى الذهاب ومنه قول الأعرابي
(وغادرت التراب مورا
*)
يصف سنة قحط
وأنشد معمر بن المثنى بيت الأعشى
(مور السحابة لا ريث ولا عجل
*) البسيط
أراد مضيها وقال الضحاك * (تمور) * تموج
وقال مجاهد تدور وقال ابن عباس تشقق وهذه كلها تفاسير بالمعنى لأن السماء العلو يعتريها هذا كله وسير الجبال هو في أول الأمر ثم تتفتت أثناء السير حتى تصير آخرا كالعهن المنفوش والفاء في قوله * (فويل) * عاطفة جملة على جملة وهي تتضمن ربط المعنى وتأكيده وإثبات الويل للمكذبين
والويل السوء والمشقة والهم الأطول ويروى ان في جهنم واديا يسمى ويلا والخوض التخبط في الأباطيل يشبه بخوض الماء ومنه قوله تعالى * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) * الأنعام 68 و * (يوم) * الثاني بدل من * (يومئذ) * و * (يدعون) * قال ابن عباس معناه يدفعون في أعناقهم بشدة وإهانة وتعتعة ومنه قوله تعالى * (يدع اليتيم) * الماعون 2 وفي الكلام محذوف مختصر تقديره يقال لهم هذه النار وإخبارهم بهذا على جهة التوبيخ والتقريع وقرا أبو رجاء العطاردي (يوم يدعون إلى نار جهنم) من الدعاء بسكون الدال وفتح العين
قوله عز وجل
سورة الطور 15 - 20
لما قيل لهم هذه النار وقفوا بعد ذلك على الجهتين التي يمكن منها دخول الشك في أنها النار وهي إما ان يكون ثم سحر يلبس ذات المرء وإما أن يكون في بصر الناظر اختلال وأمرهم بصليها على جهة التقريع ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم * (اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم) * أي عذابكم حتم فسواء جزعكم وصبركم لا بد من جزاء اعمالكم
وقوله تعالى * (إن المتقين في جنات) * الآية يحتمل ان يكون خطاب أهل النار فيكون إخبارهم بذلك زيادة في غمهم وسوء حالهم ويحتمل وهو الأظهر ان يكون اخبارا لمحمد صلى الله عليه وسلم ومعاصريه لما فرغ من ذكر عذاب الكفار عقب ذلك بنعيم
187

المتقين ليبين الفرق ويقع التحريض على الإيمان
والمتقون هنا متقو الشرك لأنهم لا بد من مصيرهم إلى الجنات وكلما زادت الدرجة في التقوى قوي الحصول في حكم الآية حتى أن المتقين على الإطلاق هم في حكم الآية قطعا على الله بحكم خبره الصادق
وقرأ الجمهور (فاكهين) ومعناه فرحين مسرورين
وقال أبو عبيدة هو من باب لابن وتامر أي لهم فاكهة
قال القاضي أبو محمد والمعنى الأول أبرع
وقرأ خالد فيما حكى أبو حاتم فاكهين والفكه والفاكه المسرور المتنعم
وقوله * (بما آتاهم ربهم) * أي من إنعامه ورضاه عنهم و قوله * (ووقاهم ربهم عذاب الجحيم) * هذا متمكن ومتقي المعاصي الذي لا يدخل النار ويكون متقي الشرك الذي ينفذ عليه الوعيد بمعنى ووقاهم ربهم عذاب الخلود في الجحيم
ويحتمل أن يكون * (الجحيم) * من طبقات جهنم ليست بمأوى للعصاة المؤمنين بل هي مختصة بالكفرة فهم وإن عذبوا في نار فليسوا في عذاب الجحيم
وقرأ جمهور الناس (ووقاهم) بتخفيف القاف وقرأ أبو حيوة (ووقاهم) بتشديدها على المبالغة وذلك كله مشتق من الوقاية وهي الحائل بين الشيء وما يضره والمعنى يقال لهم * (كلوا واشربوا) * وقوله * (بما كنتم تعملون) * معناه ان رتب الجنة ونعيمها هو بحسب الأعمال واما نفس دخولها فهو برحمة الله وتغمده والأكل والشرب والتهني ليس من الدخول في شيء وأعمال العباد الصالحة لا توجب على الله التنعيم إيجابا لكنه قد جعلها أمارة على من سبق تنعيمه وعلق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال
وقوله تعالى * (متكئين) * نصب على الحال على حد قوله * (فاكهين) * والعامل في هاتين الحالتين الفعل المقدر في قوله * (في جنات) * ويجوز غير هذا وفي ذلك نظر وقرا أبو السمال (على سرر) بفتح الراء الأولى و * (زوجناهم) * معناه جعلنا لكل فرد منهم زوجا والحور جمع حوراء وهي البيضاء القوية بياض بياض العين وسواد سوادها و العين جمع عيناء وهي الكبيرة العينين مع جمالهما
وفي قراءة ابن مسعود وإبراهيم النخعي (وزوجناهم بعيس عين) قال أبو الفتح العيساء البيضاء
وقرأ عكرمة (وزوجناهم حورا عينا) وحكى أبو عمرو عن عكرمة انه قرأ (بعيس عين) على إضافة (عيس) إلى (عين)
188

قوله عز وجل
سورة الطور 21 - 28
وقرا ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والحسن وقتادة وأهل مكة (واتبعتهم ذريتهم) (بهم ذريتهم)
وقرا نافع وأبو جعفر وابن مسعود بخلاف عنه وشيبة والجحدري وعيسى (وأتبعناهم ذريتهم) (بهم ذرياتهم)
وروى خارجة عنه مثل قراءة حمزة
وقرأ ابن عامر وابن عباس وعكرمة وابن جبير والضحاك (واتبعتهم ذريتهم) (بهم ذريتهم)
وقرا أبو عمرو والأعرج وأبو رجاء والشعبي وابن جبير والضحاك (وأتبعناهم ذريتهم) (بهم ذريتهم)
فكون الذرية جمعا في نفسه حسن الإفراد في هذه القراءات وكون المعنى يقتضي انتشار أو كثرة حسن جمع الذرية في قراءة (ذرياتهم)
واختلف الناس في معنى الآية قال ابن عباس وابن جبير والجمهور أخبر الله تعالى ان المؤمنين تتبعهم ذريتهم في الإيمان
فيكونون مؤمنين كآبائهم
وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء فإنه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء
وقد ورد في هذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا الحديث تفسير الآية وكذلك وردت أحاديث تقتضي (أن الله تعالى يرحم الآباء رعيا للأبناء الصالحين) وذهب بعض الناس إلى إخراج هذا المعنى من هذه الآية وذلك لا يترتب الا بأن يجعل اسم الذرية بمثابة نوعهم على نحو قوله تعالى * (أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) * يس 41 وفي هذا نظر
وقال ابن عباس أيضا والضحاك معنى هذه الآية أن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين يعني في الوراثة والدفن في قبور الاسلام وفي احكام الآخرة في الجنة
وحكى أبو حاتم عن الحسن أنه قال الآية في الكبار من الذرية وليس فيها من الصغار شيء
وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار
وحكى الطبري قولا معناه ان الضمير في قوله * (بهم) * عائد على ذرية والضمير الذي بعده في * (ذريتهم) * عائد على * (الذين) * أي اتبعتهم الكبار وألحقنا نحن الكبار الصغار
وهذا قول مستكره
وقوله * (بإيمان) * هو في موضع الحال فمن رأى أن الآية في الأبناء الصغار
فالحال من الضمير في قوله * (اتبعتهم) * فهو من المفعولين ومن رأى أن الآية في الأبناء الكبار فيحتمل أن تكون الحال من المفعولين ويحتمل أن تكون من المتبعين الفاعلين وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأول لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة فذكر من جملة إحسانه انه يرعى المحسن في المسئ
ولفظة * (ألحقنا) * تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال
وقرا جمهور القراء (ألتناهم) بفتح الألف من آلت
وقرا ابن كثير وأبو يحيى وشبل (ألتناهم) من ألت بكسر اللام وقرا الأعرج (ألتناهم) على وزن أفعلناهم
وقرا أبي بن كعب وابن مسعود (لتناهم) من لات وهي قراءة ابن مصرف
ورواها القواس عن ابن كثير وتحتمل قراءة من قرأ (ألتناهم) بالفتح أن تكون من ألات فإنه قال ألات بليت الاتة
ولات يليت ليتا
وآلت يولت ايلاتا وألت يألت
وولت يليت ولتا وكلها بمعنى نقص ومعنى هذه الآية ان الله يلحق المقصر بالمحسن ولا ينقص المحسن من أجره شيئا وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور ويحتمل قوله تعالى * (وما ألتناهم من عملهم من) *
189

شيء) بأن يريد من عملهم المحسن والقبيح ويكون الضمير في * (عملهم) * عائد على الأبناء وهذا تأويل ابن زيد ويحسن هذا الاحتمال قوله تعالى * (كل امرئ بما كسب رهين) * والرهين المرتهن وفي هذه الألفاظ وعيد
وحكى أبو حاتم عن الأعمش انه قرأ (وما لتناهم) بغير ألف وفتح اللام
قال أبو حاتم لا تجوز هذه القراءة على وجه من الوجوه
وامددت الشئ إذا سربت اليه شيئا آخر يكثره أو يكثر لديه
وقوله * (مما يشتهون) * إشارة إلى ما روي من أن المنعم إذا اشتهى لحما نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها وليس يكون في الجنة لحم يخزن ولا يتكلف فيه الذبح والسلخ والطبخ
وبالجملة لا كلفة في الجنة و * (يتنازعون) * معناه يتعاطون ومنه قول الأخطل
(نازعته طيب الراح الشمول وقد
* صاح الدجاج وحانت وقعة الساري) البسيط
والكأس الاناء وفيه الشراب و لا يقال في فارغ الكأس قاله الزجاج
وقرا جمهور من السبعة وغيرهم (لا لغو) بالرفع (ولا تأثيم) كذلك وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن (لا لغو ولا تأثيم) بالنصب على التبرية وعلى الوجهين
فقوله * (فيها) * هو في موضع الخبر وأغنى خبر الأولين عن ذكر خبر الثاني
واللغو السقط من القول
والتأثيم يلحق خمر الدنيا في نفس شربها وفي الأفعال التي تكون من شرابها وذلك كله مرتفع في الآخرة
و (اللؤلؤ المكنون) أجمل اللؤلؤ لأن الصون والكن يحسنه
وقال ابن جبير أراد انه الذي في الصدف لم تنله الأيدي وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الغلمان كاللؤلؤ المكنون فكيف المخدومون قال (هم كالقمر ليلة البدر) ثم وصف عنهم انهم في جملة تنعمهم يتساءلون عن أحوالهم وما قال كل أحد منهم وانهم يتذكرون حال الدنيا وخشيتهم فيها عذاب الآخرة وحكى الطبري عن ابن عباس قال تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية
والإشفاق أشد الخشية ورقة القلب
وقرا أبو حيوة (ووقانا) بشد القاف وقراءة الجمهور بتخفيفها
وامال عيسى الثقفي (ووقانا) بتخفيف القاف
و * (السموم) * الحار
قال الرماني هو الذي يبلغ مسام الإنسان وهو النار في هذه الآية
وقد يقال في حر الشمس وفي الريح سموم
وقال الحسن * (السموم) * اسم من أسماء جهنم و * (ندعوه) * يحتمل ان يريد نعبده ويحسن هذا على قراءة من قرأ (أنه) بفتح الألف
وهي قراءة نافع بخلاف والكسائي وأبي جعفر والحسن وأبي نوفل أي من أجل انه
وقرا باقي السبعة والأعرج وجماعة (انه) على القطع والاستئناف ويحسن مع هذه القراءة ان يكون * (ندعوه) * بمعنى نعبده
أو بمعنى الدعاء نفسه ومن رأى * (ندعوه) * بمعنى الدعاء نفسه فيحتمل ان يجعل قوله (أنه) بالفتح هو نفس الدعاء الذي كان في الدنيا
و * (البر) * هو الذي يبر ويحسن ومنه قول ذي الرمة
(جاءت من البيض زعر لا لباس لها
* الا الدهاس وأم برة وأب) البسيط
190

قوله عز وجل
سورة الطور 29 - 36
هذا امر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء إلى الله ومتابعة نشر الرسالة ثم قال مؤنسا له * (فما أنت) * بإنعام الله عليك أو لطفه بك * (بكاهن ولا مجنون) *
وكانت العرب قد عهدت ملابسة الجن والإنس بهذين الوجهين فنسبت محمدا صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فنفى الله تعالى عنه ذلك
وقوله تعالى * (أم يقولون شاعر) * الآية روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة فكثرت آراؤهم في محمد صلى الله عليه وسلم حتى قال قائل منهم " تربصوا به ريب المنون " فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى وغيرهم فافترقوا على هذه المقالة فنزلت الآية في ذلك والتربص الانتظار ومنه قول الشاعر
(تربص بها ريب المنون لعلها
* تطلق يوما أو يموت حليلها) الطويل
وأنشد الطبري
(لعلها سيهلك عنها زوجها أو ستجنح
*) الطويل
وقوله تعالى * (قل تربصوا) * وعيد في صيغة امر و * (المنون) * من أسماء الموت وبه فسر ابن عباس ومن أسماء الدهر أيضا وبه فسر مجاهد وقال الأصمعي * (المنون) * واحد لا جمع له وقال الأخفش هو جمع لا واحد له
قال القاضي أبو محمد والريب هنا الحوادث والمصائب لأنها تريب من نزلت به ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في امر ابنته فاطمة حين ذكر أن عليا يتزوج بنت أبي جهل (إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها) يقال أراب وراب ومنه
(فقد رابني منها الغداة سفورها
*) الطويل
وقول الآخر
(وقد رابني قولها يا هناه
*) المتقارب
وامر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتوعدهم بقوله * (قل تربصوا فإني معكم من المتربصين) * وقوله تعالى * (بهذا) * يحتمل ان يشير إلى هذه المقالة هو شاعر ويحتمل ان يشير إلى ما هم عليه من
191

الكفر وعبادة الأصنام
والأحلام العقول و * (أم) * المتكررة في هذه الآية قدرها بعض النحاة بألف الاستفهام وقدرها مجاهد ب (بل)
والنظر المحرر في ذلك ان منها ما يتقدر ببل والهمزة على حد قول سيبويه في قولهم إنها لا بل أم شاء ومنها ما هي معادلة وذلك قوله * (أم هم قوم طاغون) *
وقرا مجاهد (بل هم قوم طاغون) وهو معنى قراءة الناس الا ان العبارة ب * (أم) * خرجت مخرج التوقيف والتوبيخ
وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال ما في سورة (الطور) من * (أم) * كله استفهام وليست بعطف
و * (تقوله) * معناه قال عن الغير إنه قاله
فهي عبارة عن كذب مخصوص
ثم عجزهم تعالى بقوله * (فليأتوا بحديث مثله) * والمماثلة المطلوبة منهم هي في النظم والرصف والإيجاز
واختلف الناس هل كانت العرب قادرة على الإتيان بمثل القرآن قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم فقال شداد يسمون أهل الصرفة كانت قادرة وصرفت وقال الجمهور لم تكن قط قادرة ولا في قدرة البشر أن يأتي بمثله
لأن البشر لا يفارقه النسيان والسهو والجهل والله تعالى محيط علمه بكل شيء
فإذا ترتبت اللفظة في القرآن علم بالإحاطة التي يصلح ان تليها ويحسن معها المعنى
وذلك متعذر في البشر والهاء في * (مثله) * عائدة على القرآن
وقرا الجحدري (بحديث مثله) بإضافة الحديث إلى مثل
فالهاء على هذا عائدة على محمد صلى الله عليه وسلم
وقوله تعالى " أم خلقوا من غير شيء " قال الطبري معناه أم خلقوا خلق الجماد من غير حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كما هي الجمادات عليه
وقال آخرون معناه خلقوا لغير علة ولا لغير عقاب ولا ثواب
فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون
وهذا كما تقول فعلت كذا وكذا من غير علة أي لغير علة
ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ثم خصص من الأشياء * (السماوات والأرض) * لعظمها وشرفها في المخلوقات ثم حكم عليهم بأنهم * (لا يوقنون) * ولا ينظرون نظرا يؤديهم إلى اليقين
قوله عز وجل
سورة الطور 37 - 44
قوله تعالى * (أم عندهم خزائن ربك) * بمنزلة قوله أم عندهم الاستغناء عن الله في جميع الأمور لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله كلها
قال الزهراوي وقيل يريد ب (الخزائن) العلم وهذا قول حسن إذا تأمل وبسط
وقال الرماني خزائنه تعالى مقدوراته
192

و (المصيطر) المسلط القاهر وبذلك فسر ابن عباس وأصله السين ولكن كتبه بعض الناس وقرأه بالصاد مراعاة للطاء ليتناسب النطق
وحكى أبو عبيدة تسيطرت علي إذا اتخذتني خولا
والسلم السبب الذي يصعد به كان ما كان من خشب أو بناء أو حبال ومنه قول ابن مقبل
(لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا
* تبنى له في السماوات السلاليم) البسيط
وحكى الرماني قال لا يقال سلم لما يبنى من الأدراج وإنما السلم المشبك وبيت الشعر يرد عليه والمعنى ألهم * (سلم) * إلى السماء * (يستمعون فيه) * أي عليه ومنه وهذه حروف يسد بعضها مسد بعض والمعنى يستمعون الخبر بصحة ما يدعونه فليأتوا بالحجة المبينة في ذلك وقوله تعالى * (أم له البنات) * الآية معناه أم هم أهل الفضيلة علينا فيلزم لذلك انتخاؤهم وتكبرهم ثم قال تعالى * (أم تسألهم) * يا محمد على الإيمان بالله وشرعه أجرة يثقلهم غرمها فهم لذلك يكرهون الدخول فيما يوجب غرامتهم ثم قال تعالى * (أم عندهم) * علم * (الغيب) * فهم يبينون ذلك للناس سننا وشرعا يكتبونه وذلك عبادة الأوثان تسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم
وقيل المعنى قهم يعلمون متى يموت محمد الذي يتربصون به و (يكتبون) بمعنى يحكمون وقال ابن عباس يعنى أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون به
ثم قال تعالى * (أم يريدون كيدا) * بك وبالشرع ثم جزم الخبر بأنهم * (هم المكيدون) * أي المغلوبون فسمى غلبتهم * (كيدا) * إذ كانت عقوبة الكيد
ثم قال تعالى * (أم لهم إله غير الله) * يعصمهم ويمنعهم منهم ويدفع في صدر إهلاكهم
ثم نزه تعالى نفسه * (عما يشركون) * به من الأصنام والأوثان وهذه الأشياء التي وقفهم تعالى عليها حصرت جميع المعاني التي توجب الانتخاء والتكبر والبعد من الائتمار فوقفهم تعالى عليها أي ليست لهم ولا بقي شيء يوجب ذلك الا انهم قوم طاغون
وهذه صفة فيها تكسبهم وإيثارهم فيتعلق بذلك عقابهم
ثم وصفهم تعالى بأنهم على الغاية من العتو والتمسك بالأقوال الباطلة في قوله * (وإن يروا كسفا) * الآية وذلك أن قريشا كان في جملة ما اقترحت به ان تنزل من السماءعليها كسف وهي القطع واحدها كسفة وتجمع أيضا على كسف كثمرة وتمر قال الرماني هي التي تكون بقدر ما يكسف ضوء الشمس
فأخبر الله عنهم في هذه الآية أنهم لو رأوا كسفا * (ساقطا) * حسب اقتراحهم لبلغ بهم العتو والجهل والبعد عن الحق ان يغالطوا أنفسهم وغيرهم ويقولوا هذا * (سحاب مركوم) * أي كثيف قد تراكم بعضه فوق بعض ولهذه الآية نظائر في آيات أخر
قوله عز وجل
سورة الطور 45 - 49
قوله * (فذرهم) * وما جرى مجراه من الموادعة منسوخ بآية السيف
وقرأ أبو جعفر وأبو عمروبخلاف عنه (يلقوا) والجمهور على (يلاقوا)
193

واختلف الناس في اليوم الذي توعدوا به فقال بعض المتأولين هو موتهم واحدا واحدا وهذا على تجوز والصعق التعذب في الجملة وان كان الاستعمال قد كثر فيه فيما يصيب الإنسان من الصيحة المفرطة ونحوه
ويحتمل ان يكون اليوم الذي توعدوا به يوم بدر لأنهم عذبوا فيه وقال الجمهور التوعد بيوم القيامة لأن فيه صعقة تعم جميع الخلائق لكن لا محالة أن بين صعقة المؤمن وصعقة الكافر فرقا
وقرأ جمهور القراء (يصعقون) من صعق الرجل بكسر العين وقرأ أبو عبد الرحمن (يصعقون) بفتح الياء وكسر العين وقرأ عاصم وابن عامر وأهل مكة في قول شبل (يصعقون) بضم الياء وذلك من أصعق الرجل غيره
وحكى الأخفش صعق الرجل بضم الصاد وكسر العين
قال أبو علي فجائز ان يكون منه فهو مثل يضربون قال أبو حاتم وفتح أهل مكة الياء في قول إسماعيل و * (يغني) * يكون منه غناء ودفاع
ثم أخبر تعالى بأنهم لهم دون هذا اليوم أي قبله عذاب واختلف الناس في تعيينه فقال ابن عباس وغيره هو بدر والفتح ونحوه
وقال مجاهد هو الجوع الذي أصاب قريشا
وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضا هو عذاب القبر ونزع ابن عباس وجود عذاب القبر بهذه الآية
وقال ابن زيد هو مصائب الدنيا في الأجسام وفي الأحبة وفي الأموال هي للمؤمنين رحمة وللكافرين عذاب وفي قراءة ابن مسعود دون ذلك قريبا * (ولكن) * * (لا يعلمون) * ثم امر تعالى نبيه بالصبر لحكم الله والمضي على نذارته ووعده بقوله * (فإنك بأعيننا) * ومعناه بإدراكنا وأعين حفظنا وحيطتنا كما تقول فلان يرعاه الملك بعين وهذه الآية ينبغي ان يقررها كل مؤمن في نفسه فإنها تفسح مضايق الدنيا
وقرأ أبو السمال (بأعينا) بنون واحدة مشددة
واختلف الناس في قوله * (وسبح بحمد ربك) * فقال أبو الأحوص عوف بن مالك هو التسبيح المعروف ان يقول في كل قيام له سبحان الله وبحمده
وقال عطاء المعنى حين تقوم من كل مجلس
وقال ابن زيد التسبيح هنا هو صلاة النوافل وقال الضحاك وابن زيد هذه إشارات إلى الصلاة المفروضة ف * (حين تقوم) * الظهر والعصر أي * (حين تقوم) * من نوم القائلة
* (ومن الليل) * المغرب والعشاء * (وإدبار النجوم) * الصبح
ومن قال هي النوافل جعل " إدبارهم النجوم " ركعتي الفجر وعلى هذا القول جماعة كثيرة منهم عمر وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة والحسن رضي الله عنهم
وقد روي مرفوعا ومن جعله التسبيح المعروف جعل قوله * (حين تقوم) * مثالا أي حين تقوم وحين تقعد وفي كل تصرفك
وحكى منذر عن الضحاك ان المعنى * (حين تقوم) * في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام فقل
(سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك الحديث)
وقرأ سالم بن أبي الجعد ويعقوب (وأدبار) بفتح الهمزة بمعنى وأعقاب ومنه قول الشاعر قيس بن الملوح
(فأصبحت من ليلى الغداة كناظر
* مع الصبح في أعقاب نجم مغرب) الطويل
وقرأ جمهور الناس (وإدبار) بكسر الهمزة
194

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النجم
وهي مكية بإجماع من المتأولين وهي أول سورة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهر بقراءتها في الحرم والمشركون يستمعون وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال يكفيني هذا وسبب هذه السورة ان المشركين قالوا إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله فنزلت السورة في ذلك
قوله عز وجل
سورة النجم 1 - 11
أقسم الله تعالى بهذا المخلوق تشريفا له وتنبيها منه ليكون معتبرا فيه حتى تولى العبرة إلى معرفة الله تعالى
وقال الزهري المعنى ورب النجم وفي هذا قلق مع لفظ الآية
واختلف المتأولون في تعيين النجم المقسم به فقال ابن عباس ومجاهد والفراء وبينه منذر بن سعيد هو الجملة من القرآن إذا تنزلت وذلك أنه روي أن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم نجوما أي أقدارا مقدرة في أوقات ما ويجيء * (هوى) * على هذا التأويل بمعنى نزل وفي هذا الهوى بعد وتحامل على اللغة ونظير هذه الآية قوله تعالى * (فلا أقسم بمواقع النجوم) * الواقعة 75 والخلاف في هذا كالخلاف في تلك وقال الحسن ومعمر بن المثنى وغيرهما * (النجم) * هنا اسم جنس أرادوا النجوم إذا هوت واختلف قائلوا هذه المقالة في معنى * (هوى) * فقال جمهور المفسرين * (هوى) * إلى الغروب وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب وقال الحسن بن أبي الحسن وأبو حمزة الثمالي * (هوى) * عند الانكدار في القيامة فهي بمعنى
قوله * (وإذا الكواكب انتثرت) * الانفطار 2 وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي هو في الانقضاض في أثر العفرية وهي رجوم الشياطين وهذا القول تسعده اللغة
والتأويلات في * (هوى) * محتملة كلها قوية ومن الشاهد في النجم الذي هو اسم الجنس قول الراعي
(فتاقت تعد النجم في مستحيرة
* سريع بأيدي الآكلين جمودها)
يصف إهالة صافية والمستحيرة القدر التي يطبخ فيها قاله الزجاج
وقال الرماني وغيره هي
195

شحمة صافية حين ذابت وقال مجاهد وسفيان * (النجم) * في قسم الآية الثريا وسقوطها مع الفجر هو هويها والعرب لا تقول النجم مطلقا الا للثريا ومنه قول العرب
(طلع النجم عشاء
* فابتغى الراعي كساء)
(طلع النجم غدية
* فابتغي الراعي شكية) مجزوء الرمل
و * (هوى) * على هذا القول يحتمل الغروب ويحتمل الانكدار و * (هوى) * في اللغة معناه خرق الهوى ومقصده الفل السفل أو مسيره ان لم يقصده إليه ومنه قول الشاعر
(هوى ابني شفا جبل
* فزلت رجله ويده) مجزوء الكامل
وقول الشاعر
(وإن كلام المرء في غير كنهه
* لك النبل تهوي ليس فيها نصالها) الطويل
وقول زهير
(هوي الدلو أسلمها الرشاء
*)
ومنه قولهم للجراد الهاوي ومنه هوى العقاب
والقسم واقع على قوله * (ما ضل صاحبكم وما غوى) * والضلال أبدا يكون من غير قصد من الإنسان إليه
والغي كأنه شيء يكتسبه الإنسان ويريده نفى الله تعالى عن نبيه هذين الحالين و * (غوي) * الرجل يغوي إذا سلك سبيل الفساد والعوج ونفى الله تعالى عن نبيه ان يكون ضل في هذه السبيل التي أسلكه الله إياها وأثبت له تعالى في الضحى انه قد كان قبل النبوءة ضالا بالإضافة إلى حاله من الرشد بعدها
وقوله تعالى * (وما ينطق عن الهوى) * يريد محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ليس يستكلم عن هواه أي بهواه وشهوته
وقال بعض العلماء المعنى وما ينطق القرآن المنزل عن هوى وشهوة ونسب النطق اليه من حيث تفهم عنه الأمور كما قال * (هذا كتابنا ينطق) * الجاثية 29 وأسند الفعل إلى القرآن ولم يتقدم له ذكر لدلالة المعنى عليه
وقوله * (إن هو إلا وحي يوحى) * يراد به القرآن بإجماع والوحي إلقاء المعنى في خفاء وهذه عبارة تعم الملك والإلهام والإشارة وكل ما يحفظ من معاني الوحي
والضمير في قوله * (علمه) * يحتمل ان يكون للقرآن والأظهر انه لمحمد صلى الله عليه وسلم وأما المعلم فقال قتادة والربيع وابن عباس هو جبريل عليه السلام أي علم محمدا القرآن
وقال الحسن المعلم الشديد القوى هو الله تعالى
و * (القوي) * جمع قوة وهذا في جبريل مكتمن ويؤيده قوله تعالى * (ذي قوة عند ذي العرش مكين) * التكوير 20
و * (ذو مرة) * معناه ذو قوة قاله قتادة وابن زيد والربيع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)
وأصل المرة
196

من مرائر الحبل وهي فتله وإحكام عمله ومنه قول امرئ القيس
(بكل ممر الفتل شد بيذبل
*) الطويل
وقال قوم ممن قال إن ذا المرة جبريل معنى * (ذو مرة) * ذو هيئة حسنة وقال آخرون بل معناه ذو جسم طويل حسن
قال القاضي أبو محمد وهذا كله ضعيف
و * (استوى) * مستند إلى الله تعالى في قول الحسن الذي قال إنه لمتصف ب * (شديد القوى) * وكذلك يجيء قوله * (وهو بالأفق الأعلى) * صفة الله تعالى على معنى وعظمته وقدرته وسلطانه تتلقى نحو (الأفق الأعلى) ويجيء المعنى نحوقوله تعالى * (الرحمن على العرش استوى) * طه 5 ومن قال إن المتصف ب * (شديد القوى) * هو جبريل عليه السلام قال إن * (استوى) * مستند إلى جبريل واختلفوا بعد ذلك فقال الربيع والزجاج المعنى * (فاستوى) * جبريل في الجو وهو إذ ذاك * (بالأفق الأعلى) * إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قد سد الأفق له ستمائة جناح وحينئذ دنا من محمد حتى كان * (قاب قوسين) * وكذلك هو المراد في هذا القول النزلة الأخرى في صفته العظيمة له ستمائة جناح عند السدرة وقال الطبري والفراء المعنى * (فاستوى) * جبريل
وقوله * (وهو) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وقد تقدم ذكره في الضمير في * (علمه) * وفي هذا التأويل العطف على المضمر المرفوع دون ان يؤكد وذلك عند النحاة مستقبح وأنشد الفراء على قوله
(ألم تر ان النبع يصلب عوده
* ولا يستوي والخروع المتقصف) الطويل
وقد ينعكس هذا الترتيب فيكون (استوى) لمحمد وهو لجبريل عليه السلام واما * (الأعلى) * فهو عندي لقمة الرأس وما جرى معه
وقال الحسن وقتادة هو أفق مشرق الشمس وهذا التخصيص لا دليل عليه
واختلف الناس إلى من استند قوله
* (ثم دنا فتدلى) * فقال الجمهور استند إلى جبريل عليه السلام أي دنا إلى محمد في الأرض عند حراء
وقال ابن عباس وأنس في حديث الاسراء ما يقتضي انه يستند إلى الله تعالى ثم اختلف المتأولون فقال مجاهد كان الدنو إلى جبريل
وقال بعضهم كان إلى محمد
و * (دنا فتدلى) * على هذا القول معه حذف مضاف
أي دنا سلطانه ووحيه وقدره لا الانتقال وهذه الأوصاف منتفية في حق الله تعالى
والصحيح عندي ان جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل بدليل قوله * (ولقد رآه نزلة أخرى) * النجم 13 فإن ذلك يقضي بنزلة متقدمة وما روي قط ان محمدا رأى ربه قبل ليلة الإسراء اما ان الرؤية بالقلب لا تمنع بحال و * (دنا) * أعم من (تدلى) فبين تعالى بقوله * (فتدلى) * هيئة الدنو كيف كانت و * (قاب) * معناه قدر
وقال قتادة وغيره معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر
وقال الحسن ومجاهد من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض
وقرا محمد بن السميفع اليماني (فكان قيس قوسين) والمعنى قريب من * (قاب) * ومن هذه
197

اللفظة قول النبي عليه السلام (لقاب قوس أحدكم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) وفي حديث آخر (لقاب قوس أحدكم في الجنة)
وقوله * (أو أدنى) * معناه على مقتضى نظر البشر أي لو رآه أحدكم لقال في ذلك قوسان أو أدنى من ذلك وقال أبو زيد ليست بهذه القوس ولكن قدر الذراعين أو أدنى وحكى الزهراوي عن ابن عباس ان القوس في هذه الآية ذراع تقاس به الأطوال وذكره الثعلبي وانه من لغة الحجاز
وقوله تعالى * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * قال ابن عباس المعنى * (فأوحى) * الله * (إلى عبده) * جبريل * (ما أوحي) *
وفي قوله * (ما أوحي) * إبهام على جهة التفخيم والتعظيم والذي عرف من ذلك فرض الصلاة وقال الحسن المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى كالأولى في الإبهام وقال ابن زيد المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى الله إلى جبريل
وقوله تعالى * (ما كذب الفؤاد ما رأى) * قرأ جمهور القراء بتخفيف الذال على معنى لم يكذب قلب محمد الشيء الذي رأى بل صدقه وتحققه نظرا و * (كذب) * يتعدى وقال أهل التأويل ومنهم ابن عباس وأبو صالح رأى محمد الله تعالى بفؤاده
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (جعل الله نور بصري في فؤادي فنظرت اليه بفؤادي)
وقال آخرون من المتأولين المعنى ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه بل صدقه وتحققه ويحتمل ان يكون التقدير فيما رأى وقال ابن عباس فيما روي عنه وعكرمة وكعب الأحبار ان محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه
وبسط الزهراوي هذا الكلام عنهم وأبت ذلك عائشة وقالت انا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات فقال لي (هو جبريل فيها كلها)
وقال الحسن المعنى ما رأى من مقدورات الله وملكوته وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال هو نور إني أراه وهذا قول الجمهور وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع بكل تأويل في اللفظ لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن
وقرأ ابن عامر فيما روى عنه هشام (ما كذب) بشد الذال وهي قراءة أبي رجاء وأبي جعفر وقتادة والجحدري وخالد ومعناه بين على بعض ما قلناه وقال كعب الأحبار إن الله تعالى قسم الكلام والرؤية بين موسى ومحمد فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين وقالت عائشة رضي الله عنها لقد وقف شعري من سماع هذا وتلت * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * الأنعام 103
وذهبت هي وابن مسعود وقتادة وجمهور العلماء إلى أن المرئي هو جبريل عليه السلام في المرتين في الأرض وعند سدرة المنتهى ليلة الاسراء وقد ذكرتها في سورة (سبحان) وهي مشهورة في الكتب الصحاح
وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلها بفتح أواخر آيها وامال عاصم في رواية أبي بكر (رأى) وقرأ نافع وأبو عمرو بين الفتح
وامال حمزة والكسائي جميع ما في السورة وامال أبو عمرو فيما روى عنه عبيد (الأعلى) و (تدلى)
198

قوله عز وجل
سوة النجم 12 - 18
قوله تعالى * (أفتمارونه) * خطاب لقريش وهو من الصراء والمعنى أتجادلونه في شيء رآه وأبصره وهذه قراءة الجمهور وأهل المدينة وقرا علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وحمزة والكسائي (أفتمرونه) بفتح التاء دون ألف بعد الميم والمعنى أفتجدونه وذلك أن قريشا لما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره في الإسراء مستقصي كذبوا واستخفوا حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر عيرهم وغير ذلك مما هو في حديث الإسراء مستقصى ورواها سعيد عن النخعي (أفتمرونه) بضم التاء قال أبو حاتم وذلك غلط من سعيد
وقوله * (يري) * مستقبلا والرؤية قد مضت عبارة تعم جميع ما مضى وتشير إلى ما يمكن ان يقع بعد وفي هذا نظر
واختلف الناس في الضمير في قوله * (ولقد رآه) * حسبما قدمناه فقال ابن عباس وكعب الأحبار هو عائد على الله وقال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع هو عائد على جبريل و * (نزله) * معناه مرة ونصبه على المصدر في موضع الحال و * (سدرة المنتهى) * هي شجرة نبق قال كعب هي في السماء السابعة وروى ذلك مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال ابن مسعود في السماء السادسة
وقيل لها * (سدرة المنتهى) * لأنها إليها ينتهي علم كل عالم ولا يعلم ما وراءها صعدا الا الله تعالى
وقيل سميت بذلك لأنها إليها ينتهى من مات على سنة النبي صلى الله عليه وسلم
قال القاضي أبو محمد هم المؤمنون حقا من كل جيل
وقيل سميت بذلك لأن ما نزل من امر الله فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة العلو وما صعد من الأرض فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة السفل
وروي عن النبي عليه السلام ان الأمة من الأمم تستظل بظل الفنن منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رفعت لي * (سدرة المنتهى) * فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة)
وقوله تعالى * (عندها جنة المأوى) * قال الجمهور أراد أن يعظم مكان السدرة ويشرفه بأن * (جنة المأوى) * عندها
قال الحسن وهي الجنة التي وعد بها العالم المؤمن
وقال قتادة وابن عباس بخلاف هي جنة يأوي إليها أرواح الشهداء والمؤمنين وليست بالجنة التي وعد بها المؤمنون جنة النعيم وهذا يحتاج إلى سند وما أراه يصح عن ابن عباس
وقرأ علي بن أبي طالب وابن الزبير بخلاف وأنس بن مالك بخلاف وأبو الدرداء وزر بن حبيش وقتادة ومحمد بن كعب (جنة المأوى) بالهاء في جنة وهو ضمير محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى ستره وضمه إيواء الله تعالى وجميل صنعه به يقال جنة وأجنة وردت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا أجن الله من قرأها
والجمهور قرأ (جنة) كالآية الأخرى * (فلهم جنات المأوى نزلا) * السجدة 19 وحكى الثعلبي ان معنى (جنة المأوى) ضمه المبيت والليل
وقوله * (إذ يغشى السدرة ما يغشى) * التعامل في * (إذ) * * (راه) * المعنى رآه في هذه الحال
199

و * (ما يغشى) * معناه من قدرة الله وأنواع الصفات التي يخترعها لها وذلك منهم على جهة التفخيم والتعظيم وقال مجاهد تبدل أغصانها درا وياقوتا ونحوه
وقال ابن مسعود ومسروق ومجاهد ذلك جراد من ذهب كان يغشاها
وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (رأيتها ثم حال دونها فراش الذهب) وقال الربيع وأبو هريرة كان تغشاها الملائكة كما تغشى الطير الشجر وقيل غير هذا مما هو تكلف في الآية لأن الله تعالى أبهم ذلك وهم يريدون شرحه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فغشيها ألوان لا أدري ما هي) وقوله تعالى * (ما زاغ البصر) * قال ابن عباس معناه ما جال هكذا ولا هكذا
وقوله * (وما طغى) * معناه ولا تجاوز المرئي بل وقع عليه وقوعا صحيحا وهذا تحقيق للأمر ونفي لوجود الريب عنه
وقوله تعالى * (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) * قل جماعة من أهل التأويل معناه رأى الكبرى من آيات ربه والمعنى * (من آيات ربه) * التي يمكن ان يراها البشر ف * (الكبري) * على هذا مفعول ب * (رأي) * وقال آخرون المعنى * (لقد رأى) * بعضا * (من آيات ربه الكبرى) * ف * (الكبري) * على هذا وصف للآيات والجمع مما لا يعقل في المؤنث يوصف أبدا على حد وصف الواحدة
وقال ابن عباس وابن مسعود رأى رفرفا اخضر من الجنة قد سد الأفق وقال ابن زيد رأى جبريل في صورته التي هو بها في السماوات
قوله عز وجل
سورة النجم 19 - 26
قوله تعالى * (أفرأيتم) * مخاطبة لقريش وهي من رؤية العين لأنه أحال على أجرام مرئية ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء لم تتعد
ولما فرغ من ذكر عظمة الله وقدرته قال على جهة التوقيف أرأيتم هذه الأوثان وحقارتها وبعدها عن هذه القدرة والصفات العلية و * (اللات) * اسم صنم كانت العرب تعظمه قال أبو عبيدة وغيره كان في الكعبة وقال قتادة كان بالطائف وقال ابن زيد كان بنخلة عند سوق عكاظ وقول قتادة أرجح يؤيده قول الشاعر
(وفرت ثقيف إلى لاتها
* بمنقلب الخائب الخاسر) المتقارب
والتاء في * (اللات) * لام فعل كالباء من باب وقال قوم هي تاء تأنيث والتصريف يأبى ذلك وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح (اللات) بشد التاء وقالوا كان هذا الصنم حجرا وكان عنده رجل من بهز يلت سويق الحاج على ذلك الحجر ويخدم الأصنام فلما مات عبدوا الحجر الذي كان عنده اجلالا لذلك الرجل وسموه باسمه ورويت هذه القراءة عن ابن كثير وابن عامر * (والعزى) * صخرة بيضاء
200

كانت العرب تعبدها وتعظمها قاله سعيد بن جبير وقال ابن مجاهد كانت شجيرات تعبد ثم ببلاها انتقل امرها إلى صخرة
و (عزى) مؤنثة عزيز ككبرى وعظمى وكانت هذه الأوثان تعظم الوثن منها قبيلة وتعبدها ويجيء كل من عز من العرب فيعظمها بتعظيم حاضرها
وقال أبو عبيدة معمر كانت * (العزي) * * (ومناة) * في الكعبة وقال ابن زيد وكانت * (العزي) * بالطائف وقال قتادة كانت بنخلة وأما * (مناه) * فكانت بالمشلل من قديد وذلك بين مكة والمدينة وكانت أعظم هذه الأوثان قدرا وأكثرها عابدا وكانت الأوس والخزرج تهل لها ولذلك قال تعالى * (الثالثة الأخرى) * فأكدها بهاتين الصفتين كما تقول رأيت فلانا وفلانا ثم تذكر ثالثا اجل منهما فتقول وفلانا الآخر الذي من امره وشأنه
ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات وذلك نص في الآية ومنه قول ربيعة بن مكدم
(ولقد شفعتهما بآخر ثالث
*) الكامل
وهو التأويل الصحيح في قول الشاعر عبيد بن الأبرص
(جعلت لها عودين من
* نشم وآخر من ثمامة) مجزوء الكامل
وقرأ ابن كثير وحده (ومناءة) بالهمز والمد وهي لغة فيها والأول أشهر وهي قراءة الناس ومنها قول جرير
(أزيد مناة توعد بابن تيم
* تأمل اين تاه بك الوعيد) الوافر
ووقف الله تعالى الكفار على هذه الأوثان وعلى قولهم فيها لأنهم كانوا يقولون هي بنات الله فكأنه قال أرأيتم هذه الأوثان وقولكم هي بنات الله * (ألكم الذكر وله الأنثى) * أي النوع المستحسن المحبوب هو لكم و موجود فيكم والمذموم المستثقل عندكم هو له بزعمكم ثم قال تعالى على جهة الإنكار * (تلك إذا قسمة ضيزى) * أي عوجاء قاله مجاهد وقيل * (ضيزى) * معناه جائرة قاله ابن عباس وقتادة وقال سفيان معناه منقوصة وقال ابن زيد معناه مخالفة والعرب تقول ضزته حقه أضيزه بمعنى منعته منه وظلمته فيه و * (ضيزى) * من هذا التصريف وأصلها فعلى بضم الفاء ضوزى لأنه القياس إذ لا يوجد في الصفات فعلى بكسر الفاء كذا قال سيبويه وغيره فإذا كان هذا فهي ضوزى كسر أولها كما كسر أول عين وبيض طلبا للتخفيف إذ الكسرة والياء أخف من الضمة والواو كما قالوا بيوت وعصى هي في الأصل فعول بضم الفاء وتقول العرب ضزته أضوزة فكان يلزم على هذا التصريف ان يكون ضوزى فعلى وفي جميع هذا نظر وقرا ابن كثير (ضئيزى) بالهمزعلى انه مصدر كذكرى وقرا الجمهور بغير همز
ثم قال تعالى * (إن هي إلا أسماء) * يعني ان هذه الأوصاف من أنها إناث وانها تعبد آلهة ونحو هذا الا أسماء أي تسميات اخترعتموها * (أنتم وآباؤكم) * لا حقيقة لها ولا انزل الله تعالى بها برهانا ولا حجة وقرأ عيسى بن عمر (سلطان) بضم اللام وقرأ هو وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش (إن تتبعون) بالتاء على المخاطبة وقرأ أبو عمرو وعاصم ونافع والأعمش أيضا والجمهور (يتبعون) بالياء
201

على الحكاية عن الغائب و * (الظن) * ميل النفس إلى أحد معتقدين متخالفين دون ان يكون ميلها بحجة ولا برهان وهوى الأنفس هو إرادتها الملذة لها وإنما تجد هوى النفس أبدا فيترك الأفضل لأنها مجبولة بطبعها على حب الملذ وإنما يردعها ويسوقها إلى حسن العاقبة العقل والشرع
وقوله تعالى * (ولقد جاءهم من ربهم الهدى) * اعتراض بين الكلام فيه توبيخ لهم لأن سرد القول إنما هو يتبعون ولا * (الظن وما تهوى الأنفس) * * (أم للإنسان ما تمنى) * وقف على جهة التوبيخ والإنكار لحالهم ورأيهم ثم اعترض بعد قوله * (وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) * جملة في موضع الحال والهدى المشار اليه محمد وشرعه
وقرأ ابن مسعود وابن عباس (ولقد جاءكم من ربكم) بالكاف فيهما وقال الضحاك إنهما قرآ (ولقد جاءك من ربك)
و (الإنسان) في قوله * (أم للإنسان) * اسم الجنس كأنه يقول ليست الأشياء بالتمني والشهوات إنما الأمر كله لله والأعمال جارية على قانون امره ونهيه فليس لكم أيها الكفرة مرادكم في قولكم هذه آلهتنا وهي تنفعنا وتقربنا زلفى ونحو هذا
وقال ابن زيد والطبري (الإنسان) هنا محمد بمعنى انه لم ينل كرامتنا بتأميل بل بفضل الله أو بمعنى بل إنه تمنى كرامتنا فنالها إذ الكل لله يهب ما شاء وهذا لا تقتضيه الآيات وإن كان اللفظ يعمه و * (الآخرة والأولى) * الداران أي له كل أمرهما ملكا ومقدورا وتحت سلطانه
وقوله تعالى * (وكم من ملك) * الآية رد على قريش في قولهم الأوثان شفعاؤنا كأنه يقول هذه حال الملائكة الكرام فكيف بأوثانكم و * (كم) * للتكثير وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر * (لا تغني) * والغناء جلب النفع ودفع الضر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء وجمع الضمير في * (شفاعتهم) * على معنى * (كم) * ومعنى الآية * (أن يأذن الله) * في أن يشفع لشخص ما ويرضى عنه كما أذن في قوله * (الذين يحملون العرش ومن حوله) * غافر 7
قوله عز وجل
سورة النجم 27 - 31
* (الذين لا يؤمنون بالآخرة) * هم كفار العرب وقوله * (ليسمون الملائكة) * معناه ليصفون الملائكة بأوصاف الأنوثة وأخبر تعالى عنهم إنهم لا علم لهم بذلك وإنما هي ظنون منهم لا حجة لهم عليها وقرا ابن مسعود (من علم الا اتباع الظن)
202

وقوله * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * أي في المعتقدات المواضع التي يريد الإنسان ان يحرر ما يعقل ويعتقد فإنها مواضع حقائق لا تنفع الظنون فيها واما في الأحكام وظواهرها فيجتزى فيها بالظنونات ثم سلى تعالى نبيه وأمره بالإعراض عن هؤلاء الكفرة وما في الآية من موادعتهم منسوخ بآية السيف
وقوله * (ولم يرد إلا الحياة الدنيا) * معناه لا يصدق بغيرها فسعيه كله وعمله إنما هو لدنياه
وقوله تعالى * (ذلك مبلغهم من العلم) * معناه هنا انتهى تحصيلهم من المعلومات وذلك أن المعلومات منها ما هي معقولات نافعة في الآخرة ومنها ما هي أمور فانية وأشخاص بادية كالفلاحة وكثير من الصنائع وطلب الرئاسة على الناس بالمخرقة فكلها معلومات ولها علم ومبلغ الكفرة إنما هو في هذه الدنياويات
وقوله تعالى * (إن ربك هو أعلم) * الآية تصل بمعنى التسلية في قوله " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا " وقوله * (إن ربك هو أعلم) * الآية ووعيد للكفار ووعد للمؤمنين وأسند الضلالة والهدى إليهم بكسبهم وإن كان الجميع خلقا له واختراعا واللام في قوله * (ليجزي) * متعلقة بقوله * (ضل) * وبقوله * (اهتدي) * فكأنه قال ليصير أمرهم جميعا إلى أن يجزى
وقوله * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * اعتراض بين الكلام بليغ وقال بعض النحويين اللام متعلقة بما في المعنى من التقدير لأن تقديره " ولله ما في السماوت وما في الأرض " يضل من يشاء ويهدي من يشاء * (ليجزي) * والنظر الأول أقل تكلفا من هذا الإضمار
وقال قوم اللام متعلقة في أول السورة * (إن هو إلا وحي يوحى) * النجم 4 وهذا بعيد و * (الحسنى) * هي الجنة ولا حسنى دونها
وقوله عز وجل
سورة النجم 32 - 38
قوله * (الذين) * نعت ل * (الذين) * النجم 31 المتقدم قبله و * (يجتنبون) * معناه يدعون جانبا
وقرأ جمهور القراء والناس (كبائر الإثم) وقرا ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى وحمزة والكسائي (كبير الإثم) على الإفراد الذي يراد به الجمع وهذا كقولوه * (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) * الشعراء 100 وكقوله * (وحسن أولئك رفيقا) * النساء 69 ونحو هذا
واختلف الناس في الكبائر ما هي فذهب الجمهور إلى أنها السبع الموبقات التي وردت في
203

الأحاديث وقد مضى القول في ذكرها واختلاف الأحاديث فيها في سورة النساء
وتحرير القول في الكبائر أنها كل معصية يوجد فيها حد في الدنيا أو توعد بنار في الآخرة أو لعنة ونحو هذا خاصا بها فهي كثيرة العدد ولهذا قال ابن عباس حين قيل له أسبع هي فقال هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع
وقال زيد بن أسلم (كبير الإثم) هنا يراد به الكفر و * (الفواحش) * هي المعاصي المذكورة
وقوله * (إلا اللمم) * هو استثناء يصح ان يكون متصلا وإن قدرته منقطعا ساغ ذلك واختلف في معنى * (اللمم) * فقال ابن عباس وابن زيد معناه ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام
قال الثعلبي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه إن سبب الآية ان الكفار قالوا للمسلمين قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا فنزلت الآية وهي مثل قوله تعالى * (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) * النساء 23 وقال ابن عباس وغيره ما ألموا من المعاصي الفلتة والسقطة دون دوام ثم يتوبون منه ذكرالطبري عن الحسن أنه قال في اللمة من الزنا والسرقة والخمر ثم لا يعود
قال القاضي أبو محمد وهذا كالذي قبله فكأن هذا التأويل يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى إذ الغالب في المؤمنين مواقعة المعاصي وعلى هذا انشدوا
وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم
(إن تغفر اللهم تغفر جما
* وأي عبد لك لا ألما) الرجز
وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي وغيرهم * (اللمم) * صغار الذنوب التي بين الحدين الدنيا والآخرة وهي ما لا حد فيه ولا وعيد مختصا بها مذكورا لها وإنما يقال صغار بالإضافة إلى غيرها وإلا فهي بالإضافة إلى الناهي عنها كبائر كلها ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا لا محالة فزنى العين النظر وزنى اللسان المنطق والفرج يصدق ذلك أو يكذبه فإن تقدم فرجه فهو زان والا فهو اللمم)
وروي ان هذه الآية نزلت في نبهان التمار فالناس لا يتخلصون من مواقعة هذه الصغائر ولهم في ذلك الحسنى إذا اجتنبوا التي هي في نفسها كبائر
وتظاهر العلماء في هذا القول وكثر المائل إليه
وذكر الطبري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه قال * (اللمم) * مادون الشرك وهذا عندي لا يصح عن عبد الله بن عمرو
وذكر المهدوي عن ابن عباس والشعبي * (اللمم) * ما دون الزنا
وقال نفطويه * (اللمم) * ما ليس بمعتاد
وقال الرماني * (اللمم) * الهم بالذنب وحديث النفس به دون ان يواقع
وحكى الثعلبي عن سعيد بن المسيب انه ما خطر على القلب وذلك هو لمة الشيطان
قال الزهراوي وقيل * (اللمم) * نظرة فجأة وقاله الحسين بن الفضل
ثم أنس تعالى بعد هذا بقوله * (إن ربك واسع المغفرة) *
وقوله تعالى * (هو أعلم بكم) * الآية روي عن عائشة انها نزلت بسبب قوم من اليهود كانوا يعظمون أنفسهم ويقولون للطفل إذا مات لهم هذا صديق عند الله ونحو هذا من الأقاويل المتوهمة فنزلت الآية فيهم ثم هي بالمعنى عامة جميع البشر وحكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل انها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم وقوله * (أعلم بكم) * قال مكي بن أبي طالب في المشكل معناه هو عالم بكم
وقال
204

جمهور أهل المعاني بل هو التفضيل بالاطلاق أي هو اعلم من الموجودين جملة والعامل في * (إذ) * * (أعلم) * وقال بعض النحاة العامل فيه فعل مضمر تقديره اذكروا إذ والمعنى الأول أبين لأن تقديره فإذا كان علمه قد أحاط بكم وأنتم في هذه الأحوال فأحرى ان يقع بكم وأنتم تعقلون وتجترحون والإنشاء من الأرض يراد به خلق آدم عليه السلام ويحتمل ان يراد به إنشاء الغذاء و * (أجنة) * جمع جنين
وقوله * (فلا تزكوا أنفسكم) * ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه ويحتمل ان يكون نهيا عن أن يزكي بعض الناس بعضا وإذا كان هذا فإنما ينهى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا والقطع بالتزكية ومن ذلك الحديث في عثمان بن مظعون عند موته
واما تزكية الإمام والقدرة أحدا ليؤتم به أوليتهم الناس بالخير فجائز وقد زكى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أبا بكر وغيره وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة للضرورة إليها وأصل التزكية إنما هو التقوى والله تعالى هو اعلم بتقوى الناس منكم
وقوله تعالى * (أفرأيت الذي تولى) * الآية قال مجاهد وابن زيد وغيرهما نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وذلك أنه سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وجلس اليه ووعظه رسول الله فقرب من الإسلام وطمع النبي عليه السلام فيه ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له أتترك ملة آبائك ارجع إلى دينك وأثبت عليه وانا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما هم به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح فنزلت الآية فيه
وذكر الثعلبي عن قوم انها نزلت في عثمان بن عفان في قصة جرت له مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح وذلك كله عندي باطل وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله وقال السدي نزلت في العاصي بن وائل فقوله * (وأعطى قليلا وأكدى) * وعلى هذا القول في المال وقال مقاتل بن حيان في كتاب الثعلبي المعنى وأعطى من نفسه قليلا من قربه من الإيمان ثم * (أكدى) * أي انقطع ما أعطى وهذا بين من اللفظ والآخر يحتاج إلى رواية و * (تولي) * معناه ادبر وأعرض ومعناه عن امر الله
* (وأكدى) * معناه انقطع عطاؤه وهو مشبه بالحافر في الأرض فإذا انتهى إلى كدية وهي ما صلب من الأرض وقف وانقطع حفره وكذلك اجبل الحافر إذ انتهى إلى جبل ثم قيل لمن انقطع عمله أكدى وأجبل
وقوله تعالى * (أعنده علم الغيب فهو يرى) * معناه أعلم من الغيب ان من تحمل ذنوب آخر فإن المتحمل عنه ينتفع بذلك فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وهو له فيه بصيرة أم هو جاهل لم ينبأ أي يعلم ما في صحف موسى وهي التوراة وفي صحف إبراهيم وهي كتب نزلت عليه من السماء من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى أي لا تحمل حاملة حمل أخرى وإنما يؤخذ كل واحد بذنوب نفسه أي فلما كان جاهلا بهذا وقع في عطاء ماله للذي قال له أني أتحمل عنك درك الآخرة
واختلف المفسرون في معنى قوله * (وفي) * ما هو الموفى فقال ابن عباس كانوا قبل إبراهيم يأخذون الولي بالولي في القتل ونحوه فوفى إبراهيم وبلغ هذا الحكم من اه
" لا تز وازرة وزر أخرى " وقال ابن عباس أيضا والربيع وفي طاعة الله في أمرذبح انه
وقال الحسن وابن جبير وقتادة وغيره وفى
205

تبليغ رسالته والظاهر في ذات ربه وقال عكرمة وفي هذه العشر الآيات * (ألا تزر) *) وما بعدها وقال ابن عباس وقتادة وغيره * (وفي) * ما افترض عليه من الطاعات على وجهها وتكلمت له شعب الإيمان والإسلام فأعطاه الله براءته من النار
قال ابن عباس وفي شرائع الإسلام ثلاثين سهما
وقال أبو أمامة ورفعه إلى النبي عليه السلام * (وفي) * أربع صلوات في كل يوم والأقوى من هذه الأقوال كلها القول العام لجميع الطاعات المستوفية لدين الإسلام فروي انها لم تفرض على أحد مكملة فوفاها الأعلى وإبراهيم ومحمد عليهما السلام ومن الحجة لذلك قوله تعالى * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) * البقرة 124
وقرا ابن جبير وأبو مالك وابن السميفع (وفي) مخففة الفاء والخلاف فيما وفى به كالخلاف فيما وفاه على القراءة الأولى التي فسرنا ورويت القراءة عن النبي عليه السلام وقرأها أبو امامة
والوازرة الثقل وأنث الازرة إما لأنه أراد النفس وإما أراد المبالغة كعلامة ونسابة وما جرى مجراها و (أن) في قوله * (ألا تزر) * مخففة من الثقيلة وتقديرها انه لا تزر وحسن الحائل بينها وبين الفعل ان بقي الفعل مرتفعا فهي كقوله * (أن سيكون منكم مرضى) * المزمل 20 ونحوه و (أن) في موضع رفع أو خفض كلاهما مرتب
قوله عز وجل
سورة النجم 39 - 51
قوله تعالى * (وأن ليس للإنسان) * وقوله بعد ذلك * (وإنه) * * (وإنه) * معطوف كل ذلك على أن المقدرة أولا في قوله (أنه لا تزر) وهي كلها بفتح الألف في قراءة الجمهور
وقرأ أبو السمال قعنب (وإن إلى ربك) بكسر الهمزة فيهما وفيما بعدها وروي عن ابن عباس رضي الله عنه ان قوله * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * منسوخ بقوله " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم " الطور 21 وهذا لا يصح عندي على ابن عباس لأنه خبر لا ينسخ ولأن شروط النسخ ليست هنا اللهم الا ان يتجوز في لفظة النسخ ليفهم سائلا وقال عكرمة كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى واما هذه الأمة فلها سعي غيرها والدليل حديث سعد بن عبادة قال يا رسول الله هل لأمي إن تطوعت عنها قال نعم
وقال الربيع بن انس (الانسان) الذي في هذه الآية هو الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره
وسأل عبد الله بن طاهر بن الحسين والي خراسان الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله * (والله يضاعف لمن يشاء) * البقرة 261 فقال ليس له بالعدل الا ما سعى وله بفضل الله ما شاء الله فقبل عبد الله رأس الحسين
وقال الجمهور الآية محكمة
والتحرير عندي في هذه الآية ان ملاك المعنى هو
206

في اللام من قوله * (للإنسان) * فإذا حققت الشيء الذي هو حق الإنسان يقول فيه لي كذا لم يجده الا سعيه وما بعد من رحمة ثم شفاعة أو رعاية أب صالح أو ابن صالح أو تضعيف حسنات أو تغمد بفضل ورحمة دون هذا كله فليس هو للإنسان ولا يسعه ان يقول لي كذا الا على تجوز وإلحاق بما هو له حقيقة
واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته ببدن ولا مال
وفرق بعض العلماء بين البدن والمال وهي عندي كلها فضائل للعامل وحسنات تذكر للمعمول عنه وقد امر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدا بالصدقة عن أمه والسعي التكسب
وقوله * (يري) * فاعله حاضر والقيامة أي يراه الله ومن شاهد الأمر وفي عرض الأعمال على الجميع تشريف للمحسنين وتوبيخ للمسيئين ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه بوم القيامة)
وفي قوله * (ثم يجزاه الجزاء الأوفى) * وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين
و * (المنتهى) * يحتمل ان يريد به الحشر والمصير بعد الموت فهو منتهى بالإضافة إلى الدنيا وإن كان بعده منتهى آخر وهو الجنة أو النار ويحتمل ان يريد ب * (المنتهى) * الجنة أو النار فهو منتهى على الإطلاق لكن في الكلام حذف مضاف إلى عذاب ربك أو رحمته
وقال أبي بن كعب قال النبي عليه السلام في قوله تعالى * (وأن إلى ربك المنتهى) * لا فكرة في الرب
وروى أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا ذكر الرب فانتهوا)
وقال أبو هريرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى أصحابه فقال (فيم أنتم) قالوا نتفكر في الخالق فقال (تفكروا في الخلق لا تتفكروا في الخالق فإنه لا تحبط به الفكرة) الحديث وذكر الضحك والبكاء لأنهما صفتان تجمعان أناسا كثيرة من الناس إذ الواحدة دليل السرور والأخرى دليل الحزن في الدنيا والآخرة فنبه تعالى
على هاتين الخاصتين اللتين هما للإنسان وحده وقال مجاهد المعنى * (أضحك) * الله أهل الجنة * (وأبكى) * أهل النار
وحكى الثعلبي في هذا أقوالا استعارية كمن قال * (أضحك) * الأرض بالنبات * (وأبكى) * السماء بالمطر ونحوه و * (أمات وأحيا) *
وحكى الثعلبي قولا إنه أحيا بالإيمان وأمات بالكفر
و * (الزوجين) * في هذه الآية يريد به المصطحبين من الناس من الرجل والمرأة وما ضارع من الحيوان والخنثى متميز ولا بد لأحد الجهتين
والنطفة في اللغة القطعة من الماء كانت يسيرة أو كثيرة ويراد بها هاهنا ماء الذكران
وقوله * (تمنى) * يحتمل ان يكون من قولك امنى الرجل إذا خرج منه المني ويحتمل ان يكون من قولك منى الله الشيء إذا خلقه فكأنه قال إذا تخلق وتقدر و * (النشأة الأخرى) * هي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البلي في التراب
وقرا الناس (النشأة) بسكون الشين والهمز والقصر وقرا أبو عمرو والأعرج (النشآة) ممدودة
* (وأقنى) * معناه اكسب يقال قنبت المال اي كسبته ثم يعدى بعد ذلك بالهمزة وقد يعدى بالتضعيف ومنه قول الشاعر
(كم من غني أصاب الدهر ثروته
* ومن فقير يقنى بعد إقلال) البسيط
وعبر المفسرون عن " أفنى " بعبارات مختلفة
وقال بعضهم " افنى " معناه اكسب ما يقتني
207

وقال مجاهد معناه أغنى وأرضى
وقال حضرمي معناه أغنى عن نفسه * (وأقنى) * أفقر عباده إليه
وقال الأخفش * (أقنى) * افقر وهذه عبارات لا تقتضيها اللفظة والوجه فيها بحسب اللغة اكسب ما يقتني
وقال ابن عباس * (أقنى) * قنع
والقناعة خير قنية والغنى عرض زائل فلله در ابن عباس و * (الشعرى) * نجم في السماء قال مجاهد وابن زيد هو من زمر الجوزاء وهما شعريان إحداهما الغميصاء والأخرى العبور لأنها عبرت المجرة وكانت خزاعة ممن يعبد هذه * (الشعرى) * ومنهم أبو كبشة ذكره الزهراوي واسمه عبد العزى فلذلك خصت بالذكر أي وهو رب هذا المعبود الذي لكم
وعاد هم قوم هود واختلف في معنى وصفها ب * (الأولي) * فقال ابن زيد والجمهور ذلك لأنها في وجه الدهر وقديمه فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة وقال الطبري سميت أولى لأن ثم عادا أخيرة وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال
قال القاضي أبو محمد والقول الأول أبين لأن هذا الأخير لم يصح
وقال المبرد عادا الأخيرة هي ثمود والدليل قول زهير
(كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
*) الطويل
ذكره الزهراوي وقيل الأخيرة الجبارون
وقرا ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي (عاد الأولى) منونة وبهمز وقرأ نافع فيما روي عنه (عادا الأولى) بإزالة التنوين والهمز
وهذا كقراءة من قرأ (أحد الله) وكقول الشاعر أبو الأسود الدؤلي
(ولا ذاكر الله الا قليلا
*) المتقارب
وقرأ قوم * (عادا الأولى) * والنطق بها (عادن الأولى)
واجتمع سكون نون التنوين وسكون لام التعريف فكسرت النون للالتقاء ولا فرق بينهما وبين قراءة الجمهور ولا ترك الهمز
وقرأ نافع أيضا وأبو عمرو بالوصل والإدغام (عاد الولي) بإدغام النون في اللام ونقل حركة الهمزة إلى اللام
وعاب أبو عثمان المازني والمبرد هذه القراءة وقال إن هذا النقل لا يخرج اللام عن حد السكون وحذف ألف الوصل ان تبقى كما تقول العرب إذا نقلت الهمزة من قولهم الأحمر فإنهم يقولون الحمر جاء فكذلك يقال ها هنا (عادا الولي) قال أبو علي والقراءة سائغة وأيضا فمن العرب من يقول لحمر جاء فيحذف الألف مع النقل ويعتد بحركة اللام ولا يراها في حكم السكون وقرا نافع فيما روى عنه (عادا الأولى) بهمز الواو ووجه ذلك أنه لما لم يكن بين الواو والضمة حائل تخيل الضمة عليها فهمزها كما تهمز الواو المضمومة وكذلك فعل من قرأ (على سؤقه) وكما قال الشاعر جرير
(لحب المؤقدان إلى موسى) الوافر
وهي لغة وقرأ الجمهور (وثمودا) بالنصب عطفا على عاد
وقرأ عاصم وحمزة والحسن وعصمة (وثمود) بغير صرف وهي في مصحف ابن مسعود بغير ألف بعد الدال
208

وقوله * (فما أبقى) * ظاهره * (فما أبقى) * عليهم وتأول ذلك بعضهم * (فما أبقى) * منهم عينا تطرف وقد قال ذلك الحجاج حين سمع قول من يقول إن ثقيفا من ثمود فأنكر ذلك وقال إن الله تعالى قال " وثمودا فما أبقى "
وهؤلاء يقولون بقي منهم باقية
قوله عز وجل
سورة النجم 52 - 62
نصب * (قوم نوح) * عطفا على (ثمود) وقوله * (من قبل) * لأنهم كانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض و * (نوح) * أول الرسل وجعلهم * (أظلم وأطغى) * لأنهم سبقوا إلى التكذيب دون اقتداء بأحد قبلهم وأيضا فإنهم كانوا في غاية من العتو وكان عمر نوح قد طال في دعائهم فكان الرجل يأتي اليه مع ابنه فيقول أحذرك من هذا الرجل فإنه كذاب ولقد حذرني منه أبي وأخبرني أن جدي حذره منه فمشت على ذلك أخلافهم ألفا الا خمسين عاما
و * (المؤتفكة) * قرية قوم لوط بإجماع من المفسرين ومعنى * (المؤتفكة) * المنقلبة لأنها أفكت فائتفكت ومنه الإفك لأنه قلب الحق كذبا وقرا الحسن بن أبي الحسن (والمؤتفكات اهوى) على الجمع
و * (أهوى) * معناه طرحها من هواء عال إلى أسفل هذا ما روي من أن جبريل عليه السلام اقتلعها بجناحه حتى بلغ بها قرب السماء ثم حولها قلبها فهبط الجميع واتبعوا حجارة وهي التي غشاها الله تعالى
وقوله * (فبأي آلاء ربك تتمارى) * مخاطبة للإنسان الكافر كأنه قيل له هذا هو الله الذي له هذه الأفاعيل وهو خالقك المنعم عليك بكل النعم ففي أيها تشك
و * (تتمارى) * معناه تتشكك
وقرأ يعقوب (ربك تمارى) بتاء واحدة مشددة
وقال أبو مالك الغفاري إن قوله * (ألا تزر) * النجم 38 إلى قوله * (تتمارى) * هو في صحف إبراهيم وموسى
وقوله * (هذا نذير) * يحتمل ان يشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهذا قول قتادة وأبي جعفر ومحمد بن كعب القرظي ويحتمل ان يشير إلى القرآن وهو تأويل قوم وقال أبو مالك الإشارة بهذا النذير إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم
و * (نذير) * يحتمل ان يكون بناء اسم فاعل ويحتمل أن يكون مصدرا ونذر جمع نذير
وقال * (الأولي) * بمعنى انه في الرتبة والمنزلة والأوصاف من تلك المتقدمة والأشبه أن تكون الإشارة إلى محمد
وقوله * (أزفت) * معناه قربت القريبة
و * (الآزفة) * عبارة عن القيامة بإجماع من المفسرين
209

وأزف معناه قرب جدا قال كعب بن زهير
(بان الشباب وأمسى الشيب قد ازفا
* ولا أرى لشباب ذاهب خلفا) البسيط
وقوله * (كاشفة) * يحتمل ان يكون صفة لمؤنث التقدير حالة * (كاشفة) * أو منه * (كاشفة) *
قال الرماني أو جماعة ويحتمل ان يكون مصدرا كالعاقبة و * (خائنة الأعين) * غافر 19
ويحتمل ان يكون بمعنى كاشف والهاء للمبالغة كما قال * (فهل ترى لهم من باقية) * الحاقة 8 واما معنى * (كاشفة) * فقال الطبري والزجاج هو من كشف السر أي ليس من دون الله من يكشف وقتها ويعلمه
وقال الزهراوي عن منذر بن سعيد هو من كشف الضر ودفعه أي ليس من يكشف خطبها وهولها
وقرا طلحة * (ليس لها) * مما تدعون * (من دون الله كاشفة) * وهي على الظالمين سوءات الغاشية وهذا الحديث هو القرآن
وقوله * (أفمن) * توقيف وتوبيخ
وفي حرف أبي وابن مسعود (تعجبون) (تضحكون) بغير واو العطف وفي قوله عز وجل * (ولا تبكون) * حض على البكاء عند سماع القرآن
وروى سعد بن أبي وقاص ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن هذا القرآن أنزل يخوف فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا) ذكره الثعلبي والسامد اللاعب اللاهي وبهذا فسر ابن عباس وغيره من المفسرين
وقال الشاعر هذيلة بنت بكر
(قيل قم فانظر إليهم
* ثم دع عنك السمود) مجزوء الكامل
وسمد بلغة حمير غنى وهو معنى كله قريب من بعض وأسند الطبري عن أبي خالد الوالي قال خرج علينا علي ونحن قيام ننتظر الصلاة فقال ما لي أراكم سامدين
قال القاضي أبو محمد يشبه انه رآهم في أحاديث ونحوه مما يظن أنه غفلة ما
وقد قال إبراهيم كانوا يكرهون ان ينتظروا خروج الامام قياما وفي الحديث (إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)
ثم أمر تعالى بالسجود وعبادة الله تحذيرا وتخويفا وهاهنا سجدة في قول كثير من أهل العلم منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وردت بها أحاديث صحاح وليس يراها مالك رحمه الله وقال زيد بن وثاب إنه قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد
210

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القمر
وهي مكية بإجماع الا آية واحدة اختلف فيها فقال جمهور الناس هي مكية وقال قوم هي مما نزل ببدر وقيل بالمدينة وهي * (سيهزم الجمع) * القمر 45 الآية وسيأتي القول في ذلك
قوله عز وجل
سورة القمر 1 - 8
* (اقتربت) * معناه قربت الا انه أبلغ كما أن اقتدر أبلغ من قدر و * (الساعة) * القيامة وأمرها مجهول التحديد لم يعلم الا انها قربت دون تحديد وقال النبي صلى الله عليه وسلم (بعثت أنا والساعة كهاتين) وأشار بالسبابة والوسطى
وقال أنس خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال (ما بقي من الدنيا فيما مضى الا كمثل ما بقي من هذا اليوم)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إني لأرجو ان يؤخر الله أمتي نصف يوم) وهذا منه على جهة الرجاء والظن لم يجزم به خبرا فأناب الله به على امله وأخر أمته أكثر من رجائه وكل ما يروى عن عمر الدنيا من التحديد فضعيف واهن
وقوله * (انشق القمر) * إخبار عما وقع في ذلك وذكر الثعلبي انه قيل إن المعنى ينشق القمر يوم القيامة وهذا ضعيف الأمة على خلافه وذلك أن قريشا سألت رسول الله آية فقيل مجملة وهذا قول الجمهور وقيل بل عاينوا شق القمر ذكره الثعلبي عن ابن عباس فأراهم الله انشقاق القمر فرآه رسول الله وجماعة من المسلمين والكفار فقال رسول الله (أشهدوا) وممن قال من الصحابة رأيته عبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وأخبر به عبد الله بن عمر وأنس وابن عباس وحذيفة بن اليمان وقال المشركون عند ذلك سحرنا محمد
وقال بعضهم سحر القمر وقالت قريش استخبروا المسافرين القادمين عليكم فما
211

ورد أحد الا أخبر بانشقاقه وقال ابن مسعود رأيته انشق فذهبت فرقة وراء جبل حراء وقال ابن زيد كان يرى نصفه على قعيقعان والآخر على أبي قبيس
وقرا حذيفة (اقتربت الساعة وقد انشق القمر) وذكر الثعلبي عنه ان قراءته (اقتربت الساعة انشق القمر) دون واو
وقوله * (وإن يروا) * جاء اللفظ مستقبلا لينتظم مستقبلا ما مضى وما يأتي فهو إخبار بان حالهم هكذا واختلفت الناس في معنى * (مستمر) * فقال الزجاج قيل معناه دائم متماد
وقال قتادة ومجاهد والكسائي والفراء معناه مار ذاهب عن قريب يزول
وقال أبو العالية والضحاك معناه مشدود من مرائير الحبل كأنه سحر قد امر أي أحكم
ومنه قول الشاعر لقيط بن زرارة
(حتى استمرت على شزر مريرته
* صدق العزيمة لا رتا ولا ضرعا) البسيط
ثم أخبر تعالى بأنهم كذبوا واتبعوا شهواتهم وما يهوون من الأمور لا بدليل ولا بتثبت ثم قال على جهة الخير الجزم * (وكل أمر مستقر) * يقول وكل شيء إلى غاية فالحق يستقر ظاهرا ثابتا والباطل يستقر زاهقا ذاهبا
وقرا أبو جعفر بن القعقاع (وكل مستقر) بجر (مستقر) يعني بذلك أشراطها
والجمهور على كسر القاف من (مستقر) وقرأ نافع وابن نصاح بفتحها قال أبو حاتم لا وجه الفتح القاف
و * (الأنباء) * جمع نبأ ويدخل في هذا جميع ما جاء به القرآن من المواعظ والقصص ومثلات الأمم الكافرة و * (مزدجر) * معناه موضع زجر وانتهاء وأصله مزتجر قلبت التاء دالا ليناسب مخرجها مخرج الزاي وكذلك تبدل تاء افتعل من كل فعل أوله زاي كازدلف وازداد ونحوه
وقوله * (حكمة) * مرتفع اما على البدل من " ما " في قوله * (ما فيه) * وإما على خبر ابتداء تقديره هذه حكمة و " بالغة " معناه يبلغ المقصد بها من وعظ النفوس والبيان لمن له عقل
وقوله " فما تغني النذر " يحتمل أن تكون " ما " نافية أي ليس تغني مع عتو هؤلاء الناس ويحتمل أن تكون " ما " استفهاما بمعنى التقرير أي فما غناء النذر مع هؤلاء الكفرة ثم سلى نبيه بقوله * (فتول عنهم) * أي لا تذهب نفسك عليهم حسرات وتم القول في قوله * (عنهم) * ثم ابتدأ وعيدهم والعامل في * (يوم) * قوله * (يخرجون) * و * (خشعا) * حال من الضمير في * (يخرجون) * وتصرف الفعل يقتضي تقدم الحال قال المهدوي ويجوز ان يكون حالا من الضمير في * (عنهم) * قال الرماني المعنى * (فتول عنهم) * واذكر * (يوم) *
وقال الحسن المعنى * (فتول عنهم) * إلى * (يوم) * وانحذفت الواو من * (يدع) * لأن كتبة المصحف اتبعوا اللفظ لا ما يقتضيه الهجاء واما حذف الياء من * (الداع) * ونحوه فقال سيبويه حذفوه تخفيفا
وقال أبو علي حذفت مع الألف واللام إذ هي تحذف مع معاقبهما وهو التنوين
وقرأ جمهور الناس نكر بضم الكاف
وقرأ ابن كثير وشبل والحسن (نكر) بكسر الكاف وقرا مجاهد والجحدري وأبو قلابة (نكر) بكسر الكاف وفتح الراء على أنه فعل مبني للمفعول والمعنى في ذلك كله
212

انه منكور غير معروف ولا مرئي مثله
قال الخليل النكر نعت للأمر الشديد والرجل الداهية
وقال مالك بن عوف النصري
(أقدم محاج إنه يوم نكر
* مثلي على مثلك يحمي ويكر) الرجز
ونكر فعل وهو صفة وذلك قليل في الصفات ومنه مشية سجح وقال الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري
(دعوا التخاجؤ وامشوا مشية سجحا
* أن الرجال ذوو عصب وتذكير) البسيط
ومنه رجل شلل وناقة أجد
وقرا جمهور القراء (خشعا) وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة والحسن وقتادة
وقرا أبو عمرو وحمزة والكسائي (خاشعا) وهي قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وهو إفراد بمعنى الجمع ونظيره قول الشاعر الحارث بن أوس الإيادي
(وشباب حسن أوجههم
* من إياد بن نزار بن معد) الرمل
ورجح أبو حاتم هذه القراءة وذكر ان رجلا من المتطوعة قال قبل ان يستشهد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن (خشعا وخاشعا) فقال (خاشعا) بالألف وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله (خاشعة)
وخص الأبصار بالخشوع لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو صلف أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر
و * (الأجداث) * جمع جدث وهو القبر وشبههم بالجراد المنتشر وقد شبههم في أخرى ب * (الفراش المبثوث) * القارعة 4 وفيهم من كل هذا شبه وذهب بعض المفسرين إلى أنهم أولا كالفراش حين يموجون بعض في بعض ثم في رتبة أخرى كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي وفي الحديث إن مريم بنت عمران دعت للجراد فقالت اللهم اعشها بغير رضاع وتابع بينها بغير شباع
والمهطع المسرع في مشيه نحو الشيء مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد إما لخوف أو طمع أو نحوه و * (يقول الكافرون هذا يوم عسر) * لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته
قوله عز وجل
سورة القمر 9 - 17
سوق هذه القصة وعيد لقريش وضرب مثل لهم وقوله * (وازدجر) * إخبار من الله انهم زجروا نوحا
213

بالسب والنجه والتخويف قاله ابن زيد وقرأ * (لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) * الشعراء 116 وذهب مجاهد إلى أن * (وازدجر) * من كلام * (قوم نوح) * كأنهم قالوا * (مجنون وازدجر) * والمعنى استطير جنونا واستعر جنونا وهذا قول فيه تعسف وتحكم
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم والأعرج والحسن (أني) بفتح الألف أي (بأنه) كان دعاءه كأن هذا المعنى وقرأ عاصم أيضا وابن أبي إسحاق وعيسى (إني) بكسر الألف كأن دعاءه كان هذا اللفظ قال سيبويه المعنى قال إني
وذهب جمهور المفسرين إلى أن المعنى أني قد غلبني الكفار بتكذيبهم وتخويفهم انتصر لي منهم بان تهلكهم ويحتمل ان يريد فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك ويؤيده قول ابن عباس ان المراد بقوله لمن كان كفر الله تعالى فوقعت الإجابة على نحو ما دعا نوح عليه السلام وذهبت المتصوفة إلى أن المعنى إني قد غلبتني نفسي في افراطي في
الدعاء على قومي فانتصر مني يا رب بمعاقبة إن شئت والقول الأول هو الحق إن شاء الله يدل على ذلك اتصال قوله * (ففتحنا) * الآية وذلك هو الانتصار من الكفار
وقرأ جمهور القراء (ففتحنا) بتخفيف التاء
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج (ففتحنا) بشدها على المبالغة ورجحها أبو حاتم لقوله تعالى * (مفتحة لهم الأبواب) * ص 50 قال النقاش يعني بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العبية وقال قوم من أهل التأويل الأبواب حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء
وقال جمهور المفسرين بل هو مجاز وتشبيه لأن المطر كثر كأنه من أبواب
والمنهمر الشديد الوقوع الغزير
قال امرؤ القيس
(راح تمريه الصبا ثم انتحى
* فيه شؤبوب جنوب منهمر) الرمل
وقرأ الجمهور (وفجرنا) بشد الجيم
وقرأ ابن مسعود وأصحابه وأبو حيوة عن عاصم (وفجرنا) بنخفيفها
وقرأ الجمهور (فالتقى الماء) على اسم الجنس الذي يعم ماء السماء وماء العيون
وقرأ الحسن وعلي بن أبي طالب وعاصم الجحدري
(فالتقى الماءان) ويروى عن الحسن (فالتقى الماوان)
وقوله * (على أمر قد قدر) * قال فيه الجمهور على رتبة وحالة قد قدرت في الأزل وقضيت
وقال جمهور من المتأولين المعنى على مقادير قد قدرت ورتبت وقت التقائه ورووا ان ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا وكان ماء السماء ينزل عليه بقية أربعين ذراعا أو نحو هذا لأنه مما اختلفت فيه الروايات ولا خبر يقطع العذر في شيء من هذا التحرير
وقرأ أبو حيوة (قدر) بشد الدال
وذات الألواح والدسر هي السفينة قيل كانت ألواحها وخشبها من ساج والدسر المسامير واحدها دسار وهذا هو قول الجمهور وهو عندي من الدفع المتتابع لأن المسمار يدفع أبدا حتى يستوي
وقال الحسن وابن عباس أيضا الدسر مقادم السفينة لأنها تدسر الماء أي تدفعه
والدسر الدفع
وقال مجاهد وغيره نطق السفينة
وقال أيضا هو أرض السفينة
وقال أيضا أضلاع السفينة وقد تقدم القول في شرح قصة السفينة مستوعبا وجمهور الناس على أنها كانت على هيئة السفن اليوم كجؤجؤ الطائر وورد في بعض الكتب انها
214

كانت مربعة طويلة في السماء واسعة السفل ضيقة العلو وكان أعلاها مفتوحا للهواء والتنفس قال لأن الغرض منها إنما كانت السلامة حتى ينزل الماء ولم يكن طلب الجري وقصد المواضع المعينة ومع هذه الهيئة فلها مجرى ومرسى والله أعلم كيف كانت والكل محتمل
وقوله * (بأعيننا) * قال الجمهور معناه بحفظنا وحفايتنا وتحت نظرنا لأهلها فسمى هذه الأشياء أعينا تشبيها إذ الحافظ المتحفي من البشر إنما يكون ذلك الأمر نصب عينه وقيل المراد من حفظها من الملائكة سماهم عيونا وقال الرماني وقيل إن قوله * (بأعيننا) * يريد العيون المفجرة من الأرض
قال القاضي أبو محمد وهذا ضعيف
وقرا أبو السمال (بأعينا) مدغمة
وقرأ جمهور الناس (كفر) بضم الكاف وكسر الفاء واختلفوا في المعنى فقال ابن عباس ومجاهد من يراد بها الله تعالى كأنه قال غضبا وانتصارا لله أي انتصر لنفسه فأنجى المؤمنين وأغرق الكافرين
وقال مكي وقيل (من) يراد بها نوح والمؤمنين لأنهم كفروا من حيث كفر بهم فجازاهم الله بالنجاة
وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة (كفر) بفتح الكاف والفاء والضمير في * (تركناها) * قال مكي بن أبي طالب هو عائد على هذه الفعلة والقصة
وقال قتادة والنقاش وغيره هو عائد على هذه السفينة قالوا وإن الله تعالى أرسلها على الجودي حين تطاولت الجبال وتواضع وهو جبيل بالجزيرة بموضع يقال له باقردى وأبقى خشبها هنالك حتى رأت بعضه أوائل هذه الأمة
وقال قتادة وكم من سفينة كانت بعدها صارت رصودا و * (مدكر) * أصله مذتكر أبدلوا من التاء ذالا ليناسب الدال في النطق ثم أدغموا الدال في الدال وهي قراءة الناس قال أبو حاتم رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح وقرأ قتادة مذكر بالذال على إدغام الثاني في الأول قال أبو حاتم وذلك رديء ويلزمه ان يقرأ
واذكر بعد أمة وتذخرون في بيوتكم
وقوله تعالى * (فكيف كان عذابي ونذر) * توقيف لقريش وتوبيخ والنذر هنا جمع نذير المصدر بمعنى كان عاقبة انذاري لمن لم يجعل به كانتم أيها القوم
و * (يسرنا القرآن) * معناه سهلناه وقربناه و (الذكر) الحفظ عن ظهر قلب قال ابن جبير لم يستظهر من كتب الله سوى القرآن
قال القاضي أبو محمد يسر بما فيه من حسن النظر وشرف المعاني فله لوطة بالقلوب وامتزاج بالعقول السليمة
وقوله * (فهل من مدكر) * استدعاء وحض على ذكره وحفظه لتكون زواجره وعلومه وهداياته حاضرة في النفس
قال مطرف في قوله تعالى * (فهل من مدكر) * هل من طالب علم فيعان عليه
قال القاضي أبو محمد الآية تعديد نعمة في أن الله يسر الهدى ولا بخل من قبله فلله در من قبل وهدى
وقد تقدم تعليل * (مدكر) *
215

قوله عز وجل
سورة القمر 18 - 26
* (عاد) * قبيلة وقد تقدم قصصها
وقوله تعالى * (فكيف كان عذابي ونذر) * (كيف) نصب إما على خبر * (كان) * وإما على الحال
و * (كان) * بمعنى وجد ووقع في هذا الوجه
* (ونذر) * جمع نذير وهو المصدر
وقرأ ورش وحده (ونذري) بالياء وقرأ الباقون (ونذر) بغير ياء على خط المصحف
و (الصرصر) قال ابن عباس وقتادة معناه الباردة وهو الصر وقال جماعة من المفسرين معناه المصوتة نحو هذين الحرفين مأخوذ من صوت الريح إذا هبت دفعا كأنها تنطق بهذين الحرفين الصاد والراء وضوعف الفعل كما قالوا كبكب وكفكف من كب وكب وهذا كثير ولم يختلف القراء في سكون الحاء من (نحس) وإضافة اليوم اليه الا ما روي عن الحسن انه قرأ (في يوم) بالتنوين و (نحس) بكسر الحاء
و * (مستمر) * معناه متتابع قال قتادة استمر بهم ذلك النحس حتى بلغهم جهنم
قال الضحاك في كتاب الثعلبي المعنى كان مرا عليهم وذكره النقاش عن الحسن وروي ان ذلك اليوم الذي كان لهم فيه * (نحس مستمر) * كان يوم أربعاء وورد في بعض الأحاديث في تفسير هذه الآية * (يوم نحس مستمر) * يوم الأربعاء فتأول في ذلك بعض الناس انه يصحب في الزمن كله وهذا عندي ضعيف وإن كان الدولابي أبو بشر قد ذكر حديثا رواه أبو جعفر المنصور عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه عبد الله بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر) ويوجد نحو هذا في كلام الفرس والأعاجم وقد وجد ذكر الأربعاء التي لا تدور في شعر لبعض الخراسانيين المولدين وذكر الثعلبي عن زر بن حبيش في تفسير هذا اليوم لعاد انه كل يوم أربعاء لا تدور وذكره النقاش عن جعفر بن محمد وقال كان القمر منحوسا بزحل وهذه نزعة سوء عياذا بالله ان تصح عن جعفر بن محمد
وقوله * (تنزع الناس) * معناه تنقلهم من مواضعهم نزعا فتطرحهم
وروى عن مجاهد انها كانت تلقى الرجل على رأسه فيتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه فلذلك حسن التشبيه ب (أعجاز) النخل وذلك أن المنقعر هو الذي ينقلب من قعره
فذلك التشعث والشعب التي لأعجاز النخل كان يشبهها ما تقطع وتشعث من شخص الانسان وقال قوم إنما شبههم ب (أعجاز النخل) لأنهم كانوا يحفرون حفرا ليمتنعوا فيها من الريح فكأنه شبه تلك الحفر بعد النزع بحفر أعجاز النخل والنخل يذكر ويؤنث فلذلك قال هنا * (منقعر) * وفي غير هذه السورة * (خاوية) * الحاقة 7 والكاف في قوله * (كأنهم أعجاز) * في موضع الحال قاله الزجاج وما روى من خبر الخلجان وغيره وقوتهم ضعيف كله وفائدة تكرار قوله * (فكيف كان عذابي ونذر) * التخويف وهز النفس قال الرماني لما كان الانذار أنواعا كرر التذكير والتنبيه وفائدة تكرار قوله * (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) * التأكيد والتحريض وتنبيه الأنفس
وهذا موجود في تكرار الكلام مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم (ألا هل بلغت ألا هل بلغت)
ومثل
216

قوله (ألا وقول الزور ألا وقول الزور ألا وقول الزور)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا فهذا كله نحو واحد وإن تنوع و * (ثمود) * قبيلة صالح عليه السلام وهم أهل الحجر
وقرأ الجمهور (أبشرا منا واحدا) ونصب قوله (بشرا) بإضمار فهل يدل عليه قوله * (نتبعه) * و (واحدا) نعت ل (بشر)
وقرا أبو السمال (أبشر منا واحدا نتبعه) ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول التقدير أينبأ بشر وإما على الابتداء والخبر في قوله * (نتبعه) * و (واحدا) على
هذه القراءة إما من الضمير في * (نتبعه) * وإما عن المقدر مع * (منا) * كأنه يقول أبشر كائن منا واحدا وفي هذا نظر
وحكى أبو عمر والداني قراءة أبي السمال (أبشر منا واحد) بالرفع فيهما
وهذه المقالة من ثمود حسد منهم واستبعاد منهم ان يكون نوع المبشر يفضل بعضه بعضا هذا الفضل فقالوا أنكون جمعا ونتبع واحدا ولم يعلموا ان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ويفيض نور الهدى من رضيه
وقوله * (في ضلال) * معناه في امر متلف مهلك بالإتلاف * (وسعر) * معناه في احتراق أنفس واستعارها حنقا وهما باتباعه وقيل في السعر العناء وقاله قتادة
وقيل الجنون ومنه قولهم ناقة بمعنى مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها ثم زادوا في التوقي بقولهم " أألقي الذكر عليه من بيننا " و * (القي) * بمعنى انزل وكأنه يتضمن عجلة في الفعل والعرب تستعمل هذا الفعل ومنه قوله تعالى * (وألقيت عليك محبة مني) * طه 39 ومنه قوله * (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) * المزمل 5 و * (الذكر) * هنا الرسالة وما يمكن ان جاءهم به من الحكمة والموعظة ثم قالوا * (بل هو كذاب أشر) * اي ليس الأمر كما يزعم والأشر البطر والمرح فكأنهم رموه بأنه * (أشر) * فأراد العلو عليهم وان يقتادهم ويتملك طاعتهم فقال الله تعالى لصالح (سيعلمون غدا) وهذه الياء من تحت قراءة علي بن أبي طالب وجمهور الناس
وقرا ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وابن وثاب وطلحة والأعمش (ستعلمون) بالتاء على معنى قل لهم يا صالح
وقوله * (غدا) * تقريب يريد به الزمان المستقبل لا يوما بعينه ونحو المثل مع اليوم غد
وقرأ جمهور الناس (الأشر) بكسر السين كحذر بكسر الذال
وقرأ مجاهد فيما ذكر عنه الكسائي (الأشر) بضم الشين كحذر بضم الذال وهما بناءان من اسم الفاعل
وقرأ أبو حيوة (الأشر) بفتح الشين كأنه وصف بالمصدر
وقرأ أبو قلابة (الأشر) بفتح الشين وشد الراء وهو الأفعل ولا يستعمل بالألف واللام وهو كان الأصل لكنه رفض تخفيفا وكثرة استعمال
217

قوله عز وجل
سورة القمر 27 - 35
هذه * (الناقة) * التي اقترحوها ان تخرج لهم من صخرة صماء من الجبل وقد تقدم قصصها فأخبر الله تعالى صالحا على جهة التأنيس أنه يخرج لهم الناقة ابتلاء واختبارا ثم امره بارتقاب الفرج وبالصبر
* (واصطبر) * أصله اصتبر
افتعل أبدلت التاء طاء لتناسب الصاد
ثم أمره بأن يخبر ثمود * (أن الماء قسمة بينهم) *
و * (الماء) * هو ماء البئر التي كانت لهم واختلف المتأولون في معنى هذه القسمة فقال جمهور منهم * (قسمة بينهم) * يتواسونه في اليوم الذي لا ترده الناقة وذلك فيما روي أن الناقة كانت ترد البئر غبا وتحتاج جميع مائه يومها فنهاهم الله عن أن يستأثر أهل اليوم الذي لا ترد الناقة فيه بيومهم وأمرهم بالتواسي مع الذين ترد الناقة في يومهم
وقال آخرون معناه الماء بين جميعهم وبين الناقة قسمة
و * (محتضر) * معناه محضور مشهود متواسي فيه وقال مجاهد المعنى * (كل شرب) * أي من الماء يوما ومن لبن الناقة يوما * (محتضر) * لهم فكأنه أنبأهم الله عليهم في ذلك و * (صاحبهم) * هو قدار بن سالف وبسببه سمي الجزار القدار لشبه في الفعل قال الشاعر عدي بن ربيعة
(إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم
* ضرب القدار نقيعة القدام) الكامل
وقد تقدم شرح امر قدار بن سالف
وتعاطى مطاوع عاطى فكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وأعطاها بعضهم بعضا فتعاطاها هو وتناول العقر بيده قاله ابن عباس ويقال للرجل الذي يدخل نفسه في تحمل الأمور الثقال متعاط على الوجه الذي ذكرناه والأصل عطا يعطو إذا تناول ثم يقال عاطى وهو كما تقول جرى وجاري وتجارى وهذا كثير ويروى انه كان مع شرب وهم التسعة الرهط فاحتاجوا ماء فلم يجدوه بسبب ورد الناقة فحمله أصحابه على عقرها
ويروى أن ملأ القبيل اجتمع على أن يعقرها ورويت أسباب غير هذين وقد تقدم ذلك
والصيحة يروى ان جبريل عليه السلام صاحها في طرف من منازلهم فتفتتوا وهمدوا * (فكانوا كهشيم المحتظر) * والهشيم ما تفتت وتهشم من الأشياء
وقرأ جمهور الناس (كهشيم المحتظر) بكسر الظاء ومعناه الذي يصنع حظيرة من الرعاء ونحوهم قاله أبو إسحاق السبيعي والضحاك وابن زيد وهي مأخوذة من الحظر وهو المنع والعرب وأهل البوادي يصنعونها للمواشي وللسكنى أيضا من الأغصان والشجر المورق والقصب ونحوه وهذا كله هشيم يتفتت إما في أول الصنعة وإما عند بلى الحظيرة وتساقط اجزائها
وحكى الطبري عن ابن عباس وقتادة ان (المحتظر) معناه المحترق
قال قتادة كهشيم محرق
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء (المحتظر) بفتح الظاء ومعناه الموضع الذي احتظر فهو مفعل من الحظر أو الشيء الذي احتظر به
وقد روي عن سعيد بن جبير انه فسر * (كهشيم المحتظر) * بان قال هو التراب الذي سقط من الحائط البالي وهذا متوجه لأن الحائط حظيرة والساقط هشيم
وقال أيضا هو وغيره * (المحتظر) * معناه المحرق بالنار
218

كأنه ما في الموضع المحتظر بالنار وما ذكرناه عن ابن عباس وقتادة هو على قراءة كسر الظاء وفي هذا التأويل بعض البعد
وقال قوم (المحتظر) بالفتح الهشيم نفسه وهو مفتعل وهو كمسجد الجامع وشبهه
وقد تقدم قصص قوم لوط
والحاصب السحاب الرامي بالبرد وغيره وشبه تلك الحجارة التي رمى بها قوم لوط به بالكثرة والتوالي وهو مأخوذ من الحصباء كان السحاب يحصب مقصده ومنه قول الفرزدق
(مستقبلين شمال الشام تحصبهم
* بحاصب كنديف القطن منثور) البسيط
وقال ابن المسيب سمعت عمر بن الخطاب يقول لأهل المدينة مصروف لأنه نكرة لم يرد به يوم بعينه
وقوله * (نعمة) * نصب على المصدر اي فعلنا ذلك إنعاما على القوم الذين نجيناهم وهذا هو جزاؤنا لمن شكر نعمنا وآمن وأطاع
قوله عز وجل
سورة القمر 36 - 44
المعنى ولقد انذر لوط قومه أخذنا إياهم و * (بطشتنا) * بهم أي عذابنا لهم و * (تماروا) * معناه تشككوا وأهدى بعضهم الشك إلى بعض بتعاطيهم الشبه والضلال و * (النذر) * جمع نذير
وهو المصدر ويحتمل ان يراد * (بالنذر) * هنا وفي قوله * (كذبت قوم لوط بالنذر) * القمر 33 جمع نذير الذي هو اسم الفاعل والضيف يقع للواحد والجميع وقد تقدم ذكر أضيافه وقصصهم مستوعبا
وقوله * (فطمسنا أعينهم) * قال قتادة هي حقيقة جر جبريل شيئا من جناحه على أعينهم فاستوت مع وجوههم
قال أبو عبيدة مطموسة بجلد كالوجه
وقال ابن عباس والضحاك هي استعارة وإنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا فجعل ذلك كالطمس
وقوله تعالى * (بكرة) * قيل كان ذلك عند طلوع الفجر وأدغم ابن محيصن الدال في الصاد من قوله * (ولقد صبحهم) * والجمهور على غير الإدغام
* (بكرة) * نكرة فلذلك صرفت
وقوله * (فذوقوا عذابي) * يحتمل ان يكون من قول الله تعالى لهم ويحتمل ان يكون من قول الملائكة * (ونذر) * جمع المصدر أي وعاقبة نذري التي كذبتم بها وقوله * (مستقر) * في صفة العذاب لأنه لم يكشف عنهم كاشف بل اتصل ذلك بموتهم وهم مدة موتهم تحت الأرض معذبون بانتظار جهنم ثم يتصل ذلك بعذاب النار فهو امر متصل مستقر وكرر * (فذوقوا عذابي ونذر) * تأكيدا وتوبيخا وروى ورش عن نافع (نذري) بياء
219

و * (آل فرعون) * قومه واتباعه ومنه قول الشاعر أراكة الثقفي
(فلا تبك ميتا بعد ميت أجنه
* علي وعباس وآل أبي بكر) الطويل
يريد المسلمين في مواراة النبي عليه السلام ويحتمل ان يريد ب * (آل فرعون) * قرابته على عرف الآن وخصصهم بالذكر لأنهم عمدة القوم وكبراؤهم
وقوله * (كذبوا بآياتنا) * يحتمل ان يريد * (آل فرعون) * المذكورين و * (أخذناهم) * كذلك يريدهم بالضمير لأن ذلك الإغراق الذي كان في البحر كان بالعزة والقدرة ويكون قوله * (بآياتنا) * يريد بها التسع ثم أكد بكلها ويحتمل ان يكون قوله * (ولقد جاء آل فرعون النذر) * كلاما تاما ثم يكون قوله * (كذبوا بآياتنا كلها) * يعود الضمير في * (كلها) * على جميع من ذكر من الأمم المذكورة
وقوله تعالى * (أكفاركم) * الآية خطاب لقريش وفهم على جهة التوبيخ
أثم خصلة من المال أو قوة أبدان وبسطة أو عقول أو غير ذلك ممنا يقتضي أنكم خير من هؤلاء المعذبين لما كذبوا فيرجى لكم بذلك الفضل النجاء من العذاب حين كذبتم رسولكم * (أم لكم) * في كتب الله المنزلة * (براءة) * من العذاب قاله الضحاك وابن زيد وعكرمة ثم قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم * (أم يقولون) * نحن واثقون بجماعتنا منتصرون بقوتنا على جهة الإعجاب والتعاطي سيهزمون فلا ينفع جمعهم
وقرأ أبو حيوة (أم تقولون) بالتاء من فوق
قوله عز وجل
سورة القمر 45 - 55
هذه عدة من الله تعالى لرسولة ان جمع قريش سيهزم نصرة له والجمهور على أن الآية مكية وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال كنت أقول في نفسي أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت في الدرع ويقول * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) *
قال القاضي أبو محمد فإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر مستشهدا بالآية
وقال قوم إن الآية نزلت يوم بدر
وقال أبو حاتم وقرا بعض القراء (سيهزم) بفتح الياء وكسر الزاي (الجمع) نصبا قال أبو عمرو الداني قرا أبو حيوة (سنهزم) بالنون وكسر الزاي (الجمع) نصبا
(وتولون) بالتاء من فوق ثم تركت هذه
220

الأقوال وأضرب عنها تهمما بأمر الساعة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتل فقال * (بل الساعة موعدهم) *
و * (أدهى) * أفعل من الداهية وهي الرزية العظمى تنزل بالمرء
* (وأمر) * من المرارة واللفظة ليست هنا مستعارة لأنها ليست فيما يذاق
ثم أخبر تعالى عن المجرمين انهم في الدنيا في حيرة وإتلاف وفقد هدى وفي الآخرة في احتراق وتسعر من حيث هم صائرون إليه قال ابن عباس المعنى في خسران وجنون والسعر الجنون
وأكثر المفسرين على أن * (المجرمين) * هنا يراد بهم الكفار
وقال قوم المراد ب * (المجرمين) * القدرية الذين يقولون إن أفعال العباد ليست بقدر من الله وهم المتوعدون بالسحب في جهنم والسحب الجر
وفي قراءة ابن مسعود (إلى النار)
وقوله تعالى * (ذوقوا مس) * استعارات والمعنى يقال لهم على جهة التوبيخ
واختلف الناس في قوله تعالى " إنا كل شيء خلقناه بقدر " فقرأ جمهور الناس (إن كل) بالنصب والمعنى خلقنا كل شيء خلقناه بقدر وليست * (خلقناه) * في موضع الصفة لشيء بل هو فعل دال على الفعل المضمر وهذا المعنى يقتضي ان كل شيء مخلوق إلا ما قام دليل العقل على أنه ليس بمخلوق كالقرآن والصفات
وقرأ أبو السمال ورجحه أبو الفتح (إنا كل) بالرفع على الابتداء والخير * (خلقناه بقدر) *
قال أبو حاتم هذا هو الوجه في العربية وقراءتنا بالنصب مع جماعة وقرأها قوم من أهل السنة بالرفع والمعنى عندهم على نحو ما عند الأولى ان كل شيء فهو مخلوق بقدر سابق و * (خلقناه) * على هذا ليست صفة لشيء وهذا مذهب أهل السنة ولهم احتجاج قوي بالآية على هذين القولين وقالت القدرية وهم الذين يقولون لا قدر والمرء فاعل وحده أفعاله
القراءة (إن كل شيء خلقناه) برفع (كل) و * (خلقناه) * في موضع الصفة ب (كل) أي أن أمرنا وشاننا كل شيء خلقناه فهو بقدر وعلى جد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك فيزيلون بهذا التأويل موضع الحجة عليهم بالآية
وقال ابن عباس إني أجد في كتاب الله قوما * (يسحبون في النار على وجوههم) * لأنهم كانوا يكذبون بالقدر ويقولون المرء يخلق أفعاله وإني لا أراهم فلا أدري أشيء مضى قبلنا أم شيء بقي
وقال أبو هريرة خاصمت قريش رسول الله في القدر فنزلت هذه الآية قال أبو عبد الرحمن السلمي فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل أفي شيء نستأنفه أم في شيء قد فرغ منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعملوا فكل ميسر لما خلق له سنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى وقال أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (القدرية يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا انا منهم ولا هم مني)
وقوله * (إلا واحدة) * أي الا قولة واحدة وهي كن
وقوله * (كلمح البصر) * تفهيم للناس بأعجل ما يحسون وفي أشياء أمر الله تعالى أوحى من لمح البصر
والأشياع الفرق المتشابهة في مذهب ودين ونحوه الأول شيعة للآخر الآخر شيعة للأول
221

ثم اخبر تعالى ان كل أفعال الأمم المهلكة مكتوب محفوظ عليهم إلى يوم الحساب قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد
و * (مستطر) * مفتعل من السطر تقول سطرت واستطرت بمعنى وروي عن عاصم شد الراء في (مستطر) قال أبو عمرو وهذا لا يكون الا عند الوقف لغة معروفة
وقرأ جمهور الناس (ونهر) بفتح الهاء والنون على إنه اسم الجنس يريد به الأنهار أو على أنه بمعنى وسعة في الأرزاق والمنازل ومنه قول قيس بن الخطيم
(ملكت بها كفي فأنهرت فتقها
* يرى قائم من دونها ما وراءها) الطويل
فقوله (انهرت) معناه جعلت فتقها كنهر
وقرا زهير الفرقبي والأعمش (ونهر) بضم النون والهاء على أنه جمع نهار إذ لا ليل في الجنة وهذا سائغ في اللفظ قلق في المعنى ويحتمل ان يكون جمع نهر
وقرأ مجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان (نهر) ساكنة الهاء على الإفراد
وقوله تعالى * (مقعد صدق) * يحتمل ان يريد به الصدق الذي هو ضد الكذب أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به ويحتمل ان يكون من قولك عود صدق أي جيد ورجل صدق أي خبر وخلال حسان
وقرأ جمهور الناس (في مقعد) على اسم الجنس
وقرا عثمان البتي (في مقاعد) على الجمع
والمليك المقتدر الله تعالى
222

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرحمن
وهي مكية فيما قال الجمهور من الصحابة والتابعين
وقال نافع بن أبي نعيم وعطاء وقتادة وكريب وعطاء الخراساني عن ابن عباس هي مدنية نزلت عند إباية سهيل بن عمرو وغيره أن يكتب في الصلح بسم الله الرحمن الرحيم والأول أصح وإنما نزلت حين قالت قريش بمكة وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وفي السيرة ان ابن مسعود جهر بقراءتها في المسجد حتى قامت اليه أندية قريش فضربوه وذلك قبل الهجرة
قوله عز وجل
سورة الرحمن 1 - 13
* (الرحمن) * بناء مبالغة من الرحمة وهو اسم اختص الله تعالى بالاتصاف به وحكى ابن فورك عن قوم انهم يجعلون * (الرحمن) * آية تامة كأن التقدير * (الرحمن) * ربنا قاله الرماني أو ان التقدير الله * (الرحمن) *
وقال الجمهور إنما الآية * (الرحمن علم القرآن) * فهو جزء آية
وقوله * (علم القرآن) * تعديد نعمة أي هو من به وعلمه الناس وخص حفاظه وفهمته بالفضل
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)
ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق ان الله تعالى ذكر * (القرآن) * في كتابه في أربعة وخمسين موضعا ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار اليه وذكر * (الإنسان) * على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعا كلها نصت على خلقه وقد اقترن ذكرهما في هذه السورة على هذا النحو و * (الإنسان) * اسم الجنس حكاه الزهراوي وغيره
و * (البيان) * النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول قاله ابن زيد والجمهور وذلك هو الذي فضل الإنسان من سائر الحيوان وقال قتادة هو بيان الحلال والحرام والشرائع وهذا جزء من * (البيان) * العام وقال قتادة * (الإنسان) * آدم
وقال ابن كيسان * (الإنسان) * محمد صلى الله عليه وسلم
223

قال القاضي أبو محمد وهذا التخصيص لا دليل عليه وكل المعلومات داخلة في البيان الذي علمه الإنسان فكأنه قال من ذلك البيان وفيه معتبر كون * (الشمس والقمر بحسبان) * فحذف هذا كله ورفع * (الشمس) * بالابتداء وهذا ابتداء تعديد نعم
واختلف الناس في قوله * (بحسبان) * فقال مكي والزهراوي عن قتادة هو مصدر كالحساب في المعنى وكالغفران والطغيان في الوزن
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى والضحاك هو جمع حساب كشهاب وشهبان والمعنى أن هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج وغير ذلك حسابات شتى وهذا مذهب ابن عباس وأبي مالك وقتادة
وقال ابن زيد لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئا يريد من مقادير الزمان
وقال مجاهد الحسبان الفلك المستدير شبه بحسبان الرحى وهو العود المستدير الذي باستدارته تدور المطحنة
وقوله * (والنجم والشجر يسجدان) * قال ابن عباس والسدي وسفيان * (النجم) * النبات الذي لا ساق له وسمي نجما لأنه نجم أي ظهر وطلع وهو مناسب للشجر نسبة بينة
وقال مجاهد وقتادة والحسن * (النجم) * اسم الجنس من نجوم السماء والنسبة التي لها من السماء هي التي للشجر من الأرض لأنها في ظاهرهما
وسمي * (الشجر) * من اشتجار غصونه وهو تداخلها
واختلف الناس في هذا السجود فقال مجاهد ذلك في النجم بالغروب ونحوه وفي الشجر بالظل واستدارته وكذلك في النجم على القول الآخر
وقال مجاهد أيضا ما معناه ان السجود في هذا كله تجوز وهو عبارة عن الخضوع والتذلل ونحوه قول الشاعر زيد الخيل
(ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
*) الطويل
وقال * (يسجدان) * وهما جمعان لأنه راعى اللفظ إذ هو مفرد اسم للنوع وهذا كقول الشاعر عمير بن شييم القطامي
(ألم يحزنك ان حبال قومي
* وقومك قد تباينتا انقطاعا) الوافر
وقرأ الجمهور (والسماء رفعها) بالنصب عطفا على الجملة الصغيرة وهي * (يسجدان) * لأن هذه الجملة من فعل وفاعل وهذه كذلك
وقرأ أبو السمال (والسماء) بالرفع عطفا على الجملة الكبيرة وهي قوله * (والنجم والشجر يسجدان) * لأن هذه الجملة من ابتداء وخبر والأخرى كذلك
وفي مصحف ابن مسعود (وخفض الميزان) ومعنى * (وضع) * أقر وأثبت و " الميزان " العدل فيما قال الطبري ومجاهد وأكثر الناس
وقال ابن عباس والحسن وقتادة إنه الميزان المعروف
قال القاضي أبو محمد والميزان المعروف جزء من " الميزان " الذي يعبر به عن العدل
ويظهر عندي ان قوله * (وضع الميزان) * يريد به العدل
وقوله * (ألا تطغوا في الميزان) * وقوله * (وأقيموا الوزن) * وقوله * (ولا تخسروا الميزان) * يريد به الميزان المعروف وكل ما قيل محتمل سائغ
224

وقوله * (ألا تطغوا) * نهي عن التعمد الذي هو طغيان بالميزان
واما ما لا يقدر البشر عليه من التحرير بالميزان فذلك موضوع عن الناس
(وأن لا) هو بتقدير لئلا أو مفعول من اجله
و " تطغوا " نصب ويحتمل أن تكون (أن) مفسرة فيكون " تطغوا " جزما بالنهي وفي مصحف ابن مسعود (لا تطغوا في الميزان) بغير ان
وقرا جمهور الناس (ولا تخسروا) من اخسر أي نقص وأفسد وقال بلال بن أبي بردة (تخسروا) بفتح التاء وكسر السين من خسر ويقال خسر وأخسر بمعنى نقص وأفسد كجبر وأجبر
وقرأ بلال أيضا فما حكى ابن جني (تخسروا) بفتح التاء والسين من خسر بكسر السين
واختلف الناس في (الأنام) فقال ابن عباس فيما روي عنه هم بنو آدم فقط
وقال الحسن بن أبي الحسن هم الثقلان الجن والإنس
وقال ابن عباس أيضا وقتادة وابن زيد والشعبي هم الحيوان كله
و * (الأكمام) * في * (النخل) * موجودة في الموضعين فجملة فروع النخلة في اكمام من ليفها وطلع النخل في كم من جفه
وقال قتادة اكمام النخيل رقابها
والكم من النبات كل ما التف شيء وستره ومنه كمائم الزهر وبه شبه كم الثوب
* (والحب ذو العصف) * هو البر والشعير وما جرى مجراه من الحب الذي له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه وهي العصيفة إذا يبست ومنه قول علقمة بن عبدة
(تسقى مذانب قد مالت عصيفتها
* حدورها من أتي الماء مطموم) البسيط
قال ابن عباس * (العصف) * التبن وتقول العرب خرجنا نتعصف أي يستعجلون عصيفة الزرع
وقرأ ابن عامر وأبو البرهسم (والحب) بالنصب عطفا على * (الأرض) * (ذا العصف والريحان) الا ان البرهسم خفض النون
واختلفوا في * (الريحان) * فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك معناه الرزق ومنه قول الشاعر وهو النمر بن تولب
(سلام الإله وريحانه
* وجنته وسماء درر) المتقارب وقال الحسن هو ريحانكم هذا
وقال ابن جبير هو كل ما قام على ساق وقال ابن زيد وقتادة * (الريحان) * هو كل مشموم طيب الريح من النبات
وفي هذا النوع نعمة عظيمة
ففيه الأزهار والمندل والعقاقير وغير ذلك
وقال الفراء * (العصف) * فيما يؤكل و * (الريحان) * كل ما لا يؤكل
وقرأ جمهور الناس (والحب) بالرفع (ذو العصف والريحان) وهذه قراءة في المعنى كالأولى في الإعراب حسنة الاتساق عطفا على * (فاكهة) *
وقرا حمزة والكسائي وابن محيصن (والحب) بالرفع (ذو العصف والريحان) بخفض (الريحان) عطفا على * (العصف) * كان الحب هما له على أن * (العصف) * منه الورق
وكل ما يعصف باليد وبالريح فهو رزق البهائم * (والريحان) * منه الحب فهو رزق الناس (والريحان) على هذه القراءة الرزق لا دخل فيه المشموم بتكلف
* (والريحان) * هو من ذوات الواو
قال أبو علي إما ان يكون ريحان اسما و وضع موضع المصدر
225

وإما ان يكون مصدرا على وزن فعلان كالليان وما جرى مجراه أصله روحان أبدلت الواو ياء كما بدلوا الواو ياء في أشاوى وإما ان يكون مصدرا شاذا في المعتل كما شذ كينونة وبينونة فأصله ريوحان قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فجاء ريحان فخفف كما قالوا ميت وميت وهين وهين
والآلاء النعم واحدها إلى مثل معي وألى مثل قفا حكى هذين أبو عبيدة وألي مثل امر والي مثل حصن حكى هذين الزهراوي
والضمير في قوله * (ربكما) * للجن والإنس وساغ ذلك ولم يصرح لهما بذكر على أحد وجهين إما أنهما قد ذكرا في قوله * (للأنام) * على ما تقدم من أن المراد به الثقلان وإما على أن أمرهما مفسر في قوله * (خلق الإنسان) * الرحمن 14 * (وخلق الجان) * الرحمن 15 فساغ تقديمهما في الضمير اتساعا
وقال الطبري يحتمل ان يقال هذا من باب ألقيا في جهنم ويا غلام اضربا عنقه
وقال منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن ويروى ان هذه الآية لما قرا ها النبي صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال (إن جواب الجن خير من سكوتكم أي لما قرأتها على الجن قالوا لا بأيها نكذب يا ربنا)
قوله عز وجل
سورة الرحمن 14 - 18
قال كثير من المفسرين * (الإنسان) * آدم وقال آخرون أراد اسم الجنس وساغ ذلك من حيث أبوهم مخلوق من الصلصال
واختلف الناس في اشتقاق الصلصال فقال مكي فيما حكى النقاش هو من صل اللحم وغيره إذا نتن فهي إشارة إلى الحمأة
وقال الطبري وجمهور المفسرين هو من صل إذا صوت وذلك في الطين لكرمه وجودته فهي إشارة إلى ما كان من تربة آدم من الطين الحر وذلك أن الله تعالى خلقه من طيب وخبيث ومختلف اللون فمرة ذكر في خلقه هذا ومر هذا وكل ما في القرآن في ذلك صفات ترددت على التراب الذي خلق منه
و (الفخار) الطين الطيب إذا مسه الماء فخر أي ربا وعظم
و * (الجان) * اسم جنس كالجنة و (المارج) اللهب المضطرب من النار
قال ابن عباس وهو أحسن النار المختلط من ألوان شتى
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر (كيف بك إذا كنت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم)
وكرر قوله * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * تأكيدا أو تنبيها لنفوس وتحريكا لها وهذه طريقة من الفصاحة معروفة وهي من كتاب الله في مواضع وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم وفي كلام العرب وذهب قوم منهم ابن قتيبة وغيره إلى أن هذا التكرار إنما هو لما اختلفت النعم المذكورة كرر التوقيف مع كل واحدة منها وهذا حسن
قال الحسين بن الفضل التكرار لطرد الغفلة ولا تأكيد
226

وخص ذكر " المشرقين والمغربين " بالتشريف في إضافة الرب اليهما لعظمهما في المخلوقات وأنهما طرفا آية عظيمة وعبرة وهي الشمس وجريها
وحكى النقاش ان * (المشرقين) * مشرقا الشمس والقمر " والمغربين " كذلك على ما في ذلك من العبر وكل متجه ومتى وقع ذكر المشرق والمغرب فهي إشارة إلى الناحيتين بجملتهما ومتى وقع ذكر المشارق والمغارب فهي إشارة إلى تفصيل مشرق كل يوم ومغربه ومتى ذكر المشرقان والمغربان فهي إشارة إلى نهايتي المشارق والمغارب لأن ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه
قال مجاهد هو مشرق الصيف ومغربه ومشرق الشتاء ومغربه
قوله عز وجل
سورة الرحمن 19 - 28
* (مرج البحرين) * معناه أرسلهما إرسالا غير منحاز بعضهما من بعض ومنه مرجت الدابة ومنه الأمر المريج أي المختلط الذي لم يتحصل منه شيء ومنه من * (مارج من نار) * الرحمن 15
واختلف الناس في * (البحرين) * فقال الحسن وقتادة بحر فارس وبحر الروم
وقال الحسن أيضا بحر القلزم واليمن وبحر الشام
وقال ابن عباس وابن جبير هو بحر في السماء وبحر في الأرض
وقال ابن عباس أيضا هو مطر السماء سماه بحرا وبحر الأرض
والظاهر عندي ان قوله تعالى * (البحرين) * يريد بهما نوعي الماء العذب
والأجاج أي خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض قريب بعضهما من بعض ولا بغي والعبرة في هذا التأويل منيرة وأنشد منذر بن سعيد
(وممزوجة الأمواه لا العذب غالب
* على الملح طيبا ولا الملح يعذب) الطويل
اما قوله * (يلتقيان) * فعلى التأويلين الأولين معناه هما معدان للالتقاء وحقهما ان يلتقيا لولا البرزخ وعلى القول الثالث روي أنهما يلتقيان كل سنة مرة فمن ذهب إلى أنه بحر يجتمع في السماء فهو قول ضعيف وإنما يتوجه لالتقاء فيه
وفي القول الرابع بنزول المطر وفي القول الخامس بالأنهار في البحر وبالعيون قرب البحر
والبرزخ الحاجز في كل شيء فهو في بعض هذه الأقوال اجرام الأرض قاله قتادة
وفي بعضها القدرة والبرزخ أيضا المدة التي بين الدنيا والآخرة للموتى فهي حاجز وقد قال بعض الناس إن ماء الأنهار لا يختلط بالماء الملح بل هو بذاته باق فيه وهذا يحتاج إلى دليل أو حديث صحيح والا فالعيان لا يقتضيه
وذكر الثعلبي في * (مرج البحرين) * ألغازا وأقوالا باطنة لا يجب ان يلتفت إلي شيء منها
واختلف الناس في قوله * (لا يبغيان) * فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة معناه لا يبغي واحد منهما
227

على الاخر
وقال قتادة أيضا والحسن * (لا يبغيان) * على الناس والعمران
وهذان القولان على أن اللفظة من البغي
وقال بعض المتأولين هي من قولك بغي إذا طلب فمعناه * (لا يبغيان) * حالا غير حالهما التي خلقا وسخرا لها
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك * (اللؤلؤ) * كبار الجوهر * (والمرجان) * صغاره
وقال ابن عباس أيضا ومرة الهمداني عكس هذا والوصف بالصغر وهو الصواب في * (اللؤلؤ) *
وقال ابن مسعود وغيره * (المرجان) * حجر احمر وهذا هو الصواب في * (المرجان) *
و " الؤلؤ " بناء غريب لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة اللؤلؤ والجؤجؤ والدؤدؤ واليؤيؤ وهو طائر والبؤبؤ وهو الأصل
واختلف الناس في قوله * (منهما) * فقال أبو الحسن الأخفش في كتابه الحجة ورغم قوم انه قد ينفرج * (اللؤلؤ والمرجان) * من الملح ومن العذب
قال القاضي أبو محمد ورد الناس على هذا القول لأن الحس يخالفه ولا يخرج ذلك الا من الملح وقد رد الناس على الشاعر في قوله
(فجاء بها ما شيت من لطمية
* على وجهها ماء الفرات يموج) الطويل
وقال جمهور من المتأولين إنما يخرج ذلك من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة فلذلك قال * (منهما) * وهذا مشهور عند الغواصين
وقال ابن عباس وعكرمة إنما تتكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الصدف وغيرها تفتح أجوافها للمطر فلذلك قال * (منهما) * وقال أبو عبيده ما معناه إن خروج هذه الأشياء إنما هي من الملح لكنه قال * (منهما) * تجوزا كما قال الشاعر عبد الله بن الزبعري
(متقلدا سيفا ورمحا
*) مجزوء الكامل مرفل
وكما قال الآخر
(علفتها تبنا وماء باردا
*)
فمن حيث هما نوع واحد فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما وإن كانت تختص عند التفصيل المبالغ بأحدهما وهذا كما قال تعالى * (سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن) * نوح 15 - 16
وإنما هو في إحداهن وهي الدنيا إلى الأرض
قال الرماني العذب فيهما كاللقاح للملح فهو كما يقال الولد يخرج من الذكر والأنثى
وقرا نافع وأبو عمرو وأهل المدينة (يخرج) بضم الياء وفتح الراء
(اللؤلؤ) رفعا
وقرا ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي (يخرج) بفتح الياء وضم الراء على بناء الفعل للفاعل وهي قراءة الحسن وأبي جعفر
وقرا أبو عمرو في رواية حسين الجعفي عنه (يخرج) بضم الياء وكسر الراء على إسناده إلى الله تعالى أي يتمكينه وقدرته (اللؤلؤ) نصبا ورواها أيضا عنه بالنون مضمومة وكسر الراء
و " الجواري " جمع جارية وهي السفن
وقرا الحسن والنخعي بإثبات الياء
وقرا الجمهور وأبو جعفر وشيبة بحذفها
وقرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي (المنشآت) بفتح الشين أي أنشأها الله والناس
228

