الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ١٠
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
* (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المرتكبين للفاحشة إذا تابا وأصلحا زال الأذى عنهما، وأخبر على الاطلاق أيضا أنه تواب رحيم، ذكر وقت التوبة وشرطها، ورغبهم في تعجيلها لئلا يأتيهم الموت وهم مصرون فلا تنفعهم التوبة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أما حقيقة التوبة فقد ذكرناها في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم) * البقرة: 54) واحتج القاضي على أنه يجب على الله عقلا قبول التوبة بهذه الآية من وجهين: الأول: ان كلمة " على " للوجوب فقوله: * (إنما التوبة على الله للذين) * يدل على أنه يجب على الله عقلا قبولها. الثاني: لو حملنا قوله: * (إنما التوبة على على الله) * على مجرد القبول لم يبق بينه وبين قوله: * (فأولئك يتوب الله عليهم) * فرق لأن هذا أيضا إخبار عن الوقوع، أما إذا حملنا ذلك على وجوب القبول وهذا على الوقوع يظهر الفرق بين الآيتين ولا يلزم التكرار.
واعلم أن القول بالوجوب على الله باطل، ويدل عليه وجوه: الأول: أن لازمة الوجوب استحقاق الذم عند الترك، فهذه اللازمة اما أن تكون ممتنعة الثبوت في حق الله تعالى، أو غير ممتنعة في حقه، والأول باطل، لأن ترك ذلك الواجب لما كان مستلزما لهذا الذم، وهذا الذم محال الثبوت في حق الله تعالى، وجب أن يكون ذلك الترك ممتنع الثبوت في حق الله، وإذا كان الترك ممتنع الثبوت عقلا كان الفعل واجب الثبوت، فحينئذ يكون الله تعالى موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار
2

وذلك باطل، وأما ان كان استحقاق الذم غير ممتنع الحصول في حق الله تعالى، فكل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال، فيلزم جواز أن يكون الاله مع كونه إلها يكون موصوفا باستحقاق الذم وذلك محال لا يقوله عاقل، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن القول بالوجوب على الله تعالى باطل.
الحجة الثانية: أن قادرية العبد بالنسبة إلى فعل التوبة وتركها إما أن يكون على السوية، أولا يكون على السوية، فان كان على السوية لم يترجح فعل التوبة على تركها إلا لمرجح، ثم ذلك المرجح إن حدث لا عن محدث لزم نفي الصانع، وإن حدث عن العبد عاد التقسيم وإن حدث عن الله فحينئذ العبد إنما أقدم على التوبة بمعونة الله وتقويته، فتكون تلك التوبة إنعاما من الله تعالى على عبده، وإنعام المولى على عبده لا يوجب عليه أن ينعم عليه مرة أخرى، فثبت أن صدور التوبة عن العبد لا يوجب على الله القبول، وأما إن كانت قادرية العبد لا تصلح للترك والفعل فحينئذ يكون الجبر ألزم، وإذا كان كذلك كان القول بالوجوب أظهر بطلانا وفسادا.
الحجة الثالثة: التوبة عبارة عن الندم على ما مضى والعزم على الترك في المستقبل، والندم والعزم من باب الكراهات والإرادات، والكراهة والإرادة لا يحصلان باختيار العبد، وإلا افتقر في تحصيلهما إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل، وإذا كان كذلك كان حصول هذا الندم وهذا العزم بمحض تخليق الله تعالى، وفعل الله لا يوجب على الله فعلا آخر، فثبت أن القول بالوجوب باطل.
الحجة الرابعة: أن التوبة فعل يحصل باختيار العبد على قولهم، فلو صار ذلك علة للوجوب على الله لصار فعل العبد مؤثرا في ذات الله وفي صفاته، وذلك لا يقوله عاقل.
فأما الجواب عما احتجوا به فهو أنه تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين، فإذا وعد الله بشيء وكان الخلف في وعده محالا كان ذلك شبيها بالواجب، فبهذا التأويل صح اطلاق كلمة " على " وبهذا الطريق ظهر الفرق بين قوله: * (إنما التوبة على الله) * وبين قوله: * (فأولئك يتوب الله عليهم) *.
إن قيل: فلما أخبر عن قبول التوبة وكل ما أخبر الله عن وقوعه كان واجب الوقوع، فيلزمكم أن لا يكون فاعلا مختارا.
قلنا: الاخبار عن الوقوع تبع للوقوع، والوقوع تبع للايقاع، والتبع لا يغير الأصل، فكان فاعلا مختارا في ذلك الايقاع. أما أنتم تقولون بأن وقوع التوبة من حيث أنها هي تؤثر في وجوب القبول على الله تعالى، وذلك لا يقوله عاقل فظهر الفرق.
المسألة الثانية: أنه تعالى شرط قبول هذه التوبة بشرطين: أحدهما قوله: * (للذين يعملون
3

السوء بجهالة) * وفيه سؤالان: أحدهما: أن من عمل ذنبا ولم يعلم أنه ذنب لم يستحق عقابا، لأن الخطأ مرفوع عن هذه الأمة، فعلى هذا: الذين يعملون السوء بجهالة فلا حاجة بهم إلى التوبة، والسؤال الثاني: أن كلمة " إنما " للحصر، فظاهر هذه الآية يقتضي أن من أقدم على السوء مع العلم بكونه سوأ أن لا تكون توبته مقبولة، وذلك بالاجماع باطل.
والجواب عن السؤال الأول: أن اليهودي اختار اليهودية وهو لا يعلم كونها ذنبا مع أنه يستحق العقاب عليها.
والجواب عن السؤال الثاني: أن من أتى بالمعصية مع الجهل بكونها معصية يكون حاله أخف ممن أتى بها مع العلم بكونها معصية، وإذا كان كذلك لا جرم خص القسم الأول بوجوب قبول التوبة وجوبا على سبيل الوعد والكرم، وأما القسم الثاني فلما كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التأكيد في قبول التوبة، فتكون هذه الآية دالة من هذا الوجه على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى.
وإذا عرفت الجواب عن هذين السؤالين فلنذكر الوجوه التي ذكرها المفسرون في تفسير الجهالة.
الأول: قال المفسرون: كل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة، قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: * (أصب إليهن وأكن من الجاهلين) * (يوسف: 33 (وقال حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قال لأخوته: * (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) * (يوسف: 89) وقال تعالى: * (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) * (هود: 46) وقال تعالى: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا
: أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * (البقرة: 67) وقد يقول السيد لعبده حال ما يذمه على فعل: يا جاهل لم فعلت كذا وكذا، والسبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي لربه أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية، فلما لم يستعمل ذلك العلم صار كأنه لا علم له، فعلى هذا الطريق سمي العاصي لربه جاهلا، وعلى هذا الوجه يدخل فيه المعصية سواء أتى بها الانسان مع العلم بكونها معصية أو مع الجهل بذلك.
والوجه الثاني: في تفسير الجهالة: أن يأتي الانسان بالمعصية مع العلم بكونها معصية إلا أن يكون جاهلا بقدر عقابه، وقد علمنا أن الانسان إذا أقدم على ما لا ينبغي مع العلم بأنه مما لا ينبغي إلا أنه لا يعلم مقدار ما يحصل في عاقبته من الآفات، فإنه يصح أن يقال على سبيل المجاز: انه جاهل بفعله.
والوجه الثالث: أن يكون المراد منه أن يأتي الانسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونه معصية لكن بشرط أن يكون متمكنا من العلم بكونه معصية، فإنه على هذا التقدير يستحق العقاب، ولهذا
4

المعنى أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب، وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية، إلا أنه لما كان متمكنا من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية، كفى ذلك في ثبوت استحقاق العقاب، ويخرج عما ذكرنا النائم والساهي، فإنه أتى بالقبيح ولكنه ما كان متمكنا من العلم بكونه قبيحا، وهذا القول راجح على غيره من حيث أن لفظ الجهالة في الوجهين الأولين محمول على المجاز، وفي هذا الوجه على الحقيقة، إلا أن على هذا الوجه لا يدخل تحت الآية إلا من عمل القبيح وهو لا يعلم قبحه، أما المتعمد فإنه لا يكون داخلا تحت الآية، وإنما يعرف حاله بطريق القياس وهو أنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة، فلأن تكون واجبة على العامد كان ذلك أولى، فهذا هو الكلام في الشرط الأول من شرائط التوبة، وأما الشرط الثاني فهو قوله: * (ثم يتوبون من قريب) * وقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله، وإنما سمى تعالى هذه المدة قريبة لوجوه: أحدها: أن الأجل آت وكل ما هو آت قريب. وثانيها: للتنبيه على أن مدة عمر الانسان وإن طالت فهي قليلة قريبة فإنها محفوفة بطرفي الأزل والأبد، فإذا قسمت مدة عمرك إلى ما على طرفيها صار كالعدم. وثالثها: أن الانسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به، وما هذا حاله فإنه يوصف بالقرب.
فان قيل: ما معنى " من " في قوله: * (من قريب) *.
الجواب: أنه لابتداء الغاية، أي يجعل مبتدأ توبته زمانا قريبا من المعصية لئلا يقع في زمرة المصرين، فأما من تاب بعد المعصية بزمان بعيد وقبل الموت بزمان بعيد فإنه يكون خارجا عن المخصوصين بكرامة حتم قبول التوبة على الله بقوله: * (إنما التوبة على الله) * وبقوله: * (فأولئك يتوب الله عليهم) * ومن لم تقع توبته على هذا الوجه فإنه يكفيه أن يكون من جملة الموعودين بكلمة " عسى " في قوله: * (عسى الله أن يتوب عليهم) * (التوبة: 102) ولا شك أن بين الدرجتين من التفاوت ما لا يخفى. وقيل: معناه التبعيض، أي يتوبون بعض زمان قريب، كأنه تعالى سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمانا قريبا، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذين الشرطين قال: * (فأولئك يتوب الله عليهم) *.
فان قيل: فما فائدة قوله: * (فأولئك يتوب الله عليهم) * بعد قوله: * (إنما التوبة على الله) *.
قلنا: فيه وجهان: الأول: أن قوله: * (إنما التوبة على الله) * إعلام بأنه يجب على الله قبولها، وجوب الكرم والفضل والاحسان، لا وجوب الاستحقاق، وقوله: * (فأولئك يتوب الله عليهم) *
5

إخبار بأنه سيفعل ذلك. والثاني: أن قوله: * (إنما التوبة على الله) * يعني إنما الهداية إلى التوبة والارشاد إليها والاعانة عليها على الله تعالى في حق من أتى بالذنب على سبيل الجهالة ثم تاب عنها عن قريب وترك الاصرار عليها وأتى بالاستغفار عنها. ثم قال: * (فأولئك يتوب الله عليهم) * يعني أن العبد الذي هذا شأنه إذا أتى بالتوبة قبلها الله منه، فالمراد بالأول التوفيق على التوبة، وبالثاني قبول التوبة.
ثم قال: * (وكان الله عليما حكيما) * أي وكان الله عليما بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه، حكيما بأن العبد لما كان من صفته ذلك، ثم إنه تاب عنها من قريب فإنه يجب في الكرم قبول توبته.
قوله تعالى
* (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الان ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر شرائط التوبة المقبولة أردفها بشرح التوبة التي لا تكون مقبولة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الآية دالة على أن من حضره الموت وشاهد أهواله فان توبته غير مقبولة، وهذه المسألة مشتملة على بحثين:
البحث الأول: الذي يدل على أن توبة من وصفنا حاله غير مقبولة وجوه: الأول: هذه الآية وهي صريحة في المطلوب، الثاني: قوله تعالى: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * (غافر: 85) الثالث: قال في صفة فرعون: * (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) * (يونس: 90 - 91) فلم يقبل الله توبته عند مشاهدة العذاب، ولو أنه أتى بذلك الايمان قبل تلك الساعة بلحظة لكان مقبولا، الرابع: قوله تعالى: * (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها) * (المؤمنون: 99 - 100) الخامس: قوله تعالى: * (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى
6

أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) * (المنافقون: 10 - 11) فأخبر تعالى في هذه الآيات أن التوبة لا تقبل عند حضور الموت. السادس: روى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، أي ما لم تتردد الروح في حلقه، وعن عطاء: ولو قبل موته بفواق الناقة. وعن الحسن: أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دامت روحه في جسده، فقال: وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر.
واعلم أن قوله: * (حتى إذا حضر أحدهم الموت) * (النساء: 18) أي علامات نزول الموت وقربه، وهو كقوله تعالى: * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) * (البقرة: 180).
البحث الثاني: قال المحققون: قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة، بل المانع من قبول التوبة مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار، وإنما قلنا إن نفس القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة لوجوه: الأول: أن جماعة أماتهم الله تعالى ثم أحياهم مثل قوم من بني إسرائيل، ومثل أولاد أيوب عليه السلام، ثم إنه تعالى كلفهم بعد ذلك الاحياء، فدل هذا على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف. الثاني: أن الشدائد التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشدائد الحاصلة عند القولنج، ومثل الشدائد التي تلقاها المرأة عند الطلق أو أزيد منها، فإذا لم تكن هذه الشدائد مانعة من بقاء التكليف فكذا القول في تلك الشدائد. الثالث: أن عند القرب من الموت إذا عظمت الآلام صار اضطرار العبد أشد وهو تعالى يقول: * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) * (النمل: 62) فتزايد الآلام في ذلك الوقت بأن يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يكون سببا لعدم قبول التوبة، فثبت بهذه الوجوه أن نفس القرب من الموت ونفس تزايد الآلام والمشاق، لا يجوز أن يكون مانعا من قبول التوبة، ونقول: المانع من قبول التوبة أن الانسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالا وأهوالا صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال، ومتى صارت معرفته بالله ضرورية سقط التكليف عنه، ألا ترى أن أهل الآخرة لما صارت معارفهم ضرورية سقط التكليف عنهم وإن لم يكن هناك موت ولا عقاب، لأن توبتهم عند الحشر والحساب وقبل دخول النار، لا تكون مقبولة.
واعلم أن ههنا بحثا عميقا أصوليا، وذلك لأن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا، ويشاهدون أيضا النار العظيمة وأصناف الأهوال، وكل ذلك لا يوجب أن يصير العلم بالله ضروريا، لأن العلم بأن حصول الحياة بعد أن كانت معدومة يحتاج إلى الفاعل علم نظري عند أكثر شيوخ المعتزلة، وبتقدير أن يقال: هذا العلم ضروري لكن العلم بأن الاحياء لا يصح من غير الله لا شك أنه نظري، وأما العلم بأن فاعل تلك النيران العظيمة ليس إلا الله، فهذا
7

أيضا استدلالي، فكيف يمكن ادعاء أن أهل الآخرة لأجل مشاهدة أهوالها يعرفون الله بالضرورة ثم هب أن الأمر كذلك، فلم قلتم بأن العلم بالله إذا كان ضروريا منع من صحة التكليف. وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الاله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم، وأنه لا ينفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه، وإذا كان الأمر كذلك، فلم قالوا: بأن هذا يوجب زوال التلكيف وأيضا: فهذا الذي يقوله هؤلاء المعتزلة من أن العلم بالله في دار التكليف يجب أن يكون نظريا، فإذا صار ضروريا سقط التكليف: كلام ضعيف، لأن من حصل في قلبه العلم بالله إن كان تجويز نقيضه قائما في قلبه، فهذا يكون ظنا لا علما، وإن لم يكن تجويز نقيضه قائما، امتنع أن يكون علم آخر أقوى منه وآكد منه، وعلى هذا التقدير لا يبقى البتة فرق بين العلم الضروري وبين العلم النظري فثبت أن هذه الأشياء التي تذكرها المعتزلة كلمات ضعيفة واهية، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فهو بفضله وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعدله أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر، وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردودا، والمردود مقبولا * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * (الأنبياء: 23). المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر قسمين، فقال في القسم الأول: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) * (النساء: 17) وهذا مشعر بأن قبول توبتهم واجب، وقال في القسم الثاني: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) * فهذا جزم بأنه تعالى لا يقبل توبة هؤلاء فبقي بحكم التقسيم العقلي فيما بين هذين القسمين قسم ثالث: وهم الذين لم يجزم الله تعالى بقبول توبتهم، ولم يجزم برد توبتهم. فلما كان القسم الأول: هم الذين يعملون السوء بجهالة، والقسم الثاني: هم الذين لا يتوبون إلا عند مشاهدة البأس، وجب أن يكون القسم المتوسط بين هذين القسمين: هم الذين يعملون السوء على سبيل العمد، ثم يتوبون، فهؤلاء ما أخبر الله عنهم أنه يقبل توبتهم، وما أخبر عنهم أنه يرد توبتهم، بل تركهم في المشيئة، كما أنه تعالى ترك مغفرتهم في المشيئة حيث قال: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *.
المسألة الثالثة: أنه تعالى لما بين أن من تاب عند حضور علامات الموت ومقدماته لا تقبل توبته قال: * (ولا الذين يموتون) * وفيه وجهان: الأول: معناه الذين قرب موتهم، والمعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الايمان لا يقبل عند القرب من الموت. الثاني: المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم.
المسألة الرابعة: تعلقت الوعيدية بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجهين: الأول: قالوا إنه تعالى قال: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن
8

ولا الذين يموتون وهم كفار) * فعطف الذين يعملون السيئات على الذين يموتون وهم كفار، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فثبت أن الطائفة الأولى ليسوا من الكفار، ثم إنه تعالى قال في حق الكل: * (أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) * فهذا يقتضي شمول هذا الوعيد للكفار والفساق. الثاني: أنه تعالى أخبر أنه لا توبة لهم عند المعاينة، فلو كان يغفر لهم مع ترك التوبة لم يكن لهذا الاعلام معنى.
والجواب: أنا قد جمعنا جملة العمومات الوعيدية في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) * (البقرة: 81) وأجبنا عن تمسكهم بها وذكرنا وجوها كثيرة من الأجوبة، ولا حاجة إلى إعادتها في كل واحد من هذه العمومات، ثم نقول الضمير يجب أن يعود إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات من قوله: * (أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) * هو قوله: * (ولا الذين يموتون وهم كفار) * فلم لا يجوز أن يكون قوله: * (أعتدنا لهم عذابا أليما) * عائدا إلى الكفار فقط، وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى أخبر عن الذين لا يتوبون إلا عند الموت أن توبتهم غير مقبولة، ثم ذكر الكافرين بعد ذلك، فبين أن ايمانهم عند الموت غير مقبول، ولا شك أن الكافر أقبح فعلا وأخس درجة عند الله من الفاسق، فلا بد وأن يخصه بمزيد إذلال وإهانة فجاز أن يكون قوله: * (أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) * مختصا بالكافرين، بيانا لكونهم مختصين بسبب كفرهم بمزيد العقوبة والإذلال.
أما الوجه الثاني: مما عولوا عليه: فهو أنه أخبر أنه لا توبة عند المعاينة، وإذا كان لا توبة حصل هناك تجويز العقاب وتجويز المغفرة، وهذا لا يخلو عن نوع تخويف وهو كقوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) على أن هذا تمسك بدليل الخطاب، والمعتزلة لا يقولون به والله أعلم.
المسألة الخامسة: أنه تعالى عطف على الذين يتوبون عند مشاهدة الموت، الكفار، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فهذا يقتضي أن الفاسق من أهل الصلاة ليس بكافر، ويبطل به قول الخوارج: إن الفاسق كافر، ولا يمكن أن يقال: المراد منه المنافق لأن الصحيح أن المنافق كافر، قال تعالى: * (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) * (المنافقون: 1) والله أعلم.
المسألة السادسة: أعتدنا: أي أعددنا وهيأنا، ونظيره قوله تعالى في صفة نار جهنم: * (أعدت للكافرين) * (البقرة: 24، آل عمران: 131) احتج أصحابنا بهذه الآية على أن النار مخلوقة لأن العذاب الأليم ليس إلا نار جهنم وبرده، وقوله: * (أعتدنا) * إخبار عن الماضي، فهذا يدل على كون النار مخلوقة من هذا الوجه والله أعلم.
9

قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ ءاتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) *.
اعلم أنه تعالى بعد وصف التوبة عاد إلى أحكام النساء، واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يؤذون النساء بأنواع كثيرة من الايذاء، ويظلمونهن بضروب من الظلم، فالله تعالى نهاهم عنها في هذه الآيات.
فالنوع الأول: قوله تعالى: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: في الآية قولان: الأول: كان الرجل في الجاهلية إذا مات وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله، فصار أحق بها من سائر الناس ومن نفسها، فان شاء تزوجها بغير صداق، إلا لصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبين أن ذلك حرام وأن الرجل لا يرث امرأة الميت منه، فعلى هذا القول المراد بقوله: * (أن ترثوا النساء) * عين النساء، وأنهن لا يورثن من الميت.
والقول الثاني: ان الوراثة تعود إلى المال، وذلك أن وارث الميت كان له أن يمنعها من الأزواج حتى تموت فيرثها مالها، فقال تعالى: لا يحل لكم أن ترثوا أموالهن وهن كارهات.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي * (كرها) * بضم الكاف، وفي التوبة * (أنفقوا طوعا أو كرها) * (التوبة: 53) وفي الأحقاف * (حملته أمه كرها ووضعته كرها) * (الأحقاف: 15) كل ذلك بالضم، وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم، والباقي بالفتح، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك، قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وقال الفراء: الكره بالفتح الا الاكراه، وبالضم المشقة، فما أكره
10