وقرا حمزة وأبو بكر بخلاف (المنشئات) بكسر الشين أي تنشىء هي السير إقبالا وإدبارا و (الأعلام) الجبال وما جرى مجراها من الظراب والآكام
وقال مجاهد ما له شراع فهو من * (المنشآت) * وما لم يرفع له شراع فليس من * (المنشآت) *
وقوله * (كالأعلام) * هو الذي يقتضي هذا الفرق واما لفظة " المنشئات " فيعم الكبير والصغير والضمير في قوله * (كل من عليها) * للأرض وكنى عنها ولم يتقدم لها ذكر لوضوح المعنى كما قال تعالى * (حتى توارت بالحجاب) * ص 32 إلى غير ذلك من الشواهد والإشارة بالفناء إلى جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره فغلب عبارة من يعقل فلذلك قال " من "
والوجه عبارة عن الذات
لأن الجارحة منفية في حق الله تعالى وهذا كما تقول هذا وجه القول والأمر أي حقيقته وذاته
وقرا جمهور الناس (ذو الجلال) على صفة لفظة الوجه
وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي (ذي الجلال) على صفات الرب
قوله عز وجل
سورة الرحمن 29 - 36
قوله * (يسأله) * يحتمل ان يكون في موضع الحال من الوجه والعامل فيه * (يبقى) * الرحمن 27 أي هو دائم في هذه الحال ويحتمل ان يكون فعلا مستأنفا إخبارا مجردا
والمعنى ان كل مخلوق من الأشياء فهو في قوامه وتماسكه ورزقه إن كان مما يرزق بحال حاجة إلى الله تعالى فمن كان يسأل بنطق فالأمر فيه بين ومن كان من غير ذلك فحاله تقتضي السؤال فأسند فعل السؤال اليه
وقوله * (كل يوم هو في شأن) * أي يظهر شان من قدرته التي قد سبقت في الأزل في ميقاته من الزمن من إحياء وإماتة ورفعة وخفض وغير ذلك من الأمور التي لا يعلم نهايتها الا هو تعالى
والشأن اسم جنس للأمور
قال الحسين بن الفضل معنى الآية سوق المقادير إلى المواقيت
وورد في بعض الأحاديث (إن الله تعالى له كل يوم في اللوح المحفوظ ثلاثمائة وستون نظرة يعز فيها ويذل ويحيي ويميت ويغني ويعدم إلى غير ذلك من الأشياء لا إله الا هو)
وفي الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقيل له ما هذا الشان يا رسول الله قال يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع ويضع
وذكر النقاش ان سبب هذه الآية قول اليهود إن الله استراح يوم السبت فلا ينفذ فيه شيئا
وقوله تعالى * (سنفرغ لكم أيها الثقلان) * عبارة عن إتيان الوقت الذي قدر فيه وقضى ان ينظر في أمور عباده وذلك يوم القيامة وليس المعنى ان ثم شغلا يتفرغ منه وإنما هي إشارة وعيد وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأزب العقبة لأفرغن لك يا خبيث) والتفرغ من كل آدمي حقيقة
229

وفي قوله تعالى * (سنفرغ لكم) * جرى على استعمال العرب ويحتمل ان يكون التوعد بعذاب في الدنيا والأول أبين
وقرا نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر (سنفرغ) بضم الراء وبالنون
وقرا الأعرج وقتادة ذلك بفتح الراء والنون ورويت عن عاصم ويقال فرغ بفتح الراء وفرغ بكسرها
ويصح منهما جميعا ان يقال يفرغ بفتح الراء وقرا عيسى بفتح النون وكسر الراء
وقال أبو حاتم هي لغة سفلى مضر وقرا أبو عمرو وحمزة والكسائي بالياء المفتوحة قرا حمزة والكسائي بضم الراء
وقرأ أبو عمرو بفتحها
وقرأ الأعمش بخلاف وأبو حيوة (سيفرغ) بضم الياء وفتح الراء وبناء الفعل للمفعول
وقرأ عيسى بن عمر أيضا (سنفرغ) بفتح النون وكسر الراء
وفي مصحف عبد الله بن مسعود (سنفرغ لكم أيها)
و * (الثقلان) * الإنس والجن ويقال لكل ما يعظم امره ثقل ومنه * (أخرجت الأرض أثقالها) * الزلزلة 2 وقال النبي عليه السلام (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي)
ويقال لبيض النعام ثقل
وقال لبيد
(فتذكرا ثقلا رئيدا بعدما
* ألقت ذكاء يمينها في كافر) الكامل
وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه سمي الإنس والجن ثقلين لأنهما ثقلا بالذنوب وهذا بارع ينظر إلى خلقهما من طين ونار
وقرا ابن عامر (أية الثقلان) بضم الهاء
واختلف الناس في معنى قوله * (إن استطعتم أن تنفذوا) * الآية فقال الطبري قال قوم في الكلام محذوف وتقديره يقال لكم * (يا معشر الجن والإنس) * قالوا وهذه حكاية عن حال يوم القيامة في * (يوم التناد) * غافر 32 على قراءة من شدد الدال
قال الضحاك وذلك أنه يفر الناس في أقطار الأرض والجن كذلك لما يرون من هول يوم القيامة فيجدون سبعة صفوف من الملائكة قد أحاطت بالأرض فيرجعون من حيث جاؤوا فحينئذ يقال لهم * (يا معشر الجن والإنس) *
وقال بعض المفسرين بل هي مخاطبة في الدنيا
والمعنى * (إن استطعتم) * الفرار من الموت ب * (أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض) *
وقال ابن عباس المعنى إن استطعتم بأذهانكم وفكركم أن تنفذوا فتعلموا علم أقطار السماوات والأرض
والأقطار الجهات
وقوله * (فانفذوا) * صيغة الأمر ومعناه التعجيز والسلطان هنا القوة على غرض الإنسان ولا يستعمل الا في الأعظم من الأمر والحجج أبدا من القوي في الأمور ولذلك يعبر كثير من المفسرين عن السلطان بأنه الحجة
وقال قتادة السلطان هنا الملك وليس لهم ملك والشواظ لهب النار
قاله ابن عباس وغيره
وقال أبو عمرو بن العلاء لا يكون الشواظ الا من النار وشئ معها وكذلك النار كلها لا تحس الا وشئ معها وقال مجاهد الشواظ هو اللهب الأخضر المتقطع ويؤيد هذا القول قول حسان بن ثابت يهجو أمية بن أبي الصلت
(هجوتك فاختضعت حليفا ذل
* بقاقية تؤجج كالشواظ)
230

وقال الضحاك هو الدخان الذي يخرج من اللهب وليس يدخان الحطب
وقرا الجمهور (شواظ) بضم الشين
وقرأ ابن كثير وحده وشبل وعيسى (شواظ) بكسر الشين وهما لغتان
وقال ابن عباس وابن جبير النحاس الدخان ومنه قول الأعشى
(تضيء كضوء سراج السليط
* لم يجعل الله فيه نحاسا) المتقارب
السليط دهن السراج
في النسخ التي بأيدينا دهن الشيرج
وقرا جمهور القراء (ونحاس) بالرفع عطفا على * (شواظ) * فمن قال إن النحاس هو المعروف وهو قول مجاهد وابن عباس أيضا قال يرسل عليهما نحاس أي يذاب ويرسل عليهما
ومن قال هو الدخان قال ويعذبون بدخان يرسل عليهما
وقرا ابن كثير وأبو عمرو والنخعي وابن أبي إسحاق (ونحاس) بالخفض عطفا على * (نار) * وهذا مستقيم على ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء
ومن رأى الشواظ يختص بالنار قدر هنا وشئ من نحاس
وحكى أبو حاتم عن مجاهد انه قرأ (ونحاس) بكسر النون والجر
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة انه قرأ (ونحس) بفتح النون وضم الحاء والسين المشددة كأنه يقول ونقتل بالعذاب
وعن أبي جندب انه قرأ (ونحس) كما تقول يوم نحس وحكى أبو عمرو مثل قراءة مجاهد عن طلحة بن مصرف وذلك لغة في نحاس وقيل هو جمع نحس
ومعنى الآية مستمر في تعجيز الجن والإنس أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا ينتصر
قوله عز وجل
سورة الرحمن 37 - 45
جواب (إذا) محذوف مقصود به الإبهام كأنه يقول * (فإذا انشقت السماء) * فما أعظم الهول وانشقاق السماء انفطارها عند القيامة
وقال قتادة السماء اليوم خضراء وهي يوم القيامة حمراء فمعنى قوله " وردة " أي محمرة كالوردة وهي النوار المعروف
وهذا قول الزجاج والرماني
وقال ابن عباس وأبو صالح والضحاك هي من لون الفرس الورد فأنث لكون * (السماء) * مؤنثة
واختلف الناس في قوله * (كالدهان) * فقال مجاهد والضحاك هو جمع دهن قالوا وذلك أن السماء يعتريها يوم القيامة ذوب وتميع من شدة الهول
وقال بعضهم شبه لمعانها بلمعان الدهن
وقال جماعة من المتأولين الدهان الجلد الأحمر وبه شبهها وانشد منذر بن سعيد
231

(يبعن الدهان الحمر كل عشية
* بموسم بدر أو بسوق عكاظ) الطويل
وقوله تعالى * (لا يسأل عن ذنبه) * نفي للسؤال
وفي القرآن آيات تقتضي ان في القيامة سؤالا وآيات تقتضي نفيه كهذه وغيرها فقال بعض الناس ذلك في مواطن دون مواطن وهو قول قتادة وعكرمة
وقال ابن عباس وهو الأظهر في ذلك ان السؤال متى أثبت فهو بمعنى التوبيخ والتقرير ومتى نفي فهو بمعنى الاستخبار المحض والاستعلام لأن الله تعالى عليم بكل شيء
وقال الحسن ومجاهد لا يسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بالسيما والسيما التي يعرف بها * (المجرمون) * هي سواد الوجوه وزرق العيون في الكفرة قاله الحسن
ويحتمل ان يكون غير هذا من التشويهات
واختلف المتأولون في قوله تعالى * (فيؤخذ بالنواصي والأقدام) * فقال ابن عباس يؤخذ كل كافر بناصيته وقدميه فيطوى ويجمع كالحطب ويلقى كذلك في النار
وقال النقاش روي أن هذا الطي على ناحية الصلب قعسا وقاله الضحاك
وقال آخرون بل على ناحية الوجه قالوا فهذا معنى * (فيؤخذ بالنواصي والأقدام) *
وقال قوم في كتاب الثعلبي إنما يسحب الكفرة سحبا فبعضهم يجر بقدميه وبعضهم بناصيته فأخبر في هذه الآية ان الأخذ يكون * (بالنواصي) * ويكون ب * (الأقدام) *
وقوله * (هذه جهنم) * قبله محذوف تقديره يقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ وفي مصحف ابن مسعود (هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان تصليانها لا تموتان فيها ولا تحييان)
وقرا جمهور الناس (يطوفون) بفتح الياء وضم الطاء وسكون الواو
وقرا طلحة بن مصرف (يطوفون) بضم الياء وفتح الطاء وشد الواو
وقرا أبو عبد الرحمن (يطافون) وهي قراءة علي بن أبي طالب
والمعنى في هذا كله انهم يترددون بين نار جهنم وجمرها * (وبين حميم) * وهو ما غلي في جهنم من مائع عذابها
والحميم الماء السخن
وقال قتادة إن العذاب الذي هو الحميم يغلي منذ خلق الله جهنم
وأني الشيء حضر وأنى اللحم أو ما يطبخ أو يغلى نضج وتناهى حره والمراد منه ويحتمل قوله * (أن) * ان يكون من هذا ومن هذا
وكونه من الثاني أبين ومنه قوله تعالى " وغير ناظرين إناه " الأحزاب 53 ومن المعنى الآخر قول الشاعر عمرو بن حسان الشيباني
(أنى ولكل حاملة تمام
*) الوافر
ويشبه ان يكون الأمر في المعنيين قريبا بعضه من بعض والأول أعم من الثاني
232

قوله عز وجل
سورة الرحمن 46 - 57
(من) في قوله تعالى * (ولمن) * يحتمل ان تقع على جميع المتصفين بالخوف الزاجر عن معاصي الله تعالى ويحتمل ان تقع لواحد منهم وبحسب هذا قال بعض الناس في هذه الآية إن كل خائف له * (جنتان) *
وقال بعضهم جميع الخائفين لهم * (جنتان) *
والمقام هو وقوف العبد بين يدي ربه يفسره * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) * المطففين 6 وأضاف المقام إلى الله من حيث هو بين يديه
قال الثعلبي وقيل * (مقام ربه) * قيامه على العبد بيانه " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " الرعد 33 وحكى الزهراوي هذا المعنى عن مجاهد
وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف وتحريض على الخوف الذي هو أسرع المطايا إلى الله عز وجل
وقال قوم أراد جنة واحدة وثنى على نحو قوله * (ألقيا في جهنم) * ق 24 وقول الحجاج يا غلام اضربا عنقه
وقال أبو محمد هذا ضعيف لأن معنى التثنية متوجه فلا وجه للفرار إلى هذه الشاذة ويؤيد التثنية قوله * (ذواتا أفنان) * وهي تثنية ذات على الأصل
لأن أصل ذات ذوات
والأفنان يحتمل ان يكون جمع فنن وهو فنن الغصن وهذا قول مجاهد فكأنه مدحها بظلالها وتكاثف أغصانها ويحتمل ان يكون جمع فن وهو قول ابن عباس فكأنه مدحها بكثرة أنواع فواكهها ونعيمها
و * (زوجان) * معناه نوعان و * (متكئين) * حال إما من محذوف تقديره يتنعمون * (متكئين) *
وإما من قوله * (ولمن خاف) *
الاتكاء جلسة المتنعم المتمتع
وقرا جمهور الناس (فرش) بضم الراء وقرا أبو حيوة (فرش) بسكون الراء وروي في الحديث انه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البطائن * (من إستبرق) * فكيف الظواهر قال (هي من نور يتلألأ)
والإستبرق ما خشن وحسن من الديباج
والسندس ما رق منه
وقد تقدم القول في لفظة الإستبرق
وقرأ ابن محيصن (من إستبرق) على أنه فعل والألف وصل
والضمير في قوله * (فيهن) * للفرش وقيل للجنات إذ الجنتان جنات في المعنى
والجنى ما يجتنى من الثمار ووصفه بالدنو لأنه فيما روي في الحديث يتناوله المرء على أي حالة كان من قيام أو جلوس أو اضطجاع لأنه يدنو إلى مشتهيه
و * (قاصرات الطرف) * هي الحور العين قصرن ألحاظهن على أزواجهن
وقرأ أبو عمرو عن الكسائي وحده وطلحة وعيسى وأصحاب علي وابن مسعود (يطمثهن) بضم الميم
وقرأ جمهور القراء (يطمثهن) بكسر الميم والمعنى لم يفتضهن لأن الطمث دم الفرج فيقال
233

لدم الحيض طمث ولدم الافتضاض طمث فإذا نفي الافتضاض فقد نفي القرب منهن بجهة الوطء
قال الفراء لا يقال طمث الا إذا افتض
قال غيره طمث معناه جامع بكرا أو غيرها
واختلف الناس في قوله * (ولا جان) * فقال مجاهد الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج الله تعالى فتنفي هذه الآية جميع المجامعات
وقال ضمرة بن حبيب الجن لهم * (قاصرات الطرف) * من الجن نوعهم فنفى في هذه الآية الافتضاض عن البشريات والجنيات
قال القاضي أبو محمد ويحتمل اللفظ ان يكون مبالغة وتأكيدا كأنه قال * (لم يطمثهن) * شيء أراد العموم التام لكنه صرح من ذلك بالذي يعقل منه ان يطمث
وقال أبو عبيدة والطبري إن من العرب من يقول ما طمث هذا البعير حبل قط أي مامسه
قال القاضي أبو محمد فإن كان هذا المعنى ما أدماه حبل فهو يقرب من الأول
والا فهو معنى آخر غير الذي قدمناه
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد (ولا جان) بالهمز
وقوله عز وجل
سورة الرحمن 58 - 69
* (الياقوت والمرجان) * هي من الأشياء التي قد برع حسنها واستشعرت النفوس جلالتها فوقع التشبيه بها لا في جميع الأوصاف لكن فيما يشبه ويحسن بهذه المشبهات ف * (الياقوت) * في إملاسه وشفوفه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المرأة من نساء أهل الجنة (يرى مخ ساقها من وراء العظم)
* (والمرجان) * في إملاسه وجمال منظره وبهذا النحو من النظر سمت العرب النساء بهذه الأشياء كدرة بنت أبي لهب
ومرجانة أم سعيد وغير ذلك
وقوله تعالى * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) * آية وعد وبسط لنفوس جميع المؤمنين لأنها عامة
قال ابن المنكدر وابن زيد وجماعة من أهل العلم هي للبر والفاجر
والمعنى ان جزاء من أحسن بالطاعة ان يحسن اليه بالتنعيم
وحكى النقاش ان النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية (هل جزاء التوحيد الا الجنة)
وقوله تعالى * (ومن دونهما جنتان) * اختلف الناس في معنى * (من دونهما) * فقال ابن زيد وغيره معناه ان هذين دون تينك في المنزلة والقدرة والأوليان جنتا السابقين والأخريان جنتا أصحاب اليمين
234

قال الرماني قال ابن عباس الجنات الأربع للخائف * (مقام ربه) * الرحمن 46
وقال الحسن الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين
وقال ابن عباس المعنى هما دونهما في القرب إلى المنعمين وهاتان المؤخرتان في الذكر أفضل من الأوليين يدل على ذلك أنه وصف عيني هذه بالنضخ والأخريين بالجري فقط وجعل هاتين مدهامتين من شدة النعمة والأوليين ذواتي أفنان وكل جنة ذات أفنان وإن لم تكن مدهامة
قال القاضي أبو محمد وأكثر الناس على التأويل الأول وهذه استدلالات ليست بقواطع
وروي عن أبي موسى الأشعري أنه قال جنتان للمقربين من ذهب وجنتان لأهل اليمين من فضة مما دون الأولين
و * (مدهامتان) * معناه قد علا لونهما دهمة وسواد في النضرة والخضرة كذا فسره ابن الزبير على المنبر ومنه قوله تعالى * (الذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى) * الأعلى 5 والنضاخة الفوارة التي يهيج ماؤها
وقال ابن جبير المعنى * (نضاختان) * بأنواع الفواكه وهذا ضعيف
وكرر النخل والرمان لأنهما ليسا من الفواكه
وقال يونس بن حبيب وغيره كررهما وهما من أفضل الفاكهة تشريفا لهما وإشادة بهما كما قال تعالى * (وجبريل وميكال) * البقرة 98
قوله تعالى
سورة الرحمن 70 - 78
* (خيرات) * جمع خيرة وهي أفضل النساء ومنه قول الشاعر أنشده الطبري
(ربلات هند خيرة الملكات
*) الكامل
وقالت أم سلمة قلت يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى * (خيرات حسان) * قال * (خيرات) * الأخلاق * (حسان) * الوجوه
وقرأ أبو بكر بن حبيب السهمي (خيرات حسان) بشد الياء المكسورة
وقرأ أبو عمرو بفتح الياء
وقوله * (مقصورات) * أي محجوبات
وكانت العرب تمدح النساء بملازمة البيوت ومنه قول الشاعر أبو قيس بن الأسلت
(وتعتل في إتيانهن فتعذر
*) الطويل
يصف ان جارتها يزرنها ولا تزورهن
ويروى ان بيت الأعشى قد ذم وهو قوله
235

(كأن مشيتها من بين جارتها
* مر السحابة لا ريث ولا عجل) البسيط
فقيل في ذمه
هذه جوالة خراجة ولاجة ومن مدح القصر قول كثير
(وأنت التي حببت كل قصيرة
* إلي ولم تشعر بذاك القصائر)
(أريد قصيرات الحجال ولم أرد
* قصار الخطى شر النساء البحاتر) الطويل
قال الحسن * (مقصورات في الخيام) * ليس بطوافات في الطرق و * (الخيام) * البيوت من الخشب والثمام وسائر الحشيش وهي بيوت المرتحلين من العرب وخيام الجنة بيوت اللؤلؤ
وقال عمر بن الخطاب هي در مجوف
ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان بيت المسكين عند العرب من شعر فهو بيت ولا يقال له خيمة ومن هذا قول جرير
(متى كان الخيام بذي طلوح
* سقيت الغيث أيتها الخيام) الوافر
ومنه قول امرئ القيس " أمرخ خيامهم أم عشر
* " المتقارب
يستفهم هل هم منجدون أم غائرون لأن العشر مما لا ينبت الا في تهامة والمرخ مما لا ينبت الا في نجد
والرفرف ما تدلى من الأسرة من غالب الثياب والبسط وكذلك قال ابن عباس وغيره إنها فضول المحابيس والبسط وقال ابن جبير الرفرف رياض الجنة
قال القاضي أبو محمد والأول أصوب وأبين ووجه قول ابن جبير إنه من رف البيت إذا تنعم وحسن وماتدلى حول الخباء من الخرقة الهفافة يسمى رفرفا وكذلك يسميه الناس اليوم وقال الحسن ابن أبي الحسن الرفرف المرافق والعبقري بسط حسان فيها صور وغير ذلك تصنع بعبقر وهو موضع يعمل فيه الوشي والديباج ونحوه قال ابن عباس العبقري الزرابي وقال ابن زيد هي الطنافس
وقال مجاهد هي الديباج الغليظ
وقرأ زهير الفرقبي (رفارف) بالجمع وترك الصرف
وقرا أبو طعمة المدني وعاصم في بعض ما روي عنه (رفارف) بالصرف وكذلك قرا عثمان بن عفان (رفارف وعباقر) بالجمع والصرف ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وغلط الزجاج والرماني هذه القراءة
وقرأ أيضا عثمان في بعض ما روي عنه (عباقر) بفتح القاف والباء وهذا على أن اسم الموضع (عباقر) بفتح القاف والصحيح في اسم الموضع (عبقر) قال الشاعر امرؤ القيس
(كأن صليل المروحين تشذه
* صليل الزيوف بنتقدن بعبقرا) الطويل
قال الخليل والأصمعي إذا استحسنت شيئا واستجادته قالت * (عبقري) *
236

قال القاضي أبو محمد ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه وقال عبد الله بن عمر العبقري سيد القوم وعينهم
وقال زهير
(بخيل عليها جنة عبقرية
* جديرون يوما ان ينالوا فيستعلوا) الطويل
ويقال عبقر مسكن للجن
وقال ذو الرمة
(حتى كأن رياض القف ألبسها
* من وشي عبقر تجليل وتنجيد) البسيط
وقرا الأعرج (خضر) بضم الضاد
وقرأ جمهور الناس (ذي الجلال) على اتباع الرب
وقرأ ابن عامر وأهل الشام
(ذو) على اتباع الاسم وكذلك في الأول وفي حرف أبي وابن مسعود (ذي الجلال) في الموضعين وهذا الموضع مما أريد فيه بالاسم مسماه
والدعاء بهاتين الكلمتين حسن مرجو الإجابة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام)
نجز تفسير سورة الرحمن وصلى الله على مولانا محمد سيد ولد عدنان
237

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الواقعة
وهي مكية بإجماع ممن يعتد بقوله من المفسرين
وقيل إن فيها آيات مدنية أو مما نزل في السفر وهذا كله غير ثابت
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من داوم على سورة الواقعة لم يفتقر أبدا)
ودعا عثمان بن مسعود إلى عطائه فأبى ان يأخذ
فقيل له خذ للعليا فقال إنهم يقرؤون سورة الواقعة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (من قرآها لم يفتقر أبدا)
قال القاضي أبو محمد فيها ذكر القيامة وحظوظ النفس في الآخرة وفهم ذلك عنى لا فقر معه ومن فهمه شغل بالاستعداد
قوله عز وجل
سورة الواقعة 1 - 12
* (الواقعة) * اسم من أسماء القيامة ك * (الصاعقة) * البقرة 55 النساء 153 و * (الآزفة) * غافر 18 النجم 57 و * (الطامة) * النازعات 34 قاله ابن عباس وهذه كلها أسماء تقتضي تعظيمها وتشنيع امرها
وقال الضحاك * (الواقعة) * الصيحة وهي النفخة في الصور
وقال بعض المفسرين * (الواقعة) * صخرة بيت المقدس تقع عند القيامة فهذه كلها معان لأجل القيامة
و * (كاذبة) * يحتمل ان يكون مصدرا كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين
فالمعنى ليس لها تكذيب ولا رد مثنوية وهذا قول قتادة والحسن يحتمل ان يكون صفة لمقدر كأنه قال * (ليس لوقعتها) * حال * (كاذبة) * ويحتمل الكلام على هذا معنيين أحدهما * (كاذبة) * أي مكذوب فيما أخبر به عنها فسماها * (كاذبة) * بهذا كما تقول هذه قصة كاذبة أي مكذوب فيها والثاني حالة كاذبة أي لا يمضي وقوعها كما تقول فلان إذا حمل لم يكذب
وقوله * (خافضة رافعة) * رفع على خبر ابتداء أي هي * (خافضة رافعة) *
238

وقرا الحسن وعيسى الثقفي وأبو حيوة (خافضة رافعة) بالنصب على الحال بعد الحال التي هي * (لوقعتها كاذبة) * ولك ان تتابع الأحوال
كما لك ان تتابع اخبار المبتدأ والقراءة الأولى أشهر وأبرع معنى وذلك أن موقع الحال من الكلام موقع ما لم يذكر لاستغني عنه وموقع الجمل التي يجزم الخبر بها موقع ما يتهمم به
واختلف الناس في معنى هذا الخفض والرفع في هذه الآية فقال قتادة وعثمان بن عبد الله بن سراقة القيامة تخفض أقواما إلى النار وترفع أقواما إلى النار وترفع أقواما إلى الجنة
وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك الصيحة تخفض قوتها لتسمع الأدنى وترفعها لتسمع الأقصى
وقال جمهور من المتأولين القيامة بتفطر السماء والأرض والجبال انهدام هذه البنية ترفع طائفة من الأجرام وتخفض أخرى فكأنها عبارة عن شدة الهول والاضطراب والعامل في قوله * (إذا رجت) * * (وقعت) * لأن * (إذا) * هذه بدل من * (إذا) * الأولى وقد قالوا إن * (وقعت) * هو العامل في الأولى وذلك لأن معنى الشرط فيها قوي فهي ك (من) و (ما) في الشرط يعمل فيها ما بعدها من الأفعال وقد قيل إن * (إذا) * مضافة إلى * (وقعت) * فلا يصح ان يعمل فيها وإنما العامل فيها فعل مقدر
ومعنى * (رجت) * زلزلت وحركت بعنف قاله ابن عباس ومنه ارتج السهم في الغرض إذا اضطرب بعد وقوعه والرجة في الناس الأمر المحرك
واختلف اللغويون في معنى * (بست) * فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة معناه فتتت كما تبس البسيسة وهي السويق ويقال بسست الدقيق إذا ثريته بالماء وبقي مفتتا وانشد الطبري في هذا
(لا تخبزا خبزا وبسا بسا
*) الرجز
وقال هذا قول لص أعجله الخوف عن العجين فقال لصاحبه هذا
وقال بعض اللغويين * (بست) * معناه سيرت قالوا والخبز سير الشديد وضرب الأرض بالأيدي والبس السير الرفيق وأنشد البيت
(لا تخبزا خبزا وبسا بسا
* وجنباها نهشلا وعبسا)
(ولا تطيلا بمناخ حبسا
*) الرجز
ذكر هذا أبو عثمان اللغوي في كتابه في الأفعال
و (الهباء) ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة ولا يكاد يرى الا في الشمس إذا دخلت من كوة قاله ابن عباس ومجاهد
وقال قتادة الهباء ما تطاير من يبس النبات
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الهباء ماتطاير من حوافر الخيل والدواب
وقال ابن عباس أيضا الهباء ما تطاير من شرر النار فإذا طفي لم يوجد شيئا والمنبث بالتاء المثلثة الشائع في جميع الهواء
وقرا النخعي (منبتا) بالتاء بنقطتين أي متقطعا ذكر ذلك الثعلبي
قال القاضي أبو محمد والقول الأول في هباء أحسن الأقوال
239

والخطاب في قوله * (وكنتم) * لجميع العالم لأن الموصوفين من * (أصحاب المشأمة) * ليسوا في أمة محمد والأزواج الأنواع والضروب
قال قتادة هذه منازل الناس يوم القيامة
وقوله تعالى * (فأصحاب الميمنة) * ابتداء و " ما " ابتداء ثان
و * (أصحاب الميمنة) * خبرها والجملة خبر الابتداء الأول وفي الكلام معنى التعظيم كما تقول زيد ما زيد ونظير هذا في القرآن كثير و * (الميمنة) * أظهر ما في اشتقاقها انها من ناحية اليمين وقيل من اليمن وكذلك * (المشأمة) * إما أن تكون من اليد الشؤمى وإما أن تكون من الشؤم وقد فسرت هذه الآية بهذين المعنيين إذ * (أصحاب الميمنة) * الميامين على أنفسهم قاله الحسن والربيع ويشبه ان اليمن والشؤم إنما اشتقا من اليمنى والشؤمى وذلك على طريقهم في السانح والبارح وكذلك اليمن والشؤم اشتقا من اليمنى والشؤمى
وقوله * (والسابقون) * ابتداء و " السابقون " الثاني
قال بعض النحويين هو نعت للأول ومذهب سيبويه انه خبر الابتداء وهذا كما تقول العرب الناس الناس وأنت أنت وهذا على معنى تفخيم امر وتعظيمه ومعنى الصفة هو ان تقول * (والسابقون) * إلى الإيمان " السابقون " إلى الجنة والرحمة * (أولئك) * ويتجه هذا المعنى على الابتداء والخبر
وقوله (أولئك المقربون) ابتداء وخبر وهو في موضع الخبر على قول من قال " السابقون " الثاني صفة و * (المقربون) * معناه من الله في جنة عدن
قال جماعة من أهل العلم وهذه الآية متضمنة ان العالم يوم القيامة على ثلاثة أصناف مؤمنون هم على يمين العرش وهنالك هي الجنة وكافرون هم على شؤمى العرش وهنالك هي النار
والقول في يمين العرش وشماله نحو من الذي هو في سورة الكهف في اليمين والشمال
وقد قيل في * (أصحاب الميمنة) * واليمين إنهم من اخذ كتابه بيمينه وفي * (أصحاب المشأمة) * والشمال إنهم من اخذه بشماله فعلى هذا ليست نسبة اليمين والشمال إلى العرش
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصحاب اليمين أطفال المؤمنين وقيل المراد ميمنة آدم ومشأمته المذكورتان في حديث الإسراء في الأسودة
و " السابقون " معناه قد سبقت لهم السعادة وكانت أعمالهم في الدنيا سبقا إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي فهذا عموم في جميع الناس
وخصص المفسرون في هذا أشياء فقال عثمان بن أبي سودة هم " السابقون " إلى المساجد
وقال ابن سيرين هم الذين صلوا القبلتين
وقال كعب هم أهل القرآن وقيل غير هذا مما هو جزء من الأعمال الصالحة وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وسئل عن السابقين فقال (هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوا بذلوه وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم)
وقرأ طلحة بن مصرف (في جنة النعيم) على الإفراد
و * (المقربون) * عبارة عن أعلى منازل البشر في الآخرة وقيل لعامر بن عبد قيس في يوم حلبة من سبق فقال * (المقربون) *
240

قوله عز وجل
سورة الواقعة 13 - 26
الثلة الجماعة والفرقة وهو يقع للقليل والكثير واللفظ في هذا الموضوع يعطي ان الجملة (من الأولين) أكثر من الجملة * (من الآخرين) * وهي التي عبر عنها بالقليل
واختلف المتأولون في معنى ذلك فقال قوم حكى قولهم مكي المراد بذلك الأنبياء لأنهم كانوا في صدر الدنيا أكثر عددا وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره المراد السابقون من الأمم والسابقون من الأمة وذلك إما ان يقترن أصحاب الأنبياء بجموعهم إلى أصحاب محمد فأولئك أكثر لا محالة وإما ان يقترن أصحاب الأنبياء ومن سبق في أثناء الأمم إلى السابقين من جميع هذه الأمة فأولئك أكثر
وروي أن الصحابة حزنوا لقلة سابق هذه الأمة على هذا التأويل فنزلت * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) * الواقعة 39 - 40 فرضوا
وروي عن عائشة انها تأولت ان الفرقتين في أمة كل نبي وهي في الصدر * (ثله) * وفي آخر الأمة * (قليل) *
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه (الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة * (ثله) * وسابق سائرها إلى يوم القيامة * (قليل) *)
وقرا الجمهور (سرر) بضم الراء
وقرأ أبو السمال (سرر) بفتح الراء
والموضونة المنسوجة بتركيب بعض اجزائها على بعض كحلف الدرع فإن الدرع موضونة ومنه قول الأعشى
(ومن نسج داود موضونة
* تسير مع الحي عيرا فعيرا) المتقارب
وكذلك سفيفة الخوص ونحوه * (موضونة) * ومنه وضين الناقة وهو حزامها لأنه موضون فهو كقتيل وجريح ومنه قول الشاعر
(أليك تعدو قلقا وضينها
* معترضا في بطنها جنينها)
(مخالفا دين النصارى دينها
*) الرجز
قال ابن عباس هذه السرر الموضونة هي المرمولة بالذهب
وقال عكرمة هي مشبكة بالدر والياقوت و * (متكئين) * و * (متقابلين) * حالان فيهما ضمير مرفوع وفي مصحف عبد الله بن مسعود (متكئين عليها ناعمين)
والولدان صغار الخدم عبارة عن انهم صغار الأسنان ووصفهم بالخلد وإن كان جميع ما في الجنة كذلك إشارة إلى أنهم في حال الولدان * (مخلدون) * لا تكبر بهم سن
وقال مجاهد لا يموتون
قال الفراء * (مخلدون) * معناه مقرطون بالخلدات وهي ضرب من الأقراط والأول أصوب لأن العرب تقول للذي كبر ولم يشب إنه لمخلد والأكواب ما كان من أواني الشرب لا أذن له ولا خرطوم قال ابن عباس هي جرار من فضة
وقال أبو صالح مستديرة أفواهها
وقال قتادة والضحاك
241

ليست لها عرى والأبريق ما له خرطوم وقال مجاهد وأذن وهو من أواني الخمر عند العرب ومنه قول عدي بن زيد
(وتداعوا إلى الصبوح فقامت
* قينة في يمينها إبريق) الخفيف
والكأس الآنية المعدة للشرب بها بشريطة ان يكون فيها خمر أو نبيذ أو ما هو سبيل ذلك ومتى كان فارغا فينسب إلى جنسه زجاجا كان أو غيره ولا يقال الآنية فيها ماء ولبن كأس
وقوله * (من معين) * قال ابن عباس معناه من خمر سائلة جارية معينة
ولفظة * (معين) * يحتمل ان يكون من معن الماء إذا غزر فوزنها فعيل ويحتمل أن تكون من العين الجارية أو من الباصرة فوزنها مفعول أصلها معيون وهذا تأويل قتادة
وقوله * (لا يصدعون عنها) * ذهب أكثر المفسرين إلى أن المعنى لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا وقال قوم معناه لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب كما يفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق وهذا كما قال (فتصدع السحاب عن المدينة) الحديث
وقوله * (ولا ينزفون) * قال مجاهد وقتادة وابن جبير والضحاك معناه لا تذهب عقولهم سكرا والنزيف السكران ومنه قول الشاعر الكامل
(شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
*) الكامل
وقرأ ابن أبي إسحاق (ولا ينزفون) بكسر الزاي وفتح الياء من نزف البئر إذا استقى ماءها فهي بمعنى تم خمرهم ونفدت هكذا قال أبو الفتح
وحكى أبو حاتم عن ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة وابن مسعود وأبي عبد الرحمن وعيسى بضم الياء وكسر الزاي
قال معناه لا يفنى شرابهم والعرب تقول انزف الرجل عبرته وتقول أيضا انزف إذا سكر ومنه قول الأبيرد
(لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم
* لبيس الندامى أنتم آل أبجرا) الطويل
وعطف الفاكهة على الكأس والأباريق
وقوله * (مما يشتهون) * روي فيه ان العبد يرى الطائر يطير فيشتهيه فينزل له كما اشتهاه وربما اكل منه ألوانا بحسب تصرف شهوته إلى كثير مما روي في هذا المعنى
وقرا حمزة والكسائي والمفضل عن عاصم (وحور عين) بالخفض وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن والأعمش وأبي القعقاع وعمرو بن عبيد
وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود (وحورا عينا) بالنصب
وقرا الباقون من السبعة (وحور عين) بالرفع وكل هذه القراءات محمولة الإعراب على المعنى لا على اللفظ
كأن المعنى قبل ينعمون بهذا كله وب (حور عين) وهذا المعنى في قراءة النصب ويعطون هذا كله (وحورا عينا) وكان المعنى في الرفع لهم هذا كله (وحور عين) ويجوز ان يعطف * (وحور) * على الضمير في * (متكئين) *
قال أبو علي ولم يؤكد لكون الكلام بدلا من التأكيد ويجوز ان يعطف
242

على الولدان وإن كان طواف الحور يقلق ويجوز أن يعطف على الضمير المقدر في قوله * (على سرر) * وفي هذا كله نظر وقد تقدم معنى * (حور عين) *
وقرا إبراهيم النخعي (وحير عين)
وخص * (المكنون) * من * (اللؤلؤ) * لأنه أصفى لونا وأبعد عن الغير وسألت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه فقال (صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي)
والقسم في الجنة هي مقتسمة على قدر الأعمال ونفس دخول الجنة هو برحمة الله وفضله لا بعمل عامل فاما هذا الفضل الأخير أن دخولها ليس بعمل عامل ففيه حديث صحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يدخل أحد الجنة بعمله) قالوا ولا أنت يا رسول الله قال (ولا انا الا ان يتغمدني الله بفضل منه ورحمة)
واللغو سقط القول من فحش وغيره
والتأثيم مصدر بمعنى لا يؤثم أحد هناك غيره ولا نفسه بقول
فكان يسمع ويتألم بسماعه
و * (قليلا) * مستثنى والاستثناء متصل وقال قوم هو منقطع
و * (سلاما) * نعت للقليل كأنه قال الا * (قيلا) * سالما من هذه العيوب وغيرها
وقال أبو إسحاق الزجاج أيضا * (سلاما) * مصدر وناصبه * (قيلا) * كأنه يذكر أنهم يقول بعضهم لبعض * (سلاما سلاما) *
وقال بعض النحاة * (سلاما) * منتصب بفعل مضمر تقديره أسلموا سلاما
قوله عز وجل
سورة الواقعة 27 - 40
السدر شجر معروف وهو الذي يقال له شجر أم غيلان وهو من العضاه له شوك وفي الجنة شجر على خلقته له ثمر كقلال هجر طيب الطعم والريح وصفه الله تعالى بأنه * (مخضود) * أي مقطوع الشوك لا أذى فيه وقال أمية بن أبي الصلت
(إن الحدائق في الجنان ظليلة
* فيها الكواعب سدرها مخضود)
وعبر بعض المفسرين عن * (مخضود) * بأنه الموقر حملا وقال بعضهم هو قطع الشوك وهو الصواب إما إن وقره هو كرمه وروي عن الضحاك ان بعض الصحابة أعجبهم سدروج فقالوا ليتنا في الآخرة في مثل هذا فنزلت الآية
قال القاضي أبو محمد ولأهل تحرير النظر هنا إشارة في أن هذا الخضد بإزاء اعمالهم التي اسلموا
243

منها إذ أهل اليمين توابون لهم سلام وليسوا بسابقين
والطلح كذلك من العضاه شجر عظام كثير الشوك وشبهه في الجنة على صفات مباينة لحال الدنيا
و " منضود " معناه مركب ثمره بعضه على بعض من ارضه إلى أعلاه
وقرا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجعفر بن محمد وغيره (طلع منضود) فقيل لعلي إنما هو * (طلح) * فقال ما للطلح وللجنة فقيل له انصلحها في المصحف فقال إن المصحف اليوم لا يهاج ولا يغير
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس الطلح الموز وقاله مجاهد وعطاء
وقال الحسن ليس بالموز ولكنه شجر ظله بارد رطب
والظل الممدود معناه الذي لا تنسخه شمس وتفسير ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم) * (وظل ممدود) * إلى غير هذا من الأحاديث في هذا المعنى
وقال مجاهد هذا الظل هو من طلحها وسدرها
وقوله تعالى * (وماء مسكوب) * أي جار في غير أخاديد قاله سفيان وغيره وقيل المعنى يناسب
لا تعب فيه بسانية ولا رشاء
وقوله تعالى * (لا مقطوعة) * اي بزوال الإبان كحال فاكهة الدنيا * (ولا ممنوعة) * ببعد التناول ولا بشوك يؤذي في شجراتها ولا بوجه من الوجوه التي تمتنع بها فاكهة الدنيا
وقرأ جمهور الناس وفرش بضم الراء وقرأ أبو حيوة وفرش بسكونها والفرش الأسرة وروي من طريف أبي سعيد الخدري ان في ارتفاع السريرمنها خمسمائة سنة
قال القاضي أبو محمد وهذا والله أعلم لا يثبت وإن قدر فمتأولا خارجا عن ظاهره
وقال أبو عبيدة وغيره أراد بالفرش النساء
و * (مرفوعة) * معناه في الأقدار والمنازل ومن هذا المعنى قول الشاعر عمرو بن الأهتم التميمي
(ظللت مفترش الهلباء تشتمني
* عند الرسول فلم تصدق ولم تصب) البسيط
ومنه قول الآخر في تعديد على صهره
(وأفرشتك كريمتي
*)
وقوله تعالى * (إنا أنشأناهن إنشاء) * قال قتادة الضمير عائد على الحور العين المذكورات قبل وهذا فيه بعد لأن تلك القصة قد انقضت جملة
وقال أبو عبيدة معمر قد ذكرهن في قوله " فرش " فلذلك رد الضمير وإن لم يتقدم ذكر لدلالة المعنى على المقصد وهذا كقوله تعالى * (حتى توارت بالحجاب) * ص 32 ونحوه و * (أنشأناهن) * معناه خلقناهن شيئا بعد شيء
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية (عجائزكن في الدنيا عمشا رمصا) وقال لعجوز (إن الجنة لا يدخلها العجز) فحزنت فقال (إنك إذا دخلت الجنة أنشئت خلقا آخر)
244

وقوله تعالى * (فجعلناهن أبكارا) * قيل معناه دائمات البكارة ذ متى عاود الواطىء وجدها بكرا
والعرب جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها بإظهار محبته قاله ابن عباس والحسن وعبر عنهم ابن عباس أيضا بالعواشق ومنه قول لبيد
(وفي الحدوج عروب غير فاحشة
* ريا الروادف يعشى دونها البصر)
وقال ابن زيد العروب الحسنة الكلام وقد تجيء العروب صفة ذم على غير هذا المعنى وهي الفاسدة الأخلاق كأنها عربت ومنه قول الشاعر ابن الأعرابي
(وما بدل من أم عثمان سلفع
* من السود ورهاء العنان عروب) الطويل
وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي (عربا) بضم الراء
وقرا حمزة والحسن والأعمش (عربا) بسكونها وهي لغة بني تميم واختلف عن نافع وأبي عمرو وعاصم
وقوله * (أترابا) * معناه في الشكل والقد حتى يقول الرائي هم أتراب والترب هو الذي مس التراب مع تربه في وقت واحد
قال قتادة * (أترابا) * يعني سنا واحدة ويروى ان أهل الجنة على قد ابن أربعة عشر عاما في الشباب والنضرة وقيل على مثال أبناء ثلاث وثلاثين سنة مردا بيضا مكحلين
واختلف الناس في قوله * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) * فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره الأولون سالف الأمم منهم جماعة عظيمة أصحاب يمين والآخرون هم هذه الأمة منهم جماعة عظيمة أهل يمين
قال القاضي أبو محمد بل جميعهم الا من كان من السابقين
وقال قوم من المتأولين هاتان الفرقتان في أمة محمد وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الثلثان من أمتي) فعلى هذا التابعون بإحسان ومن جرى مجراهم ثلة أولى وسائر الأمة ثلة أخرى في آخر الزمان
وقوله عز وجل
سورة الواقعة 41 - 50
إعراب قوله * (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال) * قد تقدم نظيره
وفي الكلام هنا معنى الإنحاء عليهم وتعظيم مصابهم
والسموم أشد ما يكون من الحر اليابس الذي لا بلل معه
والحميم السخن جدا من المائع الذي في جهنم والعرب تقول للماء السخن حميما
واليحموم الأسود وهو بناء مبالغة
245

واختلف الناس في هذا الشيء الأسود الذي يظل أهل النار ما هو فقال ابن عباس ومجاهد وأبو مالك وابن زيد هو الدخان وهذا قول الجمهور
وقال ابن عباس أيضا هو سرادق النار المحيط باهلها فإنه يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم وحكى النقاش ان اليحموم اسم من أسماء جهنم وقاله ابن كيسان وقال ابن بريدة وابن زيد أيضا في كتاب الثعلبي هو جبل من نار أسود يفزع أهل النار إلى ذراه فيجدونه أشد شيء وأمره
وقوله * (ولا كريم) * قال الطبري وغيره معناه ليس له صفة مدح في الظلال وهذا كما تقول ثوب كريم ونسب كريم يعني بذلك ان له صفات مدح
قال القاضي أبو محمد ويحتمل ان يصفه بعدم الكرم على معنى ألا كرامة لهم وذلك أن المرء في الدنيا قد يصبر على سوء الموضوع لقرينة إكرام يناله فيه من أحد فجمع هذا الظل في النار انه سيىء الصفة وهم فيه مهانون
والمترف المنعم في سرف وتخوض
و * (يصرون) * معناه يعتقدون اعتقادا لا ينوون عنه إقلاعا قال ابن زيد لا يثوبون ولا يستغفرون
و * (الحنث) * الإثم ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (من مات له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث)
الحديث أراد لم يبلغوا الحلم فتتعلق بهم الآثام
وقال الخطابي * (الحنث) * في كلام العرب العدل الثقيل شبه الإثم به
واختلف المفسرون في المراد بهذا الإثم هنا فقال قتادة والضحاك وابن زيد هو الشرك وهذا هو الظاهر
وقال قوم في ما ذكر مكي هو الحنث في قسمهم الذي يتضمنه قوله تعالى * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) * الأنعام 109 النحل 38 النور 53 فاطر 42 الآية في التكذيب بالبعث وهذا أيضا يتضمن الكفر فالقول به على عمومه أولى
وقال الشعبي * (الحنث العظيم) * اليمين الغموس
وقد تقدم ذكر اختلاف القراء في قوله * (أئذا) * و * (إنا) * ويختص من ذلك بهذا الموضع ان ابن عامر يخالف فيه أصله فيقرأ هذا (أئذا)
(أئنا) بتحقيق الهمزتين فيهما على الاستفهام ورواه أبو بكر عن عاصم في قوله " إنا لمبعوثون " والعامل في قوله * (أئذا) * فعل مضمر يدل عليه قوله * (لمبعوثون) * تقديره انبعث أو نحشر ولا يعمل فيه ما بعده لأنه مضاف إليه
وقرا عيسى الثقفي (متنا) بضم الميم وقرا جمهور الناس (متنا) بكسرها وهذا على لغة من يقول مت أموت على وزن فعل بكسر العين يفعل بضمها ولم يحك منها عن العرب الا هذه اللفظة وأخرى هو فضل يفضل
وقرا بعض القراء (أو) بسكون الواو ومعنى الآية استبعاد ان يبعثوا هم وآباؤهم على حد واحد من الاستبعاد وقرا الجمهور (أو آباؤنا) بتحريك الواو على أنها واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام ومعناها شدة الاستبعاد في الآباء كأنهم استبعدوا ان يبعثوا ثم اتوا بذكر من البعث فيهم أبعد وهذا بين لأهل العلم بلسان العرب
246

ثم امر الله تعالى نبيه ان يعلمهم بأن العالم محشور ومبعوث ل * (يوم معلوم) * موقت و * (ميقات) * مفعال من الوقت كميعاد من الوعد
وقوله عز وجل
سورة الواقعة 51 - 62
وقوله * (ثم إنكم) * مخاطبة لكفار قريش ومن كان في حالهم و " من " في قوله * (من شجر) * يحتمل أن تكون للتبعيض ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية و " من " في قوله * (من زقوم) * لبيان الجنس والضمير في * (منها) * عائد على الشجر و (من) للتبعيض أو لابتداء الغاية والضمير في * (عليه) * عائد على المأكول أو على الأكل
وفي قراءة ابن مسعود (لآكلون من شجر) على الإفراد
و * (الهيم) * قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك هو جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء معطش يشرب معه الجمل حتى يموت أو يسقهم سقما شديدا والأنثى هيماء
وقال بعضهم هو جمع هيماء كبيض وعين وقال قوم آخرون هو جمع هائم وهائمة وهذا أيضا من هذا المعنى لأن الجمل إذا أصابه ذلك الداء هام على وجهه وذهب وقال سفيان الثوري وابن عباس * (الهيم) * هنا الرمال التي لا تروى من الماء وذلك أن الهيام بفتح الهاء هو الرمل الدق الغمر المتراكم وقال ثعلب
الهيام بضم الهاء الرمل الذي لا يتماسك
وقرا ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والكسائي (شرب) بفتح الشين وهي قراءة الأعرج وابن المسيب وشعيب بن الحبحاب ومالك بن دينار وابن جريج ولا خلاف انه مصدر وقرا مجاهد (شرب) بكسر الشين ولا خلاف انه اسم وقرأ أهل المدينة وباقي السبعة (شرب) بضم الشين واختلف فيه فقال قوم وهو مصدر وقال آخرون هو اسم لما يشرب
والنزل أول ما يأكل الضيف
وقرأ عمرو في رواية عباس (نزلهم) ساكنة الزاي وقرا الباقون واليزيدي عن أبي عمرو بضم الزاي وهما لمعنى كالشغل والشغل
و * (الدين) * الجزاء
ثم أخبر تعالى انه الخالق وحضض على التصديق على وجه التقريع ثم ساق الحجة الموجبة للتصديق كان معترضا من الكفار قال ولم أصدق فقيل له أفرأيت كذا وكذا الآيات وليس يوجد مفطور يخفى عنه ان المني الذي يخرج منه ليس له فيه عمل ولا إرادة ولا قدرة
و * (أم) * في قوله * (أم نحن) * ليست المعادلة عند سيبويه لأن الفعل قد تكرر وإنما المعادلة عنده أقام زيد أم عمرو وهذه
247

التي في هذه الآية معادلة عند قوم من النحاة واما إذا تغاير الفعلان فليست بمعادلة إجماعا
وقرأ الجمهور (تمنون) بضم التاء وقرا ابن عباس وأبو السمال (تمنون) بفتح التاء ويقال امنى الرجل ومنى بمعنى واحد
وقرا جمهور القراء (قدرنا) بشد الدال
وقرأ كثير وحده (قدرنا) بتخفيفها
والمعنى فيها يحتمل أن يكون بمعنى قضينا وأثبتنا ويحتمل ان يكون بمعنى سوينا وعدلنا التقدم والتأخر أي جعلنا الموت رتبا ليس يموت العالم دفعة واحدة بل بترتيب لا يعدوه أحد
وقال الطبري معنى الآية (قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم) أي تموت طائفة ونبدلها بطائفة هكذا قرنا بعد قرن
وقوله " وما نحن بمسبوقين " على تبديلكم إن أردناه وإن ننشئكم بأوصاف لا يصلها عملكم ولا يحيط بها كفركم
قال الحسن من كونكم قردة وخنازير
قال القاضي أبو محمد تأول الحسن هذا لأن الآية تنحو إلى الوعيد وجاءت لفظة (السبق) هنا على نحو قوله عليه السلام (فإن استطعتم ان لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا لا تفوتنكم)
وقرأ جمهور الناس (النشأة) بسكون الشين
وقرأ قتادة وأبو الأشهب وأبو عمر وبخلاف (النشأة) بفتح الشين والمد
وقال أكثر المفسرين أشار إلى خلق آدم ووقف عليه لأنه لا تجد أحدا ينكر أنه من ولد آدم وانه من طين
وقال بعضهم أراد ب * (النشأة الأولى) * نشأة إنسان إنسان في طفوليته فيعلم المرء نشأته كيف كانت بما يري من نشأة غيره ثم حضض على التذكر والنظر المؤدي إلى الإيمان
وقرأ الجمهور (تذكرون) مشددة الذال
وقرا طلحة (تذكرون) بسكون الذال وضم الكاف وهذه الآية نص في استعمال القياس والحض عليه
قوله عز وجل
سورة الواقعة 63 - 74
وقف تعالى الكفار على امر الزرع الذي هو قوام العيش وبين لكل مفطور ان الحراث الذي يثير الأرض ويفرق الحب ليس يفعل في نبات الزرع شيء وقد يسمى الإنسان زارعا ومنه قوله عز وجل
248

* (يعجب الزراع) * الفتح 29 معنى هذه الآية * (أأنتم تزرعونه) * زرعا يتم * (أم نحن) *
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تقولن زرعت ولكن قل حرثت) ثم تلا أبو هريرة هذه الآية
والحطام اليابس المتفتت من النبات الصائر إلى ذهاب وبه شبه حطام الدنيا
وقيل المعنى نبتا لا قمح فيه و * (تفكهون) * قال ابن عباس ومجاهد وقتادة معناه تعجبون وقال عكرمة تلامون
وقال الحسن معناه تندمون وقال ابن زيد تتفجهون وهذا كله تفسير لا يخص اللفظة والذي يخص اللفظ هو تطرحون الفاكهة عن أنفسكم وهي المسرة والجدل ورجل فكه إذا كان منبسط النفس غير مكترث بالشيء وتفكه من أخوات تحرج وتحوب
وقرا الجمهور (فظلتم) بفتح الظاء وروى سفيان الثوري في قراءة عبد الله كسر الظاء
قال أبو حاتم طرحت عليها حركة اللام المجزومة وذلك رديء في القياس وهي قراءة أبو حيوة
وروى أحمد بن موسى (فظللتم) بلامين الأولى مفتوحة عن الجحدري ورويت عن ابن مسعود بكسر اللام الأولى
وقوله * (إنا لمغرمون) * قبله حذف تقديره يقولون
وقرأ الأعمش وعاصم الجحدري (أإنا لمغرمون) بهمزتين على الاستفهام والمعنى يحتمل ان يكون إنا لمعذبون من الغرام وهو أشد العذاب ومنه قوله تعالى * (إن عذابها
كان غراما) * الفرقان 65 ومنه قول الأعشى
(إن يعذب يكن غراما وإن يعط
* جزيلا فإنه لا يبالي) الخفيف
ويحتمل ان يكون إنا لمحملون الغرم أي غرمنا في النفقة وذهب زرعنا تقول غرم الرجل وأغرمته فهو مغرم
وقد تقدم تفسير المحروم وانه المحدود والمحارب و * (المزن) * السحاب بلا خلاف ومنه قول الشاعر (السموأل بن عاديا اليهودي)
(ونحن كماء المزن ما في نصابنا
* كهام ولا فينا يعد بخيل) الطويل
والأجاج أشد المياه ملوحة وهو ماء البحر الأخضر
و * (تورون) * معناه تقتدحون من الأزند تقول اوريت النار من الزناد
وروى الزناد نفسه والزناد قد يكون من حجرين ومن حجر وحديدة ومن شجر لا سيما في بلاد العرب ولا سيما في الشجر الرخو كالمرخ والعفار والكلح وما أشبهه ولعادة العرب في ازنادهم من شجر قال تعالى * (أأنتم أنشأتم شجرتها) * وقال بعض أهل النظر أراد بالشجرة نفس النار وكأنه يقول نوعها أو جنسها فاستعار الشجرة لذلك
قال القاضي أبو محمد وهذا قول فيه تكلف
وقرا الجمهور (آنتم) بالمد وروي عن أبي عمرو وعيسى (أنتم) بغير مد وضعفها أبو حاتم
و * (تذكرة) * معناه تذكر نار جهنم قاله مجاهد وقتادة والمتاع ما ينتفع به
والمقوى في هذه
249

الآية الكائن في الأرض القواء وهي الفيافي وعبر الناس في تفسير " المقوين " بأشياء ضعيفة كقول ابن زيد للجائعين ونحوه
ولا يقوى منها ما ذكرناه ومن قال معناه للمسافرين فهو نحو ما قلناه وهي عبارة ابن عباس رضي الله عنه تقول أصبح الرجل دخل في الصباح
وأصحر دخل في الصحراء وأقوى دخل في الأرض القواء ومنه أقوت الدار وأقوى الطلل أي صار قواء ومنه قول النابغة
(أقوت وطال عليها سالف الأبد
*) البسيط
وقول الآخر
(أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
*) الكامل
والفقير والغني إذا أقوى سواء في الحاجة إلى النار ولا شيء يغني غناءها في الصرد ومن قال إن أقوى من الأضداد من حيث يقال أقوى الرجل إذا قويت دابته فقد أخطأ وذلك فعل آخر كأترب إذا أترب ثم امر نبيه بتنزيه ربه تعالى وتبرئة أسمائه العلى عما يقوله الكفرة الذين حجوا في هذه الآيات
قوله عز وجل
سورة الواقعة 75 - 87
اختلف الناس في (لا) من قوله * (فلا أقسم بمواقع النجوم) * فقال بعض النحويين هي زائدة والمعنى فأقسم وزيادتها في بعض المواضع معروف كقوله تعالى * (لئلا يعلم أهل الكتاب) * الحديد 29 وغير ذلك وقال سعيد بن جبير وبعض النحويين هي نافية كأنه قال * (فلا) * صحة لما يقوله الكفار ثم ابتدأ * (أقسم بمواقع النجوم) * وقال بعض المتأولين هي مؤكدة تعطي في القسم مبالغة ما وهي كاستفتاح كلام مشبه في القسم الا في شائع الكلام القسم وغيره ومن هذا قول الشاعر
(فلا وأبي أعدائها لا اخونها
*) الطويل
والمعنى فوأبي أعدائها ولهذا نظائر
وقرا الحسن والثقفي (فلأقسم) بغير ألف قال أبو الفتح التقدير فلأنا أقسم
وقرا الجمهور من القراء (بمواقع) على الجمع وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود وأهل
250

الكوفة وحمزة والكسائي (بموقع) على الإفراد وهو مراد به الجمع ونظير هذا كثير ومنه قوله تعالى * (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) * لقمان 19 جمع من حيث لكل حمار صوت مختص وأفرد من حيث الأصوات كلها نوع
واختلف الناس في * (النجوم) * هنا فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم هي نجوم القرآن التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أنه روى أن القرآن
نزل من عند الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا وقيل إلى البيت المعمور جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك على محمد نجوما مقطعة في مدة من عشرين سنة
قال القاضي أبو محمد ويؤيد هذا القول عود الضمير على القرآن في قوله * (إنه لقرآن كريم) * وذلك أن ذكره لم يتقدم الا على هذا التأويل ومن لا يتأول بهذا التأويل يقول إن الضمير يعود على القرآن وإن لم يتقدم ذكر لشهرة الأمر ووضوح المعنى كقوله تعالى * (حتى توارت بالحجاب) * ص 32 و * (كل من عليها فان) * الرحمن 26 وغير ذلك
وقال جمهور كثير من المفسرين * (النجوم) * هنا الكواكب المعروفة
واختلف في موقعها فقال مجاهد وأبو عبيدة هي مواقعها عند غروبها وطلوعها وقال قتادة مواقعها مواضعها من السماء وقيل مواقعها عند الانقضاض إثر العفاريت وقال الحسن مواقعها عند الانكدار يوم القيامة
وقوله تعالى * (وإنه لقسم) * تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به وليس هذا باعتراض بين الكلامين بل هذا معنى قصد التهمم به وإنما الاعتراض قوله * (لو تعلمون) * وقد قال قوم إن قوله * (وإنه لقسم) * اعتراض وإن * (لو تعلمون) * اعتراض في اعتراض والتحرير هو الذي ذكرناه
وقوله * (إنه لقرآن) * هو الذي وقع القسم عليه ووصفه بالكرم على معنى إثبات صفات المدح له ودفع صفات الحطيطة عنه
واختلف المتأولون في قوله تعالى * (في كتاب مكنون) * بعد اتفاقهم على أن المكنون المصون فقال ابن عباس ومجاهد أراد الكتاب الذي في السماء
وقال عكرمة أراد التوراة والإنجيل كأنه قال إنه لكتاب كريم ذكر كرمه وشرفه * (في كتاب مكنون) *
قال القاضي أبو محمد فمعنى الآية على هذا الاستسهاد بالكتب المنزلة وهذا كقوله عز وجل * (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله) * التوبة 36
وقال بعض المتأولين أراد مصاحف المسلمين وكانت يوم نزلت الآية لم تكن فهي على هذا إخبار بغيب وكذلك هو في كتاب مصون إلى يوم القيامة ويؤيد هذا لفظة المس فإنها تشير إلى المصاحف أو هي استعارة في مس الملائكة
واختلف الناس في معنى قوله * (لا يمسه إلا المطهرون) * وفي حكمه فقال من قال إن الكتاب المكنون هو الذي في السماء
* (المطهرون) * هنا الملائكة قال قتادة فأما عندكم فيمسه المشرك المنجس والمنافق قال الطبري * (المطهرون) * الملائكة والأنبياء ومن لا ذنب له وليس في الآية على هذا القول
251

حكم مس المصحف لسائر بني آدم ومن قال بأنها مصاحف المسلمين قال إن قوله * (لا يمسه) * إخبار مضمنه النهي وضمة السين على هذا ضمة إعراب وقال بعض هذه الفرقة بل الكلام نهي وضمة السين ضمة بناء قال جميعهم فلا يمس المصحف من جميع بني آدم الا الطاهر من الكفر والجنابة والحدث الأصغر
قال مالك لا يحمله غير طاهر بعلاقته ولا على وسادة
وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم (ولا يمس المصحف الا الطاهر) وقد رخص أبو حنيفة وقوم بأن يمسه الجنب والحائض على حائل غلاف ونحوه ورخص بعض العلماء في مسه بالحدث الأصغر وفي قراءته عن ظهر قلب منهم ابن عباس وعامر الشعبي ولا سيما للمعلم والصبيان وقد رخص بعضهم للجنب في قراءته وهذا الترخيص كله مبني على القول الذي ذكرناه من أن المطهرين هم الملائكة أو على مراعاة لفظ اللمس فقد قال سليمان لا أمس المصحف ولكن أقرأ القرآن
وقرا جمهور الناس (المطهرون) بفتح الطاء والهاء المشددة
وقرا نافع وأبو عمرو بخلاف عنهما (المطهرون) بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة وهي قراءة عيسى الثقفي
وقرا سلمان الفارسي (المطهرون) بفتح الطاء خفيفة وكسر الهاء وشدها على معنى الذين يطهرون أنفسهم ورويت عنه بشد الطاء والهاء
وقرا الحسن وعبد الله بن عون وسلمان الفارسي بخلاف عنه المطهرون بشد الطاء بمعنى المتطهرون
قال القاضي أبو محمد والقول بأن * (لا يمسه) * نهي قول فيه ضعف وذلك أنه إذا كان خبرا فهو في موضع الصفة وقوله بعد ذلك * (تنزيل) * صفة أيضا فإذا جعلناه نهيا جاء معنى أجنبيا معترضا بين الصفات وذلك لا يحسن في رصف الكلام فتدبره
وفي حرف ابن مسعود (ما يمسه) وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه حقه وقدره ان لا يمسه الا طاهر
وقوله عز وجل * (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) * مخاطبة للكفار و * (الحديث) * المشار إليه هو القرآن المتضمن البعث وإن الله تعالى خالق الكل وإن ابن آدم مصرف بقدره وقضائه وغير ذلك و * (مدهنون) * معناه يلاين بعضكم بعضا ويتبعه في الكفر مأخوذ من الدهن للينه وإملاسه
وقال أبو قيس بن الأسلت الحزم والقوة خير من الإدهان والفهة والهاع وقال ابن عباس هو المهاودة فيما لا يحل والمداراة هي المهاودة فيما يحل وقال ابن عباس * (مدهنون) * مكذبون
وقوله عز وجل * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * أجمع المفسرين على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله الله للعباد هذا بنوء كذا وكذا وهذا ب (عثانين) الأسد وهذا بنوء الجوزاء وغير ذلك
والمعنى وتجعلون شكر رزقكم كما تقول لرجل جعلت يا فلان إحساني إليك ان تشتمني المعنى جعلت شكر إحساني
وحكى الهيثم بن عدي ان من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان بمعنى ما شكره
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرؤها (وتجعلون شكركم إنكم تكذبون) وكذلك قرأ ابن عباس ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم الا ان ابن عباس ضم التاء وفتح الكاف وعلي رضي الله عنه فتح التاء وسكن الكاف وخفف الذال ومن هذا المعنى قول الشاعر
252

(وكان شكر القوم عند المنى
* كي الصحيحات وفقء الأعين) السريع
وقد أخبر الله تعالى أنه انزل من السماء ماء مباركا فأنبت به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد فهذا معنى قوله * (أنكم تكذبون) * أي بهذا الخبر
وقرا عاصم في رواية المفضل عنه (تكذبون) بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف الدال كقراءة علي بن أبي طالب
وكذبهم في مقالتهم بين لأنهم يقولون هذا بنوء كذا وذلك كذب منهم وتخرص وذكر الطبري ان النبي عليه السلام سمع رجلا يقول مطرنا ببعض عثانين الأسد فقال له (كذبت بل هو رزق الله)
قال القاضي أبو محمد والنهي عنه المكروه هو ان يعتقد ان للطالع من النجوم تأثيرا في المطر واما مراعاة بعض الطوالع على مقتضى العادة فقد قال عمر للعباس وهما في الاستسقاء يا عباس يا عم النبي عليه السلام كم بقي من نوء الثريا فقال العباس العلماء يقولون إنها تتعرض في الأفق بعد سقوطها سبعا
قال ابن المسيب فما مضت سبع حتى مطروا
وقوله تعالى * (فلولا إذا بلغت الحلقوم) * توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه ان الله تعالى ملك كل شيء والضمير في * (بلغت) * لنفس الإنسان والمعنى يقتضيها وإن لم يتقدم لها ذكر
و * (الحلقوم) * مجرى الطعام وهذه الحال هي نزاع المرء للموت
وقوله * (وأنتم) * إشارة إلى جميع البشر وهذا من الاقتضاب كقوله تعالى * (ولا تقتلوا أنفسكم) * النساء 29
وقرا عيسى بن عمر (حينئذ) بكسر النون
و * (تنظرون) * معناه إلى المنازع في الموت
وقوله تعالى * (ونحن أقرب إليه منكم) * يحتمل ان يريد ملائكته ورسله ويحتمل ان يريد بقدرتنا وغلبتنا فعلى الاحتمال يجيء قوله * (ولكن لا تبصرون) * من البصر بالعين وعلى التأويل الثاني يجيء من البصر بالقلب
وقال عامر بن عبد قيس ما نظرت إلى شيء الا رأيت الله أقرب اليه مني ثم عاد التوقيف والتقرير ثانية بلفظ التحضيض والمدين المملوك هذا أصح ما يقال في معنى اللفظة هنا ومن عبر عنها بمجازي أو بمحاسب فذلك هنا قلق والمملوك يقلب كيف يشاء المالك ومن هذا الملك قول الأخطل
(ربت وربا في حجرها ابن مدينة
* تراه على مسحاته يتركل) الطويل
أراد ابن أمة مملوكة وهو عبد يخدم الكرم وقد قيل في معنى هذا البيت أراد اكارا حضريا لأن الاعراب في البادية لا يعرفون الفلاحة وعمل الكرم فنسبه إلى المدينة لما كان من أهلها فبمعنى الآية فلولا ترجعون النفس البالغة الحلقوم ان كنتم غير مملوكين مقهورين ودين الملك حكمه وسلطانه وقد نحا إلى هذا المعنى الفراء وذكره مستوعبا النقاش
وقوله * (ترجعونها) * سدت مسد الأجوبة والبيانات التي يقتضيها التحضيضات و * (إذا) * من قوله
253

* (فلولا إذا) * و * (أن) * المتكررة وحمل بعض القول بعضا إيجازا واقتضابا
قوله عز وجل
سورة الواقعة 88 - 96
ذكر الله تعالى في هذه الآية حال الأزواج الثلاثة المذكورين في أول السورة وحال كل امرئ منهم فأما المرء من السابقين المقربين فيلقى عند موته روحا وريحانا ولروح الرحمة والسعة والفرح ومنه * (روح الله) * يوسف 87 والريحان وهو دليل النعيم وقال مجاهد الريحان الرزق
وقال أبو العافية وقتادة والحسن الريحان هذا الشجر المعروف في الدنيا يلقى المقربين ريحانا من الجنة
وقرأ الحسن وابن عباس وجماعة كثيرة (فروح) بضم الراء
وقال الحسن ومعناه روحه يخرج في ريحانه وقال الضحاك الريحان الاستراحة
قال القاضي أبو محمد الريحان ما تنبسط اليه النفوس وقال الخليل هو طرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور وقد قال عليه السلام في الحسن والحسين (هما ريحانتاي من الدنيا) وقال النمر بن تولب
(سلام الإله وريحانه
* ورحمته وسماء درر) المتقارب
وقالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ (فروح) بضم الراء
وقوله تعالى * (فسلام لك من أصحاب اليمين) * عبارة تقتضي جملة مدح وصفة تخلص وحصول في عال من المراتب ليس في أمرهم إلا السلام والنجاة من العذاب وهذا كما تقول في مدح رجل اما فلان فناهيك به أو فحسبك امره فهذا يقتضي جملة غير مفضلة من مدحه وقد اضطربت عبارات المتأولين في قوله تعالى * (فسلام لك) * فقال قوم المعنى فيقال له مسلم لك إنك من أصحاب اليمين وقال الطبري المعنى * (فسلام لك) * أنت * (من أصحاب اليمين) * وقيل المعنى * (فسلام لك) * يا محمد أي لا ترى فيهم الا المسالمة من العذاب فهذه الكاف في ذلك إما أن تكون للنبي عليه السلام وهوالأظهر ثم لكل معشر فيها من أمته وإما أن تكون لمن يخاطب من أصحاب اليمين وغير هذا مما قيل تكلف
و (المكذبون الضالون) هم الكفار أصحاب الشمال والمشآمة و (النزل) أول شيء يقدم للضيف والتصلية ان يباشر بهم النار وحيت تراكمها ولما كمل تقسيم أحوالهم وانقضى الخبر بذلك اكد تعالى الأخبار بان قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مخاطبة تدخل معه أمته فيها إن هذا الذي أخبرنا به * (لهو حق اليقين) * وإضافة الحق إلى * (اليقين) * عبارة فيها مبالغة لأنهما بمعنى واحد فذهب بعض الناس إلى أنه من باب دار الآخرة ومسجد الجامع وذهب فرقة من الحذاق إلى أنه كما تقول في امر تؤكده هذا
254

يقين اليقين أو صواب الصواب بمعنى انه نهاية الصواب وهذا أحسن ما قيل فيه وذلك لأن دار الآخرة وما أشبهها يحتمل ان تقدر شيئا أضفت الدار اليه وصفته بالآخرة ثم حذفت وأقمت الصفة مقامه كأنك قلت دار الرجعة أو النشأة أو الخلقة وهنا لا يتجه هذا وإنما هي عبارة مبالغة وتأكيد معناه ان هذا الخبر هو نفس اليقين وحقيقته
وقوله تعالى * (فسبح باسم ربك العظيم) * عبارة تقتضي الأمر بالاعراض عن أقوال الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة الله تعالى والدعاء اليه
وروى عقبة بن عامر انه لما نزل * (فسبح باسم ربك العظيم) * قال النبي صلى الله عليه وسلم (اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت * (سبح اسم ربك الأعلى) * الأعلى 1 قال اجعلوها في سجودكم) ويحتمل ان يكون المعنى سبح لله بذكر أسمائه العلى والاسم هنا بمعنى الجنس أي بأسماء ربك و * (العظيم) * صفة للرب وقد يحتمل ان يكون الاسم هنا واحدا مقصودا ويكون * (العظيم) * صفة له فكأنه امره ان يسبحه باسمه العظيم وإن كان لم ينص عليه ويؤيد هذا ويشير اليه ايصال سورة الحديد أولها ففيه التسبيح وجملة من أسماء الله تعالى وقد قال ابن عباس اسم الله الأعظم موجود في ست آيات من أول سورة الحديد فتأمل هذا فإنه من دقيق النظر ولله تعالى في كتابه العزيز غوامض لا تكاد الأذهان تدركها
كمل تفسير سورة الواقعة والحمد لله رب العالمين
255

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحديد
وهي مدنية فيما قال النقاش وغيره بإجماع من المفسرين وقال غيره مكية
قال القاضي أبو محمد ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه صدرها ان يكون مكيا والله أعلم وقد ذكرنا قول ابن عباس إن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد وروي ان الدعاء مستجاب بعد قراءتها
قوله عز وجل
سورة الحديد 1 - 4
قال أكثر المفسرين التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم سبحان الله وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوام ان التسبيح مما ذكر دائم مستمر واختلفوا هل هذا التسبيح حقيقة أو مجاز على معنى ان أثر الصنعة فيها تنبه الرائي على التسبيح فقال الزجاج وغيره والقول بالحقيقة أحسن وقد تقدم القول فيه غير مرة وهذا كله في الجمادات واما ما يمكن التسبيح منه فقول واحد إن تسبيحهم حقيقة وقال قوم من المفسرين التسبيح في هذه السورة الصلاة وهذا قول متكلف فأما فيمن يمكن منه ذلك فسائغ واما سجود ظلال الكفار هي صلاتهم واما في الجمادات فيقلق وذلك أن خضوعها وخشوع هيئاتها قد يسمى في اللغة سجودا أو استعارة كما قال الشاعر زيد الخيل
(ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
*) الطويل
ويبعد ان تسمى تلك صلاة الأعلى تحامل
وقوله * (ما في السماوات والأرض) * عام في جميع المخلوقات وقال بعض النحاة التقدير ما في السماوات وما في الأرض ف (ما) نكرة موصوفة حذفها وأقام الصفة مقامها * (وهو العزيز) * بقدرته وسلطانه * (الحكيم) * بلطفه وتدبيره وحكمته
و * (ملك السماوات والأرض) * هو سلطانها الحقيقي الدائم لأن ملك البشر مجاز فان
256

وقوله تعالى " وهو على كل شيء قدير " أي على كل شيء مقدور * (هو الأول) * الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة
* (والآخر) * الدائم الذي ليس له نهاية منقضية
قال أبو بكر الوراق * (هو الأول) * بالأزلية * (والآخر) * بالأبدية و * (هو الأول) * بالوجود إذ كل موجود فبعده وبه
* (والآخر) * إذا ترقى العقل في الموجودات حتى يكون اليه منتهاها قال عز وجل * (وأن إلى ربك المنتهى) * النجم 42 * (والظاهر) * معناه بالأدلة ونظر العقول في صنعته
* (والباطن) * بلطفه وغوامض حكمته وباهر صفاته التي لا يصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهام
ويحتمل ان يريد بقوله * (الظاهر والباطن) * أي الذي بهر وملك فيما ظهر للعقول وفيما خفي عنها فليس في الظاهر غيره حسب قيام الأدلة وليس في باطن الأمر وفيما خفي عن النظرة مما عسى ان يتوهم غيره
وقوله تعالى " وهو بكل شيء عليم " عام في الأشياء عموما تاما
وقد تقدم القول في خلق السماوات والأرض
وأكثر الناس على أن بدأة الخلق هي في يوم الأحد ووقع في مسلم ان البدأة في يوم السبت وقال بعض المفسرين الأيام الستة من أيام القيامة
وقال الجمهور بل من أيام الدنيا
قال القاضي أبو محمد وهو الأصوب
والاستواء على العرش هو بالغلبة والقهر المستمرين بالقدرة وليس في ذلك ما في قهر العباد من المحاولة والتعب
وقد تقدم القول في مسألة الاستواء مستوعبا في (طه) وغيرها
و * (ما يلج في الأرض) * هو المطر والأموات وغير ذلك * (وما يخرج منها) * النبات والمعادن وغير ذلك
* (وما ينزل من السماء) * الملائكة والرحمة والعذاب وغير ذلك
* (وما يعرج) * الأعمال صالحها وسيئها والملائكة وغير ذلك
وقوله تعالى " وهو معكم أينما كنتم " معناه بقدرته وعلمه وإحاطته
وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها وانها مخرجة عن معنى لفظها المعهود ودخل في الاجماع من يقول بأن المشتبه كله ينبغي ان يمر ويؤمن به ولا يفسر فقد اجمعوا على تأويل هذه لبيان وجوب إخراجها عن ظاهرها
قال سفيان الثوري معناه علمه معكم وتأولهم هذه حجة عليهم في غيرها
وقوله عز وجل
سورة الحديد 5 - 9
قوله تعالى * (وإلى الله ترجع الأمور) * خبر يعم جميع الموجودات و * (الأمور) * هنا ليست جمع
257

المصدر بل هي جميع الموجودات لأن الأمر والشيء والوجود أسماء شائعة في جميع الموجودات أعراضها وجوهرها
وقرأ الجمهور (ترجع) بضم التاء وقرأ الأعرج والحسن وابن أبي إسحاق (ترجع) بفتح التاء وقوله تعالى * (يولج الليل في النهار) * الآية تنبيه على العبرة فيما يتجاذبه الليل والنهار من الطول والقصر وذلك متشعب مختلف حسب اختلاف الأقطار والأزمان الأربعة وذلك بحر من بحار الفكرة لمن تأمله
(ويولج) معناه يدخل
و * (ذات الصدور) * ما فيها من الأسرار والمعتقدات وذلك أغمض ما يكون
وهذا كما قالوا الذئب مغبوط بذي بطنه وكما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إنما هو ذو بطن بنت خارجة
قوله تعالى * (آمنوا بالله ورسوله) * الآية امر للمؤمنين بالثبوت على الإيمان والنفقة في سبيل الله ويروى ان هذه الآية نزلت في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك قاله الضحاك وقال الإشارة بقوله " فالذين آمنوا وانفقوا " إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وحكمها باق يندب إلى هذه الأفعال بقية الدهر
وقوله * (مما جعلكم مستخلفين) * تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير إلى الانسان من غيره ويتركها لغيره وليس له من ذلك الا ما تضمنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم (يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك الا ما اكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت) ويروى ان رجلا مر بأعرابي له إبل فقال له يا اعرابي لمن هذه الإبل فقال هي لله عندي
فهذا موقف مصيب إن كان ممن صحب قوله عمله
وقوله تعالى * (وما لكم لا تؤمنون بالله) * الآية توطئة لدعائهم وإيجاب لأنهم أهل هذه الرتب الرفيعة فإذا تقرر ذلك فلا مانع من الإيمان وهذا كما تريد ان تندب رجلا إلى عطاء فتقول له أنت يا فلان من قوم أجواد فينبغي ان تكرم وهذا مطرد في جميع الأمور إذا أردت من أحد فعلا خلقته بخلق أهل ذلك الفعل وجعلت له رتبتهم فإذا تقرر في هؤلاء أن الرسول يدعو وانهم ممن اخذ الله ميثاقهم فكيف يمتنعون من الإيمان
وقرا جمهور القراء (وقد أخذ) على بناء الفعل للفاعل
وقرا أبو عمرو (قد أخذ) على بناء الفعل للمفعول والأخذ على كل قول هو الله تعالى وهو الآخذ حين الإخراج من ظهر آدم على ما مضى في غير هذه السورة والمخاطبة ببناء الفعل المفعول أشد غلظة على المخاطب ونحوه قوله تعالى " فاستقم كما أمرت " هود 112 وكما تقول لامرىء افعل كما قيل لك فهو أبلغ من قولك افعل ما قلت لك
وقوله * (إن كنتم مؤمنين) * قال الطبري المعنى إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن
قال القاضي أبو محمد وهذا معنى ليس في ألفاظ الآية وفيه إضمار كثير وإنما المعنى عندي ان قوله وإن الرسول * (يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين) * يقتضي ان يقدر بأثره فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة إن كنتم مؤمنين أي إن دمتم على ما بدأتم به
258

وقرأ بعض السبعة (ينزل) مثقلة
وقرا بعضهم (ينزل) مخففة
وقرا الحسن وعيسى بالوجهين وقرأ الأعمش (أنزل)
والعبد في قوله * (على عبده) * محمد رسوله
والآيات آيات القرآن
و * (الظلمات) * الكفر و * (النور) * الإيمان وباقي الآية وعد وتأنيس مؤكد
قوله عز وجل
سورة الحديد 10 - 11
والمعنى " وما لكم لا تنفقوا في سبيل الله " وأنتم تموتون وتتركون أموالكم فناب مناب هذا القول قوله * (ولله ميراث السماوات والأرض) * وفيه زيادة تذكير بالله وعبرة وعنه يلزم القول الذي قدرناه
وقوله تعالى * (لا يستوي منكم) * الآية روي أنها نزلت بسبب ان جماعة من الصحابة أنفقت نفقات كثيرة حتى قال ناس هؤلاء أعظم اجرا من كل من انفق قديما فنزلت الآية مبينة ان النفقة قبل الفتح أعظم أجرا
وهذا التأويل على أن الآية نزلت بعد الفتح وقد قيل إنها نزلت قبل الفتح تحريضا على الإنفاق والأول أشهر وحكى الثعلبي انها نزلت في أبي بكر الصديق ونفقاته وفي معناه قول النبي عليه السلام لخالد بن الوليد (اتركوا لي أصحابي فلو انفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)
واختلف الناس في * (الفتح) * المشار اليه في هذه الآية
فقال أبو سعيد الخدري والشعبي هو فتح الحديبية
وقد تقدم في سورة الفتح تقرير كونه فتحا ورفعه أبو سعيد الخدري إلى النبي عليه السلام ان أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبية
وقال قتادة ومجاهد وزيد بن أسلم هو فتح مكة الذي أزال الهجرة
قال القاضي أبو محمد وهذا هو المشهور الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وقال له رجل بعد فتح مكة: أبايعك على الهجرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الهجرة قد ذهبت بما فيها)
وإن الهجرة شأنها شديد ولكن أبايعك على الجهاد وحكم الآية باق غابر الدهر من انفق في وقت حاجة السبيل أعظم اجرا ممن انفق مع استغناء السبيل
وأكثر المفسرين على أن قوله * (يستوي) * مسند إلى " من " وترك ذكر المعادل الذي لا يستوي معه لأن قوله تعالى * (من الذين أنفقوا من بعد) * قد فسره وبينه
ويحتمل ان يكون فاعل * (يستوي) * محذوفا تقديره لا يستوي منكم الانفاق ويؤيد ذلك ان ذكره قد تقدم في قوله * (وما لكم ألا تنفقوا) * ويكون قوله " من " ابتداء وخبره الجملة الآتية بعد
وقرا جمهور السبعة (وكلا وعد الله الحسنى) وهي الوجه لأن وعد الله ليس يعوقه عائق على أن ينصب المفعول المقدم
وقرا ابن عامر (وكل وعد الله الحسنى) فأما سيبويه رحمه الله فقدر الفعل خبر
259

الابتداء وفيه ضمير عائد وحذفه عنده قبيح لا يجري الا في شعر ونحوه ومنه قول الشاعر جرير بن عطية
(قد أصبحت أم الخيار تدعي
* علي ذنبا كله لم أصنع) الرجز
قال ولكن حملوا الخبر على الصفات كقول جرير
(وما شيء حميت بمستباح
*) الوافر
وعلى الصلات كقوله تعالى * (أهذا الذي بعث الله رسولا) * الفرقان 41 وذهب غير سيبويه إلى أن * (وعد) * في موضع الصفة كأنه قال (أولئك كل وعد الله الحسنى) وصاحب هذا المذهب حصل في هذا التعسف في المعنى فرارا من حذف الضمير في خبر المبتدأ و * (الحسنى) * الجنة قاله مجاهد وقتادة والوعد يتضمن ما قبل الجنة من نصر وغنيمة
وقوله تعالى * (والله بما تعملون خبير) * قول فيه وعد ووعيد
وقوله تعالى * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * الآية قال بعض النحويين " من " ابتداء و * (ذا) * خبر و * (الذي) * صفة وقال آخرون منهم " من " ابتداء و * (ذا) * زائد مع الذي و * (الذي) * خبر الابتداء وقل الحسن نزلت هذه الآية في التطوع في جميع امر الذين
والقرض السلف ونحوه ان يعطي الانسان شيئا وينتظر جزاءه والتضعيف من الله هو في الحسنات يضاعف الله لمن يشاء من عشرة إلى سبعمائة وقد ورد ان التضعيف يربى على سبعمائة وقد مر ذكر ذلك في سورة البقرة بوجوهه من التأويل
وقرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي (فيضاعفه) بالرفع على العطف أو على القطع والاستئناف وقرا عاصم (فيضاعفه) بالنصب في الفاء في جواب الاستفهام وفي ذلك قلق قال أبو علي لأن السؤال لم يقع عن القرض وإنما يقع السؤال عن فاعل القرض وإنما تنصب الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى كأن قوله * (من ذا الذي يقرض) * بمنزلة ان لو قال أيقرض الله أحدا فيضاعفه وقرا ابن كثير (فيضعفه) مشددة العين مضمومة الفاء
وقرأ ذلك ابن عامر الا انه فتح الفاء
والأجر الكريم الذي يقرض به رضى وإقبال وهذا معنى الدعاء يا كريم العفو أي ان مع عفوه رضي وتنعيما وعفو البشر ليس كذلك
260

وقوله عز وجل
سورة الحديد 12 - 14
العامل في * (يوم) * قوله * (وله أجر كريم) * الحديد 11
والرؤية في هذه الآية رؤية عين
والنور قال الضحاك بن مزاحم هي استعارة عبارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه
وقال الجمهور بل هو نور حقيقة وروي في هذا عن ابن عباس وغيره آثار مضمنها ان كل مؤمن ومظهر للإيمان يعطى يوم القيامة نورا فيطفأ نور كل منافق ويبقى نور المؤمنين
حتى أن منهم من نوره يضيء كما بين مكة وصنعاء رفعه قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من نوره كالنخلة السحوق
ومنهم من نوره يضيء ما بين قرب من قدميه قال ابن مسعود ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويتبين مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية
وخص تعالى بين الأيدي بالذكر لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور
واختلف الناس في قوله * (وبأيمانهم) * فقال بعض المتأولين المعنى وعن إيمانهم فكأنه خص ذكر جهة اليمين تشريفا وناب ذلك مناب يقول وفي جميع جهاتهم وقال آخرون منهم المعنى * (وبأيمانهم) * كتبهم بالرحمة
وقال جمهور المفسرين المعنى يسعى نورهم بين أيديهم يريد الضوء المنبسط من أصل النور
* (وبأيمانهم) * أصله والشيء الذي هو متقد فيه
قال القاضي أبو محمد فضمن هذا القول انهم يحملون الأنوار وكونهم غير حاملين أكرم الا ترى ان فضيلة عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنما كانت بنور لا يحملانه
هذا في الدنيا فكيف في الآخرة ومن هذه الآية انتزع حمل المعتق للشمعة
وقرا الناس (بأيمانهم) جمع يمين
وقرأ سهل بن سعد وأبو حيوة (بإيمانهم) بكسر الألف وهو معطوف على قوله * (بين أيديهم) * كأنه قال كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم
وقوله تعالى * (بشراكم) * معناه يقال لهم بشراكم جنات أي دخول جنات فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه
وقوله تعالى * (خالدين فيها) * إلى آخر الآية مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن مسعود (ذلك الفوز العظيم) بغير هو
وقوله تعالى * (يوم يقول المنافقون والمنافقات) * قال بعض النحاة * (يوم) * بدل من الأول وقال آخرون منهم العامل فيه فعل مضمر تقديره اذكر
قال القاضي أبو محمد ويظهر لي ان العامل فيه قوله تعالى * (ذلك هو الفوز العظيم) * ويجيء معنى * (الفوز) * أفخم كأنه يقول إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم وقول المنافقين هذه المقالة الممكنة هو عند انطفاء أنوارهم كما ذكرنا قبل
261

وقولهم * (انظرونا) * معناه انتظرونا ومنه قول الحطيئة
(وقد نظرتكم أبناء عائشة
* للخمس طال بها حبسي وتبساسي) البسيط
وقرأ حمزة وحده وابن وثاب وطلحة والأعمش (أنظرونا) بقطع الألف وكسر الظاء على وزن أكرم
ومنه قول عمر بن كلثوم
(أبا هند فلا تعجل علينا
* وانظرنا نخبرك اليقينا) الوافر
ومعناه أخرونا ومنه النظرة إلى الميسرة وقول النبي عليه السلام (من أنظر معسرا) الحديث ومعنى قولهم اخرونا أخروا مشيكم لنا حتى نلحق ف * (نقتبس من نوركم) * واستقبس الرجل واسقبس اخذ من نور غيره قبسا
وقوله تعالى * (قيل ارجعوا وراءكم) * يحتمل ان يكون من قول المؤمنين ويحتمل ان يكون من قول الملائكة
وقوله " وراءكم " حكى المهدوي وغيره من المفسرين انه لا موضع له من الإعراب وانه كما لو قال ارجعوا ارجعوا وأنه على نحو قول أبي الأسود الدؤلي للسائل وراءك أوسع لك
قال القاضي أبو محمد ولست اعرف مانعا يمنع من أن يكون العامل فيه * (ارجعوا) * والقول لهم * (فالتمسوا نورا) * هو على معنى التوبيخ لهم أي أنكم لا تجدونه
ثم اعلم عز وجل انه يضرب بينهم في هذه الحال * (بسور) * حاجز فيبقى المنافقون في ظلمة ويأخذهم العذاب من الله وحكى عن ابن زيد ان هذا السور هو الأعراف المذكورة في سورة (الأعراف) وقد حكاه المهدوي وقيل هو حاجز آخر غير ذلك وقال عبد الله بن عمر وكعب الأحبار وعبادة بن الصامت وابن عباس هو الجدار الشرقي في مسجد بيت المقدس
وقال زياد بن أبي سوادة قام عبادة على السور الشرقي من بيت المقدس فبكى وقال من هاهنا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم انه رأى جهنم
قال القاضي أبو محمد وفيه باب يسمى باب الرحمة سماه في تفسير هذه الآية عبادة وكعب
وفي الشرق من الجدار المذكور واد يقال له وادي جهنم سماه في تفسير هذه الآية عبد الله بن عمر وابن عباس وهذا القول في السور بعيد والله أعلم وقال قتادة وابن زيد * (الرحمة) * الجنة
و * (العذاب) * جهنم
والسور في اللغة الحجي الذي للمدن وهو مذكور والسور أيضا جمع سورة وهي القطعة من البناء ينضاف بعضها إلى بعض حتى يتم الجدار فهذا اسم جمع يسوغ تذكيره وتأنيثه وهذا الجمع هو الذي أراد جرير في قوله
(لما اتى خبر الزبير تضعضعت
* سور المدينة والجبال الخشع) الكامل
وذلك أن المدينة لم يكن لها قط حجي وأيضا فإن وصفه ان جميع ما في المدينة من بناء تواضع
262

أبلغ ومن رأى انه قصد قصد السور الذي هو الحجي قال إن ذلك إذا تواضع فغيره من المباني أحرى بالتواضع
قال القاضي أبو محمد فإذا كان السور في البيت محتملا للوجهين فليس هو في قوة مر الرياح وصدر القناة وغير ذلك مما هو مذكرمحض استفاد التأنيث مما أضيف اليه
وقوله تعالى * (باطنه فيه الرحمة) * أي جهة المؤمنين * (وظاهره) * جهة المنافقين والظاهر هنا البادي ومنه قول من ظاهر مدينة كذا وقوله تعالى * (ينادونهم) * معناه ينادي المنافقون المؤمنين * (ألم نكن معكم) * في الدنيا فيرد المؤمنون عليهم * (بلي) * كنتم معنا ولكنكم عرضتم أنفسكم للفتنة وهو حب العاجل والقتال عليه قال مجاهد * (فتنتم أنفسكم) * بالنفاق
* (وتربصتم) * معناه هنا بأمانكم " فأبطأتم " به حتى متم
وقال قتادة معناه تربصتم بنا وبمحمد عليه السلام الدوائر وشككتم في امر الله
والارتياب التشكك و * (الأماني) * التي غرتهم هي قولهم سيهلك محمد هذا العام ستهزمه قريش ستأخذه الأحزاب إلى غير ذلك من أمانيهم وطول الأمل غرار لكل أحد و * (أمر الله) * الذي * (جاء) * هو الفتح وظهور الاسلام وقيل هو موت المنافقين وموافاتهم على هذه الحال الموجبة للعذاب و * (الغرور) * الشيطان بإجماع من المتأولين
وقرأ سماك بن حرب بضم الغين وأبو حيوة وينبغي لكل مؤمن ان يعتبر هذه الآية في نفسه وتسويفه في توبته
قوله عز وجل
سورة الحديد 15 - 17
قوله تعالى * (فاليوم لا يؤخذ) * استمرار في مخاطبة المنافقين
قاله قتادة وغيره وروي في معنى قوله * (ولا من الذين كفروا) * حديث وهو ان الله تعالى يقرر الكافرين فيقول له أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي يجميع ذلك من عذاب النار فيقول نعم يا رب فيقول الله تعالى قد سألتك ما هو أيسر من هذا وأنت في صلب أبيك آدم ان لا تشرك بي فأبيت الا الشرك
وقرا جمهور القراء والناس (يؤخذ) بالياء من تحت
وقرا أبو جعفر القارئ (تؤخذ) بالتاء من فوق وهي قراءة ابن عامر في رواية هشام عنه وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج
وقوله * (هي مولاكم) * قال المفسرون معناه هي أولى بكم وهذا تفسير بالمعنى وإنما هي
263

استعارة لأنها من حيث تضمنهم وتباشرهم هي تواليهم وتكون لهم مكان المولى وهذا نحو قول الشاعر عمرو بن معد يكرب
(تحية بينهم ضرب وجميع
*) الوافر
وقوله تعالى * (ألم يأن) * الآية ابتداء معنى مستأنف وروي انه كثر المزاح والضحك في بعض تلك المدة في قوم من شبان المسلمين فنزلت هذه الآية
وقال ابن مسعود مل الصحابة ملة فنزلت الآية
ومعنى * (ألم يأن) * ألم يحن ويقال أني الشيء يأني إذا حان ومنه قول الشاعر
(تمخضت المنون له بيوم
* أنى ولكل حاملة تمام) الوافر
وقرأ الحسن بن أبي الحسن ألما يأن وروي عنه أنه قرأ ألم يين
وهذه الآية على معنى الحض والتقريع قال ابن عباس عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن وسمع الفضل بن موسى قارئا يقرأ هذه الآية والفضل يحاول معصية فكانت الآية سبب توبته
وحكى الثعلبي عن ابن المبارك انه في صباه حرك العود ليضربه فإذا به قد نطق بهذه الآية فتاب ابن المبارك وكسر العود وجاء التوفيق
والخشوع الإخبات والتطامن وهي هيئة تظهر في الجوارح متى كانت في القلب فلذلك خص تعالى القلب بالذكر
وروى شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أول ما يرفع من الناس الخشوع)
وقوله تعالى * (لذكر الله) * أي لأجل ذكر الله ووحيه الذي بين أظهرهم ويحتمل ان يكون المعنى لأجل تذكير الله إياهم وأوامره فيهم
وقرا عاصم في رواية حفص ونافع (وما نزل) مخفف الزاي
وقرا الباقون وأبو بكر عن عاصم (نزل) بشد الزاي على معنى نزل الله من الحق
وقرا أبو عمرو في رواية عباس وهي قراءة الجحدري وابن القعقاع (نزل) بكسر الزاي وشدها
وقرأ نافع وأبو عمرو والأعرج وأبو جعفر (ولا يكونوا) بالياء على ذكر الغيب
وقرا حمزة فيما روى عنه سليم (ولا تكونوا) بالتاء على مخاطبة الحضور
والإشارة في قوله * (أوتوا الكتاب) * إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام وذلك قال * (من قبل) * وإنما شبه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي
و * (الأمد) * قيل معناه أمد انتظار الفتح وقيل امد انتظار القيامة وقيل امد الحياة
و * (قست) * معناه صلبت وقل خيرها وانفعالها للطاعات وسكنت إلى معاصي الله ففعلوا من العصيان والمخالفة ما هو مأثور عنهم
وقوله تعالى * (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها) * الآية مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين ندبوا إلى الخشوع وهذا ضرب مثل واستدعاء إلى الخير رقيق وتقريب بليغ أي لا يبعد عنكم أيها التاركون للخشوع رجوعكم اليه وتلبسكم به (فإن الله يحيي الأرض بعد موتها) فكذلك يفعل بالقلوب يردها إلى الخشوع بعد بعدها عنه وترجع هي اليه إذا وقعت الإنابة والتكسب من العبد بعد نفورها منه كما تحيى الأرض بعد أن كانت ميتة غبراء
وباقي الآية بين جدا
264

قوله عز وجل
سورة الحديد 18 - 19
قرا جمهور القراء (إن المصدقين) بشد الصاد المفتوحة على معنى المتصدقين وفي مصحف أبي بن كعب (إن المتصدقين) فهذا يؤيد هذه القراءة وأيضا فيجيء قوله تعالى * (وأقرضوا الله قرضا حسنا) * ملائما في الكلام للصدقة
وقرا ابن كثير وأبو بكر عن عاصم (إن المصدقين) بتخفيف الصاد على معنى إن الذين صدقوا رسول الله فيما بلغ عن الله وآمنوا به ويؤيد هذه القراءة انها أكثر تناولا لأن كثيرا ممن لا يتصدق يعمه اللفظ في التصديق
ثم إن تقييدهم يقوله * (وأقرضوا) * يرد مقصد القراءتين قريبا بعضه من بعض
وقوله * (أقرضوا) * معطوف على المعنى لأن معنى قوله * (إن المصدقين والمصدقات) * إن الذين تصدقوا ولا يصح هنا عطف لفظي قاله أبو علي في الحجة
وقد تقدم معنى القرض ومعنى المضاعفة التي وعد الله بها هذه الأمة
وقد تقدم معنى وصف الأجر بالكريم كل ذلك في هذه السورة
قال القاضي أبو محمد ويؤيد عندي قراءة من قرأ (إن المصدقين) بشد الصاد
إن الله تعالى حض في هذه الآية على الانفاق وفي سبيل الله تعالى
ثم ذكر في هذه أهل الصدقة ووعدهم ثم ذكر أهل الإيمان والتصديق في قوله * (والذين آمنوا بالله ورسله) * وعلى قراءة من قرأ (إن المصدقين) بتخفيف الصاد فذكر المؤمنين مكرر في اللفظ وكون الأصناف منفردة بأحكامها من الوعد أبين
والإيمان بمحمد يقتضي الايمان بجميع الرسل فلذلك قال * (ورسله) *
و * (الصديقون) * بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزجاج وفعيل لا يكون فيما احفظ الا من فعل ثلاثي وقد أشار بعض الناس إلى أنه يجيء من غير الثلاثي
وقال مسيك من امسك وأقول إنه يقال مسك الرجل وقد حكى مسك الشيء وفي هذا نظر
وقوله تعالى * (والشهداء عند ربهم) * اختلف الناس في تأويل ذلك فقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة * (والشهداء) * معطوف على قوله * (الصديقون) * والكلام متصل ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال فقال بعضها وصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء فكل مؤمن شهيد قاله مجاهد
وروى البراء بن عازب ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (مؤمنو أمتي شهداء) وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفا ولأنهم في أعلى رتب الشهادة الا ترى أن المقتول في سبيل الله مخصوص أيضا من السبعة بتشريف ينفرد به
وقال بعضها وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء لكن من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد وذلك نحو قوله تعالى * (لتكونوا شهداء على الناس) * البقرة 143 فكأنه قال في هذه الآية هم أهل
265

الصدق والشهادة على الأمم عند ربهم وقال ابن عباس ومسروق والضحاك الكلام تام في قوله * (الصديقون) *
وقوله * (والشهداء) * ابتداء مستأنف
ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف فقال بعضها معنى الآية * (والشهداء) * بأنهم صديقون حاضرون * (عند ربهم) * وعنى ب * (الشهداء) * الأنبياء عليهم السلام فكأن الأنبياء يشهدون للمؤمنين بأنهم صديقون وهذا يفسره قوله تعالى * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * النساء 41
وقال بعضها قوله " والشهيد " ابتداء يريد به الشهداء في سبيل الله واستأنف الخبر عنهم بأنهم * (عند ربهم لهم أجرهم ونورهم) * فكأنه جعلهم صنفا مذكورا وحده وفي الحديث (إن أهل الجنة العليا ليراهم من دونهم كما ترون الكوكب الدري وإن أبا بكر وعمر منهم وانعما)
وقوله تعالى * (لهم أجرهم ونورهم) * خبر عن الشهداء فقط على الأخير من الأقوال وهو خبر عن المؤمنين المذكورين في أول الآية على الأقوال الثلاثة
وقوله تعالى * (ونورهم) * قال جمهور المفسرين هو حقيقة حسبما روي مما تقدم ذكره في هذه السورة
وقال مجاهد وغيره هو مجاز عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى التي حصلوا فيها
ولما فرع ذكر المؤمنين وأهل الكرامة عقب ذكر الكفرة المكذبين ليبين الفرق فذكرهم تعالى بأنهم * (أصحاب الجحيم) * وسكانه
وقوله تعالى
سورة الحديد 20
هذه الآية وعظ وتبيين لأمر الدنيا وضعة منزلتها و * (إنما) * سادة مسد المفعولين للعلم بأنها تدخل على اثنين وهي وإن كفت عن العمل فالجملة بعدها باقية
و * (الحياة الدنيا) * في هذه الآية الدنيا عبارة عن الأشغال والتصرفات والفكر التي هي مختصة بالحياة الدنيا واما ما كان من ذلك في طاعة الله وسبيله وما كان من الضرورات التي تقيم الأود وتعين على الطاعات فلا مدخل له في هذه الآية
وتأمل حال الملوك بعد فقرهم بين لك ان جميع نزوتهم * (لعب ولهو) *
والزينة التحسين الذي هو خارج من ذات الشيء والتفاخر هو بالأنساب والأموال وغير ذلك والتكاثر هو الرغبة في الدنيا وعددها لتكون العزة للكفار على المذهب الجاهلي
ثم ضرب تعالى مثل الدنيا فالكاف في قوله * (كمثل) * في رفع صفة لما تقدم وصورة هذا المثال إن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس
266

ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط فيشيب ويضعف ويسقم وتصيبه النوائب في ماله وذريته ويموت ويضمحل امره وتصير أمواله لغيره وتغير رسومه فامره مثل مطر أصاب أرضا فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق
ثم هاج أي يبس واصفر ثم تحطم ثم تفرق بالرياح واضمحل
واختلف المتأولون في لفظة * (الكفار) * هنا فقال بعض أهل التأويل هو من الكفر بالله وذلك لأنهم أشد تعظيما للدنيا وأشد اعجابا بمحاسنها
وقال آخرون منهم هو من كفر الحب اي ستره في الأرض فهم الزراع وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة فلا يعجبهم الا المعجب حقيقة الذي لا عيب له
وهاج الزرع معناه يبس واصفر وحطام بناء مبالغة يقال حطيم وحطام بمعنى محطوم أو متحطم كعجيب وعجاب بمعنى معجب ومتعجب منه
ثم قال تعالى * (وفي الآخرة) * كأنه قال والحقيقة هاهنا ثم ذكر العذاب أولا تهمما به من حيث الحذر في الانسان ينبغي ان يكون أولا فإذا تحرر من المخاوف مد حينئذ امله
فذكر الله تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه وهو المغفرة والرضوان
وروي عن عاصم ضم الراء من (رضوان)
و * (متاع الغرور) * معناه الشيء الذي لا يعظم الاستمتاع به الا مغتر
وقال عكرمة وغيره * (متاع الغرور) * القوارير لأن الفساد والآفات تسرع إليها فالدنيا كذلك أو هي أشد
قوله عز وجل
سورة الحديد 21 - 23
لما ذكر تعالى المغفرة التي في الآخرة ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة وهذه الآية حجة عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات وقد استدل لها بعضهم على أن أول أوقات الصلوات أفضل لأنه يقتضي المسارعة والمسابقة وقد ذكر بعضهم في تفسير هذه الآية أشياء هي على جهة المثال فقال قوم من العلماء منهم ابن مسعود * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم) * معناه كونوا في أول صف في القتال
وقال آخرون منهم انس بن مالك معناه اشهدوا تكبيرة الاحرام مع الامام وقال آخرون منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه كن أول داخل في المسجد وآخر خارج منه وهذا كله على جهة المثال
وذكر العرض من الجنة إذ المعهود انه أقل من الطول وقال قوم من أهل المعاني عبر عن الساحة بالعرض ولم يقصد ان طولها أقل ولا أكثر
وقد ورد في الحديث (إن سقف الجنة العرش)
وورد في الحديث (إن السماوات السبع في الكرسي كالدرهم في الفلاة وإن الكرسي في العرش كالدرهم في الفلاة)
267

وقوله تعالى * (أعدت) * ظاهرة انها مخلوقة الآن معدة ونص عليه الحسن في كتاب النقاش
وقوله تعالى * (ما أصاب من مصيبة) * قال ابن زيد وغيره المعنى ما حدث من حادث خير وشر فهذا على معنى لفظ * (أصاب) * لا على عرف المصيبة فإن عرفها في الشر
وقال ابن عباس ما معناه انه أراد عرف المصيبة وخصها بالذكر لأنها أهم على البشر وهي بعض من الحوادث تدل على أن جميع الحوادث خيرها وشرها كذلك
وقوله تعالى * (في الأرض) * يعني بالقحوط والزلازل وغير ذلك
وقوله * (في أنفسكم) * يريد بالموت والأمراض وغير ذلك
وقوله تعالى * (إلا في كتاب) * معناه الا والمصيبة في كتاب
و * (نبرأها) * معناه نخلقها يقال برأ الله الخلق أي خلقهم والضمير عائد على المصيبة وقيل على * (الأرض) * وقيل على الأنفس قاله ابن عباس وقتادة وجماعة وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر وهي كلها معان صحاح لأن الكتاب السابق أزلي قبل هذه كلها
وقوله تعالى * (ان ذلك على الله يسير) * يريد تحصيل الأشياء كلها في الكتاب وقوله تعالى * (لكي لا تأسوا) * معناه فعل الله ذلك كله وأعلمكم به ليكون سبب تسليمكم وقلة اكتراثكم بأمر الدنيا فلا تحزنوا على ما فات ولا تفرحوا الفرح المبطر بما آتاكم منها
قال ابن عباس ليس أحد الا يفرح ويحزن ولكن من أصابته مصيبة يجعلها صبرا من أصاب خيرا يجعله شكرا
وقرأ أبو عمرو وحده (أتاكم) على وزن مضى وهذا ملائم لقوله * (فاتكم) *
وقرا الباقون من السبعة (اتاكم) على وزن أعطاكم بمعنى آتاكم الله تعالى وهي قراءة الحسن والأعرج وأهل مكة
وقرا ابن مسعود (أوتيتم) وهي تؤيد قراءة الجمهور
وقوله تعالى * (والله لا يحب كل مختال فخور) * يدل على أن الفرح المنهي عنه إنما هو ما أدى إلى الاختيال والفخر بنعم الله المقترن بالشكر والتواضع فامر لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه ولا حرج فيه
قوله عز وجل
سورة الحديد 24 - 26
اختلف النحاة في إعراب * (الذين) * فقال بعضهم هم في موضع رفع على الابتداء والخبر عنهم
268

محذوف معناه الوعيد والذم وحذفه على جهة الابهام كنحو حذف الجواب في قوله تعالى " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض " الرعد 32 الآية وقال بعضهم هم رفع على خبر الابتداء تقديره هم الذين * (يبخلون) *
وقال بعضهم في موضع نصب صفة * (كل) * الحديد 23 لأن كلا وإن كان نكرة فهو يخصص نوعا ما فيسوغ لذلك وصفه بالمعرفة وهذا مذهب الأخفش
و * (يبخلون) * معناه بأموالهم وأفعالهم الحسنة من إيمانهم وغير ذلك
وقوله تعالى * (ويأمرون الناس) * يحتمل ان يصفهم بحقيقة الامر بألسنتهم ويحتمل ان يريد انهم يقتدى بهم في البخل فهم لذلك كأنهم يأمرون
وقرا الحسن (بالبخل) بفتح الباء والخاء
وقرا جمهور القراء وأهل العراق فإن الله هو الغني الحميد بإثبات هو وكذلك في إمامهم
وقرا نافع وابن عامر (فإن الله الغني الحميد) بترك (هو) وهي قراءة أهل المدينة وكذلك في (إمامهم) وهذا لم يثبت قراءة الا وقد قرىء على النبي صلى الله عليه وسلم بالوجهين
قال أبو علي ف (هو) في القراءة التي ثبت فيها يحسن ان يكون ابتداء لأن حذف الابتداء غير سائغ
و * (الكتاب) * اسم جنس لجميع الكتب المنزلة
و " الميزان " العدل في تأويل أكثر المتأولين
وقال ابن زيد وغيره من المتأولين أراد الموازين المصرفة بين الناس وهذا جزء من القول الأول
وقوله * (ليقوم الناس بالقسط) * يقوي القول الأول
وقوله تعالى * (وأنزلنا الحديد) * عبر عن خلقه وإيجاده بالإنزال كما قال في الثمانية الأزواج من الأنعام وأيضا فإن الأمر بكون الأشياء لما تلقى من السماء جعل الكل نزولا منها
وقال جمهور كثير من المفسرين * (الحديد) * هنا أراد به جنسه من المعادن وغيرها
وقال ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة قال حذاق من المفسرين أراد به السلاح ويترتب معنى الآية بأن الله اخبر أنه أرسل رسله وانزل كتبا وعدلا مشروعا وسلاحا يحارب به من عند ولم يهتد بهدي الله فلم يبق عذر وفي الآية على هذا التأويل حض على القتال وترغيب فيه
وقوله * (وليعلم الله من ينصره) * يقوي هذا التأويل ومعنى قوله * (ليعلم) * اي ليعلمه موجودا فالتغير ليس في علم الله بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود
وقوله * (بالغيب) * معناه بما سمع من الأوصاف الغائبة فآمن بها لقيام الأدلة عليها
ثم وصف تعالى نفسه بالقوة والعزة ليبين انه لا حاجة به إلى النصرة لكنها نافعة من عصم بها نفسه من الناس
ثم ذكر تعالى رسالة (نوح وإبراهيم) تشريفا لهما بالذكر ولأنهما من أول الرسل
ثم ذكر تعالى نعمة على * (ذريتهما) *
وقوله تعالى * (والكتاب) * يعني الكتب الأربعة فإنها جميعا في ذرية إبراهيم عليه السلام
وذكر انهم مع ذلك منهم من فسق وعند فكذلك بل احرى جميع الناس ولذلك يسر السلاح للقتال
269

قوله عز وجل
سورة الحديد 27 - 28
* (قفينا) * معناه جئنا بهم بعد الأولين وهو مأخوذ من القفا أي جاء بالثاني في قفا الأول فيجيء الأول بين يدي الثاني ومنه القوافي التي تأتي أواخر أبيات الشعر ثم ذكر (عيسى) عليه السلام تشريفا وتخصيصا
وقرا الحسين (الإنجيل) بفتح الهمزة قال أبو الفتح هذا مما لا نظير له
و * (رأفة ورحمة ورهبانية) * مفعولات * (جعلنا) * والجعل في هذه الآية بمعنى الخلق
وقوله * (ابتدعوها) * صفة ل * (رهبانية) * وخصها بأنها ابتدعت لأن الرأفة والرحمة في القلب لا
تكسب للإنسان فيها واما الرهبانية فهي أفعال بدن مع شيء في القلب ففيها موضع للتكسب
قال قتادة الرأفة والرحمة من الله تعالى
والرهبانية هم ابتدعوها والمراد بالرأفة والرحمة حب بعضهم في بعض وتوادهم والمراد بالرهبانية رفض النساء واتخاذ الصوامع والمعتزلة تعرب * (رهبانية) * انها نصب بإضمار فعل يفسره * (ابتدعوها) * وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على مذهبهم وكذلك اعربها أبو علي
وروي في ابتداعهم الرهبانية انهم افترقوا ثلاث فرق ففرقة قاتلت الملوك على الدين فقتلت وغلبت
وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه فأخذتها الملوك ونشرتها بالمناشر وقتلوا وفرقة خرجب إلى الفيافي وبنت الصوامع والديارات وطلبت ان تسلم على أن
تعتزل فتركت وتسموا بالرهبان واسمهم مأخوذ من الرهب وهو الخوف فهذا هو ابتداعهم ولم يفرض الله ذلك عليهم لكنهم فعلوا ذلك * (ابتغاء رضوان الله) * هذا تأويل أبي أمامة وجماعة وقال مجاهد المعنى * (كتبناها عليهم) * * (ابتغاء رضوان الله) *
ف (كتب) على هذا بمعنى قضى ويحتمل اللفظ ان يكون المعنى ما كتبناها عليهم الا في عموم المندوبات لأن ابتغاء مرضاة الله بالقرب والنوافل مكتوب على كل أمة فالاستثناء على هذا احتمال متصل
واختلف الناس في الضمير الذي في قوله * (فما رعوها) * من المراد به فقيل إن الذين ابتدعوا الرهبانية بأنفسهم لم يدوموا على ذلك ولا وفوه حقه بل غيروا وبدلوا قاله ابن زيد وغيره والكلام سائغ وإن كان فيهم من رعى أي لم يرعوها بأجمعهم وفي هذا التأويل لزوم الاتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل انه يلزمه ان يرعاه حق رعيه
قال ابن عباس وغيره الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم وقال الضحاك وغيره الضمير للأخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين لها وباقي الآية بين
وقرأ ابن مسعود (ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها)
270

وقوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله) * اختلف الناس في المخاطب بهذا فقالت فرقة من المتأولين بهذا أهل الكتاب فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (ثلاثة يؤتيهم الله اجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي) الحديث وقال آخرون المخاطبة للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيل لهم * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله) * أي اثبتوا على ذلك ودوموا عليه وهذا هو معنى الأمر أبدا لمن هو متلبس بما يؤمر به
وقوله * (كفلين) * أي نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه قال أبو موسى الأشعري * (كفلين) * ضعفين بلسان الحبشة وروى أن عمر بن الخطاب قال لبعض الأحبار كم كان التضعيف للحسنات فيكم فقال ثلاثمائة وخمسون فقال عمر الحمد لله الذي ضاعف لنا إلى سبعمائة ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح الذي يقتضي ان اليهود عملت إلى نصف النهار على قيراط والنصارى من الظهر إلى العصر على قيراط وهذه الأمة من العصر إلى الليل على قيراطين فلما احتجت اليهود والنصارى على ذلك وقالوا نحن أكثر عملا وأقل اجرا قال الله تعالى (هل نقصتم من اجركم شيئا قالوا لا قال فإنه فضلي أوتيه من أشاء)
والكفل الحظ والنصيب
والنور هنا إما ان يكون وعدا بالنور الذي يسعى بين الأيدي يوم القيامة وإما ان يكون استعارة للهدى الذي يمشي به في طاعة الله
قوله عز وجل
سورة الحديد 29
روى أنه لما نزل هذا الوعد بالمؤمنين حسد أهل الكتاب على ذلك وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها وتزعم انها أحباء الله وأهل رضوانه فنزلت هذه الآية معلمة ان الله تعالى فعل ذلك وأعلم به ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون و (لا) في قوله * (لئلا) * زائدة كما هي في قوله تعالى * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) * الأنبياء 95 على بعض التأويلات
وقرأ ابن عباس (ليعلم أهل الكتاب) وروى إبراهيم التيمي عن ابن عباس (كي يعلم) وروي عن ابن عباس (لكي لا يعلم)
وروي عن حطان الرقاشي انه قرأ (لأي يعلم)
وقرا ابن مسعود وابن جبير وعكرمة (لكي يعلم أهل الكتاب) وقرا الحسن فيما روى ابن مجاهد (ليلا يعلم) بفتح اللام وسكون الياء
فأما فتح اللام فلغة في لام الجر مشهورة وأصل هذه القراءة (لأن لا) استغني عن الهمزة بلام الجر فحذفت فجاء (لأن لا) أدغمت النون في اللام للتشابه فجاء (للا) اجتمعت أمثلة فقلبت اللام الواحدة ياء
وقرا الحسن فيما روى قطرب (ليلا) بكسر اللام وسكون الياء وتعليلها كالتي تقدم
وقوله تعالى * (ألا يقدرون) * معناه أنهم لا يملكون فضل الله ويدخل تحت قدرهم وقرأ ابن مسعود (ألا يقدروا) بغير نون وباقي الآية بين
271

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المجادلة
وهي مدنية بإجماع الا ان النقاش حكى ان قوله تعالى * (ما يكون من نجوى ثلاثة) * المجادلة 7 مكي وروى أبي بن كعب ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قرا سورة المجادلة كتب من حزب الله)
قوله عز وجل
سورة المجادلة 1 - 2
* (سمع الله) * عبارة عن إدراكه المسموعات على ما هي ما عليه بأكمل وجوه ذلك دون جارحة ولا محاداة ولا تكييف ولا تحديد تعالى الله عن ذلك
وقرا الجمهور * (قد سمع) * بالبيان وقرا ابن محيصن * (قد سمع) * بالإدغام وفي قراءة ابن مسعود (قد يسمع الله قول التي) وفيها (والله قد يسمع تحاوركما)
واختلف الناس في اسم التي تجادل فقال قتادة هي خويلة بنت ثعلبة وقيل عن عمر بن الخطاب أنه قال هي خولة بنت حكيم
وقال بعض الرواة وأبو العالية هي خويلة بنت دليج وقال المهدوي وقيل خولة بنت دليج وقالت عائشة هي خميلة
وقال ابن إسحاق هي خولة بنت الصامت
وقال ابن عباس فيها خولة بنت خويلد وقال محمد بن كعب القرظي ومنذر بن سعيد هي خولة بنت ثعلبة قال ابن سلام (تجادل) معناه تقاتل في القول واصل الجدل القتل وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أو عبادة بن الصامت
وحكى النقاش وهو في المصنفات حديثا عن سلمة بن صخر البياضي انه ظاهر من امرأته أن واقعها مدة شهر رمضان فواقعها ليلة فسأل قومه ان يسألوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا وهابوا ذلك وعظموا عليه فذهب هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وسأله واسترشدوه فنزلت الآية
وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتعتق رقبة) فقال له والله ما املك رقبة غير رقبتي فقال (أتصوم شهرين متتابعين) فقال يا رسول الله وهل أتيت الا في الصوم فقال (أتطعم ستين مسكينا) فقال لا أجد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه فكفر بها فرجع سلمة
272

إلى قومه فقال إني وجدت عندكم الشدة والغلظة ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرخصة والرفق وقد أعطاني صدقاتكم
واما ما رواه الجمهور في شان أوس بن الصامت فاختصاره ان أوسا ظاهر من امرأته خولة بنت خويلد وكان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤيدة قاله أبو قلابة وغيره فلما فعل ذلك أوس جاءت زوجته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أوسا اكل شبابي ونثرت له بطني فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أراك الا قد حرمت عليه) فقالت يا رسول الله لا تفعل فإني وحيدة ليس لي أهل سواه فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل مقالته فراجعته فهذا هو جدالها وكانت في خلال جدالها تقول اللهم إليك أشكو حالي وفقري وانفرادي اليه وروي انها كانت تقول اللهم إن لي منه صبية صغارا ان ضممتهم اليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا فهذا هو اشتكاؤها إلى الله فنزل الوحي عند جدالها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات
وكانت عائشة حاضرة لهذه القصة كلها فكانت تقول سبحان من وسع سمعه الأصوات لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفي علي وسمع الله جدالها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوس فقال له اتعتق رقبة فقال والله ما املكها فقال أتصوم شهرين متتابعين فقال والله ما أقدر ان أصبر الا على اكلات ثلاث في اليوم ومتى لم أفعل غشي بصري فقال له أتطعم فقال له لا أجد الا ان تعينني يا رسول الله بمعونة وصلاة يريد الدعاء فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعا ودعا له وقيل بثلاثين صاعا فكفر بالإطعام وامسك أهله
وفي مصحف عبد الله بن مسعود (تحاورك في زوجها) والمحاورة مراجعة القول ومعاطاته
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (يظهرون) وقرا أبي بن كعب بخلاف عنه (يتظهرون)
وقرا ابن عامر وحمزة والكسائي (يظاهرون)
وقرا أبي بن كعب أيضا (يتظاهرون)
وقرا عاصم والحسن وأبو جعفر وقتادة (يظاهرون) بضم الياء من قولك فاعل وهذه مستعملة جدا وقولهم الظهار دليل عليها والمراد بهذا كله قول الرجل لزوجته أنت علي كظهر أمي يريد في التحريم كأنها إشارة إلى الركوب إذ عرفه في ظهور الحيوان وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك فرد الله بهذه الآية فعلهم وأخبر بالحقيقة من أن الأم هي الوالدة واما الزوجة فلا يكون حكمها حكم الأم
وقرأ جمهور الناس (أمهاتهم) بنصب الأمهات وقرا عاصم في رواية المفضل عنه (أمهاتهم) بالرفع وهذا على اللغتين في " ما " لغة الحجاز ولغة تميم وقرا ابن مسعود (ما هن بامهاتهم) بزيادة باء الجر وجعل الله تعالى القول بالظهار * (منكرا) * * (وزورا) * فهو محرم لكنه إذا وقع لزم هكذا قال فيه أهل العلم لكن تحريمه تحريم المكروهات جدا وقد رجى الله تعالى بعده بأنه * (لعفو غفور) * مع الكفارة
273