عليه فهو كره بالفتح، وما كان من قبل نفسه فهو كره بالضم.
النوع الثاني: من الأشياء التي نهى الله عنها مما يتعلق بالنساء قوله تعالى: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في محل * (ولا تعضلوهن) * قولان: الأول: انه نصب بالعطف على حرف " أن " تقديره: ولا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا أن تعضلوهن في قراءة عبد الله، والثاني: أنه جزم بالنهي عطفا على ما تقدم تقديره، ولا ترثوا ولا تعضلوا.
المسألة الثانية: العضل: المنع، ومنه الداء العضال، وقد تقدم الاستقصاء فيه في قوله: * (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) * (البقرة: 232).
المسألة الثالثة: المخاطب في قوله: * (ولا تعضلوهن) * من هو؟ فيه أقوال: الأول: أن الرجل منهم قد كان يكره زوجته ويريد مفارقتها، فكان يسيء العشرة معها ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها، وهذا القول اختيار أكثر المفسرين، فكأنه تعالى قال: لا يحل لكم التزوج بهن بالاكراه، وكذلك لا يحل لكم بعد التزوج بهن العضل والحبس لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن. الثاني: أنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوج بمن شاءت وأرادت، كما كان يفعله أهل الجاهلية وقوله: * (لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) * معناه أنهم كانوا يحبسون امرأة الميت وغرضهم أن تبذل المرأة ما أخذت من ميراث الميت، الثالث: أنه خطاب للأولياء ونهى لهم عن عضل المرأة، الرابع: أنه خطاب للأزواج. فإنهم في الجاهلية كانوا يطلقون المرأة وكانوا يعضلونهن عن التزوج ويضيقون الأمر عليهن لغرض أن يأخذوا منهن شيئا، الخامس: أنه عام في الكل.
أما قوله تعالى: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في الفاحشة المبينة قولان: الأول: أنها النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله، والمعنى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب: إلا أن يفحش عليكم.
والقول الثاني: أنها الزنا، وهو قول الحسن وأبي قلابة والسدي.
المسألة الثانية: قوله: * (إلا أن يأتين) * استثناء من ماذا؟ فيه وجوه: الأول: انه استثناء من أخذ الأموال، يعني لا يحل له أن يحبسها ضرارا حتى تفتدي منه إلا إذا زنت، والقائلون بهذا منهم من قال: بقي هذا الحكم وما نسخ، ومنهم من قال: انه منسوخ بآية الجلد. الثاني: أنه استثناء من الحبس والامساك الذي تقدم ذكره في قوله: * (فأمسكوهن في البيوت) * (النساء: 15) وهو قول أبي مسلم
11

وزعم أنه غير منسوخ. الثالث: يمكن أن يكون ذلك استثناء من قوله: * (ولا تعضلوهن) * لأن العضل هو الحبس فدخل فيه الحبس في البيت، فالأولياء والأزواج نهوا عن حبسهن في البيوت إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فعند ذلك يحل للأولياء والأزواج حبسهن في البيوت.
المسألة الثالثة: قرأ نافع وأبو عمرو * (مبينة) * بكسر الياء و * (آيات مبينات) * (النور: 34) بفتح الياء حيث كان، قال لأن في قوله: * (مبينات) * قصد إظهارها، وفي قوله: * (بفاحشة مبينة) * لم يقصد اظهارها، وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بالفتح فيهما، والباقون بكسر الياء فيهما، أما من قرأ بالفتح فله وجهان: الأول: أن الفاحشة والآيات لا فعل لهما في الحقيقة، إنما الله تعالى هو الذي بينهما. والثاني: ان الفاحشة تتبين، فان يشهد عليها أربعة صارت مبينة، وأما الآيات فان الله تعالى بينها، وأما من قرأ بالكسر فوجهه أن الآيات إذا تبينت وظهرت صارت أسبابا للبيان وإذا صارت أسبابا للبيان جاز إسناد البيان إليها، كما أن الأصنام لما كانت أسبابا للضلال حسن اسناد الاضلال إليها كقوله تعالى: * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * (إبراهيم: 36).
النوع الثالث: من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء قوله تعالى: * (وعاشروهن بالمعروف) * وكان القوم يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم: وعاشروهن بالمعروف، قال الزجاج: هو النصفة في المبيت والنفقة، والاجمال في القول.
ثم قال تعالى: * (فان كرهتموهن) * أي كرهتم عشرتهن بالمعروف وصحبتهن، وآثرتم فراقهن * (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) * والضمير في قوله * (فيه) * إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان: الأول: المعنى انكم إن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف فعسى أن يكون في صحبتهن الخير الكثير ومن قال بهذا القول فتارة فسر الخير الكثير بولد يحصل فتنقلب الكراهة محبة، والنفرة رغبة وتارة بأنه لما كره صحبتها ثم إنه يحمل ذلك المكروه طلبا لثواب الله، وأنفق عليها وأحسن إليها على خلاف الطبع، استحق الثواب الجزيل في العقبى والثناء الجميل في الدنيا، الثاني: أن يكون المعنى إن كرهتموهن ورغبتم في مفارقتهن، فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا، وذلك بأن تتخلص تلك المرأة من هذا الزوج وتجد زوجا خيرا منه، ونظيره قوله: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) * (النساء: 130) وهذا قول أبي بكر الأصم، قال القاضي: وهذا بعيد لأنه تعالى حث بما ذكر على سبيل الاستمرار على الصحبة، فكيف يريد بذلك المفارقة.
النوع الرابع: من التكاليف المتعلقة بالنساء.
12

قوله تعالى
* (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا * وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى في الآية الأولى لما أذن في مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة، بين في هذه الآية تحريم المضارة في غير حال الفاحشة فقال: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) * روي أن الرجل منهم إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها قال تعالى: * (وان أردتم استبدال زوج مكان زوج) * الآية والقنطار المال العظيم، وقد مر تفسيره في قوله تعالى: * (والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة) * (آل عمران: 14).
المسألة السادسة: قالوا: الآية تدل على جواز المغالاة في المهر، روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم، فقامت امرأة فقالت: يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر، ورجع عن كراهة المغالاة. وعندي أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة لأن قوله: * (وآتيتم إحداهن قنطارا) * لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) لا يدل على حصول الآلهة، والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع، وقال عليه الصلاة والسلام: " من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين " ولم يلزم منه جواز القتل، وقد يقول الرجل: لو كان الاله جسما لكان محدثا، وهذا حق، ولا يلزم منه ان قولنا: الاله جسم حق.
المسألة الثالثة: هذه الآية يدخل فيها ما إذا آتاها مهرها وما إذا لم يؤتها، وذلك لأنه أوقع العقد على ذلك الصداق في حكم الله، فلا فرق فيه بين ما إذا آتاها الصداق حسا، وبين ما إذا لم يؤتها.
المسألة الرابعة: احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر، قال وذلك لأن الله تعالى منع الزوج من أن يأخذ منها شيئا من المهر، وهذا المنع مطلق ترك العمل
13

به قبل الخلوة، فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة قال: ولا يجوز أن يقال انه مخصوص بقوله تعالى: * (وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) * (البقرة: 237) وذلك لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس فقال علي وعمر: المراد من المسيس الخلوة، وقال عبد الله: هو الجماع، وإذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصصا لعموم هذه الآية.
والجواب: ان هذه الآية المذكورة ههنا مختصة بما بعد الجماع بدليل قوله تعالى: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * وإفضاء بعضهم إلى البعض هو الجماع على قول أكثر المفسرين وسنقيم الدلائل على صحة ذلك.
المسألة الخامسة: اعلم أن سوء العشرة اما أن يكون من قبل الزوج، وإما أن يكون من قبل الزوجة، فان كان من قبل الزوج كره له أنه يأخذ شيئا من مهرها لأن قوله تعالى: * (وان أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * صريح في أن النشوز إذا كان من قبله فإنه يكون منهيا عن أن يأخذ من مهرها شيئا، ثم إن وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع، كما أن البيع وقت النداء منهي عنه، ثم انه يفيد الملك، وإذا كان النشوز من قبل المرأة فههنا يحل أخذ بدل الخلع؛ لقوله تعالى: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * (النساء: 19).
ثم قال تعالى: * (أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: البهتان في اللغة الكذب الذي يواجه الانسان به صاحبه على جهة المكابرة، وأصله من بهت الرجل إذا تحير، فالبهتان كذب يحير الانسان لعظمته، ثم جعل كل باطل يتحير من بطلانه * (بهتانا) *، ومنه الحديث: " إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته ".
المسألة الثانية: في أنه لم انتصب قوله: * (بهتانا) * وجوه: الأول: قال الزجاج: البهتان ههنا مصدر وضع موضع الحال، والمعنى: أتأخذونه مباهتين وآثمين. الثاني: قال صاحب " الكشاف ": يحتمل أنه انتصب لأنه مفعول له وإن لم يكن غرضا في الحقيقة، كقولك: قعد عن القتال جبنا. الثالث: انتصب بنزع الخافض، أي ببهتان. الرابع: فيه اضمار تقديره: تصيبون به بهتانا وإثما.
المسألة الثالثة: في تسمية هذا الأخذ " بهتانا " وجوه: الأول: أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استرده كان كأنه يقول: ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا. الثاني: أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر إليها، وأن لا يأخذه منها، فإذا أخذه صار ذلك القول الأول بهتانا. الثالث: أنا ذكرنا أنه كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه
14

بذلك المهر، فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب الأكثر، جعل كأن أحدهما هو الآخر. الرابع: أنه تعالى ذكر في الآية السابقة: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * والظاهر من حال المسلم أنه لا يخالف أمر الله، فإذا أخذ منها شيئا أشعر ذلك بأنها قد أتت بفاحشة مبينة، فإذا لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة صح وصف ذلك الأخذ بأنه بهتان، من حيث أنه يدل على إتيانها بالفاحشة مع أن الأمر ليس كذلك. وفيه تقرير آخر وهو أن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها، فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر، فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر، الخامس: أن عقاب البهتان والاثم المبين كان معلوما عندهم فقوله: * (أتأخذونه بهتانا) * معناه أتأخذون عقاب البهتان فهو كقوله: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (النساء: 10).
المسألة الرابعة: قوله: * (أتأخذونه) * استفهام على معنى الانكار والاعظام، والمعنى أن الظاهر أنكم لا تفعلون مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل.
واعلم أنه تعالى ذكر في علة هذا المنع أمورا: أحدهما: أن هذا الأخذ يتضمن نسبتها إلى الفاحشة المبينة، فكان ذلك بهتانا والبهتان من أمهات الكبائر. وثانيها: أنه إثم مبين لأن هذا المال حقها فمن ضيق الأمر عليها ليتوسل بذلك التشديد والتضييق وهو ظلم، إلى أخذ المال وهو ظلم آخر، فلا شك أن التوسل بظلم إلى ظلم آخر يكون إثما مبينا. وثالثها: قوله تعالى: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أصل أفضى من الفضاء الذي هو السعة يقال: فضا يفضو وفضاء إذا اتسع، قال الليث: أفضى فلان إلى فلان، أي وصل إليه، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه، وللمفسرين في الافضاء في هذه الآية قولان: أحدهما: أن الافضاء ههنا كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي؛ لأن عنده الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر، وإن خلا بها.
والقول الثاني: في الافضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها، قال الكلبي: الافضاء أن يكون معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها، وهذا القول اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. لأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر.
واعلم أن القول الأول أولى، ويدل عليه وجوه: الأول: أن الليث قال: أفضى فلان إلى فلانة
15