قوله عز وجل
سورة المجادلة 3 - 4
اختلف الناس في معنى قوله عز وجل * (ثم يعودون لما قالوا) * فقال قوم المعنى * (والذين يظاهرون من نسائهم) * في الجاهلية كأنه قال والذين كان الظهار عادتهم ثم يعودون إلى ذلك في الإسلام وقاله القتبي وقال أهل الظاهر المعنى والذين يظاهرون ثم يظاهرون ثم ثانية فلا يلزم عندهم كفارة الا بان يعيد الرجل الظهار قاله منذر بن سعيد وحينئذ هو عائد إلى القول الذي هو منكر وزور
قال القاضي أبو محمد وهذا قول ضعيف وإن كان القشيري قد حكاه عن بكير بن عبد الله بن الأشج وقال بعض الناس في هذه الآية تقديم وتأخير وتقديرها (فتحرير رقبة لما قالوا) وهذا أيضا قول يفسد نظر الآية وحكي عن الأخفش لكنه غير قوي
وقال قتادة وطاوس ومالك والزهري وجماعة كثيرة من أهل العلم معنى * (ثم يعودون لما قالوا) * أي للوطء فالمعنى ثم يعودون لما قالوا إنهم لا يعودون فإذا ظاهر الرجل ثم وطئ فحينئذ تلزمه الكفارة في ذمته وإن طلق أو ماتت امرأته
وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك أيضا وفريق * (يعودون) * معناه بالعوم على إمساك الزوجة ووطئها والتزام التكفير لذلك فمتى وقع من المظاهر هذا العزم لزمت الكفارة ذمته طلق أو ماتت المراة
قال القاضي أبو محمد وهذان القولان في مذهب مالك رحمه الله وهما حسنان لزمت الكفارة فيهما بشرطين ظهار وعود
واختلفا في العود ما هو وقال الشافعي العود الموجب للكفارة ان يمسك عن طلاقها بعد الظهار ويمضي بعد الظهار ما يمكنه ان يطلق فيه فلا يطلق والرقبة في الظهار لا تكون عند مالك الا مؤمنة رد هذا إلى المقيد الذي في كفارة القتل الخطأ
واختلف والناس في قوله تعالى * (من قبل أن يتماسا) * فقال الحسن والثوري وجماعة من قبل الوطء وجعلت المسيس هاهنا الوطء فأباحت للمظاهر التقبيل والمضاجعة والاستمتاع بأعلى المرأة كالحائض
وقال جمهور أهل العلم قوله * (من قبل أن يتماسا) * عام في نوع المسيس الوطء والمباشرة فلا يجوز لمظاهر ان يطأ ولا يقبل ولا يلمس بيده ولا يفعل شيئا من هذا النوع الا بعد الكفارة وهذا قول مالك رحمه الله
وقوله تعالى * (ذلك) * إشارة إلى التحرير أي فعل عظة لكم لتنتهوا عن الظهار والتتابع في الشهرين صيامهما ولا بين أيامهما وجائز ان يصومهما الرجل بالعدد فيصوم ستين يوما تباعا وجائز ان يصومهما
274

بالأهلة يبدأ مع الهلال ويفطر مع الهلال وإن جاء أحد شهريه ناقصا وذلك مجزىء عنه وجائز إن بدأ صومه في وسط الشهر ان يبعض الشهر الأول فيصوم إلى الهلال ثم يصوم شهرا بالهلال ثم يتم الشهر الأول بالعدد
ولا خلاف احفظه من أهل العلم ان الصائم في الظهار إن أفسد التتابع باختياره انه يبتدأ صومها
واختلف الناس إذا أفسده لعذر غالب كالمرض والنسيان ونحوه فقال أصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه والنخعي وابن جبير والحكم بن عيينة والثوري يبتدئ وقال مالك والشافعي وغيره يبني واجمعوا على الحائض وانها تبني في صومها التتابع
وإطعام المساكين في الظهار هو بالمد الهاشمي عند مالك وهو مد وثلث بمد النبي صلى الله عليه وسلم وقيل مدان غير ثلث
وروى عنه ابن وهب أنه يطعم كل مسكين مدين بمد النبي عليه السلام وفي العلماء من يرى إطعام الظهار مدا بمد النبي عليه السلام ولا يجزئ في إطعام الظهار الا إكمال عدد المساكين ولا يجوز ان يطعم ثلاثين مرتين ولا ما أشبهه والطعام عو غالب قوت البلد
قال مالك رحمه الله وعطاء وغيره إطعام المساكين أيضا هو قبل التماس حملا على العتق والصوم
وقال أبو حنيفة وجمهور من أهل العلم لم ينص الله على الشرط هنا فنحن نلتزمه فجاز للمظاهر إذا كان من أهل الإطعام ان يطأ قبل الكفارة ويستمتع
وقوله * (ذلك لتؤمنوا) * إشارة إلى الرخصة والتسهيل في النقل من التحرير إلى الصوم والإطعام ثم شدد تعالى بقوله * (تلك حدود الله) * أي فالتزموها وقفوا عندها ثم توعد الكافرين بهذا الحديث والحكم الشرعي
قوله عز وجل
سورة المجادلة 5 - 7
هذه الآيات نزلت في منافقين وقوم من اليهود كانوا في المدينة يتمرسون برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويتربصون بهم الدوائر ويدبرون عليهم ويتمنون فيهم المكروه ويتناجون بذلك فنزلت هذه الآيات إلى آخر أمر النجوى فيهم والمحادة ان يعطي الانسان صاحبه حد قوله أو سلاحه وسائر أفعاله
وقال قوم هو ان يكون الإنسان في حد وصاحبه في حد مخالف
وكبت الرجل إذا بقي خزيان يبصر ما يكره ولا يقدر على دفعه
وقال قوم منهم أبو عبيدة أصله كبدوا أي أصابهم داء في أكبادهم فأبدلت الدال تاء
275

قال القاضي أبو محمد وهذا غير قوي
و * (الذين من قبلهم) * سابقو الأمم الماضية الذين حادوا الرسل قديما
وقوله تعالى * (وقد أنزلنا آيات بينات) * يريد في هذا القرآن فليس هؤلاء المنافقون بأعذر من المتقدمين
وقوله تعالى * (يوم يبعثهم الله) * العامل في * (يوم) * قوله * (مهين) * ويحتمل ان يكون فعلا مضمرا تقديره اذكر
وقوله * (ونسوه) * نسيان على بابه لأن الكافر لا يحفظ تفاصيل اعماله ولما اخبر تعالى انه " على كل شيء شهيد " وقف محمد عليه السلام توقيفا تشاركه فيه أمته
وقوله تعالى * (من نجوى ثلاثة) * يحتمل * (من نجوى) * أن يكون مصدرا مضافا إلى * (ثلاثة) * كأنه قال من سرار ثلاثة ويحتمل * (نجوى) * أن يكون المراد به جمعا من الناس مسمى بالمصدر كما قال في آية أخرى * (وإذ هم نجوى) * الاسراء 47 أي أولو نجوى فيكون قوله تعالى * (ثلاثة) * على هذا بدلا * (من نجوى) * وفي هذا نظر
وقوله تعالى * (إلا هو رابعهم) * أي بعلمه وإحاطته ومقدرته
وقرأ جمهور الناس (ما يكون) وقرا أبو جعفر القارئ وأبو جيوة (ما تكون) بالتاء منقوطة من فوق
وفي مصحف ابن مسعود (ولا أربعة الا الله خامسهم) وكذلك (الا الله رابعهم) و (إلا الله سادسهم)
وقرا جمهور القراء (ولا أكثر) عطفا على اللفظ المخفوض وقرا الأعمش والحسن وابن أبي إسحاق (ولا أكثر) بالرفع عطفا على الموضع لأن التقدير ما يكون نجوى ومن جعل النجوى مصدرا محضا قدر قبل * (أدنى) * فعلا تقديره ولا يكون أدنى
وقرأ الخليل بن أحمد (ولا أكبر) بالباء واحدة من تحت وباقي الآية بين
قوله عز وجل
سورة المجادلة 8
هذه الآية نزلت في قوم من اليهود نهاهم رسول الله عن التناجي بحضرة المؤمنين وإظهار ما يستراب منه من ذلك فلم ينتهوا فنزلت هذه الآية قاله مجاهد وقتادة وقال ابن عباس نزلت في اليهود والمنافقين
وقرأ جمهور القراء والناس (ويتناجون) على وزن يتفاعلون وقرا حمزة والأعمش وطلحة وابن وثاب (وينتجون) على وزن يفتعلون وهما بمعنى واحد كيقتتلون ويتقاتلون وفي مصحف عبد الله بن مسعود (وعصيان الرسول)
276

وقوله تعالى * (وإذا جاؤوك حيوك) * الآية يريد بذلك ما كانت اليهود تفعله من قولهم في التحية السام عليك يا محمد وذلك أنه روي أن اليهود كانت تأتي فتقول السام عليك يا محمد والسام الموت وإياه كانوا يريدون فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (وعليكم) فسمعتهم عائشة يوما فقالت بل عليكم السام واللعنة فقال رسول الله (مهلا يا عائشة إن الله يكره الفحش والتفحش) قالت اما سمعت ما قالوا قال (أما سمعت ما قلت لهم إني قلت وعليكم)
ثم كشف الله تعالى خبث طويتهم والحجة التي إليها يستروحون وذلك انهم كانوا يقولون نحن الان نلقى محمدا بهذه الأمور التي تسوؤه ولا يصيبنا سوء ولا يعاقبنا الله بذلك ولو كان نبيا لهلكنا بهذه الأقوال وجهلوا ان امرهم مؤخرا إلى عذاب جهنم فأخبر الله بذلك وانها كافيتهم
وقال ابن عباس هذه الآية كلها في منافقين ويشبه ان من المنافقين من تخلق في هذا كله بصفة اليهود
قوله عز وجل
سورة المجادلة 9 - 10
وصى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بأن لا يكون لهم تناج في مكروه وذلك عام في جميع الناس إلى يوم القيامة
وخص (الإثم) بالذكر لعمومه * (والعدوان) * لعظمته في نفسه إذ هي ظلامات العباد وكذلك * (معصية الرسول) * ذكرها طعنا على المنافقين إذ كان تناجيهم في ذلك
وقرا جمهور الناس (فلا تتناجوا) على وزن تتفاعلوا وقرا ابن محيصن (تناجوا) بحذف التاء الواحدة
وقرا بعض القراء (فلا تناجوا) بشد التاء لأنها أدغمت التاء في التاء وقرا الأعمش وأهل الكوفة (فلا تنتجوا) على وزن تفتعلوا
والناس على ضم العين من (العدوان) وقراها أبو حيوة بكسر العين حيث وقع
وقرا الضحاك وغيره (ومعصيات الرسول) على الجمع فيهما
ثم امر بالتناجي * (بالبر والتقوى) * وذكر بالحشر الذي معه الحساب ودخول أحد الدارين وقوله تعالى * (إنما النجوى) * ليست * (إنما) * للحصر ولكنها لتأكيد الخبر
واختلف الناس في * (النجوى) * التي هي * (من الشيطان) * التي اخبر عنها في هذه الآية فقال جماعة من المفسرين أراد * (إنما النجوى) * في الإثم والعدوان ومعصية الرسول * (من الشيطان) * وقال قتادة وغيره الإشارة إلى نجوى المنافقين واليهود وقال عبد الله بن زيد بن أسلم الإشارة إلى نجوى قوم من المسلمين كانوا يقصدون مناجاة النبي عليه السلام وليس لهم حاجة ولا ضرورة إلى ذلك وإنما كانوا يريدون التبجح بذلك وكان المسلمون يظنون أن تلك النجوى في أخبار بعد وقاصد أو نحوه
قال القاضي أبو محمد وهذان القولان يعضدهما ما يأتي من ألفاظ الآية ولا يعضد القول الأول
277

وقال عطية العوفي في هذه الآية نزلت في المنامات التي يراها المؤمن فتسوءه وما يراه النائم فكأنه نجوى يناجى بها
قال القاضي أبو محمد وهذا قول أجنبي من المعنى الذي قبله والذي بعده
وقرا نافع وأهل المدينة (ليحزن) بضم الياء وكسر الزاي والفعل المسند إلى * (الشيطان) * وقرا أبو عمرو والحسن وعاصم وغيرهم (ليحزن) بفتح الياء وضم الزاي تقول حزنت قلب الرجل إذا جعلت فيه حزنا فهو كقولك كحلت العين وهو ضرب من التعدي كان المفعول ظرف
وقد ذكر سيبويه رحمه الله هذا النوع من تعدي الأفعال وقرا بعض الناس (ليحزن) بفتح الياء والزاي
و * (الذين) * على هذه القراءة رفع بإسناد الفعل إليهم يقال حزن الرجل بكسر الزاي
ثم اخبر تعالى ان الشيطان أو التناجي الذي هو منه ليس بضار أحدا الا ان يكون ضر بإذن الله أي بأمره وقدره
ثم امر بتوكل المؤمنين عليه تبارك وتعالى وهذا كله يقوي ان التناجي الذي من الشطان إنما هو الذي وقع منه للمؤمنين خوف وللخوف اللاحق للقلوب في هذا قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (لا يتناجى اثنان دون الثالث)
قوله عز وجل
سورة المجادلة 11 - 12
قرا جمهور الناس (تفسحوا) وقرا الحسن وداود بن أبي هند (تفاسحوا) وقرا جمهور القراء (في المجلس) وقرأ عاصم وحده وقتادة وعيسى (في المجالس)
واختلف الناس في سبب الآية والمقصود بها فقال ابن عباس ومجاهد والحسن نزلت في مقاعد الحرب والقتال
وقال زيد بن أسلم وقتادة نزلت بسبب تضايق الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك انهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع كلامه والنظر اليه فيأتي الرجل الذي له الحق والسن والقدم في الاسلام فلا يجد مكانا فنزلت بسبب ذلك
وقال مقاتل أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ليجلس أشياخ من أهل بدر ونحو ذلك فنزلت الآية وروى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس فيه الرجل ولكن تفسحوا يفسح الله لكم) وقال بعض الناس إنما الآية مخصوصة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في سائر المجالس ويدل على ذلك قراءة من قرأ (في المجلس) ومن قرا (في المجالس) فذلك مراده أيضا لأن لكل أحد مجلسا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وموضعه فتجمع لذلك وقال جمهور أهل العلم السبب مجلس النبي عليه السلام والحكم
278

في سائر المجالس التي هي للطاعات ومنه قوله النبي صلى الله عليه وسلم (أحبكم إلى الله ألينكم مناكب في الصلاة وركبا في المجالس) وهذا قول مالك رحمه الله وقال ما أرى الحكم الا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر ويؤيد هذا القول قراءة من قرا (في المجالس) ومن قرأ (في المجلس) فذلك على هذا التأويل اسم جنس فالسنة المندوب إليها هي التفسح والقيام منهي عنه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث نهى ان يقوم الرجل فيجلس الاخر مكانه فاما القيام اجلالا فجائز بالحديث قوله عليه السلام حين أقبل سعد بن معاذ (قوموا إلى سيدكم) وواجب على المعظم الا يحب ذلك ويأخذ الناس به لقوله عليه السلام (من أحب ان يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار)
وقوله تعالى * (يفسح الله لكم) * معناه في رحمته وجنته وقوله تعالى * (وإذا قيل انشزوا فانشزوا) * معناه إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك ومنه نشوز العظام اي نباتها والنشز من الأرض المرتفع واختلف الناس في هذا النشوز الذي أمروا بامتثاله إذا دعوا اليه
فقال الحسن وقتادة والضحاك معناه إذا دعوا إلى قتال أو طاعة أو صلاة ونحوه وقال آخرون معناه إذا دعوا إلى القيام عن النبي عليه السلام لأنه كان أحيانا يحب الانفراد في آمر الاسلام فربما جلس قوم وأراد كل واحد ان يكون آخر الناس عهدا بالنبي عليه السلام فنزلت الآية آمرة بالقيام عنه متى فهم ذلك بقول أو فعل وقال آخرون معناه * (انشزوا) * في المجلس بمعنى التفسح لأن الذي يريد التوسعة يرتفع إلى فوق في الهواء فإذا فعل ذلك جملة اتسع الموضع فيجيء * (انشزوا) * في غرض واحد مع قوله * (تفسحوا) * وقرا نافع وابن عامر وحفص عن عاصم (انشزوا) برفع الشين وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والأعرج وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر السين فيهما وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة
يقال نشز ينشز كحشر يحشر ويحشر وعكف يعكف ويعكف
وقوله * (يرفع الله) * جواب الأمر واختلف الناس في ترتيب قوله تعالى * (الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) * فقال جماعة من المتأولين المعنى * (يرفع الله) * المؤمنين العلماء منكم * (درجات) * فلذلك امر بالتفسح من اجلهم ويجيء على هذا قوله * (والذين أوتوا العلم) * بمنزلة قولك جاءني العاقل والكريم الشجاع وأنت تريد بذلك رجلا واحدا وقال آخرون المعنى * (يرفع الله) * المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا (درجات) لكنا نعلم تفاضلهم في الدرجات من مواضع أخرى ولذلك جاء الأمر بالتفسح عاما للعلماء وغيرهم وقال عبد الله بن مسعود وغيره * (يرفع الله الذين آمنوا منكم) * وتم القول ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات ونصبهم بإضمار فعل فالمؤمنون رفع على هذا التأويل وللعلماء درجات وعلى هذا التأويل قال مطرف بن عبد الله بن الشخير فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة وخير دينكم الورع ثم توعد تعالى وحذر بقوله * (والله بما تعملون خبير) * وقوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول) * الآية
روي عن ابن عباس وقتادة في سببها ان قوما من شباب المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في غير حاجة الا لتظهر منزلتهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت هذه الآية مشددة عليهم امر المناجاة وقال مقاتل نزلت في الأغنياء لأنهم غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم
وقال جماعة من الرواة لم يعمل بهذه الآية بل نسخت قبل العمل لكن استقر حكمها بالعزم عليه كأمر إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه وصح
279

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال ما عمل بها أحد غيري وانا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين وذلك أني أردت مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم في امر ضروري فصرفت دينارا بعشرة دراهم ثم ناجيته عشر مرار أقدم في كل مرة درهما وروي عنه انه تصدق في كل مرة بدينار فقال علي ثم فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان هذه العبادة قد شقت على الناس فقال لي يا علي كم ترى ان يكون حد هذه الصدقة أتراه دينارا قلت لا قال نصف دينار قلت لا قال فكم قلت حبة من شعير قال إنك لزهيد فأنزل الله الرخصة
قال القاضي أبو محمد يريد للواجد واما من لا يجد فالرخصة له ثابتة أولا بقوله تعالى * (فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) *
وقال مقاتل بقي هذا الحكم عشرة أيام وقال قتادة بقي ساعة من نهار وقرا جمهور من الناس (صدقة) بالإفراد وقرأ بعض القراء (صدقات) بالجمع
قوله عز وجل
سورة المجادلة 13 - 16
الإشفاق الفزع من العجز عن الشيء المتصدق به أو من ذهاب المال في الصدقة وله وجوه كثيرة يقال فيها الاشفاق لكنه في هذا الموضع كما ذكرت * (وتاب الله عليكم) * معناه رجع بكم وقوله * (فأقيموا الصلاة) * الآية المعنى دوموا على هذه الأعمال التي هي قواعد شرعكم ومن قال إن هذه الصدقة منسوخة بآية الزكاة فقوله ضعيف لا يحصل كيف النسخ وما ذكر في نحو هذا عن ابن عباس لا يصح عنه والله أعلم وقوله تعالى * (ألم تر إلى الذين تولوا) * نزلت في قوم من المنافقين تولوا قوما من اليهود وهم المغضوب عليهم وقال الطبري * (ما هم) * يريد به المنافقين و * (منكم) * يريد به المؤمنين و * (منهم) * يريد به اليهود
قال القاضي أبو محمد وهذا التأويل يجري مع قوله تعالى * (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) * النساء 143 ومع قوله عليه السلام (مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكافرين بقلبه) ولكن هذه الآية تحتمل تأويلا آخر وهو ان يكون قوله * (ما هم) * يريد به اليهود وقوله * (ولا منهم) * يريد به المنافقين فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن لأنهم تولوا قوما مغضوبا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابا
وقوله * (يحلفون) * يعني المنافقين لأنهم كانوا إذا وقفوا على ما يأتون به من بغض النبي صلى الله عليه وسلم وشتمه وموالاة عدوه حلفوا أنهم لا يفعلون ذلك واستسهلوا الحنث ورويت من هذا نوازل كثيرة اختصرتها ايجازا وإذا تتبعت في المصنفات وجدت كقول ابن أبي لئن رجعنا إلى المدينة وحلفه على أنه لم يقل وغير
280

ذلك والعذاب الشديد هو عذاب الآخرة
وقرا جمهور الناس (أيمانهم) جمع يمين وقرا الحسن بن أبي الحسن (إيمانهم) أي يظهرونه من الإيمان والجنة ما يتستر به ويتقي المحذور ومنه المجن وهو الترس وقوله * (فصدوا عن سبيل الله) * يحتمل ان يكون الفعل غير متعد كما تقول صد زيد أي صدوا هم أنفسهم عن سبيل الله والايمان برسوله ويحتمل ان يكون متعديا أي صدوا غيرهم من الناس عن الإيمان ممن اقتدى بهم وجرى في مضمارهم ويحتمل ان يكون المعنى * (فصدوا) * المسلمين عن قتلهم وتلك * (سبيل الله) * فيهم لكن ما أظهروه من الإيمان صدوا به المسلمين عن ذلك والمهين المذل من الهوان
قوله عز وجل
سورة المجادلة 17 - 21
روي أن المنافقين فخروا بكثرة أموالهم وأولادهم وأظهروا السرور بذلك فنزلت الآية معلمة ان ذلك لا غناء له عنهم ولا مدفع بسببه
والعامل في قوله * (يوم يبعثهم) * * (أصحاب) * على تقدير فعل وأخبر الله تعالى عنهم في هذه الآية انه ستكون لهم أيمان يوم القيامة وبين يدي الله يخيل إليهم بجهلهم انها تنفعهم وتقبل منهم وهذا هو حسابهم " انهم على شيء " أي على فعل نافع لهم وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي
قال النبي عليه السلام (ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله فتاتي القدرية مسودة وجوههم زرقة أعينهم فيقولون والله ما عبدنا شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا اتخذنا من دونك وليا) قال ابن عباس صدقوا والله ولكن اتاهم الإشراك من حيث لا يعلمون ثم تلا ابن عباس هذه الآية وقوله تعالى * (استحوذ عليهم الشيطان) * معناه تملكهم من كل جهة وغلب على نفوسهم وهذا الفعل مما استعمل على الأصل فإن قياس التعليل يقتضي ان يقال استحاذ وحكى الفراء في كتاب اللغات ان عمر رضي الله عنه قرا (استحاذ)
و * (يحادون) * معناه يعطون الحد من الأفعال والأقوال وقال بعض أهل المعاني معناه يكونون في حد غير الحد الذي شرع الله تعالى ثم قضى تعالى على محاده بالذل وأخبر انه كتب فيما أمضاه من قضائه وقدره في الأزل انه يغلب هو ورسله كل من حاد الله والرسل
وقرا نافع وابن عامر (ورسلي) بفتح الياء
وقرا الباقون بسكونها
وقال الحسن وغيره ما امر الله تعالى قط رسولا بالقتال الا وغلبه وظفره بقوته وعزته لا رب سواه وقال غيره ومن لم يؤمر بقتال فهو غالب بالحجة
281

قوله عز وجل
سورة المجادلة 22
نفت هذه الآية ان يوجد من يؤمن بالله تعالى حق الايمان ويلتزم شعبه على الكمال يواد كافرا أو منافقا
ومعنى يواد يكون بينهما من اللطف بحيث يود كل واحد منهما صاحبه وعلى هذا التأويل قال بعض الصحابة اللهم لا تجعل لمشرك قبلي يدا فتكون سببا للمودة فإنك تقول وتلا هذه الآية وتحتمل الآية ان يريد بها لا يوجد من يؤمن بالله والبعث يواد * (من حاد الله) * من حيث هو محاد لأنه حينئذ يود المحادة وذلك يوجب ان لا يكون مؤمنا
ويروى ان هذه الآية نزلت في شان حاطب بن أبي بلتعة ومخاطبته أهل مكة وظاهر هذه الآيات انها متصلة المعنى وان هذا في معنى الذم للمنافقين الموالين لليهود وإذا قلنا إنها في امر حاطب جاء ذلك أجنبيا في امر المنافقين وإن كان شبيها به والإخوان هنا إخوة النسب كما عرف الإخوة انه في النسب وقد يكون مستعملا في إيخاء الود و * (كتب في قلوبهم الإيمان) * معناه أثبته وخلقه بالايجاد وذهب أبو علي الفارسي وغيره من المعتزلة إلى أن المعنى جعل في قلوبهم علامات تعرف الملائكة بها انهم
مؤمنون وذلك لأنهم يرون العبد يخلق إيمانه وقد صرح النقاش بهذا المذهب وما أراه إلا قاله غير محصل لما قال وأما أبو علي فعن بصيرته وقرأ جمهور القراء (كتب) على بناء الفعل للفاعل (والإيمان) بالنصب وقرا أبو حيوة وعاصم في رواية المفضل عنه (كتب) على بناء الفعل للمفعول (والإيمان) بالرفع وقوله * (أولئك) * إشارة إلى المؤمنين الذين يقتضيهم معنى الآية لأن المعنى لكنك تجدهم لا يوادون من حاد الله وقوله تعالى * (بروح منه) * معناه بهدى ولطف ونور وتوفيق إلهي ينقدح من القرآن وكلام النبي عليه السلام وقيل المعنى بالقرآن لأنه روح قيل المعنى بجبريل عليه السلام والحزب الطريق الذي يجمعه مذهب واحد والمفلح الفائز ببغيته وباقي الآية بين
282

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحشر
هذه السورة مدنية باتفاق من أهل العلم وهي سورة بني النضير وذلك أن رسول الله كان عاهد بني النضير على سلم وهم يرون انه لا تردد له راية فلما جرت هزيمة أحد ارتابوا وداخلوا قريشا وغدروا فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد تبين له معتقد بني النضير وغدرهم بعهده وموالاتهم للكفرة فجمع إليهم وحاصرهم وعاهدهم على أن يجليهم عن أرضهم فارتحلوا إلى بلاد مختلفة خيبر والشام وغير ذلك من البلاد ثم كان امر بني قريظة مرجعه من الأحزاب
قوله عز وجل
سورة الحشر 1 - 2
قد تقدم القول في نسبيح الجمادات التي يتناولها عموم ما في السماوات والأرض وان أهل العلم اختلفوا في ذلك
فقال قوم ذلك على الحقيقة وقال آخرون ذلك مجاز أي آثار الصنعة فيها والايجاد لها كالتسبيح وداعية إلى التسبيح ممن له ان يسبح قال مكي * (سبح) * معناه صلى وسجد فهذا كله بمعنى الخضوع والطوع و * (العزيز الحكيم) * صفتان مناسبتان لما يأتي بعد من قصة العدو الذي اخرجهم من ديارهم و * (الذين كفروا من أهل الكتاب) * هم بنو النضير وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل موازية في القدر والمنزلة لبني قريظة وكان يقال للقبيلتين الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة ولهم نخل وأموال عظيمة فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد خرج إلى بني النضير فحاصرهم وأجلاهم على أن يحملوا من أموالهم ما أقلته إبلهم حاشى الحلقة وهي جميع السلاح فخرجوا إلى بلاد مختلفة فلذلك قوله تعالى * (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر) *
وقوله تعالى * (لأول الحشر) * اختلف الناس في معنى ذلك بعد اتفاقهم على أن * (الحشر) * الجمع والتوجيه إلى ناحية ما
فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره أراد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم (امضوا هذا
283

أول الحشر وإنا على الأثر)
وقال عكرمة والزهري وغيرهما المعنى * (الأول) * موضع * (الحشر) * وهو الشام وذلك أن أكثر بني النضير جاءت إلى الشام وقد روي أن حشر القيامة هو إلى بلد الشام وان النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني النضير (اخرجوا) قالوا إلى اين قال (إلى أرض المحشر) وقال قوم في كتاب المهدوي المراد * (الحشر) * في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج فهذا الذي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير أوله والذي فعل عمر بن الخطاب باهل خيبر أخره وأخبرت الآية بمغيب وقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم بجلاء أهل خيبر ويحتمل ان يكون آخر الحشر في قول النبي عليه السلام في مرضه (لا يبقين دينان في جزيرة العرب) فإن ذلك يتضمن أجلاء بقاياهم قال الخليل في ما حكى الزجاج سميت جزيرة لأنه أحاط بها بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات وفي هذه الإحاطة نظر
وقوله تعالى * (ما ظننتم أن يخرجوا) * معناه لمنعتهم وكثرة عددهم فلم تكن آمالكم وظنونكم تنتهي إلى أنهم يخرجون ويدعون أموالهم لكم وبحسب ذلك من المنعة والعدد والتحصن ظنو هم ان لن يقدر عليهم وقوله تعالى * (من الله) * يريد من جند الله حزب الله وقوله تعالى (فأتاهم الله) عبارة عن إظهاره تعالى المسلمين عليهم وإلقائهم في حيز الهزم والذل
وقرا الجمهور (الرعب) بسكون العين وقرا أبو جعفر وشيبة بضم العين واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى * (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) * فقال الضحاك والزجاج وغيره كلما هدم المسلمون من حصنهم في القتال هدموا هم من البيوت وخربوا الحصون دأبا فهذا معنى تخريبهم
وقال الزهراوي وغيره كانوا لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل لا يدعون خشبة حسنة ولا نجافا ولا سارية الا قلعوه وخربوا البيوت عنه وقوله تعالى * (وأيدي المؤمنين) * من حيث فعلهم وكفرهم داعية إلى تخريب المؤمنين بيوتهم فكأنهم قد خربوها هم بأيدي المؤمنين
وقال جماعة من المفسرين إنهم لما ازمعوا الجلاء شحوا على ترك البيوت سليمة للمؤمنين فهدموا وخربوا لمعنى الإفساد على من يأتي
قال قتادة خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا وخربوهم من داخل
وقرا جمهور القراء (يخربون) بسكون الخاء وتخفيف الراء
وقرأ أبو عمرو وحده والحسن بخلاف عنه وقتادة وعيسى بفتح الخاء وشد الراء
فقال فريق من العلماء اللغويين القراءتان بمعنى واحد وقال أبو عمرو بن العلاء خرب معناه هدم وأفسد واخرب معناه ترك الموضع خرابا وذهب عنه ثم نبه تعالى المؤمنين
وغيرهم ممن له ان ينظر على نصرة رسوله وصنعه له فيمن حاده وناوأه بقوله تعالى * (فاعتبروا يا أولي الأبصار) * أي العيون والأفهام
قوله عز وجل
سورة الحشر 3 - 6
أخبر الله تعالى في هذه الآية انه كتب على بني إسرائيل جلاء وكانت بنو النضير ممن حل بالحجاز
284

بعد موت موسى عليه السلام بيسير لأنهم كانوا من الجيش الذي رجع وقد عصوا في أن لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق لجماله وعقله وقد كان موسى عليه السلام قال لهم لا تستحيوا أحدا فلما رجع ذلك الجيش إلى بني إسرائيل بالشام وجدوا موسى ميتا وقال لهم بنو إسرائيل أنتم عصاة والله لا دخلتم علينا بلادنا فقال أهل ذلك الجيش عند ذلك ليس لنا أحب من البلاد التي غلبنا أهلها فانصرفوا إلى الحجاز فكانوا فيه فلم يجر عليهم الجلاء الذي اجراه بختنصر على أهل الشام وقد كان الله تعالى كتب في الأزل على بني إسرائيل جلاء فنالهم هذا * (الجلاء) * على يدي محمد صلى الله عليه وسلم ولولا ذلك * (لعذبهم) * الله * (في الدنيا) * بالسيف والقتل كاهل بدر وغيرهم
ويقال جلا الرجل واجلاه غيره وقد يقال أجلى الرجل نفسه بمعنى جلا والمشاقة كون الإنسان في شق ومخالفة في شق وقوله * (ما قطعتم من لينة) * سببها ان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضعوا أيديهم في نخل بني النضير يقطعون ويحرقون فقال بنو النضير ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد فكف عن ذلك بعض الصحابة وذلك في صدر الحرب معهم فنزلت الآية معلمة ان جميع ما جرى من قطع أو إمساك * (فبإذن الله) * وردت الآية على قول بني النضير إن محمدا ينهي عن الفساد وها هو ذا يفسد فاعلم الله تعالى ان ذلك بإذنه " ليخزي به الفاسقين " من بني النضير واختلف الناس في اللينة فقال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون اللينة النخلة اسمان بمعنى واحد وجمعها لين وليان قال الشاعر امرؤ القيس
(وسالفة كسحوق الليان
* أضرم فيها الغوي السعر) المتقارب
وقال الآخر
(طراق الخوافي واقع فوق لينة
* ندى ليله في ريشه يترقرق) ذو الرمة
وقال ابن عباس وجماعة من اللغويين اللينة من النخل ما لم يكن عجوة
وقال سفيان بن سعيد الثوري اللينة الكريمة من النخل وقال أبو عبيدة فيما روي عنه وسفيان اللينة ما تمرها لون وهو نوع من التمر يقال له اللون قال سفيان هو شديد الصفرة يشف عن نواة من التمر فيرى من خارج وأصلها لونة فأبدلت لموافقة الكسرة وقال أيضا أبو عبيدة اللين ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني
وقرا ابن مسعود والأعمش (أو تركتموها قوماء على أصولها) وقوله تعالى * (وما أفاء الله على رسوله منهم) * الآية
إعلام إنما أخذ لبني النضير ومن فدك فهو خاص للنبي صلى الله عليه وسلم وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها بل على حكم خمس الغنائم وذلك أن بني النضير لم يوجف عليها ولا قوتلت كبير قتال فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قوت عياله وقسم سائرها في المهاجرين ولم يعط منها الأنصار شيئا غير أن أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف شكيا عظيمة فأعطاهما هذا قول جماعة من العلماء وفي ذلك قول عمر بن الخطاب كانت أموال بني النضير مما أفاء الله عليه مما لم يوجف عليه المسلمون ب * (خيل ولا ركاب) * فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي منها جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله
قال بعض العلماء وكذلك كل ما فتح على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة والوجيف دون
285

التضريب يقال وجف الفرس وأوجفه الراكب والإيجاف سرعة السير والاجتهاد فيه
قوله عز وجل
سورة الحشر 7 - 8
* (أهل القرى) * المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية وحكمها مخالف لبني النضير ولم يحبس من هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئا بل أمضاها لغيره وذلك انها في ذلك الوقت فتحت واختلف الناس في صفة فتحها فقيل عن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبعث بعثا إلى كل مكان فطاع وأعطاه أهله فكان مما لم يوجف عليه وكان حكمه حكم خمس الغنائم وليس في الآية نسخ على هذا التأويل وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك للمهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا
وقال قتادة وزيد بن رومان كانت هذه القرى قد أوجف عليها ولكن هذا حكم ما يوجف عليه ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية الأنفال فجعل فيها الخمس لهذه الأصناف وبقيت الأربعة الأخماس للمقاتلة وآية هذه السورة لم يكن فيها للمقاتلة شيء وهذا القول يضعف لأن آية الأنفال نزلت إثر بدر وقبل بني النضير وقبل أمر هذه القرى بسنة ونيف
و * (القربى) * في هذه الآية قرابة النبي صلى الله عليه وسلم منعوا الصدقة وعوضوا من الفيء
وقوله تعالى * (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) * مخاطبة للأنصار لأنه لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غني وقرا جمهور الناس (يكون) بالياء وقرا أبو جعفر وابن مسعود وهشام عن ابن عامر بالتاء وهي كان التامة
وقرا جمهور الناس (دولة) بضم الدال ونصب الهاء
وقرا أبو عبد الرحمن السلمي (دولة) بفتح الدال ونصب الهاء
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وهشام عن ابن عامر (دولة) بضم الدال والهاء
وقال عيسى بن عمر هما بمعنى واحد
وقال الكسائي وحذاق النظرة الفتح في الملك بضم الميم لأنها الفعلة في الدهر والضم في الملك بكسر الميم
والمعنى انها كالعواري فيتداول ذلك المال الأغنياء بتصرفاتهم ويبقى المساكين بلا شيء ولاحظ في شيء من هذه الأموال ليتيم غني ولا لابن سبيل حاضر المال وقد مضى القول في الغنائم في سورة الأنفال وروي ان قوما من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا لنا منها سهمنا فنزل قوله تعالى * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * الآية مؤدبا في ذلك وزاجرا ثم أطرد بعد معنى الآية في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه حتى قال قوم إن الخمر محرمة في كتاب الله بهذه الآية وانتزع منها ابن مسعود لعنة الواشمة والمستوشمة الحديث
ورأى محرما في ثيابه المخيطة
فقال له اطرح هذا عنك فقال له الرجل أتقرأ علي بذلك آية من كتاب الله تعالى فقال ابن مسعود نعم وتلا هذه الآية وقوله تعالى * (للفقراء المهاجرين) * بيان لقوله " والمساكين وابن
286

السبيل) فكرر لام الجر لما كانت الأولى مجرورة باللام ليبين ان البدل إنما هو منها ثم وصفهم تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم وتوجب الإشفاق عليهم وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم وجميع المهاجرين إما أخرجهم الكفار وإما أحوال الكفار وظهورهم وفرض الهجرة في ذلك الوقت ووصفهم بالفقر وإن كان لهم بعض أحوال وهي حال للفقر في اللغة وقد مضى بيان هذا في سورة الكهف
وقوله * (يبتغون) * في موضع الحال و (الفضل والرضوان) يراد به الآخرة والجنة و (نصر الله) تعالى هو نصر شرعه ونبيه و * (الصادقون) * في هذه الآية يجمع صدق السان وصدق الأفعال لأن أفعالهم في أمر هجرتهم إنما كانت وفق أقوالهم
قوله عز وجل
سورة الحشر 9 - 10
" الذين تبوءوا " هم الأنصار والضمير في * (قبلهم) * للمهاجرين و * (الدار) * هي المدينة والمعنى تبوءوا الدار مع الإيمان معا وبهذا الاقتران يصح معنى قوله * (من قبلهم) * فتأمله * (والإيمان) * لا يتبوأ لأنه ليس مكانا ولكن هذا من بليغ الكلام ويتخرج على وجوه كلها جميل حسن
وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم * (يحبون) * المهاجرين وبأنهم * (يؤثرون على أنفسهم) * وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم لأن مقتضى قوله * (ومن يوق شح نفسه) * الآية
ان هؤلاء الممدوحين قد وقوا الشح والحاجة الحسد في هذا الموضع قاله الحسن وتعم بعد جميع الوجوه التي هي بخلاف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء المهاجرين أموال بني النضير والقرى و * (أوتوا) * معناه أعطوا والضمير المرفوع بان لم يسم فاعله هو للمهاجرين وقوله تعالى * (ويؤثرون) * الآية صفة للأنصار
وقد روي من غير ما طريق انها نزلت بسبب رجل من الأنصار قال أبو المتوكل هو ثابت بن قيس وقال أبي هريرة في كتاب مكي كنية هذا الرجل أبو طلحة وخلط المهدوي في ذكر هذا الرجل ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت والله ما عندنا الا قوت الصبية فقال نومي صبيتك واطفئي السراج وقدمي ما عندك للضيف ونوهمه نحن انا نأكل ففعلا ذلك فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عجب الله من فعلكما البارحة ونزلت الآية في ذلك والإيثار على النفس أكرم خلق وقال حذيفة العدوي طلبت يوم اليرموك ابن عم لي في الجرحى ومعي شيء من ماء فوجدته فقلت أسقيك فأشار ان نعم فإذا رجل يصيح آه فأشار ابن عمي ان انطلق اليه فجئته فإذا هو هشام بن العاصي فقلت اشرب فإذا آخر يقول آه فأشار هشام ان انطلق إليه فجئته فإذا به قد فاضت نفسه فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات فعجبت من إيثارهم رحمهم الله وقال أبو زيد البسطامي
287

قدم علينا شاب من بلخ حاجا فقال ما حد الزهد عندكم فقلت إذا وجدنا اكلنا وإذا فقدنا صبرنا فقال هكذا عندنا كلاب بلخ فقلت له فما هو عندكم فقال إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا وروي أن سبب هذه الآية ان النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى في المهاجرين قال للأنصار (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه) فقالوا بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة فنزلت هذه الآية
والخصاصة الفاقة والحاجة وهو مأخوذ من خصائص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح فكان حال الفقير هي كذلك يتخللها النقص والاحتياج و (شح النفس
) هو كثرة منعها وضبطها على المال والرغبة فيه وامتداد الأمل هذا جماع شح النفس وهو داعية كل خلق سوء وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أدى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برئ من الشح) واختلف الناس بعد هذا الذي قلنا فذهب الجمهور والعارفون بالكلام إلى هذا وعلى هذا التأويل كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف ويقول اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك فقيل له في ذلك فقال إذا وفيته لم أفعل سوءا
قال القاضي أبو محمد (شح النفس) فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده وينصب به وقال ابن زيد وابن جبير وجماعة من لم يأخذ شيئا نهاه الله تعالى عنه ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برئ من شح النفس
وقال ابن مسعود رحمه الله (شح النفس) هو اكل مال الغير بالباطل واما منع الإنسان ماله فهو بخل وهو قبيح ولكنه ليس بالشح
وقرا عبد الله بن عمر (شح) بكسر السين ويوقى وزنه يفعل من وقى يقي مثل وزن يزن
وقرا أبو حيوة (يوق) بفتح الواو وشد القاف و * (المفلحون) * الفائزون ببغيتهم
واختلف الناس في قوله تعالى * (والذين جاؤوا من بعدهم) * فقال الفراء أراد الفرقة الثالثة من الصحابة وهي من امن أو كبر في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم
وقال جمهور العلماء أراد من يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة فوصف الله تعالى القول الذي ينبغي ان يلتزمه كل من لم يكن من الصدرالأول وإعراب * (الذين) * رفع عطفا على * (هم) * أو على * (الذين) * أو رفع بالابتداء
وقوله تعالى * (يقولون) * حال فيها الفائدة والمراد والذين جاؤوا قائلون كذا أو يكون يقولون صفة ولهذه الآية قال مالك وغيره إنه من كان له في أحد من الصحابة قول سوء أو بغض فلا حظ له في الغنيمة أدبا له وجاء عراقيون إلى علي بن الحسين فسبوا أبا كر وعمر وعثمان فقال لهم امن المهاجرين الأولين أنتم فقالوا لا أفمن " الذين تبوءوا الدار والإيمان " قالوا لا قال فقد تبرأتم من هذين الفريقين وانا أشهد انكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم * (والذين جاؤوا من بعدهم) * الآية
قوموا فعل الله بكم وفعل وقال الحسن أدركت ثلاثمائة من الصحابة منهم سبعون بدريا كلهم يحدثني ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه)
فالجماعة ان لا تسبوا الصحابة ولا تماروا في دين الله ولا تكفروا أحدا من أهل التوحيد بذنب)
والغل الحقد والاعتقاد الرديء وقرا الأعمش (في قلوبنا غمرا للذين) والغمر الحقد وقد تقدم الاختلاف في قراءة * (رؤوف) *
288

قوله عز وجل
سورة الحشر 11 - 13
هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت وقوم من منافقي الأنصار كانوا بعثوا إلى بني النضير وقالوا لهم أثبتوا في معاقلكم فإنا معكم حيثما تقلبت حالكم وإنما أرادوا بذلك ان تقوى نفوسهم عسى ان يثبتوا حتى لا يقدر محمد عليهم فيتم لهم مرادهم وكانوا كذبة فيما قالوا من ذلك ولذلك لم يخرجوا حين اخرج بني النضير بل قعدوا في ديارهم
وقوله عز وجل * (لئن نصروهم) * معناه ولئن حاولوا ذلك فإنهم ينهزمون ثم لا ينصر الله تعالى منهم أحدا وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله * (لا يخرجون) * و * (لا ينصرونهم) * لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط وفي هذا نظر ثم خاطب الله تعالى أمة محمد مخبرا ان اليهود والمنافقين أشد خوفا من المؤمنين منهم من الله تعالى لأنهم يتوقعون عاجل الشر من المؤمنين ولا يؤمنون بآجل العذاب من الله تعالى وذلك لقلة فهمهم بالأمور وفقهم بالحق
قوله عز وجل
سورة الحشر 14 - 17
الضمير في قوله تعالى * (لا يقاتلونكم) * لبني النضير وجميع اليهود وهذا قول جماعة المفسرين ويحتمل ان يريد بذلك اليهود والمنافقين لأن دخول المنافقين في قوله تعالى * (بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) * متمكن بين
ومعنى الآية * (لا يقاتلونكم) * في جيش مفحص والقرى المدن
قال الفراء هذا جمع شاذ
قال الزجاج ما في القرآن فليس بشاذ وهو مثل ضيعة وضيع
وقرا ابن كثير وأبو عمرو وكثير من المكيين (جدار) على معنى الجنس
وقرا كثير من المكيين وهارون عن ابن كثير (جدر) بفتح الجيم وسكون الدال ومعناه أصل بنيان كالسور ونحوه وقرأ الباقون من القراء (جدر) بضم الجيم والدال وهو جمع جدار وقرا أبو رجاء وأبو حيوة (جدر) بضم الجيم وسكون الدال وهو تخفيف في جمع جدار ويحتمل ان يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقي به عند المضايقة وقوله تعالى * (بأسهم بينهم شديد) * أي في عائلتهم واحبتهم وفي قراءة عبد الله بن مسعود (تحسبهم جميعا
289

وفي قلوبهم أشتات) وهذه حال الجماعات المتخاذلة وهي المغلوبة أبدا فيما يحاول واللفظة مأخوذة من الشتات وهو التفرق ونحوه وقوله تعالى * (كمثل الذين من قبلهم) * معناه مثلهم * (كمثل) * و * (الذين من قبلهم) * قال ابن عباس هم بنو قينقاع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير وكانوا مثلا لهم
وقال قتادة ومجاهد * (الذين من قبلهم) * أهل بدر الكفار فإنهم قبلهم ومثل لهم في أن غلبوا وقهروا وقال بعض المتأولين الضمير في قوله * (قبلهم) * للمنافقين و * (الذين من قبلهم) * هم منافقو الأمم المتقدمة وذلك انهم غلبوا ونالتهم الذلة على وجه الدهر فهم مثل لهؤلاء ولكن قوله * (قريبا) * إما ان يكون في زمن موسى والا فالتأويل المذكور يضعف الا ان تجعل * (قريبا) * ظرفا للذوق فيكون التقدير * (ذاقوا وبال أمرهم) * * (قريبا) * من عصيانهم وبحدثانه ولا يكون المعنى ان المثل قريب في الزمن من الممثل له وعلى كل تأويل ف * (قريبا) * ظرف أو نعت لظرف والوبال الشدة والمكروه وعاقبة السوء و (العذاب الأليم) هو في الآخرة وقوله تعالى * (كمثل الشيطان) * معناه مثل هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير * (كمثل الشيطان) * والإنسان فالمنافقون مثلهم الشيطان وبنو النضير مثلهم الإنسان وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن * (الشيطان) * و (الإنسان) في هذه الآية أسماء جنس لأن العرف ان يعمل هذا شياطين بناس كما يغوي الشيطان الإنسان ثم يفر منه بعد ان يورطه كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحرضوهم على الثبوت ووعدوهم النصر فلما نشب بنو النضير وكشفوا عن وجوههم تركهم المنافقون في أسوأ حال وذهب قوم من رواة القصص ان هذا شيطان مخصوص مع عابد من العباد مخصوص وذكر الزجاج ان اسمه برصيص قالوا إنه إستودع امرأة وقيل سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون فسول له الشيطان الوقوع عليها فحملت فخشي الفضيحة فسول له قتلها ودفنها ففعل ثم شهره فلما استخرجت المراة وحمل العابد شر حمل وهو قد قال إنها قد ماتت فقمت عليها ودفنتها فلما وجدت مقتولة علموا كذبه فتعرض له الشيطان فقال له اكفر واسجد لي وأنجيك ففعل وتركه عند ذلك
وقال " إني بريء منك " وهذا كله حديث ضعيف والتأويل الأول هو وجه الكلام وقول الشيطان * (إني أخاف الله) * رياء من قوله وليست على ذلك عقيدته ولا يعرف الله حق معرفته ولا يحجزه خوفه عن سوء يوقع فيه ابن آدم من أول إلا آخر وقوله تعالى * (فكان عاقبتهما) * الآية يحتمل الضمير ان يعود على المخصوصين المذكورين ويحتمل ان يعود على اسمي الجنس أي هذا هو عاقبة كل شيطان وإنسان يكون أمرهما هكذا وقرا الحسن وعمرو بن عبيد (عاقبتهما) بالرفع وقرا جمهور الناس (عاقبتهما) بالنصب وموضع ان يخالف إعراب المعاقبة في القراءتين إن شاء الله تعالى وقرأ الأعمش وابن مسعود (خالدان) بالرفع على أنه خبر (أن) والظرف ملغى ويلحق هذه الآية من الاعتراض الغاء الظرف مرتين قاله الفراء وذلك جائز عند سيبويه على التأكيد
290

قوله عز وجل
سورة الحشر 18 - 21
هذه آية وعظ وتذكير وتقريب للآخرة وتحذير ممن لا تخفى عليه خافية
وقرأ جمهور الناس (ولتنظر) بسكون اللام وجزم الراء على الأمر وقرا يحيى بن الحارث وأبو حيوة وفرقة كذلك بالأمر الا انها كسرت اللام على أصل لام الأمر وقرا الحسن بن أبي الحسن فيما روى عنه (ولتنظر) بنصب الراء على لام كي كأنه قال وأمرنا بالتقوى لتنظروا كأنه قال * (اتقوا الله) * ولتكن تقواكم (لتنظر) وقوله تعالى * (لغد) * يريد يوم القيامة قال قتادة قرب الله القيامة حتى جعلها غدا وذلك انها آتية لا محالة وكل آت قريب ويحتمل ان يريد بقوله * (لغد) * ليوم الموت لأنه لكل إنسان كغده ومعنى الآية ما قدمت من الأعمال فإذا نظرها الإنسان تزيد من الصالحات وكف عن السيئات وقال مجاهد وابن زيد الأمس الدنيا وغد الآخرة وقرا الجمهور (ولا تكونوا) بالتاء من فوق على مخاطبة جميع الذين آمنوا وقرا أبو حيوة (يكونوا) بالياء من تحت كناية عن النفس التي هي اسم الجنس و * (الذين نسوا الله) * هم الكفار والمعنى تركوا الله وغفلوا عنه حتى كانوا كالناسين وعبر عما حفهم به من الضلالة ب * (فأنساهم أنفسهم) * سمى عقوبتهم باسم ذنبهم بوجه ما وهذا أيضا هو الجزاء على الذنب بالذنب تكسبوهم نسيان جهة الله فعاقبهم الله تعالى بان جعلهم ينسون أنفسهم قال سفيان المعنى حظ أنفسهم ويعطي لفظ هذه الآية ان من عرف نفسه ولم ينسها عرف ربه تعالى وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه اعرف نفسك تعرف ربك وروي عنه أنه قال أيضا من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه
وقرا ابن مسعود (ولا أصحاب الجنة) بزيادة لا
وقوله تعالى * (لو أنزلنا هذا القرآن) * الآية موعظة للإنسان أو ذم لأخلاقه في غفلته وإعراضه عن داعي الله تعالى وذلك أن القرآن نزل عليهم وفهموه واعرضوا عنه وهو لو نزل على جبل وفهم الجبل منه ما فهم الإنسان لخشع واستكان وتصدع خشية لله تعالى وإذا كان الجبل على عظمه وقوته يفعل هذا فما عسى ان يحتاج ابن آدم يفعل لكنه يعرض ويصد على حقارته وضعفه وضرب الله تعالى هذا المثل ليتفكر فيه العاقل ويخشع ويلين قلبه وقرا طلحة بن مصرف (مصدعا) على إدغام التاء في الصاد
291

قوله عز وجل
سورة الحشر 22 - 24
لما قال تعالى * (من خشية الله) * الحشر 21 جاء بالأوصاف التي توجب لمخلوقاته هذه الخشية و * (الغيب) * ما غاب عن المخلوقين و * (الشهادة) * ما شاهدوه
وقال حرب المكي * (الغيب) * الآخرة * (والشهادة) * الدنيا
وقرا جمهور الناس (القدوس) بضم القاف وهو فعول من تقدس إذا تطهر وحظيرة القدس الجنة لأنها طاهرة ومنه روح القدس ومنه الأرض المقدسة بيت المقدس وروي عن أبي ذر انه قرا (القدوس) بفتح القاف وهي لغة و * (السلام) * معناه الذي سلم من جوره وهذا اسم على حذف مضاف أي ذو * (السلام) * لأن الإيمان به وتوحيده وأفعاله هي لمن آمن سلام كلها و * (المؤمن) * اسم فاعل من آمن بمعنى آمن
قال أحمد بن يحيى ثعلب معناه المصدق للمؤمنين في أنهم آمنوا
قال النحاس أو في شهادتهم على الناس في القيامة
وقال ناس من المتأولين معناه المصدق نفسه في أقواله الأزلية لا إله غيره و * (المهيمن) * معناه الأمين والحفيظ
قاله ابن عباس وقال مؤرج * (المهيمن) * الشاهد بلغة قريش وهذا بناء لم يجيء منه في الصفات الا مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر جاء منه في الأسماء مجيمر وهو اسم واد ومديبر و * (العزيز) * الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر يقال عزيز إذا غلب برفع العين في المستقبل
قال الله تعالى * (وعزني في الخطاب) * ص 23 أي غلبني وفي المثل من عز بز أي من غلب سلب و * (الجبار) * هو الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق رتبه ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق وأنشد الزهراوي
(أطافت به جيلان عند قطاعه
* وردت اليه الماء حتى تجبرا) الطويل
و * (المتكبر) * معناه الذي له التكبر حقا ثم نزه الله تعالى نفسه عن إشراك الكفار به الأصنام التي ليس لها شيء من هذه الصفات و * (البارئ) * بمعنى * (الخالق) * برأ الله الخلق أي أوجدهم و * (المصور) * هو الذي يوجد الصور وقرا علي بن أبي طالب (المصور) بنصب الواو والراء على إعمال * (البارئ) * به وهي حسنة يراد بها الجنس في الصور وقال قوم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قرأ (المصور) بفتح الواو وكسر الراء على قولهم الحسن الوجه وقوله تعالى * (له الأسماء الحسنى) * أي ذات الحسن في معانيها القائمة بذاته لا إله إلا هو وهذه الأسماء هي التي حصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن بقوله لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة الا واحدا من أحصاها دخل الجنة) وقد ذكرها الترمذي وغيره مسندة واختلف في بعضها ولم يصح فيها شيء الا إحصاؤها دون تعين وباقي الآية بين
292

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الممتحنة
هي مدنية بإجماع المفسرين
قوله عز وجل
سورة الممتحنة 1
العدو اسم يقع للجمع والمفرد والمراد به هاهنا كفار قريش وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية فورى عن ذلك بخيبر فشاع في الناس انه خارج إلى خيبر وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده منهم حاطب بن أبي بلتعة فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث عليا والزبير وثالثا هو المقداد وقيل أبو مرثد وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظغينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فانطلقوا حتى وجدوا المراة واسمها سارة مولاة لقوم من قريش وقيل بل كانت امرأة من مزينة ولم تكن سارة فقالوا لها أخرجي الكتاب
قالت ما معي كتاب ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئا فقال بعضهم ما معها كتاب فقال علي ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكذبي والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك
قالت اعرضوا عني فحلته من قرون رأسها وقيل أخرجته من حجزتها فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحاطب من كتب هذا فقال انا يا رسول الله ولكن لا تعجل علي فوالله ما فعلت ذلك ارتدادا عن ديني ولا رغبة عنه ولكني كنت أمرا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي
فقال عمر بن الخطاب دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب إنه من أهل بدر وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر
فقال (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ولا تقولوا لحاطب الا خير) فنزلت الآية بهذا السبب وروي ان حاطبا كتب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل والسيل وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر عليكم فكيف وهو في جمع كثير و * (تلقون) * في موضع الصفة ل * (أولياء) * وألقيت يتعدى
293

بحرف الجر وبغير حرف جر فدخول الباء وزوالها سواء وهذا نظير قوله عز وجل * (وألقيت عليك محبة مني) * طه 39 وقوله تعالى * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) * آل عمران 151 وروى ابن المعلى عن عاصم انه قرأ (وقد كفروا لما) بلام
وقوله تعالى * (يخرجون) * في موضع الحال من الضمير في * (كفروا) * والمعنى يخرجون الرسول ويخرجونكم وهي حال موصوفة فلذلك ساق الفعل مستقبلا والإخراج قد مر وتضييق الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إخراج إذ كان مؤديا إلى الخروج وقوله تعالى * (إن تؤمنوا) * مفعول من أجله أي أخرجوا لأجل ان آمنتم بربكم وقوله تعالى * (إن كنتم) * شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط والتقدير (إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي
وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) و * (جهادا) * نصب على المصدر وكذلك * (ابتغاء) * ويجوز ان يكون ذلك مفعولا من اجله و (المرضاة) مصدر كالرضى و * (تسرون) * بدل من * (تلقون) * ويجوز أن تكون في موضع خبر ابتداء كأنه قال أنتم * (تسرون) * ويصح أن تكون فعلا مرسلا ابتدىء به القول والإلقاء بالمودة معنى ما والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء فيترجح بهذا ان * (تسرون) * فعل ابتدىء به القول أي تفعلون ذلك وانا أعلم وقوله تعالى * (أعلم) * يحتمل ان يكون أفعل ويحتمل ان يكون فعلا لأنك تقول علمت بكذا فتدخل الباء وقوله تعالى * (وأنا أعلم) * الآية جملة في موضع الحال وقرا أهل المدينة (وأنا) بإشباع الألف في الإدراج وقرا غيرهم (وأنا) بطرح الألف في الإدراج والضمير في * (يفعله) * عائد على الاتخاذ المذكور ويجوز أن تكون * (سواء) * مفعولا ب * (ضل) * وذلك على بعد وذلك على تعدي * (ضل) * ويجوز ان يكون ظرفا على غير التعدي لأنه يجيء بالوجهين والأول أحسن في المعنى والسواء الوسط وذلك لأنه تتساوى نسبته إلى أطراف الشيء والسبيل هنا شرع الله وطريق دينه
قوله عز وجل
سورة الممتحنة 2 - 4
أخبر الله تعالى ان مداراة هؤلاء الكفار غير نافعة في الدنيا وانها ضارة في الآخرة ليبين فساد رأي مصانعهم فقال تعالى * (إن يثقفوكم) * أي إن يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم ظهرت العداوة وانبسطت أيديهم بضرركم وقتلكم وألسنتهم بسبكم وهذا هو السوء وأشد من هذا كله انهم إنما يقنعهم منكم ان تكفروا وهذا هو ودهم ثم اخبر تعالى ان هذه الأرحام التي رغبتم في وصلها ليست بنافعة يوم القيامة فالعامل في * (يوم) * قوله * (تنفعكم) * وقال بعض النحاة في كتاب الزهراوي العامل فيه * (يفصل) * وهو
294

مما بعده لا مما قبله وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والعامة (يفصل) بضم الياء وسكون الفاء وتخفيف الصاد مفتوحة وقرا ابن عامر والأعرج وعيسى (يفصل) بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد منصوبة واختلف على هاتين القراءتين في إعراب قوله * (بينكم) * فقيل نصب على الظرفية وقيل رفع على ما لم يسم فاعله الا ان لفظه بقي منصوبا لأنه كذلك كثر استعماله وقرا عاصم والحسن والأعمش (يفصل) بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة وقرا حمزة والكسائي وابن وثاب (يفصل) بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة واسناد الفعل في هاتين القراءتين إلى الله تعالى وقرا النخعي وطلحة بن مصرف (نفصل) بنون العظمة مرفوعة وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة وقرا بعض الناس (نفصل) بنون العظمة مفتوحة وسكون الفاء وقرا أبو حيوة بضم الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة من (أفصل) وفي قوله تعالى * (والله بما تعملون بصير) * وعيد وتحذير وقرا جمهور السبعة (إسوة) بكسر الهمزة وقرا عاصم وحده (أسوة) بضمها وهما لغتان والمعنى قدوة وإمام ومثال و * (إبراهيم) * هو خليل الرحمن واختلف الناس في * (الذين معه) * فقال قوم من المتأولين أراد من آمن به من الناس وقال الطبري وغيره أراد الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبا من عصره وهذا القول أرجح لأنه لم يرو ان إبراهيم كان له اتباع مؤمنون في مكافحته نمرودا وفي البخاري أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجرا من بلد النمرود ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك وهذه الأسوة مقيدة في التبري عن الإشراك وهو مطرد في كل ملة وفي نبينا عليه السلام أسوة حسنة على الإطلاق لأنها في العقائد وفي احكام الشرع كلها وقرا جمهور الناس (برءاء) على وزن فعلاء الهمزة الأولى لام الفعل وقرا عيسى الثقفي (براء) على وزن فعال بكسر الباء ككريم وكرام وقرا يزيد بن القعقاع (براء) على وزن فعال بضم الفاء كنوام وقد رويت عن عيسى قراءة قال أبو حاتم زعموا انه عيسى الهمداني ويجوز (براء) على المصدر بفتح الباء يوصف به الجمع والإفراد وقوله * (كفرنا بكم) * أي كذبناكم في أقوالكم ولم نؤمن بشيء منها ونظير هذا قوله عليه السلام حكاية عن قول الله عز وجل فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ولم تلحق العلامة في * (بدا) * لأن تأنيث * (العداوة والبغضاء) * غير حقيقي ثم استثنى تعالى استغفار إبراهيم لأبيه وذكر انه كان عن موعده وقد تفسر ذلك في موضعه وهذا استثناء ليس من الأول والمعنى عند مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم ان الأسوة لكم في هذا الوجه لا في هذا الآخر لأنه كان في علة ليست في نازلتكم ويحتمل ان يكون استثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت أي لم تبق صلة الا كذا وقوله تعالى * (ربنا عليك توكلنا) * الآية حكاية عن قول إبراهيم والذين معه إنه هكذا كان
قوله عز وجل
سورة الممتحنة 5 - 7
قوله تعالى * (ربنا لا تجعلنا) * الآية حكاية عن إبراهيم ومن معه والمعنى لا تغلبهم علينا فتكون
295

لهم فتنة وسبب ضلالة لأنهم يتمسكون بكفرهم ويقولون إنما غلبناهم لأنا على الحق وهم على الباطل نحا هذا المنحى قتادة وأبو مجلز وقال ابن عباس المعنى لا تسلطهم علينا فيفتنوننا عن أدياننا فكأنه قال لا تجعلنا مفتونين فعبر عن ذلك بالمصدر وهذا أرجح الأقوال لأنهم إنما دعوا لأنفسهم وعلى منحى قتادة إنما دعوا للكفار
اما أن مقصدهم إنما هو ان يندفع عنهم ظهور الكفار الذي يسببه فتن الكفار فجاء في المعنى تحليق بليغ ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم (بئس الميت سعد ليهود لأنهم يقولون لو كان محمد نبيا لم يمت صاحبه) وقوله تعالى * (لقد كان لكم) * الآية خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وقوله * (لمن) * بدل من قوله * (لكم) * وكرر حرف الجر ليتحقق البدل وذلك عرف هذه المبدلات ومنه قوله تعالى * (للفقراء المهاجرين) * الحشر 8 وهو في القرآن كثير وأكثر ما يلزم من الحروف في اللام ثم اعلم تعالى باستغنائه عن العباد وانه * (الحميد) * في ذاته وأفعاله لا ينقص ذلك كفر كافر ولا نفاق منافق
وروي ان هذه الأيات لما نزلت وأزمع المؤمنون امتثال امرها وصرم حبال الكفرة وإظهار عداوتهم لحقهم تأسف على قراباتهم وهم من أن لم يؤمنوا ولم يهتدوا حتى يكون
بينهم الود والتواصل فنزلت * (عسى الله) * الآية مؤنسة في ذلك ومرجية ان يقع موقع ذلك بإسلامهم في الفتح وصار الجميع إخوانا ومن ذكر ان هذه المودة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان وانها كانت بعد الفتح فقد أخطأ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وقت هجرة الحبشة وهذه الآيات نزلت سنة ست من الهجرة ولا يصح ذلك عن ابن عباس الا ان يسوقه مثالا وإن كان متقدما لهذه الآية لأنه استمر بعد الفتح كسائر ما نشأ من المودات و * (عسى) * من الله واجبة الوقوع إن شاء الله تعالى
قوله عز وجل
سورة الممتحنة 8 - 9
اختلف الناس في هؤلاء الذين لم ينه عنهم ان يبروا من هم
فقال مجاهد هم المؤمنون من أهل مكة الذين آمنوا ولم يهاجروا وكانوا لذلك في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة وقال آخرون أراد المؤمنين التاركين للهجرة كانوا من أهل مكة ومن غيرها
وقال الحسن وأبو صالح أراد خزاعة وبني الحارث بن كعب وقبائل من العرب كفار الا انهم كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم محبين فيه وفي ظهوره ومنهم كنانة وبنو الحارث بن عبد مناة ومزينة وقال قوم أراد من كفار قريش من لم يقاتل ولا اخرج ولا اظهر سوءا وعلى هذين القولين فالآية منسوخة بالقتال وقال عبد الله بن الزبير أراد النساء والصبيان من الكفرة وقال إن الآية نزلت بسبب أم أسماء حين استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في برها وصلتها فأذن
296

لها وكانت المرأة خالتها فيما روي فسمتها في حديثها اما وقال أبو جعفر بن النحاس والثعلبي أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة وهذا قول ضعيف
وقال مرة الهمداني وعطية العوفي نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس قال قتادة نسختها * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * التوبة 5
وقوله تعالى * (أن تبروهم) * بدل وهذا هو بدل الاشتمال والأقساط العدل و * (ظاهروا) * معناه عاونوا و (الذين قاتلوا في الدين واخرجوا) هم مردة قريش وقوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) * الآية نزلت إثر صلح الحديبية وذلك أن الصلح تضمن ان يرد المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلما من رجل وامرأة فنقض الله تعالى من ذلك امر النساء بهذه الآية وحكم ان المهاجرة لا ترد إلى الكفار بل تبقى تستبرىء وتتزوج ويعطى زوجها الكافر الصداق الذي انفق وامر أيضا المؤمنين بطلب صداق من فرت امرأته من المؤمنين وحكم تعالى بهذا في النازلة وسماهم مؤمنات قبل ان يتيقن ذلك إذ هو ظاهر أمرهن و * (مهاجرات) * نصب على الحال * (فامتحنوهن) * معناه جربوهن واستخبروا حقيقة ما عندهن
واختلف الناس في هذا الامتحان كيف هو فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة كان بأن تستحلف المراة انها ما هاجرت لبغض زوجها ولا لجريرة جرت ولا لسبب من اعراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة
قال ابن عباس الامتحان ان تطلب بان تشهد ان لا إله الا الله وان محمدا رسول الله فإذا فعلت ذلك لم ترد فقال فريق منهم عائشة أم المؤمنين الامتحان هو ان تعرض عليها الشروط التي في الآية بعد هذا من ترك الزنا والسرقة والبهتان والعصيان فإذا أقرت بذلك فهو امتحان وقيل إن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر امرأة حسان بن الدحداحة وفي كتاب الثعلبي انها نزلت في سبيعة بنت الحارث وقوله تعالى " الله أعلم بإيمانهم " إشارة إلى الاسترابة ببعضهن وحض على امتحانهن وذكر تعالى العلة في أن لا يرد النساء إلى الكفار وهي امتناع الوطء وحرمته وقرا طلحة (لا هن يحللن لهم)
قوله عز وجل
سورة الممتحنة 10 - 11
أمر الله تعالى ان يؤتى الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن مؤمنات ورفع الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن وأمر المسلمين بفراق الكافرات وان لا يمسكوا بعصمهن فقيل الآيات في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها ابتداء وقيل هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب والعصم جمع عصمة وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية وكذلك العصمة في كل شيء السبب الذي يعتصم به ويعتمد عليه وقرا جمهور السبعة والناس (تمسكوا) بضم التاء وكسر السين وتخفيفها من
297

امسك وقرا أبو عمرو وحده وابن جبير ومجاهد والأعرج والحسن بخلاف (ولا تمسكوا) من مسك بالشد في السين وقرا الحسن وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد المجيد (تمسكوا) بفتح التاء والميم وفتح السين وشدها وقرا الحسن (تمسكوا) بفتح التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة
ورأيت لأبي علي الفارسي أنه قال سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * إنه في الرجال والنساء فقلت له النحويون لا يرون هذا الا في النساء لأن كوافر جمع كافرة فقال وايش يمنع من هذا أليس الناس يقولون طائفة كافرة وفرقة كافرة فبهت وقلت هذا تأييد وأمر تعالى ان يسأل أيضا الكافرون ان يدفعوا الصدقات التي أعطاها المؤمنون لمن فر من أزواجهم إلى الكفار وقرر الحكم بذلك على الجميع فروي عن ابن شهاب ان قريشا قالت نحن لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقا فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى * (وإن فاتكم) * الآية فامر الله تعالى المؤمنين ان يدفعوا إلى من فرت زوجته ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي انفق قال ابن عباس في كتاب الثعلبي خمس نسوة من نساء المهاجرين رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد وفاطمة بنت أبي أمية أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب وعبدة بنت عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة
واختلف الناس في اي مال يدفع اليه الصداق فقال محمد بن شهاب الزهري يدفع اليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواجهم وازال الله تعالى دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه حسبما ذكرناه وهذا قول صحيح يقتضيه قوله تعالى * (فعاقبتم) * وسنبين ذلك في تفسير اللفظة إن شاء الله تعالى
وقال مجاهد وقتادة يدفع اليه من غنائم المغازي وقال هؤلاء التعقيب بالغزو والمغنم وتأولوا اللفظة بهذا المعنى وقال الزهري أيضا يدفع اليه من أي وجوه الفيء أمكن والعاقبة في هذه الآية ليست بمعنى مجازاة السوء بالسوء لكنها بمعنى فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجكم وهكذا هو التعقيب على الجمل والدواب ان يركب هذا عقبه ويركب هذا عقبة
وقرا ابن مسعود (وإن فاتكم أحد من أزواجكم) ويقال عاقب الرجل صاحبه في كذا اي جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الاخر ومنه قول الشاعر الكميت
(وحاردت النكد الجلاد ولم يكن
* لعقبة قدر المستعيرين معقب)
ويقال (عقب) بشد القاف أي أصاب عقبى والتعقيب غزو إثر غزو ويقال (عقب) بتخفيفها ويقال (عقب) بكسرها كل ذلك بمعنى يقرب بعضه من بعض وبجميع ذلك قرىء قرا جمهور الناس (عاقبتم) وقرا الأعرج ومجاهد والزهري وعكرمة وحميد (عقبتم) بالتشديد في القاف وقرأ الأعرج أيضا وأبو حيوة والزهري أيضا (عقبتم) بفتح القاف خفيفة وقرا النخعي والزهري أيضا (عقبتم) بكسر القاف وكلها بمعنى غنمتم وروي عن مجاهد (أعقبتم) بألف مقطوعة قبل العين وهذه الآية كلها قد ارتفع حكمها ثم ندب تعالى إلى التقوى وأوجبها وذكر العلة التي بها يجب التقوى وهي الإيمان بالله والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه
298

قوله عز وجل
سورة الممتحنة 12 - 13
هذه بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا وهي كانت في المعنى بيعة الرجال قبل فرض القتال وسماهم * (المؤمنات) * بحسب الظاهر من أمرهن ورفض الاشتراك هو محض الإيمان وقتل الأولاد وهو من خوف الفقر وكانت العرب تفعل ذلك
وقرا الحسن وأبو عبد الرحمن (يقتلن) بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء المشددة و (الإتيان بالبهتان) قال أكثر المفسرين معناه ان تنسب إلى زوجها ولدا ليس هو له واللفظ أعم من هذا التخصيص فإن الفرية بالقول على أحد من الناس بعضيهة لمن هذا وإن الكذب فيما ائتمن فيه من الحمل والحيض لفرية بهتان وبعض أقوى من بعض وذلك أن بعض الناس قال * (بين أيديهن) * يراد به اللسان والفم في الكلام والقبلة ونحوه (وبين الأرجل) يراد به الفروج وولد الإلحاق ونحوه والمعروف الذي نهي عن العصيان فيه قال انس وابن عباس وزيد بن أسلم هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها
ويروى ان جماعة نساء فيهن هند بنت عتبة بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهن الآي فلما قررهن على أن لا يشركن قالت هند وكيف نطمع ان تقبل منا مالم تقبله من الرجال بمعنى ان هذا بين لزومه فلما وقف على السرقة قالت والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا أدري أيحل لي ذلك فقال أبو سفيان ذلك لك حلال فيما مضى وبقي وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلي وولدك بالمعروف)
وقدر تكرر هذا المعنى في الحديث الآخر قولها إن أبا سفيان رجل مسيك فلما وقف على الزنا قالت يا رسول الله وهل تزني الحرة قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ما تزني الحرة) وذلك أن الزنا في قريش إنما كان في الإماء في أغلب الأمر وفيما تعرف مثل هند والا فالبغايا قد كن أحرارا فلما وقف على قتل الأولاد قالت نحن ربيناهم صغارا وقتلتهم أنت ببدر كبارا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وقف على العصيان بالمعروف قالت ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا ان نعصيك ويروى ان جماعة نساء بايعن النبي صلى الله عليه وسلم فقلن يا رسول الله نبايعك على كذا وكذا الآية فلما فرغن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيما استطعتن وأطلقتن) فقلن الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا
وقوله تعالى * (فبايعهن) * امض معهن صفقة الايمان بأن يعطين ذلك من أنفسهن ويعطين عليه الجنة واختلفت هيئات مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بعد الإجماع على أنه لم تمس يده يد
299

امرأة أجنبية قط فروي عن عائشة وغيرها انه بايع باللسان قولا وقال (إنما قولي لمائة لامرأة كقولي لمرأة واحدة) وقالت أسماء بنت يزيد كنت في النسوة المبايعات فقلت يا رسول الله أبسط يدك نبايعك فقال لي عليه السلام (إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما آخذ الله عليهن) وذكر النقاش حديثا ان النبي صلى الله عليه وسلم مد يده من خارج بيت ومد نساء من الأنصار أيديهن من داخله فبايعن وما قدمته أثبت وروي عن الشعبي انه لف ثوبا كثيفا قطريا على يده وجاء نسوة فلمسن يده كذلك وروي عن الكلبي انه قدم عمر بن الخطاب فلمس نساء يده وهو خارج من بيت وهن فيه بحيث لا يراهن وذكر النقاش وغيره ان النبي صلى الله عليه وسلم بايعه النساء على الصفا بمكة وعمر بن الخطاب يصافحهن وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورفعه النقاش عن ابن عباس وعن عروة بن مسعود الثقفي انه عليه السلام غمس يده في إناء فيه ماء ثم دفعه إلى النساء فغمسن أيديهن فيه
ثم أمره تعالى بالاستغفار لهن ورجاهن في غفرانه ورحمته بقوله * (إن الله غفور رحيم) * وقوله تعالى * (قوما غضب الله عليهم) * قال ابن زيد والحسن ومنذر بن سعيد هم اليهود لأن غضب الله قد صار عرفا لهم وقال ابن عباس هم في هذه الآية كفار قريش لأن كل كافر فعليه غضب من الله لا يرد بذلك ثبوت الغضب على اليهود
قال القاضي أبو محمد ولا سيما في المردة ككفار قريش إذ أعمالهم مغضبة ليست بمجرد ضلال بل فيها شرارات مقصودة وفي الكلام في التشبيه الذي في قوله * (كما
يئس) * يتبين الاحتياج إلى هذا الخلاف وذلك أن اليأس من الآخرة إما ان يكون بالتكذيب بها وهذا هو يأس كفار مكة قال معنى قوله * (كما يئس الكفار) * كما يئس الكافر من صاحب قبر لأنه إذا مات له حميم قال هذا آخر العهد به لن يبعث ابدا فمعنى الآية أن اعتقاد أهل مكة في الآخرة كاعتقاد الكافر في البعث ولقاء موتاه وهذا هو تأويل ابن عباس والحسن وقتادة في معنى قوله تعالى * (كما يئس الكفار) * ومن قال إن القوم المشار إليهم هم اليهود قال معنى قوله * (يئس الكفار) * أي كما يئس الكافر من الرحمة إذا مات وكان صاحب قبر وذلك أنه يروى أن الكافر إذا كان في قبره عرض عليه مقعده في الجنة أن لو كان مؤمنا ثم يعرض عليه مقعده من النار الذي يصير اليه فهو يائس من رحمة الله مع علمه بها ويقينه وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد في قوله * (كما يئس الكفار) * فمعنى الآية ان يأس اليهود من رحمة الله في الآخرة مع علمهم بها كيأس ذلك الكافر في قبره وذلك لأنهم قد رين على قلوبهم وحملهم الحسد على ترك الايمان وغلب على ظنونهم انهم معذبون وهذه كانت صفة كثير من معاصري النبي صلى الله عليه وسلم و " من " في قوله * (من أصحاب) * على القول الأول هي لابتداء الغاية وفي القول الثاني هي لبيان الجنس والتبعيض يتوجهان فيها وبيان الجنس اظهر
نجز تفسير سورة الممتحنة والحمد لله على ذلك
300

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصف
وهي مدنية في قول الجمهور وقال مكي عن ابن عباس والمهدوي عن عطاء ومجاهد إنها مكية والأول أصح لأن معاني السورة تعضده ويشبه ان يكون فيها المكي والمدني
قوله عز وجل
سورة الصف 1 - 5
قد تقدم القول غير مرة في تسبيح الجمادات و * (العزيز) * في سلطانه وقدرته و * (الحكيم) * في أفعاله وتدبيره واختلف الناس في السبب الذي نزلت فيه * (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) * فقال ابن عباس وأبو صالح نزلت بسبب ان جماعة قالوا لوددنا ان نعرف أحب الأعمال إلى ربنا حتى نفنى فيه ففرض الله الجهاد وأعلمهم بفضله لديه وانه يحب المقاتلين في سبيله كالبنيان المرصوص وكان إذ فرض قد تكرهه قوم منهم وفر من فر يوم أحد فعاتبهم الله بهذه الآية بسبب ان جماعة من شباب المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا ويقولون فعلنا وصنعنا وذلك كذب فنزلت الآية في ذلك وقال ابن زيد نزلت في المنافقين لأن جملة منهم كانوا يقولون للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك فنزلت الآية عتابا لهم وحكم هذه الآية باق غابر الدهر وكل من يقول ما لا يفعل فهو ممقوت مذق الكلام والقول الآخر في المنافقين إنما يتوجه بان يكونوا غير مجلحين بالنفاق فلذلك خوطبوا بالمؤمنين اي في زعمكم وما تظهرون والقول الأول يترجح بما يأتي بعد من امر الجهاد والقتال
و (المقت) البغض من أجل الذنب أو ريبة أو دنائة يصنعها الممقوت وهذا حد المقت فتأمله و * (مقتا) * نصب على التمييز والتقدير * (كبر) * فعلكم * (مقتا) * والمراد كبر مقت فعلكم فحذف المضاف اليه ونصب المضاف على التمييز وهذا كما تريد تفقأ شحم بطنك فتقول تفقأ بطنك شحما و * (أن تقولوا) * يحتمل ان يكون بدلا من المقدر ويحتمل ان يكون فاعلا ب * (كبر) * وقول المرء ما لا يفعل
301

موجب مقت الله تعالى ولذلك فر كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير وآثروا السكوت ثم وكد تعالى الإخبار بمحبته للمقاتلين * (صفا) * ومحبة الله تعالى هي ما يظهر عليهم من نصره وكرامته وهي صفة فعل وليست بمعنى الإرادة لأن الإرادة لا يصح ان يقع ما يخالفها ونحن نجد المقاتلين على غير هذه الصفة كثيرا وقال بعض الناس قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراص فيه يتمكن وهذا ضعيف خفي على قائله مقصد الآية وليس المراد نفي التصاف وإنما المقصد الجد في كل أوطان القتال وأحواله وقصد بالذكر أشد الأحوال وهي الحالة التي تحوج إلى القتال * (صفا) * متراصا ونابت هذه الحال المذكورة مناب جميع الأحوال وقضت الآية بان الذين يبلغ جدهم إلى هذه الحال حريون بان لا يقصروا عن حال و " المرصوص " المصفوف المتضام وقال أبو بحرية رحمه الله إذا رأيتموني ألتفت في الصف فجبوا فؤادي ومنه قول الشاعر ابن أبي العنبس الثقفي
(وبالشعب بين صفائح
* صم ترصص بالجنوب) مجزوء الكامل
وقال منذر بن سعيد والبراء وغيره " المرصوص " المعقود بالرصاص وهذا يحتمل ان يكون أصل اللفظة ثم ذكر الله تعالى مقالة موسى وذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون ذكرهم الله تعالى بقوم آذوا نبيهم على علم منهم بنبوته و * (زاغوا) * ف * (أزاغ الله قلوبهم) * أي فأحذروا أيها المؤمنون ان يصيركم العصيان وقول الباطل إلى مثل حالهم وقال أبو امامة هم الخوارج وقال سعد بن أبي وقاص هم الحرورية المعنى انهم أشباههم في أنهم لما * (زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * وقوله * (لم تؤذونني) * تقرير والمعنى * (تؤذونني) * بتعنيتكم وعصيانكم واقتراحاتكم وهذه كانت أفعال بني إسرائيل وانظر انه تعالى أسند الزيغ إليهم لكونه فعل حطيطة كما قال الله تعالى * (نسوا الله فأنساهم) * الحشر 19 وهذا يخالف قوله تعالى * (ثم تاب عليهم ليتوبوا) * التوبة 118 فأسند التوبة إلى نفسه لكونها فعل رفعة ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام * (وإذا مرضت فهو يشفين) * الشعراء 80 و * (زاغ) * معناه مال وصار عرفها في الميل عن الحق و * (أزاغ الله قلوبهم) * معناه طبع عليها وختم وكثر ميلها عن الحق وهذه العقوبة على الذنب بالذنب وامال ابن أبي إسحاق * (زاغوا) *
قوله عز وجل
سورة الصف 6 - 8
المعنى (واذكر ا يا محمد إذ قال عيسى) وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لكفار قريش وحكي عن موسى أنه قال * (يا قوم) * الصف 5 وعن عيسى أنه قال * (يا بني إسرائيل) * من حيث لم يكن له فيهم
302

أب و * (مصدقا) * حال مؤكدة * (ومبشرا) * عطف عليه وقوله تعالى * (يأتي من بعدي) * وقوله * (اسمه أحمد) * جملتان كل واحدة منهما في موضع خفض على الصفة لرسول و * (أحمد) * فعل سمي به ويحتمل ان يكون أفعل كأسود وهو في هذه الآية الكلمة لا الشخص وليست على حد قولك جاءنا احمد لأنك ها هنا أوقعت الاسم على مسماه وفي الآية إنما أراد اسمه هذه الكلمة وذكر أبو علي هذا الغرض ومنه ينفك اعراب قوله تعالى * (يقال له إبراهيم) * الأنبياء 60 وقرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر (بعدي) بفتح الياء وقوله تعالى * (فلما جاءهم بالبينات) * الآية يحتمل ان يريد * (عيسى) * وتكون الآية وما بعدها تمثيلا بأولئك لهؤلاء المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل ان يكون التمثيل قد فرغ عند قوله * (اسمه أحمد) * ثم خرج إلى ذكر * (أحمد) * لما تطرق ذكره فقال مخاطبة للمؤمنين * (فلما جاء) * أحمد هؤلاء الكفار * (قالوا هذا سحر مبين) * و (البينات) هي الآيات والعلامات وقرا جمهور الناس (هذا ساحر) إشارة إلى ما جاء به وقرا ابن مسعود وطلحة والأعمش وابن وثاب (هذا سحر) إشارة اليه بنفسه وقوله تعالى * (ومن أظلم) * تعجيب وتقرير أي لا أحد أظلم منه و (افتراء الكذب) هو قولهم * (هذا سحر) * وما جرى مجرى هذا من الأقوال التي هي اختلاق وبغير دليل وقرا الجمهور (يدعى) على بناء الفعل للمفعول وقرا طلحة بن مصرف (يدعي) بمعنى ينتمي وينتسب ومن ذلك قول الشاعر ساعدة بن عجلان الهذلي
(فرميت فوق ملاءة محبوكة
* وأبنت للأشهاد حزة أدعي) الكامل
والمعنى على هذه القراءة إنما هو إشارة إلى الأنبياء عليهم السلام لما حكي عن الكفار انهم قالوا (هذا ساحر) بين بعد ذلك ان العقل لا يقبله أي وهل اظلم من هذا الذي يزعم أنه نبي ويدعي إلى الاسلام وهو مع ذلك مفتر على ربه وهذا دليل واضح لأن مسالك أهل الافتراء والمخرقة إنما هي دون هذا وفي أمور خسيسة وضبط النقاش هذه القراءة (يدعى) بضم الياء وفتح الدال المشددة على ما لم يسم فاعله والضمير في * (يريدون) * للكفار واللام في قوله * (ليطفئوا) * لام مؤكدة دخلت على المفعول لأن التقدير (يريدون ان يطفئوا) وان مع الفعل بتأويل المصدر فكأنه قال يريدون إطفاء وأكثر ما تلتزم هذه اللام المفعول إذا تقدم تقول لزيد ضربت ولرؤيتك قصدت و * (نور الله) * هو شرعه وبراهينه
وقوله تعالى * (بأفواههم) * إشارة إلى الأقوال أي بقولهم سحر وشعر وتكهن وغير ذلك وقرا نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن والحسن وطلحة والأعرج (والله متم) بالتنوين (نوره) (نوره) بالنصب وقرا ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش (متم نوره) بالإضافة وهي في معنى الانفصال وفي هذا نظر
303

قوله عز وجل
سورة الصف 9 - 12
هذا تأكيد لأمر الرسالة وشد لأزرها كما يقول الانسان لأمر يثبته ويقويه أنا فعلته أي فمن يقدر على معارضته فليعارض والرسول المشار اليه محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى * (على الدين كله) * لفظ يصلح للعموم وأن يكون المعنى أو لا يبقى موضع فيه دين غير الاسلام وهذا لا يكون الا عند نزول عيسى ابن مريم قاله مجاهد وأبو هريرة ويحتمل ان يكون المعنى ان يظهره حتى لا يوجد دين الا الإسلام أظهر منه وهذا قد كان ووجد ثم ندب تعالى المؤمنين وحضهم على الجهاد بهذه التجارة التي بينها وهي ان يعطي المرء نفسه وماله ويأخذ ثمنا جنة الخلد
وقرا جمهور القراء والناس (تنجيكم) بتخفيف النون وكسر الجيم دون شد وقرأ ابن عامر وحده والحسن والأعرج وابن أبي إسحاق تنجيكم بفتح النون وشد الجيم وقوله تعالى (تؤمنون) لفظه الخبر ومعناه الأمر أي آمنوا وفي مصحف عبد الله بن مسعود (أليم آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا) وقوله * (تؤمنون) * فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون وقال الأخفش هو عطف بيان على * (تجارة) * قال المبرد هو بمعنى آمنوا على الأمر ولذلك جاء * (يغفر) * مجزوما وقوله تعالى * (ذلكم) * أشار إلى الجهاد والإيمان و * (خير) * هنا يحتمل ان يكون للتفضيل فالمعنى من كل عمل ويحتمل ان يكون إخبارا ان هذا خير في ذاته ونفسه وانجزم قوله * (يغفر) * على الجواب للأمر المقدر في * (تؤمنون) * أو على ما يتضمنه قوله * (هل أدلكم) * من الحض والأمر والى نحو هذا ذهب الفراء وروي عن أبي عمرو بن العلاء انه قرا (يغفلكم) بإدغام الراء في اللام ولا يجيز ذلك سيبويه وقوله تعالى * (ومساكن) * عطف على (جنات) وطيب المساكن سعتها وجمالها وقيل طيبها المعرفة بدوام أمرها وهذا هو الصحيح وأي طيب مع الفناء والموت
قوله عز وجل
سورة الصف 13 - 14
قوله تعالى * (وأخرى) * قال الأخفش هي في موضع خفض على * (تجارة) * الصف 10 وهذا قول قلق قد رد عليه ناس واحتج له آخرون والصحيح ضعفه لأن
هذه (الأخرى) ليست مما دل عليه إنما هي مما أعطى ثمنا وجزاء على الإيمان والجهاد بالنفس والمال وقال الفراء * (وأخرى) * في موضع رفع وقال قوم إن * (أخرى) * في موضع نصب بإضمار فعل كأنه قال " يغفر ذنوبكم ويدخلكم جنات " الصف 12 ويمنحكم أخرى وهي النصر والفتح القريب وقرا ابن أبي عبلة (نصرا من الله وفتحا) بالنصب فيهما ووصفها تعالى بأن النفوس تحبها من حيث هي عاجلة في الدنيا وقد وكلت
304

النفس لحب العاجل ففي هذا تحريض ثم قواه تعالى بقوله * (وبشر المؤمنين) * وهذه الألفاظ في غاية الإيجاز وبراعة المعنى ثم ندب تعالى المؤمنين إلى النصرة ووضع لهم هذا الاسم وإن كان العرف قد خص به الأوس والخزرج وسماهم الله تعالى به وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والأعرج وعيسى (أنصارا) بتنوين الأنصار وقرا الباقون والحسن والجحدري (أنصار الله) بالإضافة وفي حرف عبد الله (أنتم أنصار الله) ثم ضرب تعالى لهم المثل بقوم بادروا حين دعوا وهم (الحواريون) خلصان الأنبياء سموا بذلك لأنه ردد اختبارهم وتصفيتهم وكذلك رد تنخيل الحواري فاللفظتان في الحور وقيل (الحواريون) سموا بذلك لبياض ثيابهم وكانوا غسالين نصروا عيسى واستعمل اسمهم حتى قبل للناصر العاضد حواري وقال النبي صلى الله عليه وسلم (وحواريي الزبير) وافتراق طوائف بني إسرائيل هو في امر عيسى عليه السلام قال قتادة والطائفة الكافرة ثلاث فرق اليعقوبية وهم قالوا هو الله والإسرائيلية وهم قالوا ابن الله والنسطورية وهم قالوا هو إله وأمه إله والله ثالثهما تعالى الله عن أقوالهم علوا كبيرا
وقوله تعالى * (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم) * قيل ذلك قبل محمد صلى الله عليه وسلم وبعد فترة من رفع عيسى عليه السلام رد الله تعالى الكرة لمن آمن به فغلبوا الكافرين الذين قتلوا صاحبه الذي ألقي عليه الشبه وقيل ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم أصبح المؤمن بعيسى ظاهرا لإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك أنه لا يؤمن أحد حق الإيمان بعيسى الا وفي ضمن ذلك الايمان بمحمد لأنه بشر به وحرض عليه وقيل كان المؤمنون به قديما * (ظاهرين) * بالحجة وإن كانوا مفرقين في البلاد مغلوبين في ظاهر الحياة الدنيا وقرا مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن (فأيدنا) مخففة الياء ممدودة الألف
نجز تفسير سورة الصف ولله الحمد كثيرا
305

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجمعة
وهي مدنية وذكر النقاش قولا إنها مكية وذلك خطأ ممن قاله لأن امر اليهود لم يكن الا بالمدينة وكذلك امر الجمعة لم يكن قط بمكة أعني إقامتها وصلاتها واما امر الانفضاض فلا مرية في كونه بالمدينة وذكر النقاش عن أبي هريرة قال كنا جلوسا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت سورة الجمعة وهذا أيضا ضعيف لأن أبا هريرة إنما أسلم أيام خيبر
قوله عز وجل
سورة الجمعة 1 - 4
تقدم القول في لفظ الآية الأولى واختلفت القراءة في إعراب الصفات في آخرها
فقرا جمهور الناس (الملك) بالخفض نعتا * (لله) * وكذلك ما بعده وقرا أبو وائل شقيق بن سلمة وأبو الدينار (الملك) بالرفع على القطع وفتح أبو الدينار القاف من (القدوس) و * (الأميين) * يراد بهم العرب والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرا كتابا قيل هو منسوب إلى الأم أي هو على الخلقة الأولى في بطن أمه وقيل هو منسوب إلى الأمة أي على سليقة البشر دون تعلم وقيل منسوب إلى أم القرى وهي مكة وهذا ضعيف لأن الوصف ب * (الأميين) * على هذا يقف على قريش وإنما المراد جميع العرب وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنا أمه أمية لا نحسب ولانكتب الشهر هكذا وهكذا)
وهذه الآية تعديد نعمة الله عندهم فيما أولاهم والآية المتلوة القرآن * (يزكيهم) * معناه يطهرهم من الشرك وينمي الخير فيهم و * (الكتاب) * الوحي المتلو * (والحكمة) * السنة التي هي لسانه عليه السلام ثم اظهر تعالى تأكيد النعمة بذكر حالهم التي كانت في الضد من الهداية وذلك في قوله تعالى * (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) * * (وآخرين) * في موضع خفض عطفا على * (الأميين) * وفي موضع نصب عطفا على الضمائر المتقدمة
306

واختلف الناس في المعنيين بقوله * (وآخرين) * من هم فقال أبو هريرة وغيره أراد فارسا وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآخرون فأخذ بيد سلمان وقال (لو كان الدين في الثريا لناله رجال من هؤلاء) أخرجه مسلم
وقال سعيد بن جبير ومجاهد أراد الروم والعجم فقوله تعالى * (منهم) * على هذين القولين إنما يريد في البشرية والإيمان كأنه قال وفي آخرين من الناس وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل أراد التابعين من أبناء العرب فقوله * (منهم) * يريد به النسب والإيمان وقال ابن زيد ومجاهد والضحاك وابن حبان أراد بقوله * (وآخرين) * جميع طوائف الناس ويكون منهم في البشرية والإيمان على ما قلناه وذلك انا نجد بعثه عليه السلام إلى جميع الخلائق وقال ابن عمر لأهل اليمن أنتم هم وقوله تعالى * (لما يلحقوا) * نفي لما قرب من الحال والمعنى انهم مزمعون ان يلحقوا فهي (لم) زيدت عليها (ما) تأكيدا
قال سيبويه (لما) نفي قولك قد فعل و (لن) قولك فعل دون قد وقوله تعالى * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) * الآية تبيين لموقع النعمة وتخصيصه إياهم بها
قوله عز وجل
سورة الصف 5 - 8
* (الذين حملوا التوراة) * هم بنو إسرائيل الأحبار المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم و * (حملوا) * معناه كلفوا القيام باوامرها ونواهيها فهذا كمال حمل الانسان الأمانة وليس ذلك من الحمل على الظهر وإن كان مشتقا منه وذكر تعالى انهم * (لم يحملوها) * أي لم يطيعوا امرها ويقفوا عند حدها حين كذبوا بمحمد عليه الصلاة والسلام و * (التوراة) * تنطق بنبوته فكان كل حبر لم ينتفع بما حمل كمثل حمار عليه أسفار فهي عنده والزبل وغير ذلك بمنزلة واحدة وقرا يحيى بن يعمر (حملوا) بفتح الحاء والميم مخففة وقرأ المأمون العباسي (يحمل أسفارا) بضم الياء وفتح الحاء وشد الميم مفتوحة وفي مصحف ابن مسعود (كمثل حمار) بغير تعريف والسفر الكتاب المجتمع الأوراق منضودة ثم بين حال مثلهم وفساده بقوله تعالى * (بئس مثل القوم) * وقوله تعالى * (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم) * الآية روي أنها نزلت بسبب ان يهود المدينة لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبوا يهود خيبر في امره وذكروا لهم نبوته وقالوا إن رأيتم اتباعه أطعناكم وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم فجاءهم جواب أهل خيبر يقولون نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن وأبناء عزيز ابن الله ومنا الأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بالنبوة من محمد ولا سبيل إلى اتباعه فنزلت الآية بمعنى انكم إذا
307

كنتم من الله تعالى بهذه المنزلة فقربه وفراق هذه الحياة الحسية أحب إليكم * (فتمنوا الموت) * إن كنتم تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة أخبر تعالى عنهم بأنهم لا يتمنونه ولا يلقونه الا كرها لعلمهم بسوء حالهم عند الله وبعدهم منه
هذا هو المعنى اللازم من ألفاظ الآية وروى كثير من المفسرين ان الله تعالى جعل هذه الآية معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم فيهم وآية باهرة وأعلمه انه إن تمنى أحد منهم الموت في أيام معدودة مات وفارق الدنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (تمنوا الموت) على جهة التعجيز وإظهار الآية فما تمناه أحد خوفا من الموت وثقة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم ثم توعدهم تعالى بالموت الذي لا محيد لهم عنه ثم بما بعده من الرد إلى الله تعالى وقرا ابن مسعود (منه ملاقيكم) بإسقاط * (فإنه) * وقوله تعالى * (فينبئكم) * أي انباء معاقب مجاز عليه بالتعذيب وقرأ ابن أبي إسحاق (فتمنوا الموت) بكسر الواو وكذلك يحيى بن يعمر
قوله عز وجل
سورة الجمعة 9 - 11
(النداء بالجمعة) هو في ناحية من المسجد وكان على الجدار في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال السائب بن يزيد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد على باب المسجد وفي مصنف أبي داود كان بين يديه وهو على منبر أذان وهو الذي استعمل بنو أمية وبقي بقرطبة إلى الان ثم زاد عثمان النداءعلى الزوراء ليسمع الناس فقوم عبروا عن زيادة عثمان بالثاني كأنهم لم يعتدوا الذي كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقوم عبروا عنه بالثالث وقرا الأعمش وابن الزبير (الجمعة) بإسكان الميم وهي لغة والمأمور بالسعي هو المؤمن الصحيح البالغ الحر الذكر ولا جمعة على مسافر في طاعة فإن حضرها أحسن وأجزاته
واختلف الناس في الحد الذي يلزم منه السعي فقال مالك ثلاثة أميال
قال القاضي أبو محمد من منزل الساعي إلى المنادي وقال فريق من منزل الساعي إلى أول المدينة التي فيها النداء وقال أصحاب الرأي يلزم أهل المدينة كلها السعي من سمع النداء ومن لم يسمع وإن كانت أقطارها فوق ثلاثة أميال
قال أبو حنيفة ولا من منزلة خارج المدينة كزرارة من الكوفة وإنما بينهما مجرى نهر ولا يجوز لهم إقامتها لأن من شروطها الجامع والسلطان القاهر والسوق القائمة وقال بعض أهل العلم يلزم السعي من خمسة أميال وقال الزهري من ستة أميال وقال أيضا من أربعة
308

أميال وقاله ابن المنكدر وقال ابن عمر وابن المسيب وابن حنبل إنما يلزم السعي من سمع النداء وفي هذا نظر
والسعي في الآية ليس الاسراع في المشي بين الصفا والمروة وإنما هو بمعنى قوله * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * النجم 39 فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي سعي كله إلى ذكر الله تعالى قال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم إنما تؤتى الصلاة بالسكينة فالسعي هو بالنية والإرادة والعمل والذكر هو وعظ الخطبة قاله ابن المسيب ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الملائكة على باب المسجد يوم الجمعة يكتبون الأول فالأول إذا خرج الإمام طويت الصحف وجلست الملائكة يستمعون الذكر " والخطبة عند جمهور العلماء شرط في انعقاد الجمعة وقال الحسن وهي مستحبة وقرا عمر بن الخطاب وعلي وأبي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجماعة من التابعين (فامضوا إلى ذكر الله) وقال ابن مسعود لو قرأت (فاسعوا) لأسرعت حتى يقع ردائي
واختلف الناس في * (البيع) * في الوقت المنهي عنه إذا وقع ما الحكم فيه بعد إجماعهم على وجوب امتناعه بدءا فقال الشافعي يمضي وقال مرة يفسخ ما لم يفت فإن فات صح بالقيمة واختلف في وقت التقويم فقيل وقت القبض وقيل وقت الحكم وقوله تعالى * (ذلكم) * إشارة إلى السعي وترك البيع وقوله * (فانتشروا) * اجمع الناس على أن مقتضى هذا الأمر الإباحة وكذلك قوله تعالى * (وابتغوا من فضل الله) * أنه الإباحة في طلب المعاش وان ذلك مثل قوله تعالى * (وإذا حللتم فاصطادوا) * المائدة 2 الا ما روي عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ذلك الفضل المبتغى هو عيادة مريض أو صلة صديق أو اتباع جنازة)
قال القاضي أبو محمد وفي هذا ينبغي ان يكون المرء بقية يوم الجمعة ويكون نحوه صبيحة يوم السبت قاله جعفر بن محمد الصادق وقال مكحول الفضل المبتغي العلم فينبغي ان يطلب إثر الجمعة وقوله تعالى * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا) * الآية نزلت بسبب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما على المنبر يخطب يوم الجمعة فأقبلت عير من الشام تحمل ميرة وصاحب امرها دحية بن خليفة الكلبي قال مجاهد وكان من عرفهم ان يدخل عير الميرة بالطبل والمعازف والصياح سرورا بها فدخلت
العير بمثل ذلك فانفض أهل المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر ولم يبق معه غير اثني عشر رجلا
قال جابر بن عبد الله انا أحدهم
قال القاضي أبو محمد ولم تمر بي تسميتهم في ديوان فيما أذكر الان الا اني سمعت أبي رضي الله عنه يقول هم العشرة المشهود لهم بالجنة واختلف في الحادي عشر فقيل عمار بن ياسر وقيل عبد الله بن مسعود وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي بقي معه ثمانية نفر وروي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لولا هؤلاء لقد كانت الحجارة سومت على المنفضين من السماء) وفي حديث آخر (والذي نفس محمد بيده ولو تابعتم حتى لا يبقى منكم أحد أسال عليكم الوادي نارا)
وقال قتادة بلغنا انهم فعلوا ذلك ثلاث مرات لأن قدوم العير كان يوافق يوم الجمعة يشبه ان المراحل كانت تعطي
309

ذلك
وقال تعالى * (إليها) * ولم يقل تعمما بالأهم إذ هي كانت سبب اللهو ولم يكن اللهو سببها وفي مصحف ابن مسعود (ومن التجارة للذين اتقوا والله خير الرازقين)
وتأمل إن قدمت التجارة مع الرؤية لأنها أهم وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين وهذه الآية قيام الخطيب وأول من استراح في الخطبة عثمان وأول من جلس معاوية وخطب جالسا والرازق صفة فعل وقد يتصف بها بعض البشر تجوزا إذا كان سبب رزق الحيوان * (والله) * تعالى * (خير الرازقين) *
نجز تفسير سورة الجمعة والحمد لله كثيرا
310

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المنافقون
وهي مدنية بإجماع وذلك انها نزلت في غزوة بني المصطلق بسبب ان عبد الله بن أبي ابن سلول كانت منه في تلك الغزوة أقوال وكان له اتباع يقولون قوله فنزلت السورة كلها بسبب ذلك ذكر الله تعالى فيها ما تقدم من المنافقين من خلفهم وشهادتهم في الظاهر بالإيمان وأنهم كذبة وذكر فيها ما تأخر منهم ووقع في تلك الغزوة وسيأتي بيان ذلك فصلا فصلا عند تفسير الآيات إن شاء الله
قوله عز وجل
سورة المنافقون 1 - 4
فضح الله تعالى بهذه الآية سريرة المنافقين وذلك انهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم * (نشهد إنك لرسول الله) * وهم في إخبارهم هذا كاذبون لأن حقيقة الكذب ان يخبر الانسان بضد ما في قلبه وكسرت الألف من (ان) في الثلاثة لدخول اللام المؤكدة في الخبر وذلك لا يكون مع المفتوحة وقوله * (نشهد) * وما جرى مجراها من أفعال اليقين والعلم يجاب بما يجاب به القسم وهي بمنزلة القسم وقرأ الناس (أيمانهم) جميع يمين وقرا الحسن بن أبي الحسن بخلاف (إيمانهم) بكسر الألف أي هذا الذي تظهرون وهذا على حذف مضاف تقديره إظهار ايمانهم والجنة ما يستتر به في الأجرام والمعاني وقوله تعالى * (فصدوا) * يحتمل ان يكون غير متعد تقول صد زيد ويحتمل ان يكون متعديا كما قال
(صددت الكأس عنا أم عمرو
*)
والمعنى صدوا غيرهم ممن كان يريد الايمان أو من المؤمنين في أن يقاتلوهم وينكروا عليهم
311

وتلك سبيل الله فيهم وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية وقوله تعالى * (ذلك) * إشارة إلى فعل الله تعالى في فضيحتهم وتوبيخهم ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا فالمعنى ساء عملهم ان كفروا بعد إيمانهم وقوله تعالى * (آمنوا ثم كفروا) * إما ان يريد به منهم من كان آمن ثم نافق بعد صحة من إيمانه وقد كان هذا موجودا وإما ان يريدهم كلهم فالمعنى ذلك انهم اظهروا الايمان ثم كفروا في الباطن أمرهم فسمى ذلك الإظهار ايمانا وقرا بعض القراء (فطبع) على بناء الفعل للفاعل وقرا جمهور القراء (فطبع) بضم الطاء على بنائه للمفعول بغير إدغام
وادغم أبو عمرو وقرا الأعمش (فطبع الله) وعبر بالطبع عما خلق في قلوبهم من الريب والشك وختم عليهم به من الكفر والمصير إلى النار وقوله تعالى * (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) * توبيخ لهم لأنهم كانوا رجالا أجمل شيء وأفصحه فكان نظرهم يروق وقولهم يخيب ولكن الله تعالى جعلهم (كالخشب المسندة) وإنما هي اجرام لا عقول لها معتمدة على غيرها لا تثبت بأنفسها ومنه قولهم تساند القوم إذا اصطفوا وتقابلوا للقتال وقد يحتمل ان يشبه اصطفافهم في الأندية باصطفاف الخشب المسندة وخلوهم من الإفهام النافعة خلو الخشب من ذلك وقال رجل لابن سيرين رأيتني في النوم محتضنا خشبة فقال ابن سيرين أظنك من أهل هذه الآية وتلا * (كأنهم خشب مسندة) * وقرا عكرمة وعطية (يسمع) مضمومة بالياء وقرا نافع وابن عامر وحمزة وعاصم (خشب) بضم الخاء والشين وقرا قنبل وأبو عمرو والكسائي (خشب) بضم الخاء وإسكان الشين وهي قراءة البراء بن عازب واختيار ابن عبيد
وقرأ سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب (خشب) بفتح الخاء والشين وذلك كله جمع خشبة بفتح الخاء والشين فالقراءتان أولا كما تقول بدنة وبدن وبدن قاله سيبويه والأخيرة على الباب في تمرة وتمر
وكان عبد الله بن أبي من أبهى المنافقين واطولهم ويدل على ذلك أنه لم يوجد قميص يكسو العباس غير قميصه وقد تقدم في سورة البقرة تحرير امر المنافقين وكيف سترهم
الاسلام
وقوله تعالى * (يحسبون كل صيحة عليهم) * فضح أيضا لما كانوا يسرونه من الخوف وذلك انهم كانوا يتوقعون ان يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بقتلهم وقال مقاتل فكانوا متى سمعوا نشدان ضالة أو صياحا بأي وجه كان أو أخبروا بنزول وحي طارت عقولهم حتى يسكن ذلك
ويكون في غير شانهم وجرى هذا اللفظ مثلا في الخائف ونحو قول الشاعر بشار بن برد العقيلي
(يروعه السرار بكل أرض
* مخافة ان يكون به السرار) الوافر
وقول جرير
(ما زلت تحسب كل شيء بعدهم
* خيلا تكر عليهم ورجالا) الكامل
ثم أخبر تعالى بأنهم * (العدو) * وحذر منهم و * (العدو) * يقع للواحد والجمع وقوله تعالى * (قاتلهم الله) * دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة وتمني الشر لهم وقوله تعالى * (أنى يؤفكون) * معناه كيف يصرفون ويحتمل ان يكون * (إني) * استفهاما كأنه قال كيف يصرفون أو لأي سبب لا يرون
312

أنفسهم ويحتمل ان يكون * (إني) * ظرفا ل * (قاتلهم) * كأنه قال * (قاتلهم الله) * كيف انصرفوا أو صرفوا فلا يكون في القول استفهام على هذا
قوله عز وجل
سورة المنافقون 5 - 8
كان امر عبد الله بن أبي ابن سلول انه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فبلغ الناس إلى ماء سبق اليه المهاجرون وكأنهم غلبوا الأنصار عليه بعض الغلبة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه قد كنت قلت لكم في هؤلاء الجلابيب ما قلت فلم تسمعوا مني وكان المنافقون ومن لا يتحرى يسمى المهاجرين الجلابيب ومنه قول حسان بن ثابت
(أرى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا
* وابن القريعة امسى بيضة البلد) البسيط
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أتحض علينا يا حسان) ثم إن الجهجاه الغفاري كان أجيرا لعمر بن الخطاب ورد الماء بفرس لعمر فازدحم هو وسنان بن وبرة الجهني وكان حليفا للأوس فكسع الجهجاه سنانا فغضب سنان فتأثروا ودعا الجهجاه يا للمهاجرين ودعا سنان يا للأنصار فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (ما بال دعوى الجاهلية) فلما أخبر بالقصة قال (دعوها فإنها منتنة)
واجتمع في الأمر عبد الله بن أبي في قوم من المنافقين وكان معهم زيد بن أرقم فتى صغيرا لم يتحفظ منه فقال عبد الله بن أبي أو قد تداعوا علينا فوالله ما مثلنا ومثلهم الا كما قال الأول سمن كلبك يأكلك وقال لهم * (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) * وقال لهم إنما يقيم هؤلاء المهاجرون مع محمد بسبب معونتكم وإنفاقكم عليهم ولو قطعتم ذلك عنهم لفروا فذهب زيد بن أرقم إلى عمه وكان في حجره وأخبره فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا زيد غضبت على الرجل أو لعلك وهمت) فأقسم زيد ما كان شيء من ذلك ولقد سمع من عبد الله بن أبي ما حكى فعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي عند رجال من الأنصار فبلغه ذلك فجاء وحلف ما قال وكذب زيدا وحلف معه قوم من المنافقين فكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا وصدق عبد الله بن أبي فبقي زيد في منزله لا يتصرف حياء من الناس
313

فنزلت هذه السورة عند ذلك فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيد وقال له (لقد صدقك الله يا زيد ووفت أذنك) فخزي عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول ومقته الناس ولامه المؤمنون من قومه وقال بعضهم امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي وقال لهم لقد أشرتم علي بأن أعطي زكاة من مالي ففعلت ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد
قال القاضي أبو محمد فهذا هو قصص هذه السورة موجزا و (تعال) نداء يقتضي لفظه انه دعاء الأعلى للأسفل ثم استعمل لكل داع لما فيه من حسن الأدب
وقرا نافع والمفضل عن عاصم (لووا) بتخفيف الواو وهي قراءة الحسن بخلاف ومجاهد وأهل المدينة وقرا الباقون وأبو جعفر والأعمش (لووا) بشد الواو على تضعيف المبالغة وهي قراءة طلحة وعيسى وأبي رجاء وزر والأعرج وقرأ بعض القراء هنا (يصدون) بكسر الصاد والجمهور بضمها وقوله تعالى * (سواء عليهم) * الآية روي أنه لما نزلت " إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لهم " التوبة 80 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأزيدن على السبعين) وفي حديث آخر (لو علمت اني إن زدت على السبعين غفر لهم لزدت) فكأنه عليه السلام رجا ان هذا الحد ليس على جهة الحتم جملة بل على أن ما يجاوزه يخرج عن حكمه فلما فعل ابن أبي وأصحابه ما فعلوا شدد الله تعالى عليهم في هذه السورة واعلم أنه لن يغفر لهم دون حد في الاستغفار وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو أعلم أني إن زدت غفر لهم) نص على رفض دليل الخطاب
وقرأ جمهور الناس (استغفرت) بالقطع وألف الاستفهام وقرا أبو جعفر بن القعقاع (آستغفرت) بمد على الهمزة وهي ألف التسوية وقرا أيضا بوصل الألف دون همز
على الخبر وفي هذا كله ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها وهذا مما لا يستعمل الا في الشعر
وقوله تعالى * (هم الذين) * أشار عبد الله بن أبي ومن قال بقوله قاله علي بن سليمان ثم سفه أحلامهم في أن ظنوا إنفاقهم هو سبب رزق المهاجرين ونسوا أن جريان الرزق بيد الله تعالى إذا انسد باب انفتح غيره وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي (حتى ينفضوا) بضم الياء وتخفيف الفاء يقال (أنفض) الرجل إذا فني طعامه فنفض وعاءه والخزائن موضع الإعداد ونجد القرآن قد نطق في غير موضع بالخزائن ونجد في الحديث (خزنة الربح) وفي القرآن * (من جبال فيها من برد) * النور 43 فجائز أن تكون هذه عبارة عن القدرة وان هذه الأشياء إيجادها عند ظهورها جائز
وهو الأظهر
إن منها أشياء مخلوقة موجودة يصرفها الله تعالى حيث شاء وظواهر ألفاظ الشريعة تعطي هذا
ومعناه في التفسير قال عتت على الخزان وفي الحديث (ما انفتح من خزائن الربح على قوم عاد الا قدر حلقة الخاتم ولو انفتح مقدار منخر الثور لهلكت الدنيا) وقال رجل لحاتم الأصم من أين تأكل فقرأ * (ولله خزائن السماوات والأرض) * وقال الجنيد * (خزائن) * السماء الغيوب و * (خزائن) * الأرض القلوب وقرا الجمهور
314

(ليخرجن الأعز) بضم الياء وكسر الراء بمعنى ان العزيز يخرج الذليل ويبعده وقال أبو حاتم وقرئ (لنخرجن) بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء (الأعز) نصبا منها (الأذل) أيضا نصبا على الحال وذكرها أبو عمر الداني عن الحسن ورويت هذه القراءة (لنخرجن) بضم النون وكسر الراء وقرا قوم فيما حكى الفراء والكسائي وذكرها المهدوي (ليخرجن الأعز منها الأذل) بفتح الياء وضم الراء
ونصب (الأذل) على الحال بمعنى ان نحن الذين كنا أعزة سنخرج أذلاء وجاءت هذه الحال معرفة وفيها شذوذ وحكى سيبويه ادخلوا الأول فالأول ثم اعلم تعالى ان العزة لله وللرسول وللمؤمنين وفي ذلك وعيد وروي ان عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان رجلا صالحا لما سمع الآية جاء إلى أبيه فقال له أنت والله يا أبت الذليل ورسول الله العزيز فلما وصل الناس إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله على باب السكة التي يسلكها أبوه وجرد السيف ومنعه الدخول وقال والله لا دخلت إلى منزلك الا أن يأذن في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن أبي في أذل الرجال وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث اليه ان خله يمض إلى منزله فقال اما الان فنعم فمضى إلى منزله
قوله عز وجل
سورة المنافقون 9 - 11
الإلهاء الإشغال بملتذ وشهوة و * (ذكر الله) * هنا عام في الصلاة والتوحيد والدعاء وغير ذلك من فرض ومندوب وهذا قول الحسن وجماعة من المفسرين وقال الضحاك وعطاء وأصحابه المراد بالذكر الصلاة المكتوبة والأول اظهر وكذلك قوله تعالى " وانفقوا مما رزقناكم " قال جمهور من المتأولين المراد الزكاة وقال آخرون ذلك عام في مفروض ومندوب
وقوله * (يأتي أحدكم الموت) * أي علاماته وأوائل أمره وقوله * (لولا أخرتني إلى أجل قريب) * طلب للكرة والإمهال وفي مصحف أبي بن كعب (آخرتن) بغيرياء وسماه قريبا لأنه آت وأيضا فإنما يتمنى ذلك ليقضي فيه العمل الصالح فقط وليس يتسع الأمل حينئذ لطلب العيش ونضرته وفي مصحف أبي (فأتصدق) وقوله * (وأكن من الصالحين) * ظاهره العموم فقال ابن عباس هو الحج وروي عنه أنه قال في مجلسه يوما ما من رجل لا يؤدي الزكاة ولا يحج الا طلب الكرة عند موته فقال له رجل اما تتقي الله المؤمن بطلب الكرة فقال له ابن عباس نعم وقرا الآية وقرا جمهور السبعة والناس (واكن) بالجزم عطفا على الموضع لأن التقدير (إن تؤخرني أصدق واكن) هذا مذهب أبي علي فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا وهو جزم (أكن) على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني ولا موضع هنا لأن الشرط ليس بظاهر وإنما يعطف
315

على الوضع حيث يظهر الشرط كقوله تعالى * (من يضلل الله فلا هادي له) * الأعراف 186 ونذرهم فمن قرأ بالجزم عطف على موضع * (فلا هادي له) * الأعراف 186 لأنه وقع هنالك فعل كان مجزوما وكذلك من قرا (ونكفر) بالجزم عطفا على موضع فهو خير لكم وقرأها أبو عمرو وأبو رجاء والحسن وابن أبي إسحاق ومالك بن دينار وابن محيصن والأعمش وابن جبير وعبيد الله بن الحسن العنبري قال أبو حاتم وكان من العلماء الفصحاء (وأكون) بالنصب عطفا على * (فأصدق) * وقال أبو حاتم في كتبها في المصحف بغير واو وإنهم حذفوا الواو كما حذفوها من (أبجد) وغيره ورجحها أبو علي وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود (فأتصدق واكن) وفي قوله تعالى * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) * حض على المبادرة ومسابقة الأجل بالعمل الصالح وقرا السبعة والجمهور (تعملون) بالتاء على المخاطبة لجميع الناس وقرا عاصم في رواية أبي بكر (بما يعملون) بالياء على تخصيص الكفار بالوعيد
316

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التغابن
قال بعض المفسرين هي مدنية وقال آخرون هي مكية الا من قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا إن أزواجكم وأولادكم " التغابن 14 إلى آخر السورة فإنه مدني
وذكر الثعلبي عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مولود يولد الا في تشابيك رأسه خمس آيات من فاتحة سورة التغابن
قوله عز وجل
سورة التغابن 1 - 4
قوله تعالى " وهو على كل شيء قدير " عموم معناه التنبيه والشيء الموجود وقوله * (هو الذي خلقكم) * تعديد نعمة والمعنى * (فمنكم كافر) * لنعمته في الايجاد حين لم يوجد كافر لجهله بالله تعالى * (ومنكم مؤمن) * بالله والإيمان به شكر لنعمته فالإشارة في هذا التأويل في الإيمان والكفر هي إلى اكتساب العبد هذا قول جماعة من المتأولين وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة) وقوله تعالى * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * الروم 30 وكأن العبارة في قوله تعالى * (فمنكم) * تعطي هذا وكذلك يقويه قوله " والله بماتعملون بصير "
وقيل المعنى (خلقكم منكم مؤمن ومنكم كافر) في أصل الخلق فهي جملة في موضع الحال فالإشارة على هذا في الايمان والكفر هي إلى اختراع الله تعالى وخلقه وهذا تأويل ابن مسعود وأبي ذر ويجري مع هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن أحدكم يكون في بطن أمه نطفة أربعين يوما ثم علقة أربعين يوما ثم مضغة أربعين يوما ثم يجيء الملك فيقول يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب ذلك في بطن أمه) فقوله في الحديث (أشقي أم سعيد) هو في هذه الآية * (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) * ويجري مع هذا المعنى قوله في الغلام الذي قتله الخضر إنه طبع يوم طبع كافرا وما روى ابن مسعود انه عليه السلام قال (خلق الله فرعون في البطن كافرا وخلق يحيى بن زكرياء مؤمنا) وقال عطاء بن
317

أبي رباح فمعنى الآية * (فمنكم كافر) * بالله * (مؤمن) * بالكوكب ومؤمن بالله كافر بالكوكب وقدم الكافر لأنه أعرف من جهة الكثرة وقوله تعالى * (بالحق) * أي حين كان خلقها محقوقا في نفسه ليست عبثا ولا لغير معنى
وقرا جمهور الناس (صوركم) بضم الصاد وقرا أبو رزين (صوركم) بكسرها وهذا تعديد النعمة في حسن الخلقة لأن أعضاء ابن آدم متصرفة لجميع ما تتصرف به أعضاء الحيوان وبزيادات كثيرة فضل بها ثم هو مفضل بحسن الوجه وجمال الجوارح وحجة هذا قوله تعالى * (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) * التين 4 وقال بعض العلماء النعمة المعددة هنا إنما هي صورة الانسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل فهذا هو الذي حسن له حتى لحق ذلك كمالات كثيرة
قال القاضي أبو محمد والقول الأول أحرى في لغة العرب لأنها لا تعرف الصور الا الشكل وذكر تعالى علمه بما في السماوات والأرض فعم عظام المخلوقات ثم تدرج القول إلى اخفى من ذلك وهو جميع ما يقوله الناس في سر وفي علن ثم تدرج إلى ما هو أخفى وهو ما يهجس بالخواطر وذات الصدور ما فيها من خطرات واعتقادات كما يقال الذئب مغبوط بذي بطنه كما قال أبو بكر رضي الله عنه إنما هو بطن بنت خارجة و * (الصدور) * هنا عبارة عن القلب إذ القلب في الصدر
قوله عز وجل
سورة التغابن 5 - 7
* (يأتكم) * جزم وأصله (يأتيكم) قال سيبويه واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم والخطاب في هذه الآية لقريش ذكروا بما حل بعاد وثمود وقوم إبراهيم وغيرهم ممن سمعت قريش أخبارهم و (وبال الأمر) مكروهه وما يسوء منه وقوله تعالى * (ذلك بأنه) * إشارة إلى ذوق الوبال وكون عذاب الآخرة لهم ثم ذكر تعالى من مقالة أولئك الماضين ما هو مشبه لقول كفار قريش من استبعاد بعث الله للبشر ونبوة أحد من بني آدم وحسد الشخص المبعوث وقوله (آبشر) رفع بالابتداء وجمع الضمير في قوله * (يهدوننا) * من حيث كان البشر اسم هذا النوع الادمي كأنهم قالوا أناس هداتنا وقوله تعالى * (استغنى الله) * عبارة عما ظهر من هلاكهم وانهم لن يضروا الله شيئا فبان انه كان غنيا أزلا وبسبب ظهور هلاكهم بعد ان لم يكن ظاهرا ساغ استعمال هذا البناء مسندا إلى اسم الله تعالى لأن بناء استفعل إنما هو لطلب الشيء وتحصيله بالطلب وقوله تعالى * (زعم الذين كفروا) *
318

يريد قريشا ثم هي بعد تعم كل كافر بالبعث وقال عبد الله بن عمر الزعم كنية الكذب وقال عليه السلام بئس مطية الرجل زعموا ولا توجد (زعم) مستعملة في فصيح من الكلام الا عبارة عن الكذب أو قول انفرد به قائله فيريد ناقله ان يبقي عهدته على الزاعم ففي ذلك ما ينحو إلى تضعيف الزعم وقول سيبويه زعم الخليل إنما يجيء فيما انفرد الخليل به ثم امره تعالى ان يجيب نفيهم بما يقتضي الرد عليه ايجاب البعث وان يؤكد ذلك بالقسم ثم توعدهم تعالى في آخر الآية بأنهم يخبرون باعمالهم على جهة التوقيف والتوبيخ المؤدي إلى العقاب
قوله عز وجل
سورة التغابن 8 - 11
هذا دعاء إلى الله تعالى وتبليغ وتحذير من يوم القيامة و * (النور) * القرآن ومعانيه والعامل في قوله * (يوم يجمعكم) * يحتمل أن تكون " لتنبئون " التغابن 7 ويحتمل أن تكون * (خبير) * وهو تعالى خبير في كل يوم ولكن يخص ذلك اليوم لأنه يوم تضرهم فيه خبرة الله تعالى بأمورهم وقرا جمهور السبعة (يجمعكم) بضم العين وقرا أبو عمر بسكونها وروي عنه انه أشمها الضم وهذا على جواز تسكين الحركة وإن كانت لإعراب كما قال جرير ولا تعرفكم العرب وقرا سلام ويعقوب (نجمعكم) بالنون وضم العين و * (يوم الجمع) * هو يوم القيامة وهو * (يوم التغابن) * وذلك أن كل واحد ينبعث من قبره وهو يرجو حظا ومنزلة فإذا وقع الجزاء غبن المؤمنون الكافرين لأنهم يحوزون الجنة ويحصل الكفار في النار نحا هذا المنحى مجاهد وغيره وليس هذا الفعل من التغابن من اثنين بل كتواضع وتحامل وقرا نافع وابن
عامر والمفضل عن عاصم (نكفر عنه) بنون وكذلك (ندخله) وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة والحسن بخلاف وطلحة وقرا الباقون والأعمش وعيسى والحسن في الموضعين بالياء على معنى يكفر الله والأول هو نون العظمة وقوله تعالى * (ما أصاب من مصيبة) * يحتمل ان يريد المصائب التي هي رزايا وخصها بالذكر بأنها الأهم على الناس والأبين أثرا في أنفسهم ويحتمل ان يريد جميع الحوادث من خير وشر وذلك أن الحكم واحد في أنها * (بإذن الله) * والإذن في هذا الموضع عبارة عن العلم والإرادة وتمكين الوقوع وقوله تعالى * (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) * قال فيه المفسرون المعنى ومن آمن وعرف ان كل شيء بقضاء الله وقدره وعلمه هانت عليه مصيبته وسلم الأمر لله تعالى
وقرا سعيد بن جبير وطلحة بن مصرف (نهد) بالنون وقرا الضحاك (يهد قلبه) برفع الياء
وقرا عكرمة
319

وعمرو بن دينار (يهدأ) برفع القلب وروي عن عكرمة انه سكن بدل الهمزة ألفا على معنى ان صاحب المصيبة يسلم فتسكن نفسه ويرشد الله المؤمن به إلى الصواب في الأمور
وقوله تعالى " والله بكل شيء عليم " عموم مطلق على ظاهره
قوله عز وجل
سورة التغابن 12 - 15
قوله تعالى * (وأطيعوا) * عطف على * (فآمنوا) * التغابن 8 وقوله تعالى * (فإن توليتم) * إلى آخر الآية
وعيد وتربية لمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بلغ وفي قوله تعالى * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * تحريض للمؤمنين على مكافحة الكفار والصبر على دين الله وقوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم) * إلى آخر السورة قرآن مدني اختلف الناس في سببه فقال عطاء بن أبي رباح إنه نزل في عوف بن مالك الأشجعي وذلك أنه أراد غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمع أهله وأولاده فثبطوه وتشكوا اليه فراقه فرق ولم يغز ثم إنه ندم وهم بمعاقبتهم فنزلت الآية بسببه محذرة من الأزواج والأولاد وفتنتهم ثم صرفه تعالى عن معاقبتهم بقوله * (وإن تعفوا وتصفحوا) * وقال بعض المفسرين سبب الآية إن قوما آمنوا بالله وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة فلم يهاجروا الا بعد مدة فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم ثم أخبر تعالى ان الأموال والأولاد * (فتنة) * تشغل المرء عن مراشده وتحمله من الرغبة في الدنيا على ما لا يحمده في آخرته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (الولد مجبنة) (مبخلة) وخرج أبو داود حديثا في مصنفه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة على المنبر حتى جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يجرانهما يعثران ويقومان فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر حتى اخذهما وصعد بهما ثم قرا * (أنما أموالكم وأولادكم فتنة) * الآية وقال إني رأيت هذين فلم أصبر ثم اخذ في خطبته
قال القاضي أبو محمد وهذه ونحوها هي فتنة الفضلاء فاما فتنة الجهال والفسقة فمؤدية إلى كل فعل مهلك وقال ابن مسعود لا يقول أحدكم اللهم اعصمني عن الفتنة فإنه ليس يرجع أحد إلى أهل ومال الا وهو مشتمل على فتنة ولكن ليقل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن
وقال عمر لحذيفة كيف أصبحت فقال أصبحت أحب الفتنة واكره الحق فقال عمر ما هذا فقال أحب ولدي واكره الموت وقوله تعالى * (والله عنده أجر عظيم) * تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة
320

قوله عز وجل
سورة التغابن 16 - 18
قال قتادة وفريق من الناس إن قوله * (فاتقوا الله ما استطعتم) * ناسخ لقوله * (اتقوا الله حق تقاته) * آل عمران 102 وروي ان الأمر بحق التقاة نزل فشق ذلك على الناس حتى نزل * (ما استطعتم) * وذهبت فرقة منهم أبو جعفر النحاس إلى أنه لا نسخ في الآيتين وان قوله * (حق تقاته) * آل عمران 102 مقصده (فيما استطعتم) ولا يعقل ان يطيع أحد فوق طاقته واستطاعته فهذه على هذا التأويل مبينة لتلك وتحتمل هذه الآية ان يكون * (فاتقوا الله) * مدة استطاعتكم التقوى وتكون " ما " ظرفا لزمان كله كأنه يقول حياتكم وما دام العمل ممكنا وقوله * (خيرا) * ذهب بعض النحاة إلى أنه نصب على الحال وفي ذلك ضعف وذهب آخرون منهم إلى أنه نصب بقوله * (وأنفقوا) * قالوا والخبر هنا المال وذهب فريق منهم إلى أنه نعت لمصدر محذوف تقديره إنفاقا * (خيرا) * ومذهب سيبويه انه نصب بإضمار فعل يدل عليه * (أنفقوا) *
وقرأ أبو حيوة (يوق) بفتح الواو وشد القاف وقرأ أبو عمرو (شح) بكسر الشين وقد تقدم القول في * (شح) * النفس ما هو في سورة الحشر
وقال الحسن نظرك لامرأة لا تملكها شح وقيل يا رسول الله ما يدخل العبد النار قال (شح مطاع وهوى متبع وجبن هالع وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك)
وقرا جمهور السبعة (تضاعفه) وقرا ابن كثير وابن عامر (يضاعفه) وذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحض هو على أداء الزكاة المفروضة وذهب آخرون منهم إلى أن الآية في المندوب اليه وهو الأصح إن شاء الله
وقوله تعالى * (والله شكور) * إخبار بمجرد شكره تعالى على الشيء اليسير وانه قد يحط به عن من يشاء الحوب العظيم لا رب غيره
321

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطلاق
وهي مدنية باجماع أهل التفسير
قوله عز وجل
سورة الطلاق 1 - 3
الطلاق على الجملة مكروه لأنه تبديد شمل في الاسلام وروى أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات)
وروى أنس انه عليه السلام قال (ما حلف بالطلاق ولا استحلف به الا منافق)
واختلف في ندائه النبي
ثم قوله تعالى بعد ذلك * (طلقتم) * فقال بعض النحويين حكاه الزهراوي في ذلك خروج من مخاطبة أفراد إلى مخاطبة جماعة وهذا موجود وقال آخرون منهم في نداء النبي صلى الله عليه وسلم أريدت أمته معه فلذلك قال * (إذا طلقتم) * وقال آخرون منهم ان المعنى * (يا أيها النبي) * قل لهم * (إذا طلقتم) * وقال آخرون إنه من حيث يقول الرجل العظيم فعلنا وصنعنا خوطب النبي صلى الله عليه وسلم ب * (طلقتم) * إظهارا لتعظيمه وهذا على نحو قوله تعالى في عبد الله بن أبي * (هم الذين يقولون) * المنافقون 7 إذا كان قوله مما يقوله جماعة فكذلك النبي في هذه ما يخاطب به فهو خطاب الجماعة
قال القاضي أبو محمد والذي يظهر لي في هذا أنهما خطابان مفترقان خوطب النبي على معنى تنبيهه لسماع القول وتلقي الأمر ثم قيل له * (إذا طلقتم) * أي أنت وأمتك فقوله * (إذا طلقتم) * ابتداء كلام لو ابتدأ السورة به وطلاق النساء حل عصمتهن وصورة ذلك وتنويعه مما لا يختص بالتفسير وقوله
322

تعالى * (فطلقوهن لعدتهن) * أي لاستقبال عدتهن وقوامها وتقريبها عليهن وقرا عثمان وابن عباس وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله ومجاهد وعلي بن الحسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد (فطلقوهن في قبل عدتهن) وروي عن بعضهم وعن ابن عمر (لقبل طهرهن) ومعنى هذه الآية ان لا يطلق أحد امرأته الا في طهر لم يمسها فيه هذا على مذهب مالك وغيره ممن قال بأن الاقراء الأطهار فيطلق عندهم المطلق في طهر لم يمس فيه وتعتد به المرأة ثم تحيض حيضتين تعتد بالطهر الذي بينهما ثم يقيم في الطهر الثالث معتدة به فإذا رأت أول الحيضة الثالثة حلت ومن قال بأن الاقراء الحيض وهم العراقيون قال * (لعدتهن) * معناه ان تطلق طاهرا فتستقبل ثلاث حيض كوامل فإذا رأت الطهر بعد الثالثة حلت ويخف عند هؤلاء مس في طهر الطلاق أو لم يمس وكذلك مالك يقول إن طلق في طهر قد مس فيه معنى الطلاق ولا يجوز طلاق الحائض لأنها تطول العدة عليها وقيل بل ذلك تعبد ولو علل بالتطويل لا ينبغي ان يجوز إذا رضيته والأصل في ذلك حديث عبد الله بن عمر قال طلقت امرأتي وهي حائض فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها ان شاء فتلك العدة التي امر الله تعالى ان يطلق لها النساء)
وروى حذيفة انه عليه السلام قال (طلقوا المراة في قبل طهرها) ثم امره تعالى بإحصاء العدة لما يلحق ذلك من أحكام الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك ثم اخبر تعالى بأنهن أحق بسكنى بيوتهن التي طلقن فيها فنهى عن إخراجهن وعن خروجهن وسنة ذلك ان لا تبيت المراة المطلقة عن بيتها ولا تغيب عنه نهارا الا في ضرورة ومما لا خطب له من جائز التصرف وذلك لحفظ النسب والتحرز بالنساء فإن كان البيت ملكا للزوج أو بكراء منه فهذا حكمه فإن كان لها فعليه الكراء فإن كان قد أمتعته طول الزوجية ففي لزوم خروج العدة له قولان في المذهب اللزوم رعاية لانفصال مكارمة النكاح والسقوط من اجل العدة من سبب النكاح واختلف الناس في معنى قوله * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * فقال قتادة والحسن ومجاهد ذلك الزنا فيخرجن للحد وهذا قول الشعبي وزيد بن أسلم وحماد والليث وقال ابن عباس ذلك النداء على الإحماء فتخرج ويسقط حقها من السكنى وتلزم الإقامة في مسكن يتخذه حفظا للنسب
وفي مصحف أبي بن كعب (الا ان يفحشن عليكم) وقال ابن عباس أيضا الفاحشة جميع المعاصي فمن سرقت أو قذفت أو زنت أو أربت في تجارة وغير ذلك فقد سقط حقها في السكنى وقال السدي وابن عمر الفاحشة الخروج عن البيت خروج انتقال فمتى فعلت ذلك فقد سقط حقها في السكنى وقال قتادة أيضا المعنى * (أن يأتين بفاحشة) * في نشوز عن الزوج فيطلق بسبب ذلك فلا يكون عليه سكنى
وقال بعض الناس الفاحشة متى وردت معرفة فهي الزنا ومتى جاء منكرة فهي المعاصي يراد بها سوء عشرة الزوج ومرة غير ذلك وقرا عاصم (مبينة) بفتح الباء المشددة تقول بان الأمر وبينته أنا على تضعيف التعدية وقرأ الجمهور مبينة بكسر الياء تقول بان الشيء وبين بمعنى واحد إلا أن التضعيف للمبالغة ومن ذلك قولهم قد بين الصبح لذي عينين وقوله تعالى * (وتلك حدود الله) * إشارة إلى جميع أوامره في هذه الآية وقوله تعالى * (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * قال قتادة وغيره يريد به الرجعة أي أحصوا العدة وامتثلوا هذه الأوامر المتفقة لنسائكم
323

الحافظة لأنسابكم وطلقوا على السنة تجدوا المخلص إن ندمتم فإنكم لا تدرون لعل الرجعة تكون بعد والإحداث في هذه الآية بين التوجه عبارة عما يوجد من التراجع وجوز قوم ان يكون المعنى * (أمرا) * من النسخ وفي ذلك بعد وقوله تعالى * (فإذا بلغن أجلهن) * يريد به آخر القروء و (الإمساك بالمعروف) هو حسن العشرة في الإنفاق وغير ذلك و (المفارقة بالمعروف) هو أداء المهر والتمتيع ودفع جميع الحقوق والوفاء بالشروط وغير ذلك حسب نازلة وقوله تعالى * (وأشهدوا ذوي عدل
منكم) * يريد على الرجعة وذلك شرط في صحة الرجعة وللمراة منع الزوج من نفسها حتى يشهد وقال ابن عباس المراد على الرجعة والطلاق لأن الإشهاد يرفع من النوازل إشكالات كثيرة وتقييد تاريخ الاشهاد من الإشهاد وقال النخعي العدل من لم تظهر منه ريبة وهذا قول الفقهاء والعدل حقيقة الذي لا يخاف الا الله وقوله تعالى * (أقيموا الشهادة لله) * امر للشهود وقوله تعالى * (ذلكم يوعظ به) * إشارة إلى إقامة الشهادة وذلك أن جميع فصول الأحكام والأمور فإنما تدور على إقامة الشهادة وقوله تعالى * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) *
قال علي بن أبي طالب وكثير من المتأولين نفي من معنى الطلاق أي ومن لا يتعدى في الطلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك يجعل الله له مخرجا إن ندم بالرجعة المباحة ويرزقه ما يطعم أهله ويوسع عليه ومن لا يتق الله فربما طلق وبت وندم فلم يكن له مخرج وزال عليه رزق زوجته
وقد فسر ابن عباس نحو هذا فقال للمطلق ثلاثا أنت لم تتق الله فبانت منك امرأتك ولا أرى لك مخرجا
وقال ابن عباس أيضا معنى * (يجعل له مخرجا) * يخلصه من كرب الدنيا والآخرة واختلف في ألفاظ رواية هذه القصة قال ابن عباس للمطلق لكن هذا هو المعنى وقال بعض رواة الآثار نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي وذلك أنه أسر ولده وقدر عليه رزقه فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالتقوى فقيل لم يلبث ان تفلت ولده واخذ قطيع غنم للقوم الذين أسروه وجاء أباه فسأل عوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أتطيب له تلك الغنم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم
ونزلت الآية في ذلك
وقوله تعالى * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * الآيات كلها عظة لجميع الناس والحسب الكافي المرضي وقال ابن مسعود هذه أكثر الآيات حضا على التفويض وروي ان رجلا قال لعمر ولني مما ولاك الله فقال له عمر أتقرأ القرآن قال لا
قال فأنا لا أولي من لا يقرأ القرآن
فتعلم الرجل رجاء الولاية فلما حفظ كثيرا من القرآن تخلف عن عمر فلقيه يوما فقال له عمر ما أبطأ بك قال له تعلمت القرآن فأغناني الله تعالى عن عمر وعن بابه
ثم قرا هذه الآيات من هذه السورة وقوله تعالى * (إن الله بالغ أمره) * بيان وحض على التوكل أي لا بد من نفوذ امر الله توكلت أيها المرء أو لم تتوكل قاله مسروق
فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك وأمره في الوجهين نافذ وقرا داود بن هند ورويت عن أبي عمرو (بالغ امره) برفع الأمر وحذف مفعول تقدير بالغ امره ما شاء وقرا جمهور السبعة (بالغ امره) بنصب الأمر وقرا حفص والمفضل عن عاصم (بالغ امره) على الإضافة وترك التنوين في (بالغ) ورويت عن أبي عمرو والأعمش وهي قراءة طلحة بن مصرف وقرا جمهور الناس (قدرا) بسكون الدال وقرا بعض القراء (قدرا) بفتح الدال وهذا كله حض على التوكل
324

قوله عز وجل
سورة الطلاق 4 - 7
* (اللائي) * هو جمع ذات في ما حكى أبو عبيدة وهو ضعيف والذي عليه الناس أنه جمع التي وقد يجيء جمعا للذي واليائسات من المحيض على مراتب فيائسة هو أول يأسها فهذه ترفع إلى السنة ويبقيها الاحتياط على حكم من ليست بيائسة لأنا لا ندري لعل الدم يعود ويائسة قد انقطع عنها الدم لأنها طعنت في السن ثم طلقت وقد مرت عادتها بانقطاع الدم الا انها مما يخاف ان تحمل نادرا فهذه التي في الآية على أحد التاولين في قوله * (إن ارتبتم) * وهو قول من يجعل الارتياب بأمر الحمل وهو الأظهر ويائسة قد هرمت حتى تتيقن أنها لا تحمل فهذه ليست في الآية لأنها لا يرتاب بحملها لكنها في حكم الأشهر الثلاثة اجماعا فيما علمت وهي في الآية على تأويل من يرى قوله * (إن ارتبتم) * معناه في حكم اليائسات وذلك أنه روى إسماعيل بن أبي خالد ان قوما منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان لما سمعوا قول الله عز وجل * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * البقرة 228 قالوا يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر فنزلت الآية فقال قائل منهم فما عدة الحامل فنزلت * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * وقد تقدم ذكر الخلاف في تأويل * (إن ارتبتم) * * (وأولات) * جمع ذات وأكثر أهل العلم على أن هذه الآية تعم الحوامل المطلقات والمعتدات من الوفاة والحجة حديث سبيعة الأسلمية قالت كنت تحت سعد بن خولة فتوفي في حجة الوداع ووضعت حملها قبل أربعة أشهر فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (قد حللت) وأمرها ان تتزوج وقال ابن مسعود نزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى يعني ان قوله تعالى * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * نزلت بعد قوله تعالى * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * البقرة 234 وقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب إنما هذه في المطلقات واما في الوفاة فعدة الحامل آخر الأجلين إن وضعت قبل أربعة أشهر وعشر تمادت إلى آخرها والقول الأول أشهر وعليه الفقهاء وقرا الضحاك (احمالهن) على الجمع وامر الله تعالى بإسكان المطلقات ولا خلاف في ذلك في التي لم تبت
واما المبتوتة فمالك رحمه الله يرى لها السكنى لمكان حفظ النسب ولا يرى لها نفقة
325

لأن النفقة بإزاء الاستمتاع وهو قول الأوزاعي والشافعي وابن أبي ليلى وابن عبيد وابن المسيب والحسن وعطاء والشعبي وسليمان بن يسار وقال أصحاب الرأي والثوري لها السكنى والنفقة وقال جماعة من العلماء ليس لها السكنى ولا نفقة
والوجد السعة في المال وضم الواو وفتحها وكسرها هي كلها بمعنى واحد وقرا الجمهور (وجدكم) بضم الواو بمعنى سعة الحال وقرا الأعرج فيما ذكر عصمة (وجدكم) بفتح الواو وذكرها أبو عمرو عن الحسن وأبي حيوة وقرا الفياض بن غزوان ويعقوب بكسر الواو وذكرها المهدوي عن الأعرج وعمرو بن ميمون واما الحامل فلا
خلاف في وجوب سكناها ونفقتها بتت أو لم تبت لأنها مبينة في الآية واختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها على قولين لعلماء الأمة فمنعها قوم وأوجبها في التركة قوم وكذلك النفقة على المرضع واجبة وهي الأجر مع الكسوة وسائر المؤن التي بسطها في كتب الفقه وقوله تعالى " وائتمروا بينكم بمعروف " أي ليأمر كل واحد صاحبه بخير ولا شك ان من أمر بخير فهو أسرع إلى فعل ذلك الخير وليقبل كل واحد ما امر به من المعروف والقبول والامتثال هو الائتمار وقال الكسائي " ائتمروا " معناه تشاوروا ومنه قوله تعالى * (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) * القصص 20 ومنه قول امرئ القيس
(ويعدو على المرء ما يأتمر
*)
وقوله تعالى * (وإن تعاسرتم) * أي تشططت المرأة في الحد الذي يكون أجرة على الرضاع فللزوج ان يسترضع أخرى بما فيه رفقه الا ان لا يقبل المولود غير أمه فتجبر حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج في حالهما وغناهما ثم حض تعالى أهل الجدة على الانفاق وأهل الإقتار على التوسط بقدر حاله
وهذا هو العدل بينهم لئلا تضيع هي ولا يكلف هو ما لا يطيق
واختلف العلماء في الذي يعجز عن نفقة امرأته فقال مالك والشافعي واحمد وإسحاق وأبو هريرة وابن المسيب والحسن يفرق بينهما وقال أصحاب الرأي وعمر بن عبد العزيز وجماعة لا يفرق بينهما ثم رجى تعالى باليسر تسهيلا على النفوس وتطييبا لها وقرا الجمهور (يعظم) بالياء وقرا الأعمش (نعظم) بالنون واختلف عنه
قوله عز وجل
سورة الطلاق 8 - 11
* (كأين) * هي كاف الجر دخلت على أي وهذه قراءة الجمهور وقرأ ابن كثير وعبيد عن أبي
326

عمرو (وكائن) ممدود مهموز كما قال الشاعر
(وكائن بالأباطح من صديق
*) وقرا بعض القراء * (وكأين) * بتسهيل الهمزة وفي هذين الوجهين قلب لأن الياء قبل الألفات وقوله تعالى * (فحاسبناها) * قال بعض المتأولين الآية في الآخرة أي ثم هو الحساب والتعذيب والذوق وخسار العاقبة
وقال آخرون ذلك في الدنيا ومعنى (فحاسبناها حسابا شديدا) أي لم نغتفر لها زلة بل اخذت بالدقائق من الذنوب وقرا نافع وابن كثير وابن ذكران (نكرا) بضم الكاف وقرأ الباقون (نكرا) بسكون الكاف وهي قراءة عيسى وقوله تعالى * (أعد الله لهم عذابا شديدا) * يظهر منه انه بيان لوجه خسران عاقبتهم فيتأبد بذلك أن تكون المحاسبة والتعذيب والذوق في الدنيا ثم ندب تعالى * (أولي الألباب) * إلى التقوى تحذيرا وقوله تعالى * (الذين آمنوا) * صفة ل * (أولي الألباب) * وقرا نافع وابن عامر (صالحا ندخله) بالنون وكذلك روى المفضل عن عاصم وقرأ الباقون (يدخله) بالياء وقوله تعالى * (قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا) * اختلف الناس في تقدير ذلك فقال قوم من المتأولين المراد بالاسمين القرآن ف (رسول) يعني رسالة وذلك موجود في كلام العرب وقال آخرون * (رسولا) * نعت أو كالنعت لذكر فالمعنى ذكر ذا رسول وقيل الرسول ترجمة عن الذكر كأنه بدل منه وقال آخرون المراد بهما جميعا محمد وأصحابه المعنى ذا ذكر رسولا وقال بعض حذاق المتأولين الذكر اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم واحتج بهذا القاضي ابن الباقلاني في تأويل قوله تعالى * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) * الأنبياء 2 وقال بعض النحاة معنى الآية * (ذكرا) * بعث * (رسولا) * فهو منصوب بإضمار فعل وقال أبو علي الفارسي يجوز ان يكون * (رسولا) * معمولا للمصدر الذي هو الذكر
قال القاضي أبو محمد وأبين الأقوال عندي معنى ان يكون الذكر للقرآن والرسول محمد والمعنى بعث رسولا لكن الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول ونحا هذا المنحى السدي وقرا نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر (مبينات) بفتح الياء وقراها بكسر الياء وابن عامر وحفص وحمزة والكسائي والحسن والأعمش وعيسى وسائر الآية بين والرزق المشار اليه زرق الجنة لدوامه ودروره
قوله عز وجل
سورة الطلاق 12
لا خلاف بين العلماء ان السماوات سبع لأن الله تعالى قال " سبعا طباقا " الملك 3 نوح 15 وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهن في حديث الإسراء وقال لسعد (حكمت بحكم الملك من فوق سبع أرقعة) ونطقت بذلك الشريعة في غير ما موضع واما * (الأرض) * فالجمهور
327

على أنها سبع أرضين وهو ظاهر هذه الآية وان المماثلة انما هي في العدد ويستدل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غضب شبرا من أرض طوقه من سبع أرضين) إلى غير هذا مما وردت به روايات وروي عن قوم من العلماء انهم قالوا الأرض واحدة وهي مماثلة لكل سماء بانفرادها في ارتفاع جرمها وقرا ان فيها عالما يعبد كما في كل سماء عالم يعبد وقرا الجمهور (مثلهن) بالنصب وقرأ عاصم (مثلهن) برفع اللام و * (الأمر) * هنا الوحي وجميع ما يأمر به تعالى من يعقل ومن لا يعقل فإن الرياح والسحاب وغير ذلك مأمور كلها وباقي السورة وعظ وحض على توحيد الله عز وجل وقوله تعالى " على كل شيء قدير " عموم معناه الخصوص في المقدورات وقوله " بكل شيء " عموم على إطلاقه
328

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التحريم
وهي مدنية بإجماع من أهل العلم بلا خلاف
قوله عز وجل
سورة التحريم 1 - 3
روي في الحديث عن زيد بن أسلم والشعبي وغيرهما ما معناه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اهدى المقوقس مارية القبطية اتخذها سرية فلما كان في بعض الأيام وهو يوم حفصة بنت عمر وقيل بل كان في يوم عائشة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت حفصة فوجدها قد مرت إلى زيارة أبيها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاريته فقال معها فجاءت حفصة فوجدتهما فأقامت خارج البيت حتى اخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية وذهبت فدخلت حفصة غيرى متغيرة اللون فقالت يا رسول الله اما كان في نسائك أهون عليك مني أفي بيتي وعلى فراشي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مترضيا لها أيرضيك ان احرمها قالت نعم فقال إني قد حرمتها
قال ابن عباس وقال مع ذلك والله لا أطؤها أبدا ثم قال لها لا تخبري بهذا أحدا فمن قال إن ذلك كان في يوم عائشة قال استكتمها خوفا من غضب عائشة وحسن عشرتها ومن قال كان في يوم حفصة قال استكتمتها لنفس الأمر ثم إن حفصة رضي الله عنها قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة وأخبرتها لتسرها بالأمر ولم ترض إفشاءه إليها حرجا واستكتمتها فأوحى الله بذلك إلى نبيه ونزلت الآية
وروي عن عكرمة ان هذا نزل بسبب شريك التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وذكر النقاش نحوه عن ابن عباس وروى عبد بن عمير عن عائشة ان هذا التحريم المذكور في الآية إنما هو بسبب شراب العسل الذي شربه صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش فتمالأت عائشة وحفصة وسودة على أن تقول له من دنا منها اكلت مغافير والمغافير صمغ العرفط وهو حلو ثقيل الريح ففعلن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولكني شربت عسلا) فقلن جرست نحلة العرفط فقال
329

رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا أشربه أبدا) وكان يكره ان توجد منه رائحة ثقيلة فدخل بعد ذلك على زينب فقالت الا نسقيك من ذلك العسل قال (لا حاجة لي به) قالت عائشة تقول سودة حين بلغها امتناعه والله لقد حرمتاه
قلت لها اسكتي
قال القاضي أبو محمد والقول الأول إن الآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح وعليه تفقه الناس في الآية ومتى حرم رجل مالا أو جارية دون ان يعتق أو يشترط عتقا أو نحو ذلك فليس تحريمه بشيء واختلف العلماء إذ حرم زوجته بأن يقول لها أنت علي حرام والحلال علي حرام ولا يستثني زوجته فقال مالك رحمه الله هي ثلاث في المدخول بها وينوي في غير المدخول بها فهو ما أراد من الواحدة أو الاثنين أو الثلاث وقال عبد الملك بن الماجشون هي ثلاث في الوجهين ولا ينوي في شيء
وقال أبو المصعب وغيره
وروى ابن خويز منداد عن مالك انها واحدة بائنة في المدخول بها وغير المدخول بها وروي عن عبد العزيز بن الماجشون انه كان يحملها على واحدة رجعية وقال غير واحد من أهل العلم التحريم لا شيء وإنما عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيه ودله على تحلة اليمين المبينة في المائدة لقوله (قد حرمتها والله لا اطؤها أبدا) وقال مسروق ما أبالي أحرمتها أو قصعة من ثريد
وكذلك قال الشعبي ليس التحريم بشيء قال تعالى * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) * النحل 116 وقال * (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * المائدة 87 ومحرم زوجته مسم حراما ما جعله حلالا ومحرم ما أحل الله له وقال أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة وأبو ثور والأوزاعي والحسن وجماعة (التحريم) يلزم فيه تكفير يمين بالله والتحلة إنما هي من جهة التحريم ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله لا اطؤها) وقال أبو قلابة التحريم ظهار وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون هو ما أراد من الطلاق فإن لم يرد بذلك طلاقا فهو لا شيء
وقال هو ما أراد من الطلاق فإن لم يرد طلاقا فهو يمين فدعا الله تعالى نبيه باسم النبوة الذي هو دال على شرف منزلته وعلى فضيلته التي خصه بها دون البشر وقرره كالمعاتب على سبب تحريمه على نفسه ما أحل الله له وقوله * (تبتغي) * جملة في موضع الحال من الضمير الذي في * (تحرم) * و (المرضاة) مصدر كالرضى ثم غفر له تعالى ما عاتبه فيه ورحمه وقوله * (قد فرض الله) * أي بين وأثبت وقال قوم من أهل العلم هذه إشارة إلى تكفير التحريم وقال آخرون هي إشارة إلى تكفير اليمين المقترنة بالتحريم
والتحلة مصدر ووزنها تفعلة وأدغم لاجتماع المثلين وأحال في هذه الآية على الآية التي فسر فيها الإطعام في كفارة اليمين بالله والمولى الموالي الناصر العاضد وقوله تعالى * (وإذ أسر النبي) * الآية معناه اذكر يا محمد ذلك على وجه التأنيب والعتب لهن وقال الجمهور الحديث هو قوله في امر مارية وقال آخرون بل هو قوله (إنما شربت عسلا) وبعض أزواجه هي حفصة و * (نبات) * معناه أخبرت وهذه قراءة الجمهور وقرا طلحة (انبأت) وكان إخبارها لعائشة وهذا ونحوه هو التظاهر الذي عوتبنا فيه وقال ميمون بن مهران الحديث الذي أسر إلى حفصة أنه قال لها (وأبشري بان أبا بكر وعمر يملكان امر أمتي بعدي خلافة) وتعدت (نبأ) في هذه
330

الآية مرة إلى مفعولين ومرة إلى مفعول واحد لأن ذلك يجوز في أنبأ ونبأ إذا كان دخولها على غير الابتداء والخبر فمتى دخلت على الجملة تعدت إلى ثلاثة مفاعيل ولا
يجوز الاقتصار
وقوله تعالى * (وأظهره الله عليه) * أي اطلعه وقرا الكسائي وحده وأبو عبد الرحمن وطلحة وأبو عمرو بخلاف والحسن وقتادة (عرف) بتخفيف الراء وقرا الباقون وجمهور الناس (عرف) بشدها والمعنى في اللفظة مع التخفيف جازى بالعتب واللوم كما تقول لإنسان يؤذيك قد عرفت لك هذا ولأعرفن لك هذا بمعنى لأجازينك عليه ونحوه في المعنى قوله تعالى * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم) * النساء 63 فعلم الله زعيم بمجازاتهم وكذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى مع الشد في الراء علم به وأنب عليه وقوله تعالى * (وأعرض عن بعض) * أي تكرما وحياء وحسن عشرة قال الحسن ما استقصى كريم قط وروي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حينئذ حفصة ثم إن الله تعالى أمره بمراجعتها وروي انه عاتبها ولم يطلقها فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بالخبر وانها أفشته إلى عائشة ظنت ان عائشة فضحتها فقالت من أنبأك هذا على جهة التثبت فلما أخبرها ان الله تعالى أخبره سكتت وسلمت
قوله عز وجل
سورة التحريم 4 - 5
المخاطبة بقوله تعالى * (إن تتوبا) * هي لحفصة وعائشة وفي حديث البخاري وغيره عن ابن عباس قال قلت لعمر بن الخطاب من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حفصة وعائشة وقوله تعالى * (صغت قلوبكما) * معناه مالت اي عن المعدلة والصواب والصغا الميل ومنه صياغة الرجل وهم حواشيه الذين يميلون اليه ومنه أصغى اليه بسمعه وأصغى الإناء وفي قراءة عبد الله بن مسعود (فقد زاغت قلوبكما) والزيع الميل وعرفه في خلاف الحق قال مجاهد كما نرى صغت شيئا هينا حتى سمعنا قراءة ابن مسعود (زاغت) وجمع القلوب من حيث الانسان جمع ومن حيث لا لبس في اللفظ وهذا نظير قول الشاعر حطام المجاشعي
(ظهراهما مثل ظهور الترسين
*) الرجز
ومعنى الآية ان تبتما فقد كان منكما ما ينبغي ان يتاب منه وهذا الجواب الذي للشرط هو متقدم في المعنى وإنما ترتب جوابا في اللفظ * (وإن تظاهرا) * معناه تتعاونا وقرا جمهور الناس والسبعة (تظاهرا) وأصله تتظاهرا فأدغمت التاء في الظاء بعد البدل وقرا عكرمة مولى ابن عباس (إن تتظاهرا) بتاءين على الأصل وقرا نافع بخلاف عنه وعاصم وطلحة وأبو رجاء والحسن (تظهرا) بتخفيف الظاء على
331

حذف التاء الواحدة وروي عن ابن عمر انه قرأ (تظهرا) بشد الظاء والهاء دون ألف والمولى الناصر المعين وقوله * (وجبريل وصالح المؤمنين) * يحتمل ان يكون عطفا على اسم الله تعالى في قوله " هو " فيكون * (جبريل وصالح المؤمنين) * في الولاية ويحتمل ان يكون * (جبريل) * رفعا بالابتداء وما بعده عطف عليه و * (ظهير) * الخبر فيكون حينئذ من الظهراء لا في الولاية ويختص بأنه مولى الله تعالى واختلف الناس في * (صالح المؤمنين) * فقال الطبري وغيره من العلماء ذلك على العموم ويدخل في ذلك كل صالح وقال الضحاك وابن جبير وعكرمة المراد أبو بكر وعمر
ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد نحوه وقال أيضا وعلي وروى علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال * (صالح المؤمنين) * علي بن أبي طالب ذكره الثعلبي
وقال قتادة والعلاء بن زياد وغيره هم الأنبياء وإنما يترتب ذلك بان تكون مظاهرتهم أنهم قدوة وأسوة فهم عون بهذا وقوله تعالى * (وصالح) * يحتمل ان يكون اسم جنس مفردا ويحتمل ان يريد (وصالحو) فحذفت الواو في خط المصحف كما حذفوها في قوله (سندع الزبانية) العلق 18 وغير ذلك
ويروى عن انس بن مالك ان عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله لا تكترث بأمر نسائك والله معك وجبريل معك وأبو بكر معك وأنا معك
فنزلت الآية موافقة نحو امر قول عمر قال المهدوي وهذه الآية نزلت على لسان عمر وكذا روي أن عمر بن الخطاب قال لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم * (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) *
فنزلت الآية على نحو قوله وقال عمر رضي الله عنه قالت لي أم سلمة يا ابن الخطاب أدخلت نفسك في كل شيء حتى دخلت بين رسول الله وبين نسائه فاخذتني أخذا كسرتني به وقالت لي زينب بنت جحش يا عمر أما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعظ نساءه حتى تعظهن أنت وقرا الجمهور (طلقكن) بفتح القاف وإظهاره وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه (طلقكن) بشد الكاف وإدغام القاف فيها وقال أبو علي وإدغام القاف في الكاف حسن وقرا ابن كثير وابن عامر والكوفيون والحسن وأبو رجاء وابن محيصن (أن يبدله) بسكون الباء وتخفيف الدال وقرا نافع والأعرج وأبو جعفر (ان يبدله) بفتح الباء وشد الدال وهذه لغة القرآن في هذا الفعل وكرر الله تعالى الصفات مبالغة وإن كان بعضها يتضمن بعضا فالإسلام إشارة إلى التصديق والعمل والايمان تخصيص للإخلاص وتنبيه على شرف موقعه " وقانتات " معناه مطيعات والسائحات قيل معناه صائمات قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادة والضحاك
وذكر الزجاج ان النبي صلى الله عليه وسلم قاله وقيل معناه هاجرات قاله زيد بن أسلم وقال ابن زيد ليس في الاسلام سياحة الا الهجرة وقيل معناه ذاهبات في طاعة الله وشبه الصائم بالسائح من حيث ينهمل السائح ولا ينظر في زاد ولا مطعم وكذلك الصائم يمسك عن ذلك فيستوي هو والسائح في الامتناع وشظف العيش لفقد الطعام وقوله تعالى * (ثيبات وأبكارا) * تقسيم لكل واحدة من الصفات المتقدمة وليست هذه الواو مما يمكن ان يقال فيها واو الثمانية لأنها هنا ضرورية ولو سقطت لاختل هذا المعنى
332

قوله عز وجل
سورة التحريم 6 - 8
قوله تعالى * (قوا أنفسكم وأهليكم) * معناه اجعلوا وقاية بينكم وبين النار وقد تقدم غير مرة تعليل اللفظة وقوله تعالى * (وأهليكم) * معناه بالوصية لهم والتقويم والحمد على طاعة الله تعالى وفي حديث (لا تزن فيزني أهلك) وفي حديث آخر (رحم الله رجلا قال يا أهلاه صلاتكم صيامكم مسكينكم يتيمكم) وقرا الجمهور (وقودها) بفتح الواو وقرا مجاهد والحسن وطلحة وعيسى والفياض بن غزوان وأبو حيوة بضمها وقيل هما بمعنى وقيل الضم مصدر والفتح اسم ويروى ان * (الحجارة) * هي حجارة الكبريت وقد تقدم القول في ذلك في سورة البقرة
ويروى انها جميع أنواع الحجارة وفي بعض الحديث ان عيسى ابن مريم سمع أنينا في فلاة من الأرض فتبعه حتى بلغ إلى حجر يئن ويحزن فقال له ما بالك أيها الحجر فقال يا روح الله إني سمعت الله يقول * (وقودها الناس والحجارة) * فخفت ان أكون من تلك الحجارة فعجب منه عيسى وانصرف ويشبه ان يكون هذا المعنى في التوراة أو في الإنجيل فذلك الذي سمع الحجر إذا عبر عنه بالعربية كان هذا اللفظ ووصف الملائكة بالغلظة معناه في القلوب والبطش الشديد والفظاظة كما قال تعالى لنبيه * (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) * آل عمران 159 والشدة القوة وقيل المراد شدتهم على الكفار فهي بمعنى الغلظ ووصفهم تعالى بالطواعية لربهم وكرر المعنى تأكيدا بقوله تعالى * (ويفعلون ما يؤمرون) * وفي قوله تعالى * (ويفعلون ما يؤمرون) * ما يقتضي انهم يدخلون الكفار النار بجد واختيار ويغلظون عليهم فكأنه قال بعد تقرير هذا المعنى فيقال للكفار * (لا تعتذروا اليوم) * أي إن المعذرة لا تنفعكم وإنما تجزون بأعمالكم فلا تلوموا الا أنفسكم ثم امر عباده بالتوبة والتوبة فرض على كل مسلم وتاب معناه رجع فتوبة العبد رجوعه من المعصية إلى الطاعة وتوبة الله تعالى على العبد إظهار صلاحه ونعمته عليه في الهداية إلى الطاعة وقبول توبة الكفار يقطع بها على الله إجماعا من الأمة واختلف الناس في توبة العاصي فجمهور أهل السنة على أنه لا يقطع بقبولها ولا ذلك على الله بواجب والدليل على ذلك دعاء كل واحد من المذنبين في قبول التوبة ولو كانت مقطوعا بها لما كان معنى للدعاء في قبولها وظواهر القرآن في ذلك هي كلها بمعنى المشيئة وروي عن أبي الحسن الأشعري أنه قال التوبة إذا توفرت شروطها قطع على الله بقبولها لأنه تعالى اخبر بذلك
333

قال القاضي أبو محمد وهذا المسك بظواهر القرآن وعلى هذا القول أطبقت المعتزلة والتوبة الندم على فارط المعصية والعزم على ترك مثلها في المستقبل وهذا من المتمكن واما غير المتمكن كالمجبوب في الزنا فالندم وحده يكفيه والتوبة عبادة كالصلاة ونحوها فإذا تاب العبد وحصلت توبته بشروطها وقبلت ثم عاود الذنب فتوبته الأولى لا تفسدها عودة بل هي كسائر ما تحصل من العبادات والنصوح بناء مبالغة من النصح إلى توبة نصحت صاحبها وأرشدته وقرا الجمهور (نصوحا) بفتح النون وقرأ أبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع والحسن والأعرج وعيسى (نصوحا) بضم النون وهو مصدر يقال نصح ينصح نصاحة ونصاحة قاله الزجاج فوصف التوبة بالمصدر كالعدل والزور وغيره وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه التوبة النصوح هي ان يتوب ثم لا يعود وقال أبو بكر الوراق هي ان تضيق عليك الأرض بما رحبت كتوبة الذين خلفوا وقوله تعالى * (عسى ربكم) * الآية ترجية وقد روي أن * (عسى) * من الله واجبة والعامل في * (يوم) * قوله * (يدخلكم) * وروي في معنى قوله تعالى * (يوم لا يخزي الله النبي) * ان محمدا صلى الله عليه وسلم تضرع في امر أمته فأوحى الله اليه إن شئت جعلت حسابهم إليك فقال (يا رب أنت أرحم بهم) فقال الله تعالى إذا لا أخزيك فيهم فهذا معنى قوله * (يوم لا يخزي الله النبي) * والخزي المكروه الذي يترك الانسان حيران خجلا مهموما بان يرى نقصه أو سوء منزلته وقوله تعالى * (والذين آمنوا معه) * يحتمل ان يكون معطوفا على * (النبي) * فيخرج المؤمنون من الخزي ويحتمل ان يكون ابتداء و * (نورهم يسعى) * جملة هي خبره ويبقى النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا مفضلا بأنه لا يخزى وقد تقدم القول في نظير قوله * (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) * التحريم 8 وقرا سهل بن سعد (وبإيمانهم) بكسر الهمزة وقوله تعالى * (ربنا أتمم لنا نورنا) * قال الحسن بن أبي الحسن هو عندما يرون من انطفاء نور المنافقين حسبما تقدم تفسيره وقيل يقول من أعطي من النور بقدر ما يرى قدميه فقط
قوله عز وجل
سورة التحريم 9 - 10
هذه الآية تأكيد لأمر الجهاد وفضله المتقدم والمعنى دم على جهاد الكافرين بالسيف وجاهد المنافقين بنجههم وإقامة الحدود عليهم وضربهم في كل جرائمهم وعند قوة الظن بهم ولم يعين الله تعالى لرسوله منافقا يقع القطع بنفاقه لأن التشهد الذي كانوا يظهرون كان ملبسا لأمرهم مشبها لهم بالعصاة من الأمة
والغلظة عليهم هي فظاظة القلب والانتهار وقلة الرفق بهم وقرا الضحاك (وأغلظ)
334

بكسر اللام وقطع الألف وهذان المثلان اللذان للكفار والمؤمنين معناهما ان من كفر لا يغني عنه شيء ولا ينفعه وزر ولو كان متعلقا بأقوى الأسباب وان من آمن لا يدفعه دافع عن رضوان الله تعالى ولو كان في أسوأ منشأ واخسر حال
وقال بعض الناس إن في المثلين عبرة لزوجات النبي محمد عليه السلام حين تقدم عتابهن وفي هذا بعد لأن النص انه للكفار يبعد هذا
واختلف الناس في خيانة هاتين المرأتين فقال ابن عباس وغيره خانتا في الكفر وفي ان امرأة نوح كانت تقول للناس إنه مجنون وان امرأة لوط كانت تنم إلى قومه متى ورده ضيف فتخبر به وقال ابن عباس وما بغت زوجة نبي قط ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا وقال الحسن في كتاب النقاش خانتاهما بالكفر والزنا وغيره وقرا الجمهور (يغنيا) بالياء وقرا مبشر بن عبيد (تغنيا) بالتاء من فوق
قوله عز وجل
سورة التحريم 11 - 12
* (امرأة فرعون) * اسمها آسية وقولها * (وعمله) * معناه وكفره وما هو عليه من الضلالة وهذا قول كافة المفسرين وقال جمهور من المفسرين معناه من ظلمه وعقابه وتعذيبه لي وروي في هذا ان فرعون اتصل به إيمانها بموسى وأنها تحب ان يغلب فبعث إليها قوما وقال إن رأيتم منها ذلك فابطحوها في الأرض ووتدوا يديها ورجليها وألقوا عليها أعظم حجر وإن لم تروا ذلك فهي امرأتي
قال فذهب القوم فلما أحست بالشر منهم دعت بهذه الدعوات فقبض الله روحها وصنع أولئك امر الحجر بشخص لا روح فيه وروي في قصصها غير هذا مما يطول ذكره فاختصرته لعدم صحته
وقال آخرون في كتاب النقاش * (وعمله) * كناية عن الوطء والمضاجعة
وهذا ضعيف
واختلف الناس في الفرج الذي أحصنت مريم فقال الجمهور هو فرج الدرع الذي كان عليها وانها كانت صينة وإن جبريل عليه السلام نفخ فيها الروح من جيب الدرع وقال قوم من المتأولين هو الفرج الجارحة فلغظة * (أحصنت) * إذا كان فرج الجارحة متمكنا حقيقة والإحصان صونه وفيه هي مستعملة وإذا قدرنا فرج الدرع فلفظ * (أحصنت) * فيه مستعارة من حيث صانته ومن حيث صار مسلكا لولدها وقوله تعالى * (فنفخنا) * عبارة عن فعل جبريل حقيقة وإن ذهب ذاهب إلى أن النفخ فعل الله تعالى فهو عبارة عن خلقه واختراعه الولد في بطنها وشبه ذلك بالنفخ الذي من شأنه ان يسير في الشيء برفق ولطف
وقوله تعالى * (من روحنا) * إضافة المخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك كما تقول بيت الله وناقة الله وكذلك الروح الجنس كله هو روح الله
وقرا الجمهور (وصدقت) بشد الدال وقرا أبو مجلز
335

بتخفيفها وقرا جمهور الناس (بكلمات) على الجمع وقرا الجحدري (بكلمة) على الافراد فاما الإفراد فيقوي ان يريد امر عيسى ويحتمل ان يريد انه اسم جنس في التوراة ومن قرأ على الجمع فيقوي انه يريد التوراة ويحتمل ان يريد أمر عيسى
وقرا ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ونافع (وكتابه) على الوحيد وقرا أبو عمرو وحفص عن عاصم وخارجة عن نافع (وكتبه) بضم التاء والجمع وقرا أبو رجاء بسكون التاء (وكتبه) وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل والقانتون العابدون والمعنى كانت من القوم * (القانتين) * في عبادتها وحال دينها
نجز تفسير سورة التحريم والحمد لله كثيرا
336

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الملك
وهي مكية بإجماع وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل ليلة عند اخذ مضجعه
رواه جماعة مرفوعا إلى جابر بن عبد الله ويروى عنه أنه قال (انها لتنجي من عذاب القبر وتجادل عن حافظها حتى لا يعذب) ويروى ان في التوراة سورة الملك من قراها في ليلة فقد أجاد وطيب وروى عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وددت ان سورة * (تبارك الذي بيده الملك) * الملك 1 في قلب كل مؤمن)
قوله عز وجل
سورة الملك 1 - 4
* (تبارك) * تفاعل من البركة وهي التزيد في الخيرات ولم يستعمل بيتبارك ولا متبارك وقوله * (بيده) * عبارة عن تحقيق * (الملك) * وذلك أن اليد في عرف الآدميين هي آلة التملك فهي مستعرة و * (الملك) * على الاطلاق هو الذي لا يبيد ولا يختل منه شيء وذلك هو ملك الله تعالى وقيل المراد في هذه الآية ملك الملوك فهو بمنزلة قوله * (اللهم مالك الملك) * آل عمران 26 عن ابن عباس رضي الله عنه
وقوله تعالى " وهو على كل شيء قدير " عموم والشيء معناه في اللغة الموجود و * (الموت والحياة) * معنيان يتعاقبان جسم الحيوان يرتفع أحدهما بحلول الآخر وما في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم " يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح على الصراط " فقال أهل العلم ذلك تمثال كبش يوقع الله عليه العلم الضروري لأهل الدارين إنه الموت الذي ذاقوه في الدنيا ويكون ذلك التمثال حاملا للموت على أنه يحل الموت فيه فتذهب عنه حياة ثم يقرن الله تعالى بذبح ذلك التمثال إعدام الموت
وقوله تعالى * (خلق الموت والحياة ليبلوكم) * أي ليختبركم في حال الحياة ويجازيكم بعد الموت وقال أبو قتادة نحوه عن ابن عمر قلت يا رسول الله ما معنى قوله تعالى * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * فقال (يقول أيكم أحسن عقلا وأشدكم لله خوفا وأحسنكم في امره ونهيه نظرا وإن كانوا أقلكم تطوعا)
وقال ابن عباس وسفيان الثوري والحسن بن أبي الحسن * (أيكم أحسن عملا) *
337

أزهدكم في الدنيا
وقوله تعالى * (ليبلو) * دال على فعل تقديره فينظر أو فيعلم أيكم وقال جماعة من المتأولين الموت والحياة عبارة عن الدنيا والآخرة سمى هذه موتا من حيث إن فيها الموت وسمى تلك الحياة من حيث لا موت فيها فوصفهما بالمصدرين على تقدير حذف المضاف كعدل وزور وقدم * (الموت) * في اللفظ لأنه متقدم في النفس هيبة
وغلظة و * (طباقا) * قال الزجاج هو مصدر وقيل هو جمع طبقة أو جمع طبق مثل رحبة ورحاب أو جمل وجمال والمعنى بعضها فوق بعض وقال أبان بن ثعلب سمعت اعرابيا يذم رجلا فقال (شره طباق خيره غير باق) وما ذكر بعض المفسرين في السماوات من أن بعضها من ذهب وفضة وياقوت ونحو هذا ضعيف كله ولم يثبت بذلك حديث ولا يعلم أحد من البشر حقيقة لهذا
وقوله تعالى * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * معناه من قلة تناسب ومن خروج عن اتقان والأمر المتفاوت هو الذي يجاوز الحدود التي توجب له زيادة أو نقصانا وقرا جمهور القراء (من تفاوت) وقرا حمزة والكسائي وابن مسعود وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش (من تفوت) وهما بمعنى واحد وقال بعض العلماء * (في خلق الرحمن) * يعني به السماوات فقط وهي التي تتضمن اللفظ وإياها أراد بقوله * (هل ترى من فطور) * وإياها أراد بقوله * (ينقلب إليك البصر) * الآية قالوا والا ففي الأرض فطور وقال آخرون * (في خلق الرحمن) * يعني به جميع ما في خلق الله تعالى من الأشياء فإنها لا تفاوت فيها ولا فطور جارية على غير إتقان ومتى كانت فطور لا تفسد الشيء المخلوق من حيث هو ذلك الشيء بل هي إتقان فيه فليست تلك المرادة في الآية وقال منذر بن سعيد امر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها ثم امر بالتكرير في النظر وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر ليرى فيها خللا أو نقصا فإن بصره ينقلب * (خاسئا) * حسيرا ورجع البصر ترديده في الشيء المبصر
وقوله * (كرتين) * معناه مرتين ونصبه على المصدر والخاسىء المبعد بذل عن شيء أراده وحرص عليه ومنه الكلب الخاسىء ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد (اخسأ فلن تعد وقدرك) ومنه قوله تعالى للكفار الحريصين على الخروج من جهنم * (اخسؤوا فيها) * الؤمنون 108 وكذلك هنا البصر يحرص على رؤية فطور أو تفاوت فلا يجد ذلك فينقلب * (خاسئا) * والحسير العيي الكال ومنه قول الشاعر
(لهن الوجا لم كن عونا على النوى
* ولا زال منها طالح وحسير) الطويل
قوله عز وجل
سورة الملك 5 - 9
اخبر تعالى انه زين السماء الدنيا التي تلينا بمصابيح وهي النجوم فإن كانت جميع النجوم في
338

السماء الدنيا فهذا اللفظ عام للكواكب وإن كان في سائر السماوات كواكب فإما ان يريد كواكب سماء الدنيا فقط وإما ان يريد الجميع على أن ما في غيرها لما كانت في تشق عنه ويظهر منها فقد زينت به بوجه ما ومن تكلف القول بمواضع الكواكب وفي أي سماء هي فقوله ليس من الشريعة
وقوله تعالى * (وجعلناها رجوما للشياطين) * معناه وجعلنا منها وهذا كما تقول أكرمت بني فلان وصنعت بهم وأنت إنما فعلت ذلك ببعضهم دون بعض ويوجب هذا التأويل في الآية ان الكواكب الثابتة والبروج وكل ما يهتدى به في البر والبحر فليست براجم وهذا نص في حديث السير وقال قتادة رحمه الله خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوما للشياطين وليهتدى بها في البر والبحر فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة
* (وأعتدنا) * معنا أعددنا والضمير في * (لهم) * عائد على الشياطين وقرا جمهور الناس (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم) بالرفع على الابتداء والخبر في المجرور المتقدم وقرا الحسن في رواية هارون عنه (عذاب) بالنصب على معنى (واعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم) قالوا وعاطفة فعل على فعل وتضمنت هذه الآية ان عذاب جهنم للكافرين المخلدين وقد جاء في الأثر انه يمر على جهنم زمن تخفق أبوابها قد أخلتها الشفاعة فالذي قال في هذا إن * (جهنم) * اسم تختص به الطبقة العليا من النار ثم قد تسمى الطبقات كلها جهنم باسم بعضها وهكذا كما يقال النجم للثريا ثم يقال ذلك للكواكب اسم جنس فالذي في هذه الآية هي جهنم بأسرها أي جميع الطبقات والتي في الأثر هي الطبقة العليا لأنها مقر العصاة والشهيق أقبح ما يكون من صوت الحمار فاحتدام النار وغليانها بصوت مثل ذلك قوله تعالى * (تكاد تميز من الغيظ) * أي يزايل بعضها بعضا لشدة الاضطراب كما قال الشاعر في صفة الكلب المحتدم في جربه
(يكاد ان يخرج عن إهابه
*) الرجز
وقرا الضحاك (تمايز) بألف وقرا طلحة (تتميز) بتاءين وقرا الجمهور (تكاد تميز) بضم الدال وفتح التاء مخففة وقرا البزي (تكاد) بضم الدال وشد التاء انها (تتميز) وأدغم احدى التاءين في الأخرى
وقرا أبو عمرو بن العلاء * (تكاد تميز) * بإدغام الدال في التاء وهذا فيه إدغام الأقوى في الأضعف وقوله تعالى * (من الغيظ) * معناه على الكفرة بالله وقوله تعالى * (كلما ألقي فيها فوج) * الفوج الفريق من الناس ومنه قوله تعالى * (في دين الله أفواجا) * النصر 2 الآية تقتضي انه لا يلقى فيها أحد الا سئل على جهة التوبيخ عن النذر فأقر بأنهم جاؤوا وكذبوهم وقوله * (كلما) * حصر
فإذا الآية تقتضي في الأطفال من أولاد المشركين وغيرهم وفيمن نقدره صاحب فترة انهم لا يدخلون النار لأنهم لم يأتهم نذير واختلف الناس في امر الأطفال فأجمعت الأمة على أن أولاد الأنبياء في الجنة واختلفوا في أولاد المؤمنين فقال الجمهور هم في الجنة وقال قوم هم في المشيئة واختلفوا في أولاد المشركين فقالت فرقة هم في النار واحتجوا بحديث روي من آبائهم وتأول مخالف هذا الحديث انهم في احكام الدنيا وقال هم في المشيئة وقال فريق هم في الجنة واحتج هذا الفريق بهذه الآية في مساءلة
339

الخزنة وبحديث وقع في صحيح البخاري في كتاب التفسير يتضمن أنهم في الجنة
وبقوله عليه السلام (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فالأطفال لم يبلغوا ان يصنع بهم شيء من هذا)
وقوله تعالى * (إن أنتم إلا في ضلال كبير) * يحتمل ان يكون من قول الملائكة للكفار حين أخبروا عن أنفسهم انهم كذبوا النذر ويحتمل ان يكون من كلام الكفار للنذر
قوله عز وجل
سورة الملك 10 - 15
المعنى وقال الكفار للخزنة في محاورتهم * (لو كنا نسمع أو نعقل) * سمعا أو عقلا ينتفع به ويغني شيئا لآمنا ولم نستوجب الخلود في السعير ثم اخبر تعالى محمدا انهم اعترفوا بذنبهم في وقت لا ينفع فيه الاعتراف وقوله تعالى * (فسحقا) * نصب على جهة الدعاء عليهم وجاز ذلك فيه وهو من قبل الله تعالى من حيث هذا القول مستقرا فيهم أزلا ووجوده لم يقع ولا يقع الا في الآخرة فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعي فيه كما تقول سحقا لزيد وبعدا والنصب في هذا كله بإضمار فعل واما ما وقع وثبت فالوجه فيه الرفع كما قال تعالى * (ويل للمطففين) * المطففين 1 و * (سلام عليكم) * الأنعام 54 الأعراف 46 الرعد 24 القصص 55 الزمر 73 وغير هذا من الأمثلة وقرأ الجمهور (فسحقا) بسكون الحاء وقرأ الكسائي (فسحقا) بضم الحاء وهما لغتان ثم وصف تعالى أهل الايمان وهم * (الذين يخشون ربهم) * وقوله تعالى * (بالغيب) * يحتمل معنيين أحدهما * (بالغيب) * الذي أخبروا به من الحشر والصراط والميزان والجنة والنار فآمنوا بذلك وخشوا ربهم فيه ونحا إلى هذا قتادة والمعنى الثاني أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس أي في خلواتهم ومنه تقول العرب فلان سالم الغيب أي لا يضر فالمعنى يعملون بحسب الخشية في صلاتهم وعباداتهم وانفرادهم فالاحتمال الأول مدح بالاخلاص والإيمان والثاني مدح بالأعمال الصالحة في الخلوات وذلك احرى ان يعملوها علانية وقوله تعالى * (وأسروا قولكم أو اجهروا به) * مخاطبة لجميع الخلق
قال ابن عباس سببها ان المشركين قال بعضهم لبعض أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد فالمعنى ان الأمر سواء عند الله لأنه يعلم ما هجس في الصدور دون ان ينطق به فكيف إذا ينطق به سرا أو جهرا و * (ذات الصدور) * ما فيها وهذا كما قال الذئب مغبوط بذي بطنه وقد تقدم تفسيره غير ما مرة
وقوله تعالى * (ألا يعلم من خلق) * اختلف الناس في اعراب " من " فقال بعض النحاة إعرابها رفع كأنه قال ألا يعلم الخالق خلقه فالمفعول على هذا محذوف وقال قوم إعرابها نصب كأنه قال ألا
340

يعلم الله من خلق قال مكي وتعلق أهل الزيغ بهذا التأويل لأنه يعطي ان الذين خلقهم الله هم العباد من حيث قال " من " فتخرج الأعمال عن ذلك لأن المعتزلة تقول العباد يخلقون اعمالهم
قال القاضي أبو محمد وتعلقهم بهذا التأويل ضعيف والكلام مع المعتزلة في مسألة خلق الأعمال ماخذه غير هذا لأن هذه الآية حجة فيها لهم ولا عليهم والذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلول
فهي كركوب وحلوب يقال ذلول بين الذل بضم الذال واختلف المفسرون في معنى المناكب فقال ابن عباس أطرافها وهي الجبال وقال الفراء ومنذر بن سعيد جوانبها وهي النواحي وقال مجاهد هي الطرف والفجاج وهذا قول جار مع اللغة لأنها تنكب يمنة ويسرة وينكب الماشي فيها في مناكب
وهذه الآية تعديد نعم في تقريب التصرف للناس وفي التمتع فقي رزق الله تعالى و * (النشور) * الحياة بعد الموت
قوله عز وجل
سورة الملك 16 - 20
قرا عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر (أأمنتم) بهمزتين مخففتين دون مد وقرا أبو عمرو ونافع (النشور آمنتم) بمد وهمزة وقرا ابن كثير (النشور وامنتم) ببدل الهمزة واوا لكونها بعد ضمة وهو بعد الواو
وقوله تعالى * (من في السماء) * جار على عرف تلقي البشر أوامر الله تعالى ونزول القدر بحوادثه ونعمه ونقمه وآياته من تلك الجهة وعلى ذلك صار رفع الأيدي والوجوه في الدعاء إلى تلك الناحية
وخسف الأرض ان تذهب سفلا و * (تمور) * معناه تذهب وتتموج كما يذهب التراب الموار وكما يذهب الدم الموار
ومنه قول الأعرابي وغادرت التراب مورا والحاصب البرد وما جرى مجراه لأنه في اللغة الريح ترمي بالحصباء ومنه قول الفرزدق
(مستقبلين شمال الريح ترجمهم
* بحاصب كنديف القطن منشور) البسيط
وقرا جمهور السبعة (فستعلمون) بالتاء وقرا الكسائي وحده (فسيعلمون) بالياء وقرا السبعة وغيرهم (نذير) بغير ياء على طريقهم في الفواصل المشبهة بالقوافي وقرا نافع في رواية ورش وحده (نذيري) بالياء على الأصل وكذلك في (نكيري) والنكير مصدر بمعنى الانكار والنذير كذلك
ومنه قول حسان بن ثابت
(فأنذر مثلها نصحا قريشا
* من الرحمن ان قلبت نذيري) الوافر
341

ثم أحال على العبرة في امر * (الطير) * وما احكم من خلقتها وذلك بين عجز الأصنام والأوثان عنه و * (صافات) * جمع صافة وهي التي تبسط جناحيها وتصفهما حتى كأنها ساكنة وقبض الجناح ضمه إلى الجثة ومنه قول أبي خراش
(يحث الجناح بالتبسط والقبض
*) الطويل
وهاتان حالان للطائر يستريح من إحداهما للأخرى
وقوله تعالى * (ويقبضن) * عطف المضارع على اسم الفاعل وذلك جائز كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر
(بات يغشيها بعضب باتر
* يقصد في أسوقها وجائر) الرجز
وقرا طلحة بن مصرف (امن) بتخفيف الميم في هذه وقرا التي بعدها مثقلة كالجماعة والجند أعوان الرجل على مذاهبه وقوله تعالى * (إن الكافرون إلا في غرور) * خطاب لمحمد بعد تقرير قل لهم يا محمد " امن هذا "
قوله عز وجل
سورة الملك 21 - 25
هذا أيضا توقيف على امر لا مدخل للأصنام فيه والإشارة بالرزق إلى المطر لأنه عظم الأرزاق ثم أخبر تعالى عنهم انهم * (لجوا) * وتمادوا في التمنع عن طاعة الله وهو العتو في نفور أي بعد عن الحق بسرعة ومبادرة يقال نفر عن الأمر نفورا والى الأمر نفيرا ونفرت الدابة نفارا
واختلف أهل التأويل في سبب قوله * (أفمن يمشي مكبا) * الآية فقال جماعة من رواة الأسباب نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام وحمزة بن عبد المطلب وقال ابن عباس وابن الكلبي وغيره نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام ومحمد صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك نزلت مثالا للمؤمنين والكافرين على العموم وقال قتادة نزلت مخبرة عن حال القيامة وإن الكفار يمشون فيها على وجوههم والمؤمنون يمشون على استقامة وقيل للنبي كيف يمشي الكافر على وجهه قال (ان الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه)
قال القاضي أبو محمد فوقف الكفار على هاتين الحالتين حينئذ ففي الأقوال الثلاثة الأول المشي مجاز يتخيل وفي القول الرابع هو حقيقة يقع يوم القيامة ويقال أكب الرجل إذا رد وجهه إلى الأرض وكبه غبره قال عليه السلام (وهل يكب الناس في النار الا حصائد ألسنتهم) فهذا الفعل
342

خلاف للباب أفعل لا يتعدى وفعل يتعدى ونظيره قشعت الريح فأقشع و * (أهدي) * في هذه الآية أفعل من الهدى وقرا طلحة (أمن يمشي) بتخفيف الميم وإفراد * (السمع) * لأنه اسم جنس يقع للكثير و * (قليلا) * نصب بفعل مضمر و " ما " مصدرية وهي في موضع رفع وقوله * (قليلا ما تشكرون) * يقتضي ظاهره انهم يشكرون قليلا فهذا إما ان يريد به ما عسى ان يكون للكافر من شكر وهو قليل غير نافع وإما ان يريد جملة فعبر بالقلة كما تقول العرب هذه أرض قل ما تنبت كذا وهي لا تنبته بتة ومن شكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه النعمة انه كان يقول في سجوده (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره) و (ذرأكم) معناه بثكم والحشر المشار اليه هو بعث القيامة واليه أشار بقوله * (هذا الوعد) * فأخبر تعالى انهم يستعجلون امر القيامة ويوقفون على الصدق في الاخبار بذلك
قوله عز وجل
سورة الملك 26 - 30
امر الله تعالى نبيه ان يخبرهم بأن علم القيامة والوعد الصدق هو مما تفرد الله به وان محمدا إنما هو نذير يعلم ما علم ويخبر بما امر ان يخبر به وقوله * (فلما رأوه) * الضمير للعذاب الذي تضمنه الوعد وهذه حكاية حال تأتي المعنى " فإذا راوه " و * (زلفة) * معناه قريبا
قال الحسن عيانا
وقال ابن زيد حاضرا و * (سيئت) * معناه ظهر فيها السوء وقرا جمهور الناس (سيئت) بكسر السين وقرا أبو جعفر الحسن ونافع أيضا وابن كثير وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة بالإشمام بين الضم والكسر وقرا جمهور الناس ونافع بخلاف عنه (تدعون) بفتح الدال وشدها على وزن تفتعلون أي تتداعون امره بينكم وقال الحسن يدعون انه لا جنة ولا نار وقرا أبو رجاء والحسن والضحاك وقتادة وابن يسار وسلام (يدعون) بسكون الدال على معنى يستعجلون كقولهم عجل لنا قطنا وامطر علينا حجارة وغير ذلك وروي في تأويل قوله * (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا) * الآية انهم كانوا يدعون على محمد وأصحابه بالهلاك وقيل بل كانوا يترامون بينهم بان يهلكوه بالقتل ونحوه فقال الله تعالى قل لهم أرأيتم ان كان هذا الذي تريدون بنا وتم ذلك فينا أو أرأيتم ان رحمنا الله فنصرنا ولم يهلكنا من يجيركم من العذاب الذي يوجبه كفركم على كل حال وقرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص وعن عاصم (إن أهلكني الله ومن معي) بنصب الياءين وأسكن الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر الياء في (معي) وقرا حمزة بإسكان الياءين وروي المسيب عن نافع انه أسكن ياء (أهلكني) قال أبو علي التحريك في الياءين حسن وهو الأصل والاسكان كراهية الحركة في حرف اللين يتجانس ذلك وقرأ
343

الكسائي وحده (فسيعلمون) بالياء وقرا الباقون بالتاءعلى المخاطبة ثم وقفهم تعالى على مياههم التي يعيشون منها إن غارت أي ذهبت في الأرض ومن يجيئهم بماء كثير واف والغور مصدر يوصف به على معنى المبالغة ومنه قول الاعرابي وغادرت التراب مورا والماء غورا
والمعين فعيل من معنى الماء إذا كثر أو مفعول من العين أي جار كالعين أصله معيون وقيل هو من العين لكن من حيث يرى بعين الانسان لا من حيث يشبه بالعين الجارية وقال ابن عباس * (معين) * عذب وعنه في كتاب الثعلبي * (معين) * جار وفي كتاب النقاش * (معين) * ظاهر وقال بعض المفسرين وابن الكلبي أشير في هذا الماء إلى بئر زمزم وبئر ميمون ويشبه أن تكون هاتان عظم ماء مكة والا فكانت فيها بئار كثيرة كخم والجفر وغيرهما والله المستعان
344

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القلم
وهي مكية ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل
قوله عز وجل
سورة القلم 1 - 11
* (ن) * حرف مقطع في قول الجمهور من المفسرين فيدخله من الخلاف ما يدخل أوائل السور ويختص هذا الموضع من الأقوال بان قال مجاهد وابن عباس نون اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع فيما يروى
وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك النون اسم للدواة فهذا إما ان يكون لغة لبعض العرب أو تكون لفظة أعجمية عربت
قال الشاعر
(إذا ما الشوق برح بي إليهم
* ألقت النون بالدمع السجوم) الوافر
فمن قال إنه اسم الحوت جعل * (القلم) * الذي خلقه الله تعالى وأمره فكتب الكائنات وجعل الضمير في " يسيطرون " للملائكة ومن قال بان (نون) اسم للدواة جعل * (القلم) * هذا المتعارف بأيدي الناس
نص ذلك ابن عباس وجعل الضمير في * (يسطرون) * للناس فجاء القسم على هذا بمجموع أم الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة فإن القلم أخ اللسان ومطية الفطنة ونعمة من الله عامة
وروى معاوية بن قرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال * (ن) * لوح من نور وقال ابن عباس وغيره هو حرف من حروف الرحمن وقالوا إنه تقطع في القرآن * (الر) * يونس 1 هود 1 يوسف 1 إبراهيم 1 الحجر 1 و * (حم) * غافر 1 فصلت 1 الشورى 1 الزخرف 1 الدخان 1 الجاثية 1 الأحقاف 1 و * (ن) * وقرا عيسى بن عمر بخلاف (نون) بالنصب والمعنى اذكر نون وهذا يقوى مع أن يكون اسما للسورة فهو مؤنث سمي به مؤنث ففيه تأنيث وتعريف ولذلك لم ينصرف وانصرف نوح لأن الخفة بكونه على ثلاثة أحرف غلبت على العجمة وقرا
345

ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن (نون) بكسر النون وهذا كما تقول في القسم بالله
وكما تقول (جبر) وقيل كسرت لاجتماع الساكنين وقرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم (نون) بسكون النون وهذا على أنه حرف منفصل فحقه الوقوف عليه وقرأ قوم منهم الكسائي * (ن والقلم) * بالإدغام دون غنة وقرا آخرون بالإدغام وبغنة وقرا الكسائي ويعقوب عن نافع وأبو بكر عن عاصم بالاخفاء بين الإدغام والاظهار
و * (يسطرون) * معناه يكتبون سطورا فإن أراد الملائكة فهو كتب الأعمال وما يؤمرون به وإن أراد بني آدم فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها وقوله * (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) * هو جواب القسم و " ما " هنا عاملة لها اسم وخبر وكذلك هي حيث دخلت الباء في الخبر وقوله * (بنعمة ربك) * اعتراض كما يقول الانسان أنت بحمد الله فاضل
وسبب هذه الآية ان قريشا رمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون وهو ستر العقول بمعنى ان كلامه خطأ ككلام المجنون فنفى الله تعالى ذلك عنه واخبره بان له الأجر وانه على الخلق العظيم تشريفا له ومدحا
واختلف الناس في معنى * (ممنون) * فقال أكثر المفسرين هو الواهن المنقطع يقال حبل منين أي ضعيف
وقال آخرون معناه * (غير ممنون) * عليك أي لا يكدره من به
وقال مجاهد معناه غير مصرد ولا محسوب محصل أي بغير حساب وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت خلقه القرآن أدبه وأوامره وقال علي رضي الله عنه الخلق العظيم أدب القرآن وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع وذلك لا محالة رأس الخلق ووكيده اما ان الظاهر من الآية ان الخلق هي التي تضاد مقصد الكفار في قولهم مجنون أي غير محصل لما يقول وإنما مدحه تعالى بكرم السجية وبراعة القريحة والملكة الجميلة وجودة الضرائب ومنه قوله عليه السلام (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وقال جنيد سمي خلقه عظيما إذ لم تكن له همة سوى الله تعالى عاشر الخلق بخلقه وزايلهم بقلبه فكان ظاهره مع الخلق
وباطنه مع الحق وفي وصية بعض الحكماء عليك بالخلق مع الخلق وبالصدق مع الحق وحسن الخلق خير كله وقال صلى الله عليه وسلم (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار)
وقال (ما شيء أثقل في الميزان من خلق حسن) وقال (أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقا) والعدل والاحسان والعفو والصلة من الخلق
وقوله تعالى * (فستبصر) * أي أنت وأمتك و * (يبصرون) * أي هم
واختلف الناس في معنى قوله * (بأيكم المفتون) * فقال أبو عثمان المازني الكلام تام في قوله * (يبصرون) * ثم استأنف قوله (بأيكم المفتون) أي ال الأخفش بل الابصار عامل في الجملة المستفهم عنها في معناها واما الباء فقال أبو عبيدة معمر وقتادة هي زائدة والمعنى أيكم المفتون وقال الحسن والضحاك * (المفتون) * بمعنى الفتنة كما قالوا ما له معقول أي عقل وكما قالوا اقبل ميسوره ودع معسوره فالمعنى * (بأيكم) * هي الفتنة والفساد الذي سموه جنونا وقال آخرون * (بأيكم) * فتن * (المفتون) * وقال الأخفش المعنى * (بأيكم) * فتنة * (المفتون) * ثم حذف المضاف وأقيم ما أضيف اليه مقامه وقال مجاهد والفراء الياء بمعنى في أي في أي فريق منكم النوع المفتون
346

قال القاضي أبو محمد وهذا قول حسن قليل التكلف ولا نقول إن حرفا بمعنى حرف بل نقول إن هذا المعنى يتوصل اليه ب (في) وبالباء أيضا وقرا ابن عبلة (في أيكم المفتون)
وقوله تعالى * (إن ربك هو أعلم بمن ضل) * الآية وعيد والعامل في قوله * (بمن ضل) * * (أعلم) * وقد قواه حرف الجر فلا يحتاج إلى اضمار فعل
وقوله تعالى * (فلا تطع المكذبين) * يريد قريشا وذلك انهم قالوا في بعض الأوقات لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو عبدت آلهتنا وعظمتها لعبدنا الهك وعظمناه وودوا ان يداهنهم النبي صلى الله عليه وسلم ويميل إلى ما قالوا فيميلون هم أيضا إلى قوله ودينه والادهان الملاينة فيما لا يحل والمداراة الملاينة فيما يحل وقوله تعالى " فيذهبون " معطوف وليس بجواب لأنه كان ينصب والحلاف المردد لحلفه الذي قد كثر منه والمهين الضعيف الرأي والعقل قاله مجاهد وهو من مهن إذا ضعف
الميم فاء الفعل وقال ابن عباس المهين الكذاب والهماز الذي يقع في الناس وأصل الهمز في اللغة الضرب طعنا باليد أو بالعصا أو نحوه ثم استعير للذي ينال بلسانه قال المنذر بن سعيد وبعينه واشارته وسميت الهمزة لأن في النطق بها حدة وعجلة فأشبهت الهمز باليد
وقيل لبعض العرب اتهمز الفأرة قال الهرة تهمزها وقيل لآخر اتهمز إسرائيل فقال إني إذا لرجل سوء
والنميم مصدر كالنميمة
وهو نقل ما يسمع مما يسوء ويحرش النفوس
وروى حذيفة ان النبي قال (لا يدخل الجنة قتات) وهو النمام وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الأوصاف هي أجناس لم يرد بها رجل بعينه وقالت طائفة بل نزلت في معين واختلف فيه فقال بعضها هو الوليد بن المغيرة ويؤيد ذلك غناه وانه أشهرهم بالمال والبنين وقال الشعبي وغيره هو الأخنس بن شريق ويؤيد ذلك أنه كانت له هنة في حلقه كزنمة الشاة وأيضا فكان من ثقيف ملصقا في قريش وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي هو أبو جهل وذكر النقاش عتبة بن ربيعة وقال مجاهد هو الأسود بن عبد يغوث وظاهر اللفظ عموم من هذه صفته والمخاطبة بهذا المعنى مستمرة باقي الزمن لا سيما لولاة الأمور
قوله عز وجل
سورة القلم 12 - 20
قال كثير من المفسرين الخبر هنا المال فوصفه بالشح وقال آخرون بل هو على عمومه في المال والأفعال الصالحة ومن يمنع ايمانه وطاعته لله تعالى فقد منع الخير والمعتدي المتجاوز لحدود الأشياء
والأثيم فعيل من الإثم بمعنى آثم وذلك من حيث اعماله قبيحة تكسب الإثم والعتل القوي البنية الغليظ الأعضاء المصحح القاسي القلب البعيد الفهم الأكول الشروب الذي هو بالليل جيفة وبالنهار حمار فكل ما عبر به المفسرون عنه من خلال النقص فعن هذه التي ذكرت بصدر وقد ذكر النقاش ان النبي صلى الله عليه وسلم فسر العتل بنحو هذا وهذه الصفات كثيرة التلازم والعتل
347

الدفع بشدة ومنه العتلة وقوله * (بعد ذلك) * معناه بعدما وصفناه به فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف والا فكونه عتلا هو قبل كونه صاحب خير يمنعه والزنيم في كلام العرب الملصق في القوم وليس منهم وقد فسر به ابن عباس هذه الآية وقال مرة الهمداني إنما ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة يعني الذي نزلت فيه هذه الآية ومن ذلك قول حسان بن ثابت
(وأنت زنيم نيط في آل هاشم
* كما نيط خلف الراكب القدح الفرد) الطويل
ومنه قول حسان بن ثابت أيضا
(زنيم تداعاه الرجال زيادة
* كما زيد في عرض الأديم الأكارع) الطويل
فقال كثير من المفسرين هذا هو المراد في الآية
وذلك أن الأخنس بن شريق كان من ثقيف حليفا لقريش وقال ابن عباس أراد ب (الزنيم) ان له زنمة في عنقه كزنمة الشاة وهي الهنة التي تعلق في عنقها وما كنا نعرف المشار اليه حتى نزلت فعرفناه بزنمته
قال أبو عبيدة يقال للتيس زنيم إذ له زنمتان ومنه قول الأعرابي في صفة شاته كأن زنمتيها نتوا قليسية
وروي أن الأخنس بن شريق كان بهذه الصفة كان له زنمة
وروى ابن عباس أنه قال لما نزلت هذه الصفة لم يعرف صاحبها حتى نزلت * (زنيم) * فعرف بزنمته
وقال بعض المفسرين الزنيم المريب القبيح الأفعال
واختلفت القراءة في قوله * (أن كان ذا مال) *
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وحفص عن عاصم وأهل المدينة (ان كان) على الخبر وقرا حمزة (أأن كان) بهمزتين محققتين على الاستفهام وقرا ابن عامر والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وأبو جعفر (ان كان) على الاستفهام بتسهيل الهمزة الثانية والعامل في * (إن كان) * فعل مضمر تقديره كفر أو جحد أو عند وتفسير هذا الفعل قوله * (إذا تتلى عليه) * الآية وجاز ان يعمل المعنى وهو متأخر من حيث كان قوله * (إن كان) * في منزلة الظرف إذ يقدر باللام أي لأن كان وقد قال فيه بعض النحاة إنه في موضع خفض باللام كما لو ظهرت فكما يعمل المعنى في الظرف المتقدم فكذلك يعمل في هذا ومنه قوله تعالى * (ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد) * سبأ 7 فالعامل في * (إذا) * سبأ 7 معنى قوله * (إنكم لفي خلق جديد) * سبأ 7 أي تبعثون ونحوه من التقدير ولا يجوز ان يعمل * (تتلى) * في * (إذا) * لأنه مضاف اليه وقد أضيف * (إذا) * إلى الجملة ولا يجوز ان يعمل في * (أن) * قال لأنها جواب * (إذا) * ولا تعمل فيما قبلها
وأجاز أبو علي ان يعمل فيه * (عتل) * وإن كان قد وصف ويصح على هذا النظر ان يعمل فيه * (زنيم) * لا سيما على قول من يفسره بالقبيح من الأفعال ويصح ان يعمل في * (إن كان) * تطيعه التي يقتضيها قوله * (ولا تطع) * القلم 10 وهذا على قراءة الاستفهام يبعد وإنما يتجه لا تطعه لأجل كونه كذا و * (إن كان) * على كل وجه مفعول من أجله وتأمل
وقد تقدم القول في الأساطير في غير ما موضع
وقوله تعالى * (سنسمه على الخرطوم) * معناه على الأنف قاله المبرد وذلك أن * (الخرطوم) * يستعار في أنف الانسان
وحقيقته في مخاطم السباع ولم يقع التوعد في هذه الآية بان
348

يوسم هذا الانسان على انفه بسمة حقيقة بل هذه عبارة عن فعل يشبه الوسم على الأنف
واختلف الناس في ذلك الفعل فقال ابن عباس هو الضرب بالسيف أي يضرب في وجهه وعلى انفه فيجيء ذلك الوسم على الأنف وحل ذلك به يوم بدر
وقال محمد بن يزيد المبرد ذلك في عذاب الآخرة في جهنم وهو تعذيب بنار على أنوفهم
وقال آخرون ذلك في يوم القيامة أي يوسم على انفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره
وقال قتادة وغيره معناه سنفعل به في الدنيا من الذم له والمقت والاشهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتا بينا وهذا المعنى كما تقول سأطوقك طوق الحمامة أي أثبت لك الأمر بينا فيك ونحو هذا أراد جرير بقوله
(لما وضعت على الفرزدق ميسمي
*) الكامل
وفي الوسم على الأنف تشويه فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدا وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأحدوثة رأيت انهم قد وسموا على الخراطيم
وقوله تعالى * (إنا بلوناهم) * يريد قريشا اي امتحانهم و * (أصحاب الجنة) * فيما ذكر قوم إخوة كان لأبيهم جنة وحرث مغل فكان يمسك منه قوته ويتصدق على المساكين بباقية وقيل بل كان يحمل المساكين معه في وقت حصاده وجذه فيجذيهم منه فمات الشيخ فقال ولده نحن جماعة وفعل أبينا كان خطأ فلنذهب إلى جنتنا ولا يدخلها علينا مسكين ولا نعطي منها شيئا قال فبيتوا أمرهم وعزمهم على هذا فبعث الله عليها بالليل طائفا من نار أو غير ذلك فاحترقت فقيل أصبحت سوداء وقيل بيضاء كالزرع اليابس المحصود فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها فحسبوا انهم قد أخطؤوا الطريق ثم تبينوها فعلموا ان الله تعالى أصابهم فيها فتابوا حينئذ وانابوا وكانوا مؤمنين من أهل الكتاب فشبه الله تعالى قريشا بهم في أنهم امتحنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهداه كما امتحن أولئك بفعل أبيهم وبأوامر شرعهم فكما حل بأولئك العقاب في جنتهم كذلك يحل بهؤلاء في جميع دنياهم وفي حياتهم ثم التوبة معرضة لمن بقي منهم كما تاب أولئك وقال كثير من المفسرين السنون السبع التي أصابت قريشا هي بمثابة ما أصاب أولئك في جنتهم
وقوله تعالى * (ليصرمنها) * أي ليجدنها وصرام النخل جد ثمره وكذلك في كل شجرة و * (مصبحين) * معناه إذا دخلوا في الصباح وقوله تعالى * (ولا يستثنون) * ولا يتوقفون في ذلك أو ولا ينثنون عن رأي منه المساكين وقال مجاهد معناه لا يقولون إن شاء الله بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره والطائف الامر الذي يأتي
بالليل ذكر هذا التخصيص الفراء ويرده قوله تعالى * (إذا مسهم طائف من الشيطان) * الأعراف 201 والصريم قال الفراء ومنذر والجماعة أراد به الليل من حيث اسودت جنتهم
وقال آخرون أراد به الصبح من حيث ابيضت كالحصيد قاله سفيان الثوري والصريم يقال لليل والنهار من حيث كل واحد منهما ينصرم من صاحبه وقال ابن عباس الصريم الرماد الأسود بلغة جذيمة وقال ابن عباس أيضا وغيره الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت فشبه جنتهم بها
349

قوله عز وجل
سورة القلم 21 - 29
* (تنادوا) * معناه دعا بعضهم بعضا إلى المضي لميعادهم وقرا بعض السبعة (ان اغدوا) بضم النون وبعضهم بكسرها وقد تقدم هذا مرارا
وقولهم * (إن كنتم صارمين) * يحتمل ان يكون من صرام النخل ويحتمل ان يريد إن كنتم من أهل عزم واقدام على آرائكم من قولك سيف صارم و * (يتخافتون) * معناه يتكلمون كلاما خفيا ومنه قوله تعالى * (ولا تخافت بها) * الاسراء 110 وكان هذا التخافت خوفا من أن يشعر بهم المساكين وكان لفظهم الذي * (يتخافتون) * به ان لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين
وقرا ابن مسعود وابن أبي عبلة (لا يدخلنها) بسقوط ان وقوله تعالى * (على حرد) * يحتمل ان يريد على منع من قولهم حاردت الإبل إذا قلت ألبانها فمنعتها وحاردت السنة إذا كانت شهباء لا غلة لها ومنه قول الشاعر الكميت
(وحاردت النكد الجلاد فلم يكن
* لعقبة قدر المستعيرين معقب) الطويل
ويحتمل ان يريد بالحرد القصد وبذلك فسر بعض اللغويين وأنشد عليه القرطبي
(أقبل سيل جاء من امر الله
* يحرد حرد الحبة المغله) الرجز
أي يقصد قصدها ويحتمل ان يريد بالحرد الغضب يقال حرد الرجل حردا إذا غضب ومنه قول الأشهب بن رميلة
(أسود شرى لاقت أسودا خفية
* تساقوا على حرد دماء الأساود) الطويل
وقوله تعالى * (قادرين) * يحتمل ان يكون من القدرة أي هم قادرون في زعمهم ويحتمل ان يكون من التقدير كأنهم قد قدروا على المساكين أي ضيقوا عليهم ومنه قوله تعالى * (ومن قدر عليه رزقه) * الطلاق 7 وقوله * (فلما رأوها) * أي محترقة حسبوا انهم قد ضلوا الطريق وانها ليست تلك فلما تحققوها علموا انها أصيبت فقالوا * (بل نحن محرومون) * أي قد حرمنا غلتها وبركتها فقال لهم أعدلهم قولا وخلقا وعقلا وهو الأوسط ومنه قوله تعالى * (أمة وسطا) * البقرة 143 أي عدولا خيارا و * (تسبحون) * قيل هي عبارة عن طاعة الله وتعظيمه والعمل بطاعته
وقال مجاهد وأبو صالح هي كانت لفظة الاستثناء عندهم
قال القاضي أبو محمد وهذا يرد عليه قولهم * (سبحان ربنا) * فبادر القوم عند ذلك وتابوا وسبحوا واعترفوا بظلمهم في اعتقادهم منع الفقراء
350

قوله عز وجل
سورة القلم 30 - 38
* (يتلاومون) * معناه يجعل كل واحد اللوم في حيز صاحبه ويبرئ نفسه ثم اجمعوا على أنهم طغوا أي تعدوا ما يلزم من مواساة المساكين ثم انصرفوا إلى رجاء الله تعالى وانتظار الفرج من لدنه في أن يبدلهم بسبب توبتهم خيرا من تلك الجنة وقرا (يبدلنا) بسكون الباء وتخفيف الدال جمهور القراء والحسن وابن محيصن والأعمش وقرا نافع وأبو عمرو بالتثقيل وفتح الباء وقوله تعالى * (كذلك العذاب) * ابتداء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر قريش والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة أي ذلك العذاب هو العذاب الذي ينزل بقريش بغتة ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا وقال كثير من المفسرين العذاب النازل بقريش المماثل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين حتى رأوا الدخان واكلوا الجلود ثم اخبر تعالى * (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم) * فروي انه لما نزلت هذه قالت قريش إن كانت ثم جنات نعيم فلنا فيها أكبر الحظ فنزلت * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) * وهذا على جهة التوقيف والتوبيخ
وقوله تعالى * (ما لكم) * توبيخ آخر ابتداء وخبر جملة منحازة وقوله تعالى * (كيف تحكمون) * جملة منحازة كذلك و * (كيف) * في موضع نصب ب * (تحكمون) * وقوله تعالى * (أم) * هي المقدرة ببل وألف الاستفهام و * (كتاب) * معناه منزل من عند الله وقوله تعالى * (إن لكم فيه لما تخيرون) * قال بعض المتأولين هذا استئناف قول على معنى إن كان لكم كتاب فلكم فيه متخير وقال آخرون * (أن) * معمولة ل * (تدرسون) * أي تدرسون في الكتاب إن لكم ما تختارون من النعيم وكسرت الألف من * (أن) * لدخول اللام في الخبر وهي في معنى (ان) بفتح الألف
وقرا طلحة والضحاك (ان لكم) بفتح الألف وقرا الأعرج (أأن لكم فيه) على الاستفهام
قوله عز وجل
سورة القلم 39 - 45
قوله تعالى * (أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة) * مخاطبة للكفار كأنه يقول هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده وقرا جمهور الناس بالرفع على الصفة لأيمان
351

وقرا الحسن بن أبي الحسن (بالغة) بالنصب على الحال وهي حال من النكرة لأنها نكرة مخصصة بقوله * (علينا) * وقرا الأعرج (أإن لكم لما تحكمون) وكذلك في التي تقدمت في قوله (أإن لكم فيه لما تخيرون) ثم امر تعالى نبيه محمدا على وجه إقامة الحجة ان يسألهم عن الزعيم لهم بذلك من هو والزعيم الضامن للأمر والقائم به ثم وقفهم على امر الشركاء عسى ان يظنوا انهم ينفعونهم في شيء من هذا
وقرا ابن أبي عبلة وابن مسعود (أم لهم شركاء فليأتوا بشركهم) بكسر الشين دون ألف والمراد بذلك على القراءتين الأصنام وقوله تعالى * (فليأتوا بشركائهم) * قيل هو استدعاء وتوقيف في الدنيا أي ليحضروهم حتى يرى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا وقيل هو استدعاء وتوقيف على أن يأتوا بهم يوم القيامة * (يوم يكشف عن ساق) *
وقوله تعالى * (يوم يكشف عن ساق) * قال مجاهد هي أول ساعة من يوم القيامة وهي أفظعها وتظاهر حديث من النبي صلى الله عليه وسلم (أنه ينادي مناد يوم القيامة ليتبع كل أحد ما كان يعبد) قال (فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر وكذلك كل عابد لكل معبود ثم تبقى هذه الأمة وغبرات أهل الكتاب معهم منافقوهم وكثير من الكفرة فيقال لهم ما شانكم لم تقفون وقد ذهب الناس فيقولون ننتظر ربنا فيجيئهم الله تعالى في غير الصورة التي عرفوه بها فيقول انا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك قال فيقول اتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون نعم فيكشف لهم عن ساق فيقولون نعم أنت ربنا ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا فلا يستطيعون سجودا)
قال القاضي أبو محمد هكذا هو الحديث وإن اختلفت منه ألفاظ بزيادة ونقصان وعلى كل وجه فما ذكر من كشف الساق وما في الآية أيضا من ذلك فإنما هو عبارة عن شدة الهول وعظم القدرة التي يرى الله تعالى ذلك اليوم حتى يقع العلم ان تلك القدرة إنما هي لله تعالى وحده ومن هذا المعنى قول الشاعر في صفة الحرب جد طرفة
(كشفت لهم عن ساقها
* وبدا عن الشر البواح) مجزوء الكامل
ومنه قول الراجز
(وشمرت عن ساقها فشدوا
*) الرجز
وقول الآخر
(في سنة قد كشفت عن ساقها
* حمراء تبري اللحم عن عراقها) الرجز
وأصل ذلك أنه من أراد الجد في امر يحاوله فإنه يكشفه عن ساقه تشميرا وجدا وقد مدح الشعراء بهذا المعنى فمنه قول دريد
(كميش الإزار خارج نصف ساقه
* صبور على الضراء طلاع انجد) الطويل
وعلى هذا من إرادة الجد والتشمير في طاعة الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم (أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه) وقرا جمهرو الناس (يكشف عن ساق) بضم الياء على بناء الفعل للمفعول وقرا ابن
352

مسعود (يكشف) بفتح الياء وكسر الشين على معنى يكشف الله وقرا ابن عباس (تكشف) بضم التاء على معنى تكشف القيامة والشدة والحال الحاضرة وقرا ابن عباس أيضا (تكشف) بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة وحكى الأخفش عنه انه قرا (نكشف) بالنون مفتوحة وكسر الشين ورويت عن ابن مسعود
وقوله تعالى * (ويدعون) * ظاهره ان ثم دعاء إلى السجود وهذا يرده ما قد تقرر في الشرع من أن الآخرة ليست بدار عمل وانها لا تكليف فيها فإذا كان هذا فإنما الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين فيريدون هم ان يسجدوا عند ذلك فلا يستطيعونه
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم يدعون إلى السجود على جهة التوبيخ وخرج بعض الناس من قوله * (فلا يستطيعون) * انهم كانوا يستطيعونه قبل ذلك وذلك غير لازم
وعقيدة الأشعري ان الاستطاعة إنما تكون مع التلبس بالفعل لما قبله وهذا القدر كاف من هذه المسألة ها هنا
و * (خاشعة) * نصب على الحال وجوارحهم كلها خاشعة أي ذليلة ولكنه خص الأبصار بالذكر لأن الخشوع فيها أبين منه في كل جارحة
وقوله تعالى * (ترهقهم ذلة) * أي تزعج نفوسهم وتظهر عليهم ظهورا يخزيهم وقوله تعالى * (وقد كانوا يدعون إلى السجود) * يريد في دار الدنيا وهم سالمون مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو وقال بعض المتأولين * (السجود) * هنا عبارة عن جميع الطاعات وخص * (السجود) * بالذكر من حيث هو عظم الطاعات
ومن حيث به وقع امتحانهم في الآخرة وقال إبراهيم التيمي والشعبي أراد ب * (السجود) * الصلوات المكتوبة وقال ابن جبير المعنى كانوا يسمعون النداء للصلاة وحي على الفلاح فلا يجيبون وفلج الربيع بن خيثم فكان يهادي بين رجلين إلى المسجد فقيل له إنك لمعذور فقال من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوا وقيل لابن المسيب إن طارقا يريد قتلك فاجلس في بيتك فقال أسمع حي على الفلاح فلا أجيب والله لا فعلت وهذا كله قريب بعضه من بعض وقوله تعالى * (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث) * وعيد ولم يكن ثم مانع ولكنه كما تقول دعني مع فلان أي سأعاقبه * (ومن) * في موضع نصب عطفا على الضمير في * (ذرني) * أو نصبا على المفعول معه و * (الحديث) * المشار إليه هو القرآن المخبر بهذه الغيوب والاستدراج هو الحمل من رتبة إلى رتبة حتى يصير المحمول إلى شر وإنما يستعمل الاستدراج في الشر وهو مأخوذ من الدرج قال سفيان الثوري نسبغ عليهم النعم ويمنعون الشكر وقال غيره كلما زادوا ذنبا زادوا نعمة وفي معنى الاستدراج قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) وقال الحسن كم من مستدرج بالإحسان اليه ومغرور بالستر عليه
* (وأملي لهم) * معناه أؤخرهم ملاوة من الزمن وهي البرهة والقطعة يقال ملاوة بضم الميم وبفتحها وبكسرها والكيد عبارة عن العقوبة التي تحل بالكفار من حيث هي على كيد منهم فسمى العقوبة باسم الذنب والمتين القوي الذي له متانة ومنه المتن الظهر
353

قوله عز وجل
سورة القلم 46 - 52
هذه * (أم) * التي تتضمن الإضراب عن الكلام الأول لا على جهة الرفض له لكن على جهة الترك والإقبال على سواه وهذا التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد به توبيخ الكفار لأنه لو سألهم أجرا فأثقلهم غرم ذلك لكان لهم بعض العذر في اعراضهم وقرارهم وقوله تعالى * (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) * معناه هل لهم علم بما يكون فيدعون مع ذلك ان الأمر على اختيارهم جار ثم امر تعالى نبيه بالصبر لحكمه وان يمضي لما امر به من التبليغ واحتمال الأذى والمشقة ونهى عن الضجر والعجلة التي وقع فيها يونس عليه السلام ثم اقتضبت القصة وذكر ما وقع في آخرها من ندائه من بطن الحوت * (وهو مكظوم) * أي غيظه في صدره
وحقيقة الكظم هو الغيظ والحزن والندم فحمل المكظوم عليه تجوزا وهو في الحقيقة كاظم ونحو هذا قول ذي الرمة
(وأنت من حب مني مضمر حزنا
* عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم) البسيط
وقال النقاش المكظوم الذي أخذ بكظمه وهو مجاري القلب ومنه سميت الكاظمة وهي القناة في جوف الأرض وقرا جمهور الناس (لولا أن تداركه) أسند الفعل دون علامة تأنيث لأن تأنيث النعمة غير حقيقي وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس (تداركته) على إظهار العلامة وقرا ابن هرمز والحسن (تداركه) بشد الدال على معنى تتداركه وهي حكاية حال تام فلذلك جاء الفعل مستقبلا بمعنى * (لولا أن) * يقال فيه تتداركه نعمة من ربه ونحوه قوله تعالى * (فوجد فيها رجلين يقتتلان) * فهذا وجه القراءة ثم أدغمت التاء في الدال والنعمة هي الصفح والتوب والاجتباء الذي سبق له عنده والعراء الأرض الواسعة التي ليس فيها شيء يوارى من بناء ولا نبات ولا غيره من جبل ونحوه ومنه قول الشاعر أبو الخراش الهذلي
(رفعت رجلا لا أخاف عثارها
* ونبذت بالأرض العراء ثيابي) الكامل
وقد نبذ يونس عليه السلام * (بالعراء) * ولكن غير مذموم و " واجتباه " معناه اختاره واصطفاه
ثم أخبر تعالى نبيه بحال نظر الكفار إليهم وانهم يكادون من الغيظ والعداوة يزلقونه فيذهبون قدمه من مكانها ويسقطونه
وقرا جمهور القراء (يزلقونك) بضم الياء من أزلق وقرا نافع وحده (يزلقونك) بفتح الياء من زلقت الرجل يقال زلق الرجل بكسر اللام وزلقته بفتحها مثل حزن وحزنته وشترت العين بكسر التاء وشترتها وفي مصحف عبد الله بن مسعود (ليزهقونك) بالهاء وروى النخعي ان في قراءة ابن مسعود (لينفدونك) وفي هذا المعنى الذي في نظرهم من الغيظ والعداوة قول الشاعر
(يتقارضون إذا التقوا في مجلس
* نظرا يزيل مواطىء الأقدام) الكامل
وذهب قوم من المفسرين إلى أن المعنى يأخذونك بالعين وذكر ان الدفع بالعين كان في بني
354

أسد قال ابن الكلبي كان رجل يتجوع ثلاثة أيام لا يتكلم على شيء الا أصابه بالعين فسأله الكفار ان يصيب النبي عليه السلام فأجابهم إلى ذلك ولكن عصم الله تعالى نبيه قال الزجاج كانت العرب إذا أراد أحدهم ان يعتان شيئا تجوع ثلاثة أيام وقال الحسن دواء من أصابه العين ان يقرا هذه الآية و * (الذكر) * في الآية القرآن ثم قرر تعالى ان هذا القرآن العزيز * (ذكر للعالمين) * من الجن والإنس ووعظ لهم وحجة عليهم فالحمد لله الذي أنعم علينا به وجعلنا أهله وحماته لا رب غيره
نجز تفسير سورة (ن والقلم) بحمد الله تعالى وعونه وصلى الله على محمد وعلى أله وسلم
355

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحاقة
وهي مكية بالإجماع وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال خرجت يوما بمكة متعرضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته قد سبقني للمسجد الحرام فجئت فوقفت وراءه فافتتح سورة الحاقة فلما سمعت سرد القرآن قلت في نفسي إنه لشاعر كما تقول قريش حتى بلغ إلى قوله * (إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين) * الحاقة 40 - 41 - 42 - 43
ثم مر حتى انتهى إلى آخر السورة فأدخل الله تعالى في قلبي الإسلام
قوله عز وجل
سورة الحاقة 1 - 8
* (الحاقة) * اسم فاعل من حق الشيء يحق إذا كان صحيح الوجود ومنه * (حقت كلمة العذاب) * الزمر 71 والمراد به القيامة والبعث قاله ابن عباس وقتادة لأنها حقت لكل عامل عمله
وقال بعض المفسرين * (الحاقة) * مصدر كالعاقبة والعافية فكأنه قال ذات الحق
وقال ابن عباس وغيره سميت القيامة حاقة لأنها تبدي حقائق الأشياء واللفظة رفع بالابتداء و " ما " رفع بالابتداء أيضا و * (الحاقة) * الثانية خبر " ما " والجملة خبر الأول وهذا كما تقول زيد ما زيد على معنى التعظيم له والابهام في التعظيم أيضا ليتخيل السامع أقصى جهده
وقوله تعالى * (وما أدراك ما الحاقة) * مبالغة في هذا المعنى أي ان فيها ما لم تدره من أهوالها وتفصيل صفاتها * (وما) * تقرير وتوبيخ
وقوله تعالى * (ما الحاقة) * ابتداء وخبر في موضع نصب ب * (أدراك) * و " ما " الأولى ابتداء وخبرها * (أدراك ما الحاقة) * وفي * (أدراك) * ضمير عائد على " ما " هو ضمير الفاعل
ثم ذكر تعالى تكذيب * (ثمود وعاد) * بهذا الأمر الذي هو حق مشيرا إلى أن من كذب بذلك ينزل عليه مثل ما نزل بأولئك
و * (القارعة) * من أسماء القيامة أيضا لأنها تقرع القلوب بصدمتها و * (ثمود) * اسم عربي معرفة فإذا أريد به القبيلة لم ينصرف وإذا أريد به الحي انصرف وأما * (عاد) * فكونه على ثلاثة أحرف ساكن الوسط دفع في صدر كل علة فهو مصروف
و * (الطاغية) * قال قتادة معناه الصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة وقال قوم المراد
356

بسبب الفئة الطاغية وقال آخرون منهم مجاهد وابن زيد المعنى بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها
وقال ابن زيد ما معناه * (الطاغية) * مصدر كالعاقبة فكأنه قال بطغيانهم وقاله أبو عبيدة ويقوى هذا * (كذبت ثمود بطغواها) * الشمس 11 وأولى الأقوال وأصوبها الأول لأنه مناسب لما ذكر في عاد إذ ذكر فيها الوجه الذي وقع به الهلاك وعلى سائر الأقوال لا يتناسب الأمران لأن طغيان ثمود سبب والريح لا يناسب ذلك لأنها ليست سبب الإهلاك بل هي آلة كما في الصيحة و (الصرصر) يحتمل ان يكون من الصر أي البرد وهو قول قتادة ويحتمل ان يكون من صر الشيء إذا صوت فقال قوم صوت الريح * (صرصر) * كأنه يحكي هذين الحرفين
و (العاتية) معناه الشديدة المخالفة فكانت الريح عتت على الخزان بخلافها وعتت على قوم عاد بشدتها
وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس انهما قالا إنه لم ينزل من السماء قطرة ماء الا بمكيال على يد ملك ولا هبت ريح الا كذلك الا ما كان من طوفان نوح وريح عاد فإن الله أذن لهما في الخروج دون إذن الخزان
والتسخير استعمال الشيء باقتدار عليه
وروي أن الريح بدأت بهم صبح يوم الأربعاء لثمان بقين لشوال وتمادت بهم إلى آخر يوم الأربعاء تكملة الشهر
و * (حسوما) * قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وأبو عبيدة معناه كاملة تباعا لم يتخللها غير ذلك وهذا كما تقول العرب ما لقيته حولا محرما قال الشاعر طفيل الغنوي
(عوازب لم تسمع نبوح قامة
* ولم تر نارا ثم حول محرم) الطويل
وقال الخليل * (حسوما) * أي شؤما ونحسا وقال ابن زيد * (حسوما) * جمع حاسم كجالس وقاعد ومعناه ان تلك الأيتام قطعتهم بالإهلاك ومنه حسم العلل ومنه الحسام
والضمير في قوله * (فيها صرعى) * يحتمل ان يعود على دارهم وحلتهم لأن معنى الكلام يقتضيها وإن لم يلفظ بها
قال الثعلبي وقيل يعود على الريح وقد تقدم القول في التشبيه ب (أعجاز النخل) في سورة (اقتربت الساعة)
والخاوية الساقطة التي قد خلت أعجازها بلى وفسادا
ثم وقف تعالى على امرهم توقيف اعتبار ووعظ بقوله * (هل ترى لهم من باقية) * اختلف المتأولون في * (باقية) * فقال قوم منهم ابن الأنباري هي هاء مبالغة كعلامة ونسابة والمعنى من باق
وقال ابن الأنباري أيضا معناه من فئة باقية وقال آخرون * (باقية) * مصدر فالمعنى من بقاء
قوله عز وجل
سورة الحاقة 9 - 17
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن والناس (من قبله)
357

بفتح القاف وسكون الباء أي الأمم الكافرة التي كانت قبله ويؤيد ذلك ذكره قصة نوح في طغيان الماء لأن قوله * (من قبله) * قد تضمنه فحسن اقتضاب أمرهم بعد ذلك دون تصريح
وقال أبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبان والحسن بخلاف عنه وأبو رجاء والجحدري وطلحة (ومن قبله) بكسر القاف وفتح الباء أي اجناده وأهل طاعته ويؤيد ذلك ان في مصحف أبي بن كعب (وجاء فرعون ومن معه) وفي حرف أبي موسى (ومن تلقاءه)
وقرا طلحة بن مصرف (ومن حوله) وقبل الانسان ما يليه في المكان وكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة عندي وفي ذمتي وما يليني بأي وجه وليني و " المؤتفكات " قرى قوم لوط وكانت أربعا فيما روي وائتفكت قلبت وصرفت عاليها سافلها فائتفكت هي فهي مؤتفكة وقرا الحسن هنا (والمؤتفكة) على الافراد و * (الخاطئة) * إما أن تكون صفة لمحذوف كأنه قال بالفعل الخاطئة وإما ان يريد المصدر أي بالخطأ في كفرهم وعصيانهم وقوله تعالى * (فعصوا رسول ربهم) * يحتمل ان يكون الرسول اسم جنس كأنه قال فعصا هؤلاء الأقوام والفرق أنبياء الله الذين أرسلهم إليهم ويحتمل ان يكون الرسول بمعنى الرسالة وقال الكلبي يعني موسى وقال غيره في كتاب الثعلبي يعني لوطا والرابية النامية التي قد عظمت جدا ومنه ربا المال ومنه الربا ومنه اهتزت وربت
ثم عدد تعالى على الناس نعمته في قوله " إنا لما طغا الماء " الآية والمراد " طغا الماء " في وقت الطوفان الذي كان على قوم نوح
والطغيان الزيادة على الحدود المتعارفة في الأشياء ومعناه طغا على خزانه في خروجه وعلى البشر في أن اغرقهم قال قتادة علا على كل شيء خمسة عشر ذراعا و * (الجارية) * السفينة والضمير في * (لنجعلها) * عائد على الفعلة أي من يذكرها ازدجر ويحتمل ان يعود على * (الجارية) * أي من سمعها اعتبر
و * (الجارية) * يراد بها سفينة نوح قاله منذر وقال المهدوي المعنى في السفن الجارية وقال قتادة أبقى الله تعالى تلك السفينة حتى رأى بعض عيدانها أوائل هذه الأمة وغيرها من السفن التي صنعت بعدها قد صارت رمودا
وقوله تعالى * (وتعيها أذن واعية) * عبارة عن الرجل الفهم المنور القلب الذي يسمع القول فيتلقاه بفهم وتدبر
قال أبو عمران الجوني * (واعية) * عقلت عن الله عز وجل
ويروى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه (إني دعوت الله تعالى ان يجعلها أذنك يا علي)
قال علي فما سمعت بعد ذلك شيئا فنسيته
وقرأ الجمهور (تعيها) بكسر العين على وزن تليها
وقرأ ابن كثير في رواية الحلواني وقنبل وابن مصرف (وتعيها) بسكون العين جعل التاء التي هي علامة في المضارع بمنزلة الكاف من كتف إذ حرف المضارع لا يفارق الفعل فسكن تخفيفا كما يقال كتف ونحو هذا قول الشاعر
(قالت سليمى اشتر لنا سويقا
*)
على أن هذا البيت منفصل فهو أبعد لكن ضرورة الشعر تسامح به ثم ذكر تعالى امر القيامة و * (الصور) * القرن الذي ينفخ فيه قال سليمان بن أرقم بلغني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن * (الصور) * فقال (هو قرن من نور فمه أوسع من السماوات) والنفخة المشار إليها في هذه الآية نفخة القيامة التي للفزع ومعها يكون الصعق ثم نفخة البعث وقيل هي نفخات ثلاثة نفخة الفزع ونفخة الصعق ثم نفخة البعث والإشارة بآياتنا هذه إلى نفخة الفزع لأن حمل الجبال هو بعدها
وقرأ
358

الجمهور (نفخة) بالرفع لما نعت صح رفعه وقرا أبو السمال (نفخة واحدة) بالنصب
وقرا الجمهور القراء (وحملت) بتخفيف الميم بمعنى حملتها الرياح والقدرة وقرا ابن عباس فيما روي عنه (وحملت) بشد الميم وذلك يحتمل معنيين أحدهما انها حاملة حملت قدرة وعنفا وشدة نفثها فهي محملة حاملة
والآخر ان يكون محمولة حملت ملائكة أو قدرة
وقوله تعالى * (فدكتا) * وقد ذكر جمعا ساغ ذلك لأن المذكور فرقتان وهذا كما قال الشاعر القطامي
(ألم يحزنك ان حبال قومي
* وقومك قد تباينتا انقطاعا) الوافر
ومنه قوله تعالى * (كانتا رتقا) * الأنبياء 30 و * (دكتا) * معناه سوى جميعها كما يقال ناقة دكا إذا ضعفت فاستوت حدبتها مع ظهرها و * (الواقعة) * القيامة
والطامة الكبرى وقال بعض الناس هي إشارة إلى صخرة بيت المقدس وهذا ضعيف وانشقاق السماء هو تفطيرها وتمييز بعضها عن بعض وذلك هو الوهي الذي ينالها كما يقال في الجدارات البالية المتشققة واهية * (والملك) * اسم الجنس يريد به الملائكة وقال جمهور المفسرين الضمير في * (أرجائها) * عائد على * (السماء) * أي الملائكة على نواحيها وما لم يه منها والرجا الجانب من الحائط والبئر ونحوه ومنه قول الشاعر المرادي
(كأن لم تري قبلي أسيرا مقيدا
* ولا رجلا يرعى به الرجوان) الطويل
أي يقلى في بئر فهو لا يجد ما يتمسك به
وقال الضحاك أيضا وابن جبير الضمير في * (أرجائها) * عائد على الأرض وإن كان لم يتقدم لها ذكر قريب لأن القصة واللفظ يقتضي إفهام ذلك وفسر هذه الآية بما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة سماء الدنيا فيقفون صفا على حافات الأرض ثم يأمر ملائكة السماء الثانية فيصفون خلفهم ثم كذلك ملائكة كل سماء فكلما فر أحد من الجن والإنس وجد الأرض قد أحيط بها قالوا فهذا تفسير هذه الآيات وهو أيضا معنى قوله تعالى * (وجاء ربك والملك صفا صفا) * الفجر 22 وهو أيضا تفسير قوله * (يوم التناد يوم تولون مدبرين) * غافر 32 - 33 على قراءة من شد الدال وهو تفسير قوله * (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا) * الرحمن 33 واختلف الناس في الثمانية الحاملين للعرش فقال ابن عباس هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحد عدتهم
وقال ابن زيد هم ثمانية املاك على هيئة الوعول وقال جماعة من المفسرين هم على هيئة الناس أرجلهم تحت الأرض السفلى ورؤوسهم وكواهلهم فوق السماء السابعة
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة قواهم الله بأربعة سواهم)
والضمير في قوله * (فوقهم) * للملائكة الحملة وقيل للعالم كله وكل قدرة كيفما تصورت فإنما هي بحول الله وقوته
359

قوله عز وجل
سورة الحاقة 18 - 29
الخطاب في قوله تعالى * (تعرضون) * لجميع العالم وروي عن أبي موسى الأشعري وابن مسعود ان في القيامة عرضتين فيهما معاذير وتوقيف وخصومات وجدال ثم تكون عرضة ثالثة تتطابر فيها الصحف بالأيمان والشمائل
وقرا حمزة والكسائي (لا يخفى) بالياء وهي قراءة علي بن أبي طالب وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى وقرا الباقون بالتاء على مراعاة تأنيث * (خافية) * وهي قراءة الجمهور وقوله تعالى * (خافية) * معناه ضمير ولا معتقد والذين يعطون كتبهم بأيمانهم هم المخلدون في الجنة أهل الأيمان
واختلف العلماء في الفرقة التي ينفذ فيها الوعيد من أهل المعاصي متى تأخذ كتبها فقال بعضهم الأظهر انها تأخذها مع الناس وذلك يؤنسها مدة العذاب قال الحسن فإذا أعطى كتابه بيمينه لم يقرأه حتى يأذن الله تعالى له فإذا أذن له قال * (هاؤم اقرؤوا كتابيه) * وقال آخرون الأظهر أنه إذا اخرجوا من النار والإيمان يؤنسهم وقت العذاب
قال القاضي أبو محمد وهذا ظاهر هذه الآية لأن من يسير إلى النار فكيف يقول * (هاؤم اقرؤوا كتابيه) * واما قوله \ * (هاؤم) * فقال قوم أصله هاوموا ثم نقله التخفيف والاستعمال وقرأ آخرون هذه الميم ضمير الجماعة وفي هذا كله نظر
والمعنى على كل تعالوا فهو استدعاء إلى الفعل المأمور به وقوله تعالى * (اقرؤوا كتابيه) * هو استبشار وسرور وقوله * (ظننت) * الآية عبارة عن إيمانه بالبعث وغيره قال قتادة ظن هذا ظنا يقينا فنفعه وقوم ظنوا ظن الشك فشقوا به و * (ظننت) * هنا واقعة موقع تيقنت وهي في متيقن لم يقع بعد ولا خرج إلى الحس وهذا هو باب الظن الذي يوقع موقع اليقين وقرا بعض القراء (كتابيه) و (حسابيه) و (ماليه) و (سلطانيه) بالهاء في الوصل والوقف اقتداء بخط المصحف وهي في الوصل بينة الوقوف لأنها هاء السكت فلا معنى لها في الوصل وطرح الهاءات في الوصل لا في الوقف الأعمش وابن أبي إسحاق قال أبو حاتم قراءتنا إثبات في الوقف وطرح في الوصل وبذلك قرأ ابن محيصن وسلام وقال الزهراوي في إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عنه أحد علمته و * (راضية) * معناه ذات رضى فهو بمعنى مرضية وليست بناء اسم فاعل و " عالية " معناه في المكان والقدر وجميع وجوه العلو و (القطوف) جمع قطف وهو يجتنى من الثمار ويقطف ودنوها هو انها تأتي طوع المتمنى فياكلها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها و * (أسلفتم) * معناه قدمتم و * (الأيام) * هي أيام الدنيا لأنها في الآخرة قد خلت وذهبت
وقال وكيع وابن جبير وعبد العزيز بن رفيع المراد * (بما أسلفتم) * من الصوم وعمومها في كل الأعمال أولى وأحسن والذين يؤتون كتابهم بشمائلهم هم المخلدون في النار أهل الكفر فيتمنون ان لو كانوا معدومين لا يجري عليهم شيء وقوله تعالى * (يا ليتها كانت القاضية) * إشارة إلى موتة الدنيا أي ليتها لم يكن بعدها رجوع ولا حياة وقوله تعالى * (ما أغنى) * يحتمل ان يريد الاستفهام على معنى التقرير لنفسه والتوبيخ ويحتمل ان يريد النفي المحض و (السلطان) في الآية الحجة على قول عكرمة ومجاهد قال بعضهم ونحا اليه ابن زيد ينطق بذلك ملوك الدنيا الكفرة والظاهرة
360

عندي ان سلطان كل أحد حاله في الدنيا من عدد وعدد ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته الا بإذنه)
قوله عز وجل
سورة الحاقة 30 - 40
المعنى يقول الله تعالى أو الملك بأمره للزبانية خذوه واجعلوا على عنقه غلا قال ابن جرير نزلت في أبي جهل و * (ذرعها) * معناه مبلغ أذرع كيلها وقد جعل الله
تعالى السبعمائة والسبعين والسبعة مواقف ونهايات لأشياء عظام فذلك مشي البشر العرب وغيرهم على أن يجعلوها نهايات وهذه السلسلة من الأشياء التي جعل فيها السبعين نهاية
وقرا السدي (ذرعها سبعين) بالياء وهذا على حذف خبر الابتداء واختلف الناس في قدر هذا الذرع فقال محمد بن المنكدر وابن جرير وابن عباس هو بذراع الملك وقال نوف البكالي وغيره الذراع السبعون باعا في كل باع كما بين الكوفة ومكة وهذا يحتاج إلى سند وقال حذاق من المفسرين هي بالذراع المعروفة هنا وإنما خوطبنا بما نعرفه ونحصله وقال الحسن الله اعلم بأي ذراع هي وقال السويد بن نجيح في كتاب الثعلبي إن جميع أهل النار في تلك السلسلة وقال ابن عباس لو وضع حلقة منها على جبل لذاب كالرصاص وقوله تعالى * (فاسلكوه) * معناه أدخلوه ومنه قول أبي وجزة السعدي يصف حمر وحش
(حتى سلكن الشوى منهن في مسك
* من نسل جوابه الآفاق مهداج) البسيط
وروي ان هذه السلسلة تدخل في فم الكافر وتخرج من دبره فهي في الحقيقة التي سلك فيها لكن الكلام جرى مجرى قولهم أدخلت فمي في الحجر والقلنسوة في رأسي وروي ان هذه السلسلة تلوى حول الكافر حتى تغمه وتضغطه فالكلام على هذا على وجهه وهو المسلوك وقوله تعالى * (ولا يحض على طعام المسكين) * المراد به * (ولا يحض على) * إطعام * (طعام المسكين) * وأضاف (الطعام) إلى * (المسكين) * من حيث له اليه نسبة ما وخصت هذه الخلة من خلال الكافر بالذكر لأنها من أضر الخلال في البشر إذا كثرت في قوم هلك مساكنهم واختلف المتأولون في قوله * (حميم) * فقال جمهور من المفسرين هو الصديق اللطيف المودة فنفى الله تعالى ان يكون للكافر هنالك من يواليه ونفى ان يكون له طعام * (إلا من غسلين) * وقال محمد بن المستنير (الحميم) الماء السخن فكأنه تعالى اخبر ان الكافر ليس له ماء ولا شيء مائع * (ولا طعام إلا من غسلين) * و (الغسلين) فيما قاله اللغويون ما يجري من الجراح إذا غسلت وقال ابن عباس هو صديد أهل النار
وقال قتادة وابن زيد الغسلين والزقوم أخبث شيء وأبشعه وقال الضحاك والربيع هو شجر يأكله أهل النار وقال بعض المفسرين هو شيء من ضريع
361