أي صار في فرجتها وفضائها، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع، أما في غير وقت الجماع فهذا غير حاصل. الثاني: أنه تعالى ذكر هذا في معرض التعجب، فقال: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الافضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة، وهو الجماع لا مجرد الخلوة، فوجب حمل الافضاء عليه. الثالث: وهو أن الافضاء إليها لا بد وأن يكون مفسرا بفعل منه ينتهي إليه، لأن كلمة " إلى " لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك، لأن عند الخلوة المحضة لم يصل فعل من أفعال واحد منهما إلى الآخر، فامتنع تفسير قوله: * (أفضى بعضكم إلى بعض) * بمجرد الخلوة.
فان قيل: فإذا اضطجعا في لحاف واحد وتلامسا فقد حصل الافضاء من بعضهم إلى بعض فوجب أن يكون ذلك كافيا. وأنتم لا تقولون به.
قلنا: القائل قائلان، قائل يقول: المهر لا يتقرر إلا بالجماع، وآخر: انه يتقرر بمجرد الخلوة وليس في الأمة أحد يقول إنه يتقرر بالملامسة والمضاجعة، فكان هذا القول باطلا بالاجماع، فلم يبق في تفسير إفضاء بعضهم إلى بعض إلا أحد أمرين: إما الجماع، وإما الخلوة، والقول بالخلوة باطل لما بيناه، فبقي أن المراد بالافضاء هو الجماع. الرابع: أن المهر قبل الخلوة ما كان متقررا، والشرع قد علق تقرره على إفضاء البعض إلى البعض، وقد اشتبه الأمر في أن المراد بهذا الافضاء، هو الخلوة أو الجماع، وإذا وقع الشك وجب بقاء ما كان على ما كان، وهو عدم التقرير، فبهذه الوجوه ظهر ترجيح مذهب الشافعي والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * كلمة تعجب، أي لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا؟ فإنها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئا بذله لها بطيبة نفسه؟ إن هذا لا يليق البتة بمن له طبع سليم وذوق مستقيم.
الوجه الرابع: من الوجوه التي جعلها الله مانعا من استرداد المهر قوله: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * في تفسير هذا الميثاق الغليظ وجوه: الأول: قال السدي وعكرمة والفراء: هو قولهم زوجتك هذه المرأة على ما أخذه الله للنساء على الرجال، من إمساك بمعروف أو تسريح باحسان، ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فما سرحها بالاحسان، بل سرحها بالإساءة. الثاني: قال ابن عباس ومجاهد: الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق، وتلك الكلمة كلمة تستحل بها فروج النساء، قال صلى الله عليه وسلم: " اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم
16

فروجهن بكلمة الله. الثالث: قوله: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * أي أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا، وصفه بالغلظة لقوته وعظمته، وقالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج.
النوع الخامس: من الأمور التي كلف الله تعالى بها في هذه الآية من الأمور المتعلقة بالنساء.
* (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهاهم الله بهذه الآية عن ذلك الفعل.
المسألة الثانية: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه، وقال الشافعي رحمة الله عليه: لا يحرم احتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال: إنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه، والنكاح عبارة عن الوطء فكان هذا نهيا عن نكاح موطوءة أبيه، إنما قلنا: إن النكاح عبارة عن الوطء لوجوه: الأول: قوله تعالى: * (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * (البقرة: 230) أضاف هذا النكاح إلى الزوج، والنكاح المضاف إلى الزوج هو الوطء لا العقد، لأن الانسان لا يمكنه أن يتزوج بزوجة نفسه لأن تحصيل الحاصل محال، ولأنه لو كان المراد بالنكاح في هذه الآية هو العقد لوجب أن يحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد، فتعين أن يكون هو الوطء لأنه لا قائل بالفرق، الثاني: قوله تعالى: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح) * (النساء: 6) والمراد من النكاح ههنا الوطء لا العقد، لأن أهلية العقد كانت حاصلة أبدا. الثالث: قوله تعالى: * (الزاني لا ينكح إلا زانية) * (النور: 3) فلو كان المراد ههنا العقد لزم الكذب. الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: " ناكح اليد ملعون " ومعلوم أن المراد ليس هو العقد بل هو الوطء. فثبت بهذه الوجوه أن النكاح عبارة عن الوطء، فلزم أن يكون قوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * أي: ولا تنكحوا ما وطئهن آباؤكم، وهذا يدخل فيه المنكوحة والمزنية، لا يقال: كما أن لفظ النكاح ورد بمعنى الوطء فقد ورد
17

أيضا بمعنى العقد قال تعالى: * (وأنكحوا الأيامى منكم) * (النور: 32) * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النسار: 3) * (إذا نكحتم المؤمنات) * (الأحزاب: 49) وقوله عليه الصلاة والسلام: " ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح " فلم كان حمل اللفظ على الوطء أولى من حمله على العقد؟
أجابوا عنه من ثلاثة أوجه: الأول: ما ذهب إليه الكرخي وهو أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، بدليل أن لفظ النكاح في أصل اللغة عبارة عن الضم، ومعنى الضم حاصل في الوطء لا في العقد، فكان لفظ النكاح حقيقة في الوطء. ثم إن العقد سمي بهذا الاسم لأن العقد لما كان سببا له أطلق اسم المسبب على السبب، كما أن العقيقة اسم للشعر الذي يكون على رأس الصبي حال ما يولد، ثم تسمى الشاة التي تذبح عند حلق ذلك الشعر عقيقة فكذا ههنا.
واعلم أنه كان مذهب الكرخي أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته ومجازه معا، فلا جرم كان يقول: المستفاد من هذه الآية حكم الوطء، أما حكم العقد فإنه غير مستفاد من هذه الآية، بل من طريق آخر ودليل آخر.
الوجه الثاني: أن من الناس من ذهب إلى أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميه معا فهذا القائل قال: دلت الآيات المذكورة على أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء وفي العقد معا، فكان قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * نهيا عن الوطء وعن العقد معا، حملا للفظ على كلا مفهوميه. الوجه الثالث: في الاستدلال، وهو قول من يقول: اللفظ المشترك لا يجوز استعماله في مفهوميه معا، قالوا: ثبت بالدلائل المذكورة أن لفظ النكاح قد استعمل في القرآن في الوطء تارة وفي العقد أخرى، والقول بالاشتراك والمجاز خلاف الأصل، ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو معنى الضم حتى يندفع الاشتراك والمجاز، وإذا كان كذلك كان قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * نهيا عن القدر المشترك بين هذين القسمين، والنهي عن القدر المشترك بين القسمين يكون نهيا عن كل واحد من القسمين لا محالة، فان النهي عن التزويج يكون نهيا عن العقد وعن الوطء معا، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا الاستدلال.
والجواب عنه من وجوه: الأول: لا نسلم أن اسم النكاح يقع على الوطء، والوجوه التي احتجوا بها على ذلك فهي معارضة بوجوه: أحدها: قوله عليه الصلاة والسلام: " النكاح سنتي " ولا شك أن الوطء من حيث كونه وطأ ليس سنة له، وإلا لزم أن يكون الوطء بالسفاح سنة له فلما ثبت أن النكاح سنة، وثبت أن الوطء ليس سنة، ثبت أن النكاح ليس عبارة عن الوطء، كذلك التمسك بقوله: * (تناكحوا تكثروا) * ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذنا في مطلق الوطء
18

وكذلك التمسك بقوله تعالى: * (وأنكحوا الأيامى منكم) * (النور: 32) وقوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3).
لا يقال: لما وقع التعارض بين هذه الدلائل فالترجيح معنا، وذلك لأنا لو قلنا: الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دلائلنا، ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى.
لأنا نقول: أنتم تساعدون على أن لفظ النكاح مستعمل في العقد، فلو قلنا: إن النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها، ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النكاح فيها بمعنى العقد، أما قولنا: ان النكاح فيها بمعنى الوطء فلا يلزمنا التخصيص، فقولكم يوجب المجاز والتخصيص معا، وقولنا يوجب المجاز فقط، فكان قولنا أولى.
الوجه الثاني: من الوجوه الدالة على أن النكاح ليس حقيقة في الوطء قوله عليه الصلاة والسلام: " ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح " أثبت نفسه مولودا من النكاح وغير مولود من السفاح، وهذا يقتضي أن لا يكون السفاح نكاحا، والسفاح وطء، فهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحا.
الوجه الثالث: أنه من حلف في أولاد الزنا: أنهم ليسوا أولاد النكاح لم يحنث، ولو كان الوطء نكاحا لوجب أن يحنث، وهذا دليل ظاهر على أن الوطء ليس مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة. الثاني: سلمنا أن الوطء مسمى بالنكاح، لكن العقد أيضا مسمى به، فلم كان حمل الآية على ما ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا؟
أما الوجه الأول: وهو الذي ذكره الكرخي فهو في غاية الركاكة، وبيانه من وجهين: الأول: أو الوطء مسبب العقد، فكما يحسن إطلاق اسم المسبب على السبب مجازا فكذلك يحسن اطلاق اسم السبب على المسبب مجازا. فكما يحتمل أن يقال: النكاح اسم للوطء ثم أطلق هذا الاسم على العقد لكونه سببا للوطء، فكذلك يحتمل أن يقال: النكاح اسم للعقد، ثم أطلق هذا الاسم على الوطء لكون الوطء مسببا له، فلم كان أحدهما أولى من الآخر؟ بل الاحتمال الذي ذكرناه أولى، لأن استلزام السبب للمسبب أتم من استلزام المسبب للسبب المعين، فإنه لا يمتنع أن يكون لحصول الحقيقة الواحدة أسباب كثيرة، كالملك فإنه يحصل بالبيع والهبة والوصية والإرث، ولا شك أن الملازمة شرط لجواز المجاز، فثبت أن القول بأن اسم النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء، أولى من عكسه.
الوجه الثاني: أن النكاح لو كان حقيقة في الوطء مجازا في العقد، وقد ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معا، فحينئذ يلزم أن لا تكون الآية دالة
19

على حكم العقد، وهذا وإن كان قد التزمه الكرخي لكنه مدفوع بالدليل القاطع، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم، وأجمع المسلمون على أن سبب نزول الآية لا بد وأن يكون داخلا تحت الآية، بل اختلفوا في أن غيره هل يدخل تحت الآية أم لا؟ وأما كون سبب النزول داخلا فيها فذاك مجمع عليه بين الأمة، فإذا ثبت باجماع المفسرين، أن سبب نزول هذه الآية هو العقد لا الوطء، وثبت باجماع المسلمين أن سبب النزول لا بد وأن يكون مرادا، ثبت بالاجماع أن النهي عن العقد مراد من هذه الآية، فكان قول الكرخي واقعا على مضادة هذا الدليل القاطع، فكان فاسدا مردودا قطعا.
أما الوجه الثاني: مما ذكروه وهو أنا نحمل لفظ النكاح على مفهوميه، فنقول: هذا أيضا باطل، وقد بينا وجه بطلانه في أصول الفقه.
وأما الوجه الثالث: فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب، وهو أيضا ضعيف لأن الضم الحاصل في الوطء عبارة عن تجاور الأجسام وتلاصقها، والضم الحاصل في العقد ليس كذلك لأن الايجاب والقبول أصوات غير باقية، فمعنى الضم والتلاقي والتجاور فيها محال، وإذا كان كذلك ثبت أنه ليس بين الوطء وبين العقد مفهوم مشترك حتى يقال: إن لفظ النكاح حقيقة فيه، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال: لفظ النكاح مشترك بين الوطء وبين العقد، ويقال: إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، وحينئذ يرجع الكلام إلى الوجهين الأولين، فهذا هو الكلام الملخص في هذا.
الوجه الثاني: في الجواب عن هذا الاستدلال أن نقول: سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء، ولكن لم قلتم: إن قوله: * (ما نكح آباؤكم) * المراد منه المنكوحة، والدليل عليه إجماعهم على أن لفظه " ما " حقيقة في غير العقلاء، فلو كان المراد منه ههنا المنكوحة لزم هذا المجاز، وإنه خلاف الأصل، بل أهل العربية اتفقوا على أن " ما " مع بعدها في تقدير المصدر، فتقدير الآية: ولا تنكحوا نكاح آبائكم، وعلى هذا يكون المراد منه النهي عن أن تنكحوا نكاحا مثل نكاح آبائكم، فان أنكحتهم كانت بغير ولي ولا شهود، وكانت موقتة، وكانت على سبيل القهر والالجاء، فالله تعالى نهاهم بهذه الآية عن مثل هذه الأنكحة، وهذا الوجه منقول عن محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية.
الوجه الثالث: في الجواب عن هذا الاستدلال: سلمنا أن المراد من قوله: * (ما نكح آباؤكم) * المنكوحة، والتقدير: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكن قوله: من نكح آباؤكم ليس صريحا في العموم بدليل أنه يصح إدخال لفظي الكل والبعض عليه، فيقال: ولا تنكحوا كل ما نكح آباؤكم ولا تنكحوا بعض من نكح آباؤكم، ولو كان هذا صريحا في العموم لكان إدخال لفظ
20