النار لأن الله تعالى قد أخبر انهم ليس لهم طعام * (إلا من غسلين) * وقال في أخرى * (من ضريع) * الغاشية 6 فهما شيء واحد أو اثنان متداخلان ويحتمل ان يكون الإخبار هنا عن طائفة وهناك عن طائفة ويكون الغسلين والضريع متباينين على ما يفهم منهما في لسان العرب وخبر ليس في به قال المهدوي ولا يصح ان يكون ها هنا
قال القاضي أبو محمد وقد يصح ان يكون هنا ذلك إن شاء الله والخاطىء الذي يفعل ضد الصواب متعمدا والمخطىء الذي يفعله غير متعمد وقرا الحسن والزهري (الخاطيون) بالياء دون همز وقرا طلحة وأبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنه (الخاطون) بضم الطاء دون همز وقوله تعالى * (فلا أقسم) * قال بعض النحاة (لا) زائدة والمعنى فأقسم وقال آخرون منهم (لا) رد لما تقدم من أقوال الكفار والبداءة * (أقسم) * وقرا الحسن بن أبي الحسن (فلأقسم) لام القسم معها ألف أقسم وقوله تعالى * (بما تبصرون وما لا تبصرون) * قال قتادة بن دعامة أراد الله تعالى ان يعمم في هذا القسم جميع مخلوقاته
وقال غيره أراد الأجساد والأرواح
وهذا قول حسن عام وقال ابن عطاء (ما تبصرون) من آثار القدرة * (وما لا تبصرون) * من أسرار القدرة وقال قوم أراد بقوله * (وما لا تبصرون) * الملائكة والرسول الكريم جبريل في تأويل جماعة من العلماء ومحمد صلى الله عليه وسلم في قول آخرين وأضيف القول إليه من حيث تلاه وبلغه
قوله عز وجل
سورة الحاقة 41 - 52
نفي الله تعالى ان يكون القرآن من (قول شاعر) كما زعمت قريش ونصب (قليلا) بفعل مضمر يدل عليه * (تؤمنون) * و " ما " يحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة ويحتمل أن تكون مصدرية ويتصف بالقلة إما الإيمان وإما العدد الذي يؤمنون فعلى اتصاف ايمانهم بالقلة فهم الإيمان اللغوي لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا إذ كانوا يصدقون ان الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حق صواب ثم نفى تعالى ان يكون (قول كاهن) كما زعم بعضهم وقرا ابن كثير وابن عامر والحسن والجحدري (قليلا ما يؤمنون وقليلا ما يذكرون) بالياء جميعا وقرا الباقون بالتاء من فوق ورجح أبو عامر قراءة التاء بقوله تعالى * (فما منكم من أحد) * وفي مصحف أبي بن كعب (ما تتذكرون) بتاءين و * (تنزيل) * رفع بالابتداء أي هو * (تنزيل) * ثم أخبر تعالى ان محمدا لو تقول عليه شيئا لعاقبه بما ذكر والتقول أن يقول الإنسان عن آخر أنه قال شيئا لم يقله
وقرأ ذكوان
362

وابنه محمد (ولو يقول) بالياء وضم القاف وهذه القراءة معرضة بما صرحت به قراءة الجمهور ويبين التعريض قوله * (علينا بعض الأقاويل) * وقوله تعالى * (لأخذنا منه باليمين) * اختلف في معناه فقال ابن عباس * (باليمين) * بالقوة ومعناه لنلنا منه عقابه بقوة منا أو يكون المعنى لنزعنا قوته وقال آخرون هي عبارة عن الهوان كما يقال لمن يسجن أو يقام لعقوبة قد أخذ بيده وبيمينه و * (الوتين) * نياط القلب قاله ابن عباس وهو عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ومنه قول الشماخ
(إذا بلغتني وحملت رحلي
* عرادة فاشرقي بدم الوتين) الوافر
فمعنى الآية لأذهبنا حياته معجلا والحاجز المانع وجمع * (حاجزين) * على معنى * (أحد) * لأنه يقع على الجميع ونحوه قوله عليه السلام (ولم تحل الغنائم لأحد سوى الرؤوس قبلكم)
والضمير في قوله تعالى * (وإنه لتذكرة) * عائد على القرآن وقيل على محمد صلى الله عليه وسلم وفي قوله تعالى * (وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) * وعيد وكونه * (لحسرة على الكافرين) * هو من حيث كفروا ويرون من آمن به ينعم وهم يعذبون وقوله تعالى * (لحق اليقين) * ذهب الكوفيون إلى أنها إضافة الشيء إلى نفسه كدار الآخرة ومسجد الجامع
وذهب البصريون والحذاق إلى أن الحق مضاف إلى الأبلغ من وجوهه وقال المبرد إنما هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين
ثم أمر تعالى نبيه بالتسبيح باسمه العظيم
وفي ضمن ذلك الاستمرار على رسالته والمضي لأدائها وإبلاغها وروي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية (اجعلوها في ركوعكم) واستحب التزام ذلك جماعة من العلماء وكره مالك لزوم ذلك لئلا يعد واجبا فرضا
363

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المعارج
وهي مكية لا خلاف بين الرواة في ذلك
قوله عز وجل
سورة المعارج 1 - 10
قرأ جمهور السبعة (سأل) بهمزة مخففة قالوا والمعنى دعا داع والإشارة إلى من قال من قريش * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) * الأنفال 32
وروي ان قائل ذلك النضر بن الحارث والى من قال * (ربنا عجل لنا قطنا) * ص 16 ونحو هذا وقال بعضهم المعنى بحث باحث واستفهم مستفهم قالوا والإشارة إلى قول قريش متى هذا الوعد وما جرى مجراه قاله الحسن وقتادة فاما من قال استفهم مستفهم فالباء توصل توصيل عن كأنه قال عن عذاب وهذا كقول علقمة بن عبدة
(فإن تسألوني بالنساء فإنني
* بصير بأدواء النساء طبيب) الطويل
وقرا نافع بن عامر (سال سائل) ساكنة الألف واختلفت القراءة بها فقال بعضهم هي (سأل) المهموزة الا ان الهمزة سهلت كما قال لا هناك المرتع ونحو ذلك
وقال بعض هي لغة من يقول سلت أسأل ويتساولون وهي بلغة مشهورة حكاها سيبويه فتجيء الألف منقلبة من الواو التي هي عين كقال وحاق واما قول الشاعر حسان بن ثابت
(سالت هذيل رسول الله فاحشة
* ضلت هذيل بما سالت ولم تصب) البسيط
فإن سيبويه قال هو على لغة تسهيل الهمزة
وقال غيره هو على لغة من قال سلت وقال بعضهم في الآية هو من سال يسيل إذا جرى وليست من معنى السؤال قال زيد بن ثابت في جهنم واد يسمى سايلا والاخبار هاهنا عنه
364

قال القاضي أبو محمد ويحتمل ان لم يصح أمر الوادي ان يكون الإخبار عن نفوذ القدر بذلك العذاب قد استعير له لفظ السيل لما عهد من نفوذ السييل وتصميمه وقرا ابن عباس (سال سيل) بسكون الياء وقرا أبي بن كعب وابن مسعود (سال سال) مثل قال قال ألقيت الياء من الخط تخفيفا والمراد (سائل)
وسؤال الكفار عن العذاب حسب قراءة الجماعة انما كان على أنه كذب
فوصفه الله تعالى بأنه * (واقع) * وعيدا لهم
وقوله تعالى * (للكافرين) * قال بعض النحويين اللام توصل المعنى توصيل (على)
وروي انه في مصحف أبي بن كعب (على الكافرين) وقال قتادة والحسن المعنى كأن قائلا قال لمن هذا العذاب الواقع فقيل * (للكافرين) *
و * (المعارج) * في اللغة الدرج في الأجرام وهي هنا مستعارة في الرتب والفواضل والصفات الحميدة قاله قتادة وابن عباس
وقال ابن عباس * (المعارج) * السماوات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء
وقال الحسن هي المراقي إلى السماء وقوله * (تعرج الملائكة) * معناه تصعد على أصل اللفظة في اللغة
* (والروح) * عند جمهور العلماء هو جبريل عليه السلام خصصه بالذكر تشريفا
وقال مجاهد * (الروح) * ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة
وقال بعض المفسرين هو اسم الجنس في أرواح الحيوان
واختلف المتاولون في قوله تعالى * (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) * فقال منذر بن سعيد وجماعة من الحذاق المعنى * (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم) * من أيامكم هذه مقدار المسافة ان لو عرجها أدمي خمسون ألف سنة وقاله ابن إسحاق فمن جعل * (الروح) * جبريل أو نوعا من الملائكة قال المسافة هي من قعر الأرض السابعة إلى العرش قاله مجاهد
ومن جعل * (الروح) * جنس الحيوان قال المسافة من وجه هذه الأرض إلى منتهى العرش علوا قاله وهب بن منبه
وقال قوم المعنى * (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره) * في نفسه * (خمسين ألف سنة) * من أيامكم ثم اختلفوا في تعيين ذلك اليوم فقال عكرمة والحكم أراد مدة الدنيا فإنها خمسون ألف سنة لا يدري أحد ما مضى منها ولا ما بقي فالمعنى * (تعرج الملائكة والروح إليه) * في مدة الدنيا وبقاء هذه البنية ويتمكن على هذا في * (الروح) * أن يكون جنس أرواح الحيوان وقال ابن عباس وغيره بل اليوم المشار اليه يوم القيامة ثم اختلفوا فقال بعضهم قدره في الطول قدر خمسين ألف سنة وهذا هو ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله الا جعل له صفائح من نار يوم القيامة تكوى بها جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره ألف سنة)
وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري بل قدره في هوله وشدته ورزاياه للكفار قدر * (خمسين ألف سنة) *
وهذا كما تقول في اليوم العصيب إنه كسنة ونحو هذا قال أبو سعيد قيل يا رسول الله ما أطول يوما مقداره خمسون ألف سنة فقال (والذي نفسي بيده ليخف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة) وقال عكرمة المعنى كان مقدار ما ينقضي فيه من القضايا والحساب قدر ما ينقضي بالعدل في * (خمسين ألف سنة) * من أيام الدنيا
وقد ورد في يوم القيامة انه كألف سنة وهذا يشبه ان يكون في طوائف دون طوائف
والعامل في قوله * (في يوم) * على قول من قال إنه يوم القيامة قوله * (دافع) * وعلى سائر الأقوال * (تعرج) * وقرا جمهور القراء (تعرج) بالتاء من فوق وقرا الكسائي وحده (يعرج) بالياء لأن التأنيث بالياء غير حقيقي وبالياء من تحت قرا ابن مسعود لأنه كان يذكر الملائكة وهي قراءة
365

الأعمش ثم امر تعالى نبيه بالصبر الجميل وهو الذي لا يلحقه عيب من فشل ولا تشكك ولا قلة رضى ولا غير ذلك
والأمر بالصبر الجميل محكم في كل حالة وقد نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال
وقوله تعالى * (إنهم يرونه بعيدا) * يعني يوم القيامة لأنهم يكذبون به فهو في غاية البعد عندهم والله تعالى يراه * (قريبا) * من حيث هو واقع وآت وكل آت قريب
وقال بعض المفسرين الضمير في * (يرونه) * عاد على العذاب
وقوله تعالى * (يوم تكون) * نصب بإضمار فعل أو على البدل من الضمير المنصوب
و (المهل) عكر الزيت قاله ابن عباس وغيره فهي لسوادها وانكدار أنوارها تشبه ذلك
والمهل أيضا ماء أذيب من فضة ونحوها قاله ابن مسعود وغيره فيجيء له ألوان وتميع مختلط والسماء أيضا للأهوال التي تدركها تصير مثل ذلك و (العهن) الصوف دون تقييد
وقد قال بعض اللغويين هو الصوف المصبوغ ألوانا وقيل المصبوغ أي لون كان وقال الحسن هو الأحمر واستدل من قال إنه المصبوغ ألوانا بقول زهير
(كأن فتات العهن في كل منزل
* نزلن به حب الفنا لم يحطم) الطويل
وحب الفنا هو عنب الثعلب وكذلك هو عند طيبه وقبل تحطمه ألوان بعضه اخضر وبعضه أصفر وبعضه احمر لاختلافه في النضج وتشبه * (الجبال) * به على هذا القول لأنها جدد بيض وحمر وسود فيجيء التشبيه من وجهين في الألوان وفي الانتفاش
ومن قال إن العهن الصوف دون تقييد وجعل التشبيه في الانتفاش وتخلخل الأجزاء فقط
قال الحسن والجبال يوم القيامة تسير بالرياح ثم يشتد الأمر فتنهد ثم يشتد الأمر بها فتصير هباء منبثا
وقرا السبعة والحسن والمدنيون وطلحة والناس (ولا يسأل) على بناء الفعل للفاعل والحميم في هذا الموضع القريب والوالي والمعنى لا يسأله نصرة ولا منفعة لعلمه انه لا يجدها عنده قال قتادة المعنى لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة قد بصر كل أحد حالة الجميع وشغل بنفسه
وقرا ابن كثير من طريق البزي وأبو جعفر وشيبة بخلاف عنهما وأبو حيوة (لا يسأل) على بناء الفعل للمفعول فالمعنى ولا يسأل إحضاره لأن كل مجرم له سيما يعرف بها وكذلك كل مؤمن له سيما خير
وقيل المعنى لا يسأل عن ذنبه وأعماله ليؤخذ بها وليزر وزره
و * (يبصرونهم) * على هذه القراءة قيل معناه في النار
وقال ابن عباس في المحشر يبصر بالحميم حميمه ثم يفر عنه لشغله بنفسه
وتقول بصر فلان بالشيء وبصرته به أريته إياه ومنه قول الشاعر
(إذا بصرتك البيداء فاسري
* واما الآن فاقتصدي وقيلي) الوافر
وقرا قتادة بسكون الباء وكسر الصاد خفيفة فقال مجاهد * (يبصرونهم) * معناه يبصر المؤمنون الكفار في النار وقال ابن زيد يبصر الكفار من أضلهم في النار عبرة وانتقاما عليهم وخزيا لهم
366

قوله عز وجل
سورة المعارج 11 - 23
* (المجرم) * في هذه الآية الكافر بدليل شدة الوعد وذكر * (لظى) * وقد يدخل مجرم المعاصي فيما ذكر من الأفتداء وقرا جمهور الناس (يومئذ) بكسر الميم وقرأ الأعرج بفتحها ومن حيث أضيف إلى غير متمكن جاز فيه الوجهان
وقرا أبو حيوة (من عذاب) منونا (يومئذ) مفتوج الميم والصاحبة هنا الزوجة والفصيلة في هذه الآية قرابة الرجل الأدنون مثال ذلك بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وسلم والفصيلة في كلام العرب أيضا الزوجة ولكن ذكر الصاحبة في هذه الآية لم يبق في معنى الفصيلة الا الوجه الذي ذكرناه
وقوله * (ثم ينجيه) * الفاعل هو الفداء الذي تضمنه قوله * (لو يفتدي) * فهو المتقدم الذكر
وقرأ الزهري (تؤويه) و (تنجيه) برفع الهائين وقوله تعالى * (كلا إنها لظى) * رد لقولهم وما ودوه أي ليس الأمر كذلك ثم ابتدأ الإخبار عن * (لظى) * وهي طبقة من طبقات جهنم وفي هذا اللفظ تعظيم لأمرها وهولها
وقرا السبعة والحسن وأبو جعفر والناس (نزاعة) بالرفع وقرا حفص عن عاصم (نزاعة) بالنصب فالرفع على أن تكون * (لظى) * بدلا من الضمير المنصوب (ونزاعة) خبر (إن) أو على إضمار مبتدأ أي هي نزاعة أو على أن يكون الضمير في * (أنها) * للقصة و * (لظى) * ابتداء و (نزاعة) خبره أو على أن تكون * (لظى) * خبر و (نزاعة) بدل من * (لظى) * أو على أن تكون * (لظى) * خبرا و (نزاعة) خبرا بعد خبر
وقال الزجاج (نزاعة) رفع بمعنى المدح
قال القاضي أبو محمد وهذا هو القول بأنها خبر ابتداء تقديره هي نزاعة لأنه إذا تضمن الكلام معنى المدح أو الذم جاز لك القطع باضمار مبتدأ أو نصبا بإضمار فعل
ومن قرأ بالنصب فذلك إما على مدح * (لظى) * كما قلنا وإما على الحال من * (لظى) * لما فيها من معنى التلظي كأنه قال كلا إنها النار التي تتلظى نزاعة قال الزجاج فهي حال مؤكة و (الشوى) جلد الانسان وقيل جلد الرأس والهامة قاله الحسن ومنه قول الأعشى
(قالت قتيلة ماله
* قد جللت شيبا شواته) مجزوء الكامل
ورواه أبو عمرو بن العلاء سراته فلا شاهد في البيت على هذه الرواية
قال أبو عبيدة سمعت اعرابيا يقول اقشعرت شواتي و (الشوى) أيضا قوائم الحيوان ومنه عبل الشوى و (الشوى) أيضا كل عضو ليس بمقتل ومنه رمى فأشوى إذا لم يصب المقتل وقال ابن جرير (الشوى) العصب والعقب فنار لظى تذهب هذا من ابن آدم وتنزعه
وقوله تعالى * (تدعو من أدبر وتولى) * يريد الكفار واختلف الناس في دعائها فقال ابن عباس وغيره هو حقيقة تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وقال الخليل بن أحمد هي عبارة عن حرصها عليهم واستدنائها لهم وما توقعه من عذابها وقال ثعلب * (تدعو) * معناه تهلك تقول العرب دعاك الله أي اهلكك وحكاه الخليل عن العرب و * (أوعي) * معناه جعلها في الأوعية تقول وعيت العلم واوعيت المال والمتاع ومنه قول الشاعر عبيد بن الأبرص
367

(الخير يبقى وإن طال الزمان به
* والشر أخبث ما أوعيت من زاد) البسيط
وهذه إشارة إلى كفار أغنياء جعلوا جمع المال اوكد أمرهم ومعنى حياتهم فجمعوه من غير حل ومنعوه من حقوق الله وكان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله تعالى يقول * (وجمع فأوعى) *
وقوله تعالى * (إن الإنسان) * عموم لاسم الجنس لكن الإشارة هنا إلى الكفار لأن الأمر فيهم وكيد كثير والهلع جزع واضطراب يعتري الانسان عند المخاوف وعند المطامع ونحوه قولع عليه السلام (شر ما في الانسان شح هالع)
وقوله * (إذا مسه) * الآية مفسر للهلع وقوله تعالى * (إلا المصلين) * أي الا المؤمنين الذين أمر الآخرة اوكد عليهم من امر الدنيا والمعنى أن هذا المعنى فيهم يقل لأنهم يجاهدون بالتقوى وقرا الجمهور (على صلاتهم) بالإفراد وقرا الحسن (صلواتهم) بالجمع
وقوله تعالى * (دائمون) * قال الجمهور المعنى مواظبون قائمون لا يملون في وقت من الأوقات فيتركونها وهذا في المكتوب واما النافلة فالدوام عليها الإكثار منها بحسب الطاقة وقد قال عليه السلام (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه)
وقال ابن مسعود الدوام صلاتها لوقتها وتركها كفر وقال عقبة بن عامر * (دائمون) * يقرؤون في صلاتهم ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا
ومنه الماء الدائم
قوله عز وجل
سورة المعارج 24 - 31
قال قتادة والضحاك (الحق المعلوم) هي الزكاة المفروضة وقال الحسن ومجاهد وابن عباس هذه الآية في الحقوق التي في المال سوى الزكاة وهي ماندبت الشريعة اليه من المواساة وقد قال ابن عمر ومجاهد والشعبي وكثير من أهل العلم إن في المال حقا سوى الزكاة وهذا هو الأصح في هذه الآية لأن السورة مكية وفرض الزكاة وبيانها إنما كان بالمدينة
(السائل) المتكفف * (والمحروم) * المحارف الذي قد ثبت فقره ولم تنجح سعاياته لدنياه قالت عائشة هو الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه
وقال بعض أهل العلم * (المحروم) * من احترق زرعه وقال بعضهم * (المحروم) * من ماتت ماشيته وهذه أنواع الحرمان لأن الاسم يستلزم هذا خاصة وقال عمر بن عبد العزيز * (المحروم) * الكلب أراد والله أعلم ان يعطي مثالا من الحيوان ذي الكبد الرطبة لما فيه من الأجر حسب الحديث المأثور وقال الشعبي أعياني ان اعلم ما المحروم
وحكى عنه النقاش أنه قال وهو ابن سبعين سنة سألت عنه وانا غلام فما وجدت شفاء
قال القاضي أبو محمد يرحم الله الشعبي فإنه في هذه المسألة محروم ولو أخذه اسم جنس فيمن عسرت مطالبه بان له وإنما كان يطلبه نوعا مخصوصا كالسائل و * (يوم الدين) * هو يوم القيامة سمي
368

بذلك لأنه يوم المجازاة و * (الدين) * الجزاء كما تقول العرب
(كما تدين تدان)
ومنه قول الفند الزماني
(ولم يبق سوى العدوان
* دناهم كما دانوا) الهزج
والإشفاق من امر يتوقع لأن نيل عذاب الله للمؤمنين متوقع والأكثر ناج بحمد الله لكن عذاب الله لا يأمنه الا من لا بصيرة له والفروج في هذه الآية هي الفروج المعروفة والمعنى من الزنى وقال الحسن بن أبي الحسن أراد فروج الثياب والى معنى الوطء يعود
ثم استثنى تعالى الوطء الذي أباحه الشرع في الزوجة والمملوكات
وقوله تعالى * (إلا على أزواجهم) * وحسن دخول * (علي) * في هذا الموضوع قوله * (غير ملومين) * فكأنه قال الا انهم غير ملومين على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم
وقوله تعالى * (أبتغي) * معناه طلب وقوله * (وراء ذلك) * معناه سوى ما ذكر كأنه أمر قد حد فيه حد فمن طلب بغيته وراء الحد فهو كمستقبل حد في الأجرام وهو يتعدى وراءه أي خلفه و * (العادون) * الذين يتجاوزون حدود الأشياء التي لها حدود كان ذلك في الأجرام أو في المعنى
قوله عز وجل
سورة المعارج 32 - 39
الأمانات جمع أمانة وجمعها لأنها تكون متنوعة من حيث هي في الأموال وفي الأسرار فيما بين العبد وربه وفيما امره ونهاه عنه قال الحسن الدين كله أمانة
وقرأ ابن كثير وحده من السبعة (لأمانتهم) بالإفراد والعهد كل ما تقلده الإنسان من قول أو فعل أو مودة إذا كانت هذه الأشياء على طريق البر فهو عهد ينبغي وعيه وحفظه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (حسن العهد من الإيمان) و * (راعون) * جمع راع أي حافظ وقوله تعالى * (والذين هم بشهاداتهم قائمون) * معناه في قول جماعة من المفسرين انهم يحفظون ما يشهدون فيه ويتيقنونه ويقومون بمعانيه حتى لا يكون لهم فيه تقصير وهذا هو وصف من تمثيل قول النبي صلى الله عليه وسلم (على مثل الشمس فاشهد)
وقال آخرون معناه الذين إذا كانت عندهم شهادة ورأوا حقا يدرس أو حرمة لله تنتهك قاموا بشهادتهم وقال ابن عباس شهادتهم في هذه الآية (لا إله الا الله وحده لا شريك له)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل ان يسألها) واختلف الناس في معنى هذا الحديث بحسب المعنيين اللذين ذكرت في الآية إحداهما ان يكون يحفظهما متقنة فيأتي بها ولا يحتاج أن يستفهم عن شيء منها ولا ان يعارض
والثاني إذا رأى حقا يعمل بخلافه وعنده في احياء الحق شهادة
وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم
369

أنه قال (سيأتي قوم يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن)
واختلف الناس في معنى هذا الحديث فقال بعض العلماء هم قوم مؤمنون يتعرضون ويحرصون على وضع أسمائهم في وثائق الناس وينصبون لذلك الحبائل من زي وهيئة وهم غير عدول في أنفسهم فيغرون بذلك ويضرون
قال القاضي أبو محمد فهذا في ابتداء الشهادة لا في أدائها ويجيء قوله عليه السلام (ولا يستشهدون) أي وهم غير أهل لذلك وقال آخرون من العلماء هم شهود الزور لأنهم يؤدونها والحال لم تشهدهم ولا المشهود عليه وقرا حفص عن عاصم (بشهاداتهم) على الجمع وهي قراءة عبد الرحمن والباقون (بشهادتهم) على الإفراد الذي هو اسم الجنس
والمحافظة على الصلاة إقامتها في أوقاتها بشروط صحتها وكمالها وقال ابن جريج يدخل في هذه الآية التطوع
وقوله تعالى * (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) * الآية نزلت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة أحيانا ويقرا القرآن فكان كثير من الكفار يقومون من مجالسهم مسرعين إليه ويستمعون قراءته ويقول بعضهم لبعض شاعر وكاهن ومفتر وغير ذلك
و * (قبلك) * معناه فيما يليك و (المهطع) الذي يمشي مسرعا إلى شيء قد أقبل عليه ببصره
وقال ابن زيد لا يطرف و * (عزين) * جمع عزة قال بعض النحاة أصلها عزوة وقال آخرون منهم أصلها عزهة وجمعت بالواو والنون عوضا مما انحذف منها نحو سنة وسنون ومعنى العزة الجمع اليسير فكأنهم كانوا ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ومنه قول الراعي
(أخليفة الرحمن إن عشيرتي
* أمسى سوامهم عزين فلولا) الكامل
وقال أبو هريرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم حلق متفرقون فقال (ما لي أراكم عزين) وقوله تعالى * (أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم) * نزلت لأن بعض الكفار قال إن كانت ثم آخرة وجنة فنحن أهلها وفيها لأن الله تعالى لم ينعم علينا في الدنيا بالمال والبنين وغير ذلك الا لرضاه عنا
وقرا السبعة والحسن وطلحة (يدخل) بضم الياء وفتح الخاء على بناء الفعل للمفعول وقرأ المفضل عن عاصم وابن يعمر والحسن وأبو رجاء وطلحة (يدخل) بفتحها وضم الخاء على بناء الفعل للفاعل
وقوله تعالى * (كلا) * رد لقولهم وطمعهم أي ليس الأمر كذلك ثم أخبر عن خلقهم من نطفة قذرة فأحال في العبارة عنها إلى علم الناس أي فمن خلق من ذلك فليس بنفس خلقه يعطى الجنة بل بالأعمال الصالحة إن كانت
وقال قتادة في تفسيرها إنما خلقت من قذر يا ابن آدم فاتق الله وقال انس كان أبو بكر إذا خطبنا ذكر مناتي ابن آدم ومروره من مجرى البول مرتين وكونه نطفة في الرحم ثم علقة ثم مضغة إلى أن يخرج فيتلوث في نجساته طفلا فلا يقلع أبو بكر حتى يقذر أحدنا نفسه
370

قوله عز وجل
سورة المعارج 40 - 44
قرأ الجمهور (فلا أقسم) وذلك على أن تكون (لا) زائدة أو تكون ردا لفعل الكفار وقولهم ثم يقع الابتداء بالقسم
وقرا قوم من القراء (فلأقسم) دون ألف مفردة و * (المشارق والمغارب) * هي مطالع الشمس والقمر وسائر الكواكب وحيث تغرب لأنها مختلفة عند التفضيل فلذلك جمع وقرا عبد الله بن مسلم وابن محيصن (برب المشرق والمغرب) على الإفراد ومتى ورد (المشرق والمغرب) وهي عبارة عن موضع الشروق وموضع الغروب بجملته وإن كان يتفصل بالصاد ومتى ورد المشرقان والمغربان فهي عبارة عن طرفي مواضع الشروق وطرفي موضع الغروب
وأقسم الله تعالى في هذه الآية بمخلوقاته على إيجاب قدرته على أن يبدل خيرا من ذلك العالم وانه لا يسبقه شيء إلى إرادته
وقوله تعالى * (فذرهم يخوضوا) * الآية وعيد وما فيه من معنى المهادنة فمنسوخ بآية السيف
وروي عن ابن كثير انه قرأ (يلقوا) بغير ألف وهي قراءة أبي جعفر وابن محيصن
و * (يوم يخرجون) * بدل من قولهم * (يومهم) *
وقرأ الجمهور (يخرجون) بفتح الياء وضم الراء
وروى أبو بكر عن عاصم ضم الياء وفتح الراء
و * (الأجداث) * القبور والنصب ما نصب للإنسان فهو يقصد مسرعا إليه من علم أو بناء أو صنم لأهل الأصنام
وقد كثر استعمال هذا الاسم في الأصنام حتى قيل لها الأنصاب ويقال لشبكة الصائد نصب
وقال أبو العالية * (إلى نصب يوفضون) * معناه إلى غايات يستبقون
وقرا جمهور السبعة وأبو بكر عن عاصم (نصب) بفتح النون وهي قراءة أبي جعفر ومجاهد وشيبة وابن وثاب والأعرج وقرا الحسن وقتادة بخلاف عنهما (نصب) بضم النون
وقرا ابن عامر وحفص عن عاصم (نصب) بضم النون والصاد وهي قراءة الحسن أيضا وأبي العالية وزيد بن ثابت وأبي رجاء وقرأ مجاهد وأبو عمران الجوني (إلى نصب) بفتح النون والصاد و * (يوفضون) * معناه يسرعون ومنه قول الراجز
(لأنعتن نعامة ميفاضا
* خرجاء ظلت تطلب الاضاضا) الرجز
و * (خاشعة) * نصب على الحال ومعناه ذليلة منكسرة و * (ترهقهم) * معناه تظهر عليهم وتلح وتضيق نفوسهم ومن هذه اللفظة المرهق من السادة بحوائج الناس والمرهق بالدين وخلق فيها رهق أي إسراع إلى الناس وسيف فلان فيه رهق ومنه مراهقة الاحتلام وإرهاق الصلاة أي مزاحمة وقتها
نجز تفسير سورة المعارج والحمد لله كثيرا
371

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة نوح
وهي مكية بإجماع من المتأولين
قال أبي بن كعب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح
قوله عز وجل
سورة نوح 1 - 4
(نوح) عليه السلام هو نوح بن لامك وقد مر ذكره وذكر عمره صلى الله عليه وسلم وصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفته وسكون الوسط من حروفه وقوله * (أن أنذر قومك) * يحتمل أن تكون * (أن) * مفسرة لا موضع لها من الإعراب ويحتمل ان يكون التقدير (بأن أنذر قومك) وهي على هذا في موضع نصب عند قوم من النحاة وفي موضع خفض عند آخرين وفي مصحف عبد الله بن مسعود (إلى قومه أنذر قومك) دون * (أن) * والعذاب الذي توعدوا به يحتمل ان يكون عذاب الدنيا وهو الأظهر والأليق بما يأتي بعد ويحتمل ان يكون عذاب الآخرة
وقرا جمهور السبعة (ان اعبدوا) بضم النون من (أن) اتباعا لضمة الباء وتركا لمراعاة الحائل لخفة السكون فهو كان ليس ثم حائل
وقرا عاصم وحمزة وأبو عمرو وفي رواية عبد الوارث (ان اعبدوا) بكسر النون وهذا هو الأصل في التقاء الساكنين من كلمتين
و * (يغفر) * جواب الأمر وقوله تعالى * (من ذنوبكم) * قال قوم " من " زائدة وهذا نحو كوفي واما الخليل وسيبويه فلا يجوز عندهم زيادتها في الواجب وقال قوم هي لبيان الجنس وهذا ضعيف لأنه ليس هنا جنس يبين وقال آخرون هي بمعنى (عن)
وهذا غير معروف في احكام (من) وقال آخرون هي لابتداء الغاية وهذا قول يتجه كأنه يقول يبتدئ الغفران من هذه الذنوب العظام التي لهم
وقال آخرون هي للتبعيض وهذا عندي أبين الأقوال وذلك أنه لو قال (يغفر لكم ذنوبكم) لعم هذا اللفظ ما تقدم من الذنوب وما تأخر عن إيمانهم والاسلام إنما يجب ما قبله فهي بعض من ذنوبهم فالمعنى يغفر لكم ذنوبكم وقال بعض المفسرين أراد * (يغفر لكم من ذنوبكم) * المهم الموبق الكبير لأنه أهم عليهم وبه ربما كان اليأس عن الله قد وقع لهم وهذا قول مضمنه ان " من " للتبعيض والله تعالى الموفق
وقرا أبو
372

عمرو * (يغفر لكم) * بالإدغام ولا يجيز ذلك الخليل وسيبويه لأن الراء حرف مكرر فإذا ادغم في اللام ذهب التكرير واختل المسموع
وقوله تعالى * (ويؤخركم إلى أجل مسمى) * مما تعلق المعتزلة به في قولهم إن للإنسان أجلين وذلك انهم قالوا لو كان واحدا محدودا لما صح التأخير إن كان الحد قد بلغ ولا المعاجلة إن كان الحد لم يبلغ
قال القاضي أبو محمد وليس لهم في الآية تعلق لأن المعنى ان نوحا عليه السلام لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل ولا قال لهم إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم لكن قد سبق في الأزل أنهم إما ممن قضى لهم بالإيمان والتأخير وإما ممن قضى عليه بالكفر والمعاجلة فكان نوحا عليه السلام قال لهم آمنوا يبين لكم انكم ممن قضى لهم بالإيمان والتأخير وإن بقيتم فسيبين لكم أنكم ممن قضى عليه بالكفر والمعاجلة ثم تشدد هذا المعنى ولاح بقوله * (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) *
وقد حكى مكي القول بالأجلين ولم يقدره قدره وجواب * (لم) * مقدر يقتضيه اللفظ كأنه قال فما كان أحزمكم أو أسرعكم إلى التوبة * (لو كنتم تعلمون) *
قوله عز وجل
سورة نوح 5 - 11
هذه المقالة قالها نوح عليه السلام بعد ان طال عمره وتحقق اليأس عن قومه وقوله * (ليلا ونهارا) * عبارة عن استمرار دعائه وانه لم ين فيه قط ويروى عن قتادة ان نوحا عليه السلام كان يجيئه الرجل من قومه بابنه فيقول احذر هذا الرجل فإن أبي حذرني إياه ويقول له إنه مجنون
وقرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (دعائي الا) بالهمز وفتح الياء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (دعاي) بسكون الياء دون همز وروى شبل عن ابن كثير بنصب الياء دون همز مثل هداي وقرا عاصم أيضا وسلام ويعقوب بهمز وياء ساكنة
وقوله * (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم) * معناه ليؤمنوا فيكون ذلك سبب الغفران
وقوله تعالى * (جعلوا أصابعهم في آذانهم) * يحتمل ان يكون حقيقة ويحتمل ان يكون عبارة عن إعراضهم وشدة رفضهم لأقواله وكذلك قوله * (استغشوا ثيابهم) * معناه جعلوها أغشية على رؤوسهم والإصرار الثبوت على معتقد ما وأكثر استعماله في الذنوب ثم كرر عليه السلام صفة دعائه لهم بيانا وتأكيدا وجهارا يريد علانية في المحافل والإسرار ما كان من دعاء الأفراد بينه وبينهم على انفراد وهذا غاية الجد
وقوله تعالى " استغفروا ربكم يرسل السماء " يقتضي ان الاستغفار سبب لنزول المطر في كل أمة
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه استسقى بالناس فلم يزد على أن استغفر ساعة ثم
373

انصرف فقال له قوم ما رأيناك استسقيت يا أمير المؤمنين فقال والله لقد استنزلت المطر بمجادح السماء ثم قرا الآية وسقى رضي الله عنه وشكى رجل إلى الحسن الجرب فقال له استغفر الله وشكى اليه آخر الفقر فقال استغفر اليه وقال له آخر ادع الله ان يرزقني ولدا فقال له استغفر الله فقيل له في ذلك فنزع بهذه الآية
قال القاضي أبو محمد والاستغفار الذي أحال عليه الحسن ليس هو عندي لفظ الاستغفار فقط بل الإخلاص والصدق في الأعمال والأقوال فكذلك كان استغفار عمر رضي الله عنه وروي ان قوم نوح كانوا قد أصابهم قحوط وأزمة فلذلك بدأهم في وعده بأمر المطر ثم ثنى بالأموال والبنين
قال قتادة لأنهم كانوا أهل حب للدنيا وتعظيم لأمرها فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها و (مدرار) مفعال من الدر كمذكار ومئناث وهذا البناء لا تلحقه التأنيث
قوله عز وجل
سورة نوح 12 - 20
وعدهم بالأموال والبنين والجنات والأنهار لمكان حبهم للدنيا واختلف الناس في معنى قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام * (ما لكم لا ترجون لله وقارا) * فقال أبو عبيدة وغيره * (ترجون) * معناه تخافون ومنه قول الشاعر أبو ذؤيب الهذلي
(إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
* وحالفها في بيت نوب عواسل) الطويل
قالوا والوقار العظمة والسلطان فكأن الكلام على هذا وعيد وتخويف وقال بعض العلماء * (ترجون) * على بابها في الرجاء وكأنه قال ما لكم لا تجعلون رجاءكم لله وتلقاءه وقارا ويكون على هذا التأويل منهم كأنه يقول تؤدة منكم وتمكنا في النظر لأن الكفر مضمنه الخفة والطيش وركوب الرأس وقوله تعالى * (وقد خلقكم أطوارا) * قال ابن عباس ومجاهد هي إشارة إلى التدريج الذي للإنسان في بطن أمه من النطفة والعلقة والمضغة وقال جماعة من أهل التأويل هي إشارة إلى العبرة في اختلاف ألوان الناس وخلقهم وخلقهم ومللهم والأطوار الأحوال المختلفة
ومنه قول النابغة
(فإن أفاق فقد طارت عمايته
* والمرء يخلق طورا بعد أطوار) البسيط
وقرأ (ألم تروا) وقرا (ألم يروا) على فعل الغائب و * (طباقا) * قيل هو مصدر أي مطابقة أي جعل كل واحدة طبقا للأخرى ونحو قول امرئ القيس
(طبق الأرض تجري وتدر
*) الرمل
374

وقيل هو جمع طبق وهو نعت لسبع وقرا ابن أبي عبلة (طباق) بالخفض على النعت ل * (سماوات) * وقوله تعالى * (وجعل القمر فيهن) * ساغ ذلك لأن القمر من حيث هو في إحداها فهو في الجميع ويروى ان القمر في السماء الدنيا وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن العباس إن الشمس والقمر اقفارهما إلى الأرض وإقبال نورهما وارتفاعه في السماء وهو الذي تقتضيه لفظة السراج وقيل إن الشمس في السماء الخامسة وقيل في الرابعة وقال عبد الله بن عمر هي في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة
وقوله تعالى * (أنبتكم من الأرض نباتا) * استعارة من حيث أخذ آدم عليه السلام من الأرض ثم صار الجميع * (نباتا) * منه وقوله تعالى * (نباتا) * مصدر جار على غير المصدر التقدير فنبتم * (نباتا) * والإعادة فيها هي بالدفن فيها الذي هو عرف البشر والإخراج هو البعث يوم القيامة لموقف العرض والجزاء وقوله تعالى * (بساطا) * يقتضي ظاهره ان الأرض بسيطة كروية واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في نفسه اللهم الا ان يتركب على القول بالكروية نظر فاسد واما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر كتاب الله تعالى وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتة
واستدل ابن مجاهد على صحة ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور فقال لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها
والسبل الطرق والفجاج الواسعة
قوله عز وجل
سورة نوح 21 - 25
المعنى فلما لم يطيعوا ويئس نوح من إيمانهم قال نوح * (رب إنهم عصوني) * واتبعوا أشرافهم وغواتهم فعبر عنهم بان أموالهم وأولادهم زادتهم * (خسارا) * أي خسرانا وقرا ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع في رواية خارجة عنه (وولده) بضم الواو وسكون اللام وهي قراءة ابن الزبير والحسن والأعرج والنخعي ومجاهد وقرا نافع وعاصم وابن عامر (وولده) بفتح اللام والواو وهما بمعنى واحد كبخل وبخل وهي قراءة أبي عبد الرحمن والحسن وأبي رجاء وابن وثاب وأبي جعفر وشيبة وقرأ (وولده) بكسر الواو والجحدري وزر والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق وطلحة وقال أبو عمرو (ولد) بضم الواو وسكون اللام العشيرة والقوم وقال أبو حاتم يمكن ان يكون الولد بضم الواو جمع الولد وذلك كخشب وخشب وقد قال حسان بن ثابت
(ما بكر آمنة المبارك بكرها
* من ولد محصنة بسعد الأسعد) الكامل
وقرا جمهور الناس (كبارا) بشد الباء وهو بناء مبالغة نحو حسان
قال عيسى وهي لغة يمانية وعليها قول الشاعر أبو صدقة الدبيري
375

(والمرء يلحقه بفتيان الندى
* خلق الكريم وليس بالوضاء) الكامل
بضم الواو وقرأ ابن محيصن وعيسى ابن عمر (كبار) بتخفيف الباء وهو بناء مبالغة الا انه دون الأول وقرا ابن محيصن فيما روى عنه أبو الأخريط وهب بن واضح بكسر الكاف وقال ابن الأنباري جمع كبير فكأنه جعل المكر مكان ذنوب أفاعل ونحوه
وقوله تعالى * (وقالوا لا تذرن آلهتكم) * إخبار عن توصيهم بأصنامهم على العموم وما كان منها مشهور المكانة وما كان منها يختص بواحد واحد من الناس ثم أخذوا ينصون على المشهور من الأصنام وهذه الأصنام روي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الدنيا فلما ماتوا صورهم أهل ذلك العصر من الحجر وقالوا ننظر إليها فنذكر أفعالهم فهلك ذلك الجيل وكثر تعظيم الآخر لتلك الحجارة ثم كذلك حتى عبدت ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها وقيل بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب فكانت (ود) في كلب بدومة الجندل وكانت (سواع) في هذيل وكانت * (يغوث) * في مراد وكانت * (يعوق) * في همذان وكانت (نسر) في ذي الكلاع من حمير
وقرا نافع وحده ورويت عن عاصم بضم الواو
وقرأ الباقون والأعمش والحسن وطلحة وشيبة وأبو جعفر بخلاف عن الثلاثة (ودا) بفتح الواو وقال الشاعر
(حياك ود فإنا لا يحل لنا
* لهو النساء وإن الدين قد عزما) البسيط
فيقال إنه أراد بذلك الصنم وقال آخر الحطيئة
(فحياك ود وما هداك لفتية
* وخوص بأعلى ذي فضالة هجد) الطويل
يروى البيتان بضم الواو وقرا الأعمش (ولا يغوثا ويعوقا) بالصرف وذلك وهم لأن التعريف لازم ووزن الفعل
وقوله * (وقد أضلوا كثيرا) * هو إخبار نوح عنهم وهو منقطع مما حكاه عنهم
والمعنى وقد أضل هؤلاء القائلون كثيرا من الناس الأتباع والعوام ثم دعا عليهم إلى الله تعالى بأن لا يزيدهم الا ضلالا وذكر * (الظالمين) * لتعم الدعوة كل من جرى مجراهم
وقال الحسن في كتاب النقاش أراد بقوله * (وقد أضلوا) * الأصنام المذكورة وعبر عنها بضمير من يعقل من حيث يعاملها جمهور أهلها معاملة من يعقل ويسند إليها أفعال العقل
وقوله تعالى * (مما خطيئاتهم) * ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمد عليه السلام أي ان دعوة نوح أجيبت فآل أمرهم إلى هذا و (ما) الظاهرة في قوله * (مما) * زائدة فكأنه قال من خطيئاتهم أغرقوا وهي لابتداء الغاية وقرا (مما خطيئتهم) على الافراد الجحدري والحسن وقرا أبو عمرو وحده الحسن وعيسى والأعرج وقتادة بخلاف عنهم (مما خطاياهم) على تكسير الجمع
وقال * (فأدخلوا نارا) * يعنى جهنم وعبر عن ذلك بفعل الماضي من حيث الأمر متحقق
وقيل أراد عرضهم على النار غدوا وعشيا عبر عنهم بالإدخال
وقوله * (فلم يجدوا) * أي لم يجد المغرقون أحدا سوى الله ينصرهم ويصرف عنهم بأس الله تعالى
376

قوله عز وجل
سورة نوح 26 - 28
روى محمد بن كعب والربيع وابن زيد ان نوحا عليه السلام لم يدع بهذه الدعوة الا بعد ان اخرج الله تعالى كل مؤمن من أصلابهم وأعقم أرحام النساء قبل العذاب بسبعين سنة قال قتادة وبعد ان أوحى الله تعالى اليه انه لن يؤمن من قومك الا من قد آمن
وقد كان قبل ذلك طامعا حدبا عليهم
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم (انه ربما ضربه ناس منهم أحيانا حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)
و * (ديارا) * أصله ديوارا وهو فيعال من الدوران أي من يجيء ويذهب يقال منه دوار وزنه فيعال أصله ديوار وهذا كالقوام والقيام
وقرا جمهور الناس (ولوالدي) وقرا أبي بن كعب (ولأبوي) وقرأ سعيد بن جبير (ولوالدي) بكسر الدال يخص أباه بالدعوة
وقال ابن عباس لم يكفر بنوح ما بينه وبين آدم عليه السلام وقرا يحيى بن يعمر والجحدري (ولولدي) بفتح اللام وشد الياء المفتوحة وهي قراءة النخعي يخص بالدعاء ابنيه وبيته المسجد فيما قال ابن عباس وجمهور المفسرين
وقال ابن عباس أيضا بيته شريعته ودينه استعار لها بيتا كما يقال قبة الاسلام وفسطاط الدين
وقيل أراد سفينته وقيل داره
وقوله * (للمؤمنين والمؤمنات) * تعميم بالدعاء لمؤمني كل أمة وقال بعض العلماء إن الذي استجاب لنوح عليه السلام فأغرق بدعوته أهل الأرض الكفار لجدير ان يستجيب له فيرحم بدعوته المؤمنين
و (التبار) الهلاك وذهاب الرسم وقرا حفص عن عاصم وهشام وأبو قرة عن نافع (بيتي) بتحريك الياء وقرا الباقون بسكونها
377

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجن
وهي مكية بإجماع من المفسرين
قوله عز وجل
سورة الجن 1 - 5
قرأ جمهور الناس (قل أوحي إلي) من أوحى يوحي
وقرا أبو أناس جوية بن عائذ (قل أوحى إلي) من وحى يحي ووحى وأوحى بمعنى واحد وقال العجاج (وحى لها القرار فاستقرت)
وقرا أيضا جوية فيما روى عنه الكسائي (قل أحي) أبدلت الواو همزة كما أبدلوها في وسادة وإسادة وغير ذلك
وكذلك قرأ ابن أبي عبلة وحكى الطبري عن عاصم انه كان يكسر كل ألف في السورة من (أن) و (إن) الا قوله تعالى * (وأن المساجد لله) * الجن 18
وحكي عن أبي عمرو انه يكسر من أولها إلى قوله * (وأن لو استقاموا على الطريقة) * الجن 16 فإنه كان يفتح همزة وما بعدها إلى آخر السورة
فعلى ما حكي يلزم أن تكون الهمزة مكسورة في قوله (إنه استمع) وليس ما ذكر بثابت
وذكر أبو علي الفارسي ان ابن كثير وأبا عمرو فتحا أربعة أحرف من السورة وكسرا غير ذلك * (أنه استمع) * * (وأن لو استقاموا) * الجن 16 * (وأن المساجد) * الجن 18 * (وأنه لما قام) * الجن 19 وان نافعا وعاصما في رواية أبي بكر والمفضل وافقا في الثلاثة وكسرا * (وأنه لما قام) * الجن 19 مع سائر ما في السورة
وذكر أن ابن عامر وحمزة والكسائي كانوا يقرأون كل ما في السورة بالفتح الا ما جاء بعد قول أو فاء جزاء وكذلك حفص عن عاصم فترتب إجماع القراء على فتح الألف من * (أنه استمع) * و (ان لو استقاموا) (وان المساجد)
وذكر الزهراوي عن علقمة انه كان يفتح الألف في السورة كلها
واختلف الناس في الفتح من هذه الألفات وفي الكسر اختلافا كثيرا يطول ذكره وحصره وتقصي معانيه
قال أبو حاتم أما الفتح فعلى * (أوحي) * فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله
وأما الكسر فحكاية وابتداء وبعد القول
وهؤلاء النفر من الجن هم الذين صادفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح وهو يريد عكاظ
وقد تقدم قصصهم في سورة الأحقاف في تفسير قوله تعالى " وإذا صرفنا نفرا من الجن " الأحقاف 29
378

وقول الجن * (إنا سمعنا) * الآيات هو خطاب منهم لقومهم الذين ولوا إليهم منذرين و * (قرآنا عجبا) * معناه ذا عجب لأن العجب مصدر يقع من سامع القرآن لبراعته وفصاحته ومضمناته وليس نفس القرآن هو العجب
وقرا جمهور الناس (إلى الرشد) بضم الراء وسكون الشين
وقرا عيسى الثقفي (إلى الرشد) بفتح الراء والشين
وقرأ عيسى (إلى الرشد) ومن كسر الألف من قوله (وإنه تعالى) فعلى القطع ويعطف الجملة على قوله * (إنا سمعنا) * ومن فتح الألف من قوله (وانه تعالى) اختلفوا في تأويل ذلك فقال بعضهم هي عطف على * (أنه استمع) * فيجيء على هذا قوله " تعالى " مما أمر أن يقول إنه أوحي اليه وليس يكون من كلام الجن وفي هذا قلق
وقال بعضهم بل هي عطف على الضمير في " به " فكأنه يقول فآمنا به وبانه تعالى
وهذا القول ليس في المعنى لكن فيه من جهة النحو العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض وذلك لا يحسن
وقرا جمهور الناس (جد ربنا) بفتح الجيم وضم الدال وإضافته إلى الرب وقال جمهور المفسرين معناه عظمته
وروي عن انس أنه قال كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا أي عظم
وقال أنس بن مالك والحسن * (جد ربنا) * معناه فهذا هو من الجد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) وقال مجاهد ذكره كله متجه لأن الجد هو حظ المجدود من الخيرات والأوصاف الجميلة فجد الله تعالى هو الحظ الأكمل من السلطان الباهر والصفات العلية والعظمة ومن هذا قول اليهودي حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة (يا بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون) أي حظكم من الخيرات وبختكم
وقال علي بن الحسين رضي الله عنه وأبو جعفر الباقر وابنه جعفر والربيع بن انس ليس لله جد وهذا مقالة قوم جهلة من الجن جعلوا الله جدا أبا أب
قال كثير من المفسرين هذا قول ضعيف
وقوله * (ولن نشرك بربنا أحدا) * يدفعه وكونهم فيما روي على شريعة متقدمة وفهمهم للقرآن
وقرأ محمد بن السميفع اليماني (جد ربنا) وهو من الجد والنفع
وقرا عكرمة (جد ربنا) بفتح الجيم وضم الدال وتنوينه ورفع الرب كأنه يقول تعالى عظيم هو ربنا ف (ربنا) بدل والجد العظيم في اللغة
وقرا حميد بن قيس (جد ربنا) بضم الجيم
ومعناه ربنا العظيم حكاه سيبويه وبإضافته إلى الرب فكأنه قال عظيم وهذه إضافة تجديد يوقع النحاة هذا الاسم إذا أضيفت الصفة إلى الموصوف كما تقول جاءني كريم زيد تريد زيدا الكريم ويجري مجرى هذا عند بعضهم
قول المتنبي
(عظيم الملك في المقل
*) البسيط
أراد الملك العظيم قال بعض النحاة وهذا المثال يعترض بأنه أضاف إلى جنس فيه العظيم والحقير وقرا عكرمة أيضا (جدا ربنا) بفتح الجيم والدال وتنوينها ورفع الرب ونصب (جدا) على التمييز كما تقول تفقأت شحما وتصببت عرقا وقرا قتادة (جدا ربنا) بكسر الجيم ورفع الباء وشد الدال فنصب جدا على الحال ومعناه تعالى حقيقة ومتمكنا
وهذا معنى غير الأول وقرا أبو الدرداء (تعالى ذكر ربنا) وروي عنه (تعالى جلال ربنا)
وقوله تعالى * (وأنه كان يقول) * لا خلاف ان هذا من قول الجن وكسر
379

الألف فيه أبين وفتحها لا وجه له الا اتباع العطف على الضمير
كأنهم قالوا الآن بأن * (سفيهنا) * كان قوله * (شططا) *
والسفيه المذكور قال جميع المفسرين هو إبليس لعنه الله
وقال آخرون هو اسم جنس لكل سفيه منهم
ولا محالة ان إبليس صدر في السفهاء وهذا القول أحسن
والشطط التعدي وتجاوز الحد بقول أو فعل ومنه قول الأعشى
(أتنتهون ولا ينهي ذوي شطط
* كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل) البسيط
وقوله تعالى * (وأنا ظننا) * هو كلام أولئك النفر لا يحتمل غير ذلك وكسر الألف فيه أبين
والمعنى إنا كنا نظن قبل إيماننا ان الأقوال التي تسمع من إبليس وغواة الجن والإنس في جهة الآلهة وما يتعلق بذلك حق وليست بكذب لأنا كنا نظن بهم أنهم لا يكذبون على الله ولا يرضون ذلك
وقرا جمهور الناس (تقول)
وقرا الحسن والجحدري وابن أبي بكرة ويعقوب (تقول) بفتح القاف والواو وشد الواو والتقول خاص بالكذب والقول عام له وللصدق ولكن قولهم * (كذبا) * يرد
القول هنا معنى التقول
قوله عز وجل
سورة الجن 6 - 10
هذه الألف من * (إنه) * كان مما اختلف في فتحها وكسرها والكسر أوجه
والمعنى في الآية ما كانت العرب تفعله في أسفارها وتعزبها في الرعي وغيره فإن جمهور المفسرين رووا ان الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في واد صاح بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك فيعتقد بذلك ان الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه فروى أن الجن كانت عند ذلك تقول ما نملك لكم ولأنفسنا من الله شيئا
قال مقاتل أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا ذلك في العرب
وروي عن قتادة ان الجن لذلك كانت تحتقر بني آدم وتزدريهم لما ترى من جهلهم فكانوا يزيدونهم مخافة ويتعرضون للتخيل لهم بمنتهى طاقاتهم ويغوونهم في إرادتهم لما رأوا رقة أحلامهم فهذا هو الرهق الذي زادته الجن ببني آدم
وقال مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير بنو آدم زادوا الجن * (رهقا) * وهي الجرأة والانتخاء عليهم والطغيان وغشيان المحارم والإعجاب لأنهم قالوا سدنا الجن والإنس وقد فسر قوم الرهق بالاثم وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى
(لا شيء ينفعني من دون رؤيتها
* لا يشتفي وامق ما لم يصب رهقا) البسيط
قال معناه ما لم يغش محرما فالمعنى زادت الإنس والجن مأثما لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالا لمحارم الله
وقوله * (وأنهم ظنوا كما ظننتم) * يريد به بني آدم الكفار
وقوله * (كما ظننتم) * مخاطبة
380

لقومهم من الجن
وقولهم * (أن لن يبعث الله أحدا) * يحتمل معنيين أحدهما بعث الحشر من القبور والآخر بعث آدمي رسولا
و * (أن) * في قوله * (أن لن) * مخففة من (ان) الثقيلة وهي تسد مسد المفعولين وذكر المهدوي تأويلا ان المعنى وان الجن ظنوا كما ظننتم أيها الإنس فهي مخاطبة من الله تعالى
وقولهم * (وأنا لمسنا) * قال معناه التمسنا ويظهر بمقتضى كلام العرب انها استعارة لتجربتهم امرها وتعرضهم لها فسمي ذلك لمسا إذ كان اللمس غاية غرضهم ونحو هذا قول المتنبي
(تعد القرى والمس بنا الجيش لمسة
* نبادر إلى ما تشتهي يدك اليمنى) الطويل
فعبر عن صدم الجيش بالجيش وحربه باللمس وهذا كما تقول المس فلانا في أمر كذا أي جرب مذهبه فيه و * (ملئت) * إما ان يكون في موضع المفعول الثاني ل (وجدنا) وإما ان يقصر الفعل على مفعول واحد ويكون * (ملئت) * في موضع الحال وكان الأعرج يقرأ (مليت) لا يهمز والشهب كواكب الرجم والحرس يحتمل ان يريد الرمي بالشهب
وكرر المعنى بلفظ مختلف ويحتمل ان يريد الملائكة و * (مقاعد) * جمع مقعد وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة قعود الجن انهم كانوا واحدا فوق واحد فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها ثم يزيد الكهان بالكلمة مائة كذبة وقوله * (فمن يستمع الآن) * الآية قطع على أن كل من استمع الآن أحرقه شهاب فليس هنا بعد سمع إنما الإحراق عند الاستماع، وهذا يقتضي ان الرجم كان في الجاهلية
ولكنه لم يكن يستأصل وكان الحرس ولكنه لم يكن شديدا فلما جاء الاسلام اشتد الأمر حتى لم يكن فيه ولا يسير سماحة ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد رأى كوكبا راجما (ماذا كنتم تقولون لهذا في الجاهلية قالوا كنا نقول ولد ملك مات ملك فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الأمر كذلك ثم وصف صورة قعود الجن) وقد قال عوف بن الجزع وهو جاهلي
(فانقض كالدري يتبعه
* نقع يثور تخاله طنبا) الكامل
وهذا في أشعارهم كثير و * (رصدا) * نعت لشهاب ووصفه بالمصدر وقوله * (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض) * الآية معناه لا ندري أيؤمن الناس بهذا النبي فيرشدون أم يكفرون به فينزل بهم الشر
قوله عز وجل
سورة الجن 11 - 15
وقولهم * (ومنا دون ذلك) * أي غير الصالحين كأنه قال ومنا قوم أو فرقة دون صالحين وهي لفظة
381

تقع أحيانا موقع غير
والطرائق السير المختلفة والقدد كذلك هي الأشياء المخالفة كأنه قد قد بعضها من بعض وفصل
قال ابن عباس وعكرمة وقتادة * (طرائق قددا) * أهواء مختلفة
قال غيره فرق مختلفون
قال الكميت
(جمعت بالرأي منهم كل رافضة
* إذ هم طرائق في أهوائهم قدد) البسيط
وقولهم * (وأنا ظننا أن لن نعجز) * الظن هنا بمعنى العلم
وهذا إخبار منهم عن حالهم بعد إيمانهم بما سمعوا من محمد صلى الله عليه وسلم و * (الهدى) * يريد القرآن سموه هدى من حيث هو سبب الهدى والبخس النقص والرهق تحميل ما لا يطاق وما يثقل من الأنكاد ويقرح
قال ابن عباس البخس نقص الحسنات والرهق الزيادة في السيئات
وقرا الأعمش ويحيى بن وثاب (فلا يخف) بالجزم دون ألف وقسم الله تعالى بعد ذلك حال الناس في الآخرة على نحو ما قسم قائل الجن فقوله * (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون) * والقاسط الظالم قاله مجاهد وقتادة والناس ومنه قول الشاعر
(قوم هم قتلوا ابن هند عنوة
* عمرا وهم قسطوا على النعمان) الكامل
والمقسط العادل وإنما هذا التقسيم ليذكر حال الطريقين من النجاة والهلكة ويرغب في الاسلام من لم يدخل فيه فالوجه ان يكون * (فمن أسلم) * مخاطبة من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ويؤيده ما بعده من الآيات و * (تحروا) * معناه طلبوا باجتهادهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها)
وقوله تعالى * (لجهنم حطبا) * نظير قوله تعالى * (وقودها الناس والحجارة) * البقرة 24 التحريم 6
قوله عز وجل
سورة الجن 16 - 22
الضمير في قوله * (استقاموا) * قال أبو مجلز والفراء والربيع بن أنس وزيد بن أسلم والضحاك بخلاف عنه الضمير عائد على قوله * (من أسلم) * الجن 14 و * (الطريقة) * طريقة الكفر لو كفر من أسلم من الناس * (لأسقيناهم) * إملاء لهم واستدراجا
وقال قتادة وابن جبير وابن عباس ومجاهد الضمير عائد على (القاسطين)
والمعنى على طريقة الإسلام والحق لأنعمنا عليهم وهذا المعنى نحو قوله * (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم) * المائدة 65 وقوله * (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) *
382

المائدة 66
وهذا قول أبين لأن استعارة الاستقامة للكفر قلقة
وقرا الأعمش وابن وثاب (وان لو) بضم الواو
وقال أبو الفتح هذا تشبيه بواو الجماعة اشتروا الضلالة والماء الغدق هو الماء الكثير
وقرا جمهور الناس (غدقا) بفتح الدال وقرأ عاصم في رواية الأعشى عنه بكسرها وقوله تعالى * (لنفتنهم) * إن كان المسلمون فمعناه لنختبرهم وإن كان القاسطون فمعناه لنمتحنهم ونستدرجهم وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يكون الماء فثم المال وحيث يكون المال فثم الفتنة ونزع بهذه الآية وقال الحسن وابن المسيب وجماعة من التابعين كانت الصحابة سامعين مطيعين فلما فتحت كنوز كسرى وقيصر وثب بعثمان فقتل وثارت الفتن
و * (يسلكه) * معناه يدخله وقرا عاصم وحمزة والكسائي بفتح الياء أي (يسلكه) الله وقرا بعض التابعين (يسلكه) بضم الياء من أسلك وهما بمعنى وقرا باقي السبعة (نسلكه) بنون العظمة وقرا ابن جبير (نسلكه) بنون مضمومة ولام مكسورة
و * (صعدا) * معناه شاقا تقول فلان في صعد من امره أي في مشقة وهذا امر يتصعدني وقال عمر ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس صعد جبل في النار وقرا قوم (صعودا) بضم الصاد والعين وقرا الجمهور بفتح الصاد والعين وقرا ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين وقال
الحسن معناه لا راحة فيه ومن فتح الألف من * (أن المساجد لله) * جعلها عطفا على قوله * (قل أوحي إلي أنه) * الجن 1 ذكره سيبويه و * (المساجد) * قيل أراد بها البيوت التي هي للعبادة والصلاة في كل ملة
وقال الحسن أراد كل موضع سجد فيه كان مخصوصا لذلك أو لم يكن إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة
وروي ان هذه الآية نزلت بسبب تغلب قريش على الكعبة حينئذ فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم المواضع كلها لله فاعبده حيث كان وقال ابن عطاء * (المساجد) * الآراب التي يسجد عليها واحدها مسجد بفتح الجيم وقال سعيد بن جبير نزلت الآية لأن الجن قالت يا رسول الله كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك فنزلت الآية يخاطبهم بها على معنى ان عبادتكم حيث كنتم مقبولة
وقال الخليل بن أحمد معنى الآية ولأن * (المساجد لله فلا تدعوا) * أي لهذا السبب وكذلك عنده * (لإيلاف قريش) * قريش 1 * (فليعبدوا) * قريش 3 وكذلك عنده * (وإن هذه أمتكم أمة) * الأنبياء 92 المؤمنون 52 و * (المساجد) * المخصوصة بينه التمكن في كونها لله تعالى فيصح ان تفرد للصلاة والدعاء وقراءة والعلم وكل ما هو خالص لله تعالى وان لا يتحدث بها في أمور الدنيا
ولا يتخذ طريقا ولا يجعل فيها لغير الله نصيب ولقد قعدت للقضاء بين المسلمين في المسجد الجامع بالمرية مدة ثم رأيت فيه من سوء المتخاصمين وأيمانهم وفجور الخصام وعائلته ودخول النسوان ما رأيت تنزيه البيت عنه فقطعت القعود للأحكام فيه
وقوله عز وجل * (وأنه لما قام عبد الله) * يحتمل ان يكون خطابا من الله تعالى ويحتمل ان يكون إخبارا عن الجن وقرا بعض القراء على ما تقدم (وأنه) بفتح الألف وهذا عطف على قوله * (أنه استمع) * الجن 1 والعبد على هذه القراءة قال قوم هو نوح والضمير في * (كادوا) * لكفار قومه وقال آخرون هو محمد والضمير في * (كادوا) * للجن
المعنى أنهم * (كادوا) * يتقصفون عليه لاستماع القرآن وقرا آخرون منهم (وإنه لما قام) بكسر الألف والعبد محمد عليه السلام والضمير في * (كادوا) * يحتمل ان يكون للجن على المعنى الذي ذكرناه ويحتمل ان يكون لكفار قومه
383

وللعرب في اجتماعهم على رد امره ولا يتجه ان يكون العبد نوحا الا على تحامل في تأويل نسق الآية وقال ابن جبير معنى الآية إنما قول الجن لقومهم يحكون والعبد محمد صلى الله عليه وسلم
والضمير في * (كادوا) * لأصحابه الذين يطوعون له ويقتدون به في الصلاة فهم عليه لبد
واللبد الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ومنه قول عبد بن مناف بن ربع
(صافوا بستة أبيات وأربعة
* حتى كأن عليهم جانيا لبدا) البسيط
يريد الجراد سماه جانيا لأنه يجني كل شيء ويروي جابيا بالباء لأنه يجبي الأشياء بأكله وقرا جمهور السبعة وابن عباس (لبدا) بكسر اللام جمع لبدة وقال ابن عباس أعوانا
وقرا ابن عامر بخلاف عنه وابن مجاهد وابن محيصن (لبدا) بضم اللام وتخفيف الباء المفتوحة وهو جمع أيضا
وروي عن الجحدري (لبدا) بضم اللام والباء
وقرا أبو رجاء (لبدا) بكسراللام وهو جمع لا بد فإن قدرنا الضمير للجن فتقصفهم عليه لاستماع الذكر وهذا تأويل الحسن وقتادة و * (ادعو) * معناه أعبده وقرا جمهور السبعة وعلي بن أبي طالب (قال إنما) وهذه قراءة تؤيد ان العبد نوح وقرا عاصم وحمزة بخلاف عنه (قال إنما) وهذه تؤيد بأنه محمد عليه السلام وإن كان الاحتمال باقيا من كليهما
واختلف القراء في فتح الياء من * (ربى) * وفي سكونها
ثم أمر تعالى محمدا نبيه عليه السلام بالتبري من القدرة وأنه لا يملك لأحد " ضرا ولارشدا " بل الأمر كله لله
وقرا الأعرج (رشدا) بضم الراء والشين وقرأ أبي بن كعب (لكم غيا ولا رشدا)
وقولهم * (من دونه) * أي من عند سواه
و (الملتحد) الملجأ الذي يمال اليه ويركن ومنه الإلحاد الميل ومنه اللحد الذي يمال به إلى أحد شقي القبر
قوله عز وجل
سورة الجن 23 - 28
اختلف الناس في تأويل قوله * (إلا بلاغا) * فقال الحسن ما معناه انه استثناء منقطع والمعنى لن يجيرني من الله أحد * (إلا بلاغا) * فإني إن بلغت رحمني بذلك والإجارة للبلاغ مستعارة إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته وقال بعض النحاة على هذا المعنى هو استثناء متصل
والمعنى لن أجد ملتحدا * (إلا بلاغا) * أي شيئا أميل اليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجبرني الله
وقال قتادة التقدير لا أملك * (إلا بلاغا) * إليكم فأما الإيمان أو الكفر فلا املكه
وقال بعض المتأولين * (الآ) * بتقدير الانفصال و (إن)
384

شرط و (لا) نافية كأنه يقول ولن أجد ملتحدا إن لم أبلغ من الله ورسالته و " من " في قوله * (من الله) * لابتداء الغاية
وقوله تعالى * (ومن يعص الله) * يريد الكفر بدليل الخلود المذكور
وقرأ طلحة وابن مصرف (فإن له) على معنى فجزاؤه ان له وقوله * (حتى إذا رأوا) * ساق الفعل في صيغة الماضي تحقيقا لوقوعه
وقوله تعالى * (من أضعف) * يحتمل أن تكون " من " في موضع رفع على الاستفهام والابتداء و * (أضعف) * خبرها ويحتمل أن تكون في موضع نصب ب * (سيعلمون) * و * (أضعف) * خبر ابتداء مضمر ثم امره تعالى بالتبري من معرفة الغيب في وقت عذابهم الذي وعدوا به والأمد المدة والغاية و * (عالم) * يحتمل ان يكون بدلا من * (ربى) * الجن 20 ويحتمل ان يكون خبر ابتداء مضمر على القطع وقرا السدي (عالم الغيب) على الفعل الماضي ونصب الباء وقرا الحسن (فلا يظهر) بفتح الياء والهاء (أحد) بالرفع
وقوله تعالى * (إلا من ارتضى من رسول) * معناه فإنه يظهره على ما شاء مما هو قليل من كثير ثم يبث تعالى حول ذلك الملك الرسول حفظة * (رصدا) * لإبليس وحزبه من الجن والإنس وقوله تعالى * (ليعلم) * قال قتادة معناه * (ليعلم) * محمد ان الرسل * (قد أبلغوا رسالات ربهم) * وحفظوا ومنع منهم
وقال سعيد بن جبير معناه يعلم محمد ان الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يديه جبريل وخلفه * (قد أبلغوا رسالات ربهم) *
وقال مجاهد * (ليعلم) * من كذب وأشرك ان الرسل قد بلغت
قال القاضي أبو محمد وهذا العلم لا يقع لهم إلا في الآخرة وقيل معناه * (ليعلم) * الله رسالته مبلغة خارجة إلى الوجود لأن علمه بكل شيء قد تقدم وقرا الجمهور (ليعلم) بفتح الياء أي الله تعالى
وقرا ابن عباس (ليعلم) بضم الياء وقرا أبو حيوة (رسالة ربهم) على التوحيد وقرا ابن أبي عبلة (وأحيط) على ما لم يسم فاعله وقوله تعالى " واحصى كل شيء " معناه كل شيء معدود وقوله تعالى * (ليعلم) * الآية مضمنه انه تعالى قد علم ذلك فعلى هذا الفعل المضمر انعطف * (وأحاط) * * (وأحصى) * والله المرشد للصواب بمنه
385

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المزمل
وهي مكية كلها في قول المهدوي وجماعة وقال الجمهور هي مكية الا قوله تعالى * (إن ربك يعلم) * المزمل 20 إلى آخر السورة فإن ذلك نزل بالمدينة
قوله عز وجل
سورة المزمل 1 - 10
قوله تعالى * (يا أيها المزمل) * نداء للنبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس لم نودي بهذا فقالت عائشة والنخعي وجماعة لأنه كان وقت نزول الآية متزملا بكساء والتزمل الالتفاف في الثياب بضم وتشمير ومنه قول امرئ القيس
(كان أبانا في أفانين ودقة
* كبير أناس في بجاد مزمل) الطويل
أي ملفوف وخفض مزمل في هذا البيت هو على الجوار وإنما هو نعت لكبير فهو عليه السلام على قول هؤلاء إنما دعي بهيئة في لباسه
وقال قتادة كان تزمل في ثيابه للصلاة واستعد فنودي على معنى يا أيها المستعد للعبادة المتزمل لها وهذا القول مدح له صلى الله عليه وسلم
وقال عكرمة معناه * (يا أيها المزمل) * للنبوءة وأعبائها أي المتشمر المجد
وقال جمهور المفسرين والزهري بما في البخاري من أنه عليه السلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فقال زملوني زملوني فنزلت * (يا أيها المدثر) * المدثر 1 وعلى هذا نزلت * (يا أيها المزمل) *
وفي مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب (يا أيها المتزمل)
وقرا بعض السلف (يا أيها المزمل) بفتح الزاي وتخفيفها وفتح الميم وشدها والمعنى الذي زمله أهله أو زمل للنبوءة
وقرا عكرمة (يا أيها المزمل) بكسر الميم المشددة وتخفيف الزاي أي المزمل نفسه واختلف الناس في هذا الأمر بقيام الليل كيف كان فقال جمهور أهل العلم هو امر على جهة الندب مذ كان لم يفرض قط ويؤيد هذا الحديث
386

الصحيح ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة في رمضان خلف حصير احتجره فصلى وصلى بصلاته ناس ثم كثروا من الليلة القابلة ثم غص المسجد بهم في الثالثة أو الرابعة فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصبوا بابه فخرج مغضبا وقال (إني إنما تركت الخروج لأني خفت ان يفرض عليكم)
وقيل إنه لم يكلمهم الا بعد الصبح
وقال آخرون كان فرضا في وقت نزول هذه الآية
واختلف هؤلاء فقال بعضهم كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وبقي كذلك حتى توفي عليه السلام وقيل بل نسخ عنه ولم يمت الا والقيام تطوع وقال بعضهم كان فرضا على الجميع ودام الأمر على ما قال سعيد بن جبير عشر سنين وقالت عائشة وابن عباس دام عاما وروي عنها أيضا ثمانية أشهر ثم رحمهم الله تعالى
فنزلت * (إن ربك يعلم أنك تقوم) * المزمل 20 فخفف عنهم
وقال قتادة بقي عاما أو عامين
وقرأ أبو السمال (قم الليل) بضم الميم لاجتماع الساكنين والكسر في كلام العرب أكثر كما قرأ الناس وقوله تعالى * (نصفه) * يحتمل ان يكون بدلا من قوله * (قليلا) * وكيف ما تقلب المعنى فإنه أمر بقيام نصف الليل أو أكثر شيء أو أقل شيء فالأكثر عند العلماء لا يزيد على الثلثين والأقل لا ينحط عن الثلث ويقوى هذا حديث ابن عباس في بيت ميمونة قال فلما انتصف الليل أو قبله بقليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزم على هذا الذي ذكرناه ان يكون نصف الليل قد وقع عليه الوصف بقليل وقد يحتمل عندي قوله * (إلا قليلا) * ان يكون استثناء من القيام فيجعل الليل اسم جنس ثم قال * (إلا قليلا) * أي الليالي التي تخل بقيامها عند العذر البين
وهذا النظر يحسن مع القول مع الندب جدا
وقد تكلم الجرجاني رحمه الله في نظمه في هذه الآية بتطويل وتدقيق غير مفيد أكثره غير صحيح
وقرأ الجمهور (أو انقص) بضم الواو وقرا الحسن وعاصم وحمزة بكسر الواو وقرا عيسى بالوجهين والضمير في * (منه) * و * (عليه) * عائدان على النصف وقوله تعالى * (ورتل القرآن) * معناه في اللغة تمهل وفرق بين الحروف لتبين
والمقصد ان يجد الفكر فسحة للنظر وفهم المعاني وبذلك يرق القلب ويفيض عليه النور والرحمة
قال ابن كيسان المراد تفهمه تاليا له ومنه الثغر الرتل الذي بينه فسخ وفتوح
وروي ان قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بينه مترسلة لو شاء أحد ان يعد الحروف لعدها
والقول الثقيل هو القرآن واختلف الناس لم سماه * (ثقيلا) * فقالت جماعة من المفسرين لما كان يحل في رسول الله من ثقل الجسم حتى أنه كان إذا أوحى اليه وهو على ناقته بركت به وحتى كادت فخذه ان ترض فخذ زيد بن ثابت رحمه الله
وقال أبو العالية والقرطبي بل سماه * (ثقيلا) * لثقله على الكفار والمنافقين باعجازه ووعيده ونحو ذلك
وقال حذاق العلماء معناه ثقيل المعاني من الأمر بالطاعات والتكاليف الشرعية من الجهاد ومزاولة الأعمال الصالحة دائمة قال الحسن إن الهذ خفيف ولكن العمل ثقيل
وقوله تعالى " إن ناشئة الليل هي أشد وطئا " قال ابن جبير وابن زيد هي لفظة حبشية نشأ الرجل إذا قام من اليل ف " نائشة " على هذا جمع ناشىء اي قائم و " أشد وطئا " معناه ثبوتا واستقلالا بالقيام * (وأقوم قيلا) * أي بخلو أفكارهم وإقبالهم على مايقرأونه
وقال ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين " نائشة الليل " ما بين المغرب والعشاء وقالت عائشة ومجاهد القيام بعد النوم ومن قام أول الليل قبل النوم فلم يقم ناشئة وقال ابن جبير وابن زيد
387

وجماعة * (ناشئة الليل) * ساعاته كلها لأنها تنشأ شيئا بعد شيء
وقال أبو مجلز وابن عباس وابن الزبير والحسن ما كان بعد العشاء فهو * (ناشئة) * وما كان قبلها فليس ب * (ناشئة) * قال ابن عباس كانت صلاتهم أول الليل فهي " أشد وطئا " أي أجدر ان يحصوا ما فرض الله عليكم من القيام لأن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ وقال الكسائي * (ناشئة الليل) * أوله وقال ابن عباس وابن الزبير الليل كله * (ناشئة) * و " أشد وطئا " على هذا يحتمل ان يكون أشد ثبوتا فيكون نسب الثبوت إليها من حيث هو القائم فيها
ويحتمل ان يريد انها صعبة القيام لمنعها النوم كما قال (اللهم أشدد وطأتك على مضر) فذكرها تعالى بالصعوبة ليعلم عظم الأجر فيها كما وعد على الوضوء على المكاره والمشي في الظلام إلى المساجد ونحوه
وقرا الجمهور (وطئا) بفتح الواو وسكون الطاء وقرا أبو عمرو ومجاهد وابن الزبير وابن عباس (وطاء) على وزن فعال والمعنى موافقة لأنه يخلو البال من أشغال النهار وأشغابه فيوافق قلب المرء لسانه وفكره عبارته فهذه مواطأة صحيحة وبهذا المعنى فسر اللفظ مجاهد وغيره وقرا قتادة في رواية حسين (وطاء) بكسر الواو وسكون الطاء والهمزة مقصورة وقرا انس (وأصوب قيلا) فقيل له إنما هو * (أقوم) * فقال أقوم وأصوب وأهيأ واحد
وقوله تعالى * (إن لك في النهار سبحا طويلا) * أي تصرفا وترددا في أمورك كما يتردد السابح في الماء
ومنه سمي الفرس سابحا لتثنيه واضطرابه وقال قوم من أهل العلم إنما معنى الآية التنبيه على أنه إن فات حزب الليل بنوم أو عذر فيلخلف بالنهار فإن فيه * (سبحا طويلا) * وقرا يحيى بن يعمر وعكرمة (سبخا طويلا) بالخاء منقوطة ومعناه خفة لك من التكاليف والتسبيخ التخفيف ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (ولا تسبخي عنه) لعائشة في السارق الذي سرقها فكانت تدعو عليه معناه لا تخففي عنه قال أبو حاتم فسر يحيى السبح بالنوم
وقال سهل * (واذكر اسم ربك) * يراد اقرا بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك * (وتبتل) * معناه انقطع من كل شيء الا منه وافرغ اليه
قال زيد بن أسلم التبتل رفض الدنيا ومنه تبتل الحبل وقولهم في الهبات ونحوها بتلة ومنه البتول و * (تبتيلا) * مصدر على غير المصدر وقرا حمزة والكسائي وابن
عامر وعاصم في رواية أبي بكر (رب المشرق) بالخفض على البدل من * (ربك) * وقرا الباقون وحفص عن عاصم (رب) على القطع أي هو رب أو على الابتداء والخبر * (لا إله إلا هو) *
وقرا ابن عباس وأصحاب عبد الله (رب المشارق والمغارب) بالجمع
والوكيل القائم بالأمر الذي يوكل اليه الأشياء وقوله تعالى * (واصبر على ما يقولون) * الآية قيل هي موادعة منسوخة بآية السيف والمراد بالآية قريش
وقال بعض العلماء قوله * (واهجرهم هجرا جميلا) * منسوخ واما الصبر على ما يقولون فقد يتوجه أحيانا ويبقى حكمه وفيما يتوجه من الهجر الجميل من المسلمين قال أبو الدرداء إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتقليهم
والقول الأول أظهر لأن الآية إنما هي في كفر قريش وردهم رسالته وإعلائهم بذلك لا يمكن أن يكون الحكم في هذه المعاني باقيا
388

قوله عز وجل
سورة المزمل 11 - 18
قوله تعالى * (وذرني والمكذبين) * وعيد لهم ولم يتعرض أحد لمنعه منهم لكنه إبلاغ بمعنى لا تشغل بهم فكرا وكلهم إلي
و * (النعمة) * غضارة العيش وكثرة المال
والمشار إليهم كفار قريش أصحاب القليب ببدر
ويروى انه لم يكن بين نزول الآية وبين بدر الا مدة يسيرة نحو عام وليس الأمر كذلك والتقدير الذي يعضده الدليل من إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي ان بين الأمرين نحو العشرة الأعوام ولكن ذلك قليل امهلوه و * (لدينا) * بمنزلة عندنا و (الأنكال) جمع نكل وهو القيد من الحديد ويروى انها قيود سود من نار و (الطعام ذو الغصة) شجرة الزقوم قاله مجاهد وغيره وقيل شوك من نار وتعترض في حلوقهم لا تخرج ولا تنزل قاله ابن عباس وكل مطعوم هنالك فهو ذو غصة وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم قرا هذه الآية فصعق والعامل في قوله * (يوم ترجف) *
الفعل الذي تضمنه قوله * (إن لدينا) * هو استقرار أو ثبوت والرجفان الاهتزاز والاضطراب من فزع وهول و (المهيل) اللين الرخو الذي يذهب بالريح ويجيء مهيلة
والأصل مهيول استثقلت الضمة على الياء فسكنت واجتمع ساكنان فحذفت الواو وكسرت الهاء بسبب الياء
وقوله تعالى * (إنا أرسلنا إليكم) * الآية خطاب للعالم لكن المواجهون قريش وقوله * (شاهدا عليكم) * نحو قوله * (وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * النساء 41 وتمثيله لهم امرهم بفرعون وعيد كأنه يقول فحالهم من العذاب والعقاب إن كفروا سائرة إلى مثل حال فرعون وقوله تعالى * (فعصى فرعون الرسول) * يريد موسى عليه السلام والألف واللام للعهد
والوبيل الشديد الرديء العقبى ويقال كلأ وبيل ومستوبل إذا كان ضارا لما يرعاه
وقوله تعالى * (فكيف تتقون) * معناه تجعلون لأنفسكم و * (يوما) * مفعول ب * (تتقون) * وقيل هو مفعول ب * (كفرتم) * على أن يجعله بمنزلة جحدتم ف * (تتقون) * على هذا من التقوى أي * (تتقون) * عقاب الله * (يوم) * و * (يجعل) * يصح ان يكون مسندا إلى اسم الله تعالى ويصح ان يكون مسندا إلى اليوم
وقوله تعالى * (الولدان شيبا) * يريد صغار الأطفال وقال قوم هذه حقيقة تشيب رؤوسهم من شدة الهول كما قد ترى الشيب في الدنيا من الهم المفرط كهول البحر ونحوه
وقال آخرون من المتأولين هو تجوز وإبلاغ في وصف هول ذلك اليوم
وواحد * (الولدان) * وليد وواحد الشيب أشيب
وقوله تعالى * (السماء منفطر به) * قيل هذا على النسب أي ذات انفطار كامراة حائض وطالق وقيل السماء تذكر وتؤنث وينشد في التذكير
(فلو رفع السماء اليه قوما
* لحقنا بالسماء مع السحاب) الوافر
وقيل من حيث لم يكن تانيثها حقيقيا جاز ان تسقط علامة التأنيث لها وقيل لم يرد اللفظ قصد السماء بعينها وإنما أراد ما علا من مخلوقات الله كأنه قصد السقف فذكر على هذا المعنى قاله منذر بن
389

سعيد وأبو عبيدة معمر والكسائي و " الانفطار " التصدع والانشقاق على غير نظام بقصد والضمير في " به " قال المنذر وغيره هو عائد على اليوم وقال مجاهد هو عائد على الله تعالى وهذا نظير قوله * (يوم تشقق السماء بالغمام) * الفرقان 25 الذي هو ظل يأتي الله فيها
والمعنى يأتي امره وقدرته وكذلك هنا * (منفطر به) * أي بأمره وسلطانه والضمير في قوله * (وعده) * ظاهر انه لله تعالى
ويحتمل ان يكون لليوم لأنه يضاف اليه من حيث هو منه
قوله عز وجل
سورة المزمل 19 - 20
الإشارة ب * (هذه) * يحتمل أن تكون إلى ما ذكر من الأنكال والجحيم والأخذ لوبيل ونحوه
ويحتمل أن تكون إلى السورة بأجمعها ويحتمل أن تكون إلى القرآن أي ان هذه الأقوال المنصوصة فيه * (تذكرة) * والتذكرة مصدر كالذكر
وقوله تعالى * (فمن شاء) * الآية ليس معناه إباحة الأمر وضده بل يتضمن معنى الوعد والوعيد
والسبيل هنا سبيل الخير والطاعة
وقوله تعالى * (إن ربك يعلم) * الآية نزلت تخفيفا لما كان استمر استعماله من قيام الليل إما على الوجوب أو على الندب حسب الخلاف الذي ذكرناه ومعنى الآية ان الله تعالى يعلم انك تقوم أنت وغيرك من أمتك قياما مختلفا فيه مرة يكثر ومرة يقل ومرة أدنى من الثلثين ومرة أدنى من الثلث وذلك لعدم تحصيل البشر لمقادير الزمن مع عدم النوم وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى واما البشر فلا يحصى ذلك فتاب الله عليهم أي رجع بهم من الثقل إلى الجنة وأمرهم بقراءة * (ما تيسر) * ونحو هذا يعطي عبارة الفراء ومنذر فإنهما قالا * (تحصوه) * تحفظوه وهذا التأويل هو على قراءة من قرأ (ونصفه وثلث) بالخفض عطفا على الثلثين وهي قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر
واما من قرا (ونصفه وثلثه) بالنصب عطفا على * (أدنى) * وهي قراءة باقي السبعة فالمعنى عنده آخر وذلك أن الله تعالى قرر انهم يقدرون الزمان على نحو ما امر به في قوله * (نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه) * المزمل 3 - 4 فلم يبق الا ان يكون قوله * (لن تحصوه) * لن تستطيعوا قيامه لكثرته وشدته فخفف الله عنكم فضلا منه لا لقلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الوقت ونحو هذا تعطي عبارة الحسن وابن جبير * (تحصوه) * تطيعوه وقرا جمهور القراء والناس (وثلثه) بضم اللام وقرا ابن كثير في رواية شبل عنه (وثلثه) بسكون اللام
وقوله تعالى " فاقرأوا ما تيسر من القرآن " إباحة هذا قول الجمهور وقال ابن جبير وجماعة هو فرض لا بد منه ولو خمسين آية وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض ولو قدر
390

حلب شاه الا ان الحسن قال من قرأ مائة آية لم يحاجه القرآن واستحسن هذا جماعة من العلماء قال بعضهم والركعتان بعد العتمة مع الوتر مدخلتان في حكم امتثال هذا الأمر ومن زاد زاده الله ثوابا و * (أن) * في قوله تعالى * (علم أن) * مخففة من الثقيلة
والتقدير أنه يكون فجاءت السين عوضا من المحذوف وكذلك جاءت لا في قول أبي محجن
(ولا تدفنني بالفلاة فإنني
* أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها) الطويل
والضرب في الأرض هو السفر للتجارة وضرب الأرض هو المشي للتبرز والغائط
فذكر الله تعالى أعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام اليل وهي المرض والسفر في تجارة أو غزو فخفف عنه القيام لها
وفي هذه الآية فضيلة الضرب في الأرض بل تجارة وسوق لها مع سفر الجهاد وقال عبد الله بن عمر أحب الموت إلي بعد القتل في سبيل الله ان أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله ثم كرر الأمر
بقراءة ما تيسر منه تأكيدا و * (الصلاة) * و * (الزكاة) * هما المفروضتان ومن قال إن القيام بالليل غير واجب قال معنى الآية خذوا من هذا الثقل بما تيسر وحافظوا على فرائضكم ومن قال إن شيئا من القيام واجب قال قرنه الله بالفرائض لأنه فرض
وإقراض الله تعالى هو إسلاف العمل الصالح عنده
وقرا جمهور الناس (هو خيرا) على أن يكون هو فصلا وقرا محمد بن السميفع وأبو السمال (هو خير) بالرفع على أن يكون " هو " ابتداء و (خير) خبره والجملة تسد مسد المفعول الثاني ل * (تجدوه) *
ثم أمر تعالى بالاستغفار وأوجب لنفسه صفة الغفران لا إله غيره قال بعض العلماء فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية ومن قوله تعالى * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون) * الذاريات 17
قال القاضي أبو محمد وعهدت أبي رحمه الله يستغفر إثر كل مكتوبة ثلاثا بعقب السلام ويأثر في ذلك حديثا فكان هذا الاستغفار من التقصير وتفلت الفكر أثناء الصلاة وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح
نجز تفسير سورة (المزمل) بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد وآله
391

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المدثر
وهي مكية بإجماع من أهل التأويل
قوله عز وجل
سورة المدثر 1 - 10
اختلف القراء في * (المدثر) * على نحو ما ذكرناه في * (المزمل) * المزمل 1 وفي حرف أبي بن كعب * (المدثر) * ومعناه المتدثر بثيابه و (الدثار) ما يتغطى الإنسان به من الثياب واختلف الناس لم ناداه ب * (المدثر) * فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من أنه لما فرغ من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى خديجة فقال زملوني زملوني نزلت * (يا أيها المدثر) * وقال النخعي وقتادة وعائشة نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله
وروي انه كان يدثر في قطيفة
وقال آخرون معناه أيها النائم
وقال عكرمة معناه * (يا أيها المدثر) * للنبوة وأثقالها واختلف الناس في أول ما نزل من كتاب الله تعالى فقال جابر بن عبد الله وأبو سلمة والنخعي ومجاهد هو * (يا أيها المدثر) * الآيات
وقال الزهري والجمهور هو * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * العلق 1 وهذا هو الأصح
وحديث صدر كتاب البخاري نص في ذلك وقوله تعالى * (قم فأنذر) * بعثة عامة إلى جميع الخلق قال قتادة المعنى انذر عذاب الله ووقائعه بالأمم وقوله تعالى * (وربك فكبر) * معناه عظمه بالعبادة وبث شرعه
وروي عن أبي هريرة ان بعض المؤمنين قال بم نفتتح صلاتنا فنزلت * (وربك فكبر) *
واختلف المتاولون في معنى قوله * (وثيابك فطهر) * فقال ابن سيرين وابن زيد بن أسلم والشافعي وجماعة هو أمر بتطهير الثياب حقيقة وذهب الشافعي وغيره من هذه الآية إلى وجوب غسل النجاسات من الثياب وقال الجمهور هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس والعرض وهذا كما تقول فلان طاهر الثوب ويقال للفاجر دنس الثوب ومنه قول الشاعر غيلان بن سلمة الثقفي
(وإني بحمد الله لا ثوب فاجر
* لبست ولا من خزية أتقنع) الطويل
وقال الآخر
(لاهم إن عامر ابن جهم
* أوذم حجا في ثياب دهم) الرجز
392

أي دنسه
وقال ابن عباس والضحاك وغيره المعنى لا تلبسها على غدرة ولا فجور وقال ابن عباس المعنى لا تلبسها من مكسب خبيث وقال النخعي المعنى طهرها من الذنوب وهذا كله معنى قريب بعضه من بعض وقال طاوس المعنى قصرها وشمرها فذلك طهرة للثياب
وقرا جمهور الناس (والرجز) بكسر الراء وقرأ حفص عن عاصم والحسن ومجاهد وأبو جعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن والنخعي وابن وثاب وقتادة وابن أبي إسحاق والأعرج و (الرجز) بضم الراء
فقيل هما بمعنى يراد بهما الأصنام والأوثان وقيل هما لمعنيين الكسر للنتن والتقابض وفجور الكفار والضم لصنمين (إساف ونائلة) قاله قتادة
وقيل للأصنام عموما قاله مجاهد وعكرمة والزهري
وقال ابن عباس * (الرجز) * السخط فالمعنى أهجر ما يؤدي اليه ويوجبه وقال الحسن كل معصية رجز وروى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية بالأوثان
واختلف المتاولون في معنى قوله تعالى * (ولا تمنن تستكثر) *
فقال ابن عباس وجماعة معه لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه فكأنه من قولهم من إذا أعطى قال الضحاك وهذا خاص بالنبي عليه السلام ومباح لأمته لكن لا اجر لهم فيه
قال مكي وهذا ومعنى قوله تعالى " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله " الروم 39 وهذا معنى أجنبي من معنى هذه السورة
وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال * (ولا تمنن تستكثر) * لا تقل دعوت فلم أجب وروى قتادة ان المعنى لا تدل بعملك ففي هذا التأويل تحريض على الجد وتخويف وقال ابن زيد معناه * (ولا تمنن) * على الناس بنبوءتك * (تستكثر) * بأجر أو بكسب تطلبه منهم
وقال الحسن بن أبي الحسن معناه * (ولا تمنن) * على الله بجدك * (تستكثر) * اعمالك ويقع لك بها إعجاب فهذه كلها من المن الذي هو تعديد اليد وذكرها
وقال مجاهد معناه ولا تضعف * (تستكثر) * ما حملناك من أعباء الرسالة وتستكثر من الخير فهذه من قولهم حبل منين أي ضعيف وفي قراءة ابن مسعود (ولا تمنن ان تستكثر) وقرا الحسن بن أبي الحسن (تستكثر) بجزم الراء وذلك كأنه قال لا تستكثر وقرا الأعمش (تستكثر) بنصب الراء وذلك على تقدير ان مضمرة وضعف أبو حاتم الجزم وقرا ابن أبي عبلة (ولا تمنن فتستكثر) بالفاء العاطفة والجزم وقرا أبو السمال (ولا تمن) بنون واحدة مشددة
* (ولربك فاصبر) * أي لوجه ربك وطلب رضاه وكما تقول فعلت لله تعالى والمعنى على الأدنى من الكفار وعلى العبادة وعن السهوات وعلى تكاليف النبوة قال ابن زيد وعلى حرب الأحمر والأسود لقد حمل أمرا عظيما
و * (الناقور) * الذي ينفخ فيه وهو الصور قاله ابن عباس وعكرمة
وقال خفاف بن ندبة
(إذا ناقورهم يوما تبدى
* أجاب الناس من غرب وشرق) الوافر
وهو فاعول من النقر وقال أبو حباب
أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ في الناقور خر ميتا
وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ) ففزع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا كيف نقول يا رسول الله قال (قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا) و * (يوم عسير) * معناه في عسر في الأمور الجارية على
393

الكفار فوصف اليوم بالعسر لكونه ظرف زمان له
وكذلك تجيء صفته باليسر
وقرا الحسن (عسر) بغير ياء
قوله عز وجل
سورة المدثر 11 - 25
قوله تعالى * (ذرني ومن خلقت وحيدا) * وعيد محض المعنى انا أكفي عقابه وشأنه كله
ولا خلاف بين المفسرين ان هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي فروي انه كان يلقب الوحيد أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته فذكر الوحيد في الآية في جملة النعمة التي أعطى وإن لم يثبت هذا فقوله تعالى * (خلقت وحيدا) * معناه منفردا قليلا ذليلا فجعلت له المال والبنين فجاء ذكر الوحدة مقدمة حسن معها وقوع المال والبنين وقيل المعنى خلقته وحدي لم يشركني فيه أحد ف * (وحيدا) * حال من التاء في * (خلقت) * والمال الممدود قال مجاهد وابن جبير هو ألف دينار وقال سفيان بلغني انه أربعة آلاف دينار وقاله قتادة وقيل عشرة آلاف دينار فهذا مد في العدد وقال النعمان بن بشير هي الأرض لأنها مدت وقال عمر بن الخطاب المال الممدود الربع المستغل مشاهرة فهو مد في الزمان لا ينقطع و * (شهودا) * معناه حضورا متلاحقين قال مجاهد وقتادة كان له عشرة من الولد وقال ابن جبير ثلاثة عشر والتمهيد التوطئة والتهيئة قال سفيان المعنى بسطت له العيش بسطا
وقوله تعالى * (ثم يطمع أن أزيد) * وصفه بجشع الوليد وعتبة في الازدياد من الدنيا وقوله تعالى * (كلا) * زجر ورد على أمنية هذا المذكور ثم أخبر عنه انه كان معاندا مخالفا لآيات الله وعبره يقال بعير عنود للذي يمشي مخالفا للإبل
ويحتمل ان يريد بالآيات آيات القرآن وهو الأصح في التأويل سبب كلام الوليد في القرآن بأنه سحر و (أرهقه) معناه أكلفه بمشقة وعسر و * (صعودا) * عقبة في جهنم روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب والصعود في اللغة العقبة الشاقة
وقوله تعالى مخبرا عن الوليد * (إنه فكر وقدر) * الآية روى جمهور المفسرين ان الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ثم سمع كذلك مرارا حتى كاد ان يقارب الاسلام ودخل إلى أبي بكر الصديق مرارا فجاءه أبو جهل فقال يا وليد أشعرت ان قريشا قد ذمتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة وزعمت انك إنما تقصد ان تأكل طعامه فقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولا يرضيهم ففتنة أبو جهل فافتتن وقال افعل ذلك ثم فكر فيما عسى أن يقول في القرآن فقال أقول شعر ما هو بشعر أقول
394

هو كاهن ما هو بكاهن أقول هو * (سحر يؤثر) * هو قول البشر اي ليس منزل من عند الله قال أكثر المفسرين فقوله تعالى * (فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر) * هو دعاء عليه وتقبيح لحاله أي انه ممن يستحق ذلك
وروي عن الزهري وجماعة غيره ان الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في امر القرآن وقال والله ان له لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لحياة وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو ولا يعلى ونحو هذا من الكلام فخالفوه فقالوا له هو شعر فقال والله ما هو بشعر ولقد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه قالوا فهو كاهن قال والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان وزمزمتهم قالوا هو مجنون قال والله ما هو بمجنون ولقد رأينا المجنون وخنقه قالوا هو سحر قال أما هذا فيشبه انه سحر ويقول أقوال نفسه
قال القاضي أبو محمد فيحتمل قوله تعالى * (فقتل كيف قدر) * أن يكون دعاء عليه على معنى تقبيح حاله ويحتمل ان يكون دعاء مقتضاه استحسان منزعه الأول ومدحه القرآن وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه فيجري هذا مجرى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل بن سهيل (ويل أمه مسعر حرب) ومجرى قول عبد الملك بن مروان قاتل الله كثيرا كأنه رآنا حين قال كذا وهذا معنى مشهور في كلام العرب ثم وصف تعالى إدباره واستكباره وانه ضل عند ذلك وكفر وإذا قلنا إن ذلك دعاء على مستحسن فعله فيجيء قوله تعالى * (ثم نظر) * معناه نظر فيما احتج به القرآن فرأى ما فيه من علو مرتبة محمد عليه السلام ف * (عبس) * لذلك * (وبسر) * اي قطب وقبض ما بين عينيه وأربد وجهه حسدا له فأدبر واستكبر أي ارتكس في ضلاله وزال إقباله أولا ليهتدي ولحقته الكبرياء وقال هذا سحر و * (يؤثر) * معناه يروى ويحمل أي يحمله محمد عن غيره وعلى التأويل ان الدعاء عليه دعاء على مستقبح فعله يجيء قوله * (ثم نظر) * معناه معادا بعينه لأن * (فكر وقدر) *
يقتضيه لكنه إخبار بترديده النظر في الأمر وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الوليد فقال له انظر وفكر فلما فكر قال ما تقدم
قوله عز وجل
سورة المدثر 26 - 31
* (سقر) * هو الدرك السادس من جهنم على ما روى و * (أصليه) * معناه اجعله فيها مباشرا لنارها وقوله تعالى * (وما أدراك ما سقر) * هو على معنى التعجب من عظم أمرها وعذابها ثم بين ذلك بقوله * (لا تبقي ولا تذر) * المعنى * (لا تبقي) * على من ألقى فيها * (ولا تذر) * غاية من العذاب الا وصلته إليها وقوله تعالى * (لواحة للبشر) * قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو رزين وجمهور الناس معناه مغيرة للبشرات محرقة للجلود مسودة لها و (البشر) جمع بشرة وتقول العرب لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسودته وقال الشاعر الأعشى
395

(لاحة الصيف والغيار وإشفاق
* على سقبة كقوس الضال) الخفيف
وأنشد أبو عبيدة
(يا بنت عمي لاحني الهواجر
*) الرجز
وقال الحسن وابن كيسان * (لواحة) * بناء مبالغة من لاح يلوح إذا ظهر والمعنى انها تظهر للناس وهم البشر من مسيرة خمسمائة عام وذلك لعظمها وهولها وزفيرها
وقرأ عطية العوفي (لواحة) بالنصب وقوله تعالى * (عليها تسعة عشر) * ابتداء وخبره مقدم في المجرور ولا خلاف بين العلماء انهم خزنة جهنم المحيطون بأمرها الذين إليهم جماع أمر زبانيتها وقد قال بعض الناس إنهم على عدد حروف بسم الله الرحمن الرحيم لأن بها تقووا وروي ان قريشا لما سمعت هذا كثر إلغاطهم فيه وقالوا لو كان هذا حقا فإن هذا العدد قليل فقال أبو جهل هؤلاء تسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز عشرة منا عن رجل منهم وقال أبو الأشدي الجمحي أنا أجهضهم على النار إلى غير هذا من أقوالهم السخيفة فنزلت في أبي جهل * (أولى لك فأولى) * القيامة 34 - 35 الآية وقرا أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن شبل (تسعة عشر) بسكون العين وذلك لتوالي الحركات وقرأ انس بن مالك وأبو حيوة (تسعة عشر) برفع التاء وروي عن انس بن مالك أنه قرأ (تسعة أعشر) وضعفها أبو حاتم وقوله تعالى * (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) * تبيين لفساد أقوال قريش أي إن جعلناهم خلقا لا قبل لأحد من الناس بهم وجعلنا عدتهم هذا القدر فتنة للكفار ليقع منهم من التعاطي والطمع في المبالغة ما وقع و * (ليستيقن) * أهل الكتاب التوراة والإنجيل أن هذا القرآن من عند الله إذ هم يجدوه هذه العدة في كتبهم المنزلة التي لم يقرأها محمد صلى الله عليه وسلم ولا هو من أهلها ولكن كتابه يصدق ما بين يديه من كتب الأنبياء إذ جميع ذلك حق يتعاضد منزل من عند الله قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وغيرهم وبورود الحقائق من عند الله عز وجل يزداد كل ذي إيمان إيمانا ويزول الريب عن المصدقين من أهل الكتاب ومن المؤمنين وقوله تعالى * (وليقول الذين في قلوبهم مرض) * الآية نوع من الفتنة لهذا الصنف المنافق أو الكافر أي جاروا وضلوا ولم يهتدوا لقصد الحق فجعلوا يستفهم بعضهم بعضا عن مراد الله تعالى بهذا المثل استبعادا ان يكون هذا من عند الله قال الحسين بن الفضل السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق فإنما المرض في هذه الآية الاضطراب وضعف الايمان
قوله عز وجل
سورة المدثر 31 - 42
قوله تعالى * (كذلك يضل الله من يشاء) * أي بهذه الصفة وهذا الرين على القلوب يضل ثم أخبر
396

تعالى أنه * (يهدي من يشاء) * من المؤمنين لما ورد بذلك لعلمهم بالقدرة ووقوف عقولهم على كنه سلطان الله تعالى فهم موقنون متصورون صحة ما أخبرت به الأنبياء وكتب الله تعالى ثم قال * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * إعلاما بأن الأمر فوق ما يتوهم وان الخبر إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها والسماء كلها عامرة بأنواع من الملائكة كلهم في عبادة متصلة وخشوع دائم وطاعة لا فترة في شيء من ذلك ولا دقيقة واحدة
وقوله تعالى * (وما هي إلا ذكرى للبشر) * قال مجاهد الضمير في قوله " وما هي " للنار المذكورة أي يذكرها البشر فيخافونها فيطيعون الله تعالى
وقال بعض الحذاق قوله تعالى * (ما هي) * يراد بها الحال والمخاطبة والنذارة قال الثعلبي وقيل " وما هي " يراد نار الدنيا أي إن هذه تذكرة للبشر بنار الآخرة وقوله عز وجل * (كلا) * رد على الكافرين وأنواع الطاغين على الحق ثم أقسم ب * (القمر) * تخصيص تشريف وتنبيه على النظر في عجائبه وقدرة الله تعالى في حركاته المختلفة التي هي مع كثرتها واختلافها على نظام واحد لا يختل وكذلك هو القسم ب * (الليل) * وب " الصبح " فيعود التعظيم في آخر الفكرة وتحصيل المعرفة إلى الله تعالى مالك الكل وقوام الوجود ونور السماء والأرض لا إله الا هو العزيز القهار
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر عن عاصم (إذ أدبر) بفتح الدال والباء وهي قراءة ابن عباس وابن المسيب وابن الزبير ومجاهد وعطاء ويحيى بن يعمر وأبي جعفر وشيبة وأبي الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة
وقرا نافع وحمزة وحفص عن عاصم (إذا أدبر) بسكون الدال وبفعل رباعي وهي قراءة سعيد بن جبير وأبي عبد الرحمن والحسن بخلاف عنهم والأعرج وأبي شيخ وابن محيصن وابن سيرين قال يونس بن حبيب (دبر) معناه انقضى و (أدبر) معناه تولى
وفي مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب (إذ أدبر) بفتح الدال وألف وبفعل رباعي وهي قراءة الحسن وأبي رزين وأبي رجاء ويحيى بن يعمر
وسأل مجاهد ابن عباس عن دبر الليل فتركه حتى إذا سمع المنادي الأول للصبح قال له يا مجاهد هذا حين دبر الليل وقال قتادة دبرالليل ولى
قال الشاعر الأصمعي
(وأبى الذي ترك الملوك وجمعهم
* بهضاب هامدة كأمس الدابر) الكامل
والعرب تقول في كلامها كأمس المدبر قال أبو علي الفارسي فالقراءتان جميعا حسنتان و (أسفر الصبح) أضاء وانتشر ضوءه قبل طلوع الشمس بكثير والإسفار رتب أول ووسط وآخر ومن هذه اللفظة السفر والسفر بفتح السين والسفير وسفرت المرأة عن وجهها كلها ترجع إلى معنى الظهور والانجلاء وقرا عيسى بن الفضيل وابن السميفع (إذا أسفر) فكأن المعنى طرح الظلمة عن وجهه وضعفها أبو حاتم وقوله تعالى * (إنها لإحدى الكبر) * قال قتادة وأبو رزين وغيره الضمير لجهنم ويحتمل ان يكون الضمير للنذارة وامر الآخرة فهو للحال والقصة وتكون هذه الآية مثل قوله عز وجل * (قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون) * ص 68 و * (الكبر) * جمع كبيرة وقرا جمهور القراء (لإحدى) بهمزة في ألف إحدى وروي عن ابن كثير انه قرا (لاحدى) دون همزة وهي قراءة نصر بن عاصم قال أبو علي التخفيف في * (لإحدى الكبر) * ان تجعل الهمزة فيها بين بين فاما حذف الهمزة فليس بقياس وقد جاء حذفها
قال أبو الأسود الدؤلي
(يا أبا المغيرة رب امر معضل
* فرجته بالنكر مني والدها) الكامل
397

وانشد ثعلب
(إن لم أقاتل فالبسوني برقعا
* وفتخات في اليدين أربعا) الكامل
وقوله تعالى * (نذيرا للبشر) * قال الحسن بن أبي الحسن لا نذير إذ هي من النار
وهذا القول يقتضي ان * (نذيرا) * حال من الضمير في * (أنها) *
أو من قوله * (لإحدى) * وكذلك أيضا على الاحتمال في أن تكون * (أنها) * يراد بها قصة الآخرة وحال العالم وقال أبو رزين الله جل ذكره هو النذير فهذا القول يقتضي ان * (نذيرا) * معمول الفعل تقديره ليس نذيرا للبشر أو ادعوا نذيرا للبشر وقال ابن زيد محمد عليه السلام هو النذير فهذا القول يقتضي أن * (نذيرا) * معمول لفعل
وهذا اختيار الخليل في هذه الآية ذكره الثعلبي قال ولذلك يوصف به المؤنث وقرا ابن أبي عبلة (نذير) بالرفع على إضمار هو وقوله تعالى " لمن يشاء منكم ان يتقدم أو يتأخر " قال الحسن هو وعيد نحو قوله تعالى * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * الكهف 29 وقوله تعالى * (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) * الحجر 24
قال القاضي أبو محمد هو بيان في النذارة وإعلام أن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر أي هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بفغلته وسوء نظره ثم قوي هذا المعنى بقوله * (كل نفس بما كسبت رهينة) * إذ ألزم بهذا القول إن المقصر مرتهن بسوء عمله
وقال الضحاك المعنى كل نفس حقت عليها كلمة العذاب ولا يرتهن تعالى أحدا من أهل الجنة إن شاء الله والهاء في * (رهينة) * للمبالغة أو على تأنيث اللفظ لا على معنى الانسان وقوله تعالى * (إلا أصحاب اليمين) * استثناء ظاهر الانفصال وتقديره لكن أصحاب اليمين وذلك لأنهم لم يكتسبوا ما هم به مرتهنون وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه * (أصحاب اليمين) * في هذه الآية أطفال المسلمين وقال ابن عباس هم الملائكة وقال الضحاك هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى وقال الحسن وابن كيسان هم المسلمون المخلصون وليسوا بمرتهنين ثم ذكر تعالى حال * (أصحاب اليمين) * وانهم في جنات يسأل بعضهم بعضا عمن غاب من معارفه فإذا علموا انهم مجرمون في النار قالوا لهم أو قالت الملائكة * (ما سلككم في سقر) * وسلك معناه ادخل ومنه قول أبي وجزة السعدي
(حتى سلكن الشوى منهم في مسك
* من نسل جوابة الآفاق مهداج)
398

قوله عز وجل
سورة المدثر 43 - 56
هذا هو اعتراف الكفار على أنفسهم وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان بالله والمعرفة به والخشوع والعبادة
والصلاة تنتظم على عظم الدين وأوامر الله تعالى وواجبات العقائد وإطعام المساكين ينتظم الصدقة فرضا وطواعية وكل إجمال ندبت اليه الشريعة بقول أو فعل والخوض * (مع الخائضين) * عرفه في الباطل قال قتادة المعنى كلما غوى غاو غووا معه والتكذيب * (بيوم الدين) * كفر صراح وجهل بالله تعالى و * (اليقين) * معناه عندي
صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة وقال المفسرون * (اليقين) * الموت وذلك عندي هنا متعقب لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي فإنما * (اليقين) * الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم احياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت
وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * الحجر 99
ثم أخبر تعالى ان * (شفاعة الشافعين) * لا تنفعهم فتقرر من ذلك ان ثم شافعين وفي صحة هذا المعنى أحاديث قال صلى الله عليه وسلم (يشفع الملائكة ثم النبيون ثم العلماء ثم الشهداء ثم الصالحون ثم يقول الله تعالى شفع عبادي وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فلا يبقى في النار من كان له إيمان) وروى الحسن ان الله تعالى يدخل الجنة بشفاعة رجل من هذه الأمة مثل ربيعة ومضر وفي رواية أبي قلابة أكثر من بني تميم وقال الحسن كنا نتحدث ان الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته ثم قال عز وجل * (فما لهم عن التذكرة معرضين) * أي والحال المنتظرة هي هذه الموصوفة وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين بتول واجتهاد في نفور (كأنهم حمر مستنفرة) إثبات لجهالتهم لأن الحمر من جاهل الحيوان جدا وقرا الأعمش (حمر) بإسكان الميم وفي حرف ابن مسعود (حمر نافرة) وقرا نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم (مستنفرة) بفتح الفاء وقرا الباقون بكسرها واختلف عن نافع وعن الحسن والأعرج ومجاهد فاما فتح الفاء فمعناها استنفرها فزعها من القسورة وأما كسر الفاء فعلى ان نفر واستنفر بمعنى واحد مثل عجب واستعجب وسخر واستسخر فكأنها نفرت هي ويقوي ذلك قوله تعالى * (فرت) * وبذلك رجح أبو علي قراءة كسر الفاء واختلف المفسرون في معنى القسورة فقال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة (القسورة) الرماة وقال ابن عباس أيضا وأبو هريرة وجمهور من اللغويين (القسورة) الأسد ومنه قول الشاعر
(مضمر تحذره الأبطال
* كأنه القسورة الرئبال) الرجز
وقال ابن جبير (القسورة) رجال القنص وقاله ابن عباس أيضا وقيل (القسورة) ركز الناس وقيل (القسورة) الرجال الشداد قال لبيد
(إذا ما هتفنا هتفة في ندينا
* أتانا الرجال العاندون القساور)
وقال ثعلب (القسورة) سواد أول الليل خاصة لآخره أو اللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر وقوله تعالى * (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) * معناه من هؤلاء المعارضين أي يريد كل انسان منهم ان ينزل عليه كتاب من الله وكان هذا من قول عبد الله بن أبي أمية وغيره
وروي ان
399

بعضهم قال إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل انسان فلتعرض ذلك الصحف علينا فنزلت الآية و * (منشرة) * معناه منشورة غير مطوية وقرا سعيد بن جبير (صحفا) بسكون الحاء وهي لغة يمانية وقرأ (منشرة) بسكون النون وتخفيف الشين وهذا على أن يشبه نشرت الثوب بأنشر الله الميت إذا لطى كالموت وقد عكس التيمي التشبيه في قوله
(ردت صنائعه عليه حياته
* فكأنه من نشرها منشور) الكامل
ولا يقال في الميت يحيى منشور الا على تشبيه بالثوب واما محفوظ اللغة فنشرت الصحيفة وأنشر الله الميت وقد جاء عنهم نشر الله الميت وقوله تعالى * (كلا) * رد على إرادتهم أي ليس الأمر كذلك ثم قال * (بل لا يخافون الآخرة) * المعنى هذه العلة والسبب في إعراضهم فكان جهلهم بالآخرة سبب امتناعهم للهدى حتى هلكوا وقرأ أبو حيوة (تخافون) بالتاء من فوق رويت عن ابن عامر ثم أعاد الرد والرجز بقوله تعالى * (كلا) * وأخبر ان هذا القول والبيان وهذه المحاورة بجملتها * (تذكرة) * * (فمن شاء) * وفقه الله تعالى لذلك ذكر معاده فعمل له ثم اخبر تعالى ان ذكر الإنسان معاده وجريه إلى فلاحه إنما هو كله بمشيئة الله تعالى وليس يكون شيء الا بها وقرا نافع وأهل المدينة وسلام ويعقوب (تذكرون) بالتاء من فوق وقرا أبو جعفر وعاصم وأبو عمرو والأعمش وطلحة وابن كثير وعيسى والأعرج (يذكرون) بالياء من تحت وروي عن أبي جعفر بالتاء من فوق وشد الذال كأنه تتذكرون فأدغم وقوله تعالى * (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) * خبر جزم معناه ان الله تعالى أهل بصفاته العلى ونعمه التي لا تحصى ونقمه التي لا تدفع لأن يتقى ويطاع ويحذر عصيانه وخلاف امره وانه بفضله وكرمه أهل ان يغفر لعباده إذا اتقوه وروى أنس بن مالك ان النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال يقول ربكم جلت قدرته وعظمته انا أهل ان اتقى فلا يجعل معي إله غيري ومن اتقى ان يجعل معي إلها غيري فانا أغفر له وقال قتادة معنى الآية هو أهل ان تتقى محارمه وأهل ان يغفر الذنوب
نجز تفسير سورة المدثر والحمد لله كثيرا
400

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القيامة
وهي مكية بإجماع من المفسرين وأهل التأويل وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال من سأل عن القيامة أو أراد ان يعرف حقيقة وقوعها فليقرا هذه السورة وقال المغيرة بن شعبة يقول الناس القيامة القيامة وإنما قيامة المرء موته وروي أيضا عن ابن جبير أنه حضر جنازة رجل فقال اما هذا فقد قامت قيامته
ويروى مثله عن علقمة وذكره الثعلبي
قال القاضي أبو محمد وقيامة الرجل في خاصته ليست بالقيامة الجامعة لجميع الخلق بعد البعث
لكن المغيرة رضي الله عنه كأنه قال هذا لمن يستبعد قيام الآخرة ويظن طول الأمد بينه وبينها فتوعده بقيام نفسه
قوله عز وجل
سورة القيامة 1 - 15
قرأ جمهور السبعة (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة) وقرأ ابن كثير والحسن بخلاف عنه والأعرج (لأقسم بيوم القيامة ولأقسم بالنفس) فأما القراءة الأولى فاختلف في تأويلها فقال ابن جبير (لا) استفتاح كلام بمنزلة ألا وأنشدوا على ذلك
(فلا وأبيك ابنة العامري
* لا يعلم القوم أني أفر) المتقارب
وقال أبو علي الفارسي (لا) صلة زائدة كما زيدت في قوله * (لئلا يعلم أهل الكتاب) * الحديد 29 ويعترض هذا بأن هذه في ابتداء كلام
ولا تزاد (لا) وما نحوها من الحروف الا في تضاعيف كلام
فينفصل عن هذا بان القرآن كله كالسورة الواحدة وهو في معنى الاتصال فجاز فيه هذا وقال الفراء (لا) نفي لكلام الكفار وزجر لهم ورد عليهم ثم استأنف على هذه الأقوال الثلاثة قوله * (أقسم) * ويوم القيامة اقسم الله به تنبيها منه لعظمه وهوله
وقوله تعالى (ولا أقسم بالنفس اللوامة) القول في (لا) على نحو ما
401

تقدم واما القراءة الثانية فتحتمل أمرين
إما أن تكون اللام دخلت على فعل الحال
التقدير لأنا أقسم فلا تلحق لأن النون نون التوكيد إنما تدخل في الأكثر لتفرق بين فعل الحال والفعل المستقبل فهي تلزم المستقبل في الأكثر وإما ان يكون الفعل خالصا للاستقبال فكأن الوجه والأكثر ان تلحق النون إما الخفيفة وإما الثقيلة لكن قد ذكر سيبويه ان النون قد تسقط مع إرادة الاستقبال وتغني اللام عنها
كما تسقط اللام وتغني النون عنها وذلك في قول الشاعر
(وقتيل مرة أثأرن فإنه
* فرغ وإن قتيلهم لم يثأر) الكامل
المراد لأثارن وأما قوله (ولا أقسم بالنفس اللوامة) فقيل (لا) نافية وإن الله تعالى أقسم بيوم القيامة ونفي ان يقسم بالنفس اللوامة نص عليه الحسن وقد ذهب هذا المذهب قوم ممن قرأ (لا أقسم ولأقسم) وذلك قلق وهو في القراءة الثانية أمكن وجمهور المتأولين على أن الله تعالى أقسم بالأمرين واختلف الناس في * (النفس اللوامة) * ما معناه فقال الحسن هي * (اللوامة) * لصاحبها في ترك الطاعة ونحوه فهي على هذا ممدوحه ولذلك أقسم الله تعالى بها وقال ابن عباس هي الفاجرة الجشعة * (اللوامة) * لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا واعراضها فهي على هذا ذميمة وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها والنفس في الآية اسم جنس لنفوس البشر وقال ابن جبير ما معناه إن القسم بها هي اسم الجنس لأنها تلوم على الخير وعلى الشر وقيل المراد نفس آدم لأنها لم تزل اللائمة له على فعله الذي اخرجه من الجنة
قال القاضي أبو محمد وكل نفس متوسطة ليست بالمطمئنة ولا بالأمارة بالسوء فإنها لوامة في الطرفين مرة تلوم على ترك الطاعة ومرة تلوم على فوت ما تشتهي فإذا اطمأنت خلصت وصفت
وقوله تعالى * (أيحسب الإنسان) * تقرير وتوبيخ و * (الإنسان) * اسم جنس وهذه أقوال كانت لكفار قريش فعليها هو الرد وقرا جمهور الناس (نجمع عظامه) بالنون ونصب الميم من العظام وقرا قتادة (ان لن يجمع عظامه) بالياء ورفع الميم من العظام ومعنى ذلك في القيامة وبعد البعث من القبور وقرا أبو عمرو بإدغام العين ثم قال تعالى * (بلي) * وهي إيجاب ما نفي وبابها ان تأتي بعد النفي والمعنى بل يجمعها * (قادرين) * بنصب * (قادرين) * على الحال
وقرأ ابن أبي عبلة (قادرون) بالرفع وقال القتبي * (نسوي بنانه) * معناه نتقنها سوية والبنان الأصابع فكان الكفار لما استبعدوا جمع العظام بعد الفناء والإرمام قيل لهم إنما تجمع ويسوى أكثرها تفرقا وأدقها أجزاء وهي عظام الأنامل ومفاصلها وهذا كله عند البعث وقال ابن عباس وجمهور المفسرين * (نسوي بنانه) * معناه نجعلها في حياته هذه بضعة أو عظما واحدا كخف البعير لا تفاريق فيه فكان المعنى قادرين لأن في الدنيا على أن نجعلها دون تفرق فتقل منفعته بيده فكان التقدير * (بلي) * نحن أهل ان نجمعها * (قادرين) * على إزالة منفعة بيده ففي هذا توعد ما والقول الأول أحرى مع رصف الكلام ولكن على هذا القول جمهور العلماء وقوله تعالى * (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) * قال بعض المتأولين الضمير في * (إمامه) * عائد على * (الإنسان) * ومعنى الآية ان الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكب رأسه ومطيع امله ومسوفا بتوبته قاله مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي وقال السدي المعنى ليظلم على قدر طاقته وقال الضحاك
402

المعنى يركب رأسه في طلب الدنيا دائما وقوله تعالى * (ليفجر أمامه) * تقديره لكن يفجر وقال ابن عباس ما يقتضي ان الضمير في * (إمامه) * عائد على * (يوم القيامة) * والمعنى ان الإنسان هو في زمن وجوده امام يوم القيامة وبين يديه ويوم القيامة خلفه فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة
وهو لا يعرف قدر الضرر الذي هو فيه ونظيره قوله تعالى * (ليفجر) * قول قيس بن سعد (أردت لكيما يعرف الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود)
و * (بل) * في أول الآية هي إضراب على معنى الترك الا على معنى إبطال الكلام الأول وقد تجيء بل لإبطال القول الذي قبلها وسؤال الكافر * (أيان يوم القيامة) * هو على معنى التكذيب والهزء كما تقول لمحدث بأمر تكذبه متى يكون هذا و * (أيان) * لفظة بمعنى متى وهي مبينة لتضمنها معنى الاستفهام فأشبهت الحروف المتضمنة للمعاني
وكان حقها ان تبنى على السكون لكن فتحت النون لالتقاء الساكنين الألف وهي وقرأ أبو عمرو والحسن ومجاهد وقتادة والجحدري وعاصم والأعمش وأبو جعفر وشيبة (برق البصر) بكسر الراء بمعنى شخص وشق وحار
وقرا نافع وعاصم بخلاف وعبد الله بن أبي إسحاق وزيد بن ثابت ونصر ببن عاصم (برق) بفتح الراء بمعنى لمع وصار له بريق وحار عند الموت والمعنى متقارب في القراءتين وقال أبو عبيدة (برق) بالفتح شق وقال مجاهد هذا عند الموت وقال الحسن هذا في يوم القيامة وقرا جمهور الناس (وخسف القمر) على أنه فاعل وقرا أبو حيوة (خسف) بضم الخاء وكسر السين و (القمر) مفعول لما يسم فاعله
يقال خسف القمر وخسفه الله وكذلك الشمس وقال أبو عبيدة وجماعة من اللغويين الخسوف والكسوف بمعنى واحد قال ابن أبي أويس الكسوف ذهاب بعض الضوء والخسوف ذهاب جميعه وروي عن عروة وسفيان ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا خسفت)
وقوله تعالى * (وجمع الشمس والقمر) * غلب عليه التذكير على التأنيث وقيل ذلك لأن تأنيث الشمس غير حقيقي وقيل المراد بين الشمس والقمر وكذلك قرا ابن أبي عبلة
واختلف المتأولون في معنى الجمع بينهما فقال عطاء بن يسار يجمعان فيقذفان في النار وقيل في البحر فتصير نار الله العظمى وقيل يجمع الضوءان فيذهب بهما وقرا جمهور الناس (أين المفر) بفتح الميم والفاء على المصدر أي أين الفرار وقرا ابن عباس والحسن وعكرمة وأيوب السخيتاني وكلثوم بن عياض ومجاهد ويحيى بن يعمر وحماد بن سلمة وأبو رجاء وعيسى وابن أبي إسحاق (أين المفر) بفتح الميم وكسر الفاء على معنى أين موضع الفرار وقرا الزهري (أين المفر) بكسر الميم وفتح الفاء بمعنى أين الجيد الفرار و * (كلا) * زجر يقال للإنسان يومئذ ثم يعلن أنه * (لا وزر) * له أي ملجأ وعبر المفسرون عن الوزر بالحبل قال مطرف بن الشخير وغيره وهو كان وزر فرار العرب في بلادهم فلذلك استعمل والحقيقة انه الملجأ كان جبلا أو حصنا أو سلاحا أو رجلا أو غيره
وقوله تعالى * (إلى ربك يومئذ المستقر) * معناه إلى حكم ربك أو نحوه من التقدير و * (المستقر) * رفع بالابتداء وخبره في المقدر الذي يتعلق به المجرور المتقدم
تقدير الكلام المستقر ثابت أو كائن إلى ربك يومئذ و * (المستقر) * موضع الاستقرار وقوله تعالى * (بما قدم وأخر) * قسمة تستوي في كل عمل أي يعلم بكل ما فعل ويجده محصلا قال ابن عباس وابن مسعود المعنى * (بما قدم) * في حياته * (وأخر) * من سنة يعمل بها بعده وقال ابن عباس أيضا
403

* (بما قدم) * من المعاصي * (وأخر) * من الطاعات وقال زيد بن أسلم * (بما قدم) * لنفسه من ماله وبما اخر منه للوارث وقوله تعالى * (بل الإنسان) * إضراب بمعنى الترك لا على معنى إبطال القول الأول و * (بصيرة) * يحتمل ان يكون خبرا عن الإنسان ولحقته هاء التأنيث كما لحقت علامة ونسابة والمعنى فيه وفي عقله وفطرته وطليعة وشاهد مبصر على نفسه والهاء للتانيث ويراد ب (البصيرة) جوارحه أو الملائكة الحفظة وهذا تأويل ابن عباس و (المعاذير) هنا قال الجمهور هي الأعذار جمع معذرة وقال السدي والضحاك هي الستور بلغة اليمن يقولون للستر المعذار وقال الحسن المعنى
* (بل الإنسان على نفسه) * بلية ومحنة كأنه ذهب إلى البصيرة التي هي طريقة الدم وداعية طلب الثأر وفي هذا نظر
قوله عز وجل
سورة القيامة 16 - 30
الضمير في " به " عائد على كتاب الله تعالى ولم يجر له ذكر ولكن القرائن تبينه فهو كقوله تعالى * (توارت بالحجاب) * ص 32 وكقوله تعالى * (كلا إذا بلغت التراقي) * يعني النفس واختلف المتأولون في السبب الموجب ان يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فقال الشعبي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرصه على أداء الرسالة والاجتهاد في ذات الله تعالى ربما أراد النطق ببعض ما أوحي اليه قبل كمال إيراد الوحي فأمر ان لا يعجل بالقرآن من قبل ان يفضي اليه وحيه
وجاءت هذه الآية في هذا المعنى
وقال الضحاك كان سببها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاف ان ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق فنزلت الآية في ذلك وقال كثير من المفسرين وهو في صحيح البخاري عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه مخافة ان يذهب عنه ما يوحى إليه فنزلت الآية بسبب ذلك واعلمه الله تعالى انه يجمعه له في صدره * (وقرآنه) * يحتمل ان يريد به وقراءته أي تقرأه أنت يا محمد والقرآن مصدر كالقراءة ومنه قول الشاعر حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنه وأرضاه
(ضحوا بأشمط عنوان السجود به
* يقطع الليل تسبيحا وقرآنا) البسيط
ويحتمل ان يريد * (إن علينا جمعه) * وتأليفه في صدر صدرك فهو مصدر من قولك قرأت أي جمعت ومنه قولهم في المراة التي لم تلد ما قرأت سلا قط ومنه قول
الشاعر عمرو بن كلثوم
(ذراعي عيطل أدماء بكر
* هجان اللون لم تقرأ جنينا) الوافر
وقوله تعالى * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) * أي قراءة الملك الرسول عنا
وقوله تعالى * (فاتبع) * يحتمل
404

أن يريد بذهنك وفكرك أي فاستمع قراءته وقاله ابن عباس ويحتمل ان يريد * (فاتبع) * في الأوامر والنواهي قاله ابن عباس أيضا وقتادة والضحاك
وقرا أبو العالية (قرته) (فإذا قرته فاتبع قرته) بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثالثة وقوله تعالى * (ثم إن علينا بيانه) * قال قتادة وجماعة معه معناه ان نبينه لك ونحفظكه وقال كثير من المتأولين معناه ان تبينه أنت وقال قتادة أيضا وغيره معناه ان نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره وقوله تعالى * (كلا بل تحبون العاجلة) * رجوع إلى مخاطبة قريش فرد عليهم وعلى أقوالهم في رد الشريعة بقوله * (كلا) * ليس ذلك كما تقولون
وإنما أنتم قوم قد غلبتكم الدنيا بشهواتها فأنتم تحبونها حبا تتركون معه الآخرة والنظر في امرها
وقرأ الجمهور (تحبون) بالتاء على المخاطبة وقرا ابن كثير وأبو عمرو والحسن ومجاهد والجحدري وقتادة (يحبون) بالياء على ذكر الغائب وكذلك (يذرون)
ولما ذكر الآخرة أخبر بشيء من حال أهلها بقوله * (وجوه) * رفع بالابتداء وابتداء بالنكرة لأنها تخصصت بقوله " يؤمئذ " و * (ناضرة) * خبر * (وجوه) *
وقوله تعالى * (إلى ربها ناظرة) * جملة هي في موضع خبر بعد خبر وقال بعض النحويين * (ناضرة) * نعت ل * (وجوه) * و * (إلى ربها ناظرة) * خبر عن * (وجوه) * فعلى هذا كثر تخصص الوجوه فحسن الابتداء بها
و * (ناضرة) * معناه ناعمة والنضرة النعمة وجمال البشرة قال الحسن وحق لها ان تنضر وهي تنظر إلى الخالق وقوله تعالى * (إلى ربها ناظرة) * حمل هذه الآية أهل السنة على أنها متضمنة رؤية المؤمنين لله تعالى وهي رؤية دون محاذاة ولا تكييف ولاتحديد كما هو معلوم موجود لا يشبه الموجودات كذلك هو لا يشبه المرئيات في شيء فإنه ليس كمثله شيء لا إله إلا هو وروى عبادة بن الصامت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (حدثتكم عن الدجال انه أعور وان ربكم ليس باعور وانكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) وقال صلى الله عليه وسلم (إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) وقال الحسن تنظرون إلى الله تعالى بلا إحاطة واما المعتزلة الذين ينفون رؤية الله تعالى فذهبوا في هذه الآية إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة أو إلى ثوابه أو ملكه فقدروا مضافا محذوفا وهذا وجه سائغ في العربية كما تقول فلان ناظر إليك في كذا أي إلى صنعك في كذا
والرواية إنما تثبتها بأدلة قاطعة غير هذه الآية فإذا ثبتت حسن تأويل أهل السنة في هذه الآية وقوي وذهب بعض المعتزلة في هذه الآية إلى أن قوله * (إلي) * ليست بحرف الجر وإنما هي إلى واحد الآلاء فكأنه قال نعمة ربها منتظرة أو * (ناظرة) * من النظر بالعين ويقال نظرتك بمعنى انتظرتك ومنه قول الحطيئة
(وقد نظرتكم أبناء عائشة
* للخمس طال بها حبسي وتبساسي) البسيط
والتبساس ان يقال للناقة بس بس لتدر على الحالب وفسر أبو عبيدة في غريبه هذا البيت على رواية أخرى وهي طال بها حوزي وتنساسي بالنون وهو السير الشديد فتأمله و (الباسرة) العابسة المغمومة النفوس
والبسور أشد العبوس وإنما ذكر تعالى الوجوه لأنه فيها يظهر ما في النفس من سرور أو غم والمراد أصحاب الوجوه وقوله تعالى * (تظن أن يفعل) * إن جعلناه بمعنى توقن فهو لم يقع بعد على ما بيناه وإن جعلنا الظن هنا على غلبته فلذلك محتمل و (الفاقرة) المصيبة التي تكسر قفار الإنسان قال ابن المسيب هي قاصمة الظهر وقال أبو عبيدة هي من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار وقوله
405

تعالى * (كلا إذا بلغت) * زجر آخر لقريش وتذكير لهم بموطن من مواطن الهول وامر الله تعالى الذي لا محيد لبشر عنه وهي حالة الموت والمنازعة التي كتبها الله على كل حيوان و * (بلغت) * يريد النفس و * (التراقي) * ترقوة وهي عظام أعلى الصدر ولكل أحد ترقوتان لكن من حيث هذا الأمر في كثير من جمع إذ النفس المرادة اسم جنس و * (التراقي) * هي موازية للحلاقيم فالأمر كله كناية عن حال الحشرجة ونزاع الموت يسره الله علينا بمنه واختلف الناس في معنى قوله تعالى * (من راق) * فقال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو قلابة معناه من يرقى ويطب ويشفى ونحو هذا مما يتمناه أهل المريض وقال ابن عباس أيضا وسليمان التيمي ومقاتل وابن سليمان هذا القول للملائكة والمعنى من يرقى بروحه أي يصعد إلى السماء املائكة الرحمة أم ملائكة العذاب وقرا حفص عن عاصم بالوقف على " من " ويبتدىء * (راق) *
وأدغم الجمهور قال أبو علي لا اعرف وجه قراءة عاصم وكذلك قرا (بل ران) وقوله تعالى * (وظن أنه الفراق) * يريد وتيقن المريض انه فراق الأحبة والأهل والمال والحياة وهذا يقين فيما لم يقع بعد ولذلك استعملت فيه لفظة الظن وقرا ابن عباس (أيقن انه الفراق) وقال في تفسيره ذهب الظن واختلف في معنى قوله * (والتفت الساق بالساق) * فقال ابن عباس والحسن والربيع بن انس وإسماعيل بن أبي خالد هذه استعارة لشدة كرب الدنيا في آخر يوم منها وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها لأنه بين الحالين قد اختلطا له وهذا كما تقول شمرت الحرب عن ساق وعلى بعض التأويلات في قوله تعالى * (يوم يكشف عن ساق) * القلم 42 وقال ابن المسيب
والحسن هي حقيقة والمراد ساق الميت عند تكفينه أي لفهما الكفن
وقال الشعبي وأبو مالك وقتادة هو التفافهما بشدة المرض لأنه يقبض ويبسط ويركب هذا على هذا وقال الضحاك المراد أسوق حاضريه من الإنس والملائكة لأن هؤلاء يجهزون روحه إلى السماء وهؤلاء بدنه إلى قبره وقوله تعالى * (إلى ربك) * معناه إلى حكم ربك وعدله فإما إلى جنة وإما إلى نار و * (المساق) * مصدر من السوق
قوله عز وجل
سورة القيامة 31 - 40
قال جمهور المتأولين هذه الآية كلها إنما نزلت في أبي جهل بن هشام
قال القاضي أبو محمد ثم كادت هذه الآية ان تصرح له في قوله تعالى * (يتمطى) * فإنها كانت مشية بني مخزوم وكان أبو جهل يكثر منها وقوله تعالى * (فلا صدق ولا صلى) * تقديره فلم يصدق ولم يصل وهذا نحو قول الشاعر طرفة بن العبد
(فأي خميس فإنا لا نهابه
* وأسيافنا يقطرن من كبشه دما) الطويل
406

وقول الآخر أبي خيراش الهذلي
(إن تغفر اللهم تغفر جما
* وأي عبد لك لا ألما) الرجز
* (فلا) * في الآية عاطفة و * (صدق) * معناه برسالة الله ودينه وذهب قوم إلى أنه من الصدقة والأول أصوب و * (يتمطى) * معناه يمشي المطيطى وهي مشية بتبختر قال زيد بن أسلم كانت مشية بني مخزوم وهي مأخوذة من المطا وهو الظهر لأنه يثنى فيها وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مشت أمتي المطيطى وخدمتهم الروم وفارس سلط بعضهم على بعض)
وقال مجاهد نزلت هذه الآية في أبي جهل
وقوله تعالى * (أولى لك) * وعيد ثان ثم كرر ذلك تأكيدا والمعنى * (أولى لك) * الازدجار والانتهاء وهو مأخوذ من ولى والعرب تستعمل هذه الكلمة زجرا ومنه قوله تعالى * (فأولى لهم طاعة) * محمد 20 وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبب أبا جهل يوما في البطحاء وقال له (إن الله يقول لك * (أولى لك فأولى) *) فنزل القرآن على نحوها
وفي شعر الخنساء
(سئمت بنفسي كل الهموم
* فأولى لنفسي أولى لها) المتقارب
وقوله تعالى * (أيحسب) * توقيف وتوبيخ و * (سدي) * معناه مهملا لا يؤمر ولا ينهى ثم قرر تعالى على أحوال ابن آدم في بدايته التي إذا تؤملت لم ينكر معها جواز البعث من القبور عاقل
وقرا الجمهور (ألم يك) بالياء من تحت وقرا الحسن (ألم تك) بالتاء من فوق و (النطفة) القطعة من الماء
يقال ذلك للقليل والكثير و (المنى) معروف وقرا ابن عامر وحفص عن عاصم وأبو عمرو بخلاف وابن محيصن والجحدري وسلام ويعقوب (يمنى) بالياء يراد بذلك المني ويحتمل ان يكون يمني من قولك امنى الرجل ويحتمل ان يكون من قولك منى الله الخلق فكأنه قال من مني تخلق وقرا جمهور السبعة والناس (تمنى) بالتاء يراد بذلك النطفة و (تمنى) يحتمل الوجهين اللذين ذكرت و (العلقة) القطعة من الدم لأن الدم هو العلق وقوله تعالى * (فخلق فسوى) * معناه فخلق الله منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة فسواه شخصا مستقلا وفي مصحف ابن مسعود (يخلق) بالياء فعلا مستقبلا و * (الزوجين) * النوعين ويحتمل ان يريد المزدوجين من البشر ثم وقف تعالى توقيف التوبيخ وإقامة الحجة بقوله * (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) * وقرا الجمهور بفتح الياء الأخيرة من (يحيي) وقرا طلحة بن مصرف وسليمان والفياض بن غزوان بسكونها وهي تنحذف من اللفظ لسكون اللام من * (الموتى) * ويروي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال (سبحانك اللهم وبحمدك وبلى) ويروى انه كان يقول (بلى) فقط
نجز تفسير سورة * (القيامة) * والحمد لله رب العالمين
407

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإنسان
قال بعض المفسرين هي مكية كلها وحكى النقاش والثعلبي عن مجاهد وقتادة انها مدنية وقال الحسن وعكرمة منها آية مكية وهي قوله تعالى * (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) * الإنسان 24 والباقي مدني وانها نزلت في صنيع علي بن أبي طالب في إطعامه عشاءه وعشاء أهله وولده لمسكين ليلة ثم ليتيم ليلة ثم لأسير ليلة متواليات وقيل
نزلت في صنيع ابن الدحداح والله أعلم
قوله عز وجل
سورة الإنسان 1 - 6
* (هل) * في كلام العرب قد يجيء بمعنى (قد)
حكاه سيبويه
لكنها لا تخلو من تقرير وبابها المشهور الاستفهام المحض والتقرير أحيانا
فقال ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى (قد) و * (الإنسان) * يراد به آدم عليه السلام و (الحين) هي المدة التي بقي طينا قبل ان ينفخ فيه الروح أي انه شيء ولم يكن مذكورا منوها به في العالم وفي حالة العدم المحض قبل * (لم يكن شيئا) * ولا * (مذكورا) * وقال أكثر المتأولين * (هل) * تقرير و * (الإنسان) * اسم الجنس أي إذا تأمل كل انسان نفسه علم بأنه قد مر * (حين من الدهر) * عظيم * (لم يكن) * هو فيه * (شيئا مذكورا) * أي لم يكن موجودا وقد يسمى الموجود * (شيئا) * فهو مذكور بهذا الوجه و (الحين) هنا المدة من الزمن غير محدودة تقع للقليل والكثير وإنما تحتاج إلى تحديد الحين في الايمان فمن حلف ان لا يكلم أخاه حينا فذهب بعض الفقهاء إلى أن الحين سنة وقال بعضهم ستة أشهر والقوي في هذا ان * (الإنسان) * اسم جنس وان الآية جعلت عبرة لكل أحد من الناس ليعلم ان الصانع له قادر على إعادته
وقوله تعالى * (إنا خلقنا الإنسان) * هو هنا اسم الجنس بلا خلاف
لأن آدم لم يخلق * (من نطفة) * و * (أمشاج) * معناه أخلاط واحدها مشج بفتح الميم والشين قاله ابن السكيت وغيره وقيل مشج مثل عدل
408

واعدال وقيل مشيج مثل شريف وأشراف واختلف في المقصود من الخلط فقيل هو * (أمشاج) * ماء الرجل بماء المرأة وأسند الطبري حديثا وهو أيضا في بعض المصنفات (إن عظام ابن آدم وعصبة من ماء الرجل ولحمه وشحمه من ماء المرأة)
وقيل هو اختلاط امر الجنين بالنقلة من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى غير ذلك
فهو امر مختلط وقيل هو اختلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء فيه و * (نبتليه) * معناه نختبره بالإيجاد والكون في الدنيا هو حال من الضمير في * (خلقنا) * كأنه قال مختبرين له بذلك وقوله تعالى * (فجعلناه) * عطف جملة تعم على جملة تعم وقال بعض النحويين إنما المعنى فنبتليه جعلناه * (سميعا بصيرا) * ثم ترتب اللفظ موجزا متداخلا كأنه قال * (نبتليه) * فلذلك جعلناه والابتلاء على هذا إنما هو بالإسماع والإبصار لا بالإيجاب وليس * (نبتليه) * حالا وقوله تعالى * (إنا هديناه السبيل) * يحتمل ان يريد * (السبيل) * العامة للمؤمن والكافر فذلك يختلق الحواس وموهبة الفطرة ونصب الصنعة الدالة على الصانع ف * (هديناه) * على هذا بمعنى أرشدناه كما يرشد الإنسان إلى الطريق ويوقف عليه ويحتمل ان يريد * (السبيل) * اسم الجنس أي هدى المؤمن لإيمانه والكافر لكفره ف * (هديناه) * على هذا معناه أريناه وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان وقوله تعالى * (إما شاكرا وإما كفورا) *
حالان وقسمتهما * (أما) * قاله أبو عمرو الداني وقرا أبو العاج (إما شاكرا وإما كفورا) وأبو العاج كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك و * (اعتدنا) * معناه أعددناه وقرا نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم (سلاسلا) بالصرف وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل مالا يصرف الا أفعل وهي لغة الشعراء
ثم كثر حتى جرى في كلامهم وقد علل بعبة وهي انه لما كان هذا الضرب من الجموع يجمع لشبه الآحاد فصرف وذلك من شبه الآحاد موجود في قولهم صواحب وصاحبات وفي قول الشاعر الفرزدق
(نواكسي الأبصار
*) الكامل
بالياء جمع نواكس وهذا الإجراء في (سلاسلا وقواريرا) أثبت في مصحف ابن مسعود ومصحف أبي بن كعب ومصحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة وقرا ابن كثير وأبو عمرو وحمزة (سلاسل) على ترك الصرف في الوقف والوصل وهي قراءة طلحة وعمرو بن عبيد وقرا أبو عمرو وحمزة فيما روي عنهما (سلاسل) في الوصل و (سلاسلا) دون تنوين في الوقف ورواه هشام عن ابن عامر لأن العرب من يقول رأيت عمرا يقف بألف وأيضا فالوقوف بالألف (سلاسلا) اتباع لخط المصحف و * (الأبرار) * جمع بار كشاهد وأشهاد وقال الحسن هم الذين لا يؤذون الذر ولا يرضون الشر و (الكأس) ما فيه نبيذ ونحوه مما يشرب به قال ابن كيسان ولا يقال الكأس إلا لما فيه نبيذ ونحوه ولا يقال ظعينة الا إذا كان عليها امرأة ولا مائدة الا وعليها طعام والا فهي خوان
والمزاج ما يمزج به الخمر ونحوها وهي أيضا مزاج له لأنهما تمازجا مزاجا قال بعض الناس (المزاج) نفس الكافور وقال قتادة نعم قوم يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك وقال الفراء يقال إنه في الجنة عين تسمى * (كافورا) *
وقال بعض المتأولين إنما أراد * (كافورا) * في النكهة والعرف كما تقول إذا مزجت طعاما هذا الطعام مسك
وقوله تعالى * (عينا) * هو بدل من قوله * (كافورا) * وقيل هو مفعول بقوله * (يشربون) * أي * (يشربون) * ماء هذه العين من كأس
409

عطرة كالكافور وقيل نصب * (عينا) * على المدح أو بإضمار اعني وقوله * (يشرب بها) * بمنزلة يشربها
فالباء زائدة وقال الهذلي شربن بماء البحر
أي شربن ماء البحر وقرا ابن أبي عبلة (يشربها عباد الله) و * (عباد الله) * هنا خصوص في المؤمنين الناعمين لأن جميع الخلق عباده و * (يفجرونها) * معناه يبثقونها بعود قصب ونحوه حيث شاؤوا فهي تجري عند كل أحد منهم هكذا ورد الأثر وقال الثعلبي وقيل هي عين في دار النبي صلى الله عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين وهذا قول حسن
قوله عز وجل
سورة الإنسان 7 - 13
وصف الله تعالى حال الأبرار انهم كانوا * (يوفون بالنذر) * أي بكل ما نذروه وأعطوا به عهدا
يقال وفى الرجل وأوفى و (اليوم) المشاراليه يوم القيامة و * (مستطيرا) * معناه متصلا شائعا كاستطارة الفجر والصدع في الزجاجة
وبه شبه في القلب ومن ذلك قول الأعشى
(فبانت وقد أسأرت في الفؤاد
* صدعا على نأيها مستطيرا) المتقارب
وقول ذي الرمة
(أراد الظاعنون لحيزنوني
* فهاجوا صدع قلبي فاستطاروا) الوافر
وقوله تعالى * (على حبه) * يحتمل ان يعود الضمير على الطعام أي وهو محبوب للفاقة والحاجة
وهذا قول ابن عباس ومجاهد
ويحتمل ان يعود على الله تعالى أي لوجهه وابتغاء مرضاته قاله أبو سليمان الدراني
والأول أمدح لهم لأن فيه الايثار على النفس
وعلى الاحتمال الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر
وقال الحسين بن الفضل الضمير عائد على الإطعام أي محبين في فعلهم ذلك لا رياء فيه ولا تكلف و (المسكين) الطواف المتكشف في السؤال و (اليتيم) الصبي الذي لا أب له من الناس
والذي لا أم له من البهائم وهي صفة قبل البلوغ وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يتم بعد حلم)
و (الأسير) معروف
فقال قتادة أراد أسرى الكفار وإن كانوا على غير الإسلام وقال الحسن ما كان أسراهم الا مشركين لأن كل كبد رطبة ففيها اجر
وقال بعض العلماء هذا إما نسخ بآية السيف وإما انه محكم لتحفظ حياة الأسير إلى أن يرى الإمام فيه ما يرى وقال مجاهد وابن جبير وعطاء أراد المسجونين من الناس
ولهذا يحض على صدقة السجن فهذا تشبيه ومن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يؤسر أحد في الاسلام بغير العدول
وروى الخدري ان النبي صلى الله عليه وسلم فسر الأسير هنا بالمملوك والمسجون
وقال أراد أسرى المسلمين الذين تركوا في بلاد الحرب رهائن وخرجوا في طلب الفداء
410

وقال أبو حمزة الثمالي الأسير هنا المراة ودليله قوله صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم) وقوله تعالى * (إنما نطعمكم لوجه الله) * المعنى يقولون لهم عند الإطعام وهذا إما ان يكون المطعم يقول ذلك نصا فحكى ذلك
وإما ان يكون ذلك مما يقال في الأنفس وبالنية فمدح بذلك هذا هو تأويل ابن مجاهد وابن جبير وقرا أبو عمرو في رواية عباس بجزم الميم من (نطعمكم) قال أبو علي أسكن تخفيفا و (الشكور) مصدر الشكر ووصف اليوم بعبوس هو على التجوز كما تقول ليل نائم أي فيه نوم و (القمطرير) والقماطر هو في معنى العبوس والارتداد تقول اقمطر الرجل إذا جمع ما بين عينيه غضبا ومنه قول الشاعر القرطبي
(بني عمنا هل تذكرون بلاءنا
* عليكم إذا ما كان يوم قماطر) الطويل
وقال آخرون
(ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها
* ولج بها اليوم العبوس القماطر)
وقال ابن عباس يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه مثل القطران
وعبر ابن عباس عن (القمطرير) بالطويل
وعبر عنه ابن الكلبي بالشديد وذلك كله قريب في المعنى
وقرا الجمهور (فوقاهم) بتخفيف القاف
وقرا أبو جعفر بن القعقاع (فوقاهم) بشد القاف
و (النضرة) جمال البشرة وذلك لا يكون الا مع فرح النفس وقرة العين
وقرا علي بن أبي طالب (وجازاهم) بألف وقوله * (بما صبروا) * عام عن الشهوات وعلى الطاعات والشدائد ففي هذا يدخل كل ما خصص الناس من صوم وفقر ونحوه
و * (متكئين) * حال من الضمير المنصوب في * (جزاهم) * وهو الهاء والميم وقرأ أبو جعفر وشيبة (متكيين) بغير همز و * (الأرائك) * السر المستورة بالحجال وهذا شرط لبعض اللغويين وقال بعض اللغويين كل ما يتوسد ويفترش مما له حشو فهو أريكة وإن لم يكن في حجلة وقوله تعالى * (لا يرون فيها) * الآية عبارة عن اعتدال مس هوائها وذهاب ضرري الحر والقر عنها وكون هوائها سجسجا كما في الحديث المأثور ومس الشمس وهو أشد الحر و (الزمهرير) هو أشد البرد وقال ثعلب (الزمهرير) بلغة طيء القمر
قوله عز وجل
سورة الإنسان 14 - 20
اختلف النحويون في إعراب قوله تعالى * (ودانية) * فقال الزجاج وغيره هو حال عطفا على * (متكئين) * الإنسان 13 وقال أيضا ويجوز ان يكون صفة للجنة فالمعنى وجزاهم جنة دانية
وقرأ جمهور الناس (دانية)
وقرا الأعمش (ودانيا عليهم)
وقرا أبو جعفر (ودانية) بالرفع
وقرا أبي بن كعب
411

(ودان) مفرد مرفوع في الاعراب ودنو الظلال بتوسط أنعم لها لأن الشيء المظل إذا بعد فترة ظله لا سيما من الأشجار والتذليل ان تطيب الثمرة فتتدلى وتنعكس نحو الأرض و (التذليل) في الجنة هو بحسب إرادة ساكنيها
قال قتادة ومجاهد وسفيان إن كان الإنسان قائما تناول الثمر دون كلفة وإن كان قاعدا فكذلك
وان كان مضطجعا فكذلك
فهذا تذليلها لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك
ومن اللفظة قول امرئ القيس
(كأنبوب السقي المذلل
*) الطويل
ومنه قول الأنصاري والنخل قد ذللت فهي مطوقة بثمرها
و " القطوف " جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب ونحوه
و * (انيه) * جمع إناء
و " الكوب " ما لا عروة له ولا أذن من الأواني
وهي معروفة الشكل في تلك البلاد
وهو الذي تقول له العامة القب لكنها تسمي بذلك ما له عروة
وذلك خطأ أيضا
وقال قتادة الكوب القدح
والقوارير الزجاج
واختلف القراء فقرا نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم (قواريرا قواريرا) بالإجراء فيهما على ما قد تقدم في قوله سلاسلا وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي قوارير قوارير بترك الإجراء فيهما
وقرا ابن كثير (قواريرا) بالإجراء في الأول (قوارير) بترك الإجراء في الثاني وقرأ أبو عمرو (قواريرا) ووقف بألف دون تنوين (قوارير) بترك الإجراء في الثاني
وقوله تعالى * (من فضة) * يقتضي انها من زجاج ومن فضة وذلك متمكن لكونه من زجاج في شفوفه و * (من فضة) * في جوهره وكذلك فضة الجنة شفافة
وقال أبو علي جعلها * (من فضة) * لصفائها وملازمتها لتلك الصفة وليست من فضة في حقيقة امرها
وإنما هذا كما قال الشعر البعيث
(ألا أصبحت أسماء جاذمة الوصل
* وضنت عليها والضنين من البخل) الطويل
وقوله تعالى * (قدروها) * يحتمل ان يكون الضمير للملائكة ويحتمل ان يكون للطائفين ويحتمل ان يكون للمنعمين والتقدير اما ان يكون على قدر الأكف قاله الربيع أو على قدر الري قاله مجاهد وهذا كله على قراءة من قرا (قدروها) بتخفيف القاف وقرا ابن أبزى وعلى والجحدري وابن عباس والشعبي وقتادة (قدروها) بضم القاف وكسر الدال قال أبو علي كان اللفظ قدروا عليها وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى ان يقال قدرت عليهم فهي مثل قوله * (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة) * القصص 76 ومثل قول العرب إذا طلعت الجوزاء ألفي العود على الحرباء حكاه أبو علي وكون الزنجبيل مزاجها هو على ما ذكرناه في العرف ولذع اللسان
وذلك من لذات المشروب و (الزنجبيل) طيب حار وقال الشاعر الأعشى
(كأن جنيا من الزنجبيل
* بات بفيها وأريا مشورا) الرجز
وقال المسيب بن علس
(وكأن طعم الزنجبيل به
* إذ ذقته وسلافة الخمر) الكامل
وقال قتادة (الزنجبيل) اسم لعين في الجنة يشرب منها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل
412

الجنة و * (عينا) * بدل من كأس أو من عين على القول الثاني و * (سلسبيلا) * قيل هو اسم بمعنى السلس المنقاد الجرية وقال مجاهد حديدة الجرية وقيل هي عبارة عن حسن ايساغها قال ابن الأعرابي لم أسمع هذه اللفظة الا في القرآن وقال آخرون * (سلسبيلا) * صفة لقوله * (عينا) *
وتسمى بمعنى توصف وتشهر وكونه مصروفا مما يؤكد كونه صفة للعين لا اسما وقال بعض المقرئين والتصحيح من الألوسي * (سلسبيلا) * امر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها
وهذا قول ضعيف لأن براعة القرآن وفصاحته لا تجيء هكذا واللفظة معروفة في اللسان وان السلسل والسلسبيل بمعنى واحد ومتقارب
و * (مخلدون) * قال جمهور الناس معناه باقون من الخلود وجعلهم ولدانا لأنهم في هيئة الولدان في السن لا يتغيرون عن تلك الحال وقال أبو عبيدة وغيره * (مخلدون) * معناه مقرطون والخلدات حلي يعلق في الآذان ومنه قول الشاعر
(ومخلدات باللجين كأنما
* اعجازهن أقاوب الكثبان) الكامل
وشهرة هذه اللغة في حمير وشبههم ب (اللؤلؤ المنثور) في بياضهم وانتشارهم في المساكن يجيئون ويذهبون وفي جمالهم ومنه سميت المراة درة وجوهرة ثم كرر ذكر الرؤية مبالغة و " ثم " ظرف والعامل فيه * (رأيت) * أو معناه وقال الفراء القدير * (رأيت) * ما " ثم " وحذفت ما وقرا حميد الأعرج (ثم) بضم الثاء و (النعيم) ما هم فيه من حسن عيش و (الملك الكبير) قال سفيان هو استئذان الملائكة وتسليمهم عليهم وتعظيمهم لهم فهم في ذلك كالملوك وقال أكثر المفسرين (الملك الكبير) اتساع مواضعهم فروي عن عبد الله بن عمر أنه قال ما من أهل الجنة من أحد الا يسعى عليه ألف غلام كلهم مختلف شغله من شغل صاحبه وأدنى أهل الجنة منزلة من ينظر من ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه
قوله عز وجل
سورة الإنسان 21 - 26
قرا نافع وحمزة وأبان عن عاصم (عاليهم) على الرفع بالابتداء وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وابن محيصن وابن عباس بخلاف عنه وقرا الباقون وعاصم (عاليهم) بالنصب على الحال والعامل فيه * (لقاهم) * الإنسان 11 أو * (جزاهم) * الإنسان 12 وهي قراءة عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وقرا الأعمش وطلحة (عاليتهم) وكذلك هي في مصحف عبد الله وقرا أيضا الأعمش (عاليتهم) بالنصب على الحال وقد يجوز في النصب في القراءتين ان يكون
413

على الظرف لأنه بمعنى فوقهم وقرأت عائشة رضي الله عنها (علتهم) بتاء فعل ماض وقرا مجاهد وقتادة وابن سيرين وأبوحيوة (عليهم) و (السندس) رقيق الديباج
والمرتفع منه وقيل (السندس) الحرير الأخضر و (الإستبرق) والدمقس هو الأبيض والأرجوان هو الأحمر وقرأ حمزة والكسائي (خضر وإستبرق) بالكسر فيهما وهي قراءة الأعمش وطلحة ورويت عن الحسن وابن عمر بخلاف عنه على أن (خضر) نعت للسندس وجائز جمع صفة الجنس إذا كان اسما مفردا كما قالوا أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم الأبيض وفي هذا قبح والعرب تفرد اسم الجنس وهو جمع أحيانا فيقولون حصى أبيض وفي القرآن * (الشجر الأخضر) * يس 80 و * (نخل منقعر) * القمر 20 فكيف بأن لا يفرد هذا الذي هو صفة لواحد في معنى جمع
(وإستبرق) في هذه القراءة عطف على * (سندس) * وقرا نافع وحفص عن عاصم والحسن وعيسى (خضر وإستبرق) بالرفع فيهما (خضر) نعت ل * (ثياب) *
و (إستبرق) عطف على الثياب
وقرا أبو عمرو وابن عامر خضر بالرفع صفة ل * (ثياب) * وإستبرق خفضا عطف على * (سندس) * وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر (خضر) خفضا (وإستبرق) رفعا فخفض (خضر) على ما تقدم أولا
(وإستبرق) على الثياب
والاستبراق غليظ الديباج وقرا ابن محيصن (وإستبرق) موصولة الألف مفتوحة القاف كأنه مثال الماضي من برق وإستبرق وتعجب واستعجب قال أبو حاتم لا يجوز والصواب انه اسم جنس لا ينبغي ان يحمل ضميرا ويؤيد ذلك دخول اللام المعرفة عليه والصواب فيه الألف واجراؤه على قراءة الجماعة وقرا أبوحيوة (عليهم ثياب) بالرفع (سندس خضر وإستبرق) رفعا في الثلاثة وقوله تعالى * (وحلوا) * أي جعل لهم حلي و * (أساور) * جمع أسورة وأسورة جمع سوار وهي من حلي الذراع وقوله تعال * (شرابا طهورا) * قال أبو قلابة والنخعي معناه لا يصير بولا بل يكون رشحا من الأبدان أطيب من المسك وهنا محذوف يقتضيه القول تقديره يقول الله لهم والملائكة عنه * (إن هذا كان لكم جزاء) * الآية وقوله تعالى * (إنا نحن نزلنا) * الآية تثبيت لمحمد عليه السلام وتقوية لنفسه على أفعال قريش وأقوالهم وحكم ربه هو ان يبلغ ويكافح ويتحمل المشقة ويصبر على الأذى ليعذر الله إليهم وقوله تعالى * (آثما أو كفورا) * هو تخيير في أن يعرف الذي ينبغي ان لا يطيعه بأي وصف كان من هذين لأن كل واحد منهم فهو آثم وهو كفور ولم تكن الأمة حينئذ من الكثرة بحيث يقع الاثم على العاصي
قال القاضي أبو محمد واللفظ أيضا يقتضي نهي الامام عن طاعة آثم من العصاة أو كفور من المشركين وقال أبو عبيدة * (أو) * بمعنى الواو وليس في هذا تخيير ثم امره تعالى بذكر ربه دأبا * (بكرة وأصيلا) * ومن الليل بالسجود والتسبيح الذي هو الصلاة ويحتمل ان يريد قول سبحان الله وذهب قوم من أهل العلم إلى أن هذه الآية إشارة إلى الصلوات الخمس منهم ابن حبيب وغيره
فالبكرة صلاة الصبح والأصيل الظهر والعصر * (ومن الليل) * المغرب والعشاء وقال ابن زيد وغيره كان هذا فرضا ونسخ فلا فرض الا الخمس وقال قوم هو محكوم على وجه الندب
414

قوله عز وجل
سورة الإنسان 27 - 31
الإشارة ب * (هؤلاء) * إلى كفار قريش و * (العاجلة) * الدنيا وحبهم لها لأنهم لا يعتقدون غيرها * (ويذرون وراءهم) * معناه فيما يأتي من الزمن بعد موتهم وقال لبيد
(أليس ورائي إن تراخت منيتي
* أدب مع الولدان إن خف كالنسر) الطويل
ووصف اليوم بالثقل على جهة النسب أي ذا ثقل من حيث الثقل فيه على الكفار فهو كليل نائم ثم عدد النعمة على عباده في خلقهم وإيجادهم وإتقان بنيتهم وشد خلقتهم والأسر الخلقة واتساع الأعضاء والمفاصل وقد قال أبو هريرة والحسن والربيع الأسر المفاصل والأوصال وقال بعضهم الأسر القوة ومنه قول الشاعر
(فأنجاه غداة الموت مني
* شديد الأسر عض على اللجام) الوافر
وقول آخر الأخطل
(من كل محتدب شديد أسره
* سلس القياد تخاله مختالا) الكامل
قال الطبري ومنه قول العامة خذه بأسره يريدون خذه كله
قال القاضي أبو محمد وأصل هذا في ماله شد ورباط كالعظم ونحوه وليس هذا مما يختص بالعامة بل هو من فصيح كلام العرب
اللهم الا ان يريد بالعامة جمهور العرب ومن اللفظة الإسار وهو القيد الذي يشد به الأسير ثم توعد تعالى بالتبديل واجتمع من القولين تعديد النعمة والوعيد بالتبدل احتجاجا على منكري البعث اي من هذا الإيجاد والتبديل إذا شاء في قدرته فكيف تتعذر عليه الإعادة وقوله تعالى * (إن هذه تذكرة) * يحتمل ان يشير إلى هذه الآية أو إلى
السورة بأسرها أو إلى الشريعة بجملتها
وقوله تعالى * (فمن شاء اتخذ) * ليس على جهة التخيير بل فيه قرينة التحذير والحض على اتخاذ السبيل و (السبيل) هنا ليس النجاة وقوله تعالى * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في نفوسهم ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب والميل إلى الكفر
وقرا عبد الله (وما تشاؤون الا ما شاء الله)
وقرا يحيى بن وثاب (تشاؤون) بكسر التاء
وقوله تعالى * (عليما حكيما) * معناه يعلم ما ينبغي ان ييسر عبده اليه وفي ذلك حكمة لا يعلمها الا هو
* (والظالمين) * نصب بإضمار فعل تقديره ويعذب الظالمين أعد لهم وفي قراءة ابن مسعود (وللظالمين أعد لهم) بتكرير اللام وقرا جمهور السبعة (وما تشاؤون) بالتاء على المخاطبة
وقرا ابن كثير وأبو عمرو (يشاؤون) بالياء وقرا ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة (والظالمون) بالرفع قال أبو الفتح وذلك على ارتجال جملة مستأنفة (انتهى)
نجز تفسير سورة * (الإنسان) * بحمد الله وعونه
415

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المرسلات
وهي مكية في قول جمهور المفسرين وحكى النقاش انه قيل إن فيها من المدني قوله * (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) * المرسلات 48 على قول من قال إنها حكاية عن حال المنافقين في القيامة وإنها بمعنى قوله تعالى * (يدعون إلى السجود فلا يستطيعون) * القلم 42 وقال ابن مسعود نزلت هذه السورة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء الحديث بطوله
قوله عز وجل
سورة المرسلات 1 - 15
قال كثير من المفسرين * (المرسلات) * الرسل إلى الناس من الأنبياء كأنه قال والجماعات المرسلات وقال أبو صالح ومقاتل وابن مسعود * (المرسلات) * الملائكة المرسلة بالوحي وبالتعاقب على العباد طرفي النهار وقال ابن مسعود أيضا وابن عباس ومجاهد وقتادة * (المرسلات) * الرياح وقال الحسن بن أبي الحسن * (المرسلات) * السحاب
و * (عرفا) * معناه على القول الأول * (عرفا) * من الله وإفضالا على عباده ببعثة الرسل
ومنه قول الشاعر الحطيئة
(من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
* لا يذهب العرف بين الله والناس) البسيط
ويحتمل ان يريد بقوله * (عرفا) * أي متتابعة على التشبيه بتتابع عرف الفرس وأعراف الجبال ونحو ذلك والعرب تقول الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا اليه ويحتمل ان يريد بالعرف أي بالحق والأمر بالمعروف وهذه الأقوال في عرف تتجه في قول من قال في * (المرسلات) * إنها الملائكة ومن قال إن * (المرسلات) * الرياح اتجه في العرف القول الأول على تخصيص الرياح التي هي نعمة وبها الأرزاق والنجاة في البحر وغير ذلك مما لا فقه فيه ويكون الصنف الاخر من الرياح في قوله * (فالعاصفات عصفا) *
416

ويحتمل ان يكون بمعنى * (والمرسلات) * الرياح التي يعرفها الناس ويعهدونها ثم عقب بذكر الصنف المستنكر الضار وهي * (العاصفات) * ويحتمل ان يريد بالعرف مع الرياح التتابع كعرف الفرس ونحوه وتقول العرب هب عرف من ريح والقول في العرف مع أن * (المرسلات) * هي الرياح يطرد على أن * (المرسلات) * السحاب وقرا عيسى (عرفا) بضم الراء و * (العاصفات) * من الريح الشديدة العاصفة للشجر وغيره واختلف الناس في قولهم * (والناشرات) * فقال مقاتل والسدي هي الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال وقال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة هي الرياح تنشر رحمة الله ومطره وقال بعض المتأولين * (الناشرات) * الرمم الناشرات في بعث يوم القيامة يقال نشرت الميت ومنه قول الأعشى
(يا عجبا للميت الناشر
*) السريع
وقال آخرون * (الناشرات) * التي تجيء بالأمطار تشبه بالميت ينشر وقال أبو صالح * (الناشرات) * الأمطار التي تحيي الأرض وقال بعض المتأولين * (الناشرات) * طوائف الملائكة التي تباشر إخراج الموتى من قبورهم للبعث فكأنهم يحيونهم و * (الفارقات) * قال ابن عباس وابن مسعود وأبو صالح ومجاهد والضحاك هي الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام
وقال قتادة والحسن وابن كيسان * (الفارقات) * آيات القرآن واما * (الملقيات ذكرا) * فهي في قول الجمهور الملائكة
قال مقاتل جبريل وقال آخرون هي الرسل وقرا جمهور الناس (فالملقيات) بسكون اللام أي تلقيه من عند الله أو بأمره إلى الرسل
وقرا ابن عباس فيما ذكر المهدوي (فالملقيات) بفتح اللام والقاف وشدها أي تلقيه من قبل الله تعالى وقرا ابن عباس أيضا * (فالملقيات) * بفتح اللام وشد القاف وكسرها أي تلقيه هي الرسل و (الذكر) الكتب المنزلة والشرائع ومضمناتها
واختلف القراء في قوله تعالى * (عذرا أو نذرا) * فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو جعفر وشيبة بسكون الذال في (عذر) وضمها في (نذر) وقرا أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وإبراهيم التيمي بسكون الذال فيهما وقرا طلحة وعيسى والحسن بخلاف وزيد بن ثابت وأبو جعفر وأبو حيوة والأعمش عن أبي بكر عن عاصم بضمها فيهما
فإسكان الذال على أنهما مصدران يقال عذر وعذير ونذر ونذير كنكر ونكير وضم الذال يصح معه المصدر ويصح ان يكون جمعا لنذير وعاذر للذين هما اسم فاعل والمعنى ان الذكر يلقي بإعذار وإنذار أو يلقيه معذورون ومنذرون واما النصب في قوله * (عذرا أو نذرا) * فيصح إذا كانا مصدرين ان يكون ذلك على البدل من الذكر ويصح ان يكون على المفعول للذكر كأنه قال * (فالملقيات) * ان يذكر * (عذرا) * ويصح ان يكون * (عذرا) * مفعولا لأجله أي يلقي الذكر من اجل الاعذار واما إذا كان * (عذرا أو نذرا) * جمعا فالنصب على الحال
وقرا إبراهيم التيمي (عذرا ونذرا) بواو بدل * (أو) *
وقوله تعالى " إن ما توعدون لواقع " هو الذي وقع عليه القسم والإشارة إلى البعث و (طمس النجوم) إزالة ضوئها واستوائها مع سائر جرم السماء و (فرج السماء) هو بانفطارها حتى يحدث فيها فروج و (نسف
417

الجبال) هو بعد التسيير وقيل كونها هباء وهو تفريقها بالريح
وقرا جمهور القراء (أقتت) بالهمز وشد القاف وقرا بتخفيف القاف مع الهمزة عيسى وخالد وقرا أبو عمرو وحده (وقتت) بالواو وأبو الأشهب وعيس وعمرو بن عبيد قال عيسى هي لغة سفلى مضر وقرا أبو جعفر بواو واحدة خفيفة القاف وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقرا الحسن بن أبي الحسن (ووقت) بواوين على وزن فوعلت والمعنى جعل لها وقت منتظر فجاء وحان
والواو في هذا كله الأصل والهمزة بدل
وقوله تعالى * (لأي يوم أجلت) * تعجيب على عظم ذلك اليوم وهوله ثم فسر تعالى ذلك الذي عجب منه بقوله * (ليوم الفصل) * يعني بين الخلق في منازعتهم وحسابهم ومنازلهم من جنة أو نار وفي هذه الآية انتزع القضاة الآجال في الأحكام ليقع فصل القضاء عند تمامها ثم عظم تعالى يوم الفصل بقوله * (وما أدراك ما يوم الفصل) * على نحو قوله تعالى * (وما أدراك ما الحاقة) * الحاقة 2 وغير ذلك ثم أثبت الويل * (للمكذبين) * في ذلك اليوم والمعنى * (للمكذبين) * به في الدنيا وبسائر فصول الشرع و (الويل) هو الحرب والحزن على نوائب تحدث بالمرء ويروى عن النعمان بن بشير وعمار بن ياسر ان واديا في جهنم اسمه (ويل)
قوله عز وجل
سورة المرسلات 16 - 28
قرا جمهور القراء (ثم نتبعهم) بضم العين على استئناف الخبر وقرا أبو عمرو فيما روي عنه (ثم نتبعهم) بجزم العين عطفا على * (نهلك) * وهي قراءة الأعرج وبحسب هاتين القراءتين يجيء التأويل في * (الأولين) * فمن قرا الأولى جعل * (الأولين) * الأمم التي قدمت قريشا بأجمعها ثم أخبر أنه يتبع * (الآخرين) * من قريش وغيرهم سنن أولئك إذا كفروا وسلكوا سبيلهم
ومن قرا الثانية جعل * (الأولين) * قوم نوح وإبراهيم ومن كان معهم و * (الآخرين) * قوم فرعون وكل من تأخر وقرب من مدة محمد صلى الله عليه وسلم
وفي حرف عبد الله (وسنتبعهم) ثم قال * (كذلك نفعل بالمجرمين) * اي في المستقبل فندخل هنا قريش وغيرها من الكفار واما تكرار * (ويل يومئذ للمكذبين) * في هذه السورة فقيل إن ذلك لمعنى التأكيد فقط وقيل بل في كل آية منها ما يقتضي التصديق فجاء الوعد على التكذيب بذلك الذي في الآية
ثم وقف تعالى على أصل الخلقة الذي يقتضي النظر فيها تجويز البعث
و (الماء المهين) معناه الضعيف وهو المني من الرجل والمراة
و (القرار المكين) الرحم أو بطن المراة و (القدر المعلوم) وقت الولادة ومعلوم عند الله في شخص فأما عند الآدميين فيختلف فليس بمعلوم قدر شخص بعينه
وقرا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونافع والكسائي (فقدرنا) بشد الدال وقرا الباقون (فقدرنا) بتخفيف الدال وهما بمعنى من القدرة والقدر من التقدير والتوقيف
وقوله * (القادرون) * يرجح قراءة الجماعة
اما ان ابن
418

مسعود روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر القادرين بالمقدرين
وقدر ابن أبي عبلة (فقدرنا) بشد الدال (فنعم المقتدرون) و (الكفات) الستر والوعاء الجامع للشيء بإجماع تقول كفت الرجل شعره إذا جمعه بخرقة فالأرض تكفت
الأحياء على ظهرها وتكفت الأموات في بطنها و * (أحياء) * على هذا التأويل معمول لقوله * (كفاتا) * لأنه مصدر
وقال بعض المتأولين * (أحياء وأمواتا) * إنما هو بمعنى ان الأرض فيها أقطار أحياء وأقطار أموات يراد ما ينبت ومالا ينبت فنصب * (أحياء) * على هذا إنما هو على الحال من * (الأرض) * والتأويل الأول أقوى
وقال بنان خرجنا مع الشعبي إلى جنازة فنظر إلى الجبانة فقال هذه كفات الموتى ثم نظر إلى البيوت فقال هذه كفات الأحياء وكانت العرب تسمي بقيع الغرقد كفتة لأنها مقبرة تضم الموتى وفي الحديث (خمروا آنيتكم وأوكئوا أسقيتكم واكفتوا صبيانكم وأجيفوا أبوابكم واطفئوا مصابيحكم)
ودفن ابن مسعود قملة في المسجد ثم قرا * (ألم نجعل الأرض كفاتا) *
قال القاضي أبو محمد ولما كان القبر * (كفاتا) * كالبيت قطع من سرق منه
و (الرواسي) الجبال لأنها رست اي ثبتت و (الشامخ) المرتفع ومنه شمخ بأنفه أي ارتفع واستعلى شبه المعنى بالشخص و (أسقى) معناه جعله سقيا للغلات والمنافع وسقى معناه للشفة خاصة هذا قول جماعة من أهل اللغة
وقال آخرون هما بمعنى واحد
و (الفرات) الصافي العذب ولا يقال للملح فرات وهي لفظة تجمع ماء المطر ومياه الأنهار وخص النهر المشهور بهذا تشريفا له وهو نهر الكوفة وسيحان هو نهر بلخ وجيحان هو دجلة والنيل نهر مصر
وحكى عن عكرمة ان كل ماء في الأرض فهو من هذه وفي هذا بعد والله أعلم
قوله عز وجل
سورة المرسلات 29 - 40
الضمير في قوله * (انطلقوا) * هو * (للمكذبين) * الانسان 19 - 24 الذين لهم الويل يقال لهم * (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) * من عذاب الآخرة ولا خلاف في كسر اللام من قوله * (انطلقوا) * في هذا الأمر الأول وقرا يعقوب في رواية رويس (انطلقوا إلى ظل) بفتح اللام على معنى الخبر وقرا جمهور الناس (انطلقوا) بكسراللام على معنى تكرار الأمر الأول وبيان المنطلق اليه وقال عطاء الظل الذي له * (ثلاث شعب) * هو دخان جهنم وروي انه يعلو من ثلاثة مواضع يراه الكفار فيظنون أنه مغن فيهرعون اليه فيجدونه على أسوأ وصف
وقال ابن عباس المخاطبة إنما تقال يومئذ لعبدة الصليب إذا اتبع كل واحد ما كان يعبد فيكون المؤمنون في ظل الله ولا ظل الا ظله ويقال لعبدة الصليب * (انطلقوا إلى ظل) * معبودكم
419

وهو الصليب وله * (ثلاث شعب) * والتشعب تفرق الجسم الواحد فرقا ثم نفى عنه تعالى محاسن الظل والضمير في * (أنها) * لجهنم وقرا عيسى بن عمر (بشرار) بألف جمع شرارة وهي لغة تميم و (القصر) في قول ابن عباس وجماعة من المفسرين اسم نوع القصور وهو الا دورا لكبار مشيدة وقد شبهت العرب بها النوق ومن المعنى قول الأخطل
(كأنها برج رومي يشيده
* لز بجص وآجر وجيار) البسيط
وقال ابن عباس أيضا (القصر) خشب كان في الجاهلية يقطع من جزل الحطب من النخل وغيره على قدر الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء يسمى (القصر) واحدة قصرة وهو المراد في الآية وإنما سمي القصار لأنه يخبط بالقصرة وقال مجاهد (القصر) حزم الحطب
وهذه قراءة الجمهور وقرا ابن عباس وابن جبير (القصر) جمع قصرة وهي أعناق النخل والإبل وكذلك أيضا هي في الناس وقال ابن عباس جذور النخل وقرا ابن جبير أيضا والحسن (كالقصر) بكسر القاف وفتح الصاد وهي جمع قصرة كحلقة وحلق من الحديد واختلف الناس في (الجمالات) فقال جمهور من المفسرين هو جمع جمال على تصحيح البناء كرجال ورجالات وقال آخرون أراد ب (الصفر) السود وأنشد على ذلك بيت الأعشى
(تلك خيلي منه وتلك ركابي
* هن صفر أولادها كالزبيب) الخفيف
وقال جمهور الناس بل (الصفر) الفاقعة لأنها أشبه بلون الشرر بالجمالات وقرا الحسن (صفر) بضم الصاد والفاء وقال ابن عباس وابن جبير (الجمالات) قلوس من السفن وهي حبالها العظام إذا جمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها اجرام عظام وقال ابن عباس (الجمالات) قطع النحاس الكبار وكان أشتقاق هذه من اسم الجملة وقرا حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (جمالة) بكسر الجيم لحقت التاء جمالا لتانيث الجمع فهي كحجر وحجارة وقرا ابن عباس وأبو عبد الرحمن والأعمش (جمالة) بضم الجيم وقرا باقي السبعة الجمهور و عمر بن الخطاب (جمالات) على ما تفسر بكسر الجيم وقرأ ابن عباس أيضا وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء بخلاف عنهم (جمالات) بضم الجيم واختلف عن نافع وأبي جعفر وشيبة وكان ضم الجيم فيهما من الجملة لا من الجمل وكسرها من الجمل لا من الجملة
ولما ذكر تعالى المكذبين قال مخاطبا لمحمد صلى الله عليه وسلم * (هذا يوم لا ينطقون) * أي يوم القيامة أسكنتهم الهيبة وذل الكفر و * (هذا) * في موطن قاض
بأنهم * (لا ينطقون) * فيه إذ قد نطق القرآن بنطقهم ربنا أخرجنا ربنا أمتنا
فهي مواطن
و * (يوم) * مضاف إلى قوله * (لا ينطقون) *
وقرأ الأعرج والأعمش وأبو حيوة (هذا يوم) بالنصب لما أضيف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء وهو في موضع رفع ويحتمل ان يكون ظرفا وتكون الإشارة ب * (هذا) * إلى رميها * (بشرر كالقصر) * وقوله * (فيعتذرون) * معطوف على " يؤذن " ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي والوجهان جائزان وقوله تعالى * (هذا يوم الفصل جمعناكم) * مخاطبة للكفار يومئذ
و (الأولون) المشاراليهم قوم نوح وغيرهم
420

ممن جاء في صدر الدنيا وعلى وجه الدهر ثم وقف تعالى عبيده الكفار المستوجبين عقابه بقوله * (فإن كان لكم كيد فكيدون) * أي إذا كان لكم حيلة أو مكيدة تنجيكم فافعلوها
قوله عز وجل
سورة المرسلات 41 - 50
ذكر تعالى حالة * (المتقين) * بعقب ذكر حالة أهل النار ليبين الفرق و (الظلال) في الجنة عبارة عن تكاثف الأشجار وجودة المباني والا فلا شمس تؤذي هنالك حتى يكون ظل يجير من حرها
وقرا الجمهور (في ظلال) وقرا الأعرج والأعمش (في ظلل) بضم الظاء و (العيون) الماء النافع وقوله تعالى * (مما يشتهون) * إعلام بان المأكل والمشرب هنالك إنما يكون برسم شهواتهم بخلاف ما هي الدنيا عليه فإن ذلك فيه شاذ ونادر والعرف ان المرء يرد شهوته إلى ما تقتضيه وجده
وهنا محذوف يدل عليه اللفظ تقديره يقال لهم * (كلوا) * و * (هنيئا) * نصب على الحال ويجوز ان يكون نصبه على جهة الدعاء والكاف في قوله * (إنا كذلك) * كاف تشبيه والإشارة بذلك إلى ما ذكره من تنعيم أهل الجنة وقوله تعالى * (كلوا وتمتعوا) * مخاطبة لقريش على معنى قل لهم يا محمد وهذه صيغة امر معناها التهديد والوعيد وقد بين ذلك قوله * (قليلا) * ثم قرر لهم الإجرام الموجب لتعذيبهم وقال من جعل السورة كلها مكية إن هذه الآية نزلت في المنافقين وقال مقاتل نزلت في ثقيف لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني فإنها سبة فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (لا خير في دين لا صلاة فيه)
وقوله تعالى " وإذا قيل لهم اركعوا ولا يركعون " قيل هي حكاية عن حال المنافقين في الآخرة إذا سجد الناس فأرادوا هم السجود فانصرفت أصلابهم إلى الأرض وصارت فقاراتهم كصياصي البقر قاله ابن عباس وغيره
وقال قتادة في آخرين هذه حال كفار قريش في الدنيا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم وهم ولا يجيبون وذكر الركوع عبارة عن جميع الصلاة وهذا قول الجمهور وقال بعض المتأولين عنى بالركوع التواضع كما قال الشاعر
(ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
*) الطويل
أي متذللة وتأول قتادة الآية قاصدة الركوع نفسه
وقال عليكم بحسن الركوع والذي أقول إن ذكر الركوع هنا وتخصيصه من بين سائر أحوال العبادة إنما كان لأن كثيرا من العرب كان يأنف من الركوع والسجود ويراها هيئة منكرة لما كان في أخلاقهم من العجرفة الا ترى ان بعضهم قد سئل فقيل له كيف
421

تقول أستخذأت أو استخذيت فقال كل لا أقول
فقيل له لم قال لأن العرب لا تستخذي فظن أنه سئل عن المعنى ولم يفهم انه سئل عن اللفظ
وفي كتاب السير عن بعض العرب انه استعفى متكلما عن قومه ونفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قال له (لا بد من الصلاة) فقال عند ذلك سنؤتيكها وإن كانت دناءة وقوله تعالى * (فبأي حديث بعده يؤمنون) * يؤيد ان الآية كلها في قريش والحديث الذي يقتضيه الضمير هو القرآن وهذا توقيف وتوبيخ وروي عن يعقوب انه قرا (تؤمنون) بالتاء من فوق على المواجهة ورويت عن ابن عامر
انتهى
422

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النبأ
وهي مكية بإجماع وليس فيها نسخ ولا حكم إلا ما قاله بعض الناس في قوله تعالى * (لابثين فيها أحقابا) * النبأ 23 من أنه منسوخ وهو قول خلف لأن الأخبار لا تنسخ وإنما ذكرنا هذا القول تنبيها على فساده
قوله عز وجل
سورة النبأ 1 - 16
أصل * (عم) * عن ما ثم أدغمت النون بعد قلبها فبقي (عما) في الخبر والاستفهام ثم حذفوا الألف في الاستفهام فرقا بينه وبين الخبر ثم من العرب من يخفف الميم تخفيفا فيقول عم وهذا الاستفهام ب * (عم) * هو استفهام توقيف وتعجب منم وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود وعكرمة وعيسى عما بالألف وقرأ الضحاك عمه بهاء وهذا إنما يكون عند الوقف
و * (النبأ العظيم) * قال ابن عباس وقتادة هو الشرع الذي جاء به محمد وقال مجاهد وقتادة هو القرآن خاصة وقال قتادة أيضا هو البعث من القبور ويحتمل الضمير في * (يتساءلون) * أن يريد جميع العالم فيكون الاختلاف حينئذ يراد به تصديق المؤمنين وتكذيب الكافرين ونزغات الملحدين
ويحتمل أن يراد بالضمير الكفار من قريش فيكون الاختلاف شك بعض وتكذيب بعض
وقولهم سحر وكهانة وشعر وجنون وغير ذلك
وقال أكثر النحاة قوله * (عن النبأ العظيم) * متعلق ب * (يتساءلون) * الظاهر كأنه قال لم يتساءلون عن هذا النبأ وقال الزجاج الكلام تام في قوله * (عم يتساءلون) * ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول يتساءلون * (عن النبأ العظيم) * فاقتضى إيجاز القرآن وبلاغته أن يبادر المحتج بالجواب الذي تقتضيه الحال والمجاورة اقتضابا للحجة وإسراعا إلى موضع قطعهم وهذا نحو قوله تعالى " قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد " الأنعام 19 وأمثلة كثيرة وقد وقع التنبيه عليها في مواضعها
وقرأ السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة والأعمش (كلا سيعلمون) بالياء في الموضعين على ذكر الغائب فظاهر الكلام أنه رد على
423

الكفار في تكذيبهم وعيد لهم في المستقبل وكرر الزجر تأكيدا وقال الضحاك المعنى * (كلا سيعلمون) * يعني الكفار على جهة الوعيد * (ثم كلا سيعلمون) * يعني المؤمنين على جهة الوعد
وقرأ ابن عامر فيما روى عنه مالك بن دينار والحسن بخلاف (كلا ستعلمون) بالتاء في الموضعين على مخاطبة الحاضر كأنه تعالى يقول قل لهم يا محمد وكرر عليهم الزجر والوعيد تأكيدا وكل تأويل في هذه القراءة غير هذا فمتعسف وقرأ كلا سيعلمون بالياء على جهة الرد والوعيد للكفار (ثم كلا ستعلمون) بالتاء من فوق على جهة الرد على الكفار والوعد والمؤمنين
والعلم في هذه الآية بمعنى ستعرفون فلذلك لم يتعد ثم وقفهم تعالى على آياته وغرائب مخلوقاته وقدرته التي يوجب النظر فيها الاقرار بالبعث والإيمان بالله تعالى
و (المهاد) الفراش الممهد الوطيء وكذلك الأرض لبنيتها وقرا مجاهد وعيسى وبعض الكوفيين (مهدا) والمعنى نحو الأول وشبه * (الجبال) * ب (الأوتاد) لأنها تمسك وتثقل وتمنع الأرض ان تميد و * (أزواجا) * معناه أنواعا في ألوانكم وصوركم وألسنتكم وقال الزجاج وغيره معناه مزدوجين ذكرا وأنثى و (السبات) السكون وسبت الرجل معناه استراح واتدع وترك الشغل ومنه السبات وهي علة معروفة سميت بذلك لأن السكون والسكوت أفرط على الإنسان حتى صار ضارا قاتلا والنوم شبيه به الا في الضرر وقال أبو عبيدة * (سباتا) * قطعا للأعمال والتصرف والسبت القطع ومنه سبت الرجل رأسه إذا قطع شعره ومنه النعال السبتية وهي التي قطع عنها الشعر و * (لبأسا) * مصدر وكان الميل كذلك من حيث يغشى الاشخاص فهي تلبسه وتتدرعه وقال بعض المتأولين جعله * (لبأسا) * لأنه يطمس نور الأبصار ويلبس عليها الأشياء والتصريف يضعف هذا القول لأنه كان يجب ان يكون ملبسا ولا يقال * (لبأسا) * الا من لبس الثياب " والنهار معاشا " على حذف مضاف أو على النسب وهذا كما تقول ليل نائم و (السبع الشداد) السماوات
والأفصح في لفظة السماء التأنيث ووصفها بالشدة لأنه لا يسرع إليها فساد لوثاقتها و (السراج) الشمس و (الوهاج) الحار المضطرم الاتقاد المتعالي اللهب وقال عبد الله بن عمرو بن العاص إن الشمس في السماء الرابعة إلينا طهرها ولهبها مضطرم علوا
واختلف الناس في * (المعصرات) * فقال الحسن بن أبي الحسن وأبي بن كعب وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة هي السماوات
وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع والضحاك * (المعصرات) * السحاب القاطرة وهو مأخوذ من العصر لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء وهذا قول الجمهور وبه فسر عبيد الله بن الحسن بن محمد العنبري القاضي بيت حسان
(كلتاهما حلب العصير
*) الكامل
وقال بعض من سميت هي السحاب التي فيها الماء تمطر كالمرأة المعصر وهي التي دنا حيضها ولم تحض بعد وقال ابن الكيسان قيل للسحاب معصرات من حيث تغيث فهي من المعصرة ومنه قوله تعالى * (وفيه يعصرون) * يوسف 49
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة * (المعصرات) * الرياح لأنها تعصر السحاب وقرا ابن الزبير وابن عباس والفضل بن عباس وقتادة وعكرمة (وأنزلنا بالمعصرات) فهذا يقوي انه أراد الرياح و (الثجاج) السريع الاندفاع كما يندفع عن عروق الذبيحة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل لهما أفضل الحج قال (العج والثج) أراد التضرع إلى الله بالدعاء الجهير
424

وذبح الهدي و (الحب) جنس الحبوب الذي ينتفع به الحيوان و (النبات) العشب الذي يستعمل رطبا لإنسان أو بهيمة فذكر الله تعالى موضع المنفعتين و * (ألفافا) * جمع لف بضم اللام ولف جمع لفاء
والمعنى ملتفات الأغصان والأوراق وذلك موجود مع النضرة والري وقال جمهور اللغويين * (ألفافا) * جمع لف بكسر اللام واللف الجنة الملتفة بالأغصان وقال الكسائي * (ألفافا) * جمع لفيف
وقد قال الشاعر
(أحابيش ألفاف تباين فرعهم
* وجذمهم عن نسبة المتقرب) الطويل
قوله عز وجل
سورة النبأ 17 - 23
* (يوم الفصل) * هو يوم القيامة لأن الله تعالى يفصل فيه بين المؤمنين والكافرين وبين الحق والباطل
و (الميقات) مفعال من الوقت كميعاد من الوعد وقوله * (يوم ينفخ) * بدل من اليوم الأول و * (الصور) * القرن الذي ينفخ فيه لبعث الناس
هذا قول الجمهور ويحتمل هذا الموضع ان يكون * (الصور) * فيه جمع صورة أي يوم يرد الله فيه الأرواح إلى الأبدان هذا قول بعضهم في * (الصور) * وجوزه أبو حاتم والأول أشهر وبه تظاهرت الآثار وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله * (ثم نفخ فيه أخرى) * الزمر 68
وقرا أبو عياض (في الصور) بفتح الواو و (الأفواج) الجماعات يتلو بعضها بعضا واحدها فوج وقرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر وشيبة والحسن (وفتحت) بشد التاء على المبالغة وقرا عاصم وحمزة والكسائي (وفتحت) دون شد
وقوله تعالى * (فكانت أبوابا) * قيل معناه تتفطر وتتشقق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجدارات وقال آخرون فيما حكى مكي بن أبي طالب الأبواب هنا فلق الخشب التي تجعل أبوابا لفتوح الجدارات أي تتقطع السماء قطعا صغارا حتى تكون كألواح الأبواب
والقول الأول أحسن وقال بعض أهل العلم تتفتح في السماء أبواب للملائكة من حيث يصعدون وينزلون
وقوله تعالى * (فكانت سرابا) * عبارة عن تلاشيها وفنائها بعد كونها هباء منبثا ولم يرد ان الجبال تعود تشبه الماء على بعد من الناظر إليها و * (مرصادا) * موضع الرصد ومنه قوله تعالى * (إن ربك لبالمرصاد) * الفجر 14 وقد روي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال لا يدخل أحد الجنة حتى يجوز على جهنم فمن كانت عنده أسباب نجاة نجا والا هلك
وقال قتادة تعلمن أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار وفي الحديث الصحيح (إن الصراط جسر ينصب على متن جهنم ثم يجوز عليه الناس فناج ومكردس) وقال بعض المتأولين * (مرصادا) * مفعال بمعنى راصد وقرا أبو معمر المنقري (أن جهنم) بفتح الألف والجمهور على كسرها و (الطاغون) الكافرون و (المآب) المرجع
425

و (الأحقاب) جمع حقب بفتح القاف وحقب بكسر الحاء وحقب بضم القاف وهو جمع حقبة ومنه قول متمم
(وكنا كندماني جذيمة حقبة
* من الدهر حتى قيل لن تصدعا) الطويل
وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة ويقال للسنة أيضا حقبة وقال بشر بن كعب حدها على ما ورد في الكتب المنزلة ثلاثمائة سنة وقال هلال الهجري ثمانون سنة قالا في كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم من ألف سنة
وقال ابن عباس وابن عمر الحقب ستون ألف سنة وقال الحسن الحقب سبعون ألف سنة وقيل خمسون ألف سنة وقال أبو امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه ثلاثون ألف سنة وكثر الناس في هذا اللازم ان الله تعالى أخبر عن الكفار انهم يلبثون * (أحقابا) * كلما مر حقب جاء غيره إلى ما لا نهاية قال الحسن ليس لها عدة الا الخلود في النار ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم فطلبوا التأويل لذلك فقال مقاتل بن حيان الحقب سبعة عشر ألف سنة وهي منسوخة بقوله تعالى " فذوقوا فلم نزيدكم الا عذابا " النبأ 30 وقد ذكرنا فساد هذا القول وقال آخرون الموصوفون باللبث * (أحقابا) * عصاة المؤمنين وهذا أيضا ضعيف ما بعده في السورة يدل عليه وقال آخرون إنما المعنى " لا بثين فيها احقابا " غير ذائقين بردا ولا شرابا فهذه الحال يلبثون احقابا ثم يبقى العذاب سرمدا وهم يشربون أشربة جهنم وقرا الجمهور (لابثين) وقرا حمزة وحده وابن مسعود وعلقمة وابن وثاب وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل وابن جبير (لبثن) جمع لبث وهي قراءة معترضة لأن فعلا إنما يكون فيما صار خلقا كحذر وفرق وقد جاء شاذا فيما ليس بخلق وأنشد الطبري وغيره في ذلك بيت لبيد
(أو مسحل عمل عضادة سمحج
* بسراته ندب له وكلوم) الكامل
قال المعترض في القراءة لا حجة في هذا البيت لأن عملا قد صار كالخلق الذي واظب على العمل به حتى أنه ليسمى به في وقت لا يعمل فيه كما تقول كاتب لمن كانت له صناعة وإن لم يكتب أكثر احيانه قال المحتج لها شبه لبث بدوامه بالخلق لما صار اللبث من شانه
قوله عز وجل
سورة النبأ 24 - 37
قال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي (البرد) في هذه الآية النوم والعرب
426

تسمه بذلك لأنه يبرد سؤر العطش ومن كلامهم منع البرد البرد وقال جمهور الناس (البرد) في الآية مسر الهواء البارد وهو القر أي لا يمسهم منه ما يستلذ ويكسر غرب الحر فالذوق على هذين القولين مستعار وقال ابن عباس (البرد) الشراب المستلذ ومنه قول حسان بن ثابت
(يسقون من ورد البريص عليهم
* بردى يصفق بالرحيق السلسل) الكامل
ومنه قول الاخر
(أماني من سعدى حسان كأنما
* سقتني بها سعدى على ظمأ بردا) الطويل
ثم قال تعالى * (ولا شرابا إلا حميما) * فالاستثناء متصل و (الحميم) الحار الذائب وأكثر استعماله في الماء السخن والعرق ومنه الحمام وقال ابن زيد (الحميم) دموع أعينهم وقال النقاش ويقال (الحميم) الصفر المذاب المتناهي الحر واختلف الناس في (الغساق) فقال قتادة والنخعي وجماعة هو ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد ونحوه يقال غسق الجرح إذا سال منه قيح ودم وغسقت العين إذا دمعت وإذا خرج قذاها وقال ابن عباس ومجاهد (الغساق) مشروب لهم مفرط الزمهرير كأنه في الطرف الثاني من الحميم يشوي الوجوه ببرده
وقال عبد الله بن بريدة (الغساق) المنتن وقرا ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم وجماعة من الجمهور (غساقا) بتخفيف السين وهو اسم على ما قدمناه وقرا حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن أبي إسحاق السبيعي والحكم بن عتبة وقتادة وابن وثاب (غساقا) مشددة السين وهي صفة أقيمت مقام الموصوف كأنه قال ومشروب غساق أي سائل من أبدانهم وقوله تعالى * (وفاقا) * معناه لأعمالهم وكفرهم أي هو جزاؤهم الجدير بهم الموافق مع التحذير لأعمالهم فهي كفر و (الجزاء) نار و * (يرجون) * قال أبو عبيدة وغيره معناه يخافون وقال غيره الرجاء هنا على بابه ولا رجاء الا وهو مقترن بخوف ولا خوف الا وهو مقترن برجاء فذكر أحد القسمين لأن المقصد العبارة عن تكذيبهم كأنه قال إنهم كانوا لا يصدقون بالحساب فلذلك لا يرجونه ولا يخافونه وقرا جمهور الناس (كذابا) بشد الذال وكسر الكاف وهو مصدر بلغة بعض العرب وهي يمانية ومنه قول أحدهم وهو يستفتي
(ألحلق أحب إليك أم القصار
*)
ومنه قول الشاعر
(لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي
* وعن حاجة قضاؤها من شفائيا) الطويل
وهذا عندهم مصدر من فعل وقال الطبري لم يختلف القراء في هذا الموضع في * (كذابا) *
قال القاضي أبو محمد وأراه أراد السبعة واما في الشاذ فقرا علي بن أبي طالب وعوف الأعرابي وعيسى والأعمش وأبو رجاء (كذابا) بكسر الكاف وبتخفيف الذال وقرا عبد الله بن عمر بن عبد العزيز (كذابا) بضم الكاف وشد الذال على أنه جمع كاذب ونصبه على الحال قاله أبو حاتم
وقوله تعالى " وكل شيء أحصيناه " يريد كل شيء شانه ان يحضر في هذا الخبر وربط لآخر القصة بأولها أي هم مكذبون
427

وكافرون ونحن قد احصينا فالقول لهم في الآخرة * (ذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا) * رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولما ذكر تعالى امر أهل النار عقب بذكر أهل الجنة ليبين الفرق
و (المفاز) موضع الفوز لأنهم زحزحوا عن النار وادخلوا الجنة
و (الحدائق) البساتين التي عليها حلق وجدارات وحظائر
و * (أترابا) * معناه على سن واحدة والتربان هما اللذان مسا التراب في وقت واحد و (الدهاق) المترعة فيما قال الجمهور وقال ابن جبير معناه المتتابعة وهي من الدهق وقال عكرمة هي الصفية وفي البخاري قال ابن عباس سمعت أبي في الجاهلية يقول للساقي اسقنا كأسا دهاقا و (اللغو) سقط الكلام وهو ضروب وقد تقدم القول في * (كذابا) * الا ان الكسائي من السبعة قرا في هذا الموضع (كذابا) بالتخفيف وهو مصدر ومنه قول الأعشى
(فصدقتها وكذبتها
* والمرء ينفعه كذابه) مجزو الكامل
واختلف المتاولون في قوله * (حسابا) * فقال جمهور المفسرين واللغويين معناه محسبا كافيا في قولهم احسبني هذا الأمر أي كفاني ومنه حسبي الله وقال مجاهد ومعناه إن * (حسابا) * معناه بتقسط على الأعمال لأن نفس دخول الجنة برحمة الله وتفضله لا بعمل والدرجات فيها والنعيم على قدر الأعمال فإذا ضاعف الله لقوم حسناتهم
بسبعمائة مثلا ومنهم المكثر من الأعمال والمقل اخذ كل واحد سبعمائة بحسب عمله وكذلك في كل تضعيف فالحساب ها هو موازنة أعمال القوم
وقرأ الجمهور (حسابا) بكسر الحاء وتخفيف السين المفتوحة وقرا ابن قطب (حسابا) بفتح الحاء وشد الشين قال أبو الفتح جاء بالاسم من أفعل على فعال كما قالوا أدرك فهو دراك فقرا ابن عباس وسراج (عطاء حسنا) بالنون من الحسن وحكى عنه المهدوي انه قرا (حسبا) بفتح الحاء وسكون السين وبالباء وقرا شريح بن يزيد الحمصي (حسابا) بكسر الحاء وشد السين المفتوحة وقرا نافع وأبو عمرو والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأهل الحرمين (رب) بالرفع وكذلك (الرحمن) وقرا ابن عامر وعاصم وابن مسعود وابن أبي إسحاق وابن محيصن والأعمش (رب) وكذلك (الرحمن) وقرا حمزة والكسائي (رب) بالخفض و (الرحمن) بالرفع هي قراءة الحسين وابن وثاب وابن محيصن بخلاف عنه ووجوه هذه القراءات بينة وقوله تعالى " لا يملكون " الضمير للكفار أي " لا يملكون " من أفضاله وأجماله ان يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها وهذا في موطن خاص
قوله عز وجل
سورة النبأ 38 - 40
اختلف الناس في * (الروح) * المذكورة في هذا الموضع فقال الشعبي والضحاك هو جبريل عليه السلام ذكره خاصة من بين الملائكة تشريفا وقال ابن مسعود هو ملك كريم أكبر الملائكة خلقه يسمى
428

ب * (الروح) * وقال ابن زيد كان أبي يقول هو القرآن وقد قال الله تعالى * (أوحينا إليك روحا من أمرنا) * الشورى 52 أي من أمرنا
قال القاضي أبو محمد فالقيام فيه مستعار يراد ظهوره ومثول آثاره والأشياء الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه ومع هذا ففي القول قلق وقال مجاهد * (الروح) * خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم (الروح خلق غير الملائكة لهم حفظة للملائكة كما الملائكة حفظة لنا) وقال ابن عباس والحسن وقتادة * (الروح) * هنا اسم جنس يراد به أرواح بني آدم والمعنى يوم تقوم الروح في أجسادها إثر البعث والنشاة الآخرة ويكون الجميع من الإنس والملائكة * (صفا) * ولا يتكلم أحد هيبة وفزعا * (إلا من أذن له الرحمن) * من ملك أو نبي وكان اهلا ان يقول * (صوابا) * في ذلك الموطن وقال ابن عباس الضمير في * (يتكلمون) * عائد على الناس خاصة و (الصواب) المشار اليه لا إله الا الله قال عكرمة أي قالها في الدنيا
وقوله تعالى * (ذلك اليوم الحق) * أي الحق كونه ووجوده وفي قوله * (فمن شاء اتخذ إلى ربه) * مكانا وعد ووعيد وتحريض و (المآب) المرجع وموضع الأوبة والضمير الذي هو الكاف والميم في * (أنذركم) * هو لجميع العالم وإن كانت المخاطبة لمن حضر النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار و (العذاب القريب) عذاب الآخرة ووصفه بالقرب لتحقق وقوعه وانه آت وكل آت قريب والجميع داخل في النذارة منه ونظر المرء إلى * (ما قدمت يداه) * من عمل قيام الحجة عليه وقال ابن عباس * (المرء) * هنا المؤمن وقرا ابن أبي إسحاق (المرء) بضم الميم وضعفها أبو حاتم وقوله تعالى * (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) * قيل إن هذا تمن ان يكون شيئا حقيرا لا يحاسب ولا يلتفت اليه وهذا قد نجده في الخائفين من المؤمنين فقد قال عمر بن الخطاب ليتني كنت بعرة وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول لها من بعد ذلك كوني ترابا فيعود جميعها ترابا فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله قال أبو القاسم بن حبيب رأيت في بعض التفاسير أن * (الكافر) * هنا إبليس إذا رأى ما حصل للمؤمنين من بني آدم من الثواب قال * (يا ليتني كنت ترابا) * أي كآدم الذي خلق من تراب واحتقره هو أولا
نجز تفسير سورة * (النبأ) * والحمد لله حق حمده
429

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النازعات
وهي مكية بإجماع من المتأولين
قوله عز وجل
سورة النازعات 1 - 11
قال ابن مسعود وابن عباس * (النازعات) * الملائكة تنزع نفوس بني آدم و * (غرقا) * على هذا القول إما أن يكون مصدر بمعنى الإغراق والمبالغة في الفعل وإما ان يكون كما قال علي وابن عباس تغرق نفوس الكفرة في نار جهنم وقال السدي وجماعة * (النازعات) * النفوس تنزع بالموت إلى ربها و * (غرقا) * هنا بمعنى الاغراق أي تغرق في الصدر وقال عطاء فيما روي عنه * (النازعات) * الجماعات النازعات بالقسي و * (غرقا) * بمعنى الإغراق وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش * (النازعات) * النجوم لأنها تنزع من أفق إلى أفق وقال قتادة * (النازعات) * النفوس التي تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها ولها نزاع عند الموت وقال مجاهد * (النازعات) * المنايا لأنها تنزع نفوس الحيوان وقال عطاء وعكرمة * (النازعات) * القسي أنفسها لأنها تنزع بالسهام
واختلف المتاولون في * (الناشطات) * فقال ابن عباس ومجاهد هي الملائكة لأنها تنشط النفوس عند الموت أي تحلها كحل العقال وتنشط بأمر الله أي حيث كان وقال مجاهد * (الناشطات) * المنايا وقال ابن عباس أيضا وقتادة والأخفش والحسن * (الناشطات) * النجوم لأنها تنشط من أفق إلى أفق أي تذهب وتسير بسرعة ومن ذلك قيل البقر الوحش النواشط لأنهن يذهبن بسرعة من موضع إلى آخر وقال عطاء * (الناشطات) * في الآية البقرة الوحشية وما جرى مجراها من الحيوان الذي ينشط من
قطر إلى قطر ومن هذا المعنى قول الشاعر همان بن قحافة
(أرى همومي تنشط المناشطا
* الشام بي طورا وطورا واسطا) الرجز
وكأن هذه اللفظة في هذا التأويل مأخوذة من النشاط وقال عطاء أيضا وعكرمة * (الناشطات) * الأوهان
ويقال نشطت البعير والإنسان إذا ربطته ونشطته إذا حللته وحكاه الفراء وخولف فيه ومنه
430

الحديث (كأنما انشط من عقال) وقال ابن عباس أيضا * (الناشطات) * النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج و (السبح) العوم في الماء وقد يستعمل مجازا في خرق الهواء والتقلب فيه واختلف في * (السابحات) * في الآية فقال قتادة والحسن هي النجوم لأنها تسبح في فلك وقال مجاهد وعلي رضي الله عنه هي الملائكة لأنها تتصرف في الآفاق بأمر الله تجيء وتذهب وقال أبو روق * (السابحات) * الشمس والقمر والليل والنهار وقال بعض المتأولين * (السابحات) * السماوات لأنها كالعائمه في الهواء وقال عطاء وجماعة * (السابحات) * الخيل ويقال للفرس سابح وقال آخرون * (السابحات) * الحيتان دواب البحر فما دونها وذلك من عظيم المخلوقات فروي ان الله تعالى بث في الدنيا ألف نوع من الحيوان منها أربعمائة في البر وستمائة في البحر وقال عطاء أيضا * (السابحات) * السفن وقال مجاهد أيضا * (السابحات) * المنايا تسبح في نفوس الحيوان
واختلف الناس في * (السابقات) * فقال مجاهد هي الملائكة وقيل الرياح وقال عطاء هي الخيل وقيل النجوم وقيل المنايا تسبق الآمال وقال الشاعر عدي بن زيد
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
*) الخفيف
واما * (المدبرات) * فلا أحفظ خلافا انها الملائكة ومعناه أنها تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فيها كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات وقال ابن زيد * (الراجفة) * الأرض تهتز بأهلها لنفخة الصور الأولى وقيل * (الراجفة) * النفخة نفسها و * (الرادفة) * النفخة الأخرى ويروى أن بينهما أربعين سنة وقال عطاء الراجفة القيامة نفسها و * (الرادفة) * البعث وقال ابن زيد * (الراجفة) * الموت و * (الرادفة) * الساعة
وقال أبي بن كعب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال (يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه) ثم اخبر تعالى عن قلوب تجف ذلك اليوم أي ترتعد خوفا وفرقا من العذاب ووجيف القلب يكون من الفزع ويكون من الاشفاق ومنه قول الشاعر قيس بن الحطيم
(إن بني جحجما وأسرتهم
* أكبادنا من ورائهم تجف) المنسرح
ورفع * (قلوب) * بالابتداء وجاز ذلك وهي نكرة لأنها قد تخصصت بقوله * (يومئذ) * واختلف الناس في جواب القسم أي هو فقال الفراء والزجاج وهو محذوف دل الظاهر عليه تقديره لتبعثن أو لتعاقبن يوم القيامة وقال بعض النحاة هو في قوله تعالى * (إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) * النازعات 26 وهذا ضعيف لبعد القول ولأن المعنى هالك يستحق ابن وقال آخرون هو في قوله * (يوم) * على تقدير حذف اللام كأنه قال ليوم وقال آخرون وهو موجود في جملة قوله تعالى " يوم ترجف الراجفة قلوب يومئذ راجفة " كأنه قال لتجفن قلوب يوم كذا ولما دلت على أصحابها ذكر بعد ذلك أبصارها وخشوعها ذلها وما يظهر فيها من الهم بالحال وقوله تعالى * (يقولون) * هي حكاية حالهم في الدنيا معناه هم الذين يقولون وقولهم * (ائنا) * هو على جهة الاستخفاف والعجب والتكذيب وقرا ابن أبي إسحاق وابن يعمر (أإنا) بهمزتين ومدة على الاستفهام وقرا جمهور القراء (أئنا) باستفهام وهمزة
431

واحدة و * (الحافرة) * لفظة توقعها العرب على أول امر رجع اليه من آخره يقال عاد فلان في الحافرة إذا ارتكس في حال من الأحوال ومنه قول الشاعر
(أحافرة على صلع وشيب
* معاذ الله من سفه وعار) الوافر
والمعنى * (أئنا لمردودون) * إلى الحياة بعد مفارقتها بالموت وقال مجاهد والخليل * (الحافرة) * الأرض فاعلة بمعنى محفورة وقيل بل هو على النسب أي ذات حفر والمراد القبور لأنها حفرت للموتى فالمعنى * (أئنا لمردودون) * احياء في قبورنا وقال زيد بن أسلم * (الحافرة) * في النار وقرا أبو حيوة (في الحفرة) بغير ألف فقيل هو بمعنى * (الحافرة) * وقيل هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها من قولهم حفرت أسنانه إذا تاكلت وتغير ريحها و (الناخرة) المصوتة بالريح المجوفة ومنه قول الشاعر
(وأخليتها من مخها فكأنها
* قوارير في أجوافها الريح تنخر) الطويل
ويروى تصفر وناخرة هي قراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر وعمر بن الخطاب وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وابن الزبير ومسروق ومجاهد وجماعة سواهم وقرا الباقون وحفص عن عاصم وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والحسن والأعرج وأبو رجاء وجعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن وابن جبير وأهل مكة وشبل وقتادة وأيوب والنخعي (نخرة) دون ألف بعد النون ومعناه بالية متعفنة قد صارت رميما يقال نخر العود والعظم إذا بلي وصار يتفتت وحكي عن أبي
عبيدة وأبي حاتم والفراء وغيرهم ان الناخرة والنخرة بمعنى واحد كطامع وطمع وحاذر وحذر والأكثر من الناس على ما قدمناه
قال أبو عمرو بن العلاء (الناخرة) التي لم تنخر بعد والنخرة التي قد بليت
قوله عز وجل
سورة النازعات 12 - 24
ذكر الله تعالى عنهم قولهم * (تلك إذا كرة خاسرة) * وذلك انهم لتكذيبهم بالبعث وإنكارهم قالوا لو كان هذا حقا لكانت كرتنا ورجعتنا خاسرة وذلك لهم إذ هي النار وقال الحسن * (خاسرة) * معناه كاذبة أي ليست بكائنة وروي ان بعض صناديد مكة قال ذلك ثم اخبر الله تعالى عن حال القيامة فقال * (فإنما هي زجرة واحدة) * أي نفخة في الصور فإذا الناس قد نشروا وصاروا احياء على وجه الأرض وفي قراءة عبد الله (فإنما هي رقة واحدة) و * (الساهرة) * وجه الأرض ومنه قول أمية بن أبي الصلت
432

(وفيها لحم ساهرة وبحر
* وما فاهوا به فلهم مقيم) الوافر
وقال وهب بن منبه * (الساهرة) * جبل بالشام يمده الله لحشر الناس يوم القيامة كيف شاء وقال أبو العالية وسفيان * (الساهرة) * أرض قريبة من بيت المقدس وقال قتادة * (الساهرة) * جهنم لأنه لا نوم لمن فيها وقال ابن عباس * (الساهرة) * أرض مكة وقال الزهري * (الساهرة) * الأرض كلها ثم وقف تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على جهة النفس لتلقي الحديث فقال * (هل أتاك حديث موسى) * الآية و (الوادي المقدس) واد بالشام قال منذر بن سعيد هو بين المدينة ومصر وقرا الحسن بن أبي الحسن والأعمش وابن إسحاق (طوى) بكسر الطاء منونة ورويت عن عاصم وقرا الجمهور (طوى) بضمها واجرى بعض القراء (طوى) وترك إجراءه ابن كثير وأبو عمرو ونافع وجماعة وقد تقدم شرح اللفظة في سورة طه
وقوله تعالى * (اذهب إلى فرعون) * تفسير النداء الذي ناداه به ويحتمل ان يكون المعنى قال * (اذهب) * وفي هذه الألفاظ استدعاء حسن وذلك أنه امر ان يقول به " هل لك ان تزكى " وهذا قول جواب كل عاقل عنده نعم أريد ان اتزكى والتزكي هو التطهر من النقائص والتلبس بالفضائل وفسر بعضهم " تزكى " بتسلم وفسرها بقول لا إله إلا الله وهذا تخصيص وما ذكرناه يعم جميع هذا وقرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو بخلاف عنه (تزكى) بشد الزاي وقرا الباقون (تزكى) بتخفيف الزاي ثم امر موسى ان يفسر له التزكي الذي دعاه اليه بقوله * (وأهديك إلى ربك فتخشى) * والعلم تابع للهدى والخشية تابعة للعلم * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * فاطر 28 و * (الآية الكبرى) * العصا واليد قاله مجاهد وغيره وهما نصب موسى للتحدي فوقعت المعارضة في الواحدة وانقلب فيها فريق الباطل
وقال بعض المفسرين * (أدبر يسعى) * حقيقة قام من موضعه موليا فارا بنفسه عن مجالسة موسى عليه السلام وقال مجاهد * (أدبر) * كناية عن إعراضه عن الايمان و * (يسعى) * معناه يتحذم حل امر موسى عليه السلام والرد في وجه شرعه وقوله * (فحشر) * معناه جمع أهل مملكته ثم ناداهم بقوله * (أنا ربكم الأعلى) *
وروي عن ابن عباس أنه قال المعنى فنادى فحشر وقوله * (أنا ربكم الأعلى) * نهاية في المخرقة ونحوها باق في ملوك مصر وأتباعهم
قوله عز وجل
سورة النازعات 25 - 36
* (نكال) * منصوب على المصدر قال قوم * (الآخرة) * قوله * (ما علمت لكم من إله غيري) * القصص 38 و * (الأولي) * قوله * (أنا ربكم الأعلى) * النازعات 24 وروي انه مكث بعد قوله
433

* (أنا ربكم الأعلى) * النازعات 24 أربعين سنة وقيل هه المدة بين الكلمتين وقال ابن عباس * (الأولي) * قوله * (ما علمت لكم من إله غيري) * القصص 38 و * (الآخرة) * قوله * (أنا ربكم الأعلى) * النازعات 24 وقال أبو زيد * (الأولي) * كفره وعصيانه و * (الآخرة) * قوله * (أنا ربكم الأعلى) * النازعات 24 وقال ابن زيد * (الأولي) * الدنيا و * (الآخرة) * الدار الآخرة أي اخذه الله بعذاب جهنم وبالغرق في الدنيا وقال مجاهد عبارة عن أول معاصيه وكفره وآخرها أي نكل بالجميع و * (نكال) * نصب على المصدر والعامل فيه على رأي سيبويه (أخذ) لأنه في معناه وعلى رأي أبي العباس المبرد فعل مضمر من لفظ * (نكال) * ثم وقف تعالى على موضع العبرة بحال فرعون وتعذيبه وفي الكلام وعيد للكفار المخاطبين برسالة محمد عليه السلام ثم وقفهم مخاطبة منه تعالى للعالم والمقصد الكفار ويحتمل ان يكون المعنى قل لهم يا محمد * (أأنتم أشد خلقا) * الآية وفي هذه الآية دليل على أن بعث الأجساد من القبور لا يتعذر على قدرة الله تعالى و (السمك) الارتفاع الذي بين سطح السماء الأسفل الذي يلينا وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها وقوله تعالى * (فسواها) * يحتمل أن يريد جعلها ملساء مستوية ليس فيها مرتفع ومنخفض ويحتمل أن يكون عبارة عن اتقان خلقها ولا يقصد معنى إملاس سطحها والله تعالى أعلم كيف هي
* (وأغطش) * معناه أظلم والأغطش الأعمى ومنه قول الشاعر الأعشى
(نحرت لهم موهنا ناقتي
* وليلهم مدلهم غطش) المتقارب
ونسب الليل والضحى إليها من حيث هما ظاهران منها وفيها وقوله تعالى * (والأرض بعد ذلك دحاها) * متوجه على أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها ثم استوى إلى السماء وهي دخان فخلقها وبناها ثم دحا الأرض بعد ذلك وقرا مجاهد و (الأرض مع ذلك) وقال قوم إن * (بعد ذلك) * معناه مع ذلك والذي قلناه تترتب عليه آيات القرآن كلها ونسب الماء والمرعى إلى الأرض حيث هما يظهران فيها ودحو الأرض بسطها ومنه قول أمية بن أبي الصلت
(دار دحاها ثم أسكننا بها
* وأقام بالأخرى التي هي امجد) الكامل
وقرا الجمهور (والأرض) نصبا وقرا الحسن وعيسى و (الأرض) بالرفع وقرا الجمهور و (الجبال) نصبا وقرا الحسن وعمرو بن عبيد (والجبال) رفعا و * (أرساها) * معناه أثبتها وجمع هذه النعم إذا تدبرت فهي متاع للناس و (الأنعام) يتمتعون فيها وبها وقرا الجمهور (متاعا) بالنصب وقرا ابن أبي عبلة (متاع) بالرفع و * (الطامة الكبرى) * هي القيامة قاله ابن عباس والضحاك وقال الحسن وابن عباس أيضا النفخة الثانية وقوله * (ما سعى) * معناه ما عمل من سائر عمله ويتذكر ذلك بما يرى من جزائه وقرا جمهور الناس (وبرزت) بضم الباء وشد الراء المكسورة وقرا عكرمة ومالك بن دينار وعائشة (وبرزت) بفتح الباء والراء وقرا جمهور الناس (لمن يرى) بالياء أي لمن يبصر ويحصل وقرأ عكرمة ومالك بن دينار وعائشة (لمن ترى) بالتاء أي تراه أنت فالإشارة إلى كفار مكة أو إشارة إلى الناس والمقصد كفار مكة ويحتمل ان يكون المعنى لمن تراه الجحيم كما قال تعالى * (إذا رأتهم من مكان بعيد) * الفرقان 12 وقرا ابن مسعود (لمن رأى) على فعل ماض
434

قوله عز وجل
سورة النازعات 37 - 46
* (طغي) * معناه تجاوز الحدود التي ينبغي للإنسان ان يقف عندها بان كفر وآثر الحياة الدنيا على الآخرة لتكذيبه بالآخرة
و * (المأوى) * والمسكن حيث يأوي المرء ويلازم و * (مقام ربه) * هو القيامة وانما المراد مقامه بين يدي ربه فأضاف المقام إلى الله عز وجل من حيث بين يديه وفي ذلك تفخيم للمقام وتعظيم لهوله وموقعه في النفوس قال ابن عباس المعنى خافه عند المعصية فانتهى عنها و * (الهوى) * هو شهوات النفس وما جرى مجراها وأكثر استعمالها إنما هو في غير المحمود قال سهل التستري لا يسلم من الهوى الا الأنبياء وبعض الصديقين وقال بعض الحكماء إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه وقال الفضيل أفضل الأعمال خلاف الهوى وقوله تعالى * (يسألونك عن الساعة) * الآية نزلت بسبب ان قريشا كانت تلح في البعث عن وقت الساعة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم بها ويتوعدهم بها ويكثر من ذلك و * (أيان مرساها) * معناه متى ثبوتها ووقت رسوها أي ثبوتها كأنه يسر إلى غاية ما ثم يقف كما تفعل السفينة التي ترسو
وقرا أبو عبد الرحمن السلمي (إيان) بكسر الألف
ثم قال لنبيه عليه السلام على جهة التوقيف * (فيم أنت من ذكراها) * أي من ذكر تحديدها ووقتها أي لست من ذلك في شيء * (إنما أنت منذر) * وقالت عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يسال عن الساعة كثيرا فلما نزلت هذه الآية انتهى
وقرا أبو جعفر وعمر بن عبد العزيز وأبو عمرو بخلاف وابن محيصن والأعرج وطلحة وعيسى (منذر) بتنوين الراء وقرا جمهور القراء (منذر) بإضافة (منذر) إلى " من " ثم قرب تعالى امر الساعة بإخباره ان الإنسان عند رؤيته إياها لم يلبث الا عشية يوم أو بكرته فأضاف الضحى إلى العشية من حيث هما طرفان للنهار وقد بدأ بذكر أحدهما فأضاف الآخر اليه تجوزا وإيجازا
نجز تفسير * (النازعات) * والحمد لله كثيرا
435

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة عبس
وهي مكية بإجماع المفسرين قصص هذه السورة التي لا تتفهم السورة الا به ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إسلام قريش وأشرافهم وكان يتحفى بدعائهم إلى الله تعالى فبينما هو يوما مع رجل من عظمائهم قيل الوليد بن المغيرة المخزومي وقيل عتيبة بن ربيعة وقيل شيبة وقيل العباس وقيل أمية بن خلف وقال ابن عباس كان في جمع منهم فيهم عتبة والعباس وأبو جهل إذ أقبل عبد الله بن أم مكتوم القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي وهو رجل أعمى يقوده رجل آخر فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قائده أن يؤخر عنه ففعل فدفعه عبد الله نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال استدنني يا محمد علمني مما علمك الله وكان في ذلك كله قطع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرجل المذكور من قريش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرا عليه القرآن ثم قال له أترى بما أقول بأسا فكان ذلك الرجل يقول لا والدمى يعني الأصنام ويروى لا والدماء يعني الذبائح للأصنام فلما شغب عليه امر عبد الله بن أم مكتوم عبس وأعرض عنه وذهب ذلك الرجل فروى أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إلى بيته فلوى رأسه وشخص بصره وأنزلت عليه هذه السورة
قال سفيان الثوري فكان بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءه وقال له انس بن مالك رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة مرتين
قوله عز وجل
سورة عبس 1 - 17
(العبوس) تقطب الوجه واربداده عند كراهية أمر وفي مخاطبته بلفظ ذكر الغائب مبالغة في العتب لأن في ذلك بعض الاعراض وقال كثير من العلماء وابن زيد وعائشة وغيرها من الصحابة لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآيات وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش
436

و (التولي) هنا الاعراض و * (أن) * مفعول من اجله وقرأ الحسن * (أن جاءه) * بمدة تقرير وتوقيف والوقف مع هذه القراءة على * (تولي) * وهي قراءة عيسى
وذكر الله تعالى ابن مكتوم بصفة العمى ليظهر المعنى الذي شأن البشر احتقاره وبين امره بذكر ضده من غنى ذلك الكافر وفي ذلك دليل على أن ذكر هذه العاهات متى كانت المنفعة أو لأن شهرتها تعرف السامع صاحبها دون لبس جائز ومنه قول المحدثين سلمان الأعمش وعبد الرحمن الأعرج وسالم الأفطس ونحو هذا
ومتى ذكرت هذه الأشياء على جهة التنقيص فتلك الغيبة وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة تذكر امرأة فقالت إنها القصيرة
فقال لها لقد قلت كلمة لو مزجت بالبحر لمزجته ثم خاطب تعالى نبيه فقال * (وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى) * أي وما يطلعك على امره وعقبى حاله ثم ابتدأ القول * (لعله يزكى) * أي تنمو بركته وتطهره لله وينفعه إيمانه واصل * (يزكي) * يتزكى فأدغم التاء في الزاي وكذلك
* (يذكر) * وقرا الأعرج (يذكر) بسكون الذال وضم الكاف ورويت عن عاصم وقرا جمهور السبعة (فتنفعه) بضم العين على العطف وقرا عاصم وحده والأعرج (فتنفعه) بالنصب في جواب التمني لأن قوله * (أو يذكر) * في حكم قوله * (لعله يزكى) * ثم اكد تعالى عتب نبيه عليه السلام بقوله * (أما من استغنى) * أي بماله و * (تصدي) * معناه تتعرض بنفسك وقرا ابن كثير ونافع (تصدى) بشد الصاد على إدغام التاء وقرا الباقون والأعرج والحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى والأعمش (تصدى) بتخفيف الصاد على حذف التاء وقرا أبو جعفر بن القعقاع تصدى بضم التاء وتخفيف الصاد على بناء الفعل للمجهول أي تصديك حرصك على هؤلاء الكفار ان يسلموا تقول تصدى الرجل وصديته كما تقول تكسب وكسبته ثم قال تعالى محتقرا لشان الكفار * (وما عليك ألا يزكى) * وما يضرك الا يفلح هذا حض على الاعراض عن امرهم وترك الاكتراث بهم ثم قال مبالغا في العتب * (وأما من جاءك يسعى) * أي يمشي وقيل المعنى * (يسعى) * في شؤونه وأمر دينه وتقربه منك * (وهو يخشى) * الله تعالى * (فأنت عنه تلهى) * أي تشتغل تقول لهيت عن الشيء ألهى إذا اشتغلت وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو وإما أن المعنى يتداخل وقرا الجمهور من القراء (تلهى) بفتح التاء على حذف التاء الواحدة وقرا ابن كثير فيما روى عنه (تلهى) بالإدغام وقرا طلحة بن مصرف (تتلهى) بتاءين وروي عنه (تلهى) بفتح التاء وسكون اللام وتخفيف الهاء المفتوحة وقرا أبو جعفر بن القعقاع (تلهى) بضم التاء وسكون اللام أي يلهيك حرصك على أولئك الكفار وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم (وما استأثر الله به فاله عنه) وقوله تعالى في هاتين * (وأما من) * فالسبب ما ذكر من كفار قريش وعبد الله بن أم مكتوم ثم هي بعد تتناول من شركهم في هذه الأوصاف فحمله الشرع والعلم مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير وتقديمه على الشريف العاري من الخير بمثل ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة ثم قال * (كلا) * يا محمد اي ليس الأمر في حقه كما فعلت إن هذه السورة والقراءة التي كنت فيها مع ذلك الكافر * (تذكرة) * لجميع العالم لا يؤثر فيها أحد دون أحد وقيل المعنى ان هذه المعتبة تذكرة لك يا محمد ففي هذا التأويل إجلال لمحمد صلى الله عليه وسلم وتأنيس له وقوله تعالى * (فمن شاء ذكره) * يتضمن وعدا ووعيدا على نحو قوله تعالى " فمن شاء اتخذ
437

إلى ربه مآبا) النبأ 39 وقوله تعالى * (في صحف) * يتعلق بقوله * (إنها تذكرة) * وهذا يؤيد ان التذكرة يراد بها جميع القرآن وقال بعض المتأولين الصحف هنا اللوح المحفوظ وقيل صحف الأنبياء المنزلة وقيل مصاحف المسلمين واختلف الناس في (السفرة) فقال ابن عباس هم الملائكة لأنهم كتبة يقال سفرت أي كتبت ومنه السفر وقال ابن عباس أيضا الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله تعالى وبين أنبيائه وقال قتادة هم القراء وواحد السفرة سافر وقال وهب بن منبه هم الصحابة لأنهم بعضهم يسفر إلى بعض في الخبر والتعلم والقول الأول أرجح ومن اللفظة قول الشاعر
(وما ادع السفارة بين قومي
* وما أسعى بغش إن مشيت) الوافر
و (الصحف) على هذا صحف عند الملائكة أو اللوح وعلى القول الآخر هي المصاحف وقوله تعالى * (قتل الإنسان ما أكفره) * دعاء على اسم الجنس وهو عموم يراد به الخصوص والمعنى قتل الإنسان الكافر ومعنى * (قتل) * أي هو أهل ان يدعى عليه بهذا وقال مجاهد * (قتل) * بمعنى لعن وهذا تحكم وقوله تعالى * (ما أكفره) * يحتمل معنى التعجب ويحتمل معنى الاستفهام توقيفا أي أي شيء * (أكفره) * أي جعله كافرا وقيل إن هذه الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب وذلك أنه غاضب أباه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام فبعث عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال إني كافر برب النجم إذا هوى فيروى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (اللهم ابعث عليه كلبك حتى يأكله) ويروى أنه قال (ما يخاف ان يرسل الله عليك كلبه) ثم إن عتبة خرج في سفرة فجاء الأسد فأكله بين الرفقة
قوله عز وجل
سورة عبس 18 - 32
قوله تعالى " من أي شيء خلقه " استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الإنسان منه وهي عبارة تصلح للتحقير والتعظيم والقرينة تبين الغرض وهذا نظير
قوله * (لأي يوم أجلت ليوم الفصل) * المرسلات 13 واللفظ المشار اليه ماء الرجل وماء المراة وقرأ جمهور الناس (فقدره) بشد الدال وقرا بعض القراء (فقدره) بتخفيفها والمعنى جعله بقدر واحد معلوم من الأعضاء والخلق والأجل وغير ذلك من انحائه حسب إرادته تعالى في إنسان إنسان واختلف المتاولون في معنى قوله * (ثم السبيل يسره) * فقال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي هي سبيل الخروج من بطن المراة ورحمها وقال الحسن ما معناه إن * (السبيل) * هي سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان وتيسره له هو هبة العقل وقال
438

مجاهد أراد * (السبيل) * عامة اسم الجنس في هدى وضلال أي يسر قوما لهذا كقوله تعالى * (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) * الانسان 3 وقوله تعالى * (وهديناه النجدين) * البلد 10 وقوله تعالى * (فأقبره) * معناه امر ان يجعل له قبر وفي ذلك تكريم لئلا يطرح كسائر الحيوان والقابر هو الذي يتناول جعل الميت في قبره واالمقبر الذي يأمر بقبر الميت ويقرره و * (أنشره) * معناه أحياه يقال نشر الميت وانشره الله وقوله * (إذا شاء) * يريد إذا بلغ الوقت الذي شاءه وهو يوم القيامة وقرا بعض القراء * (شاء أنشره) * بتحقيق الهمزتين وقرا جمهور الناس * (شاء أنشره) * بمدة وتسهيل الهمزة الأولى وقرا شعيب بن أبي حمزة (شاء نشره) وقرا الأعمش (شاء انشره) بهمزة واحدة وقوله تعالى * (كلا لما يقض ما أمره) * رد لما عسى ان للكفار من الاعتراضات في هذه الأقوال المسرودة ونفي مؤكد لطاعة الإنسان لربه وإثبات انه ترك حق الله تعالى ولم يقض ما امره قال مجاهد لا يقضي أحد أبدا ما افترض عليه ثم امر تعالى الانسان بالعبرة والنظر إلى طعامه والدليل فيه وذهب أبي بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد وغيره إلى أن المراد * (إلى طعامه) * إذا صار رجيعا ليتأمل حيث تصير عاقبة الدنيا وعلى أي شيء يتفانى أهلها وتستدير رحاها وهذا نظير ما روي عن ابن عمر ان الإنسان إذا احدث فإن ملكا يأخذ بناصيته عند فراغه فيرد بصره إلى نحوه موقفا له ومعجبا فينفع ذلك من له عقل وذهب الجمهور إلى أن معنى الآية فلينظر إلى مطعوماته وكيف يسرها الله تعالى له بهذه الوسائط المذكورة من صب الماء وشق الأرض ويروى ان رجلا أضافه عابد فقدم اليه رغيفا قفارا فكان الرجل استخشنه فقال له كله فإن الله تعالى لم ينعم به وكمله حتى سخر فيه ثلاثمائة وستين عاملا الماء والريح والشمس ثلاثة من ذلك وقرا عاصم وحمزة والكسائي (أنا صببنا) بفتح الألف على البدل وهي قراءة الأعرج وابن وثاب والأعمش ورد على هذا الاعراب قوم بأن الثاني ليس الأول وليس كما ردوا لأن المعنى * (فلينظر الإنسان) * إلى انعامنا في طعامه فترتب البدل وصح (وانا) في موضع خفض وقرا الجمهور (إنا) بكسر الألف على استئناف تفسير الطعام وقرا بعض القراء (أنى) بمعنى كيف ذكرها أبو حاتم و (صب الماء) هو المطر و (شق الأرض) هو بالنبات و (الحب) جمح حبة بفتح الحاء وهو كل ما يتخذه الناس ويربونه كالقمح والشعير ونحوه والحبة بكسر الحاء كل ما ينبت من البزور ولا يحفل به ولا هو بمتخذ و (القضب) قال بعض اللغويين هي الفصافص وهذا عندي ضعيف لأن الفصافص هي للبهائم فهي دخل في الأب وقال أبو عبيدة (القضب) الرطبة قال ثعلب لأنه يقضب كل يوم والذي أقوله إن القضب هنا هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم وغضا من النبات كالبقول والهليون ونحوه فإنه من المطعوم جزء عظيم ولا ذكر له في الآية الا في هذه اللفظة والغلب الغلاظ الناعمة و (الحديقة) الشجر الذي قد احدق بجدار أو نحوه و (الأب) المرعى قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة وقال الضحاك (الأب) التبن وفي اللفظة غرابة وقد توقف في تفسيرها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما و * (متاعا) * نصب على المصدر والمعنى تتمتعون به أنتم وانعامكم فابن آدم في السبعة المذكورة والأنعام في الأب
439

قوله عز وجل
سورة عبس 33 - 42
* (الصاخة) * اسم من أسماء القيامة واللفظة في حقيقتها إنما هي لنفخة الصور التي تصخ الآذان أي تصمها ويستعمل هذا اللفظ في الداهية التي يصم نبؤها الآذان لصعوبته وهذه استعارة وكذلك في الصيحة المفرطة التي يصعب وقعها على الأذن ثم ذكر تعالى فرار المرء من القوم الذين معهودهم ان لا يفر عنهم في الشدائد ثم رتبهم تعالى الأول فالأول محبة وحنوا وقرأ أبو أناس جوية من أخيه وأمه وأبيه بضم الهاء في كلها وقال منذر بن سعيد وغيره هذا الفرار هو خوف من أن يتبع بعضهم بعضا بتبعات إذ الملابسة تعلق المطالبة وقال جمهور الناس إنما ذلك لشدة الهول على نحو ما روي أن الرسل تقول يومئذ نفسي نفسي لا أسألك غيري والشان الذي يغنيه هو فكرة في سيئاته وخوفه على نفسه من التخليد في النار والمعنى * (يغنيه) * عن اللقاء مع غيره والفكرة في أمره قال قتادة أفضى كل إنسان إلى ما يشغله عن غيره
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة (لا يضرك في القيامة كان عليك ثياب أم لا) وقرا هذه الآية وقال نحوه لسودة وقد قالتا وا سوأتاه ينظر بعض الناس إلى بعض يوم القيامة وقرا جمهور الناس (يغنيه) بالغين منقوطة وضم الياء على ما فسرناه وقرا ابن محيصن والزهري وابن السميفع (يعنيه) بفتح الياء والعين غير منقوطة من قولك عناني الأمر اي قصدني وأردني
ثم ذكر تعالى اختلاف الوجوه من المؤمنين الواثقين برحمة الله حين بدت لهم تباشيرها من الكفار و * (مسفرة) * معناه نيرة باد ضوؤها وسرورها و * (ترهقها) * معناه تلح عليها و (القترة) الغبار و (الغبرة) الأولى انما هي العبوس والهم كما يرى على وجه المهموم والميت والمريض شبه الغبار واما (القترة) فغبار الأرض ويقال إن ذلك يغشاهم من التراب الذي تعوده البهائم ثم فسر تعالى أصحاب هذه الوجوه المغبرة بأنهم الكفرة قريش يومئذ ومن جرى مجراهم قديما وحديثا
نجز تفسير سورة * (عبس) * والحمد لله كثيرا
440

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكوير
وهي مكية بإجماع من المتأولين
قوله عز وجل
سورة التكوير 1 - 14
هذه كلها أوصاف يوم القيامة و (تكوير الشمس) هو ان تدار ويذهب بها إلى حيث شاء الله كما يدار كور العمامة وعبر المفسرون عن ذلك بعبارات فمنهم من قال ذهب نورها قاله قتادة ومنهم من قال رمي بها قاله الربيع بن خيثم وغير ذلك مما هو أشياء توابع لتكويرها و (انكدار النجوم) هو انقضاضها وهبوطها من مواضعها ومن قول الراجز العجاج
(أبصر خربان فلاة فانكدر
* تقضي البازي إذا البازي كسر) الرجز
وقال ابن عباس * (انكدرت) * تغيرت من قولهم ماء كدر أي متغير اللون وتسيير الجبال هو قبل نسفها وإنما ذلك في صدر هول القيامة و * (العشار) * جمع عشراء وهي الناقة التي قد مر لحملها عشرة أشهر وهي أنفس ما عند العرب وتهممهم بها عظيم للرغبة في نسلها فإنها تعطل عند أشد الأهوال وقرا مضر عن اليزيدي (عطلت) بتخفيف الطاء و (حشر الوحوش) جمعها واختلف الناس في هذا الجمع ما هو فقال ابن عباس * (حشرت) * بالموت لا تبعث في القيامة ولا يحضر في القيامة غير الثقلين وقال قتادة وجماعة * (حشرت) * للجمع يوم القيامة ويقتص للجماء من القرناء فجعلوا ألفاظ هذا الحديث حقيقة لا مجازا مثالا في العدل
وقال أبي بن كعب * (حشرت) * في الدنيا في أول هول يوم القيامة فإنها تفر في الأرض وتجتمع إلى بني آدم تأنيسا بهم وقرا الحسن (حشرت) بشد الشين على المبالغة و (تسجير البحار) قال قتادة والضحاك معناه فرغت من مائها وذهب حيث شاء وقال الحسن يبست وقال الربيع بن خيثم معناه ملئت وفاضت وفجرت من أعاليها وقال أبي بن كعب وابن عباس وسفيان
441

ووهب وابن زيد معناه أضرمت نارا كما يسجر التنور وقال ابن عباس جهنم في البحر الأخضر ويحتمل ان يكون المعنى ملكت وقيد اضطرابها حتى لا تخرج على الأرض بسبب الهول فتكون اللفظة مأخوذة من ساجور الكلب وقيل هذه مجاز في جهنم تسجر يوم القيامة وقد تقدم نظير هذه الأقوال منصوصة لأهل العلم في تفسير قوله تعالى * (والبحر المسجور) * الطور 6
وقرا ابن كثير وأبو عمرو (سجرت) بتخفيف الجيم وقرا الباقون بشدها وهي مترجحة بكون البحار جميعا كما قال * (كتابا يلقاه منشورا) * الإسراء 13 وكما قال * (صحفا منشرة) * المدثر 52 ومثله * (قصر مشيد) * الحج 45 و * (بروج مشيدة) * النساء 78 لأنها جماعة وذهب قوم من الملحدين إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند موته والشمس نفسه والنجوم عيناه وحواسه والعشار ساقاه وهذا قول سوء وخيم غث ذاهب إلى اثبات الرموز في كتاب الله تعالى و (تزويج النفوس) هو تنويعها لأن الأزواج هي الأنواع والمعنى جعل الكافر مع الكافر والمؤمن مع المؤمن وكل شكل مع شكله رواه النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم وقاله عمر بن الخطاب وابن عباس وقال هذا نظير قوله تعالى * (وكنتم أزواجا ثلاثة) * الواقعة 7 وفي الآية على هذا حض على خليل الخبر فقد قال عليه السلام (المرء مع من أحب) وقال (فلينظر أحدكم من يخالل) وقال الله تعالى * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * الزخرف 67 وقال مقاتل بن سليمان زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحور وغيرهن
وقال عكرمة والضحاك والشعبي زوجت الأرواح الأجساد وقرا عاصم (زوجت) غير مدغم و " الموءودة " اسم معناه المثقل عليها ومنه * (ولا يؤوده) * البقرة 255 ومنه أتأد أي توقد وأثقل وعرف هذا الاسم في البنات اللواتي كان قوم من العرب يدفنونهن احياء يحفر الرجل شبه البر أو القبر ثم يسوق ابنته فيلقيها فيها وإذا كانت صغيرة جدا خد لها في الأرض ودفنها وبعضهم كان يفعل ذلك خشية الإملاق وعدم المال وبعضهم غيرة وكراهية للبنات وجهالة
وقرا الجمهور (الموءودة) بالهمز من وأد في حرف ابن مسعود (وإذا الماودة) وقرا البزي (الموودة) بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة وقرأ الأعمش المودة بسكون الواو على وزن الفعلة وقرأ بعض السلف المودة بفتح الواو والدال المشددة جعل البنت مودة وقرا جمهور الناس (سئلت) وهذا على جهة التوبيخ للعرب الفاعلين ذلك لأنها تسأل ليصير الامر إلى سؤال الفاعل ويحتمل أن تكون مسؤولة عنها مطلوبا الجواب منهم
كما قال تعالى * (إن العهد كان مسؤولا) * الاسراء 34 وكما يسأل التراث والحقوق
وقرا ابن عباس وأبي بن كعب وجابر بن زيد وأبو الضحى ومجاهد وجماعة كثيرة منهم ابن مسعود والربيع بن خيثم (سألت) ثم اختلف هؤلاء فقرا أكثرهم (قتلت) بفتح التاء وسكون اللام وقرا أبو جعفر (قتلت) بشد التاء على المبالغة وقرأ ابن عباس وجابر وأبو الضحى ومجاهد (قتلت) بسكون اللام وضم التاء وقرا الأعرج والحسن (سيلت) بكسر السين وفتح اللام دون همز واستدل ابن عباس بهذه الآية في أن أولاد المشركين في الجنة لأن الله تعالى قد انتصر لهم من ظلمهم و (الصحف المنشورة) قيل هي صحف الأعمال تنشر ليقرأ كل امرئ كتابه وقيل هي
442