الكل عليه تكريرا، وإدخال لفظ البعض عليه نقصا، ومعلوم أنه ليس كذلك، فثبت أن قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * لا يفيد العموم، وإذا لم يفد العموم لم يتناول محل النزاع.
لا يقال: لو لم يفد العموم لم يكن صرفه إلى بعض الأقسام أولى من صرفه إلى الباقي، فحينئذ يصير مجملا غير مفيد، والأصل أن لا يكون كذلك.
لأنا نقول: لا نسلم أن بتقدير أن لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزوله إنما هو التزوج بزوجات الآباء، فكان صرفه إلى هذا القسم أولى، وبهذا التقدير لا يلزم كون الآية مجملة، ولا يلزم كونها متناولة لمحل النزاع.
الوجه الرابع: سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النزاع، لكن لم قلتم: إنه يفيد التحريم؟ أليس أن كثيرا من أقسام النهي لا يفيد التحريم، بل يفيد التنزيه، فلم قلتم: إنه ليس الأمر كذلك؟ أقصى ما في الباب أن يقال: هذا على خلاف الأصل، ولكن يجب المصير إليه إذا دل الدليل، وسنذكر دلائل صحة هذا النكاح إن شاء الله تعالى.
الوجه الخامس: أن ما ذكرتم هب أنه يدل على فساد هذا النكاح، إلا أن ههنا ما يدل على صحة هذا النكاح وهو من وجوه:
الحجة الأولى: هذا النكاح منعقد فوجب أن يكون صحيحا، بيان أنه منعقد أنه عند أبي حنيفة رضي الله عنه منهي عنه بهذه الآية، ومن مذهبه أن النهي عن الشيء يدل على كونه في نفسه منعقدا وهذا هو أصل مذهبه في مسألة البيع الفاسد وصوم يوم النحر، فيلزم من مجموع هاتين المقدمتين أن يكون هذا النكاح منعقدا على أصل أبي حنيفة، وإذا ثبت القول بالانعقاد في هذه الصورة وجب القول بالصحة لأنه لا قائل بالفرق. فهذا وجه حسن من طريق الالزام عليهم في صحة هذا النكاح. الحجة الثانية: عموم قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 221) نهى عن نكاح المشركات ومد النهي إلى غاية وهي إيمانهن، والحكم الممدود إلى غاية ينتهي عند حصول تلك الغاية، فوجب أن ينتهي المنع من نكاحهن عند إيمانهن، وإذا انتهى المنع حصل الجواز، فهذا يقتضي جواز نكاحهن على الاطلاق، ولا شك أنه يدخل في هذا العموم مزنية الأب وغيرها، أقصى ما في الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في مواضع يبقى حجة في غير محل التخصيص. وكذلك نستدل بجميع العمومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى: * (وأنكحوا الأيامى) * (النور: 32) وقوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3) وأيضا نتمسك بقوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * (النساء: 24) وليس لأحد أن يقول: إن قوله:
21

* (ما وراء ذلكم) * ضمير عائد إلى المذكور السابق، ومن جملة المذكور السابق قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * وذلك لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات إليه هو من قوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * (النساء: 23) فكان قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * عائدا إليه، ولا يدخل فيه قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * وأيضا نتمسك بعمومات الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه " وقوله: " زوجوا بناتكم الأكفاء " فكل هذه العمومات يتناول: محل النزاع. واعلم أنا بينا في أصول الفقه أن الترجيح بكثرة الأدلة جائز، وإذا كان كذلك فنقول بتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، فلو حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلا مجاز واحد، وبتقدير أن نحمل تلك الآية على حرمة النكاح يلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة فكان الترجيح من جانبنا بسبب كثرة الدلائل.
الحجة الثالثة: الحديث المشهور في المسألة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " الحرام لا يحرم الحلال " أقصى ما في الباب أن يقال: إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز من الماء فههنا الحرام حرم الحلال، وإذا اختلطت المنكوحة بالأجنبيات واشتبهت بهن، فههنا الحرام حرم الحلال، إلا أنا نقول: دخول التخصيص فيه في بعض الصور، ولا يمنع من الاستدلال به.
الحجة الرابعة: من جهة القياس أن نقول: المقتضى لجواز النكاح قائم، والفارق بين محل الاجماع وبين محل النزاع ظاهر، فوجب القول بالجواز، أما المقتضى فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النسوان عند حصول الشرائط المتفق عليها، بجامع ما في النكاح من المصالح، وأما الفارق فهو أن هذه المحرمية إنما حكم الشرع بثبوتها، سعيا في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ومعلوم أن هذا لا يليق بالزنا.
بيان المقام الأول: من تزوج بامرأة، فلو لم يدخل على المرأة أب الرجل وابنه. ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض وحصل الميل والرغبة وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن، لأن صدور الايذاء عن الأقارب أقوى وقعا وأشد إيلاما وتأثيرا، وعند حصول النفرة الشديدة يحصل التطليق والفراق، أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهورة، فلا يحصل ذلك الضرر، فبقي النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة، فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية، السعي في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين، وإذا كان المقصود من شرع المحرمية ابقاء ذلك الاتصال، فمعلوم
22

أن الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء، فيتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية، وأما الاتصال الحاصل عند الزنا فهو غير مطلوب البقاء، فلم يتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية، وهذا وجه مقبول مناسب في الفرق بين البابين، وهذا هو من قول الإمام الشافعي رضي الله عنه عند مناظرته في هذه المسألة محمد بن الحسن حيث قال: وطء حمدت به، ووطء رجمت به، فكيف يشتبهان؟ ولنكتف بهذا القدر من الكلام في هذه المسألة.
واعلم أن السبب في ذكر هذا الاستقصاء ههنا أن أبا بكر الرازي طول في هذه المسألة في تصنيفه، وما كان ذلك التطويل إلا تطويلا في الكلمات المختلطة والوجوه الفاسدة الركيكة، ثم إنه لما آل الأمر إلى المكالمة مع الإمام الشافعي أساء في الأدب وتعدى طوره، وخاض في السفاهة وتعامى عن تقرير دلائله وتغافل عن إيراد حججه، ثم انه بعد أن كتب الأوراق الكثيرة في الترهات التي لا نفع لمذهبه منها ولا مضرة على خصومه بسببها، أظهر القدح الشديد والتصلف العظيم في كثرة علوم أصحابه وقلة علوم من يخالفهم، ولو كان من أهل التحصيل لبكى على نفسه من تلك الكلمات التي حاولت نصرة قوله بها، ولتعلم الدلائل ممن كان أهلا لمعرفتها، ومن نظر في كتابنا ونظر في كتابه وأنصف علم أنا أخذنا منه خرزة، ثم جعلناها لؤلؤة من شدة التخليص والتقرير ثم أجبنا عنه بأجوبة مستقيمة على قوانين الأصول، منطبقة
على قواعد الفقه، ونسأل الله حسن الخاتمة ودوام التوفيق والنصرة.
المسألة الثالثة: ذكر المفسرون في قوله: * (إلا ما قد سلف) * وجوها: الأول: وهو أحسنها: ما ذكره السيد صاحب حل المقل فقال: هذا استثناء على طريق المعنى لأن قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) * قبل نزول آية التحريم فإنه معفو عنه، الثاني: قال صاحب " الكشاف ": هذا كما استثنى " غير أن سيوفهم " من قوله: * (ولا عيب فيهم) * يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته، كما يقال: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في سم الخياط. الثالث: أن هذا استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل، والمعنى: لكن ما قد سلف فان الله تجاوز عنه. والرابع: " إلا " ههنا بمعنى بعد، كقوله تعالى: * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * (الدخان: 56) أي بعد الموتة الأولى. الخامس: قال بعضهم: معناه إلا ما قد سلف فإنكم مقرون عليه، قالوا: إنه عليه الصلاة والسلام أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن. وإنما فعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج، وقيل: إن هذا خطأ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما أقر أحدا على نكاح امرأة أبيه،
23

وإن كان في الجاهلية. روى البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة إلى رجل عرس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله.
المسألة الرابعة: الضمير في قوله تعالى: * (إنه) * إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان: الأول: أنه راجع إلى هذا النكاح قبل النهي، أعلم الله تعالى أن هذا الذي حرمه عليهم كان لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم، وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه: مقتى، وذلك لأن زوجة الأب تشبه الأم، وكان نكاح الأمهات من أقبح الأشياء عند العرب، فلما كان هذا النكاح يشبه ذلك، لا جرم كان مستقبحا عندهم، فبين الله تعالى أن هذا النكاح أبدا كان ممقوتا وقبيحا، الثاني: أن هذا الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي، فبين الله تعالى أنه كان فاحشة في الاسلام ومقتا عند الله، وإنما قال: * (كان) * لبيان أنه كان في حكم الله وفي علمه موصوفا بهذا الوصف.
المسألة الخامسة: أنه تعالى وصفه بأمور ثلاثة: أولها: أنه فاحشة، وإنما وصف هذا النكاح بأنه فاحشة لما بينا أن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش، وثانيها: المقت: وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار، حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه، وهو من الله في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار. وثالثها: قوله: * (وساء سبيلا) * قال الليث: " ساء " فعل لازم وفاعله مضمر و " سبيلا " منصوب تفسيرا لذلك الفاعل، كما قال: * (وحسن أولئك رفيقا) * (النساء: 69) واعلم أن مراتب القبح ثلاثة: القبح في العقول، وفي الشرائع وفي العادات، فقوله: * (انه كان فاحشة) * إشارة إلى القبح العقلي، وقوله: * (ومقتا) * إشارة إلى القبح الشرعي، وقوله: * (وساء سبيلا) * إشارة إلى القبح في العرف والعادة، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح والله أعلم.
النوع السادس: من التكاليف المتعلقة بالنساء المذكورة في هذه الآيات.
قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت) *.
اعلم أنه تعالى نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان: سبعة منهن من جهة النسب، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. وسبعة
24