الصحف التي تتطاير بالأيمان والشمائل بالجزاء وقرا نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعرج والحسن وأبو رجاء وقتادة (نشرت) بتخفيف الشين المكسورة وقرا ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي (نشرت) بشد الشين على المبالغة و (الكشط) التقشير وذلك كما يكشط جلد الشاة حين تسلخ و (كشط السماء) هو طيها كطي السجل وفي مصحف عبد الله بن مسعود (قشطت) بالقاف وهما بمعنى واحد و * (سعرت) * معناه أضرمت نارها وقرا نافع وابن عامر وحفص عن عاصم (سعرت) بشد العين وقرا ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بتخفيفها وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وقال قتادة سعرها غضب الله تعالى وذنوب بني آدم و * (أزلفت) * الجنة معناه قربت ليدخلها المؤمنون وقرا عمر بن الخطاب وجماعة من المفسرين إلى هذين انتهى الحديث وذلك أن الغرض المقصود بقوله * (وإذا) * * (وإذا) * في جميع ما ذكر إما تم بقوله * (علمت نفس ما أحضرت) * أي ما أحضرت من شر فدخلت به جهنم أو من خير فدخلت به الجنة و * (نفس) * هنا اسم جنس أي عملت النفوس ووقع الافراد لتنبيه الذهن على حقارة المرء الواحد وقلة دفاعه عن نفسه
قوله عز وجل
سورة التكوير 15 - 29
قوله تعالى * (فلا) * إما أن تكون (لا) زائدة وإما ان يكون رد القول قريش في تكذيبهم بنبوة محمد عليه السلام وقولهم إنه ساحر وكاهن ونحو ذلك ثم أقسم الله تعالى " وبالخنس الجوار الكنس " فقال جمهور المفسرين إن ذلك الدراري السبعة الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة والمشتري وقال علي بن أبي طالب المراد الخمسة دون الشمس والقمر
وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جريها أي تتقهقر فيما ترى العين وهو جوار في السماء وأثبت يعقوب الياء في (الجواري) في الوقف وحذفها الباقون وهي تكنس في أبراجها أي تستتر وقال علي بن أبي طالب أيضا والحسن وقتادة المراد النجوم كلها لأنها تخنس بالنهار حين تختفي وقال عبد الله بن مسعود والنخعي وجابر بن زيد وجماعة من المفسرين المراد * (بالخنس الجوار الكنس) * بقر الوحش لأنها تفعل هذه الأفعال في كناسها وهي المواضع التي تأوي إليها من الشجر والغيران ونحوه وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك هي الظباء وذهب هؤلاء في الخنس إلى أنه من صفة الأنوف لأنها يلزمها الخنس وكذلك هي بقر الوحش أيضا ومن ذلك قول الشاعر
(سوى نار بض أو غزال صريمة
* أغن من الخنس المناخر توأم) الطويل
443

(وعسعس الليل) في اللغة إذا كان غير مستحكم الاظلام وقال الحسن بن أبي الحسن ذلك في وقت اقباله وبه وقع القسم وقال زيد بن أسلم وابن عباس ومجاهد وقتادة ذلك عند إدباره وبه وقع القسم ويرجح هذا قوله بعد * (والصبح إذا تنفس) * فكأنهما حالان متصلتان ويشهد له قول علقمة بن قرط
(حتى إذا الصبح لها تنفسا
* وانجاب عنها ليلها وعسعسا) الرجز
وقال المبرد أبو العباس أقسم بإقباله وإدباره قال الخليل يقال عسعس الليل وسعسع إذا أقبل وادبر و (تنفس الصبح) استطار واتسع ضوؤه وقال علوان بن قس
(وليل دجوجي تنفس فجره
* لهم بعد ان خالوه لن يتنفسا) الطويل
والضمير في * (إنه) * للقرآن و (الرسول الكريم) في قول جمهور المتأولين جبريل عليه السلام وقال آخرون هو محمد عليه السلام في الآية والقول الأول أصح و * (كريم) * في هذه الآية يقتضي رفع المذام ثم وصفه بقوة منحه الله إياها واختلف الناس في تعليق * (عند ذي العرش) * فذهب بعض المتأولين إلى تعلقه بقوله * (ذي قوة) * وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله * (ذي قوة) * وتعلق الظرف ب * (مكين) * و * (مكين) * معناه له مكانة ورفعة وقوله تعالى * (مطاع ثم أمين) * أي مقبول القول مصدق بقوله مؤتمن على ما يرسل به ويؤدي من وحي وامتثال امر وقرا أبو جعفر (ثم أمين) بضم الثاء وذكر الله تعالى نفسه بالإضافة إلى عرشه تنبيها على عظم ملكوته واجمع المفسرون على أن قوله * (وما صاحبكم) * يراد به محمد صلى الله عليه وسلم والضمير في * (راه) * جبريل عليه السلام وهذه الرؤية التي كانت بعد امر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض
وقيل هذه الرؤيا التي رآه عند سدرة المنتهى في الإسراء وسمى ذلك الموضع أفقا مجازا وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية ثانية بالمدينة وليست هذه ووصف الأفق ب * (المبين) * لأنه كان بالشرق من حيث تطلع الشمس قال قتادة وأيضا فكل أفق فهو في غاية البيان وقوله تعالى * (وما هو على الغيب بضنين) * بالضاد بمعنى بخيل أي يشح به ولا يبلغ ما قيل له ويبخل كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه وبالضاد هي خطوط المصاحف كلها فيما قاله الطبري وهي قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة وعثمان بن عفان وابن عباس والحسن وأبي رجاء والأعرج وأبي جعفر وشيبة وجماعة وافرة
وقرا ابن كثير وعمرو والكسائي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة بن الزبير ومسلم وابن جندب ومجاهد وغيرهم (بظنين) بالظاء أي بمتهم وهذا في المعنى نظير وصفه ب * (امين) * وقيل معناه بضعف القوة عن التبليغ من قولهم بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء ورجح أبو عبيد قراءة الظاء مشالة لأن قريشا لم تبخل محمد صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به وإنما كذبته فقيل ما هو بمتهم ثم نفى تعالى عن القرآن ان يكون كلام شيطان على ما قالت قريش إن محمدا كاهن و * (رجيم) * معناه مرجوم مبعد بالكواكب واللعنة وغير ذلك وقوله تعالى * (فأين تذهبون) *
444

توقيف وتقرير على معنى أين المذهب لأحد عن هذه الحقائق و (الذكر) هنا مصدر بمعنى التذكرة ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفا وتنبيها وذكرا لتكسبهم أفعال الاستقامة ثم بين تعالى ان تكسب المرء على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء وروي انه نزل قوله تعالى * (لمن شاء منكم أن يستقيم) * فقال أبو جهل هذا امر قد وكل الينا فإن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فنزلت (وما تشاؤون الا ان يشاء الله) يقول الله تعالى يا
ابن آدم تريد وأريد فتتعب فيما تريد ولا يكون الا ما أريد
445

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانفطار
هي مكية بإجماع
قوله عز وجل
سورة الانفطار 1 - 12
هذه أوصاف يوم القيامة و (انفطار السماء) تشققها على غير نظام مقصود إنما هو انشقاق لتزول بنيتها وانتثار الكواكب سقوطها من مواضعها التي هي فيها كنظام و (تفجير البحار) يحتمل ان يكون من امتلائها فتفجر من أعاليها وتفيض على ما وليها ويحتمل ان يكون تفجير تفريع ويحتمل ان يكون فيضانها فيذهب الله ماءها حيث شاء وقيل فجر بعضها إلى بعض فاختلط العذاب بالملح وصارت واحدا وهذا نحو الاختلاف في * (سجرت) * التكوير 6 في السورة االتي قبل وقرا مجاهد والربيع بن خيثم (فجرت) بتخفيف الجيم و (بعثرة القبور) نبشها عن الموتى الذين فيها وقوله تعالى * (علمت نفس) * هو جواب * (إذا) * و * (نفس) * هنا اسم الجنس وإفرادها لتبين لذهن السامع حقارتها وقلتها وضعفها عن منفعة ذاتها الا من رحم الله تعالى وقال كثير من المفسرين في معنى قوله تعالى * (ما قدمت وأخرت) * إنها عبارة عن جميع الأعمال لأن هذا التقسيم يعم الطاعات المعمولة والمتروكة وكذلك المعاصي
وقال ابن عباس والقرظي محمد بن كعب * (ما قدمت) * في حياتها وما * (أخرت) * مما سنته فعمل به بعد موتها ثم خاطب تعالى جنس ابن آدم على جهة التوبيخ والتنبيه على أي شيء أوجب ان يغتر بربه الكريم فيعصيه ويجعل له ندا وغير ذلك من أنواع الكفر وهو الخالق الموجد بعد العدم وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (جهله) وقاله عمر وقرا * (إنه كان ظلوما جهولا) * الأحزاب 72 وقال قتادة عدوه المسلط عليه وقال بعض العلماء غره ستر الله عليه وقال غيره غره كرم الله ولفظة
446

الكريم تلقن هذا الجواب فهذا من لطف الله تعالى لعباده العصاة من المؤمنين وقرا ابن جبير والأعمش (ما أغرك) على وزن أفعلك والمعنى ما دعاك إلى الاغترار ان يكون المعنى تعجبا محضا وقرا الجمهور (فعدلك) بتشديد الدال وكان صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى الهلال قال (آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك) لم يختلف الرواة في شد الدال وقرا الكوفيون والحسن وأبو جعفر وطلحة والأعمش وأبو رجاء وعيسى بن عبيد (فعدلك) بتخفيف الدال والمعنى عدل أعضاءك بعضها ببعض أي وازن بينها وقوله تعالى * (في أي صورة ما شاء ركبك) * ذهب الجمهور إلى أن " في " متعلقة ب * (ركبك) * أي في قبيحة أو حسنة أو مشوهة أو سليمة ونحو هذا وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى * (فعدلك) * * (في أي صورة) * بمعنى إلى أي صورة حتى قال بعضهم المعنى لم يجعلك في صورة خنزير ولا حمار وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى الوعيد والتهديد أي الذي إن شاء ركبك في صورة حمار أو خنزير أو غيره و " ما " في قوله * (ما شاء) * زائدة فيها معنى التأكيد والتركيب والتأليف وجمع الشيء إلى شيء وروى خارجة عن نافع (ركبك كلا) بإدغام الكاف في الكاف ثم رد على سائر أقوالهم ورد عنها بقوله * (كلا) * ثم أثبت لهم تكذيبهم بالدين وهذا الخطاب عام ومعناه الخصوص في الكفار وقرا جمهور الناس (تكذبون) بالتاء من فوق وقرا الحسن وأبو جعفر (يكذبون) بالياء و * (الدين) * هنا يحتمل ان يريد الشرع ويحتمل ان يريد الجزاء والحساب
و (الحافظون) هم الملائكة الذين يكتبون اعمال ابن آدم وقد وصفهم بالكرم الذي هو نفي المذام
و * (يعلمون) * ما يفعل ابن آدم لمشاهدتهم حاله وقد روي حديث ذكره سفيان يقتضي ان العبد إذا عمل سيئة مما لا ترى ولا تسمع مثل الخواطر المستصحبة ونحوها ان الملك يجد ريح تلك الخطرة الخفية بإدراك قد خلقه الله لهم
قوله عز وجل
سورة الانفطار 13 - 19
* (الأبرار) * جمع بر وهو الذي قد اطرد بره عموما فيرونه في طاعته إياه وبر أبويه وبر الناس في دفع ضره عنهم وجلب ما استطاع الخير إليهم وبر الحيوان وغير ذلك في أن لم يفسد شيئا منها عبثا ولغير منفعة مباحة و * (الفجار) * الكفار و (يصلون) معناه يباشرون حرها بأبدانهم و * (يوم الدين) * هو يوم الجزاء وقوله تعالى * (وما هم عنها بغائبين) * قال بعض المتأولين هذا تأكد في الإخبار عن انهم يصلونها وانهم لا يمكنهم الغيب عنها يومئذ وقال آخرون * (وما هم عنها بغائبين) * في البرزخ كأنه تعالى لما أخبر عن صليهم إياها يوم الدين وذلك انهم يرون مقاعدهم من النار غدوة وعشية فهم مشاهدون لها ثم عظم تعالى قدر هول يوم القيامة بقوله * (وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك) * وقرأ ابن كثير وأبو
447

عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب (يوم لا تملك) برفع الميم من (يوم) على معنى هو يوم وقرا الباقون والحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج (يوم) بالنصب على الظرف والمعنى الجزاء يوم فهو ظرف في معنى خبر الابتداء ثم اخبر تعالى بضعف الناس يومئذ وانه لا يغني بعضهم عن بعض وان الأمر له تبارك وتعالى وقال قتادة كذلك هو اليوم ولكنه هنالك لا ينازعه أحد ولا يمكن هو أحدا من شيء منه كما يمكنه في الدنيا
448

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المطففين
وهي مكية في قول جماعة من المفسرين واحتجوا لذكر الأساطير وهذا على أن هذا تطفيف الكيل والوزن كان بمكة حسبما هو في كل أمة لا سيما مع كفرهم وقال ابن عباس والسدي والنقاش وغيره السورة مدنية قال السدي كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت السورة فيه يقال إنها أول سورة نزلت بالمدينة وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه نزل بعضها بمكة ونزل امر التطفيف بالمدينة لأنهم كانوا أشد الناس فسادا في هذا المعنى فأصلحهم الله تعالى بهذه السورة وقال آخرون نزلت السورة بين مكة والمدينة وذلك ليصلح الله تعالى امرهم قبل ورود رسوله عليهم
قال القاضي أبو محمد وامر الكيل والوزن وكيد جدا وتصرفه في المدن ضروري في الأموال التي هي حرام بغير حق والفساد فيه كبير لا تنفع فيما وقع منه التوبة ولا يخلص الا رد المظلمة إلى صاحبها وقال مالك بن دينار احتضر جار لي فجعل يقول جبلان من نار فقلت له ما هذا فقال لي يا أخي كان لي مكيالان آخذا بالوافي وأعطي بالناقص وقال عكرمة أشهد على كل كيال أو وزان انه في النار وقال بعض العرب لا تلتمسوا المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل وألسنة الموازين
قوله عز وجل
سورة المطففين 1 - 6
* (ويل) * معناه الثبور والحزن والشقاء الأدوم وقد روي عن ابن مسعود وغيره ان واديا في جهنم يسمى (ويلا) ورفع * (ويل) * على الابتداء ورفع على معنى ثبت لهم واستقر وما كان في حيز الدعاء والترقب فهو منصوب نحو قولهم رعيا وسقيا و (المطفف) الذي ينقص الناس حقوقهم والتطفيف النقصان أصله في الشيء الطفيف وهو النزر والمطفف إنما يأخذ بالميزان شيئا طفيفا وقال سلمان الصلاة مكيال فمن أوفى وفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين وقال بعض العلماء يدخل التطفيف في كل قول وعمل ومنه قول عمر طففت ومعناه نقصت الأجر والعمل وكذا قال مالك رحمه الله يقال لكل شيء وفاء وتطفيف فقد جاء بالنقيضين وقد ذهب بعض الناس إلى أن التطفيف هو
449

تجاوز الحد في وفاء ونقصان والمعنى والقرائن بحسب قول قول تبين المراد وهذا عندي جد صحيح وقد بين تعالى ان التطفيف إنما أراد به امر الوزن والكيل و * (اكتالوا على الناس) * معناه قبضوا منهم و * (كالوهم) * معناه قبضوهم يقال كلت منك واكتلت عليك ويقال وكلت لك فلما حذفت اللام تعدى الفعل قال الفراء والأخفش
وأنشد أبو زيد
(ولقد جنتك أكمؤا وعساقلا
* ولقد نهيتك عن بنات الأوبر) الكامل
وعلى هذا المعنى هي قراءة الجمهور وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين ويقف على (كالوا) و (وزنوا) بمعنى هم يخسرون إذا كالوا ووزنوا
ورويت عن حمزة فقوله (هم) تأكيد للضمير وظاهر هذه الآية يقتضي ان الكيل والوزن على البائع وليس ذلك بالجلي وصدر الآية هو في المشترين فذمهم بأنهم * (يستوفون) * ويشاحون في ذلك إذلا تمكنهم الزيادة على الاستيفاء لأن البائع يحفظ نفسه فهذا مبلغ قدرتهم في ترك الفضيلة والسماحة المندوب إليها ثم ذكر انه إذا باعوا أمكنهم من الظلم والتطفيف ان يخسروا لأنهم يتولون الكيل للمشتري منهم وذلك بحالة من يخسر البائع إن قدر و * (يخسرون) * معدى بالهمزة يقال خسر الرجل وأخسره غيره والمفعول ل * (كالوهم) * محذوف ثم وقفهم تعالى على امر القيامة وذكرهم بها وهذا مما يؤيد انها نزلت بالمدينة في قوم من المؤمنين وأريد بها مع ذلك من غبر من الأمة و * (يظن) * هنا بمعنى يعلم ويتحقق و (اليوم العظيم) يوم القيامة و * (يوم) * ظرف عمل فيه فعل مقدر يبعثون ونحوه وقال الفراء هو بدل من * (ليوم عظيم) * لكنه بني ويأبى ذلك البصريون لأنه مضاف إلى معرب وقام الناس فيه * (لرب العالمين) * يختلف الناس فيه بحسب منازلهم فروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يقام فيه خمسين ألف سنة) وهذا بتقدير شدته وقيل ثلاثمائة سنة قاله النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عمر مائة سنة وقيل ثمانون سنة وقال ابن مسعود أربعون سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء لا يؤمرون ولا يكلمون وقيل غير هذا ومن هذا كله آثار مروية ومعناها إن لكل قوم مدة ما تقتضي حالهم وشدة امرهم ذلك
وروي ان القيام فيه على المؤمن على قدر ما بين الظهر إلى العصر وروي عن بعض الناس على قدر صلاة وفي هذا القيام هو إلجام العرق للناس وهو أيضا مختلف ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عقبة بن عامر (أنه يلجم الكافر إلجاما) ويروى ان بعض الناس يكون فيه إلى إنصاف ساقيه وبعضهم إلى فوق وبعضهم إلى أسفل
450

قوله عز وجل
سورة المطففين 7 - 17
هذه الآية وما بعدها انها من نمط المكي وهذا أحد الأقوال التي ذكرناها قبل و * (كلا) * يجوز ان يكون ردا لأقوال قريش ويحتمل ان يكون استفتاحا بمنزلة (ألا) وهذا قول أبي حاتم واختياره و * (الفجار) * الكفار وكتابهم يراد فيه الذي فيه تحصيل امرهم وأفعالهم ويحتمل عندي ان يكون المعنى وعدادهم وكتاب كونهم هو في سجين أي هنالك كتبوا في الأزل وقرا أبو عمرو والأعرج وعيسى * (الفجار) * بالإمالة و * (الأبرار) * المطففين 18 بالفتح قاله أبو حاتم واختلف الناس في * (سجين) * ما هو فقال الجمهور هو فعيل من السجن كسكير وشريب أي في موضع ساجن فجاء بناء مبالغة قال مجاهد وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة وقال كعب
حاكيا عن التوراة وأبي بن كعب هو في شجرة سوداء هنالك وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم في بر هنالك وقيل تحت خد إبليس وقال عطاء الخراساني هي الأرض السفلى وقاله البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عكرمة * (سجين) * عبارة عن الخسران والهوان كما نقول بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول وقال قوم من اللغويين * (سجين) * نونه بدل من لام هو بدل من (السجيل)
وقوله تعالى * (وما أدراك ما سجين) * تعظيم لأمر هذا السجين وتعجب منه ويحتمل ان يكون تقرير استفهام أي هذا مما لم يكن يعرفه قبل الوحي
وقوله تعالى * (كتاب مرقوم) * من قال بالقول الأول في * (سجين) * ف * (كتاب) * مرتفع عنده على خبر * (أن) * والظرف الذي هو * (لفي سجين) * ملغى ومن قال في * (سجين) * بالقول الثاني ف * (كتاب) * مرتفع على خبر ابتداء مضمر والتقدير هو كتاب مرقوم ويكون هذا الكلام مفسر في السجين ما هو و * (مرقوم) * معناه مكتوب رقم لهم بشر ثم أثبته تعالى * (للمكذبين) * بيوم الحساب والدين بالويل وقوله * (يومئذ) * إشارة إلى ما يتضمنه المعنى في قوله * (كتاب مرقوم) * وذلك أنه يتضمن أنه يرتفع ليوم عرض وجزاء وبهذا يتم الوعيد ويتجه معناه و (المتعدي) الذي يتجاوز حدود الأشياء و (الأثيم) بناء مبالغة في آثم وقرا الجمهور (تتلى) بالتاء وقرا أبو حيوة (يتلى) بالياء من تحت و (الأساطير) جمع أسطورة وهي الحكايات التي سطرت قديما وقيل هو جمع أسطار وأسطار جمع سطر ويروى ان هذه الآية نزلت بمكة في النضر بن الحارث بن كلدة وهو الذي كان يقول * (أساطير الأولين) * وكان هو قد كتب بالحيرة أحاديث رستم واسبنذباذ وكان يحدث بها أهل مكة ويقول أنا أحسن حديثا من محمد فإنما يحدثكم ب * (أساطير الأولين) * وقوله تعالى * (كلا) * زجر ورد لقولهم * (أساطير الأولين) * ثم أوجب ان ما كسبوا من الكفر والطغيان والعتو قد * (ران على قلوبهم) * أي غطى عليها وغلب فهم مع ذلك لا يبصرون رشدا ولا يخلص إلى قلوبهم خير ويقال رانت الخمر على عقل شاربها وران الغش على قلب المريض وكذلك الموت ومنه قول الشاعر
(ثم لما رآه رانت به الخمر وان لا يرينه باتقاء
*) الخفيف
451

والبيت لأبي زيد وقال الحسن وقتادة الرين الذنب على الذنب حتى يموت القلب ويروى عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الرجل إذا أذنب صارت نقطة سوداء على قلبه ثم كذلك حتى يتغطى) فذلك الرين الذي قال الله تعالى * (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) *
وقرا ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر * (بل ران) * بإدغام في الراء وقرا نافع * (بل ران) * غير مدغمة وقرا عاصم * (بل) * ويقف ثم يبتدئ * (رآن) * وقرا حمزة والكسائي بالإدغام وبالإمالة في * (رآن) * وقرا نافع أيضا بالادغام والإمالة قال أبو حاتم القراءة بالفتح والإدغام وعلق اللوم بهم فيما كسبوه وإن كان ذلك يخلق منه واختراع لأن الثواب والعقاب متعلق بكسب العبد و * (كلا) * في قوله تعالى * (كلا إنهم عن ربهم) * يصلح فيها الوجهان اللذان تقدم ذكرهما والضمير في قوله * (إنهم عن ربهم) * هو للكفار قال بالرؤية وهو قول أهل السنة قال إن هؤلاء لا يرون ربهم فهم محجوبون عنه واحتج بهذه الآية مالك بن أنس عن مسألة الرؤية من جهة دليل الخطاب والا فلو حجب الكل لما أغنى على هذا التخصيص وقال الشافعي لما حجب قوم بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضى ومن قال بان لا رؤية وهو قول المعتزلة قال في هذه الآية إنهم محجوبون عن رحمة ربهم وغفرانه وصلي الجحيم مباشرة حر النار دون حائل وقوله تعالى * (ثم يقال هذا الذي) * على معنى التوبيخ لهم والتقريع وقوله تعالى * (هذا الذي كنتم به تكذبون) * مفعول لم يسم فاعله لأنه قول بني له الفعل الذي يقال وقوله * (هذا) * إشارة إلى تعذيبهم وكونهم في الجحيم
قوله عز وجل
سورة المطففين 18 - 29
لما ذكر تعالى امر * (كتاب الفجار) * المطففين 7 عقب بذكر كتاب ضدهم ليبين الفرق و * (الأبرار) * جمع بر وقرا ابن عامر (الأبرار) بكسر الراء وقرا نافع وابن كثير بفتحها وقرا أبو عمرو وحمزة والكسائي بإمالتها و * (عليون) * قيل هو جمع على وزن فعل بناء مبالغة يريد بذلك الملائكة فلذلك اعرب بالواو والنون وقيل يريد المواضع العلية لأنه علو فوق علو فلما كان هذا الاسم على هذا الوزن لا واحد له أشبه عشرين فأعرب بإعراب الجموع إذا أشبهها وهذا أيضا كقنسرين فإنك تقول طابت قنسرين ودخلت قنسرين واختلف الناس في الموضع المعروف ب * (عليين) * ما هو فقال قتادة قائمة العرش اليمنى وقال ابن عباس السماء السابعة تحت العرش وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال الضحاك هو عند سدرة المنتهى وقال ابن عباس * (عليون) * الجنة وقال مكي هو في السماء
452

الرابعة وقال الفراء عن بعض العلماء في السماء الدنيا والمعنى ان كتابهم الذي فيه أعمالهم هنالك تهمما بها وترفيعا لها واعمال الفجار في سجين في أسفل سافلين لأنه روي عن أبي بن كعب وابن عباس ان اعمالهم يصعد بها إلى السماء فتأباها ثم ترد إلى الأرض فتأباها أرض بعد أرض حتى تستقر في سجن تحت الأرض السابعة و * (كتاب مرقوم) * في هذه الآية خبر * (أن) * والظرف ملغى و * (المقربون) * في هذه الآية الملائكة المقربون عند الله تعالى أهل كل سماء قاله ابن عباس وغيره و * (الأرائك) * جمع أريكة وهي السرر في الحجال و * (ينظرون) * معناه إلى ما عندهم من النعيم ويحتمل ان يريد ينظر بعضهم إلى بعض وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم (ينظرون إلى أعدائهم في النار كيف يعذبون) وقرا جمهور الناس (تعرف) على مخاطبة محمد صلى الله عليه وسلم بفتح التاء وكسر الراء (نضرة) نصبا
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة ويعقوب (تعرف) بضم التاء وفتح الراء (نضرة) رفعا وقرا (يعرف) بالياء لأن تأنيث النضرة ليس بحقيقي والنضرة النعمة والرونق و (الرحيق) الخمر الصافية ومنه قول حسان
(يسقون من ورد البريص عليهم
* بردى يصفق بالرحيق السلسل) الكامل
و * (مختوم) * يحتمل ان يختم على كؤوسه التي يشرب بها تهمما وتنظيفا والأظهر انه مختوم شرابه بالرائحة المسكية حسبما فسر قوله تعالى * (ختامه مسك) * واختلف المتأولون في قوله * (ختامه مسك) * فقال علقمة وابن مسعود معناه خلطه ومزاجه فقال ابن عباس والحسن وابن جبير معناه خاتمته ان يجد الرائحة عند خاتمته
الشرب رائحة المسك وقال أبو علي المراد لذاذة المقطع وذكاء الرائحة مع طيب الطعم وكذلك قوله * (كان مزاجها كافورا) * الانسان 5 وقوله تعالى * (زنجبيلا) * الانسان 17 أي يحذي اللسان وقد قال ابن مقبل
(مما يفتق في الحانوت ناطقها
* بالفلفل الجوز والرمان مختوم) البسيط
قال مجاهد معناه طينه الذي يختم به مسك بدل الطين الذي في الدنيا وهذا إنما يكون في الكؤوس لأن خمر الآخرة ليست في دنان إنما هي في انهار وقرا الجمهور (ختامه) وقرا الكسائي وعلي بن أبي طالب والضحاك والنخعي (خاتمه) وهذه بينة المعنى انه يراد بها الطبع على الرحيق وروي عنهم أيضا كسر التاء ثم حرض تعالى على الجنة بقوله * (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) * والتنافس في الشيء المغالاة فيه وان يتبعه كل واحد نفسه فكأن نفسيهما يتباريان فيه وقيل هو من قولك شيء نفسي فكان هذا يعظمه ثم يعظمه الآخر ويستبقان اليه و (المزاج) الخلط والضمير عائد على الرحيق واختلف الناس في (تسنيم) فقال ابن عباس وابن مسعود * (تسنيم) * أشرف شراب في الجنة وهم اسم مذكر لماء عين في الجنة وهي عين يشربها المقربون صرفا
ويمزج رحيق الأبرار بها قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح وغيرهم وقال مجاهد ما معناه إن تسنيما مصدر من سنمت إذا عليت ومنه السنام فكأنها عين قد عليت على أهل الجنة فهي تنحدر
453

وذهب قوم إلى أن * (الأبرار) * و (المقربين) في هذه الآية لمعنى واحد يقال لكل من نعم في الجنة وذهب الجمهور من المتأولين إلى أن منزلة الأبرار دون المقربين وان * (الأبرار) * هم أصحاب اليمين وان المقربين هم السابقون و * (عينا) * منصوب اما على المدح وإما ان يعمل فيه * (تسنيم) * على رأي من رآه مصدرا أو ينتصب على الحال من * (تسنيم) * أو * (يسقون) * قال الأخفش وفيه بعد وقوله تعالى * (يشرب بها) * معناه يشربها كقول الشاعر أبو ذؤيب الهذلي
(شربن بماء البحر ثم تصعدت
* متى لجج خضر لهن نئيج) الطويل
ثم ذكر تعالى ان الأمر الذي * (أجرموا) * بالكفر اي كسبوه كانوا في دنياهم * (يضحكون) * من المؤمنين ويستخفون بهم ويتخذونهم هزؤا وروي ان هذه الآية نزلت في صناديد قريش وضعفه المؤمنين وروي انها نزلت بسبب ان علي بن أبي طالب وجمعا معه مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخلفوا بهم عبثا ونقصان عقل فنزلت الآية في ذلك
قوله عز وجل
سورة المطففين 30 - 36
الضمير في * (مروا) * للمؤمنين ويحتمل ان يكون للكفار واما الضمير في * (يتغامزون) * فهو للكفار لا يحتمل غير ذلك وكذلك في قوله " انقلبوا فاكهين " معناه أصحاب فاكهة ومزج ونشاط وسرور باستخفافهم بالمؤمنين يقال رجل فاكه كلابن وتامر هكذا بألف وهي قراءة الجمهور ويقال رجل فكه من هذا المعنى
وقرا عاصم في رواية حفص (فكهين) بغير ألف وهي قراءة أبي جعفر وأبي رجاء والحسن وعكرمة وأما الضمير في * (رأوا) * وفي * (قالوا) * قال الطبري وغيره هو للكفار والمعنى أنهم يرمون المؤمنين بالضلال والكفار لم يرسلوا على المؤمنين حفظة لهم وقال بعض علماء التأويل بل المعنى بالعكس وإن معنى الآية وإذا رأى المؤمنون الكفار قالوا إنهم لضالون وهو الحق فيهم ولكن ذلك يثير الكلام بينهم فكأن في الآية حضا على الموادعة أي ان المؤمنين لم يرسلوا حافظين على الكفار وهذا كله منسوخ على هذا التأويل بآية السيف ولما كانت الآيات المتقدمة قد نطقت بيوم القيامة وان الويل يومئذ للمكذبين ساغ ان يقول * (فاليوم) * على حكاية ما يقال يومئذ وما يكون و * (الذين) * رفع بالابتداء وقوله تعالى * (على الأرائك ينظرون) * معناه إلى عذابهم في النار قال كعب لأهل الجنة كوى ينظرون منها وقال غيره بينهم جسم عظيم شفاف يرون معه حالهم " وهل ثوب الكفار "
454

تقرير وتوقيف لمحمد عليه السلام وأمته ويحتمل ان يريد * (ينظرون هل ثوب) * والمعنى هل جوزي ويحتمل ان يكون المعنى يقول بعضهم لبعض وقرا ابن محيصن وأبو عمرو وحمزة والكسائي (هثوب) بإدغام اللام في الثاء قال سيبويه وذلك حسن وإن كان دون إدغام في الراء لتقاربهما في المخرج وقرا الباقون (هل ثوب) لا يدغمون وفي قوله تعالى * (ما كانوا) * حذف تقديره جزاء ما كانوا أو عقاب ما كانوا يفعلون
نجز تفسير سورة " المطففين " بحمد الله
455

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانشقاق
وهي مكية بلا خلاف بين المتأولين
قوله عز وجل
سورة الانشقاق 1 - 15
هذه أوصاف يوم القيامة و (انشقاق السماء) هو تفطيرها لهول يوم القيامة كما قال * (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) * الحاقة 16 وقال الفراء والزجاج وغيره هو تشققها بالغمام وقال قوم تشققها تفتيحها أبوابا لنزول الملائكة وصعودهم في هول يوم القيامة وقرا أبو عمرو (انشقت) يقف على التاء كأنه يشمها شيئا من الجر وكذلك في أخواتها قال أبو حاتم سمعت إعرابا فصيحا في بلاد قيس بكسر هذه التاءات وهي لغة * (وأذنت) * معناه استمتعت وسمعت أي أمره ونهيه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن) ومنه قول الشاعر قعنب بن أم صاحب
(صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
* وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا) البسيط
وقوله تعالى * (وحقت) * قال ابن عباس وابن جبير معناه وحق لها ان تسمع وتطيع ويحتمل ان يريد وحق لها ان تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى و (مد الأرض) هو إزالة جبالها حتى لا يبقى فيها عوج ولا أمت فذلك مدها وفي الحديث إن الله تعالى يمد الأرض يوم القيامة مد الأديم العكاظي
* (وألقت ما فيها) * يريد الموتى قاله الجمهور وقال الزجاج ومن الكنوز وهذا ضعيف لأن ذلك يكون وقت خروج الدجال وإنما تلقى يوم القيامة الموتى * (وتخلت) * معناه خلت عما كان فيها أي لم تتمسك منهم بشيء وقوله تعالى * (يا أيها الإنسان) * مخاطبة للجنس و (الكادح) العامل بشدة وسرعة واجتهاد
456

مؤثر ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشا أو كدوحا في وجهه يوم القيامة) والمعنى انك عامل خيرا أو شرا وأنت لا محالة في ذلك سائر إلى ربك لأن الزمن يطير بعمر الإنسان فإنما هو مدة عمره في سير حثيث إلى ربه وهذه آية وعظ وتذكير أي فكر على حذر من هذه الحال وأعمل عملا صالحا تجده وقرا طلحة بإدغام كاف كادح ومن هذه اللفظة قول الشاعر
(وما الإنسان الا ذو اغترار
* طوال الدهر يكدح في سفال) الوافر
وقال قتادة من استطاع ان يكون كدحه في طاعة الله فليفعل وقوله تعالى * (فملاقيه) * معناه فملاقي عذابه أو تنعيمه واختلف النحاة في العامل في * (إذا) * فقال بعض النحاة العامل * (انشقت) * وأبى ذلك كثير من أئمتهم لأن * (إذا) * مضافة إلى * (انشقت) * ومن يجز ذلك تضعف عنده الإضافة ويقوى معنى الجزاء وقال آخرونن منهم العامل * (فملاقيه) * وقال بعض حذاقهم العامل فعل مضمر وكذلك اختلفوا في جواب * (إذا) * فقال كثير من النحاة هو محذوف لعلم السامع به وقال أبو العباس المبرد والأخفش هو في قوله * (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) * إذا انشقت السماء انشقت فأنت ملاقى الله وقيل التقدير فيا أيها الإنسان وجواب * (إذا) * في الفاء المقدرة وقال الفراء عن بعض النحاة هو * (أذنت) * على زيادة تقدير الواو وأما الضمير * (فملاقيه) * فقال جمهور المتأولين هو عائد على الرب فالفاء على هذا عاطفة ملاق على كادح وقال بعض الناس هو عائد على الكدح فالفاء على هذا عاطفة جملة على التي قبلها والتقدير فأنت ملاقيه والمعنى ملاقي جزائه خيرا كان أو شرا ثم قسم تعالى الناس إلى المؤمن والكافر فالمؤمنون يعطون كتبهم بأيمانهم ومن ينفذ عليه الوعيد من عصاتهم فإنه يعطى كتابه عند خروجه من النار وقد جوز قوم ان يعطاه أولا قبل دخوله النار وهذه الآية ترد على هذا القول و (الحساب اليسير) هو العرض واما من نوقش الحساب فإنه يهلك ويعذب كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من حوسب عذب) فقالت عائشة ألم يقل الله * (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) * الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما ذلك العرض واما من نوقش الحساب فيهلك) وفي الحديث من طريق ابن عمر (إن الله تعالى يدني العبد حتى يضع عليه كنفه فيقول ألم أفعل بك كذا وكذا يعدد عليه نعمه ثم يقول له فلم فعلت كذا وكذا لمعاصيه فيقف العبد حزينا فيقول الله تعالى سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) وقالت عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم حاسبني حسابا يسيرا) قلت يا رسول الله وما هو قال (ان يتجاوز عن السيئات) وروي عن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من حاسب نفسه في الدنيا هون الله تعالى حسابه يوم القيامة) وقوله تعالى * (إلى أهله) * أي الذين أعد الله له في الجنة إما من نساء الدنيا وإما من الحور العين واما من الجميع والكافر يؤتى كتابه من ورائه لأن يديه مغلولتان وروي ان يده تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها ويقال إن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد وكان أبو سلمة من أفضل المؤمنين واخوه من عتاة الكافرين " ويدعو ثبورا " معناه يصيح منتحبا واثبوراه واخزياه ونحو هذا مما معناه هذا وقتك وزمانك أي احضرني والثبور اسم جامع للمكاره كالويل وقرا ابن كثير ونافع وابن عامر
457

والكسائي والحسن وعمر بن عبد العزيز والجحدري وأبو السناء والأعرج (ويصلى) بشد اللام وضم الياء على المبالغة وقرا نافع أيضا وعاصم في رواية أبان بضم الياء وتخفيف اللام وهي قراءة أبي الأشهب وعيسى وهارون عن أبي عمرو وقرا عاصم وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وقتادة وعيسى وطلحة والأعمش بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل وفي مصحف ابن مسعود (وسيصلى) وقوله تعالى * (في أهله) * يريد في الدنيا أي تملكه ذلك لا يدري الا السرور باهله دون معرفة الله والمؤمن إن
سر بأهله لا حرج عليه وقوله تعالى * (إنه ظن أن لن يحور) * معناه لن يرجع إلى الله تعالى مبعوثا محشورا قال ابن عباس لم أعلم ما معنى " ويحور " حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها حوري أي ارجعي والظن هنا على بابه و * (أن) * وما بعدها تسد مسد مفعولي ظن وهي * (أن) * المخففة من الثقيلة والحور الرجوع على الأدراج ومنه اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور
ثم رد تعالى على ظن هذا الكافر بقوله * (بلي) * أي يحور ويرجع ثم أعلمهم ان الله تعالى لم يزل * (بصيرا) * بهم لا تخفى عليه أفعال أحد منهم وفي هذا وعيد
قوله عز وجل
سورة الانشقاق 16 - 25
(لا) زائدة والتقدير فأقسم وقيل (لا) رادا على أقوال الكفار وابتداء القول * (أقسم) * وقسم الله تعالى بمخلوقاته هو على جهة التشريف لها وتعريضها للعبرة إذ القسم بها منبه منها و * (الشفق) * الحمرة التي تعقب غيبوبة الشمس مع البياض التابع لها في الأغلب وقيل * (الشفق) * هنا النهار كله قاله مجاهد وهذا قول ضعيف وقال أبو هريرة وعمر بن عبد العزيز * (الشفق) * البياض الذي تتلوه الحمرة و * (وسق) * معناه جمع وضم ومنه الوسق أي الأصوع المجموعة والليل يسق الحيوان جملة أي يجمعها في نفسه ويضمها وكذلك جميع المخلوقات التي في أرض والهواء من البحار والجبال والرياح وغير ذلك و (اتساق القمر) كماله وتمامه بدرا فالمعنى امتلأ من النور وقرا نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وابن عباس وعمر بخلاف عنهما وأبو جعفر والحسن والأعمش وقتادة وابن جبير (لتركبن) بضم الباء على مخاطبة الناس والمعنى (لتركبن) الشدائد الموت والبعث والحساب حالا بعد حال أو تكون من النطفة إلى الهرم كما تقول طبقة بعد طبقة و * (عن) * تجيء في معنى بعد كما يقال ورث المجد كابرا عن كابر وقيل المعنى (لتركبن) هذه الأحوال أمة بعد أمة ومنه قول العباس بن عبد المطلب عن النبي عليه السلام
458

(وأنت لما بعثت أشرقت الأرض
* وضاءت بنورك الطرق)
(تنقل من صالب إلى رحم
* إذا مضى علم بدا طبق)
أي قرن من الناس لأنه طبق الأرض وقال الأقرع بن حابس
(إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره
* وساقني طبق منه إلى طبق) البسيط
أي حال بعد حال وقيل المعنى (لتركبن) الآخرة بعد الأولى وقرأ عمر بن الخطاب أيضا (ليركبن) على أنهم غيب والمعنى على نحو ما تقدم وقال أبو عبيدة ومكحول المعنى (لتركبن) سنن من قبلكم
قال القاضي أبو محمد كما جاء في الحديث شبرا بشبر وذراعا بذراع فهذا هو " طبق عن طبق " ويلتئم هذا المعنى مع هذه القراءة التي ذكرنا عن عمر بن الخطاب ويحسن مع القراءة الأولى وقرا ابن كثير وحمزة والكسائي وعمرو بن مسعود ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وعيسى (لتركبن) بفتح الباء على معنى أنت يا محمد وقيل المعنى حال بعد حال من معالجة الكفار وقال ابن عباس المعنى سماء بعد سماء في الاسراء وقيل هذه عدة بالنصر أي (لتركبن) العرب قبيلا بعد قبيل وفتحا بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك قال ابن مسعود المعنى (لتركبن) السماء في أهوال القيامة حالا بعد حال تكون كالمهل والدهان وتتفطر وتتشقق فالسماء هي الفاعلة وقرا ابن عباس أيضا وعمر رضي الله عنهما (ليركبن) بالياء على ذكر الغائب فإما ان يراد محمد صلى الله عليه وسلم على المعاني المتقدمة وقاله ابن عباس يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم وإما ما قال الناس في كتاب النقاش من أن المراد القمر لأنه يتغير أحوالا من سرار واستهلال وإبدار ثم وقف تعالى نبيه والمراد أولئك الكفار بقوله * (فما لهم لا يؤمنون) * أي من حجتهم مع هذه البراهين الساطعة وقرا الجمهور (يكذبون) بضم الياء وشد الذال وقرا الضحاك بفتح الباء وتخفيف الذال واسكان الكاف و * (يوعون) * معناه يجمعون من الأعمال والتكذيب والكفر كأنهم يجعلونها في أوعية تقول وعيت العلم واوعيت المتاع وجعل البشارة في العذاب لما صرح له وإذا جاءت مطلقة فإنما هي من الخبر ثم استثنى تعالى من كفار قريش القوم الذين كان سبق لهم الايمان في قضائه و * (ممنون) * معناه مقطوع من قولهم حبل منين أي مقطوع ومنه قول الحارث بن حلزة اليشكري
(فترى خلفهن من شدة الرجع
* منينا كأنني اهباء) الخفيف
يريد غبارا متقطعا وقال ابن عباس * (ممنون) * بمعنى معدود عليهم محسوب منغص بالمن
459

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البروج
وهي مكية بإجماع من المتأولين لا خلاف في ذلك
قوله عز وجل
سورة البروج 1 - 9
اختلف الناس في * (البروج) * فقال الضحاك وقتادة هي القصور ومنه قول الأخطل
(كأنها برج رومي يشيده
* لز بجص وآجر وأحجار) البسيط
وقال ابن عباس * (البروج) * النجوم لأنها تتبرج بنورها والتبرج التظاهر والتبدي وقال الجمهور وابن عباس أيضا * (البروج) * هي المنازل التي عرفتها العرب وهي اثنا عشر على ما قسمته العرب وهي التي تقطعها الشمس في سنة والقمر في ثمانية وعشرين يوما وقال قتادة معناه ذات الرمل والسماء يريد انها مبنية في السماء وهذا قول ضعيف * (واليوم الموعود) * هو يوم القيامة باتفاق قاله النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه الموعود به وقوله * (ومشهود) * معناه عليه أو له أو فيه وهذا يترتب بحسب الحساب في تعيين المراد ب (شاهد ومشهود) فقد اختلف الناس في المشار اليه بهما فقال ابن عباس الشاهد الله تعالى والمشهود يوم القيامة وقال ابن عباس والحسن بن علي وعكرمة الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم والمشهود يوم القيامة قال الله تعالى * (إنا أرسلناك شاهدا) * الأحزاب 45 الفتح 8 وقال في يوم القيامة " وذلك يوم مشهود " هود 103 وقال مجاهد وعكرمة أيضا الشاهد آدم وجميع ذريته والمشهود يوم القيامة ف * (شاهد) * اسم جنس على هذا وقال بعض من بسط قول مجاهد وعكرمة * (شاهد) * أراد به رجل مفرد أو نسمة من النسم ففي هذا تذكير بحقارة المسكين ابن آدم والمشهود يوم القيامة وقال الحسن بن أبي الحسن وابن عباس أيضا الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود يوم القيامة وقال ابن عباس وعلي وأبو هريرة والحسن وابن المسيب وقتادة * (شاهد) * يوم الجمعة * (ومشهود) * يوم عرفة وقال ابن عمر * (شاهد) * يوم الجمعة * (ومشهود) * يوم النحر وقال جابر * (شاهد) * يوم الجمعة * (ومشهود) * الناس وقال محمد بن كعب
460

الشاهد أنت يا ابن آدم والمشهود الله تعالى وقال ابن جبير بالعكس وتلا * (وكفى بالله شهيدا) * النساء 79 - 166 الفتح 28 وقال أبو مالك الشاهد عيسى والمشهود أمته قال الله تعالى * (وكنت عليهم شهيدا) * المائدة 117 قال ابن المسييب * (شاهد) * يوم التروية * (ومشهود) * يوم عرفة وقال بعض الناس في كتاب النقاش الشاهد يوم الاثنين والمشهود يوم الجمعة وذكره الثعلبي وقال علي بن أبي طالب الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر وعنه أيضا * (شاهد) * يوم القيامة * (ومشهود) * يوم عرفة
وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم * (شاهد) * يوم الجمعة * (ومشهود) * يوم عرفة
قاله على وأبو هريرة والحسن وقال إبراهيم النخعي الشاهد يوم الأضحى والمشهود يوم عرفة
قال القاضي أبو محمد ووصف هذه الأيام ب * (شاهد) * لأنها تشهد لحاضريها بالأعمال والمشهود فيما مضى من الأقوال بمعنى الشاهد بفتح الهاء وقال الترمذي الشاهد الملائكة الحفظة والمشهود عليهم الناس وقال عبد العزيز بن يحييى عند الثعلبي الشاهد محمد والمشهود عليهم أمته نحو قوله تعالى * (وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * النساء 41 أي شاهدا قال الشاهد الأنبياء والمشهود عليهم أممهم وقال الحسن بن الفضل الشاهد أمة محمد والمشهود عليهم قوم نوح وسائر الأمم حسب الحديث المقصود في ذلك وقال ابن جبير أيضا الشاهد الجوارح التي تنطق يوم القيامة فتشهد على أصحابها والمشهود عليهم أصحابها وقال بعض العلماء الشاهد الملائكة المتعاقبون في الأمة والمشهود قرآن الفجر وتفسيره قول الله تعالى * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) * الاسراء 78
وقال بعض العلماء الشاهد النجم والمشهود عليه الليل والنهار أي يشهد النجم بإقبال هذا وتمام هذا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم وقال بعض العلماء الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم والمشهود به الوحدانية وان الدين عند الله الاسلام وقيل الشاهد مخلوقات الله تعالى والمشهود به وحدانيته وأنشد الثعلبي في هذا المعنى قول الشاعر أبو العتاهية
(وفي كل شيء له آية
* تدل على أنه الواحد) المتقارب
وقيل المعنى فعل الله بهم ذلك لأنهم أهل له فهو على جهة الدعاء بحسب البشر لا ان الله يدعو على أحد وقيل عن ابن عباس معناه لعن وهذا تفسير بالمعنى وقيل هو إخبار بأن النار قتلتهم قاله الربيع بن أنس وسيأتي بيانه واختلف الناس في * (أصحاب الأخدود) * فقيل هو قوم كانوا على دين كان لهم ملك فزنى بأخته ثم حمله بعض نسائه على أن يسن في الناس نكاح البنات والأخوات فحمل الناس على ذلك فأطاعه كثير وعصته فرقة فخد لهم أخاديد وهي حفائر طويلة كالخنادق وأضرم لهم نارا وطرحهم فيها ثم استمرت المجوسية في مطيعيه وقال علي بن أبي طالب * (الأخدود) * ملك حمير كان بمزارع من اليمن اقتتل هو والكفار مع المؤمنين ثم غلب في آخر الامر فحرقهم على دينهم إذ أبوا دينه وفيهم كانت المراة ذات الطفل التي تلكات فقال لها الطفل امضي في النار فإنك على الحق وحكى النقاش عن علي رضي الله عنه ان نبي * (أصحاب الأخدود) * كان حبشيا وان الحبشة بقية
461

* (أصحاب الأخدود) * وقيل * (أصحاب الأخدود) * ذو نواس في قصة عبد الله بن التامر التي وقعت في السير وقيل كان * (أصحاب الأخدود) * في بني إسرائيل
قال القاضي أبو محمد ورأيت في بعض الكتب ان " أصحاب ا لأخدود " هو محرق وآله الذي حرق من بني تميم المائة ويعترض هذا القول بقوله تعالى * (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) * فينفصل على هذا الاعتراض بان هذا الكلام من قصة * (أصحاب الأخدود) * وان المراد بقوله * (وهم) * قريش الذين كانوا يفتنون
المؤمنين والمؤمنات واختلف الناس في جواب القسم فقال بعض النحاة هو محذوف لعلم السامع به وقال آخرون هو في قوله تعالى * (قتل) * والتقدير لقتل وقال قتادة هو في قوله * (إن بطش ربك لشديد) * البروج 12 وقال آخرون هو في قوله * (إن الذين فتنوا المؤمنين) * البروج 10 وقوله تعالى * (النار) * بدل من * (الأخدود) * وهو بدل اشتمال وهي قراءة الجمهور (النار) بخفض الراء وقرا قوم (النار ذات) بالرفع على معنى قتلهم النار و (الوقود) بالضم مصدر من وقدت النار إذا اضطرمت و (الوقود) بفتح الواو ما توقد به وقرا الجمهور بفتح الواو وقرا الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة بضمها وكان من قصة هؤلاء ان الكفار قعدوا وضم المؤمنون وعرض عليهم الكفر فمن أبى رمي في أخدود النار فاحترق فروي انه احرق عشرين ألفا وقال الربيع بن انس وأصحابه وابن إسحاق وأبو العالية بعث الله تعالى على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم أو نحو هذا وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على جانبي الأخدود وعلى هذا يجيء * (قتل) * خبر الادعاء وقال قتادة * (إذ هم عليها قعود) * يعني المؤمنين و * (نقموا) * معناه اعتدوا وقرا جمهور الناس (نقموا) بفتح القاف وقرا أبو حيوة وابن أبي عبلة (نقموا) بكسر القاف
قوله عز وجل
سورة البروج 10 - 16
* (فتنوا) * معناه احرقوا وفتنت الذهب والفضة في النار أحرقتهما والفتين حجارة الحرة السود لأن الشمس كأنها أحرقتها ومن قال إن هذه الآيات الأواخر في قريش جعل الفتنة الامتحان والتعذيب ويقوي هذا التأويل بعض التقوية قوله تعالى * (ثم لم يتوبوا) * لأن هذا اللفظ في قريش احكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم واما قريش فكان فيهم وقت نزول الآية من تاب بعد ذلك وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم و * (جهنم) * و " الحرق " طبقتان من النار ومن قال إن النار خرجت وأحرقت الكافرين القعود جعل * (الحريق) * في الدنيا و (البطش) الأخذ بقوة وشرعة و * (يبدئ ويعيد) * قال الضحاك وابن زيد معناه * (يبدئ) * الخلق بالانشاء * (ويعيد) * بالحشر وقال ابن عباس ما معناه إن ذلك عام في جميع الأشياء فهي عبارة عن انه يفعل كل شيء إنه * (يبدئ ويعيد) * كلما ينعاد وهذا قسمان
462

مستوفيان جمع الأشياء وقال الطبري معناه * (يبدئ) * العذاب ويعيده على الكفار و * (الغفور الودود) * صفتا فعل الأولى ستر على عباده والثانية لطف بهم واحسان إليهم وخصص * (العرش) * بإضافة نفسه اليه تشريفا وتنبيها على أنه أعظم المخلوقات وقرا حمزة والكسائي والمفضل عن عاصم والحسن وابن وثاب والأعمش وعمرو بن عبيد (المجيد) بخفض الدال صفة للعرش وهذا على أن المجد والتمجيد قد يوصف به كثير من الجمادات وقد قالوا مجدت الدابة إذا سمنت وامجدتها إذا أحسنت علفها وقالوا في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار كثرت نارهما وقرا الباقون والجمهور (ذو العرش) وروى ابن عباس (ذي العرش) نعتا لقوله * (إن بطش ربك) *
قوله عز وجل
سورة البروج 17 - 22
هذا توقيف للنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير بمعنى لجعل هؤلاء الكفرة الذين يخالفونك وراء ظهرك ولا تهتم بهم فقد انتقم الله من أولئك الأقوياء الشداد فكيف هؤلاء و * (الجنود) * الجموع المعدة للقتال والجري نحو غرض واحد وناب * (فرعون) * في الذكر مناب قومه وآله إذ كان رأسهم و * (فرعون وثمود) * في موضع خفض على البدل من * (الجنود) * ثم ترك القول بحاله وأضرب عنه إلى الاخبار بأن هؤلاء الكفار بمحمد عليه السلام وشرعه لا حجة لهم عليه ولا برهان بل هو تكذيب مجرد سببه الحسد ثم توعدهم بقوله * (والله من ورائهم محيط) * أي وعذاب الله ونقمته وقوله * (من ورائهم) * معناه ما يأتي بعد كفرهم وعصيانهم ثم اعرض عن تكذيبهم مبطلا له وردا عليه انه * (قرآن مجيد) * أي مذمة فيه وهذا مما تقدم من وصف الله تعالى بالمجد والتمجد وقرا ابن السميفع اليماني (قرآن مجيد) على الإضافة وأن يكون الله تعالى هو المجيد و (اللوح) هو اللوح المحفوظ الذي فيه جميع الأشياء وقرا خفض القراء (في لوح محفوظ) بالخفض صفة ل * (لوح) * المشهور بهذه الصفة وقرا نافع وحده بخلاف عنه وابن محيصن والأعرج (محفوظ) بالرفع صفة القرآن على نحو قوله تعالى * (وإنا له لحافظون) * الحجر 9 اي هو محفوظ في القلوب لا يدركه الخطا والتعديل وقال انس إن اللوح المحفوظ هو في جبهة إسرافيل وقيل هو من درة بيضاء قاله ابن عباس وهذا كله مما قصرت به الأسانيد وقرا ابن السميفع (في لوح) بضم اللام
نجز تفسير سورة * (البروج) * والحمد لله رب العالمين
463

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطارق
وهي مكية لا خلاف بين المفسرين في ذلك
قوله عز وجل
سورة الطارق 1 - 10
أقسم الله تعالى ب * (السماء) * المعروفة في قول جمهور المتأولين وقال قوم * (السماء) * هنا المطر والعرب تسمية سماء لما كان من السماء وتسمي السحاب سماء ومن ذلك قول الشاعر جرير
(إذا نزل السماء بأرض قوم
* رعيناه وإن كانوا غضابا) الوافر
وقول النابغة
(كالأقحوان غداة غب سمائه
*) الكامل
* (والطارق) * الذي يأتي ليلا وهو اسم جنس لكل ما يظهر ويأتي ليلا ومنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من أسفارهم ان يأتي الرجل أهله طروقا ومنه طروق الخيال وقال الشاعر
(يا نائم الليل مغترا بأوله
* إن الحوادث قد تطرقن أسحارا) البسيط
ثم بين الله تعالى الجنس المذكور بأنه * (النجم الثاقب) * وقيل بل معنى الآية * (والسماء) * وجميع ما يطرق فيها من الأمور والمخلوقات ثم ذكر تعالى بعد ذلك على جهة التنبيه اجل الطارقات قدرا وهو * (النجم الثاقب) * فكأنه قال * (وما أدراك ما الطارق) * وحق الطارق واختلف المتاولون في * (النجم الثاقب) * فقال الحسن بن أبي الحسن ما معناه إنه اسم للجنس لأنها كلها ثاقبة أي ظاهرة الضوء يقال ثقب النجم إذا أضاء وثقبت النار كذلك وثقبت الرائحة إذا سطعت ويقال للموقد أثقب نارك أي اضئها وقال ابن زيد أراد نجما مخصوصا وهو زحل ووصفه بالثقوب لأنه مبرز على الكواكب في
464

ذلك وقال ابن عباس أراد الجدي وقال بعض هؤلاء يقال ثقب النجم إذا ارتفع فإنما وصف زحلا بالثقوب لأنه أرفع الكواكب مكانا
وقال ابن زيد وغيره * (النجم الثاقب) * الثريا وهو الذي يطلق عليه اسم النجم معرفا وجواب القسم في قوله * (إن كل نفس) * الآية وقرا جمهور الناس (لما) مخففة الميم قال الحذاق من النحويين وهم البصريون مخففة من الثقيلة واللام لام التأكيد الداخلة على الخبر وقال الكوفيون * (أن) * بمعنى ما النافية واللام بمعنى الا فالتقدير ما كان نفس الا * (عليها حافظ) * وقرا عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والحسن والأعرج وأبو عمرو ونافع بخلاف عنهما وقتادة (لما) بتشديد الميم وقال أبو الحسن الأخفش (لما) بمعنى الا لغة مشهورة في هذيل وغيرهم يقال أقسمت عليك لما فعلت كذا أي الا فعلت كذا ومعنى هذه الآية فيما قال قتادة وابن سيرين وغيرهما إن كل نفس مكلفة فعليها حافظ يحصي اعمالها ويعدها للجزاء عليها وبهذا الوجه تدخل الآية في الوعيد الزاجر وقال الفراء المعنى * (عليها حافظ) * يحفظها حتى يسلمها إلى القدر وهذا قول فاسد المعنى لأن مدة الحفظ إنما هي بقدر وقال أبو امامة قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية إن لكل نفس حفظة من الله تعالى يذبون عنها كما يذب عن العسل ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الطير والشياطين وقوله تعالى * (فلينظر الإنسان مم خلق) * توقيف لمنكري البعث على أصل الخلقة أي ان البعث جائز ممكن ثم بادر اللفظ إلى الجواب اقتضابا واسراعا إلى إقامة الحجة إذ لا جواب لأحد الا هذا و * (دافق) * قال كثير هو بمعنى مدفوق وقال الخليل وسيبويه هو على النسب أي ذي دفق والدفق دفق الماء بعضه إلى بعض تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضا ويصح ان يكون الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا فمنه * (دافق) * ومنه مدفوق
وقوله تعالى * (يخرج من بين الصلب والترائب) * قال قتادة والحسن وغيره معناه من بين الصلب كل واحد من الرجل والمراة وترائبه وقال سفيان وقتادة أيضا وجماعة من بين صلب الرجل وترائب المراة والضمير في * (يخرج) * يحتمل ان يكون للإنسان ويحتمل ان يكون للماء وقرا الجمهور (الصلب) وقرا أهل مكة وعيسى (الصلب) بضم اللام على الجميع والتريبة من الانسان ما بين الترقوة إلى الثدي وقال أبو عبيدة معلق الحلي على الصدر وجمع ذلك ترائب ومنه قول الشاعر المثقب العبدي
(ومن ذهب يسن على تريب
* كلون العاج ليس بذي غضون) الوافر
وقال امرؤ القيس
(ترائبها مصقولة كالسجنجل
*) الطويل
فجمع التريبة وما حولها فجعل ذلك ترائب وقال مكي عن ابن عباس ان الترب أطراف المرء ورجلاه ويداه وعيناه وقال معمر * (الترائب) * جمع تريبة وهي عصارة القلب ومنها يكون الولد وفي هذه الأقوال تحكم على اللغة وقال ابن عباس * (الترائب) * موضع القلادة وقال أيضا هي ما بين ثدي المرأة وقال ابن جبير هي أضلاع الرجل التي أسفل الصلب وقال مجاهد هي الصدر وقال هي التراقي وقيل هي ما بين المنكبين والصدر
465

وقوله تعالى * (إنه على رجعه لقادر) * الضمير في * (إنه) * لله تعالى واختلف المفسرون في الضمير في " رجعه " فقال قتادة وابن عباس هو على * (الإنسان) * أي على رده حيا بعد موته وقال الضحاك هو عائد على * (الإنسان) * لكن المعنى يرجعه ماء كما كان أولا وقال الضحاك أيضا يرد من الكبر إلى الشباب وقال عكرمة ومجاهد هو عائد على الماء أي يرده في الإحليل وقيل في الصلب والعامل في * (يوم) * على هذين القولين الأخيرين فعل مضمر تقديره اذكر * (يوم تبلى السرائر) * وعلى القول الأول وهو أظهر الأقوال وأبينها اختلفوا في العامل في * (يوم) * فقيل العامل * (ناصر) * من قوله تعالى * (ولا ناصر) * وقيل العامل الرجع في قوله تعالى * (على رجعه) * قالوا وفي المصدر من القوة بحيث يعمل وإن حال خبر أن بينه وبين معموله وقال الحذاق العامل فعل مضمر تقديره * (إنه
على رجعه لقادر) * فرجعه * (يوم تبلى السرائر) * وكل هذه الفرق فسرت من أن يكون العامل (قادر) لأن ذلك يظهر منه تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز ان يكون العامل (قادر) وذلك أنه قال * (إنه على رجعه لقادر) * أي على الاطلاق أولا وآخرا وفي كل وقت ثم ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصل إلى العذاب ليجتمع الناس إلى حذره والخوف منه و * (تبلى السرائر) * معناه تختبر وتكشف بواطنها وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن * (السرائر) * التي يبتليها الله تعالى من العباد التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة
قال القاضي أبو محمد هذه عظم الأمر وقال قتادة الوجه في الآية العموم في جميع السرائر وليس يمتنع في الدنيا من المكاره الا بأحد الوجهين إما بقوة في ذات الإنسان وإما بناصر خارج عن ذاته فأخبره الله تعالى عن الإنسان انه يعدمها يوم القيامة فلا يعصمه من امر الله شيء
قوله عز وجل
سورة الطارق 11 - 17
" السماء في هذا القسم يحتمل أن تكون المعروفة ويحتمل أن تكون السحاب و * (الرجع) * المطر وماؤه ومنه قول الهذلي
(أبيض كالرجع رسوب إذا
* ما شاخ من محتفل يختلي " السريع
وقال ابن عباس * (الرجع) * السحاب فيه المطر قال الحسن لأنه يرجع بالرزق كل عام قال غيره لأنه يرجع إلى الأرض وقال ابن زيد * (الرجع) * مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومنه منزلة تذهب وترجع و * (الصدع) * النبات لأن الأرض تتصدع عنه وهذا قول من قال إن " الرجع " المطر وقال مجاهد * (الصدع) * ما في الأرض من شعاب ولصاب وخندق وتشقق
466

بحرث غيره وهي أمور فيها معتبر وهذا قول يناسب القول الثاني في * (الرجع) * والضمير في * (إنه) * للقرآن ولم يتقدم له ذكر من حيث القول في جزء منه والحال تقتضيه و * (فصل) * معناه جزم فصل الحقائق من الأباطيل و (الهزل) اللعب الباطل ثم اخبر تعالى عن قريش * (إنهم يكيدون) * في أفعالهم وأقوالهم وتمرسهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتدبرهم رد امره ثم قوى ذلك بالمصدر واكده واخبر عن انه يفعل بهم عقابا سماه * (كيدا) * على العرف في تسمية العقوبة باسم الذنب ثم ظهر من قوله تعالى * (فمهل الكافرين) * ان عقابه لهم الذي سماه * (كيدا) * متأخر حتى ظهر ببدر وغيره وقرا جمهور الناس (أمهلهم) وقرا ابن عباس (مهلهم) وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف وقوله تعالى * (رويدا) * معناه قليلا قاله قتادة وهذه حال هذه اللفظة إذا تقدمها شيء تصفه كقولك سر رويدا وتقدمها فعل يعمل فيها كهذه الآية واما إذا ابتدأت بها فقلت رويدا يا فلان فهي بمعنى الامر بالتماهل يجري مجرى قولهم صبرا يا زيد وقليلا يا عمرو
467

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعلى
وهي مكية في قول الجمهور وحكى النقاش عن الضحاك انها مدنية وذلك ضعيف وإنما دعا إليه قول من قال إن ذكر صلاة العيد فيها
قوله عز وجل
سورة الأعلى 1 - 13
* (سبح) * في هذه الآية بمعنى نزه وقدس وقل سبحانه عن النقائص والغير جمعا وما يقول المشركون والاسم الذي هو ألف سين ميم يأتي في مواضع من الكلام الفصيح يراد به المسمى ويأتي في مواضع يراد به التسمية نحو قوله عليه السلام (إن لله تسعة وتسعين اسما) وغير ذلك ومتى أريد به المسمى فإنما هو صلة كالزائد كأنه قال في هذه الآية سبح ربك أي نزهة وإذا كان الاسم واحدا من الأسماء كزيد وعمرو فيجيء في الكلام على ما قلت تقول زيد قائد تريد المسمى وتقول زيد ثلاثة أحرف تريد به التسمية وهذه الآية تحتمل هذا الوجه الأول وتحتمل ان يراد بالاسم التسمية نفسها على معنى نزه اسم ربك على أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له إله ورب ونحو ذلك و * (الأعلى) * يصح ان يكون صفة للاسم ويحتمل ان يكون صفة للرب وذكر الطبري أن ابن عمر وعليا قرا هذه السورة (سبحان ربي الأعلى) قال وهي في مصحف أبي بن كعب كذلك وهي قراءة أبي موسى الأشعري وابن الزبير ومالك بن أبي دينار وروى ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرا هذه الآية قال (سبحان ربي الأعلى) وكان ابن مسعود وابن عامر وابن الزبير يفعلون ذلك ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم (اجعلوها في سجودكم) وقال قوم معنى * (سبح اسم ربك) * نزه اسم ربك تعالى عن أن تذكره الا وأنت خاشع وقال ابن عباس معنى الآية صل باسم ربك الأعلى كما تقول ابدا باسم الله وحذف حرف الجر و (سوى) معناه عدل واتقن حتى صارت الأمور مستوية دالة على قدرته ووحدانيته وقرا جمهور القراء (قدر) بشد الدال فيحتمل ان يكون من القدر والقضاء ويحتمل ان يكون
468

من التقدير والموازنة وقوله تعالى * (فهدى) * عام لوجوه الهدايات فقال الفراء معناه هدى وأضل واكتفى بالواحدة لدلالتها على الأخرى وقال مقاتل والكلبي هدى الحيوان إلى وطء الذكور والإناث وقيل هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي وقال مجاهد هدى الناس للخير والشر والبهائم للمراتع
قال القاضي أبو محمد وهذه الأقوال مثالات والعموم في الآية أصوب في كل تقدير وفي كل هداية و * (المرعى) * النبات وهو أصل في قيام المعاش إذ هو غذاء الأنعام ومنه ما ينتفع به الناس في ذواتهم و (الغثاء) ما يبس وجف وتحطم من النبات وهو الذي يحمله السيل وبه يشبه الناس الذين لا قدر لهم
و (الأحوى) قيل هو الأخضر الذي عليه سواد من شدة الخضرة والغضارة وقيل هو الأسود سوادا يضرب إلى الخضرة ومنه قول ذي الرمة
(لمياء في شفتيها حوة لعس
* وفي اللثاث وفي أنيابها شنب) البسيط
قال قتادة تقدير هذه الآية * (أخرج المرعى) * * (أحوى) * أسود من خضرته ونضارته * (فجعله غثاء) * عند يبسه ف * (أحوى) * حال وقال ابن عباس المعنى * (فجعله غثاء أحوى) * أي أسود لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار * (أحوى) * بهذه الصفة
وقوله تعالى * (سنقرئك فلا تنسى) * قال الحسن وقتادة ومالك بن انس هذه الآية في معنى قوله تعالى * (لا تحرك به لسانك) * القيامة 16 الآية وعد الله ان يقرئه واخبره انه لا ينسى نسيانا لا يكون بعده ذكر فتذهب الآية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك شفتيه مبادرة خوفا منه ان ينسى وفي هذا التأويل آية النبي صلى الله عليه وسلم في أنه أمي وحفظ الله تعالى عليه الوحي وامنه من نسيانه
وقال آخرون ليست هذه الآية في معنى تلك وانما هذه وعد بإقرار الشرع والسور وأمره ان لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد وقد علم أن ترك النسيان ليس في قدرته فقد نهي عن إغفال التعاهد وأثبت الياء في (تنسى) لتعديل رؤوس الآي وقال الجنيد معنى * (فلا تنسى) * لا تترك العمل بما تضمن من امر ونهي وقوله تعالى * (إلا ما شاء الله) * قال الحسن وقتادة وغيره مما قضى الله تعالى بنسخه وان ترفع تلاوته وحكمه
وقال الفراء وجماعة من أهل المعاني هو استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء وليس ثم شيء أبيح نسيانه وقال ابن عباس * (إلا ما شاء الله) * ان ينسيكه لتسن به على نحو قوله عليه السلام (إني لأنسى أو انسى لأسن) وقال بعض المتأولين * (إلا ما شاء الله) * أن يغلبك النسيان عليه ثم يذكرك به بعد ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قراءة عباد بن بشر يرحمه الله لقد أذكرني كذا في سورة كذا وكذا
قال القاضي أبو محمد ونسيان النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع فيما امر بتبليغه إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعي عنه فالنسيان جائز على أن يتذكر بعد ذلك وعلى ان يسن أو على النسخ ثم أخبر تعالى * (إنه يعلم الجهر) * من الأشياء * (وما يخفى) * منها وذلك لإحاطته بكل شيء علما وبهذا يصح الخبر بأنه لا ينسى شيئا الا ذكره الله تعالى به
وقوله تعالى * (ونيسرك لليسرى) * معناه نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك واخراك من النصر والظفر وعلو الرسالة والمنزلة يوم القيامة والرفعة في الجنة ثم
469

أمره تعالى بالتذكير واختلف الناس في معنى قوله تعالى * (إن نفعت الذكرى) * فقال الفراء والزهراوي معناه وإن لم تنفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني وقال بعض الحذاق إنما قوله * (إن نفعت الذكرى) * اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش أي * (إن نفعت الذكرى) * في هؤلاء الطغاة العتاة وهذا نحو قول الشاعر
(لقد أسمعت لو ناديت حيا
* ولكن لا حياة لمن تنادي) الوافر
وهذا كله كما تقول لرجل قل لفلان واعد له إن سمعك إنما هو توبيخ للمشار اليه ثم اخبر تعالى انه * (سيذكر من يخشى) * الله والدار الآخرة وهم العلماء والمؤمنون كل بقدر ما وفق ويتجنب الذكرى ونفعها من سبقت له الشقاوة فكفر ووجب له صلى بالنار وقال الحسن * (النار الكبرى) * نار الآخرة والصغرى نار الدنيا وقال بعض المفسرين إن نار جميع الآخرة وان كانت شديدة فهي تتفاضل ففيها شيء أكبر من شيء وقال الفراء * (الكبري) * هي السفلى من أطباق النار وقوله تعالى * (ثم لا يموت فيها ولا يحيى) * معناه * (لا يموت فيها) * موتا مريحا * (ولا يحيى) * حياة هنية هو لا محالة حي وقد ورد في خبر إن العصاة في النار موتى
قال القاضي أبو محمد وأراه على التشبيه لأنه كالسبات والركود والهمول فجعله موتا
قوله عز وجل
سورة الأعلى 14 - 19
* (أفلح) * في هذه الآية معناه فاز ببغيته * (وتزكي) * معناه طهر نفسه ونماها إلى الخير
قال ابن عباس قال لا إله الا الله فتطهر من الشرك وقال الحسن من كان عمله زاكيا وقال أبو الأحوص من رضخ من ماله وزكاه وقوله * (وذكر اسم ربه) * معناه وحده وصلى له الصلوات التي فرضت عليه وتنفل أيضا بما أمكنه من صلاة وبر وقال أبو سعيد الخدري وابن عمر وابن المسيب هذه الآية في صبيحة يوم الفطر فتزكى أدى زكاة الفطر * (وذكر اسم ربه) * هو ذكر الله في طريق المصلى إلى أن يخرج الإمام والصلاة هي صلاة العيد وقد روي هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال قتادة وكثير من المتأولين " تزكى " أدى زكاة ماله و (صلى) معناه صلى الخمس ثم اخبر تعالى الناس انهم يؤثرون * (الحياة الدنيا) * فالكافر يؤثرها ايثار كفر يرى أن لا آخرة والمؤمن يؤثرها ايثار معصية وغلبة نفس الا من عصم الله وقرا أبو عمرو وحده (يؤثرون) بالياء وقال يعني الأشقين وهي قراءة ابن مسعود والحسن وأبي رجاء والجحدري وقرا الباقون والناس (تؤثرون) بالتاء على المخاطبة وفي حرف أبي بن كعب (بل أنتم تؤثرون) وسبب الايثار حب العاجل والجهل ببقاء الآخرة وقال عمر ما في الدنيا في الآخرة الا كنفخة أرنب
وقوله تعالى * (إن هذا) * قال الضحاك أراد القرآن وروي ان القرآن انتسخ من * (الصحف الأولى) *
470

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس الإشارة إلى معاني السورة وقال ابن زيد الإشارة إلى هذين الخبرين (افلاح من تزكى) وايثار الناس للدنيا مع فضل الآخرة عليها وهذا هو الأرجح لقرب المشار اليه بهذا
وقوله تعالى * (لفي الصحف الأولى) * أي لم ينسخ هذا قط في شرع من الشرائع فهو في الأولى وفي الاخيرات ويظهر هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى (إذا لم تستحي فاصنع ما شئت) أي أنه مما جاءت به الأولى واستمر في الغي وقرا الجمهور (الصحف) مضمومة الحاء وروى هارون عن أبي عمرو بسكون الحاء وهي قراءة الأعمش وقرا أبو رجاء * (إبراهيم) * بغير الياء ولا ألف وقرا ابن الزبير (ابراهام) في كل القرآن وكذلك أبو موسى الأشعري وقرا عبد الرحمن بن أبي بكرة (ابراهم) بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن وروي ان * (صحف إبراهيم) * نزلت في أول ليلة من رمضان والتوراة في السادسة من رمضان والزبور في اثني عشرة منه والإنجيل في ثمان عشرة منه والقرآن في اربع عشرة
نجز تفسير سورة * (الأعلى) * والحمد لله كثيرا
471

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الغاشية
وهي مكية لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل
قوله عز وجل
سورة الغاشية 1 - 11
قال بعض المفسرين * (هل) * بمعنى قد وقال الحذاق هي على بابها توقيف فائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر وقيل المعنى هل كان هذا من علمك لولا ما علمناك ففي هذا التأويل تعديد النعمة
و * (الغاشية) * القيامة لأنها تغشى العالم كله بهولها وتغييرها لبنيته قال سفيان وجمهور من المتأولين وقال ابن جبير ومحمد بن كعب * (الغاشية) * النار وقد قال تعالى * (وتغشى وجوههم النار) * إبراهيم 50 وقال * (ومن فوقهم غواش) * الأعراف 41 فهي تغشى سكانها والقول الأول يؤيده قوله تعالى * (وجوه يومئذ) * والوجوه الخاشعة وجوه الكفار وخشوعها ذلها وتغيرها بالعذاب واختلف الناس في قوله تعالى * (عاملة ناصبة) * فيها والنصب التعب لأنها تكبرت عن العمل لله في الدنيا فاعملها في الآخرة في ناره
وقال عكرمة والسدي المعنى * (عاملة) * في الدنيا * (ناصبة) * يوم القيامة فالعمل على هذا هو مساعي الدنيا
وقال ابن عباس وزيد بن أسلم وابن جبير المعنى هي * (عاملة) * في الدنيا * (ناصبة) * فيها لأنها على غير هدى فلا ثمرة لعملها الا النصب وخاتمته النار
قالوا والآية في القسيسين وعبدة الأوثان وكل مجتهد في كفر وقد ذهب هذا المذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تأويل الآية وبكى رحمة لراهب نصراني رآه مجتهدا وفي الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر القدرية فبكى وقال إن فيهم المجتهد
وقرا ابن كثير في رواية شبل وابن محيصن (عاملة ناصبة) بالنصب على الذم والناصب فعل مضمر تقديره أذم أو أعنى ونحو هذا وقرا الستة وحفص عن عاصم والأعرج وطلحة وأبو جعفر والحسن (تصلى) بفتح التاء وسكون الصاد على بناء الفعل للفاعل أي الوجوه وقرا أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو بخلاف عنه وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وابن محيصن واختلف عن نافع وعن الأعرج (تصلى) بضم التاء وسكون الصاد وذلك يحتمل ان يكون من صليته النار على معنى أصليته
472

فيكون كتضرب ويحتمل ان يكون من أصليت فتكون كتكرم وقرا بعض الناس (تصلى) بضم التاء وفتح الصاد وشد اللام على التعدية بالتضعيف حكاها أبو عمرو بن العلاء و (الحامية) المتوقدة المتوهجة و (الآنية) التي قد انتهى حرها كما قال تعالى * (وبين حميم آن) * الرحمن 44 قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقال ابن زيد معنى * (انيه) * حاضرة لهم من قولك آن الشيء إذا حضر واختلف الناس في (الضريع) فقال الحسن وجماعة من المفسرين هو الزقوم لأن الله تعالى قد اخبر في هذه الآية ان الكفار لا طعام لهم * (إلا من ضريع) * وقد أخبر ان الزقوم طعام الأثيم فذلك يقتضي ان الضريع الزقوم وقال سعيد ببن جبير (الضريع) الحجارة
وقال مجاهد وابن عباس وقتادة وعكرمة (الضريع) شبرق النار وقال أبو حنيفة (الضريع) الشبرق وهو مرعى سوء لا تعقد السائمة عليه شحما ولا لحما ومنه قول أبي عيزارة الهذلي
(وحبسن في هزم الضريع فكلها
* جرباء دامية اليدين حرود) الطويل
وقال أبو ذؤيب
(رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى
* وعاد ضريعا بان منه الخائض)
وقيل (الضريع) العشرق
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (الضريع) شوك في النار وقال بعض اللغويين (الضريع) يبيس العرفج إذا تحطم وقال آخرون هو رطب العرفج وقال الزجاج هو نبت كالعوسج وقال بعض المفسرين (الضريع) نبت في البحر اخضر منتن مجوف مستطيل له بورقية كثيرة وقال ابن عباس (الضريع) شجر من نار
وكل ما ذكر شيئا مما ذكرناه فإنما يعني ان ذلك من نار ولا بد وكل ما في النار فهو نار
وقال قوم * (ضريع) * واد في جهنم وقال جماعة من المتأولين (الضريع) طعام أهل النار ولم يرد ان يخصص شيئا مما ذكرنا وقال بعض اللغويين وهذا لا تعرفه العرب وقيل (الضريع) الجلدة التي على العظم تحت اللحم ولا اعرف من تأول الآية بهذا وأهل هذه الأقاويل يقولون الزقوم لطائفة والضريع لطائفة والغسلين لطائفة واختلف في المعنى الذي سمي ضريعا فقيل هو ضريع بمعنى مضرع أي مضعف للبدن مهزل
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في ولد جعفر بن أبي طالب (ما لي أراهما ضارعين) يريد هزيلين ومن فعيل بمعنى مفعل قول عمرو بن معد يكرب
(أمن ريحانة الداعي السميع
* يؤرقني وأصحابي هجوع) الوافر
يريد السمع وقيل * (ضريع) * فعيل من المضارعة أي الاشتباه لأنه يشبه المرعى الجيد ويضارعه في الظاهر وليس به
ولما ذكر تعالى وجوه أهل النار عقب ذلك بذكره وجوه أهل الجنة ليبين الفرق وقوله تعالى * (لسعيها) * يريد لعملها في الدنيا وطاعتها والمعنى لثواب سعيها والتنعيم عليه ووصف الجنة بالعلو وذلك يصح من جهة المسافة والمكان ومن جهة المكانة والمنزلة أيضا وقرا نافع وحده وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهما والأعرج وأهل مكة والمدينة (لا تسمع فيها لاغية) أي ذات لغو فهي على النسب وفسره بعضهم على معنى لا تسمع فيها فئة أو جماعة لاغية ناطقة بسوء
قال أبو عبيدة
473

* (لاغية) * مصدر كالعاقبة والخائنة وقرأ الجحدري (لا تسمع) بضم التاء (لاغية) بالنصب وقرا ابن كثير وأبو عمرو (لا يسمع) بالياء من تحت مضمومة (لاغية) بالرفع وهي قراءة ابن محيصن وعيسى والجحدري أيضا
إلا أنه قرا (لاغية) بالنصب على معنى لا يسمع أحد كلمة لاغية من قولك أسمعت زيدا
وقرا الباقون ونافع في رواية خارجة والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر وقتادة وابن سيرين وأبو عمرو بخلاف عنه (لا تسمع) بفتح التاء ونصب (لاغية) والمعنى إما على الكلمة وإما على الفئة والفاعل ب (تسمع) إما الوجوه وإما محمد صلى الله عليه وسلم قاله الحسن وإنما أنت أيها المخاطب عموما واللغو سقط القول فذلك يجمع الفحش وسائر الكلام السفساف الناقص وليس في الجنة نقصان ولا عيب في فعل ولا قول والحمد لله ولي النعمة
قوله عز وجل
سورة الغاشية 12 - 26
* (عين) * في هذه الآية اسم جنس ويحتمل أن تكون عينا مخصوصة ذكرت على جهة التشريف لها و (رفع السرر) أشرف لها و (الأكواب) أوان كالأباريق لا عرى لها ولا آذان ولا خراطيم وشكلها عند العرب معروف
و * (موضوعة) * معناه بأشربتها معدة و (النمرقة) الوسادة ويقال نمرقة بكسر النون والراء وقال زهير
(كهولا وشبانا حسانا وجوههم
* على سرر مصفوفة ونمارق) الطويل
و (الزرابي) واحدتها زريبة ويقال بفتح الزاي وهي كالطنافس لها خمل قاله الفراء وهي ملونات و * (مبثوثة) * معناه كثيرة متفرقة ثم أقام تعالى الحجة على منكري قدرته على بعث الأجساد بان وقفهم على موضع العبرة في مخلوقاته و * (الإبل) * في هذه الآية هي الجمال المعروفة هذا قول جمهور المتأولين وفي الجمل آيات وعبر لمن تأمل ليس في الحيوان ما يقوم من البروك بحمله سواه وهو على قوته غاية في الانقياد
قال الثعلبي في بعض التفاسير إن فأرة جرت بزمام ناقة فتبعتها حتى دخلت الجحر فبركت الناقة وأذنت رأسها من فم الحجر وكان سريح القاضي يقول لأصحابه اخرجوا بنا إلى الكناسة حتى ينظر إلى الإبل كيف خلقت وقال أبو العباس المبرد * (الإبل) * هنا السحاب لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتيها أرسالا كالإبل وتزجى كما تزجى الإبل في هيئتها أحيانا تشبه الإبل والنعام ومنه قول الشاعر
474

(كأن السحاب دوين السما
* نعام تعلق بالأرجل) المتقارب
وقرا أبو عمرو بخلاف وعيسى (الإبل) بشد اللام وهي السحاب فيما ذكر قوم من اللغويين والنقاش وقرا الجمهور (خلقت) بفتح القاف وضم الخاء وقرا علي بن أبي طالب (خلقت) بفتح الخاء وسكون القاف على فعل التكلم وكذلك رفعت ونصبت (وسطحت) وقرأ أبو حيوة (رفعت) و (نصبت) و (سطحت) بالتشديد فيها و * (نصبت) * معناه أثبتت قائمة في الهواء لا تنتطح وقرا الجمهور (سطحت) وقرا هارون الرشيد (سطحت) بشد الطاء على المبالغة وهي قراءة الحسن وظاهر هذه الآية ان الأرض سطح لا كرة وهو الذي عليه أهل العلم والقول بكريتها وان كان لا ينقص ركنا من أركان الشرع فهو قول لا يثبته علماء الشرع ثم امر تعالى نبيه بالتذكير
بهذه الآية ونحوها ثم نفي ان يكون مصيطرا على الناس أي قاهرا جاهدا لهم مع تكبر تسلطا عليهم يقال تسيطر علينا فلان وقرا بعض الناس (بمسيطر) بالسين وبعضهم بالصاد وقد تقدم وقرا هارون (بمصيطر) بفتح الطاء وهي لغة تميم وليس في كلام العرب على هذا البناء غير مسيطر ومبيطر ومبيقر ومهيمن
وقوله تعالى * (إلا من تولى وكفر) * قال بعض المتأولين الاستثناء متصل والمعنى * (إلا من تولى) * فإنك مصيطر عليه فالآية على هذا لا نسخ فيها وقال آخرون منهم الاستثناء منفصل والمعنى * (لست عليهم بمصيطر) * وتم الكلام
وهي آية موادعة منسوخة بالسيف ثم قال * (إلا من تولى وكفر فيعذبه الله) * وهذا هو القول الصحيح لأن السورة مكية والقتال إنما نزل بالمدينة و " من " بمعنى الذي
وقرا ابن عباس وزيد بن أسلم وقتادة وزيد بن علي (الا من تولى) بفتح الهمزة على معنى استفتاح الكلام و " من " على هذه القراءة شرطية و * (العذاب الأكبر) * عذاب الآخرة لأنهم قد عذبوا في الدنيا بالجوع والقتل وغيره وقرا ابن مسعود (فإنه يعذبه الله) وقرأ الجمهور (إيابهم) مصدر من آب يؤوب إذا رجع وهو الحشر والمراد إلى الله وقرا أبو جعفر بن القعقاع (إيابهم) بشد الياء على وزن فعال بكسر الفاء أصله فيعال من أيب فعل أصله فيعل ويصح ان يكون اوب فيجيء إيوابا وسهلت الهمزة وكان اللازم في الإدغام يردها أوابا لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس
انتهى
475

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفجر
وهي مكية عند جمهور المفسرين وحكى أبو عمرو الداني في كتابه المؤلف في تنزيل القرآن عن بعض العلماء أنه قال هي مدنية والأول أشهر وأصح
قوله عز وجل
سورة الفجر 1 - 14
قال جمهور من المتأولين * (الفجر) * هنا المشهور الطالع كل يوم قال ابن عباس * (الفجر) * النهار كله وقال ابن عباس أيضا وزيد بن أسلم * (الفجر) * الذي أقسم الله به صلاة الصبح وقراءتها هو قرآن الفجر وقال مجاهد إنما أراد فجر يوم النحر وقال الضحاك المراد فجر ذي الحجة وقال مقاتل المراد فجر ليلة جمع وقال ابن عباس أيضا المراد فجر أول يوم من المحرم لأنه فجر السنة وقيل المراد فجر العيون من الصخور وغيرها
وقال عكرمة المراد فجر يوم الجمعة واختلف الناس في (الليالي العشر) فقال بعض الرواة هي العشر الأولى من رمضان وقال الضحاك وابن عباس هي العشر الأواخر من رمضان وقال بنان وجماعة من المتأولين هي العشر الأولى من المحرم وفيه يوم عاشوراء وقال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي وعطية العوفي وابن الزبير رضي الله عنه هي عشر ذي الحجة وقال مجاهد هي عشر موسى التي أتمها الله له وقرا الجمهور (وليال) وقرا بعض القراء (وليالي عشر) بالإضافة وكان هذا على أن العشر مشار اليه معين بالعلم به ثم وقع القسم بلياليه فكان العشر اسم لزمه حتى عومل معاملة الفرد ثم وصف ومن راعى فيه الليالي قال العشر الوسط واختلف الناس في * (الشفع والوتر) * فقال جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم * (الشفع) * يوم النحر * (والوتر) * يوم عرفة وروى أيوب عنه صلى الله عليه وسلم قال (الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى والوتر ليلة النحر) وروى عمران بن حصين عنه عليه السلام أنه قال (هي الصلوات منها الشفع ومنها الوتر) وقال ابن الزبير وغيره * (الشفع) * اليومان من أيام التشريق * (والوتر) * اليوم الثالث وقال آخرون * (الشفع) * العالم
476

* (والوتر) * الله إذ هو الواحد محضا وسواه ليس كذلك وقال بعض المتأولين * (الشفع) * آدم وحواء و * (الوتر) * الله وقال ابن سيرين ومسروق وأبو صالح * (الشفع والوتر) * شائعان الخلق كله الإيمان والكفر والإنس والجن وما اطرد على نحو هذا فهي أضداد أو كالأضداد ووترها الله تعالى فرد أحد
وقيل * (الشفع) * الصفا والمروة * (والوتر) * البيت وقال الحسن بن الفضل * (الشفع) * أبواب الجنة لأنها ثمانية أبواب * (والوتر) * أبواب النار لأنها سبعة أبواب وقال مقاتل * (الشفع) * الأيام والليالي * (والوتر) * يوم القيامة لأنه لا ليل بعده * (والوتر) * اتحاد صفات الله تعالى عز محض وكرم محض ونحوه وقيل * (الشفع) * قرآن الحج والعمرة * (والوتر) * الإفراد في الحج وقال الحسن أقسم الله تعالى بالعدد لأنه إما شفع وإما وتر وقال بعض المفسرين * (الشفع) * حواء * (والوتر) * آدم عليه السلام
وقال ابن عباس ومجاهد * (الوتر) * صلاة المغرب و * (الشفع) * صلاة الصبح وقال أبو العالية * (الشفع) * الركعتان من المغرب * (والوتر) * الركعة الأخيرة
وقال بعض العلماء * (الشفع) * تنفل الليل مثنى مثنى * (والوتر) * الركعة الأخيرة المعروفة
وقرا جمهور القراء والناس (والوتر) بفتح الواو وهي لغة قريش وأهل الحجاز وقرا حمزة والكسائي والحسن بخلاف وأبو رجاء وابن وثاب وطلحة والأعمش وقتادة (والوتر) بكسر الواو وهي لغة تميم وبكر بن وائل وذكر الزهراوي أن الأغر رواها عن ابن عباس وهما لغتان في الفرد واما الدخل فإنما هو وتر بالكسر لا غير وقد ذكر الزهراوي ان الأصمعي حكى فيه اللغتين الفتح والكسر وسوى الليل ذهابه وانقراضه هذا قول الجمهور وقال ابن قتيبة والأخفش وغيره المعنى " إذا يسرى " فيه فيخرج هذا الكلام مخرج ليل نائم ونهار بطال
وقال مجاهد وعكرمة والكلبي أراد بهذا ليلة جمع لأنه يسرى فيها وقرا الجمهور (يسر) دون ياء في وصل ووقف وقرا ابن كثير (يسرى) بالياء في وصل ووقف وقرا
نافع وأبو عمرو بخلاف عنه (يسري) بياء في الوصل ودونها في الوقف وحذفها تخفيف لاعتدال رؤوس الآي إذ هي فواصل كالقوافي قال الزبيدي الوصل في هذا وما أشبهه بالياء والوقف بغير ياء على خط المصحف
ووقف تعالى على هذه الأقسام العظام هل فيها مقنع وحسب لذي عقل
و * (الحجر) * العقل والنهية والمعنى فيزدجر ذو الحجر وينظر في آيات الله تعالى ثم وقف تعالى على مصانع الأمم الخالية الكافرة وما فعل ربك من التعذيب والاهلاك والمراد بذلك توعد قريش ونصب المثل لها
و * (عاد) * قبيلة لا خلاف في ذلك واختلف الناس في " إرم " فقال مجاهد وقتادة هي القبيلة بعينها وهذا على قول ابن الرقيات
(مجدا تليدا بناه أوله
* أدرك عادا وقبله إرما) المنسرح
وقال زهير
(وآخرين ترى الماذي عدتهم
* من نسج داود أو ما أورثت إرم) البسيط
قال ابن إسحاق " إرم " هو أبو عاد كلها وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وقال هو أحد أجدادها وقال جمهور المفسرين " إرم " مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن وقال محمد بن كعب هي (الإسكندرية) وقال سعيد بن المسيب والمقري هي دمشق وهذان القولان
477

ضعيفان وقتال مجاهد " إرم " معناه القديمة وقرأ الجمهور (بعاد وإرم) فصرفوا (عادا) على إرادة الحي ونعت ب " إرم " بكسر الهمزة على أنها القبيلة بعينها ويؤيد هذا قول اليهود للعرب سيخرج فينا نبي نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم فهذا يقتضي انها قبيلة وعلى هذه القراءة يتجه ان يكون " إرم " أبا لعاد أو جدا غلب اسمه على القبيل وقرا الحسن بن أبي الحسن (بعاد إرم) بترك الصرف في (عاد) وإضافتها إلى " إرم " وهذا يتجه على أن يكون " إرم " أبا أو جدا وعلى أن تكون مدينة وقرا الضحاك (بعاد أرم) بفتح الدال والهمزة من (أرم) وفتح الراء والميم على ترك الصرف في (عاد) والإضافة وقرأ ابن عباس والضحاك (بعاد إرم) بشد الميم على الفعل الماضي بمعنى بلي وصار رميما يقال إرم العظم وأرم وأرمه الله تعدية رم بالهمزة وقرا ابن عباس أيضا (ارم ذات) بالنصب في التاء على ايقاع الإرمام عليها أي أبلاها ربك وجعلها رميما وقرا ابن الزبير (أرم ذات العماد) بفتح الهمزة وكسر الراء وهي لغة في المدينة وقرا الضحاك بن مزاحم (أرم) بسكون الراء وفتح الهمزة وهو تخفيف في (ارم) كفخذة وفخذ واختلف الناس في قوله تعالى * (ذات العماد) * فمن قال " إرم " مدينة قال العماد أعمدة الحجارة التي بنيت بها وقيل القصور العالية والأبراج يقال لها عماد ومن قال " إرم " قبيلة قال * (العماد) * إما أعمدة بنيانهم وإما أعمدة بيوتهم التي يرحلون بها لأنهم كانوا أهل عمود ينتجعون البلاد قاله مقاتل وجماعة
وقال ابن عباس هي كناية عن طول أبدانهم وقرا الجمهور (يخلق) بضم الياء وفتح اللام (مثلها) رفعا وقرا ابن الزبير (يخلق) بفتح الياء وضم اللام (ومثلها) نصبا وذكر أبو عمرو الداني عنه انه قرأ (نخلق) بالنون وضم اللام (مثلها) نصبا وذكر التي قبل هذه عن عكرمة والضمير في * (مثلها) * يعود إما على المدينة وإما على القبيلة وقرا يحيى بن وثاب (وثمودا) بتنوين الدال و * (جابوا الصخر) * معناه خرقوه ونحتوه وكانوا في أوديتهم قد نحتوا بيوتهم في حجارة و (الوادي) ما بين الجبلين وان لم يكن فيه ماء هذا قول كثير من المفسرين في معنى * (جابوا الصخر بالواد) * وقال الثعلبي يريد بوادي القرى وقال قوم المعنى جابوا واديهم وجلبوا ماءهم في صخر شقوه وهذا فعل ذوي القوة والآمال وقرا ابن كثير (بالوادي) بياء وقرا أكثر السبعة (بالواد) دون ياء واختلف في ذلك نافع وقد تقدم هذا * (وفرعون) * هو فرعون موسى واختلف الناس في أوتاده فقيل أبنيته العالية العظيمة قاله محمد بن كعب وقيل جنوده الذين بهم يثبت ملكه وقيل المراد أوتاد أخبية عساكره وذكرت لكثرتها ودلالتها على غزواته وطوفه في البلاد قاله ابن عباس ومنه قول الأسود بن يعفر
(في ظل ملك ثابت الأوتاد
*)
وقال قتادة كان له أوتاد يلعب عليها الرجال بين يديه وهو مشرف عليهم وقال مجاهد كان يوتد الناس بأوتاد الحديد يقتلهم بذلك يضربها في أبدانهم حتى تنفذ إلى الأرض وقيل إنما فعل ذلك بزوجته آسية وقيل إنما فعل بماشطة ابنته لأنها كانت آمنت بموسى والطغيان تجاوز الحدود والصب يستعمل في السوط لأنه يقتضي سرعة في النزول ومنه قول الشاعر في المحدودين في الإفك
(فصبت عليهم محصرات كأنها
* شآبيب ليست من سحاب ولا قطر)
ومن ذلك قول المتأخر في صفة الخيل
478

(صببنا عليها ظالمين سياطنا
* فطارت بها أيد سراع وأرجل) وإنما خص (السوط) بان يستعار للعذاب لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره وقال بعض اللغويين (السوط
) هنا مصدر من ساط يسوط إذا اختلط فكأنه قال خلط عذاب (والمرصاد) موضع الرصد قاله اللغويون أي أنه عند لسان كل قائل ومرصد لكل فاعل وعلى هذا التأويل في المرصاد جواب عامر بن عبد قيس لعثمان حين قال له أين ربك يا أعرابي قال بالمرصاد ويحتمل ان يكون (المرصاد) في الآية اسم فاعل كأنه قال لبالراصد فعبر بالمبالغة وروي في بعض الحديث ان على جسر جهنم ثلاث قناطر على إحداهما الأمانة وعلى إحداهما الرحم وعلى الأخيرة الرب تبارك وتعالى فذلك قوله * (لبالمرصاد) *
قوله عز وجل
سورة الفجر 15 - 22
ذكر الله تعالى في هذه الآية ما كانت قريش تقوله تستدل به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده وذلك انهم كانوا يرون أن من عنده الغنى والثروة والأولاد فهو المكرم وبضده المهان ومن حيث كان هذا المقطع غالبا على كثيرين من الكفار جاء التوبيخ في هذه الآية لاسم الجنس إذ يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع ومن ذلك حديث الأعراب الذين كانوا يقدمون المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فمن نال خيرا قال هذا دين حسن ومن ناله شر قال هذا دين سوء و * (ابتلاه) * معناه اختبره و * (نعمة) * معناه جعله ذا نعمة وقرا ابن كثير (أكرمني) بالياء في وصل ووقف وحذفها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في الوجهين وقرا نافع بالياء في الوصل وحذفها في الوقف وكذلك (أهانني) وخير في الوجهين أبو عمرو وقرا جمهور الناس (فقدر) بتخفيف الدال بمعنى ضيق وقرا الحسن بخلاف وأبو جعفر وعيسى (قدر) بمعنى جعله على قدر وهما بمعنى واحد في معنى التضييق لأنه ضعف قدر مبالغة لا تعدية ويقتضي ذلك قول الإنسان " أهانني " لأن (قدر) معدى إنما معناه أعطاه ما يكفيه ولا إهانة مع ذلك
ثم قال تعالى * (كلا) * ردا على قولهم ومعتقدهم أي ليس إكرام الله تعالى واهانته في ذلك وإنما ذلك ابتلاء فحق من ابتلي بالغني ان يشكر ويطيع ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر وأما إكرام الله تعالى فهو بالتقوى وإهانته فبالمعصية ثم أخبرهم أعمالهم من أنهم لا يكرمون اليتيم وهو من بني آدم الذي فقد أباه وكان غير بالغ
ومن البهائم ما فقد أمه وقال النبي صلى الله عليه وسلم (أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم) وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر (يحضون) بمعنى يحض بعضهم بعضا أو
479

تحضون أنفسكم وقرا عاصم وحمزة والكسائي (تحاضون) بفتح التاء بمعنى تتحاضون أي يحض قوم قوما وقرا أبو عمرو (يحضون) بياء من تحت مفتوحة وبغير ألف وقرا عبد الله بن المبارك (تحاضون) بضم التاء على وزن تقاتلون أي أنفسكم أي بعضكم بعضا ورواها الشيرزي عن الكسائي وقد يجيء فاعلت بمعنى فعلت وهذا منه والى هذا ذهب أبو علي وانشد
(تحاسنت به الوشى
* قرأت الرياح وخوزها)
أي حسنت وانشد أيضا
(إذا تخازرت وما بي من خزر
*) الرجز
ويحتمل أن تكون مفاعلة ويتجه ذلك على زحف ما فتأمله وقرا الأعمش (تتحاضون) بتائين و * (طعام) * في هذه الآية بمعنى إطعام وقال قوم أراد نفس طعامه الذي يأكل ففي الكلام حذف تقديره على بدل * (طعام المسكين) * وقد تقدم القول في (سورة براءة) في المسكين والفقير بمعنى يغني عن إعادته وعدد عليهم جدهم في اكل التراث لأنهم لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد إنما كان يأخذ المال من يقاتل ويحمي الحوزة
و (اللم) الجمع واللف
قال الحسن هو ان يأخذ في الميراث حظه وحظ غيره وقال أبو عبيدة لممت ما على الخوان إذا أكلت جميع ما عليه بأسره ومنه لم الشعث ومنه قول النابغة
(ولست بمستبق أخا لا تلمه
* على شعث أي الرجال المهذب) الطويل
والجم الكثير الشديد ومنه قول الشاعر أبو خراش الهذلي
(ان تغفر اللهم تغفر جما
* وأي عبد لك لا الما) الرجز
ومن (الجم) من الناس ثم قال تعالى * (كلا) * ردا على أفعالهم هذه وتوطئة للوعيد أي سيرون أفعالهم لبس على قوم * (إذا دكت الأرض) * ودك الأرض تسويتها بذهاب جبالها والناقة الدكاء التي لا سمن لها وقوله تعالى * (وجاء ربك والملك) * معناه وجاء قدره وسلطانه وقضاؤه قال منذر بن سعيد معناه ظهوره للخلق هنالك ليس مجيء نقلة وكذلك مجيء الصاخة ومجئ الطامة و * (الملك) * اسم جنس يريد جميع الملائكة وروي ان ملائكة كل سماء تكون * (صفا) * حول الأرض في يوم القيامة وذكر الطبري في ذلك حديثا طويلا اختصرته وبهذا المعنى يتفسر قوله تعالى * (يوم التناد) * غافر 32 على قراءة من شد الدال
وقوله تعالى في سورة الرحمن * (إن استطعتم أن تنفذوا) * الرحمن 33 الآية
وقرا ابن كثير وعاصم ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي في هذه الآية (تكرمون) بالتاء وكذلك سائر الأفعال بعدها بعدها على الخطاب وقرا أبو عمرو والحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري (يكرمون) في جميعها على ذكر الغائب إذ قد تقدم اسم جنس الانسان
480

قوله عز وجل
سورة الفجر 23 - 30
روي في قوله تعالى " وجئ يومئذ بجهنم " انها تساق إلى الحشر بسبعين ألف زمام يمسك كل زمام سبعون ألف ملك فيخرج منها عنق فينتقي الجبابرة من الكفار في حديث طويل مختلف الألفاظ و (جهنم) هنا هي النار بجملتها وروي انه لما نزلت " وجئ يومئذ بجهنم " تغير لون النبي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى * (يتذكر الإنسان) * معناه يتذكر عصيانه وطغيانه وينظر ما فاته من العمل الصالح
ثم قال تعالى * (وأنى له الذكرى) * ثم ذكر عنه انه يقول * (يا ليتني قدمت لحياتي) * واختلف في معنى قوله * (لحياتي) * فقال جمهور المتأولين معناه * (لحياتي) * الباقية يريد في الآخرة وقال قوم في المتأولين المعنى * (لحياتي) * في قبري عند بعثي الذي كنت اكذب به واعتقد اني لن أعود حيا
وقال آخرون * (لحياتي) * هنا مجاز أي * (ليتني قدمت) * عملا صالحا لأنعم به اليوم وأحيا حياة طيبة فهذا كما يقول الانسان أحييني في هذا الأمر وقال بعض المتأولين لوقت أو لمدة حياتي الماضية في الدنيا وهذا كما تقول جئت لطلوع الشمس ولتاريخ كذا ونحوه
وقرأ جمهور القراء وعلي بن أبي طالب وابن عباس وأبو عبد الرحمن (يعذب) و (يوثق) بكسر الذال الثاء وعلى هذه القراءة فالضمير عائد في عذابه ووثاقة لله تعالى والمصدر مضاف إلى الفاعل ولذلك معنيان أحدهما ان الله تعالى لا يكل عذاب الكفار يومئذ إلى أحد والآخر ان عذابه من الشدة في حيز لم يعذب قط أحد بمثله ويحتمل ان يكون الضمير للكافر والمصدر مضاف إلى المفعول وقرا الكسائي وابن سيرين وابن أبي إسحاق وسوار القاضي (يعذب) و (يوثق) بفتح الذال والثاء ورويت كثيرا عن النبي صلى الله عليه وسلم فالضميران على هذا للكافر الذي هو بمنزلة جنسه كله والمصدر مضاف إلى المفعول ووضع عذاب موضع تعذيب كما قال القرطبي
(وبعض عطائك المائة الرتاعا
*) الوافر
ويحتمل ان يكون الضميران في هذه القراءة لله تعالى كأنه قال لا يعذب أحد قط في الدنيا عذاب الله للكفار فالمصدر مضاف إلى الفاعل وفي هذا التأويل تحامل وقرا الخليل بن أحمد (وثاقه) بكسر الواو
ولما فرغ ذكر هؤلاء المعذبين عقب تعالى بذكر نفوس المؤمنين وحالهم فقال * (يا أيتها النفس المطمئنة) * الآية و * (المطمئنة) * معناه الموقنة غاية اليقين الا ترى ان إبراهيم عليه السلام قال * (ولكن ليطمئن قلبي) * البقرة 260 فهي درجة زائدة على الايمان وهي ان لا يبقى على النفس في يقينها مطلب يحركها إلى تحصيله واختلف الناس في هذا النداء متى يقع فقال ابن زيد وغيره هو عند خروج نفس المؤمن من جسده في الدنيا
وروي ان أبا بكر الصديق سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له (إن الملك سيقولها لك يا أبا بكر عند موتك) ومعنى * (ارجعي إلى ربك) * على هذا التأويل * (ارجعي) * بالموت وقال وقوله * (في عبادي) * أي في اعداد عبادي الصالحين وهذه قراءة الجمهور
481

بجمع (عبادي) وقال قوم النداء عند قيام الأجساد من القبور فقوله * (ارجعي إلى ربك) * معناه بالبعث من موتك ارجعي إلى الله
وقيل الرب هنا الإنسان ذو النفس أي * (ادخلي) * في الأجساد و * (النفس) * اسم جنس وقال بعض العلماء هذا النداء هو الان للمؤمنين لما ذكر حال الكفار قال يا مؤمنون دوموا وجدوا حتى ترجعوا راضين مرضيين ف * (النفس) * على هذا اسم الجنس وقرا ابن عباس وعكرمة وأبو شيخ والضحاك واليماني ومجاهد وأبو جعفر (فادخلي في عبدي) و * (النفس) * على هذا ليست باسم الجنس وانما خاطب مفردة
قال أبو شيخ الروح يدخل في البدن وفي مصحف أبي بن كعب (يا أيتها النفس الامنة المطمئنة إيتي ربك راضية مرضية فارجعي في عبدي) وقرا سالم بن عبد الله (فادخلي في عبادي ولجي جنتي) وتحتمل قراءة (عبدي) ان يكون العبد اسم جنس جعل عباده كالشئ الواحد دلالة على الالتحام كما قال عليه السلام وهم يد على من سواهم وقال آخرون إنما هو الموقف عندما ينطلق بأهل النار إلى النار فنداء النفوس على هذا إنما هو نداء أرباب النفوس ومعنى * (ارجعي إلى ربك) * على هذا إلى رحمة ربك والعباد هنا الصالحون المنعمون
482

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البلد
وهي مكية في قول جمهور المفسرين وقال قوم هي مدنية
قوله عز وجل
سورة البلد 1 - 10
قرا الحسن بن أبي الحسن لأقسم) دون ألف وقرا الجمهور (لا أقسم) واختلفوا فقال الزجاج وغيره (لا) صلة زائدة مؤكدة واستأنف قوله * (أقسم) * وقال مجاهد
* (لا) * رد للكلام متقدم للكفار ثم استأنف قوله * (أقسم) * وقال بعض المتأولين * (لا) * نفي للقسم بالبلد أخبر الله تعالى انه لا يقسم به ولا خلاف بين المفسرين ان * (البلد) * المذكور هو مكة واختلف في معنى قوله * (وأنت حل بهذا البلد) * فقال ابن عباس وجماعة معناه وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتل من شئت وكان هذا يوم فتح مكة وعلى هذا يتركب قول من قال السورة مدنية نزلت عام الفتح ويتركب على التأويل قول من قال * (لا) * نافية أي ان هذا البلد لا يقسم الله به وقد جاء أهله باعمال توجب إحلال حرمته ويتجه أيضا أن تكون * (لا) * غير نافية
وقال بعض المتأولين * (وأنت حل بهذا البلد) * معناه حال ساكن بهذا البلد وعلى هذا يجيء قول من قال هي مكية والمعنى على ايجاب القسم بين وعلى نفيه أيضا يتجه على معنى القسم ببلد أنت ساكنه على أذى هؤلاء القوم وكفرهم وذكر الثعلبي عن شرحبيل بن سعد ان معنى * (وأنت حل) * أي قد جعلوك حلالا مستحل الأذى والإخراج والقتل لك لو قدروا وإعراب * (البلد) * عطف بيان وقوله تعالى * (ووالد وما ولد) * قسم مستأنف على قول من قال * (لا) * نافية ومعطوف على قول من رأى * (لا) * غير نافية واختلف الناس في معنى قوله * (ووالد وما ولد) * فقال مجاهد هو آدم وجميع ولده وقال بعض رواة التفسير هو نوح وجميع ولده وقال أبو عمران الجوني هو إبراهيم وجميع ولده وقال ابن عباس ما معناه ان الوالد والولد هنا على العموم فهي أسماء جنس يدخل فيها جميع الحيوان وقال ابن عباس وابن جبير وعكرمة * (ووالد) * معناه كل من ولد وانسل وقوله * (وما ولد) * لم يبق تحته الا العاقر الذي ليس بوالد البتة والقسم واقع على قوله * (لقد خلقنا الإنسان في كبد) * واختلف الناس في
483

(الكبد) فقال جمهور الناس * (الإنسان) * اسم الجنس كله و (الكبد) المشقة والمكابدة أي يكابد امر الدنيا والآخرة ومن ذلك قول لبيد
(يا عين هلا بكيت أربد إذ
* قمنا وقام الخصوم في كبد) المنسرح
وقول ذي الإصبع
(لي ابن عم لو أن الناس في كبد
* لظل محتجرا بالنبل يرميني) البسيط
وبالمشقة في أنواع أحوال الانسان فسره الجمهور وقال الحسن لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد * (في كبد) * معناه منتصف القامة واقفا وقال ابن زيد * (الإنسان) * آدم عليه السلام و * (في كبد) * معناه في السماء سماها كبدا وهذان قولان قد ضعفا والقول الأول هو الصحيح وروي ان سبب الآية وما بعدها هو أبو الأشدين رجل من قريش شديد القوة اسمه أسيد بن كلدة الجمحي كان يحسب أن أحدا لا يقدر عليه ويقال بل نزلت في عمرو بن ود ذكره النقاش وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن أبي طالب خلف الخندق وقال مقاتل نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة فقال لقد * (أهلكت مالا) * في الكفارات والنفقات مذ تبعت محمدا وكان كل واحد منهم قد ادعى انه انفق مالا كثيرا على إفساد امر النبي صلى الله عليه وسلم أو في الكفارات على ما تقدم فوقف القرآن على جهة التوبيخ للمذكور وعلى جهة التوبيخ لاسم الجنس كله
و * (يقدر) * نصب ب * (لن) * و * (أن) * مخففة من الثقيلة وكان قول هذا الكافر * (أهلكت مالا لبدا) * كذبا منه فلذلك قال * (أيحسب أن لم يره أحد) * أي انه رئي وأحصي فعله فما باله يكذب ومن قال إن المراد اسم الجنس غير مفرد جعل قوله تعالى * (أيحسب أن لم يره أحد) * بمعنى أيظن الإنسان ان ليس عليه حفظة يرون أعماله ويحصونها إلى يوم الجزاء وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وجسمه فيما أبلاه وماله من أين كسبه وأين أنفقه) واختلف القراء في قوله (لبدا) فقرا جمهور القراء بضم اللام وفتح الباء وقرا مجاهد (لبدا) بضمهما وذلك جمع لبدة أو جمع لبود بفتح اللام وقرا أبو جعفر يزيد (لبدا) بضم اللام وفتح الباء وشدها فيكون مفردا نحو (زمل) ويكون جمع لابد وقد روي عن أبي جعفر (لبدا) بسكون الباء والمعنى في هذه القراءات كلها مالا كثيرا متلبدا بعضه فوق بعض من التكاثف والكثرة وقرا الأعمش (لم يره) بسكون الراء لتوالي الحركات ثم عدد تعالى على الإنسان نعمه التي بها تقوم الحجة وهي جوارحه
وقرن تعالى (الشفتين) باللسان لأن نعمة العبارة والكلام لا يصح الا بالجميع وفي الحديث يقول الله تعالى (ابن آدم إن نازعك لسانك إلى ما لا يحل فقد أعنتك عليه بشفتين فأطبقهما عليه)
واختلف الناس في * (النجدين) * فقال ابن مسعود وابن عباس والناس طريقا الخير والشر أي عرضنا عليه طريقهما وليست الهداية هنا بمعنى الارشاد
وقال ابن عباس أيضا والضحاك (النجدان) ثديا الأم وهذا مثال والنجد الطريق المرتفع وانشد الأصمعي
(كميش الإزار خارج نصف ساقه
* صبور على الأرزاء طلاع انجد) الطويل
484

قوله عز وجل
سورة البلد 11 - 20
في هذه الآية على عرف كلام العرب استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل وهي ما صعب منه وكان صعودا و * (اقتحم) *
معناه دخلها وجاوزها بسرعة وضغط وشدة واما المفسرون فرأوا ان * (العقبة) * يراد بها جبل في جهنم لا ينجي منه الا هذه الأعمال ونحوها قاله ابن عباس وقتادة وقال الحسن * (العقبة) * جهنم قال هو وقتادة فاقتحموها بطاعة الله وفي الحديث إن اقتحامها للمؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء واختلف الناس في قوله * (فلا) * فقال جمهور المتأولين هو تحضيض بمعنى * (فالآ) * وقال آخرون وهو دعاء بمعنى انه ممن يستحق ان يدعى عليه بان لا يفعل خيرا وقيل هي نفي أي (فما اقتحم) وقال أبو عبيدة والزجاج وهذا نحو قوله تعالى * (فلا صدق ولا صلى) * القيامة 31 فهو نفي محض كأنه قال وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل فما فعل خيرا ثم عظم الله تعالى امر العقبة في النفوس بقوله * (وما أدراك ما العقبة) * ثم فسر اقتحام العقبة بقوله * (فك رقبة) * وذلك أن التقدير وما ادراك ما اقتحام العقبة هذا على قراءة من قرا (فك رقبة) بالرفع على المصدر واما من قرا (فك) على الفعل الماضي ونصب الرقبة فليس يحتاج ان يقدر * (وما أدراك) * ما اقتحام بل يكون التعظيم للعقبة نفسها ويجيء (فك) بدلا من * (اقتحم) * ومبينا
وقرا نافع وعاصم وابن عامر وحمزة (فك رقبة أو اطعام) وقرا أبو عمرو (فك رقبة) بالنصب (أو أطعم) وقرا بعض التابعين (فك رقبة) بالخفض وقرا ابن كثير وأبو عمرو أيضا والكسائي (فك رقبة) بالنصب (أو اطعام)
وترتيب هذه القراءات ووجوهها بينة وفك الرقبة معناه بالعتق من ربقة الأسر أو الرق وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (من أعتق نسمة مؤمنة اعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار)
وقال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم دلني على عمل انجو به فقال (لئن قصرت القول لقد عرضت المسألة فك رقبة وأعتق النسمة) فقال الأعرابي أليس هما واحدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا عتق النسمة ان تنفرد بعتقها وفك الرقبة ان تعين في ثمنها)
قال القاضي أبو محمد وكذلك فك الأسير إن شاء الله وفداؤه ان ينفرد الفادي به ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي (وأبق على ذي الرحم الظالم فإن لم تطق هذا كله فكف لسانك الا من خير) و (المسبغة) المجاعة
والساغب الجائع
وقرا جمهور الناس (ذي مسغبة) على نعت * (يوم) * وقرا علي بن أبي طالب والحسن وأبو رجاء (ذا مسغبة) على أن يعمل فيها (أطعم) أو (إطعام) على القراءتين المذكورتين وفي هذا حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لأن التقدير انسانا ذا مسغبة ووصفت الصفة لما قامت مقام موصوفها المحذوف وأشبهت الأسماء و (المسغبة) الجوع العام وقد
485

يقال في الخاص سغب الرجل إذا جاع
وقوله تعالى * (ذا مقربة) * معناه ذا مقربة لتجتمع الصدقة والصلة وهذا نحو ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة عبد الله بن مسعود (تصدقي على زوجك فهي صدقة لك وصلة) و * (أو) * في قوله * (أو مسكينا ذا متربة) * فيها معنى الإباحة ومعنى التخيير لأن الكلام يتضمن معنى الحض والأمر فيها أيضا معنى التفضيل المجرد لأن الكلام يجري مجرى الخبر الذي لا تكون * (أو) * فيه الا منفصلة واما معنى الشك أو الإبهام فلا مدخل لها في هذه الآية والإبهام نحو قوله تعالى * (وإنا أو إياكم) * سبأ 24 وقول أبي الأسود
(أحب محمدا حبا شديدا
* وعباسا وحمزة أوعليا) الوافر
" وذا متربة " معناه مذقعا قد لصق بالتراب وهذا مما ينحو إلى أن المسكين أشد فاقة من الفقير قال سفيان هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراب لا بيوت لهم
وقال ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إلى بيته مستيقنا انه ليس فيه الا التراب وقوله تعالى * (ثم كان) * معطوف على قوله * (اقتحم) * وتوجه فيه معاني * (فلا اقتحم) * المذكورة من النفي والتحضيض والدعاء ورجح أبو عمرو بن العلاء قراءته * (فك) * بقوله * (ثم كان) * ومعنى قوله * (ثم كان) * أي كان وقت اقتحامه العقبة * (من الذين آمنوا) * وليس المعنى انه يقتحم ثم يكون بعد ذلك لأن الاقتحام كان يقع من غير مؤمن وذلك غير نافع
وقوله تعالى * (وتواصوا بالصبر) * معناه على طاعة الله وبلائه وقضائه وعن الشهوات والمعاصي
و " بالرحمة " قال ابن عباس كل ما يؤدي إلى رحمة الله تعالى
وقال آخرون هو التراحم وعطف بعض من الناس على بعض وفي ذلك قوام الناس ولو لم يتراحموا جملة هلكوا و * (الميمنة) * مفعلة وهي فيما روي عن يمين العرش وهو موضع الجنة ومكان المرحومين من الناس و * (المشأمة) * الجانب الأشأم وهو الأيسر وفيه جهنم وهو طريق المعذبين يؤخذ بهم ذات الشمال وهذا مأخوذ من اليمن والشام للواقف بباب الكعبة متوجها إلى مطلع الشمس واليد الشؤمى هي اليسرى وذهب الزجاج وقوم إلى ذلك من اليمن والشؤم وقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم (موصدة) على وزن موعدة وكذلك في سورة الهمزة وقرا أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم (مؤصدة) بهمز الواو في السورتين ومعناهما جميعا مطبقة معلقة
يقال أوصدت وآصدت بمعنى أطبقت وأغلقت فهي (موصدة) دون همز من أوصدت وقد يحتمل ان يهمز من يراها من اوصدت من حيث قبل الواو حرف مضموم على
لغة من قرأ بالسوق ومنه قول الشاعر جرير
(أحب المؤقدان إلي مؤسى
*)
بالهمز فيهما و (مؤصدة) من آصدت ويحتمل ان تسهل الهمزة فتجيء موصدة من أصدت ومن اللفظة الوصيد
وقال الشاعر الأعشى
(قوما يعالج قملا أبناؤهم
* وسلاسلا حلقا وبابا موصدا) الكامل
486

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشمس
وهي مكية
قوله عز وجل
سورة الشمس 1 - 15
أقسم الله تعالى ب * (الشمس) * إما على التنبيه منها وإما على تقدير ورب الشمس و (الضحى) بضم الضاد والقصر ارتفاع الضوء وكماله وبهذا فسر مجاهد
وقال قتادة هو النهار كله وقال مقاتل * (ضحاها) * حرها كقوله تعالى في سورة (طه) * (ولا تضحى) * طه 119 و (الضحاء) بفتح الضاد والمد ما فوق ذلك إلى الزوال * (والقمر) * يتلو الشمس من أول الشهر إلى نصفه في الغروب تغرب هي ثم يغرب هو ويتلوها في النصف الآخر بنحو وآخر وهي ان تغرب هي فيطلع هو وقال الحسن بن أبي الحسن * (تلاها) * معناه تبعها دأبا في كل وقت لأنه يستضيء منها فهو يتلوها لذلك
قال القاضي أبو محمد فهذا اتباع لا يختص بنصف أول من الشهر ولا بآخره وقال الفراء أيضا وقال الزجاج وغيره * (تلاها) * معناه امتلأ واستدار فكان لها تابعا في المنزلة والضياء والقدر لأنه ليس في الكواكب شيء يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر قال قتادة وإنما ذلك ليلة البدر تغيب هي فيطلع هو
* (والنهار) * ظاهر هذه السورة والتي بعدها أنه من طلوع الشمس وكذلك قال الزجاج في كتاب (الأنواء) وغيره واليوم من طلوع الفجر ولا يختلف ان نهايتهما مغيب الشمس والضمير في * (جلاها) * يحتمل ان يعود على * (الشمس) * ويحتمل ان يعود على الأرض أو على الظلمة وإن كان لم يجر له ذكر فالمعنى يقتضيه قاله الزجاج
و (جلى) معناه كشف وضوى والفاعل بجلى على هذا التأويلات
487