أخرى لا من جهة النسب: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء وبنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء، وأزواج الأبناء والآباء، إلا أن أزواج الأبناء مذكورة ههنا، وأزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدمة، والجمع بين الأختين. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة قال: لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان، وإنما يمكن إضافته إلى الافعال، وذلك الفعل غير مذكور في الآية، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات، أولى من بعض، فصارت الآية مجملة من هذا الوجه.
والجواب عنه من وجهين: الأول: أن تقديم قوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * (النساء: 22) يدل على أن المراد من قوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * تحريم نكاحهن. الثاني: أن من المعلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن المراد منه تحريم نكاحهن، والأصل فيه أن الحرمة والإباحة إذا أضيفتا إلى الأعيان، فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف، فإذا قيل: حرمت عليكم الميتة والدم، فهم كل أحد أن المراد تحريم أكلهما، وإذا قيل: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم، فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن، ولما قال عليه الصلاة والسلام: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى معان ثلاث " فهم كل أحد أن المراد لا يحل إراقة دمه. وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية، فكانت في غاية الركاكة والله أعلم. بلى عندي فيه بحث من وجوه أخرى: أحدها: أن قوله: * (حرمت عليكم) * مذكور على ما لم يسم فاعله، فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى، وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر، ولا سبيل إليه إلا بالاجماع، فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا، بل لا بد معها من الاجماع على هذه المقدمة، وثانيها: أن قوله: * (حرمت عليكم) * ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد، فان القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه إلى المؤبد، والى المؤقت، كأنه تعالى تارة قال: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى الوقت الفلاني فقط، وأخرى: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا، وإذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين، لم يكن نصا في التأييد، فاذن هذا التأييد لا يستفاد من ظاهر الآية، بل من دلالة منفصلة، وثالثها: أن قوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * خطاب
مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين، فاثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل، ورابعها: أن قوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * إخبار عن ثبوت هذا
25

التحريم في الماضي، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل، وخامسها: أن ظاهر قوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم، ومعلوم أنه ليس كذلك، بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة، وبنته خاصة، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر، وسادسها: أن قوله: * (حرمت) * يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله: * (حرمت) * تحريما لما هو في نفسه حرام، فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال، فثبت أن المراد من قوله: * (حرمت) * ليس تجديد التحريم حتى يلزم الاشكال المذكور، بل المراد الاخبار عن حصول التحريم، فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان الإلهية، بل إن زرداشت رسول المجوس قال بحله، إلا أن أكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابا. أما نكاح الأخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمن آدم عليه السلام، وإنما حكم الله بإباحة ذلك على سبيل الضرورة، ورأيت بعض المشايخ أنكر ذلك، وقال: انه تعالى كان يبعث الحواري من الجنة ليزوج بهن أبناء آدم عليه السلام وهذا بعيد، لأنه إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من أهل الجنة، فحينئذ لا يكون هذا النسل من أولاد آدم فقط، وذلك بالاجماع باطل. وذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم: أن الوطء إذلال وإهانة، فان الانسان يستحي من ذكره ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره، وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه لأن إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الانعام، فوجب صونها عن هذا الاذلال، والبنت بمنزلة جزء من الانسان وبعض منه، قال عليه الصلاة والسلام: " فاطمة بضعة مني " فيجب صونها عن هذا الاذلال، لأن المباشرة معها تجري مجرى الاذلال، وكذا القول في البقية والله أعلم. ولنشرع الآن في التفاصيل فنقول:
النوع الأول: من المحرمات: الأمهات، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: الأمهات جمع الأم والأم في الأصل أمهة فأسقط الهاء في التوحيد قال الشاعر:
أمهتى خندف والياس أبي
وقد تجمع الأم على أمات بغير هاء وأكثر ما يستعمل في الحيوان غير الآدمي قال الراعي:
26

كانت نجائب منذر ومحرق أماتهن وطرقهن فحيلا المسألة الثانية: كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو بدرجات، بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك. ثم ههنا بحث وهو أن لفظ الأم لا شك أنه حقيقة في الأم الأصلية، فأما في الجدات فاما ان يكون حقيقة أو مجازا، فان كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات، فاما أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا، فان كان لفظا متواطئا أعني أن يكون لفظ الأم موضوعا بإزاء قدر مشترك بين الأم الأصلية وبين سائر الجدات فعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * نصا في تحريم الأم الأصلية وفي تحريم جميع الجدات، وأما إن كان لفظ الام مشتركا في الأم الأصلية وفي الجدات، فهذا يتفرع على أن اللفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا؟ فمن جوزه حمل اللفظ ههنا على الكل، وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصا عليه، ومن قال: لا يجوز، فالقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الموضع: أحدهما: أن لفظ الأم لا شك أنه أريد به ههنا الأم الأصلية، فتحريم نكاحها مستفاد من هذا الوجه، وأما تحريم نكاح الجدات فغير مستفاد من هذا النص، بل من الاجماع. والثاني: أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين، يريد في كل مرة مفهوما آخر، أما إذا قلنا: لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية مجاز في الجدات، فقد ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد دفعة واحدة في حقيقته ومجازه معا، وحينئذ يرجع الطريقان اللذان ذكرناهما فيما إذا كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية، وفي الجدات.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله: إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد، وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يلزمه. حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة، فكان هذا الوطء زنا محضا فيلزمه الحد لقوله تعالى: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * (النور: 2) إنما قلنا: إن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لأنه تعالى قال: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * وقد علم بالضرورة من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن مراد الله تعالى من هذه الآية: تحريم نكاحها وإذا ثبت هذا فنقول: الموجود ليس إلا صيغة الايجاب والقبول، فلو حصل هذا الانعقاد، فاما أن يقال: إنه حصل في الحقيقة أو في حكم الشرع والأول باطل، لأن صيغة الايجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى، والقبول لا يوجد إلا بعد الايجاب، وحصول الانعقاد بين الموجود والمعدوم محال. والثاني: باطل، لأن الشرع بين في هذه الآية بطلان هذا العقد قطعا، ومع كون هذا العقد باطلا قطعا في حكم الشرع، كيف يمكن القول بأنه منعقد شرعا؟ فثبت أن وجود هذا
27

العقد وعدمه بمثابة واحدة، وإذا ثبت ذلك فباقي التفريع والتقرير ما تقدم.
النوع الثاني: من المحرمات: البنات، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو بدرجات، بأناث أو بذكور فهي بنتك، وأما بنت الابن وبنت البنت فهل تسمى بنتا حقيقة أو مجازا؟ فالبحث فيه عين ما ذكرناه في الأمهات.
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني. وقال أبو حنيفة: تحرم. حجة الشافعي أنها ليست بنتا له فوجب أن لا
تحرم، إنما قلنا: إنها ليست بنتا لوجوه: الأول: أن أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له بناء على الحقيقة، وهي كونها مخلوقة من مائه، أو بناء على حكم الشرع بثبوت هذا النسب، والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا، أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره فأتت بولد، فهذا الولد معلوم أنه مخلوق من مائه مع أن أبا حنيفة قال: لا يثبت نسبها إلا عن الاستلحاق، ولو كان السبب هو كون الولد متخلقا من مائه لما توقف في ثبوت هذا النسب بغير الاستلحاق، وأما العكس فهو أن المشرقي إذا تزوج بالمغربية وحصل هناك ولد، فأبو حنيفة أثبت النسب هنا مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه، فثبت أن القول بجعل التخليق من مائه سببا للنسب باطل طردا وعكسا على قول أبي حنيفة، وأما إذا قلنا: النسب إنما يثبت بحكم الشرع، فههنا أجمع المسلمون على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني، ولو انتسب إلى الزاني لوجب على القاضي منعه من ذلك الانتساب، فثبت أن انتسابها إليها غير ممكن، لا بناء على الحقيقة، ولا بناء على حكم الشرع.
الوجه الثاني: التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " فقوله: الولد للفراش يقتضي حصر النسب في الفراش.
الوجه الثالث: لو كانت بنتا له لأخذت الميراث لقوله تعالى: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * (النساء: 11) ولثبتت له ولاية الاجبار، لقوله عليه السلام: " زوجوا بناتكم الأكفاء " ولوجب عليه نفقتها وحضانتها، ولحلت الخلوة بها، فلما لم يثبت شيء من ذلك علمنا انتفاء البنتية، وإذا ثبت أنها ليست بنتا له وجب أن يحل التزوج بها، لأن حرمة التزوج بها إما للبنتية، أو لأجل أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة، وهذا الحصر ثابت بالاجماع. والبنتية باطلة كما ذكرنا، وحرمة المصاهرة بسبب الزنا أيضا باطلة كما تقدم شرح هذه المسألة، فثبت أنها غير محرمة على الزاني والله أعلم.
النوع الثالث: من المحرمات: الأخوات: ويدخل فيه الأخوات من الأب والأم معا،
28

والأخوات من الأب فقط، والأخوات من الأم فقط.
النوع الرابع والخامس: العمات والخالات. قال الواحدي رحمه الله: كل ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمتك، وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك، وكل أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك.
النوع السادس والسابع: بنات الأخ وبنات الأخت: والقول في بنات الأخ وبنات الأخت كالقول في بنات الصلب. فهذه الأقسام السبعة محرمة في نص الكتاب بالأنساب والأرحام. قال المفسرون: كل امرأة حرم الله نكاحها للنسب والرحم، فتحريمها مؤبد لا يحل بوجه من الوجوه، وأما اللواتي يحل نكاحهن ثم يصرن محرمات بسبب طارئ، فهن اللاتي ذكرن في باقي الآية.
النوع الثامن والتاسع:
قوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: المرضعات سماهن أمهات لأجل الحرمة، كما أنه تعالى سمى أزواج النبي عليه السلام أمهات المؤمنين في قوله: * (وأزواجه أمهاتهم) * (الأحزاب: 6) لأجل الحرمة.
المسألة الثانية: أنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات، وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أما، والمرضعة أختا، فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب، وذلك لأنه تعالى حرم بسبب النسب سبعا: اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة، وهما الأمهات والبنات، وخمس منها بطريق الأخوة، وهو الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، ثم انه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي، فذكر من قسم قرابة الولادة الأمهات، ومن قسم قرابة الاخوة الأخوات، ونبه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب، ثم انه عليه السلام أكد هذا البيان بصريح قوله: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية، وهذا
29

بيان لطيف.
المسألة الثالثة: أم الإنسان من الرضاع هي التي أرضعته، وكذلك كل امرأة انتسبت إلى تلك المرضعة بالأمومة، إما من جهة النسب أو من جهة الرضاع، والحال في الأب كما في الأم، وإذا عرفت الأم والأب فقد عرفت البنت أيضا بذلك الطريق، وأما الأخوات فثلاثة: الأولى أختك لأبيك وأمك، وهي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبن أبيك، سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك، والثانية أختك لأبيك دون أمك، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك، والثالثة أختك لأمك دون أبيك، وهي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر، وإذا عرفت ذلك سهل عليك معرفة العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت.
المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمة الله عليه: الرضاع يحرم بشرط أن يكون خمس رضعات، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: الرضعة الواحدة كافية، وقد مرت هذه المسألة في سورة البقرة، واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية فقال: انه تعالى علق هذا الاسم يعني الأمومة والاخوة بفعل الرضاع، فحيث حصل هذا الفعل وجب أن يترتب عليه الحكم، ثم سأل نفسه فقال: ان قوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) * بمنزلة قول القائل: وأمهاتكم اللاتي أعطينكم، وأمهاتكم اللاتي كسونكم، وهذا يقتضي تقدم حصول صفة الأمومة والأختية على فعل الرضاع، بل لو أنه تعالى قال: اللاتي أرضعنكم هن أمهاتكم لكان مقصودكم حاصلا.
وأجاب عنه بأن قال: الرضاع هو الذي يكسوها سمة الأمومة، فلما كان الاسم مستحقا بوجود الرضاع كان الحكم معلقا به، بخلاف قوله وأمهاتكم اللاتي كسونكم، لأن
اسم الأمومة غير مستفاد من الكسوة، قال ويدل على أن ذلك مفهوم من هذه الآية ما روي أنه جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: قال ابن الزبير: لا بأس بالرضعة ولا بالرضعتين، فقال ابن عمر: قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير، قال الله تعالى: * (وأخوتكم من الرضاعة) * قال: فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بالرضاع القليل.
واعلم أن هذا الجواب ركيك جدا، أما قوله: ان اسم الأمومة إنما جاء من فعل الرضاع فنقول: وهل النزاع الا فيه، فان عندي أن اسم الأمومة إنما جاء من الرضاع خمس مرات، وعندك إنما جاء من أصل الرضاع، وأنت إنما تمسكت بهذه الآية لاثبات هذا الأصل، فإذا أثبت التمسك بهذه الآية على هذا الأصل كنت قد أثبت الدليل بالمدلول وإنه دور وساقط، وأما التمسك بأن ابن عمر فهم من الآية حصول التحريم بمجرد فعل الرضاع، فهو معارض بما أن ابن الزبير ما فهمه
30

منه، وكان كل واحد منهما من فقهاء الصحابة ومن العلماء بلسان العرب، فكيف جعل فهم أحدهما حجة ولم يجعل فهم الآخر حجة على قول خصمه. ولولا التعصب الشديد المعمي للقلب لما خفي ضعف هذه الكلمات، ثم إن أبا بكر الرازي أخد يتمسك في إثبات مذهبه بالأحاديث والأقيسة، ومن تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يستنبطه من الآية، فأما ما سوى ذلك فإنما يليق بكتب الفقه.
النوع العاشر: من المحرمات.
قوله تعالى: * (وأمهات نسائكم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: يدخل في هذه الآية الأمهات الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما بينا مثله في النسب.
المسألة الثانية: مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين أن من تزوج بامرأة حرمت عليه أمها سواء دخل بها أو لم يدخل، وزعم جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها، وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر، وأظهر الروايات عن ابن عباس، وحجتهم أنه تعالى ذكر حكمين وهو قوله: * (وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم) * ثم ذكر شرطا وهو قوله: * (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا، وحجة القول الأول أن قوله تعالى: * (وأمهات نسائكم) * جملة مستقلة بنفسها ولم يدل الدليل على عود ذلك الشرط إليه، فوجب القول ببقائه على عمومه، وإنما قلنا إن هذا الشرط غير عائد لوجوه: الأول: وهو أن الشرط لا بد من تعليقه بشيء سبق ذكره فإذا علقناه بإحدى الجملتين لم يكن بنا حاجة إلى تعليقه بالجملة الثانية، فكان تعليقه بالجملة الثانية تركا للظاهر من غير دليل، وانه لا يجوز. الثاني: وهو أن عموم هذه الجملة معلوم، وعود الشرط إليه محتمل، لأنه يجوز أن يكون الشرط مختصا بالجملة الأخيرة فقط، ويجوز أن يكون عائدا إلى الجملتين معا، والقول بعود هذا الشرط إلى الجملتين ترك لظاهر العموم بمخصص مشكوك، وانه لا يجوز. الثالث: وهو أن هذا الشرط لو عاد إلى الجملة الأولى، فاما أن يكون مقصورا عليها، وإما أن يكون متعلقا بها وبالجملة الثانية أيضا، والأول باطل، لأن على هذا التقدير يلزم القول بتحريم الربائب مطلقا، وذلك باطل بالاجماع، والثاني باطل أيضا، لأن على هذا التقدير يصير نظم الآية هكذا
31

وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فيكون المراد بكلمة " من " ههنا التمييز ثم يقول: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فيكون المراد بكلمة " من " ههنا ابتداء الغاية كما يقول: بنات الرسول من خديجة، فيلزم استعمال اللفظ الواحد المشترك في كلا مفهوميه وانه غير جائز، ويمكن أن يجاب عنه فيقال: إن كلمة " من " للاتصال كقوله تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * (التوبة: 71) وقال عليه الصلاة والسلام: " ما أنا من دد ولا الدد مني " ومعنى مطلق الاتصال حاصل في النساء والربائب معا.
الوجه الرابع: في الدلالة على ما قلناه: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها، دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فان شاء تزوج البنت، وطعن محمد بن جرير الطبري في صحة هذا الحديث. وكان عبد الله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة إذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة، فاتفق أن ذهب إلى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه، فلما رجع إلى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب إلى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة. وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال: الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فان طلقها قبل الدخول تزوج أمها، وإن ماتت لم يتزوج أمها، واعلم أنه إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم، لأن الطلاق قبل الدخول لا يتعلق به شيء من أحكام الدخول، ألا ترى أنه لا يجب عليها عدة، وأما الموت فلما كان في حكم الدخول في باب وجوب العدة، لا جرم جعله الله سببا لهذا التحريم.
النوع الحادي عشر: من المحرمات.
قوله تعالى: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الربائب: جمع ربيبة، وهي بنت امرأة الرجل من غيره، ومعناها مربوبة، لأن
32

الرجل هو يربها يقال: ربيت فلانا أربه: وربيته أربيه بمعنى واحد، والحجور جمع حجر، وفيه لغتان قال ابن السكيت: حجر الانسان وحجره بالفتح والكسر، والمراد بقوله: * (في حجوركم) * أي في تربيتكم، يقال: فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته، والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلا أجلسه في حجره، فصار الحجر عبارة عن التربية، كما يقال: فلان في حضانة فلان، وأصله من الحضن الذي هو الإبط، وقال أبو عبيدة: في حجوركم أي في بيوتكم.
المسألة الثانية: روى مالك بن أوس بن الحدثان عن علي رضي الله عنه أنه قال: الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر، ثم فارق الأم بعد الدخول فإنه يجوز له أن يتزوج الربيبة، ونقل أنه رضوان الله عليه احتج على ذلك بأنه تعالى قال: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم) * شرط في كونها ربيبة له، كونها في حجره، فإذا لم تكن في تربيته ولا في حجره فقد فات الشرط، فوجب أن لا تثبت الحرمة، وهذا استدلال حسن. وأما سائر العلماء فإنهم قالوا: إذا دخل بالمرأة حرمت عليه ابنتها سواء كانت في تربيته أو لم تكن، والدليل عليه قوله تعالى: * (فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) * علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول، وهذا يقتضي أن المقتضى لحصول الجناح هو مجرد الدخول. وأما الجواب عن حجة القول الأول فهو أن الأعم الأغلب أن بنت زوجة الانسان تكون في تربيته، فهذا الكلام على الأعم، لا أن هذا القيد شرط في حصول هذا التحريم. المسألة الثالثة: تمسك أبو بكر الرازي في إثبات أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة بقوله تعالى: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * قال: لأن الدخول بها اسم لمطلق الوطء سواء كان الوطء نكاحا أو سفاحا، فدل هذا على أن الزنا بالأم يوجب تحريم البنت، وهذا الاستدلال في نهاية الضعف، وذلك لأن هذه الآية مختصة بالمنكوحة لدليلين: الأول: أن هذه الآية إنما تناولت امرأة كانت من نسائه قبل دخوله بها والمزني بها ليست كذلك، فيمتنع دخولها في الآية بيان الأول من وجهين: الأول: أن قوله: * (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * يقتضي أن كونها من نسائه يكون متقدما على دخوله بها، والثاني: أنه تعالى قسم نساءهم إلى من تكون مدخولا بها، وإلى من لا تكون كذلك، بدليل قوله: * (فان لم تكونوا دخلتم بهن) * وإذا كان نساؤهم منقسمة إلى هذين القسمين علمنا أن كون المرأة من نسائه أمر مغاير للدخول بها، وأما بيان أن المزنية ليست كذلك، فذلك لأن في النكاح صارت المرأة بحكم العقد من نسائه سواء دخل بها أو لم يدخل بها، أما في الزنا فإنه لم يحصل قبل الدخول بها حالة أخرى تقتضي صيرورتها من نسائه، فثبت بهذا أن المزنية غير داخلة
33

في هذه الآية. الثاني: لو أوصى لنساء فلان، لا تدخل هذه الزانية فيهن، وكذلك لو حلف على نساء بني فلان، لا يحصل الحنث والبر بهذه الزانية، فثبت ضعف هذا الاستدلال والله أعلم.
النوع الثاني عشر: من المحرمات.
قوله تعالى: * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الشافعي رحمه الله: لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إنه يجوز، احتج الشافعي فقال: جارية الابن حليلة، وحليلة الابن محرمة على الأب، أما المقدمة الأولى فبيانها بالبحث عن الحليلة فنقول: الحليلة فعيلة فتكون بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون مأخوذا من الحل الذي هو الإباحة، فالحليلة تكون بمعنى المحلة أي المحللة، ولا شك أن الجارية كذلك فوجب كونها حليلة له. الثاني: أن يكون ذلك مأخوذا من الحلول، فالحليلة عبارة عن شيء يكون محل الحلول، ولا شك أن الجارية موضع حلول السيد، فكانت حليلة له، أما إذا قلنا: الحليلة بمعنى الفاعل ففيه وجهان أيضا: الأول: أنها لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر كأنهما يحلان في ثوب واحد وفي لحاف واحد وفي منزل واحد ولا شك أن الجارية كذلك. الثاني: ان كل واحد منهما كأنه حال في قلب صاحبه وفي روحه لشدة ما بينهما من المحبة والألفة، فثبت بمجموع ما ذكرناه أن جارية الابن حليلة، وأما المقدمة الثانية وهي أن حليلة الابن محرمة على الأب لقوله تعالى: * (وحلائل أبنائكم الذين) * لا يقال: إن أهل اللغة يقولون: حليلة الرجل زوجته لأنا نقول: إنا قد بينا بهذه الوجوه الأربعة من الاشتقاقات الظاهرة أن لفظ الحليلة يتناول الجارية، فالنقل الذي ذكرتموه لا يلتفت إليه. فكيف وهو شهادة على النفي؟ فانا لا ننكر أن لفظ الحليلة يتناول الزوجة، ولكنا نفسره بمعنى يتناول الزوجة والجارية، فقول من يقول: إنه ليس كذلك شهادة على النفي ولا يلتفت إليه.
المسألة الثانية: قوله: * (الذين من أصلابكم) * احترازا عن المتبني، وكان المتبني في صدر الاسلام بمنزلة الابن، ولا يحرم على الانسان حليلة من ادعاه ابنا إذا لم يكن من صلبه، نكح الرسول صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب، وكانت زينب ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانت زوجة زيد بن حارثة، فقال المشركون: إنه تزوج امرأة ابنه فأنزل الله تعالى: * (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) * (الأحزاب: 4) وقال: * (لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم) * (الأحزاب: 37).
34