* (النهار) * ويحتمل ان يكون الفاعل الله تعالى كأنه قال والنهار إذا جلى الله الشمس فأقسم بالنهار في أكمل حالاته ويغشى معناه يغطي والضمير للشمس على تجوز في المعنى أو للأرض وقوله تعالى * (وما بناها) * وكل ما بعده من نظائره في السورة ويحتمل ان يكون ما فيه بمعنى الذي قال أبو عبيدة أي ومن بناها وهو قول الحسن ومجاهد لأن " ما " تقع عامة لمن يعقل ولما لا يعقل فيجيء القسم بنفسه تعالى ويحتمل أن تكون " ما " في جميع ذلك مصدرية قاله قتادة والمبرد والزجاج كأنه قال والسماء وبنيانها و (طحا) بمعنى (دحا) و (طحا) أيضا في اللغة بمعنى ذهب كل مذهب ومنه قول علقمة بن عبدة
(طحا بك قلب في الحسان طروب
* بعيد الشباب عمر حان مشيب) الطويل
والنفس التي أقسم بها اسم الجنس وتسويتها اكمال عقلها ونظرها ولذلك ربط الكلام بقوله تعالى * (فألهمها) * الآية فالفاء تعطي ان التسوية هي هذا الالهام ومعنى قوله تعالى * (فجورها وتقواها) * أي عرفها طرق ذلك وجعل لها قوة يصح معها اكتساب الفجور أو اكتساب التقوى وجواب القسم في قوله * (قد أفلح) * التقدير لقد أفلح والفاعل ب (زكى) يحتمل ان يكون الله تعالى وقاله ابن عباس وغيره كأنه قال قد أفلحت الفرقة أو الطائفة التي زكاها الله تعالى و " من " تقع على جمع وإفراد ويحتمل ان يكون الفاعل ب (زكى) الانسان وعليه تقع " من " وقاله الحسن وغيره كأنه قال * (قد أفلح) * من زكى نفسه اي اكتسب الزكاء الذي قد خلقه الله و * (زكاها) * معناه طهرها ونماها بالخيرات و * (دساها) * معناه اخفاها وحقرها أي وصغر قدرها بالمعاصي والبخل بما يجب يقال دسا يدسو ودسى بشد السين يدسي وأصله دسس ومنه قول الشاعر
(ودسست عمرا في التراب فأصبحت
* حلائله يبكين للفقد ضعفا) الطويل
ويروى ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال (اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها) هذا الحديث يقوي ان المزكي هو الله تعالى وقال ثعلب معنى الآية * (وقد خاب من دساها) * في أهل الخير بالرياء وليس منهم في حقيقته ولما ذكر تعالى خيبة من دسى نفسه ذكر فرقة فعلت ذلك يعتبر بهم وينتهي عن مثل فعلهم و (الطغوى) مصدر وقرا الحسن وحماد بن سليمان (بطغواها) بضم الطاء مصدر كالعقبى والرجعي وقال ابن عباس (الطغوى) هنا
العذاب كذبوا به حتى نزل بهم ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى * (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية) * الحاقة 5 وقال جمهور المتأولين الباء سببية والمعنى كذبت ثمود بنبيها بسبب طغيانها وكفرها و * (انبعث) * عبارة عن خروجه إلى عقر الناقة بنشاط وحرص و * (أشقاها) * هو قد أربى سالف وهو أحد التسعة الرهط المفسدين ويحتمل ان يقع * (أشقاها) * على جماعة حاولت العقر ويروى انه لم يفعل فعله بالناقة حتى مالأه عليه جميع الحي فلذلك قال تعالى * (فعقروها) * لكونهم متفقين على ذلك ورسول الله صالح عليه السلام وقوله تعالى * (ناقة الله وسقياها) * نصب بفعل مضمر تقديره احفظوا أو ذروا أو احذروا على معنى احذروا الاخلال بحق ذلك وقد تقدم امر الناقة والسقيا في غير هذه السورة بما أغنى عن إعادتها وقدم تعالى التكذيب على العقر لأنه
488

كان سبب العقر ويروى انهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك وتابعوا صالحا مدة ثم كذبوا وعثروا والجمهور من المفسرين على أنهم كانوا على كفرهم و * (دمدم) * معناه أنزل العقاب مقلقا لهم مكررا ذلك وهي الدمدمة وفي بعض المصاحف (فدهدم) وهي قراءة ابن الزبير بالهاء بين الدالين وفي بعضهم (فدمر) وفي مصحف ابن مسعود (فدماها عليهم) وقوله تعالى * (بذنبهم) * أي بسبب ذنبهم وقوله تعالى * (فسواها) * معناه فسوى القبيلة في الهلاك لم ينج منهم أحد وقرا نافع وابن عامر والأعرج وأهل الحجاز وأبي بن كعب (فلا يخاف) بالفاء وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام وقرا الباقون (ولا) بالواو وكذلك في مصاحفهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (ولم يخف عقباها) والفاعل ب * (يخاف) * على قراءة من قرأ بالفاء يحتمل ان يكون الله تعالى والمعنى فلا درك على الله في فعله بهم لا يسأل عما يفعل وهذا قول ابن عباس والحسن وفي هذا المعنى احتقار للقوم وتعفية لأثرهم ويحتمل ان يكون صالحا عليه السلام أي لا يخاف عقبى هذه الفعلة بهم إذ كان قد انذرهم وحذرهم ومن قرأ (ولا يخاف) بالواو فيحتمل الوجهين اللذين ذكرنا ويحتمل ان يكون الفاعل ب * (يخاف) * * (أشقاها) * المنبعث قاله الزجاج وأبو علي وهو قول السدي والضحاك ومقاتل وتكون الواو واو الحال كأنه قال انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه والعقبى جزاء المسئ وخاتمته وما يجيء من الأمور بعقبه واختلف القراء في ألفات هذه السورة والتي بعدها ففتحها ابن كثير وعاصم وابن عامر وقرا الكسائي ذلك كله بالإضجاع وقرأ نافع ذلك كله بين الفتح والإمالة وقرا حمزة (ضحاها) مكسورة و (تليها وضحاها) مفتوحتين وكسر سائر ذلك واختلف عن أبي عمرو فمرة كسر الجميع ومرة كقراءة نافع قال الزجاج سمى الناس الإمالة كسرا وليس بكسر صحيح والخليل وأبو عمرو يقولان إمالة
انتهى
نجز تفسيرها والحمد لله كثيرا
489

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الليل
وهي مكية في قول الجمهور وقال المهدوي وقيل هي مدنية وقيل فيها مدني وعددها عشرون آية بإجماع
قوله عز وجل
سورة الليل 1 - 21
أقسم الله ب * (الليل إذا يغشى) * الأرض وجميع ما فيها وب * (النهار إذا تجلى) * أي ظهر وضوى الآفاق ومنه قول الشاعر
(تجلى السرى من وجهه عن صحيفة
* على السير مشراق كريم شجونها) الطويل
وقوله تعالى * (وما خلق الذكر والأنثى) * يحتمل أن تكون بمعنى الذي كما قالت العرب في سبحان ما سبح الرعد بحمده وقال أبو عمرو وأهل مكة يقولون للرعد سبحان ما سبحت له ويحتمل أن تكون " ما " مصدرية وهو مذهب الزجاج
وقرأ جمهور الصحابة (وما خلق الذكر) وقرا علي بن أبي طالب وابن عباس وعبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم وعلقمة وأصحاب عبد الله (والذكر والأنثى) وسقط عندهم * (وما خلق) *
وذكر ثعلب ان من السلف من قرا (وما خلق الذكر والأنثى) بخفض (الذكر) على البدل من " ما " على أن التقدير وما خلق الله وقراءة علي ومن ذكر تشهد لهذه وقال الحسن المراد هنا ب * (الذكر والأنثى) * آدم وحواء وقال غيره عام و (السعي) العمل
فأخبر تعالى مقسما ان أعمال العباد شتى أي مفترقة جدا بعضها في رضى الله وبعضها في سخطه ثم قسم تعالى الساعين فذكر ان من أعطى وظاهر ذلك إعطاء المال وهي أيضا تتناول إعطاء الحق في كل شيء قول وفعل وكذلك البخل المذكور بعد ان يكون بالايمان وغيره من الأقوال التي حق الشريعة ان لا يبخل
490

بها ويروى ان هذه الآية نزلت في أبي بكر وذلك أنه كان يعتق ضعفة العبيد الذين أسلموا وكان ينفق في رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله وكان الكفار بضد ذلك وهذا قول من قال السورة كلها مكية قال عبد الله بن أبي أوفى نزلت هذه السورة في أبي بكر الصديق وأبي سفيان بن حرب وقال مقاتل مر أبو بكر على أبي سفيان وهو يعذب بلالا فاشتراه منه وقال السدي نزلت هذه الآية بسبب أبي الدحداح الأنصاري وذلك أن نخلة لبعض المنافقين كانت مطلة على دار امرأة من المسلمين لها أيتام فكانت التمر تسقط عليهم فيأكلونه فمنعهم المنافق من ذلك واشتد عليهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (بعنيها بنخلة في الجنة) فقال لا أفعل فبلغ ذلك أبا الدحداح فذهب اليه واشترى منه النخلة بحائط له وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله انا أشترى النخلة في الجنة بهذه ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على الحائط الذي اعطى أبو الدحداح وقد تعلقت أقناؤه فيقول (وكم قنو معلق لأبي الدحداح في الجنة) وفي البخاري ان هذا اللفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله في الاقناء التي كان أبو الدحداح يعلقها في المسجد صدقة وهذا كله قول من يقول بعض السورة مدني
واختلف الناس في * (الحسنى) * ما هي في هذه السورة فقال أبو عبد الرحمن السلمي وغيره هي لا إله الا الله وقال ابن عباس وعكرمة وجماعة هي الخلف الذي وعد الله تعالى به وذلك نص في حديث الملكين إذ يقول أحدهما اللهم اعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا
وقال مجاهد والحسن وجماعة * (الحسنى) * الجنة
وقال كثير من المفسرين * (الحسنى) * الآجر والثواب مجملا
وقوله تعالى * (فسنيسره لليسرى) * ومعناه سيظهر تيسيرنا إياه يتدرج فيه من اعمال الخير وختم بتيسير قد كان في علم الله أولا و (اليسرى) الحال الحسنة المرضية في الدنيا والآخرة و (العسرى) الحال السيئة في الدنيا والآخرة ولا بد ومن جعل بخل في المال خاصة جعل استغنى في المال أيضا لتعظم المذمة ومن جعل البخل عاما في جميع ما ينبغي ان يبذل من قول وفعل قال استغنى عن الله ورحمته بزعمه ثم وقف تعالى على موضع غناء ماله عنه وقت ترديه وها يدل على أن الإعطاء والبخل المذكورين إنما هما ماله عنه وقت ترديه وهذا يدل على أن الاعطاء والبخل المذكورين إنما هما في المال واختلف الناس في معنى * (تردي) * فقال قتادة وأبو صالح معناه * (تردي) * في جهنم أي سقط من حافاتها وقال مجاهد * (تردي) * معناه هلك من الردى وقال قوم معناه * (تردي) * بأكفانه من الرداء ومنه قول مالك بن الربيب
(وخطا بأطراف الأسنة مضجعي
* وردا على عيني فضل ردائيا) الطويل
ومنه قوله الآخر
(نصيبك مما تجمع الدهر كله
* رداءان تلوى فيهما وحنوط) الطويل
ثم أخبر تعالى ان عليه هدى الناس جميعا أي تعريفهم بالسبل كلها ومنحهم الادراك كما قال تعالى * (وعلى الله قصد السبيل) * النحل 9 ثم كل أحد بعد يتكسب ما قدر له وليست هذه الهداية بالارشاد إلى الايمان ولو كان كذلك لم يوجد كافر
ثم أخبر تعالى ان (الآخرة والأولى) أي الدارين
491

وقوله تعالى * (فأنذرتكم) * إما مخاطبة منه وإما على معنى قل لهم يا محمد وقرا جمهور السبعة (تلظى) بتخفيف التاء وقرا البزي عن ابن كثير بشد التاء وإدغام الراء فيها
وقرأها كذلك عبيد بن عمير وروي أيضا عنه (تتلظى) بتاءين وكذلك قرا ابن الزبير وطلحة وقوله تعالى * (لا يصلاها إلا الأشقى) * أي * (لا يصلاها) * صلي خلود ومن هنا ضلت المرجئة لأنها اخذت نفي الصلي مطلقا في قليله وكثيره و * (الأشقى) * هنا للكافر بدليل قوله الذي كذب والعرب تجعل أفعل في موضع فاعل مبالغة كما قال طرفة
(تمنى رجال ان أموت وإن أمت
* فتلك سبيل لست فيها باوحد) الطويل
ولم يختلف أهل التأويل ان المراد ب * (الأتقى) * إلى آخر السورة أبو بكر الصديق ثم هي تتناول كل من دخل في هذه الصفات وقوله تعالى * (يتزكى) * معناه يتطهر ويتنمى وظاهر هذه الآية انه في المندوبات وقوله تعالى * (وما لأحد عنده) * الآية المعنى وليس إعطاؤه ليجزي نعما قد أزلت اليه بل هو مبتدىء ابتغاء وجه الله تعالى وروي في سبب هذا ان قريشا قالوا لما اعتق أبو بكر بلالا كانت لبلال عنده يد وذهب الطبري إلى أن المعنى وليس يعطي ليبث نعما يجزى بها يوما ما وينتظر ثوابها وحوم في هذا المعنى وحلق بتطويل غير مغن ويتجه المعنى الذي أراد بأيسر من قوله وذلك أن التقدير * (وما لأحد عنده) * اعطاء ليقع عليه من ذلك لأحد جزاء بل هو لمجرد ثواب الله تعالى وجزائه وقوله تعالى * (إلا ابتغاء) * نصب بالاستثناء المنقطع وفيه نظر والابتغاء الطلب ثم وعده تعالى بالرضى في الآخرة وهذه عدة لأبي بكر رضي الله عنه وقرا (يرضى) بضم الياء على بناء الفعل للمفعول وهذه الآية تشبه الرضى في قوله تعالى * (ارجعي إلى ربك راضية مرضية) * الفجر 31 الآية
انتهى
492

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الضحى
وهي مكية لا خلاف في ذلك بين الرواة
قوله عز وجل
سورة الضحى 1 - 11
تقدم تفسير * (الضحى) * بأنه سطوع الضوء وعظمه وقال قتادة * (الضحى) * هنا النهار كله و " سجى " معناه سكن واستقر ليلا تاما
وقال بعض المفسرين " سجى " معناه أقبل وقال آخرون معناه ادبر والأول أصح ومنه قول الشاعر الحارثي
(يا حبذا القمراء والليل الساج
* وطرق مثل ملاء النساج) الرجز
ويقال بحر ساج أي ساكن ومنه قول الأعشى
(وما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم
* وبحرك ساج لا يواري الدعامصا) الطويل
وطرف ساج إذا كان ساكنا غير مضطرب النظر وقرأ جمهور الناس (ودعك) بشد الدال من التوديع وقرا عروة بن الزبير وابنه هشام (ودعك) بتخفيف الدال من التوديع وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام (ودعك) بتخفيف الدال بمعنى ترك و * (قلي) * معناه أبغض
واختلف في سبب هذه الآية فقال ابن عباس وغيره أبطأ الوحي مرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة مدة اختلفت في حدها الروايات حتى شق ذلك عليه فجاءت امرأة من الكفار هي أم جميل امرأة أبي لهب فقالت يا محمد ما أرى شيطانك الا قد تركك فنزلت الآية بسبب ذلك
وقال ابن وهب عن رجال عن عروة بن الزبير ان خديجة قالت له ما أرى الله إلا قد خلاك لإفراط جزعك لبطء الوحي عنك فنزلت الآية بسبب ذلك وقال زيد بن أسلم إنما احتبس عنه جبريل لجرو كلب كان في بيته وقوله تعالى * (وللآخرة خير لك من الأولى) * يحتمل ان يريد الدارين الدنيا والآخرة وهذا تأويل ابن إسحاق وغيره ويحتمل ان يريد حالية في الدنيا قبل نزول السورة
493

وبعدها فوعده الله تعالى على هذا التأويل بالنصر والظهور وكذلك قوله تعالى * (ولسوف يعطيك ربك) * الآية قال جمهور الناس ذلك في الآخرة وقال بعضهم من أهل البيت هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى وأحد من أمته في النار وروي انه عليه السلام لما نزلت قال (إذا لا أرضى وأحد من أمتي في النار) وقال ابن عباس رضاه ان لا يدخل أحد من أهل بيته في النار وقال ابن عباس أيضا رضاه ان الله تعالى وعده بألف قصر في الجنة بما يحتاج اليه من النعم والخدم وقال بعض العلماء رضاه في الدنيا بفتح مكة وغيره وفي مصحف ابن مسعود (ولسيعطيك ربك فترضى) ثم وقفه تعالى على المراتب التي رجه عنها بإنعامه ويتمه كان فقد أبيه وكونه في كنف عمه أبي طالب وقيل لجعفر بن محمد الصادق لم يتم عليه السلام من أبويه فقال لئلا يكون عليه حق لمخلوق وقرا الأشهب العقيلي (فأوى) بالقصر بمعنى رحم تقول اويت لفلان أي رحمته وقوله تعالى * (ووجدك ضالا) * أي وجده إنعامه بالنبوة والرسالة على غير الطريقة التي هو عليها في نبوته وهذا قول الحسن والضحاك وفرقة والضلال يختلف فمنه القريب ومنه البعيد فالبعيد ضلال الكفار الذين يعبدون الأصنام ويحتجون لذلك ويعتبطون به وكان هذا الضلال الذي ذكره الله تعالى لنبيه عليه السلام أقرب ضلال وهو الكون واقفا لا يميز المهيع لا انه تمسك بطريق أحد بل كان يرتاد وينظر وقال السدي أقام على امر قومه أربعين سنة وقيل معنى * (وجدك ضالا) * اي تنسب إلى الضلال وقال الكلبي ووجدك في قوم ضلال فكأنك واحد منهم
قال القاضي أبو محمد ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعبد صنما قط ولكنه اكل ذبائحهم حسب حديث زيد بن عمرو في أسفل بارح وجرى على يسير من امرهم وهو مع ذلك ينظر خطأ ما هم فيه ودفع من عرفات وخالفهم في أشياء كثيرة وقال ابن عباس هو ضلاله وهو صغير في شعاب مكة ثم رده الله تعالى إلى جده عبد المطلب وقيل هو ضلاله من حليمة مرضعته وقال الترمذي وعبد العزيز بن يحيى * (ضالا) * معناه خامل الذكر لا يعرفك الناس فهداهم إليك ربك والصواب انه ضلال من توقف لا يدري كما قال عز وجل * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * الشورى 52 قال ثعلب قال أهل السنة هو تزويجه بنته في الجاهلية ونحوه والعائل الفقير وقرا اليماني (عيلا) بشد الياء المكسورة ومنه قول الشاعر أحيحة
(وما يدري الفقير متى غناه
* وما يدري الغني متى يعيل) الوافر
وأعال كثر عياله وعال افتقر ومنه قول الله تعالى * (وإن خفتم عيلة) * التوبة 28 وقوله تعالى * (فأغنى) * قال مقاتل معناه رضاك بما أعطاك من الرزق وقيل فقيرا اليه فأغناك به والجمهور على أنه فقر المال وغناه والمعنى في النبي صلى الله عليه وسلم أنه أغني بالقناعة والصبر وحببا اليه فقر الحال وغناه وقيل أغني بالكفاف لتصرفه في مال خديجة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قط كثير المال ورفعه الله عن ذلك وقال (ليسى الغنى عن كثرة العرض ولكنه غنى النفس)
وكما عدد الله عليه هذه النعم الثلاث وصاه بثلاث وصايا في كل نعمة وصية مناسبة لها فبإزاء قوله * (ألم يجدك يتيما فآوى) * قوله
494

* (فأما اليتيم فلا تقهر) * وبإزاء قوله * (ووجدك ضالا فهدى) * قوله * (وأما السائل فلا تنهر) * هذا عليه قول من قال إن (السائل) هنا هو السائل عن العلم والدين وليس بسائل المال وهو قول أبي الدرداء والحسن وغيره بإزاء قوله * (ووجدك عائلا فأغنى) * قوله * (وأما بنعمة ربك فحدث) *
ومن قال إن * (السائل) * هو سائل المحتاج وهو قول الفراء عن جماعة ومعنى * (فلا تنهر) * جعلها بإزاء قوله * (ووجدك عائلا فأغنى) * وجعل قوله * (وأما بنعمة ربك فحدث) * بإزاء قوله * (ووجدك ضالا فهدى) * وقال إبراهيم بن أدهم نعم القول السؤال يجملون زادنا إلى الآخرة * (فلا تنهر) * معناه فرد ردا جميلا
إما بعطاء وإما بقول حسن وفي مصحف ابن مسعود (ووجدك عديما فأغنى) وقرا ابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي (فأما اليتيم فلا تكهر) بالكاف قال الأخفش هي بمعنى القهر ومنه قول الأعرابي وقاكم الله سطوة القادر وملكة الكاهر وقال أبو حاتم لا أظنها بمعنى القهر لأنه قد قال الأعرابي الذي بال في المسجد فأكهرني النبي صلى الله عليه وسلم فإنها هي بمعنى الإشهار وأمره الله تعالى بالتحدث بالنعمة فقال مجاهد والكسائي معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به وقال آخرون بل هو عموم في جميع النعم وكان بعض الصالحين يقول لقد أعطاني الله كذا وكذا ولقد صليت البارحة كذا وذكرت الله كذا فقيل له إن مثلك لا يقول هذا فقال ان الله تعالى يقول * (وأما بنعمة ربك فحدث) * وأنتم تقولون لا تحدث وقال النبي صلى الله عليه وسلم (التحدث بالنعم شكر) ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أسديت اليه نعمة فذكرها فقد شكرها ومن سترها فقد كفرها) ونصب * (اليتيم) * ب * (تقهر) * والتقدير مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم
نجز تفسيرها والحمد لله كثيرا
495

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشرح
وهي مكية بإجماع من المفسرين لا خلاف بينهم في ذلك
قوله عز وجل
سورة الشرح 1 - 8
عدد الله على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه عليه في أن شرح صدره للنبوة وهيأه لها وذهب الجمهور إلى أن شرح الصدر المذكور هو تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحى اليه وقال ابن عباس وجماعة هذه إشارة إلى شرحه بشق جبريل عنه في وقت صغره وفي وقت الاسراء إذ التشريح شق اللحم
وقرا أبو جعفر المنصور (ألم نشرح) بنصب الحاء على نحو قول الشاعر طرفة
(أضرب عنك الهموم طارقها
* ضربك بالسيف قونس الفرس) المنسرح
ومثله في نوادر أبي زيد
(من أي يومي من الموت أفر
* أيوم لم يقدر أم يوم قدر) الرجز
كأنه قال (ألم نشرحن) ثم أبدل من النون ألفا ثم حذفها تخفيفا وهي قراءة مردودة و (الوزر) الذي وضعه الله عنه هو عند بعض المتأولين الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيرته قبل المبعث إذ كان يرى سوء ما قريش فيه من عبادة الأصنام
وكان لم يتجه له من الله تعالى امر واضح فوضع الله تعالى عنه ذلك الثقل بنبوته وإرساله
وقال أبو عبيدة وغيره المعنى خففنا عليك أثقال النبوة وأعناك على الناس وقال قتادة وابن زيد والحسن وجمهور من المفسرين الوزر هنا الذنوب وأصله الثقل فشبهت الذنوب به وهذه الآية نظير قوله تعالى * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * الفتح: 2 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية قبل النبوة وزره صحبة قومه وأكله من ذبائحهم ونحو هذا وقال الضحاك وفي كتاب النقاش حضوره مع قومه المشاهد التي لا يحبها الله تعالى
496

قال القاضي أبو محمد وهذه كلها ضمها المنشأ كشهوده حرب الفجار ينبل على أعماله وقلبه وفي ذلك كله منيب إلى الصواب وأما عبادة الأصنام فلم يلتبس بها قط وقرا انس بن مالك (وحططنا عنك وزرك) وفي حرف ابن مسعود (وحللنا عنك وقرك)
وفي حرف أبي (وحططنا عنك وقرك) وذكر أبو عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم صوب جميعها وقال المحاسبي إنما وصفت ذنوب الأنبياء بالثقل وهي صغائر مغفورة لهمهم بها وتحسرهم عليها و * (أنقض) * معناه جعله نقضا أي هزيلا معيبا من الثقل وقيل معناه أسمع له نقيضا وهو الصوت
وهو مثل نقيض السفن وكل ما حملته ثقلا فإنه ينتقض تحته وقال عباس بن مرداس
(وأنقض ظهري ما تطوقت مضهم
* وكنت عليهم مشفقا متحننا) الطويل
وقوله تعالى * (ورفعنا لك ذكرك) * معناه نوهنا باسمك وذهبنا به كل مذهب في الأرض وهذا ورسول الله بمكة وقال أبو سعيد الخدري والحسن ومجاهد وقتادة معنى قوله * (ورفعنا لك ذكرك) * أي قرنا اسمك باسمنا في الأذان والخطب
وروي في هذا الحديث إن الله تعالى قال إذا ذكرت معي
وهذا متجه إلى أن الآية نزلت بمكة قديما
والأذان شرع بالمدينة ورفع الذكر نعمة على الرسول وكذلك هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس وخمول الاسم والذكر حسن للمنفردين للعبادة وقد جعل الله تعالى النعم أقساما بحسب ما يصلح لشخص شخص وفي الحديث (إن الله تعالى يوقف عبدا يوم القيامة فيقول له ألم أفعل بك كذا وكذا يعدد عليه نعمه ويقول في جملتها ألم أحمل
ذكرك في الناس) والمعنى في هذا التعديد الذي على النبي صلى الله عليه وسلم أي يا محمد قد فعلنا بك جميع هذا فلا تكترث بأذى قريش فإن الذي فعل بك هذه النعم سيظفرك بهم وينصرك عليهم ثم قوى رجاءه بقوله * (فإن مع العسر يسرا) * أي ما تراه من الأذى فرج يأتي وكرر تعالى ذلك مبالغة وتثبيتا للخير فقال بعض الناس المعنى * (إن مع العسر يسرا) * في الدنيا وإن مع العسر يسرا في الآخرة وذهب كثير من العلماء إلى أن مع كل عسر يسرين بهذه الآية من حيث العسر معروف للعهد واليسر منكر فالأول غير الثاني وقد روي في هذا التأويل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لن يغلب عسر يسرين)
واما قول عمر به فنص في الموطأ في رسالته إلى أبي عبيدة بن الجراح
وقرأ عيسى ويحيى بن وثاب وأبو جعفر (العسر واليسر) بضمتين وقرا ابن مسعود * (فإن مع العسر يسرا) * واحدا غير مكرر ثم امر تعالى نبيه إذا فرغ من شغل من أشغال النبوة والعبادة ان ينصب في آخر والنصب التعب فالمعنى ان يرأب على ما امر به ولا يفتر وقال ابن عباس المعنى * (فإذا فرغت) * من فرضك * (فانصب) * في النفل عبادة لربك وقال ابن مسعود * (فانصب) * في قيام الليل وعن مجاهد، * (فإذا فرغت) * من شغل دنياك * (فانصب) * في عبادة ربك وقيل المعنى إذا فرغت من الركعات فاجلس في التشهد وانصب في الدعاء وقال ابن عباس وقتادة معنى الكلام * (فإذا فرغت) * من العبادة * (فانصب) * في الدعاء
وقال الحسن بن أبي الحسن المعنى * (فإذا فرغت) * من الجهاد * (فانصب) * في العبادة ويعترض هذا التأويل بان الجهاد فرض بالمدينة وقرا أبو السمال (فرغت) بكسر الراء وهي لغة وقرا قوم (فانصب) بشد الباء وفتحها ومعناه إذا
497

فرغت من الجهاد (فانصب) إلى المدينة ذكرها النقاش منبها على أنها خطأ وقرأ آخرون من الامامية (فانصب) بكسر الصاد بمعنى إذا فرغت من امر النبوة (فانصب) خليفة وهي قراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم ومر شريح على رجلين يصطرعان وقال ليس بهذا امر الفراغ تلا هذه الآية
وقوله تعالى * (وإلى ربك فارغب) * امر بالتوكل على الله تعالى وصرف وجه الرغبات اليه إلى سواه وقرأ أبن أبي عبلة (فرغب) بفتح الراء وشد الغين مكسورة
نجز تفسيرها والحمد لله على كل حال
498

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التين
قوله عز وجل
سورة التين 1 - 8
اختلف الناس في معنى * (التين والزيتون) * اللذين أقسم الله تعالى بهما فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم وعطاء وجابر بن زيد ومقاتل هو * (التين) * الذي يؤكل * (والزيتون) * الذي يعصر وأكل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه تينا اهدى اليه فقال (لو قلت إن فاكهة أنزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوا فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس) وقال عليه السلام (نعم السواك سواك الزيتون ومن الشجرة المباركة هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي) وقال كعب وعكرمة القسم بمنابتها وذلك أن * (التين) * ينبت بدمشق * (والزيتون) * ينبت بإيلياء فأقسم الله تعالى بالأرضين وقال قتادة هما جبلان بالشام على أحدهما دمشق وعلى الاخر بيت المقدس وقال ابن زيد * (التين) * مسجد دمشق * (والزيتون) * مسجد إلياء وقال ابن عباس وغيره * (التين) * مسجد نوح * (والزيتون) * مسجد إبراهيم وقيل * (والتين والزيتون وطور سينين) * ثلاثة مساجد بالشام وقال محمد بن كعب القرظي * (التين) * مسجد أصحاب الكهف * (والزيتون) * مسجد إيلياء واما * (طور سينين) * فلم يختلف انه جبل بالشام كلم الله عليه موسى ومنه نودي وفيه مسجد موسى فهو الطور واختلف في قوله * (سينين) * فقال مجاهد وعكرمة معناه حسن مبارك وقيل معناه ذو الشجر وقرا الجمهور بكسر السين (سينين) وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو رجاء بفتح السين وهي لغة بكر وتميم (سينين) وقرا عمر بن الخطاب وطلحة والحسن وابن مسعود (سيناء) بكسر السين وقرا أيضا عمر بن الخطاب (سيناء) بالفتح و * (البلد الأمين) * مكة بلا خلاف وقيل معنى * (سينين) * المبارك وقيل معنى * (سينين) * شجر واحدتها سينية قاله الأخفش سعيد بن مسعدة و (أمين) فعيل من الأمن بمعنى آمن أي امن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان والقسم واقع على قوله تعالى * (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) * ينبغي له ولا يدفع هذا ان يكون غيره من المخلوقات كالشمس وغيرها أحسن تقويما منه بالمناسبة وقال بعض العلماء بالعموم أي * (الإنسان) * أحسن المخلوقات تقويما ولم ير قوم الحنث على من حلف بالطلاق ان زوجته
499

أحسن من الشمس واحتجوا بهذه الآية واختلف الناس في تقويم الانسان ما هو فقال النخعي ومجاهد وقتادة حسن صورته وحواسه وقال بعضهم هو انتصاب قامته وقال أبو بكر بن طاهر في كتاب الثعلبي هو عقله وإدراكه اللذان زيناه بالتمييز وقال عكرمة هو الشباب والقوة والصواب ان جميع هذا هو حسن التقويم الا قول عكرمة إذ قوله يفضل فيه بعض الحيوان و * (الإنسان) * هنا اسم الجنس
وتقدير الكلام في تقويم * (أحسن تقويم) * لأن * (أحسن) * صفة لا بد ان تجري على موصوف واختلف الناس في معنى قوله تعالى * (ثم رددناه أسفل سافلين) * فقال عكرمة وقتادة والضحاك والنخعي معناه بالهرم وذهول العقل وتفلت الفكر حتى يصير لا يعلم شيئا أما ان المؤمن مرفوع عنه القلم والاستثناء على هذا منقطع وهذا قول حسن وليس المعنى ان كل إنسان يعتريه هذا بل في الجنس من يعتريه ذلك وهذه عبرة منصوبة وقرا ابن مسعود (السافلين) بالألف واللام ثم اخبر ان * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * وإن نال بعضهم هذا في الدنيا * (فلهم) * في الآخرة * (أجر غير ممنون) * وقال الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وأبو العالية المعنى * (رددناه أسفل سافلين) * في النار على كفره ثم استثنى * (الذين آمنوا) * استثناء منفصلا فهم على هذا ليس فيهم من يرد أسفل سافلين في النار على كفره وفي حديث
عن انس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفف الله تعالى حسابه فإذا بلغ ستين رزقه الإنابة فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء فإذا بلغ الثمانين كتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته فإذا بلغ تسعين غفرت ذنوبه وشفع في أهل بيته وكان أسير الله في أرضه فإذا بلغ مائة ولم يعمل شيئا كتب الله له ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة)
وفي حديث إن المؤمن إذا رد إلى أرذل العمر كتب الله له خير ما كان يعمله في قوته وذلك أجر غير ممنون
و * (ممنون) * معناه محسوب مصرد يمن عليهم قاله مجاهد وغيره وقال كثير من المفسرين معناه مقطوع من قولهم حبل منين أي ضعيف منقطع واختلف في المخاطب بقوله تعالى * (فما يكذبك بعد بالدين) * فقال قتادة والفراء والأخفش هو محمد عليه السلام قال الله له فماذا الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت ويحتمل ان يكون (الدين) على هذا التأويل جميع دينه وشرعه وقال جمهور من المتأولين المخاطب الإنسان الكافر أي ما الذي يجعلك كذابا بالدين تجعل له أندادا وتزعم ان لا بعث بعد هذه الدلائل وقال منصور قلت لمجاهد قوله تعالى * (فما يكذبك) * يريد به النبي صلى الله عليه وسلم قال معاذ الله يعني به الشاك ثم وقف تعالى جميع خلقه على أنه * (أحكم الحاكمين) * على جهة التقرير وروي عن قتادة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه السورة قال بلى وانا على ذلك من الشاهدين
500

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العلق
وهي مكية بإجماع
وهي أول ما نزل من كتاب الله تعالى نزل صدرها في غار حراء حسبما ثبت في صحيح البخاري وغيره وروي من طريق جابر بن عبد الله أن أول ما نزل * (يا أيها المدثر) * المدثر 1 وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل أول ما نزل فاتحة الكتاب والقول الأول أصح والترتيب في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك
قوله عز وجل
سورة العلق 1 - 19
في صحيح البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها قال أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب اليه التحنث في غار حراء فكان يخلو فيه فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ثم ينصرف حتى جاءه الملك وهو في غار حراء فقال له * (اقرأ) * فقال ما انا بقارئ قال فأخذني فغطني ثم كذلك ثلاث مرات فقال له في الثالثة * (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق) * إلى قوله * (ما لم يعلم) * قال فرجع بها رسول ترجف بوادره الحديث بطوله ومعنى هذه الآية * (اقرأ) * هذا القرآن * (باسم ربك) * أي ابدأ فعلك بذكر اسم ربك كما قال * (اركبوا فيها بسم الله) * هود 41 هذا وجه
ووجه آخر في كتاب الثعلبي ان المعنى * (اقرأ) * في أول كل سورة وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم ووجه آخر ان يكون المقروء الذي امر بقراءته هو * (باسم ربك الذي خلق) * كأنه قال له * (اقرأ) * هذا اللفظ ولما ذكر الرب وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أربابا جاءه بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها وهي قوله تعالى * (الذي خلق) * ثم مثل لهم من المخلوقات ما لا مدافعة فيه وما يجده كل مفطور في نفسه فقال * (خلق الإنسان من علق) *
501

وخلقه الانسان من أعظم العبر حتى أنه ليس في المخلوقات التي لدينا أكثر عبرا منه في عقله وإدراكه ورباطات بدنه وعظامه والعلق جمع علقة وهي القطعة اليسيرة من الدم و * (الإنسان) * هنا اسم الجنس ويمشي الذهن معه إلى جميع الحيوان وليست الإشارة إلى آدم لأنه مخلوق من طين ولم يكن ذلك متقررا عند الكفار المخاطبين بهذه الآية فلذلك ترك أصل الخلقة وسيق لهم الفرع الذي هم به مقرون تقريبا لأفهامهم ثم قال تعالى * (اقرأ وربك الأكرم) * على جهة التانيس كأنه يقول امض لما أمرت به وربك ليس كهذه الأرباب بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص فهو ينصرك ويظهرك ثم عدد تعالى نعمة الكتاب * (بالقلم) * على الناس وهي موضع عبرة وأعظم منفعة في المخاطبات وتخليد المعارف وقوله تعالى * (علم الإنسان ما لم يعلم) * قيل المراد محمد عليه السلام وقيل اسم الجنس وهو الأظهر وعدد نعمته اكتساب المعارف بعد جهله بها وقوله تعالى * (كلا إن الإنسان ليطغى) * الآية نزلت بعد مدة من شان أبي جهل بن هشام وذلك أنه طغى لغناه ولكثرة من يغشى ناديه من الناس فناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة ونهاه عن الصلاة في المسجد ويروى أنه قال لئن رأيت محمدا يسجد عن الكعبة لأطأن على عنقه فيروى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه القول وانتهره وتوعده فقال أبو جهل أيتوعدني وما والي بالوادي أعظم نديا مني ويروى أيضا انه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فهم بأن يصل اليه ويمنعه من الصلاة ثم كع عنه وانصرف فقيل له ما هذا فقال لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة ويروى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لو دنا مني لأخذته الملائكة عيانا) فهذه السورة من قوله * (كلا) * إلى آخرها نزلت في أبي جهل و * (كلا) * هي رد على أقوال أبي جهل وأفعاله ويتجه أن تكون بمعنى حقا فهي تثبيت لما بعدها من القول والطغيان تجاوز الحدود الجميلة والغني مطغ الا من عصم الله والضمير في * (راه) * للإنسان المذكور كأنه قال أن رأى نفسه غنيا وهي رؤية قلب تقرب من العلم ولذلك جاز ان يعمل فعل الفاعل في نفسه كما تقول وجدتني وظننتني ولا يجوز ان تقول ضربتني وقرا الجمهور (ان رآه) بالمد على وزن رعاه واختلفوا في الإمالة وتركها وقرا ابن كثير من طريق قنبل (ان رآه) على وزن رعه على حذف لام الفعل وذلك تخفيف ثم حقر غنى هذا الانسان وما له بقوله * (إن إلى ربك الرجعى) * أي الحشر والبعث يوم القيامة و * (الرجعى) * مصدر كالرجوع وهو على وزن العقبى ونحوه وفي هذا الخبر
وعيد للطاغين من الناس ثم صرح بذكر الناهي لمحمد عليه السلام ولم يختلف أحد من المفسرين في أن الناهي أبو جهل وان العبد المصلى محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى * (أرأيت) * توقيف وهو فعل لا يتعدى إلى مفعولين على حد الروية من العلم بل يقتصر به وقوله تعالى * (ألم يعلم بأن الله يرى) * إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوقيفات الثلاث يصلح مع كل واحد منهما فجاء بها في نسق ثم جاء بالوعيد الكافي لجميعها اختصارا واقتضابا ومع كل تقرير من الثلاثة تكملة مقدرة تتسع العبارات فيها وقوله * (ألم يعلم) * دال عليها مغن وقوله تعالى * (إن كان) * يعني العبد المصلي وقوله * (إن كذب وتولى) * يعني الإنسان الذي ينهى ونسب الرؤية إلى الله تعالى بمعنى يدرك اعمال الجميع بإدراك سماه رؤية والله منزه عن الجارحة وغير ذلك من المماثلات المحدثات ثم توعد تعالى
502

إن لم ينته بان يؤخذ بناصيته فيجر إلى جهنم ذليلا تقول العرب سفعت بيدي ناصية الفرس والرجل إذا جذبتها مذللا له قال عمرو بن معد يكرب
(قوم إذا سمعوا الصياح رأيتهم
* ما بين ملجم مهره أو سافع) الكامل
فالآية على نحو قوله * (فيؤخذ بالنواصي والأقدام) * الرحمن 41 وقال بعض العلماء بالتفسير * (لنسفعا) * معناه لنحرقن من قولهم سفعته النار إذا أحرقته واكتفى بذكر الناصية لدلالتها على الوجه وجاء * (لنسفعا) * في خط المصحف بألف بدل النون وقرا أبو عمرو في رواية هارون (لنسفعن) مثقلة النون وفي مصحف ابن مسعود (لأسفعن بالناصية ناصية كاذبة فاجرة) وقرا أبو حيوة (ناصية كاذبة خاطئة) بالنصب في الثلاثة وروي عن الكسائي انه قرا بالرفع فيها كلها والناصية مقدم شعر الرأس ثم أبدل النكرة من المعرفة في قوله * (ناصية كاذبة) * ووصفها بالكذب والخطأ من حيث صفة لصاحبها كما تقول يد سارقة وقوله * (فليدع ناديه) * إشارة إلى قول أبي جهل وما بالوادي أكثر ناديا مني والنادي والندى المجلس ومنه دار الندوة ومنه قول زهير
(وفيهم مقامات حسان وجوههم
* وأندية ينتابها القول والفعل) الكامل
ومنه قول الأعرابية سيد ناديه وثمال عافية و * (الزبانية) * ملائكة العذاب واحدهم زبنية وقال الكسائي زبني وقال عيسى بن عمر والأخفش زابن وهم الذين يدفعون الناس في النار والزبن الدفع ومنه حرب زبون أي تدفع الناس عن نفسها ومنه قول الشاعر
(ومستعجب مما يرى من أناتنا
* ولو زبنته الحرب لم يترمرم) الطويل
ومنه قول عتبة بن أبي سفيان وقد زبنتنا الحرب وزبناها فنحن بنوها وهي امنا ومنه قول الشاعر
(عدتني عن زيارتك الأعادي
* وحالت بيننا حرب زبون) الوافر
وحذف الواو من * (سندع) * في خط المصحف اختصارا وتخفيفا والمعنى * (سندع الزبانية) * لعذاب هذا الذي يدعو ناديه وقرا ابن مسعود (فليدع إلى ناديه) ثم قال تعالى لمحمد عليه السلام * (كلا) * ردا على قول هذا الكافر وأفعاله * (لا تطعه) * أي لا تلتفت إلى نهيه وكلامه واسجد لربك واقترب اليه بسجودك وبالطاعة والأعمال الصالحة وفي الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد فأكثروا من الدعاء في السجود فقمين ان يستجاب لكم)
وقال مجاهد ثم قال ألم تسمعوا * (واسجد واقترب) * وروي ابن وهب عن جماعة من أهل العلم ان قوله تعالى * (واسجد) * خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وان * (اقترب) * خطاب لأبي جهل أي إن كنت تجترىء حتى ترى كيف تهلك وهذه السورة فيها سجدة عند جماعة من أهل العلم منهم في مذهب مالك ابن وهب
503

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القدر
اختلف الناس في موضع نزول هذه السورة فقال قتادة هي مكية وقال ابن عباس وغيره هي مدنية
قوله عز وجل
سورة القدر 1 - 5
الضمير في * (أنزلناه) * للقرآن وإن لم يتقدم ذكره لدلالة المعنى عليه فقال ابن عباس وغيره أنزله الله تعالى * (ليلة القدر) * إلى السماء الدنيا جملة ثم نجمه على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة وقال الشعبي وغيره * (إنا) * ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك * (في ليلة القدر) * وقد روى أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان فيستقيم هذا التأويل وقد روي أنه قد نزل في الرابع عشر من رمضان فلا يستقيم هذا التأويل الا على قول من يقول إن ليلة القدر تستدير الشهر كله ولا تختص بالعشر الأواخر وهو قول ضعيف حديث النبي صلى الله عليه وسلم يرده في قوله (فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان) وقال جماعة من المتأولين معنى قوله * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * إنا أنزلنا هذه السورة في شان ليلة القدر وفي فضلها
وإذا كانت السورة من القرآن جاء الضمير للقرآن تفخيما وتحسينا فقوله تعالى * (في ليلة) * هو قول عمر بن الخطاب لقد خشيت ان ينزل في قرآن ليلة نزول سورة الفتح ونحو قول عائشة في حديث الإفك لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن و * (ليلة القدر) * هي ليلة خصها الله تعالى بفضل عظيم وجعلها أفضل * (من ألف
شهر) * لا ليلة قدر فيها قاله مجاهد وغيره وخصت هذه الأمة بهذه الفضيلة لما رأى محمد عليه السلام اعمال أمته فتقاصرها وقوله تعالى * (وما أدراك ما ليلة القدر) * ليلة القدر عبارة عن تفخيم لها ثم أداره تعالى بعد قوله * (ليلة القدر خير) * قال ابن عيينة في صحيح البخاري ما كان في القرآن * (وما أدراك) * فقد اعلمه وما قال (وما يدريك) فإنه لم يعلم وذكر ابن عباس وقتادة وغيره انها سميت ليلة القدر لأن الله تعالى يقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله وقد روي مثل هذا في ليلة النصف من شعبان ولهذا ظواهر من كتاب الله عز وجل على نحو قوله تعالى * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * الدخان 4 واما
504

الصحة المقطوع بها فغير موجودة وقال الزهري معناه ليلة القدر العظيم والشرف الشأن من قولك رجل له قدر وقال أبو بكر الوراق سميت ليلة القدر لأنها تكسب من أحياها قدرا عظيما لم يكن من قبل وترده عظيما عند الله تعالى وقيل سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر خطير وليلة القدر مستديرة في أوتار العشر الأواخر من رمضان هذا هو الصحيح المعول عليه وهي في الأوتار بحسب الكمال والنقصان في الشهر فينبغي لمرتقبها ان يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى آخر الشهر لأن الأوتار مع كمال الشهر ليست الأوتار مع نقصانه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الثالثة تبقى لخامسة تبقى لسابعة تبقى) وقال (التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة) وقال مالك يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين وقال ابن حبيب يريد مالك إذا كان الشهر ناقصا فظاهر هذا انه عليه السلام احتاط في كمال شهر ونقصانه وهذا لا تتحصل معه الليلة الا بعمارة العشر كله وروي عن أبي حنيفة وقوم ان ليلة القدر رفعت وهذا قول مردود وإنما رفع تعيينها وقال ابن مسعود من يقم السنة كلها يصبها وقال أبو رزين هي أول ليلة من شهر رمضان وقال الحسن هي ليلة سبع عشرة وهي التي كانت في صبيحتها وقعة بدر وقال كثير من العلماء هي ليلة ثلاث وعشرين وهي رواية عبد الله بن أنيس الجهني وقاله ابن عباس وقال أيضا هو وجماعة من الصحابة هي ليلة سبع وعشرين واستدل ابن عباس على قوله بان الإنسان خلق من سبع وجعل رزقه في سبع واستحسن ذلك عمر رضي الله عنه وقال زيد بن ثابت وبلال هي ليلة أربع وعشرين وقال بعض العلماء اخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها ثم عظم تعالى امر ليلة القدر على نحو قوله * (وما أدراك ما الحاقة) * الحاقة 2 وغير ذلك ثم أخبر أنها أفضل لمن عمل فيها عملا * (من ألف شهر) * وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام وثلث عام
وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال حين عوتب في تسليمه الأمر لمعاوية إن الله تعالى أرى نبيه في المنام بني أمية ينزون على منبرة نزو القردة فاهتم لذلك فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من مدة ملك بني أمية واعلمه انهم يملكون الناس هذا القدر من الزمان
قال القاضي أبو محمد ثم كشف الغيب أن كان من سنة الجماعة إلى قتل مروان الجعدي هذا القدر من الزمان بعينه مع أن القول يعارضه انه قد ملك بنو أمية في غرب الأرض مدة غير هذه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)
و * (الروح) * هو جبريل وقيل هم صنف حفظة الملائكة وقوله تعالى * (بإذن ربهم من كل أمر) * اختلف الناس في معناه فمن قال إن في هذه الليلة تقدر الأمور للملائكة قال إن هذا التنزل لذلك و " من " لابتداء الغاية أي نزولهم من اجل هذه الأمور المقدرة وسببها ويجيء * (سلام) * خبرا بنداء مستأنفا أي سلام هذه الليلة إلى أول يومها وهذا قول نافع المقرئ والفراء وأبي العالية وقال بعضهم " من " بمعنى الباء أي بكل امر ومن لم يقل بقدر الأمور في تلك الليلة قال معنى الآية * (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم) * بالرحمة والغفران والفواضل ثم جعل قوله * (من كل أمر) * متعلقا بقوله * (سلام هي) * أي من كل امر مخوف ينبغي ان يسلم منه فهي سلام وقال مجاهد لا يصيب أحدا فيها داء
وقال الشعبي ومنصور * (سلام) * بمعنى
505

التحية أي تسلم الملائكة على المؤمنين وقرا ابن عباس وعكرمة والكلبي (من كل امرئ) أي يسلم فيها من كل امرئ سوء فهذا على أن سلاما بمعنى سلامة وروي عنه ان سلاما بمعنى تحية (وكل امرئ) يراد بهم الملائكة أي من كل ملك تحية على المؤمنين وهذا للعاملين فيها بالعبادة
وذهب من يقول بانتهاء الكلام في قوله * (سلام) * إلى أن قوله * (هي) * إنما هذا إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر إذ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات السورة وذكر هذا الغرض ابن بكير وأبو بكر الوراق والنقاش عن ابن عباس وقرا جمهور السبعة (حتى مطلع الفجر) بفتح اللام وقرا الكسائي والأعمش وأبو رجاء وابن محيصن وطلحة (حتى مطلع) بكسر اللام فقيل هما بمعنى مصدران في لغة بني تميم وقيل الفتح المصدر والكسر موضع الطلوع عند أهل الحجاز والقراءة بالفتح أوجه على هذا القول والأخرى تتخرج على تجوز كان الوقت ينحصر في ذلك الموضع ويتم فيه ويتجه الكسر على وجه آخر وهو انه قد شذ من هذه المصادر ما كسر كالمعجزة وقولهم علاه المكبر بفتح الميم وكسر الباء ومنه المحيض فيجري المطلع مصدرا مجرى ما شذ وفي حرف أبي بن كعب رضي الله عنه (سلام هي إلى مطلع الفجر)
506

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البينة
وهي مكية في قول جمهور المفسرين وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار انها مدنية والأول أشهر
قوله عز وجل
سورة البينة 1 - 5
وفي حرف أبي بن كعب (ما كان الذين) وفي حرف ابن مسعود (لم يكن المشركين وأهل الكتاب منفكين)
وقوله تعالى * (منفكين) * معناه منفصلين متفرقين تقول انفك الشيء عن الشيء إذا انفصل عنه وما انفك التي هي من أخوات كان لا مدخل بها في هذه الآية ونفى في هذه الآية أن تكون هذه الصنيعة منفكة واختلف الناس عماذا فقال مجاهد وغيره لم يكونوا * (منفكين) * عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة وأوقع المستقبل موضع الماضي في * (تأتيهم) * لأن باقيى الآية وعظمها لم يرده بعد وقال الفراء وغيره لم يكونوا * (منفكين) * عن معرفة صحة نبوة محمد عليه السلام والتوكف لأمره حتى جاءتهم البينة تفرقوا عند ذلك وذهب بعض النحويين إلى هذا النفي المتقدم مع * (منفكين) * يجعلها تلك التي هي مع كان ويرى التقدير في خبرها عارفين امر محمد أو نحو هذا ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم * (منفكين) * من امر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث إليهم رسولا منذرا تقوم عليهم به الحجة وتتم على من آمن النعمة فكأنه قال ما كانوا ليتركوا سدى وبهذا المعنى نظائر في كتاب الله تعالى وقرا بعض الناس (والمشركون) بالرفع وقرا الجمهور (والمشركين) بالخفض ومعناهما بين و * (البينة) * معناه القصة البينة والجلية والمراد محمد عليه السلام وقرا الجمهور (رسول الله) بالرفع وقرأ أبي (رسولا) بالنصب على الحال والصحف المطهرة القرآن في صحفه قاله الضحاك وقتادة وقال الحسن الصحف المطهرة في السماء وقوله عز وجل * (فيها كتب قيمة) * فيه حذف مضاف تقديره فيها احكام كتب وقيمة معناه قائمة معتدلة آخذة للناس
507

بالعدل وهو بناء مبالغة فإلى * (قيمة) * هو ذكر من أمن من الطائفتين ثم ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من بني إسرائيل من أنهم لم يتفرقوا في امر محمد الا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة وكانوا من قبل مصفقين على نبوته وصفته فلما جاء من العرب حسدوه وقرا جمهور الناس (مخلصين) بكسر اللام وقرا الحسن بن أبي الحسن (مخلصين) بفتح اللام وكأن * (الدين) * على هذه القراءة منصوب ب * (بعد) * أو بمعنى يدل عليه على أنه كالظرف أو الحال وفي هذا نظر وقيل لعيسى عليه السلام من المخلص لله قال الذي يعمل العمل لله ولا يحب ان يحمده الناس عليه و * (حنفاء) * جمع حنيف وهو المستقيم المائل إلى طرق الخير قال ابن جبير لا تسمى العرب حنيفا الا من حج واختتن وقال ابن عباس * (حنفاء) * حجاجا مسلمين و * (حنفاء) * نصب على الحال وكون * (الصلاة) * مع * (الزكاة) * في هذه الآية مع ذكر بني إسرائيل فيها يقوي من قول السورة مدنية لأن * (الزكاة) * فرضت بالمدينة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفع لمناقضة أهل الكتاب بالمدينة وقرأ الجمهور (وذلك دين القيمة) على معنى الجماعة القيمة أو الفرقة القيمة وقال محمد بن الأشعث الطالقاني هنا الكتب التي جرى ذكرها وقرا بعض الناس (وذلك الدين القيمة) فالهاء في (القيمة) على هذه القراءة كعلامة ونسابة ويتجه ذلك أيضا على أن يجعل * (الدين) * بمنزلة الملة
قوله عز وجل
سورة البينة 6 - 8
حكم الله في هذه الآية بتخليد الكافرين من * (أهل الكتاب والمشركين) * وهم عبدة الأوثان في النار وبأنهم * (شر البرية) * و * (البرية) * جميع الخلق لأن الله تعالى برأهم أو اوجدهم بعد العدم وقرا نافع وابن عامر والأعرج (البريئة) بالهمز من برأ وقرا الباقون والجمهور (البرية) بشد الياء بغير همز على التسهيل والقياس الهمز إلا أن هذا مما ترك همزة كالنبي والذرية وقرا بعض النحويين (البرية) مأخوذ من البراء وهو التراب وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ وغلطا وهو اشتقاق غير مرضي و * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * شروط جميع أمة محمد ومن آمن بنبيه من الأمم الماضية وقرأ بعض الناس (خير)
وقرا بعض قراء مكة (خيار) بالألف وروي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قرأ هذه الآية (أولئك هم خير البريئة)
ثم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه (أنت يا علي وشيعتك من خير البرية) ذكره الطبري وفي الحديث ان رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم (يا خير البرية) فقال له ذلك إبراهيم عليه السلام وقوله تعالى * (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار) * فيه حذف مضاف تقديره سكنى
508

* (جنات عدن) * أو دخول * (جنات عدن) * والعدن الإقامة والدوام عدن بالموضع أقام فيه ومنه المعدن لأنه رأس ثابت وقال ابن مسعود * (جنات عدن) * بطنان الجنة أي سوطها وقوله * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) * قيل ذلك في الدنيا فرضاه عنهم هو ما أظهره عليهم من امارات رحمته وغفرانه ورضاهم عنه هو رضاهم بجميع ما قسم لهم من جميع الأرزاق والأقدار
قال بعض الصالحين رضي العباد عن الله رضاهم بما يرد من احكامه ورضاه عنهم ان يوفقهم للرضي عنه وقال أبو بكر بن طاهر الرضي عن الله خروج الكراهية عن القلب حتى لا يكون الا فرح وسرور وقال السري السقطي إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تطلب منه الرضا عنك وقيل ذلك في الآخرة فرضاهم عنه رضاهم بما من به عليهم من النعم ورضاهم عنه هو ما روي أن الله تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم بما أعطيتكم فيقولون نعم ربنا وكيف لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول انا أعطيكم أفضل من كل ما أعطيتكم رضواني فلا أسخط عليكم ابدا وخص الله بالذكر أهل الخشية لأنها رأس كل بركة الناهية عن المعاصي الامرة بالمعروف
509

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزلزلة
وهي مكية قاله ابن عباس وغيره
وقال قتادة ومقاتل هي مدنية لأن آخرها نزل بسبب رجلين كانا بالمدينة
قوله عز وجل
سورة الزلزلة 1 - 8
العامل في * (إذا) * على قول جمهور النحاة وهو الذي يقتضيه القياس فعل مضمر يقتضيه المعنى وتقديره تحشرون أو تجازون ونحو هذا ويمتنع ان يعمل فيه * (زلزلت) * لأن * (إذا) * مضافة إلى * (زلزلت) * ومعنى الشرط فيها ضعيف وقال بعض النحويين يجوز ان يعمل فيها * (زلزلت) * لأن معنى الشرط لا يفارقها وقد تقدمت نظائرها في غير سورة و * (زلزلت) * معناه حركت بعنف ومنه الزلزال وقوله تعالى * (زلزالها) * أبلغ من قوله زلزال دون إضافة إليها وذلك أن المصدر غير مضاف يقع على كل قدر من الزلزال وإن قل وإذا أضيفت إليها وجب ان يكون على قدر ما يستحقه ويستوجبه جرمها وعظمها وهكذا كما تقول أكرمت زيدا كرامة فذلك يقع على كل كرامة وإن قلت بحسب زيد فإذا قلت كرامته أوجبت أنك قد وفيت حقه وقرا الجمهور (زلزالها) بكسر الزاي الأولى وقرا بفتحها عاصم الجحدري وهو أيضا مصدر كالوسواس وغيره
و (الأثقال) الموتى الذين في بطنها قاله ابن عباس وهذه إشارة إلى البعث وقال قوم من المفسرين منهم منذر بن سعيد الزجاج والنقاش أخرجت موتاها وكنوزها
قال القاضي أبو محمد وليست القيامة موطنا لإخراج الكنوز وإنما تخرج كنوزها وقت الدجال
و (قول الانسان ما لها) هو قول على معنى التعجب من هول ما يرى قال جمهور المفسرين * (الإنسان) * هنا يراد به الكافر وهذا متمكن لأنه يرى ما لم يظن به قط ولا صدقة وقال بعض المتأولين هو عام في المؤمن والكافر فالكافر على ما قدمناه والمؤمن وان كان قد آمن بالبعث فإنه استهول المرآى وقد قال صلى الله عليه وسلم (ليس الخبر كالمعاينة)
و (أخبار الأرض) قال ابن مسعود والثوري وغيره هو
510

شهادتهما بما عمل عليها من عمل صالح أو فاسد فالحديث على هذا حقيقة والكلام بادراك وحياة يخلقها الله تعالى وأضاف الأخبار إليها من حيث وعتها وحصلتها وانتزع بعض العلماء من قوله تعالى * (تحدث أخبارها) * ان قول المحدث حدثنا وأخبرنا سواء وقال الطبري وقوم التحديث في الآية مجاز والمعنى ان ما تفعله بأمر الله من إخراج أثقالها وتفتت أجزائها وسائر أحوالها هو بمنزلة التحديث بأنبائها واخبارها ويؤيد القول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم (فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا انس ولا شيء الا شهد له يوم القيامة) وقرا عبد الله بن مسعود (تنبىء اخبارها) وقرا سعيد بن جبير (تبين) وقوله تعالى * (بأن ربك أوحى لها) * الباء باء السبب وقال ابن عباس وابن زيد والقرظي المعنى * (أوحى لها) * وهذا الوحي على هذا التأويل يحتمل ان يكون وحي إلهام ويحتمل ان يكون وحيا برسول من الملائكة وقد قال الشاعر
(أوحى لها القرار فاستقرت
* وشدها بالراسيات الثبت)
والوحي في كلام العرب إلقاء المعنى القاء خفيا وقال بعض المتأولين * (أوحى لها) * معناه * (أوحي) * إلى ملائكته المصرفين ان تفعل في الأرض تلك الأفعال وقوله تعالى * (لها) * بمعنى من اجلها ومن حيث الأفعال فيها فهي لها وقوله تعالى * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا) * بمعنى يتصرفون موضع وردهم مختلفي الأحوال وواحد الأشتات شت فقال جمهور الناس الورد هو الكون في الأرض بالموت والدفن والصدر هو القيام للبعث و * (أشتاتا) * معناه قوم مؤمنون وقوم كافرون وقوم عصاة مؤمنون والكل سائر إلى العرض ليرى عمله ويقف عليه وقال النقاش الورد هو ورد المحشر والصدر * (أشتاتا) * هو صدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار وقوله تعالى * (ليروا أعمالهم) * إما ان يكون معناه جزاء اعمالهم يراه أهل الجنة من نعيم وأهل النار بالعذاب وإما ان يكون قوله تعالى * (ليروا أعمالهم) * متعلقا بقوله * (بأن ربك أوحى لها) * ويكون قوله * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا) * اعتراضا بين أثناء الكلام وقرأ جمهور الناس (ليروا) بضم الياء على بناء الفاعل للمفعول وقرا الحسن والأعرج وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة (ليروا) بفتح الياء على بنائه للفاعل ثم اخبر تعالى أنه من عمل عملا رآه قليلا كان أو كثيرا فخرجت العبارة عن ذلك بمثال التقليل وهذا هو الذي يسميه أهل الكلام مفهوم الخطاب وهو ان يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد ومنه قوله تعالى * (فلا تقل لهما أف) * الإسراء: 23 وهذا كثير وقال ابن عباس وبعض المفسرين رؤية هذه الأعمال هي في الآخرة وذلك لازم من لفظ السورة وسردها فيرى الخير كله من كان مؤمنا والكافر لا يرى في الآخرة خيرا لأن خيره قد عجل له في الدنيا وكذلك المؤمن أيضا تعجل له سيئاته الصغار في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها فيجيء من مجموع هذا أن من عمل من المؤمنين * (مثقال ذرة) * من خير أو شر رآه ويخرج من ذلك أن لا يرى الكافر خيرا في الآخرة
ومنه حديث عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله أرأيت ما كان عبد الله بن جدعان يفعله من البر وصلة الرحم وإطعام الطعام أله في ذلك أجر قال (لا لأنه لم يقل قط رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الآية الجامعة الفادة وقد نص على ذلك حين سئل عن الحمر الحديث وأعطي
511

سعد بن أبي وقاص سائلا ثمرتين فقبض السائل يده فقال له سعد ما هذا ان الله تعالى قبل منا مثاقيل الذر وفعلت نحو هذا عائشة في حبة عنب وسمع هذه الآية صعصعة بن عقال التيمي عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال حسبي لا أبالي ان لا أسمع غيرها وسمعها رجل عند الحسن فقال انتهت الموعظة فقال الحسن فقه الرجل وقرا هشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم (يره) بسكون الهاء في الأولى والأخيرة وقرا ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي ونافع فيما روى عنه ورش والحلواني عن قالون عنه في الأولى (ير هو) واما الآخرة فإنه سكون وقف واما من أسكن الأولى فهي على لغة من يخفف أمثال هذا ومنه قول الشاعر
(ونضواي مشتاقان له أرقان
*)
وهذه على لغة لم يحكها سيبويه لكن حكاها الأخفش وقرا أبو عمرو (يره) بضم الهاء فيهما مشبعتان وقرا أبان عن عاصم وابن عباس وأبو حيوة وحميد بن الربيع عن الكسائي (يره) بضم الياء وهي رؤية بصره بمعنى يجعل يدركه ببصره والمعنى يرى جزاءه وثوابه لأن الأعمال الماضية لا ترى بعين أبدا وهذا الفعل كله هو من رأيت بمعنى أدركت ببصري فتعديه إنما هو إلى مفعول واحد وقرا عكرمة (خيرا يراه) و (شرا يراه) وقال النقاش ليست برؤية بصر وانما المعنى يصيبه ويناله ويروى ان هذه السورة نزلت وأبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فترك أبو بكر الأكل وبكى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك فقال يا رسول الله أو أسأل عن مثاقيل الذر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير إلى الأخرة) و (الذرة) نملة صغيرة حمراء رقيقة لا يرجح لها ميزان ويقال إنها تجري إذا مضى لها حول وقد تؤول ذلك في قول امرئ القيس
(من القاصرات الطرف لو دب محول
* من الذر فوق الإتب منها لأثرا) الطويل
وحكى النقاش انهم قالوا كان بالمدينة رجلان أحدهما لا يبالي عن الصغائر يرتكبها وكان الآخر يريد ان يتصدق فلا يجد الا اليسير فيستحيي من الصدقة فنزلت الآية فيهما كأنه يقال لأحدهما تصدق باليسير فإن مثقال ذرة الخير ترى وقيل للآخر كف عن الصغائر فإن مقادير ذر الشر ترى
نجز تفسيرها والحمد لله كثيرا
512

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العاديات
وهي مكية في قول جماعة من أهل العلم وقال المهدوي عن انس بن مالك وهي مدنية
قوله عز وجل
سورة العاديات 1 - 11
اختلف الناس في المراد ب * (العاديات) * فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة أراد الخيل لأنها تعدو بالفرسان وتصيح بأصواتها قال بعضهم وسببها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا إلى بني كنانة سرية فأبطأ أمرها عليه حتى أرجف بهم بعض المنافقين فنزلت الآية معلمة ان خيله عليه السلام قد فعلت جميع ما في الآية وقال آخرون القسم هو بالخيل جملة لأنها تعدو ضابحة قديما وحديثا وهي حاصرة البلاد وهادمة الممالك وفي نواصيها الخير إلى يوم القيامة وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وإبراهيم وعبيد بن عمير * (العاديات) * في هذه الآية الإبل لأنها تضبح في عدوها قال علي والقسم بالإبل العاديات من عرفة ومن مزدلفة إذا وقع الحاج وبإبل غزوة بدر فإنه لم يكن في الغزوة غير فرسين فرس المقداد وفرس الزبير بن العوام والضبح تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح بل هو غير المعتاد من صوت الحيوان الذي يضبح
وحكي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب وهذا عندي لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنه وذلك أن الإبل تضبح والأسود من الحيات والبوم والصدى والأرنب والثعلب والقوس هذه كلها قد استعملت لها العرب الضبح وأنشد أبو حنيفة في صفة قوس
(حنانة من نشم أو تالب
* تضبح في الكف ضباح الثعلب) الرجز
والظاهر في الآية ان القسم بالخيل أو بالإبل أو بهما قوله تعالى * (فالموريات قدحا) * قال علي بن أبي طالب وابن مسعود هي الإبل وذلك انها في عدوها ترجم الحصى بالحصى فيتطاير منه النار فذلك القدح
قال ابن عباس هي الخيل وذلك بحوافرها في الحجارة وذلك معروف
وقال عكرمة
513

* (الموريات قدحا) * هي الألسن فهذا على الاستعارة أي ببيانها تقدح الحجج وتظهرها
وقال مجاهد * (الموريات قدحا) * يريد به مكر الرجال وقال قتادة * (الموريات) * الخيل تشعل الحرب فهذا أيضا على الاستعارة البينة وقال ابن عباس أيضا وجماعة من العلماء الكلام عام يدخل في القسم كل من يظهر بقدحه نارا وذلك شائع في الأمم طول الدهر وهو نفع عظيم من الله تعالى وقد وقف عليه في قوله تعالى * (أفرأيتم النار التي تورون) * الواقعة 71 معناه تظهرون بالقدح قال عدي بن زيد
(فقدحنا زنادا وورينا
* فوق جرثومة من الأرض نار) الخفيف
وقوله تعالى * (فالمغيرات صبحا) * قال علي و ابن مسعود هي الإبل من مزدلفة إلى منى أو في بدر والعرب تقول أغار إذا عدا جريا ونحوه وقال ابن عباس وجماعة كثيرة هي الخيل واللفظة من الغارة في سبيل الله وغير ذلك من سير الأمم وعرف الغارات انها مع الصباح لأنها تسري ليلة الغارة والنقع الغبار الساطع المثار وقرا أبو
حيوة (فأثرن) بشد الثاء والضمير في " به " ظاهر انه للصبح المذكور ويحتمل ان يكون للمكان والموضع الذي يقتضيه المعنى وان كان لم يجر له ذكر ولهذا أمثلة كثيرة ومشهورة إثارة النقع هو للخيل ومنه قول الشاعر
(يخرجن من مستطير النقع دامية
* كأن آذانها أطراف أقلام) البسيط
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو هنا الإبل تثير النقع بأخفافها وقوله تعالى * (فوسطن به جمعا) * قال ابن عباس وعلي هي الإبل و * (جمعا) * هي المزدلفة وقال ابن عباس هي الخيل والمراد جمع من الناس هم المغيرون وقرا علي بن أبي طالب وقتادة وابن أبي ليلى (فوسطن) بشد السين وقال بشر بن أبي حازم
(فوسطن جمعهم وأفلت حاجب
* تحت العجاجة في الغبار الأقتم) الكامل
وذكر الطبري عن زيد بن أسلم انه كان يكره تفسير هذه الألفاظ ويقول هو قسم أقسم الله به وجمهور الأمة وعلماؤها مفسرون لها كما ذكرنا والقسم واقع على قوله * (إن الإنسان لربه لكنود) * وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (أتدرون ما الكنود قالوا لا يا رسول الله قال هو الكفور الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده)
وقد يكون من المؤمنين الكفور بالنعمة فتقدير الآية إن الإنسان لنعمة ربه لكنود وأرض كنود لا تنبت شيئا وقال الحسن بن أبي الحسن الكنود اللائم لربه الذي يعد السيئات وينسى الحسنات والكنود العاصي بلغة كندة ويقال للخيل كنود وقال أبو زبيد
(إن تفتني فلم اطب بك نفسا
* غير اني أمنى بدهر كنود) الخفيف
وقال الفضيل الكنود الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة ويعامل الله على عقد عوض وقوله تعالى * (وإنه على ذلك لشهيد) * يحتمل الضمير ان يعود على الله تعالى وقاله قتادة أي وربه شاهد عليه وتفسير هذا الخبر يقتضي الشهادة بذلك ويحتمل ان يعود على * (الإنسان) * أي أفعاله وأقواله وحاله
514

المعلومة من هذه الاخلاق تشهد عليه فهو شاهد على نفسه بذلك وهذا قول الحسن ومجاهد والضمير في قوله تعالى * (وإنه لحب الخير) * عائد على * (الإنسان) * لا غير والمعنى من اجل حب الخير إنه * (لشديد) * أي بخيل بالمال ضابط له ومنه قول الشاعر طرفة بن العبد
(أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
* عقيلة مال الفاحش المتشدد) الطويل
و * (الخير) * المال على عرف ذلك في كتاب الله تعالى قال عكرمة * (الخير) * حيث وقع في القرآن فهو المال ويحتمل ان يراد هنا الخير الدنياوي من مال وصحة وجاه عند الملوك ونحوه لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك فاما المحب في خير الآخرة فممدوح له مرجو له الفوز وقوله تعالى * (أفلا يعلم) * توقيف على المال والمصير أي أفلا يعلم مآله فيستعد له و (بعثرة ما في القبور) تقصيه مما يستره والبحث عنه وهذه عبارة عن البحث وفي مصحف ابن مسعود (بحث ما في القبور) وفي حرف أبي (وبحثرت القبور) و (تحصيل ما في الصدور) تمييزه وكشفه ليقع الجزاء عليه من ايمان وكفر ونية ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم (يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم) وقرا يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم بفتح الحاء والصاد ثم استؤنف في الخبر الصادق الجزم بأن الله تعالى خبير بهم * (يومئذ) * لكن خصص * (يومئذ) * لأنه يوم المجازاة فإليه طمحت النفوس وهذا وعيد مصرح
نجز تفسير سورة (العاديات)
515

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القارعة
وهي مكية بلا خلاف
قوله عز وجل
سورة القارعة 1 - 11
قرأ (القارعة ما القارعة) بالنصب عيسى قال جمهور المفسرين * (القارعة) * يوم القيامة نفسها لأنها تقرع القلوب بهولها وقال قوم من المتأولين * (القارعة) * صيحة النفخة في الصور لأنها تقرع الأسماع وفي ضمن ذلك القلوب وفي قوله تعالى * (وما أدراك) * تعظيم لأمرها وقد تقدم مثله و * (يوم) * ظرف والعامل فيه * (القارعة) *
وامال أبو عمرو * (القارعة) * و (الفراش) طير دقيق يتساقط في النار ويقصدها ولا يزال يقتحم على المصباح ونحوه حتى يحترق ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم (انا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب) وقال الفراء (الفراش) في الآية غوغاء الجراد وهو صغيره الذي ينتشر في الأرض والهواء و * (المبثوث) * هنا معناه المتفرق جمعه وجملته موجودة متصلة وقال بعض العلماء الناس أول قيامهم من القبور * (كالفراش المبثوث) * لأنهم يجيئون
ويذهبون على غير نظام يدعوهم الداعي فيتوجهون إلى ناحية المحشر فهم حينئذ كالجراد المنتشر لأن الجراد إنما توجهه إلى ناحية مقصودة واختلف اللغويون في (العهن) فقال أكثرهم هو الصوف عاما وقال آخرون وهو الصوف الأحمر وقال آخرون هو الصوف الملون ألوانا واحتج بقول زهير
(كأن فتات العهن في كل منزل
* نزلن به حب الفنا لم يحطم)
والفنا عنب الثعلب وحبه قبل التحطم منه الأخضر والأحمر والأصفر وكذلك الجبال جدد بيض وحمر وسود وصفر فجاء التشبيه ملائما وكون * (الجبال كالعهن) * إنما هو وقت التفتيت قبل النسف
516

ومصيرها هباء وهي درجات والنفش خلخلة الأجزاء وتفريقها عن تراصها وفي قراءة ابن مسعود وابن جبير (كالصوف المنفوش) و (الموازين) هي التي في القيامة فقال جمهور العلماء والفقهاء والمحدثين ميزان القيامة بعمود ليبين الله امر العباد بما عهدوه وتيقنوه وقال مجاهد ليس ثم ميزان إنما هو العدل مثل ذكره بالميزان إذ هو أعدل ما يدري الناس وجمعت الموازين للإنسان لما كانت له موزونات كثيرة متغايرة وثقل هذا الميزان هو بالايمان والأعمال وخفته بعدمها وقلتها ولن يخف خفة موبقة ميزان مؤمن
و * (عيشة راضية) * معناه ذات رضى على النسب وهذا قول الخليل وسيبويه وقوله تعالى * (فأمه هاوية) * قال كثير من المفسرين المراد بالأم نفس الهاوية وهي درك من ادراك النار وهذا كما يقال للأرض أم الناس لأنها تؤويهم وكما قال عتبة بن أبي سفيان في الحرب فنحن بنوها وهي امنا فجعل الله الهاوية أم الكافر لما كانت ماواه وقال آخرون هو تفاؤل بشر فيه تجوز في أم الولاد كما قالوا أمه ثاكل وخوى نجمه وهوى نجمه ونحو هذا وقال أبو صالح وغيره المراد أم رأسه لأنهم يهوون على رؤوسهم وقرا طلحة (فإمه) بكسر الهمزة وضم الميم مشددة ثم قرر تعالى نبيه على دراية امرها وتعظيمه ثم اخبره انها * (نار حامية) * وقرا (ما هي) بطرح الهاء في الوصل ابن إسحاق والأعمش وروى المبرد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل لا أم لك فقال يا رسول الله اتدعوني إلى الهدى وتقول لا أم لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما أردت لا نار لك) قال الله تعالى * (فأمه هاوية) *
517

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكاثر
وهي مكية لا أعلم فيها خلافا
قوله عز وجل
سورة التكاثر 1 - 8
(ألهى) معناه شغل بلذاته ومنه لهو الحديث والأصوات واللهو بالنساء وهذا خبر فيه تقريع وتوبيخ وتحسر وقرا ابن عباس وعمران الجوني وأبو صالح (أألهاكم) على الاستفهام و * (التكاثر) * هي المفاخرة بالأموال والأولاد والعدد جملة وهذا هجيرى أبناء الدنيا العرب وغيرهم لا يتخلص منهم الا العلماء المتقون وقد قال الأعشى
(ولست بالأكثر منهم حصى
* وإنما العزة للكاثر) السريع
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك الا ما اكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت) واختلف المتاولون في معنى قوله تعالى * (حتى زرتم المقابر) * فقال قوم حتى ذكرتم الموت في تفاخركم بالآباء والسلف وتكثرتم بالعظام الرمام وقال المعنى حتى متم وزرتم بأجسادكم مقابرها أي قطعتم بالتكاثر اعماركم وعلى هذا التأويل روي أن اعرابيا سمع هذه الآية فقال بعث القوم للقيامة ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم وحكى النقاش هذه النزعة من عمر بن عبد العزيز وقال آخرون هذا تأنيب على الإكثار من زيارة القبور أي حتى جعلتم أشغالكم القاطعة بكم عن العبادة والتعلم زيارة القبور تكثرا بمن سلف وإشادة بذكره وقال ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها ولا تقولوا هجرا) فكان نهيه عليه السلام في معنى الآية ثم أباح بعد لمعنى الاتعاظ لا لمعنى المباهاة والتفاخر كما يصنع الناس في ملازمتها وتسنيمها بالحجارة والرخام وتلوينها شرفا وبنيان النواويس عليها وقوله تعالى * (كلا سوف تعلمون) * زجر ووعيد ثم كرر تأكيدا ويأخذ كل إنسان من الزجر والوعيد المكررين على قدر حظه من التوغل فيما يكره هذا تأويل
518

جمهور الناس وقال علي بن أبي طالب كلا ستعلمون في القبور ثم كلا ستعلمون في البعث وقال الضحاك الزجر الأول وعيده هو للكفار والثاني للمؤمنين وقرا مالك بن دينار (كلا ستعلمون) فيهما وقوله تعالى * (كلا لو تعلمون علم اليقين) * جواب * (لو) * محذوف مقدر في القول أي لازدجرتم وبادرتم إنقاذ أنفسكم من الهلكة و * (اليقين) * أعلى مراتب العلم ثم اخبر تعالى الناس انهم يرون الجحيم وقرا ابن عامر والكسائي (لترون) بضم التاء وقرا الباقون بفتحها وهي الأرجح وكذلك في الثانية وقرأ علي بن أبي طالب بفتح التاء الأولى وضمها في الثانية وروي ضمها عن ابن كثير وعاصم و (ترون) أصله ترأيون نقلت حركة الهمزة إلى الراء وقلبت الياء ألفا لحركتها بعد مفتوح ثم حذفت الألف لسكونها
وسكون الواو بعدها ثم جلبت النون المشددة فحركت الواو بالضم لسكونها وسكون النون الأولى من المشددة إذ قد حذفت نون الإعراب للبناء وقال ابن عباس هذا خطاب للمشركين فالمعنى على هذا أنها رؤية دخول
وصلي وهو * (عين اليقين) * وقال آخرون الخطاب للناس كلهم فهي كقوله تعالى * (وإن منكم إلا واردها) * مريم 71 فالمعنى ان الجميع يراها ويجوز الناجي ويتكردس فيها الكافر وقوله تعالى * (ثم لترونها عين اليقين) * تأكيدا في الخبر و * (عين اليقين) * حقيقته وغايته وروي عن الحسن وأبي عمرو انهما همزا (لترؤن) ولترؤنها بخلاف عنهما وروي ابن كثير (ثم لترونها) بضم التاء ثم اخبر تعالى ان الناس مسؤولون يومئذ عن نعيمهم في الدنيا كيف نالوه ولم آثروه وتتوجه في هذا أسئلة كثيرة بحسب شخص من شخص منقادة لمن أعطي فهما في كتاب الله تعالى وقال ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد * (النعيم) * هو الأمن والصحة وقال ابن عباس هو البدن والحواس يسأل المرء فيما استعملها وقال ابن جبير هو كل ما يتلذذ به من طعام وشراب واكل رسول الله عليه السلام هو وبعض أصحابه رطبا وشربوا عليها ماء فقال لهم هذا من النعيم الذي تسألون عنه ومضى يوما عليه السلام هو وأبو بكر وعمر وقد جاؤوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان فذبح لهم شاة واطعمهم خبزا ورطبا واستعذب لهم ماء وكانوا في ظل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم) وروي عنه عليه السلام أنه قال (النعيم المسؤول عنه كسرة تقوته وماء يرويه وثوب يواريه) وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (ان النعيم المسؤول عنه الماء البارد في الصيف) وقال عليه السلام (من اكل خبز البر وشرب الماء البارد فذلك النعيم الذي يسأل عنه) وقال عليه السلام (بيت يكنك وخرقة تواريك وكسرة تشد قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم)
وقال النبي عليه السلام (وكل نعيم فهو مسؤول عنه الا نعيم في سبيل الله عز وجل)
نجز تفسير سورة * (التكاثر) *
519

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العصر
وهي مكية
قوله عز وجل
سورة العصر 1 - 3
قال ابن عباس * (العصر) * الدهر يقال فيه عصر وعصر بضم العين والصاد وقال امرؤ القيس
(وهل يعمن من كان في العصر الخالي
*)
وقال قتادة * (العصر) * العشي وقال أبي بن كعب سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العصر فقال (أقسم ربكم بآخر النهار) وقال بعض العلماء وذكره أبو علي * (العصر) * اليوم * (والعصر) * الليلة ومنه قول حميد
(ولن يلبث العصران يوم وليلة
* إذا طلبا ان يدركا ما تيمما) الطويل
وقال بعض العلماء * (العصر) * بكرة والعصر عشية وهما الأبردان وقال مقاتل * (العصر) * هي الصلاة الوسطى أقسم بها و * (الإنسان) * اسم الجنس و (الخسر) النقصان وسوء الحال وذلك بين غاية البيان في الكافر لأنه خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين واما المؤمن وان كان في خسر دنياه في هرمه وما يقاسيه من شقاء هذه الدار فذلك معفو عنه في جنب فلاحه في الآخرة وربحه الذي لا يفنى ومن كان في مدة عمره في التواصي بالحق والصبر والعمل بحسب الوصاة فلا خسر معه وقد جمع له الخير كله وقرا علي بن أبي طالب (والعصر ونوائب الدهر إن الانسان) وفي مصحف عبد الله (والعصر لقد خلقنا الانسان في خسر) وروي عن علي بن أبي طالب انه قرأ (إن الإنسان لفي خسر وإنه فيه إلى آخر الدهر الا الذين) وقرا عاصم والأعرج (لفي خسر) بضم السين وقرا سلام أبو المنذر (والعصر) بكسر الصاد (وبالصبر) بكسر الباء وهذا لا يجوز الا في الوقف على نقل الحركة وروي عن أبي عمرو (بالصبر) بكسر الباء إشماما وهذا أيضا لا يكون الا في الوقف
نجز تفسير سورة * (العصر) *
520

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الهمزة
وهي مكية بلا خلاف
قوله عز وجل
سورة الهمزة 1 - 9
* (ويل) * لفظ يجمع الشر والحزن وقيل * (ويل) * واد في جهنم و (الهمزة) الذي يهمز الناس بلسانه أي يعيبهم ويغتابهم وقال ابن عباس هو المشاء بالنميم
قال القاضي أبو محمد ليس به لكنهما صفتان تتلازم قال الله تعالى * (هماز مشاء بنميم) * القلم 11 وقال مجاهد (الهمزة) الذي يأكل لحوم الناس وقيل لأعرابي اتهمز إسرائيل فقال إني إذا لرجل سوء حسب أنه يقال له اتقع في سبه و (اللمزة) قريب من المعنى في الهمزة قال الله تعالى * (ولا تلمزوا أنفسكم) * الحجرات 11 وقرا
ابن مسعود والأعمش والحسن (ويل الهمزة اللمزة) وهذا البناء الذي هو فعلة يقتضي المبالغة في معناه قال أبو العالية والحسن الهمز بالحضور واللمز بالمغيب وقال مقاتل ضد هذا وقال مرة هما سواء وقال ابن أبي نجيح الهمز باليد والعين واللمز باللسان وقال تعالى * (ومنهم من يلمزك في الصدقات) * التوبة 58 وقيل نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق وقيل في جميل بن عامر الجمحي ثم هي تتناول كل من اتصف بهذه الصفات وقرا ابن عامر وحمزة والكسائي والحسن وأبو جعفر (جمع) بشدة الميم والباقون بالتخفيف وقوله * (وعدده) * معناه أحصاه وحافظ على عدده وان لا ينتقص فمنعه من الخيرات ونفقة البر وقال مقاتل المعنى استعده وذخره وقرا الحسن (وعدده) بتخفيف الدالين فقيل المعنى جمع مالا وعدوا من عشرة وقيل أراد عددا مشددا فحل التضعيف وهذا قلق وقوله " أيحسب ان ماله اخلده " معناه يحسب أن ماله هو معنى حياته وقوامها وانه حفظه مدة عمره ويحفظه ثم رد على هذه الحسبة وأخبر إخبارا مؤكدا انه ينبذ * (في الحطمة) * أي التي
521

تحطم ما فيها وتلتهبه وقرا (يحسب) بفتح السين الأعرج وأبو جعفر وشيبة وقرا ابن محيصن والحسن بخلاف عنه (لينبذان) بنون مكسورة مشددة قبلها ألف يعني هو ماله وروي عنه ضم الذال على نبذ جماعة هو ماله وعدده أو يريد جماعة الهمزات ثم عظم شانها وأخبر انها * (نار الله الموقدة) * التي يبلغ إحراقها القلوب ولا يخمد والفؤاد القلب ويحتمل ان يكون المعنى انها لا يتجاوزها أحد حتى تأخذه بواجب عقيدة قلبه ونيته فكأنها متطلعة على القلوب باطلاع الله تعالى إياها ثم أخبر بأنها عليهم موصدة ومعناه مطبقة أو مغلقة قال علي بن أبي طالب أبواب النار بعضها فوق بعض وقوله تعالى * (في عمد) * هو جمع عمود كأديم وادم وهي عند سيبويه أسماء جمع لا جموع جارية على الفعل وقرا ابن مسعود (موصدة بعمد ممددة) وقال ابن زيد المعنى في عمد حديد مغلولين بها والكل من نار وقال أبو صالح هذه النار هي في قبورهم وقرا عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي (عمد) بضم العين والميم وقرا الباقون وحفص عن عاصم بفتحهما وقرا الجمهور (ممددة) بالخفض على نعت العمد وقرا عاصم (ممددة) بالرفع على اتباع " موصدة "
نجز تفسيرها بحمد الله
522

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفيل
وهي مكية بإجماع الرواة
قوله عز وجل
سورة الفيل 1 - 5
* (كيف) * نصب بفعل والجمهور على أنه فيل واحد وقال الضحاك ثمانية فهو اسم الجنس وقوله مردود وحكى النقاش ثلاثة عشر وهذه السورة تنبيه على الاعتبار في اخذ الله تعالى لأبرهة ملك الحبشة ولجيشه حين أم به الكعبة ليهدمها وكان صاحب فيل يركبه وقصته مشروحة في السير الطويلة واختصاره انه بني في اليمن بيتا وأراد ان يرد اليه حج العرب فذهب اعرابي فأحدث في البيت الذي بني أبرهة فغضب لذلك واحتفل في جموعه وركب الفيل وقصد مكة وغلب من تعرضه في طريقه من قبائل العرب فلما وصل ظاهر مكة وفر عبد المطلب وقريش إلى الجبال والشعاب وأسلموا له البلد وغلب طغيانه ولم يكن للبيت من البشر من يعصمه ويقوم دونه جاءت قدرة الواحد القهار واخذ العزيز المقتدر فأصبح أبرهة ليدخل مكة ويهدم الكعبة فبرك فيله بذي الغميس ولم يتوجه قبل مكة فبضعوه بالحديد فلم يمش إلى ناحية مكة وكان إذا وجهوه إلى غيرها هرول فبينا هم كذلك في امر الفيل بعث الله * (عليهم طيرا) * جماعات جماعات سودا من البحر وقيل خضرا عند كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه وكل حجر فوق العدسة ودون الحمصة فرمتهم بتلك الحجارة فكان الحجر منها يقتل المرمى وتتهرى لحومهم جذريا وأسقاما فانصرف أبرهة بمن معه يريد اليمن فماتوا في طريقهم متفرقين في كل مرحلة وتقطع أبرهة أنملة أنملة حتى مات وحمى الله بيته المرفع فنزلت الآية منبهة على الاعتبار بهذه القصة ليعلم الكل ان الأمر كله لله ويستسلموا للإله الذي ظهرت في ذلك قدرته حين لم تغن الأصنام شيئا ف * (أصحاب الفيل) * أبرهة الملك ورجاله وقرا أبو عبد الرحمن (ألم تر) بسكون الراء و (التضليل) الخسار والتلف و (الأبابيل) جماعات تجيء شيئا بعد شيء قال أبو عبيدة لا واحد له من لفظه وهذا هو الصحيح لا ما تكلفه بعض النحاة وقال معبد بن أبي الخزاعي
(كادت تهد من الأصوات راحلتي
* إذ سارت الأرض بالجرد الأبابيل) البسيط
523

وقد تقدم تفسير (حجارة السجيل) غير مرة وهي من سنج وكل أي ماء وطين كأنها الاجر ونحوه مما طبخ وهي المسومة عند الله تعالى للكفرة الظالمين و (العصف) ورق الحنطة وتبنه ومنه قول علقمة بن عبدة
(تسقى مذانب قد مالت عصيفتها
* حدورها من اتي الماء مطموم) البسيط
والمعنى صاروا طينا ذاهبا كورق حنطة اكلته الدواب وراثته فجمع المهانة والخسة واتلف وقرا أبو الخليج الهذلي (فتركتهم كعصف) قال أبو حاتم وقرا بعضهم (فجعلتهم) يعنون الطير بفتح اللام وتاء ساكنة وقال عكرمة العصف حب البر إذا أكل فصار أجوف وقال الفراء هو أطراف الزرع قبل ان يسنبل وهذه السورة متصلة في مصحف أبي بن كعب بسورة * (لإيلاف قريش) * لا فصل بينهما وقال سفيان بن عيينة كان لنا إمام يقرأ بهما متصلة سورة واحدة
524

بسم الله الرحمن الرحيم
وهي مكية بلا خلاف
قوله عز وجل
سورة قريش 1 - 4
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي * (لإيلاف قريش إيلافهم) * على إفعال والهمزة الثانية ياء وقرا ابن عامر (لألأف) على فعال * (إيلافهم) * على أفعال بياء في الثانية وقرا أبو بكر عن عاصم بهمزتين فيهما الثانية ساكنة قال أبو علي وتحقيق عاصم هاتين الهمزتين لا وجه له وقرا أبو جعفر (إلفهم) بلام ساكنة و (قريش) ولد النضر بن كنانة والتقرش التكسب وتقول ألف الرجل الأمر وآلفه غيره فالله عز وجل آلف قريشا اي جعلهم يألفون رحلتين في العام رحلة في الشتاء وأخرى في الصيف
ويقال أيضا ألف بمعنى آلف وانشد أبو زيد
(من المؤلفات الرمل أدماء حرة
* شعاع الضحى في جيدها يتوضح) الطويل
فألف وإلاف مصدر ألف و * (إيلاف) * مصدر ألف قال بعض الناس كانت الرحلتان إلى الشام في التجارة وقيل الأرباح ومنه قول الشاعر
(سفرين بينهما له ولغيره
* سفر الشتاء ورحلة الأصياف) الكامل
وقال ابن عباس كانت * (رحلة الشتاء) * إلى اليمن ورحلة الصيف إلى بصرى من أرض الشام
قال أبو صالح كانتا جميعا إلى الشام وقال ابن عباس أيضا كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم فهاتان رحلتا الشتاء والصيف قال الخليل بن أحمد فمعنى الآية لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من الفهم هذه النعمة * (فليعبدوا رب هذا البيت) *
قال القاضي أبو محمد وذكر البيت هنا متمكن لتقدم حمد الله في السورة التي قبل وقال الأخفش وغيره * (لإيلاف) * متعلقه بقوله * (فجعلهم كعصف مأكول) * الفيل 5 أي ليفعل بقريش هذه
525

الأفاعيل الجميلة وقال بعض المفسرين معنى الآية أعجبوا * (لإيلاف قريش) * هذه الأسفار واعراضهم عن عبادة الله ثم امرهم بالعبادة بعد واعلمهم ان الله تعالى هو الذي * (أطعمهم) * وآمنهم) لا سفرهم المعنى فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة إبراهيم حيث قال وارزقهم من الثمرات وآمنهم بدعوته حيث قال * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * إبراهيم 35 ولا يشتغلوا بالأسفار التي انما هي طلب كسب وعرض دنيا وقال النقاش كانت لهم أربع رحل وهذا قول مردود وقال عكرمة معنى الآية كما ألفوا هاتين الرحلتين لدنياهم * (فليعبدوا رب هذا البيت) * لآخرتهم وقال قتادة إنما عددت عليهم الرحلتان لأنهم كانوا يامنون الناس في سفرتهم والناس يغير بعضهم على بعض ولا يمكن قبيلا من العرب ان يرحل آمنا كما تفعل قريش فالمعنى فليعبدوا الذي خصهم بهذه الحال فاطعمهم وآمنهم وقوله تعالى * (من جوع) * معناه ان أهل مكة قاطنون بواد غير ذي زرع عرضه للجوع والجدب لولا لطف الله تعالى وان جعلها بدعوة إبراهيم تجبى إليها ثمرات كل شيء وقوله تعالى * (من خوف) * أي جعلهم لحرمة البيت مفضلين عند العرب يامنون والناس خائفون ولولا فضل الله تعالى في ذلك لكانوا بمدارج المخاوف
وقال ابن عباس والضحاك * (من خوف) * معناه من الجذام فلا ترى بمكة مجذوما
526

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الماعون
وهي مكية بلا خلاف علمته وقال الثعلبي هي مدنية
قوله عز وجل
سورة الماعون 1 - 7
هذا توقيف وتنبيه لتتذكر نفس السامع كل من يعرفه بهذه الصفة وهمز أبو عمرو (أرأيت) بخلاف عنه ولم يهمزها نافع وغيره و * (الدين) * الجزاء ثوابا وعقابا والحساب هنا قريب من الجزاء ثم قال تعالى * (فذلك الذي يدع اليتيم) * أي أرقب فيه هذه الخلال السيئة تجدها ودع اليتيم دفعه بعنف وذلك إما ان يكون المعنى عن إطعامه والإحسان اليه وإما ان يكون عن حقه وماله فهذا أشد وقرا أبو رجاء (يدع) بفتح الدال خفيف بمعنى لا يحسن اليه وقوله تعالى * (ولا يحض على طعام المسكين) * أي لا يأمر بصدقة ولا يرى ذلك صوابا ويروى ان هذه السورة نزلت في بعض المضطرين في الاسلام بمكة الذين لم يحققوا فيه وفتنوا فافتتنوا وكانوا على هذه الخلق من الغشم وغلظ العشرة والفظاظة على المسلمين وربما كان بعضهم يصلي أحيانا مع المسلمين مدافعة وحيرة فقال تعالى فيهم * (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) *
قال ابن جريج كان أبو سفيان ينحر كل أسبوع جزورا فجاءه يتيم فقرعه بعصا فنزلت السورة فيه قال سعد بن أبي وقاص سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن * (الذين
هم عن صلاتهم ساهون) * فقال هم الذين يؤخرونها عن وقتها يريد والله أعلم تأخير ترك وإهمال والى هذا نحا مجاهد وقال قتادة * (ساهون) * هو الترك لها وهم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم صلى أو لم يصل وقال عطاء بن يسار الحمد لله الذي قال * (عن صلاتهم) * ولم يقل في صلاتهم وفي قراءة ابن مسعود (لاهون) بدل * (ساهون) * وقوله تعالى * (الذين هم يراؤون) * بيان ان صلاة هؤلاء ليست لله تعالى بينة ايمان وانما هي رياء للبشر فلا قبول لها وقرا ابن أبي إسحاق وأبو الأشهب (يرؤن) مهموزة مقصورة مشددة الهمزة وروي عن ابن أبي إسحاق (يرؤون) بغير شد في الهمزة وقوله تعالى
527

* (ويمنعون الماعون) * وصف لهم بقلة النفع لعباد الله وتلك شرخلة وقال علي بن أبي طالب وابن عمر * (الماعون) * الزكاة وقال الراعي
(قوم على الإسلام لما يمنعوا
* ماعونهم ويضيعوا التهليلا) الكامل
وقال ابن مسعود هو ما يتعاطاه الناس بينهم كالفأس والدلو والآنية والمقص ونحوه وقاله الحسن وقتادة وابن الحنفية وابن زيد والضحاك وابن عباس وقال ابن المسيب * (الماعون) * بلغة قريش المال وسئل النبي صلى الله عليه وسلم ما الشيء الذي لا يحل منعه قال (الماء والنار والملح) روته عائشة رضي الله عنها وفي بعض الطرق زيادة الإبرة والخمير وحكى الفراء عن بعض العرب ان * (الماعون) * الماء وقال ابن مسعود كنا نعد * (الماعون) * على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية القدر والدلو ونحوها
528

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكوثر
وهي مكية
قوله عز وجل
سورة الكوثر 1 - 3
قرأ الحسن (أنا انطيناك) وهي لغة في أعطى قال النبي صلى الله عليه وسلم (واليد المنطية خير من السفلى) وقال الأعشى
(جيادك خير جياد الملوك
* تصان الجلال وتنطى الشعير) المتقارب
قال انس وابن عمر وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين * (الكوثر) * نهر في الجنة حافتاه قباب من در مجوف وطينه مسك وحصباؤه ياقوت ونحو هذا من صفاته وإن اختلفت ألفاظ الرواة وقال ابن عباس أيضا * (الكوثر) * الخير الكثير
قال القاضي أبو محمد كوثر بناء مبالغة من الكثرة ولا مجال ان الذي أعطى الله محمدا عليه السلام من النبوة والحكمة والعلم بربه والفوز برضوانه والشرف على عباده هو أكثر الأشياء وأعظمها كأنه يقول في هذه الآية * (إنا أعطيناك) * الحظ الأعظم قال سعيد بن جبير النهر الذي في الجنة هو من الخير الذي أعطاه الله إياه فنعم ما ذهب اليه ابن عباس ونعم ما تمم ابن جبير رضي الله عنهم وامر النهر ثابت في الآثار في حديث الاسراء وغيره صلى الله على محمد ونفعنا بما منحنا من الهداية
قال الحسن * (الكوثر) * القرآن وقال أبو بكر بن عياش هو كثرة الأصحاب والأتباع وقال جعفر الصادق نور في قلبه دله عليه وقطعه عما سواه وقال أيضا هو الشفاعة وقال هلال بن يساف هو التوحيد وقوله تعالى * (فصل لربك وانحر) * امر بالصلاة على العموم ففيه المكتوبات بشروطها والنوافل على ندبها والنحر نحر البدن والنسك في الضحايا في قول جمهور الناس فكأنه قال ليكن شغلك هذين ولم يكن في ذلك الوقت جهاد وقال أنس بن مالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة فأمر ان يصلي وينحر وقاله قتادة والقرطبي وغيره في الآية طعن على كفار مكة أي إنهم يصلون لغير الله مكاء وتصدية وينحرون للأصنام ونحوه فافعل أنت هذين لربك تكن على صراط مستقيم وقال ابن جبير
نزلت هذه الآية يوم الحديبية وقت صلح قريش قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم صل وانحر الهدي
529

وعلى هذا تكون الآية من المدني وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال معنى الآية صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة فالنحر على هذين ليس بمصدر نحر بل هو الصدر وقال آخرون المعنى ارفع يدك في استفتاح صلاتك عند نحرك وقوله تعالى * (إن شانئك هو الأبتر) * رد على مقالة كان كثير من سفهاء قريش يقولها لما لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولد فكانوا يقولون هو أبتر يموت فنستريح منه ويموت امره بموته فقال الله تعالى وقوله الحق * (إن شانئك هو الأبتر) * اي المقطوع المبتور من رحمة الله تعالى ولو كان له بنون فهم غير نافعيه (والشانىء) المبغض وقال قتادة * (الأبتر) * هنا يراد به الحقير الذليل وقال عكرمة مات ابن للنبي صلى الله عليه وسلم فخرج أبو جهل فقال بتر محمد فنزلت السورة
وقال ابن عباس نزلت في العاصي بن وائل سمي النبي صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه عبد الله أبتر
530

بسم الله الرحمن الريحم
سورة الكافرون
وهي مكية إجماعا
قوله عز وجل
سورة الكافرون 1 - 6
قرا أبي بن كعب وابن مسعود (قل للذين كفروا) وروي في سبب نزول هذه السورة عن ابن عباس وغيره ان جماعة من عتاة قريش ورجالاتها قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم دع ما أنت فيه ونحن نمولك ونزوجك من شئت من كرائمنا ونملكك علينا وان لم تفعل هذا فلتعبد آلهتنا ولنعبد إلهك حتى نشترك فحيث كان الخير نلناه جميعا هذا معنى قولهم ولفظهم لكن للرواة زيادة ونقص وروي ان هذه الجماعة المذكورة الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف وأبو جهل وابنا الحجاج ونظراؤهم ممن لم يسلم بعد ولرسول الله صلى الله عليه وسلم معهم في هذه المعاني مقامات نزلت السورة في إحداها بسبب قولهم هلم نشترك في عبادة إلهك وآلهتنا وروي انهم قالوا اعبد آلهتنا عاما ونعبد إلهك عاما فأخبرهم عن امره عز وجل ان لا يعبد ما يعبدون وانهم غير عابدين ما يعبد فلما كان قوله * (لا أعبد) * محتملا ان يراد به الان ويبقى المستأنف منتظرا ما يكون فيه من عبادته جاء البيان بقوله * (ولا أنا عابد ما عبدتم) * أي أبدا وما حييت ثم جاء قوله * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * الثاني حتما عليهم انهم لا يؤمنون به أبدا كالذي كشف الغيب فهذا كما قيل لنوح صلى الله عليه وسلم إنه لن يؤمن من قومك الا من قد آمن واما ان هذا في معنيين وقوم نوح عمموا بذلك فهذا معنى الترديد الذي في السورة وهو بارع الفصاحة وليس بتكرار فقط بل فيه ما ذكرته مع التأكيد والابلاغ وزاد الأمر بيانا وتبريا منهم وقوله * (لكم دينكم ولي دين) * وفي هذا المعنى الذي عرضت قريش نزل أيضا * (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) * الزمر 64 وقرا أبو عمر (ولي ديني) ساكنة الياء من لي ونصبها الباقون بخلاف كل واحد منهم والقراءتان حسنتان وقرا أبو عمرو (عابد) و (عابدون) والباقون بفتح العين وهاتان حسنتان أيضا ولم تختلف السبعة في حذف الياء من دين وقرا سلام ويعقوب (ديني) بياء في الوصل والوقف وقال بعض العلماء في هذه الألفاظ مهادنة ما وهي منسوخة بآية القتال
531

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النصر
وهي مدنية بإجماع
قوله عز وجل
سورة النصر 1 - 3
قرأ ابن عباس * (إذا جاء نصر الله والفتح) * وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمعا من الصحابة الأشياخ وبالحضرة لابن عباس عن معنى هذه السورة وسببها فقالوا كلهم بمقتضى ظاهر ألفاظها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عند الفتوح التي فتحت عليه مكة وغيرها بان يسبح ربه ويحمده ويستغفره فقال لابن عباس ما تقول أنت يا عبد الله فقال هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله بقربه إذا رأى هذه الأشياء فقال عمر ما اعلم منها الا ما ذكرت وهذا المنزع الذي ذكره ابن عباس ذكره ابن مسعود وأصحابه ومجاهد وقتادة والضحاك وروت معناه عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وانه عليه السلام لما فتحت مكة وأسلمت العرب جعل يكثر ان يقول (سبحان الله وبحمده اللهم إني استغفرك) يتأول القرآن في هذه السورة وقال لها مرة (ما أراه الا حضور اجلي) وتأوله عمر والعباس بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقهما
و (النصر) الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو غلبته لقريش ولهوازن وغير ذلك * (والفتح) * هو فتح مكة والطائف ومدن الحجاز وكثير من اليمن ودخول الناس في الاسلام * (أفواجا) * كان بين فتح مكة إلى موته صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر بن عبد البر النمري رحمه الله في كتاب الاستيعاب في الصحابة في باب أبي خراش الهذلي لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر بل دخل الكل في الاسلام بعد حنين والطائف منهم من قدم ومنهم من قدم وفده ثم كان بعده من الردة ما كان ورجعوا كلهم إلى الدين
قال القاضي أبو محمد والمراد والله أعلم عرب عبدة الأوثان واما نصارى بني تغلب فما أراهم أسلموا قط في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن أعطوا الجزية والأفواج الجماعة إثر الجماعة كما قال تعالى * (ألقي فيها فوج) * الملك 8 وقال مقاتل المراد بالناس أهل اليمن وفد منهم سبعمائة رجل وقال عكرمة وقال الجمهور المراد جميع وفود العرب لأنهم قالوا إذا فتح الحرم لمحمد عليه
532

السلام وقد حماه الله من الحبشة وغيرهم فليس لكم به يدان وذكر جابر بن عبد الله فرقة الصحابة فبكى وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (دخل الناس في الدين أفواجا وسيخرجون منه أفواجا) وقوله * (إنه كان توابا) * يعقب ترجية عظيمة للمستغفرين جعلنا الله منهم وحكى النقاش عن ابن عباس أن (النصر) صلح الحديبية وان * (الفتح) * فتح مكة وقال ابن عمر نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق في حجة الوداع وعاش بعدها ثمانين يوما أو نحوها صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم
533

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المسد
وهي مكية بإجماع
قوله عز وجل
سورة المسد 1 - 5
روي في الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * الشعراء 214 قال (يا صفية بنت عبد المطلب ويا فاطمة بنت محمد لا املك لكما من الله شيئا سلاني من مالي ما شئتما) ثم صعد الصفا فنادى بطون قريش (يا بني فلان يا بني فلان) وروي انه صاح بأعلى صوته (يا صباحاه) فاجتمعوا اليه من كل وجه فقال لهم (أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي قالوا نعم قال فإني نذير بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا) فافترقوا عنه ونزلت السورة و * (تبت) * معناه خسرت والتباب الخسار والدمار وأسند ذلك إلى اليدين من حيث اليد موضع الكسب والربح وضم ما يملك ثم أوجب عليه انه قد تب أي حتم ذلك عليه ففي قراءة عبد الله بن مسعود (تبت يدا أبي لهب وقد تب) و (أبو لهب) هو عبد العزى بن عبد المطلب وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم ولكن سبقت له الشقاوة وقرا ابن كثير وابن محيصن (أبي لهب) بسكون الهاء وقرا الباقون بتحريك الهاء ولم يختلفوا في فتحها في * (ذات لهب) * وقوله تعالى * (ما أغنى عنه ماله وما كسب) * يحتمل أن تكون " ما " نافية ويكون الكلام خبرا عن أن جميع أحواله الدنياوية لم تغن عنه شيئا حيت حتم عذابه بعد موته ويحتمل أن تكون " ما " استفهاما على وجه التقرير أي أين الغناء الذي لماله ولكسبه * (وما كسب) * يراد به عرض الدنيا من عقار ونحوه أو ليكون الكلام دالا على أنه اتعب فيه نفسه لم يجئه عفوا لا بميراث وهبة ونحوه وقال كثير من المفسرين المراد ب * (ما كسب) * بنوه فكأنه قال * (ما أغنى عنه ماله) * وولده وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير ما كسب الرجل من عمل يده وإن ولد الرجل من كسبه وروي أن أولاد أبي لهب اختصموا عند ابن عباس فتنازعوا وتدافعوا فقال ابن عباس ليحجز بينهم فدفعه أحدهم فوقع على فراشه وكان قد كف بصره فغضب وصاح اخرجوا عني الكسب الخبيث وقرا الأعمش وأبي بن كعب (وما اكتسب) وقوله * (سيصلى نارا ذات لهب) * حتم عليه بالنار وإعلام بأنه يوافي على
534

كفره وانتزع أهل الأصول من هذه الآية تكليف ما لا يطاق وانه موجود في قصة أبي لهب وذلك أنه مخاطب مكلف ان يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ومكلف ان يؤمن بهذه السورة وصحتها فكأنه قد كلف ان يؤمن وان يؤمن انه لا يؤمن قال الأصوليون ومتى ورد تكليف ما لا يطاق فهي امارة من الله تعالى انه قد حتم عذاب ذلك المكلف كقصة * (أبي لهب) * وقرا الجمهور (سيصلى) بفتح الياء وقرا ابن كثير والحسن وابن مسعود بضمها وقوله تعالى * (وامرأته حمالة الحطب) * هي أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية بن أبي سفيان وعطف قوله * (وامرأته) * على المضمر المرفوع دون ان يؤكد الضمير بسبب الحائل الذي ناب مناب التأكيد وكانت أم جميل هذه مؤذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بلسانها وغاية قدرتها وقال ابن عباس كانت تجيء بالشوك فتطرحه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق أصحابه ليعقرهم فلذلك سميت * (حمالة الحطب) * وعلى هذا التأويل ف * (حمالة) * معرفة يراد به الماضي وقيل إن قوله * (حمالة الحطب) * استعارة لذنوبها التي تحطبها على نفسها لاخرتها ف * (حمالة) * على هذا نكرة يراد بها الاستقبال وقيل هي استعارة لسعيها على الدين والمؤمنين كما تقول فلان يحطب على فلان وفي حبل فلان فكانت هي تحطب على المؤمنين وفي حبل المشركين وقال الشاعر
(ان بني الأدرم حمالو الحطب
* هم الوشاة في الرضى وفي الغضب) الرجز
وقرا ابن مسعود (ومرياته) وقرا الجمهور (حمالة) بالرفع وقرا عاصم (حمالة) بالنصب على الذم وهي قراءة الحسن والأعرج وابن محيصن وقرا ابن مسعود (حمالة للحطب) بالرفع ولام الجر وقرا أبو قلابة (حاملة) الميم بعد الألف وقوله * (في جيدها حبل من مسد) * قال ابن عباس والضحاك والسدي وابن زيد الإشارة إلى الحبل حقيقة الذي ربطت به الشوك وحطبه قال السدي (المسد) الليف وقيل ليف المقل ذكره أبو الفتح وغيره وقال ابن زيد هو شجر باليمن يسمى المسد تصنع منه الجبال وقال النابغة
(مقذوفة بدخيس النحض بازلها
* له صريف صريف القعو بالمسد) البسيط
القعو البكرة والمسد الحبل وقال عروة بن الزبير وسفيان ومجاهد وغيرهم هذا الكلام استعارة والمراد سلسلة من حديد في جهنم ذرعها سبعون ذراعا ونحو هذا من العبارات وقال قتادة * (حبل من مسد) * قلادة من ودع قال ابن المسيب كان لها قلادة فاخرة فقالت لأنفقنها على عداوة محمد
قال القاضي أبو محمد فإنما عبر عن قلادتها ب * (حبل من مسد) * على جهة التفاؤل لها وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث وروي في هذا الحديث ان هذه السورة لما نزلت وقرئت بلغت أم جميل فجاءت أبا بكر وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فقالت يا أبا بكر بلغني ان صاحبك هجاني ولأفعلن وأفعلن وإني شاعرة وقد قلت فيه
(مذمما قلينا
* ودينه أبينا) الرجز
فسكت أبو بكر ومضت هي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد حجبني عنها ملائكة فما راتني وكفى الله شرها)
535

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الاخلاص
هذه السورة مكية قاله مجاهد بخلاف عنه وعطاء وقتادة وقال ابن عباس والقرظي وأبو العالية هي مدنية
قوله عز وجل
سورة الاخلاص 1 - 4
قرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود والربيع بن خيثم (قل هو الله أحد الواحد الصمد) وروى أبي بن كعب ان المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربه تعالى عما يقول الجاهلون فنزلت هذه السورة وروى ابن عباس ان اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه فإنه وصف نفسه في التوراة ونسبها فارتعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خر مغشيا عليه ونزل عليه جبريل بهذه السورة وقال أبو العالية قال قتادة الأحزاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربك فأتاه الوحي بهذه السورة و * (أحد) * معناه فرد من جميع جهات الوحدانية ليس كمثله شيء وهو ابتداء و * (الله) * ابتداء ثان و * (أحد) * خبره والجملة خبر الأول وقيل " هو " ابتداء و * (الله) * خبره و * (أحد) * بدل منه وحذف أبو عمرو التنوين من * (أحد) * لالتقاء الساكنين (أحد الله) وأثبتها الباقون مكسورة للالتقاء واما وفقهم كلهم فبسكون الدال وقد روي عن أبي عمرو الوصل بسكون الدال وروي عنه أيضا تنوينها و * (الصمد) * في كلام العرب السيد الذي يصمد اليه في الأمور ويستقل بها وانشدوا
(ألا بكر الناعي بخير بني أسد
* بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد) الطويل
وبهذا تفسر هذه الآية لأن الله جلت قدرته هو موجود الموجودات واليه تصمد به قوامها ولا غني بنفسه الا وهو تبارك وتعالى وقال كثير من المفسرين * (الصمد) * الذي لا جوف له كأنه بمعنى المصمت وقال الشعبي هو الذي لا يأكل ولا يشرب وفي هذا التفسير كله نظر لأن الجسم في غاية البعد عن صفات الله تعالى
فما الذي تعطينا هذه العبارات و * (الله الصمد) * ابتداء وخبر وقيل * (الصمد) * نعت والخبر فيما بعد وقوله تعالى * (لم يلد ولم يولد) * رد على إشارة الكفار في النسب
536

الذي سألوه وقال ابن عباس تفكروا في كل شيء ولا تتفكروا في ذات الله تعالى
قال القاضي أبو محمد لأن الأفهام تقف دون ذلك حسيرة والمؤمنون يعرفون الله تعالى بواجب وجوده وافتقار كل شيء اليه واستغنائه عن كل شيء وينفي العقل عنه كل ما لا يليق به تبارك وتعالى وان ليس كمثله شيء وكل ما ذكرته فهو في ضمن هذه السورة الوجيزة البليغة وقوله تعالى * (ولم يكن له كفوا أحد) * معناه ليس له ضد ولا ند ولا شبيه والكفأ والكفؤ والكفاء النظير وقرأ (كفؤا) بضم الكاف وهمز مسهل نافع والأعرج وأبو جعفر وشيبة وقرا بالهمز عاصم وأبو عمرو بخلاف عنه وقرا حمزة (كفوا) بالهمز وإسكان الفاء وروي عن نافع (كفا) بفتح الفاء وبغير همز
وقرا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس (ولم يكن له كفاء أحد) بكسر الكاف وفتح الفاء والمد و " كفؤا " خبر كان واسمها * (أحد) * والظرف ملغى وسيبويه رحمه الله يستحسن ان يكون الظرف إذا تقدم خبرا ولكن قد يجيء ملغى في أماكن يقتضيها المعنى كهذه الآية وكما قال الشاعر
(ما دام فيهن فصيل حيا
*)
ويحتمل ان يكون " كفؤا " حالا لما قدم من كونه وصفا للنكرة كما قال لعزة موحشا طلل قال سيبويه وهذا يقل في الكلام وبابه الشعر وقال صلى الله عليه وسلم (إن * (قل هو الله أحد) * تعدل ثلث القرآن)
قال القاضي أبو محمد بما فيها من التوحيد
537

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفلق
هذه السورة قال ابن عباس هي مدنية وقال قتادة هي مكية
قوله عز وجل
سورة الفلق 1 - 5
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو آحاد أمته وقال ابن عباس وابن جبير والحسن والقرظي وقتادة ومجاهد وابن زيد * (الفلق) * الصبح كقوله تعالى * (فالق الإصباح) * الأنعام 96 وقال ابن عباس أيضا وجماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم * (الفلق) * جب في جهنم ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله * (من شر ما خلق) * يعم كل موجود له شر وقرا عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة القائلين بان الله لم يخلق الشر (من شر ما خلق) على النفي وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل الله خالق كل شيء واختلف الناس في (الغاسق إذا وقب) فقال ابن عباس ومجاهد والحسن (الغاسق) الليل و * (وقب) * معناه اظلم ودخل على الناس وقال الشاعر ابن قيس الرقيات
(إن هذا الليل قد غسقا
* واشتكيت الهم والأرقا) المديد
وقال محمد بن كعب (الغاسق إذا وقب) النهار دخل في الليل وقال ابن زيد عن العرب (الغاسق) سقوط الثريا وكانت الأسقام والطاعون تهيج عنده وقال عليه السلام النجم هو الغاسق فيحتمل أن يريد الثريا وقال لعائشة وقد نظر إلى القمر (تعوذي بالله * (من شر غاسق إذا وقب) * فهذا هو) وقال القتبي وغيره هو البدر إذا دخل في ساهوره فخسف قال الزهري في (الغاسق إذا وقب) الشمس إذا غربت و * (وقب) * في كلام العرب دخل وقد قال ابن عباس في كتاب النقاش (الغاسق إذا وقب) ذكر الرجل فهذا التعوذ في هذا التأويل نحو قوله عليه السلام وهو يعلم السائل التعوذ (قل أعوذ بالله من شر سمعي وشر قلبي وشر بصري وشر لساني وشر منيي) ذكر الحديث جماعة و * (النفاثات في العقد) * السواحر ويقال إن الإشارة أولا إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي كن ساحرات وهن اللواتي سحرن مع أبيهم النبي صلى الله عليه وسلم وعقدن له إحدى عشر عقدة فانزل الله تعالى إحدى عشرة آية
538

بعد العقد هي المعوذتان فشفي الله النبي صلى الله عليه وسلم والنفث شبه النفخ دون تفل ريق وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور فيؤذي بذلك وهذا الشأن في زمننا موجود شائع في صحراء المغرب وحدثني ثقة انه رأى عند بعضهم خيطا احمر قد عقد فيه عقد على فصلان فمنعت بذلك رضاع أمهاتها فكان إذا حل جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع أعاذنا الله من شر السحر والسحرة بقدرته وقرا عبد الله بن القاسم والحسن وابن عمر (النافثات في العقد) وقوله تعالى * (ومن شر حاسد إذا حسد) * قال قتادة من شر عينه ونفسه يريد بالنفس السعي الخبيث والاذاية كيف قدر لأنه عدو مجد ممتحن وقال الشاعر
(كل عداوة قد ترجى إفاقتها
* الا عداوة من عاداك من حسد)
وعين الحاسد في الأغلب لاقعة نعوذ بالله من شرها ولا أعدمنا الله حسده
(وإذا إراد الله نشر فضيلة
* طويت أتاح لها لسان حسود) الكامل
والحسد في الاثنتين اللتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حسد مستحسن غير ضار) وانما هو باعث على خير وهذه السورة خمس آيات فقال بعض الحذاق وهي مراد الناس بقولهم للحاسد إذا نظر إليهم الخمس على عينيك وقد غلطت العامة في هذا فيشيرون في ذلك بالأصابع لكونها خمسة وامال أبو عمرو * (حاسد) * والباقون بفتح الحاء وقال الحسن بن الفضل ذكر الله تعالى الشر في هذه السورة ثم ختمها بالحسد ليظهر انه اخس طبع
539

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الناس
قال ابن عباس وغيره هي مدنية وقال قتادة هي مكية
قوله عز وجل
سورة الناس 1 - 6
* (الوسواس) * اسم من أسماء الشيطان وهو أيضا ما توسوس به شهوات النفس وتسوله وذلك هو الهواء الذي نهي المرء عن اتباعه وامر بمعصيته والغضب الذي وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرحه وتركه حين قال له رجل أوصني فقال لا تغضب قال زدني قال لا تغضب وقوله * (الخناس) * معناه على عقبه المستتر أحيانا وذلك في الشيطان متمكن إذا ذكر العبد وتعوذ وتذكر فأبصر كما قال تعالى " إن الذين إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " الأعراف 201 وإذا فرضنا ذلك في الشهوات والغضب ونحوه فهو يخنس بتذكير النفس اللوامة بلمة الملك وبأن الحياء يردع والايمان بردع بقوة فتخنس تلك العوارض المتحركة وتنقمع عند من أعين بتوفيق
وقد اندرج هذان المعنيان من الوسواس في قوله تعالى " من الجنة والناس " أي من الشياطين ونفس الانسان ويظهر أيضا ان يكون قوله * (والناس) * يراد به من يوسوس بخدعه من البشر ويدعو إلى الباطل فهو في ذلك كالشيطان وكلهم قرأ * (الناس) * غير ممالة وروى الدوري عن الكسائي انه امال النون من * (الناس) * في حال الخفض ولا يميل في الرفع والنصب وقالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فيهما وقرا * (قل هو الله أحد) * الاخلاص 1 والمعوذتين ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده فيبدأ برأسه ووجهه وما أقبل من جسده ففعل ذلك ثلاثا وقال قتادة رحمه الله ان من الناس شياطين ومن الجن شياطين فتعوذوا بالله من شياطين الإنس والجن
540