المسألة الثالثة: ظاهر قوله: * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) * لا يتناول حلائل الأبناء من الرضاعة، فلما قال في آخر الآية: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * لزم من ظاهر الآيتين حل التزوج بأزواج الأبناء من الرضاع، إلا أنه عليه السلام قال: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " فاقتضى هذا تحريم التزوج بحليلة الابن من الرضاع لأن قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * يتناول الرضاع وغير الرضاع، فكان قوله: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " أخص منه، فخصصوا عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم.
المسألة الرابعة: اتفقوا على أن حرمة التزوج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد كما أن حرمة التزوج بحليلة الأب تحصل بنفس العقد، وذلك لأن عموم الآية يتناول حليلة الابن، سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن. أما ما روي أن ابن عباس سئل عن قوله: * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) * أنه تعالى لم يبين أن هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها. أو غير مخصوص بذلك، فقال ابن عباس: أبهموا ما أبهمه الله، فليس مراده من هذا الابهام كونها مجملة مشتبهة، بل المراد من هذا الابهام التأييد. ألا ترى أنه قال في السبعة المحرمة من جهة النسب: انها من المبهمات، أي من اللواتي تثبت حرمتهن على سبيل التأبيد، فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الخامسة: اتفقوا على أن هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجد، وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صلب الجد، وفيه دلالة على أن ولد الولد منسوب إلى الجد بالولادة.
النوع الثالث عشر: من المحرمات.
قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما) * في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وأن تجمعوا بين الأختين) * في محل الرفع، لأن التقدير: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم والجمع بين الأختين.
المسألة الثانية: الجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه: إما أن ينكحهما معا، أو يملكهما معا، أو ينكح إحداهما ويملك الأخرى، أما الجمع بين الأختين في النكاح. فذلك يقع على وجهين: أحدهما: أن يعقد عليهما جميعا، فالحكم ههنا: إما الجمع، أو التعيين، أو التخيير، أو الابطال، أما الجمع فباطل بحكم هذه الآية هكذا قالوا، إلا أنه مشكل على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه، لأن
35

الحرمة لا تقتضي الابطال على قول أبي حنيفة، ألا ترى أن الجمع بين الطلقات حرام على قوله، ثم انه يقع، وكذا النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين لم يمنع من انعقاد هذا العقد، وكذا القول في جميع المبايعات الفاسدة، فثبت أن الاستدلال بالنهي على الفساد لا يستقيم على قوله.
فان قالوا: وهذا يلزمكم أيضا لأن الطلاق في زمان الحيض وفي طهر جامعها فيه منهي عنه، ثم انه يقع.
قلنا: بين الصورتين فرق دقيق لطيف ذكرناه في الخلافيات، فمن أراده فليطلب ذلك الكتاب فثبت أن الجمع باطل. وأما أن التعيين أيضا باطل، فلأن الترجيح من غير مرجح باطل، وأما أن التخيير أيضا باطل، فلأن القول بالتخيير يقتضي حصول العقد وبقاءه إلى أوان التعيين. وقد بينا بطلانه، فلم يبق إلا القول بفساد العقدين جميعا.
الصورة الثانية: من صور الجمع: وهي أن يتزوج إحداهما، ثم يتزوج الأخرى بعدها، فههنا يحكم ببطلان نكاح الثانية، لأن الدفع أسهل من الرفع، وأما الجمع بين الأختين بملك اليمين، أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى، فقد اختلفت الصحابة فيه، فقال علي وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر: لا يجوز الجمع بينهما: والباقون جوزوا ذلك. أما الأولون فقد احتجوا على قولهم بأن ظاهر الآية يقتضي تحريم الجمع بين الأختين مطلقا، فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه وعن عثمان أنه قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، والتحليل أولى، فالآية الموجبة للتحليل هي قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * (النساء: 24) وقوله: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المؤمنون: 6).
والجواب عنه من وجهين: الأول: أن هذه الآيات دالة على تحريم الجمع أيضا، لأن المسلمين أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في حل الوطء، فنقول: لو جاز الجمع بينهما في الملك لجاز الجمع بينهما في الوطء لقوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المعارج: 29 - 30، المؤمنون: 5 - 6) لكنه لا يجوز الجمع بينهما في الملك، فثبت أن هذه الآية بأن تكون دالة على تحريم الجمع بينهما في الملك، أولى من أن تكون دالة على الجواز.
الوجه الثاني: إن سلمنا دلالتها على جواز الجمع، لكن نقول: الترجيح لجانب الحرمة، ويدل عليه وجوه: الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: " ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال " الثاني: أنه لا شك أن الاحتياط في جانب الترك فيجب، لقوله عليه الصلاة والسلام: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " الثالث: أن مبنى الابضاع في الأصل على الحرمة، بدليل أنه إذا استوت الامارات في حصول العقد مع شرائطه وفي عدمه وجب القول بالحرمة، ولأن النكاح مشتمل على
36

المنافع العظيمة، فلو كان خاليا عن جهة الاذلال والضرر، لوجب أن يكون مشروعا في حق الأمهات لأن إيصال النفع إليهن مندوب لقوله تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) * (البقرة: 83) ولما كان ذلك محرما علمنا اشتماله على وجه الاذلال والمضارة، وإذا كان كذلك كان الأصل فيه هو الحرمة، والحل إنما ثبت بالعارض، وإذا ثبت هذا ظهر أن الرجحان لجانب الحرمة، فهذا هو تقرير مذهب علي رضي الله عنه في هذا الباب. أما إذا أخذنا بالمذهب المشهور بين الفقهاء، وهو أنه يجوز الجمع بين أمتين أختين في ملك اليمين، فإذا وطئ إحداهما حرمت الثانية، ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رضي الله عنه: نكاح الأخت في عدة الأخت البائن جائز، وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا يجوز. حجة الشافعي: أنه لم يوجد الجمع فوجب أن لا يحصل المنع، إنما قلنا: إنه لم يوجد الجمع لأن نكاح المطلقة زائل، بدليل أنه لا يجوز له وطؤها، ولو وطئها يلزمه الحد، وإنما قلنا: انه لما لم يوجد الجمع وجب أن لا يحصل المنع، لقوله تعالى بعد تقرير المحرمات: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * (النساء: 24) ولا شبهة في انتفاء جميع تلك الموانع، إلا كونه جمعا بين أختين، فإذا ثبت بالدليل أن الجمع منتف وجب القول بالجواز.
فان قيل: النكاح باق من بعض الوجوه بدليل وجوب العدة ولزوم النفقة عليها.
قلنا: النكاح له حقيقة واحدة، والحقيقة الواحدة يمتنع كونها موجودة معدومة معا، بل لو انقسمت هذه الحقيقة إلى نصفين حتى يكون أحدهما موجودا والآخر معدوما صح ذلك، أما إذا كانت الحقيقة الواحدة غير قابلة للتنصيف كان هذا القول فاسدا. وأما وجوب العدة ولزوم النفقة، فاعلم أنه ان حصل النكاح حصلت القدرة على حبسها، وهذا لا ينتج أنه حصلت القدرة على حبسها للنكاح؛ لأن استثناء عين التالي لا ينتج، فبالجملة: فاثبات حق الحبس بعد زوال النكاح بطريق آخر معقول في الجملة، فاما القول ببقاء النكاح حال القول بعدمه، فذلك مما لا يقبله العقل، وتخريج أحكام الشرع على وفق العقول، أولى من حملها على ما يعرف بطلانها في بداهة العقول، والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا أسلم الكافر وتحته أختان اختار أيتهما شاء وفارق الأخرى. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: ان كان قد تزوج بهما دفعة واحدة فرق بينه وبينهما، وان كان قد تزوج بإحداهما أولا وبالأخرى ثانيا، اختار الأولى وفارق الثانية، واحتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بقوله: * (وأن تجمعوا
بين الأختين) * قال: هذا خطاب عام
37

فيتناول المؤمن والكافر، وإذا ثبت أنه تناول الكافر وجب أن يكون النكاح فاسدا، لأن النهي يدل على الفساد. فيقال له: انك بنيت هذا الاستدلال على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع وعلى أن النهي يدل على الفساد، وأبو حنيفة لا يقول بواحد من هذين الأصلين، فان قال: فهما صحيحان على قولكم: فكان هذا الاستدلال لازما عليكم فنقول: قولنا: الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لا نعني به في أحكام الدنيا، فإنه ما دام كافرا لا يمكن تكليفه بفروع الاسلام، وإذا أسلم سقط عنه كل ما مضى بالاجماع، بل المراد منه أحكام الآخرة، وهو أن الكافر يعاقب بترك فروع الاسلام كما يعاقب على ترك الاسلام، إذا عرفت هذا فنقول: أجمعنا على أنه لو تزوج الكافر بغير ولي ولا شهود، أو تزوج بها على سبيل القهر، فبعد الاسلام يقر ذلك النكاح في حقه، فثبت أن الخطاب بفروع الشرائع لا يظهر أثره في الأحكام الدنيوية في حق الكافر، وحجة الشافعي: أن فيروز الديلمي أسلم على ثمان نسوة، فقال عليه الصلاة والسلام: " اختر أربعا وفارق سائرهن " خيره بينهن، وذلك ينافي ما ذكرتم من الترتيب والله أعلم.
المسألة الخامسة: قوله تعالى: * (إلا ما قد سلف) * فيه الاشكال المشهور: وهو أن تقدير الآية حرمت عليكم أمهاتكم وكذا وكذا الا ما قد سلف، وهذا يقتضي استثناء الماضي من المستقبل، وإنه لا يجوز، وجوابه بالوجوه المذكورة في قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد ما سلف) * والمعنى أن ما مضى بدليل قوله: * (ان الله كان غفورا رحيما) *؟
النوع الرابع: عشر من المحرمات.
قوله تعالى: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: الاحصان في اللغة المنع، وكذلك الحصانة، يقال: مدينة حصينة ودرع حصينة، أي مانعة صاحبها من الجراحة. قال تعالى: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم) * (الأنبياء: 80) معناه لتمنعكم وتحرزكم، والحصن الموضع الحصين لمنعه من يريده بالسوء، والحصان بالكسر الفرس
38

الفحل، لمنعه صاحبه من الهلاك، والحصان بالفتح المرأة العفيفة لمنعها فرجها من الفساد، قال تعالى: * (ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها) * (التحريم: 12).
واعلم أن لفظ الاحصان جاء في القرآن على وجوه: أحدها: الحرية كما في قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) * (النور: 4) يعني الحرائر، ألا ترى أنه لو قذف غير حر لم يجلد ثمانين، وكذلك قوله: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * يعني الحرائر، وكذلك قوله: * (محصنات غير مسافحات) * (النساء: 25) وقوله: * (محصنين غير مسافحين) * وقوله: * (والتي أحصنت فرجها) * (الأنبياء: 91) أي أعفته، وثالثها الاسلام: من ذلك قوله: * (فإذا أحصن) * قيل في تفسيره: إذا أسلمن، ورابعها: كون المرأة ذات زوج يقال: امرأة محصنة إذا كانت ذات زوج، وقوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * يعني ذوات الأزواج، والدليل على أن المراد ذلك أنه تعالى عطف المحصنات على المحرمات، فلا بد وأن يكون الاحصان سببا للحرمة، ومعلوم أن الحرية والعفاف والاسلام لا تأثير له في ذلك، فوجب أن يكون المراد منه المزوجة، لأن كون المرأة ذات زوج له تأثير في كونها محرمة على الغير.
واعلم أن الوجوه الأربعة مشتركة في المعنى الأصلي اللغوي، وهو المنع، وذلك لأنا ذكرنا أن الاحصان عبارة عن المنع، فالحرية سبب لتحصين الانسان من نفاذ حكم الغير فيه، والعفة أيضا مانعة للانسان عن الشروع فيما لا ينبغي، وكذلك الاسلام مانع من كثير مما تدعو إليه النفس والشهوة، والزوج أيضا مانع للزوجة من كثير من الأمور، والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " من تزوج فقد حصن ثلثي دينه " فثبت أن المرجع بكل هذه الوجوه إلى ذلك المعنى اللغوي والله أعلم.
المسألة الثانية: قال الواحدي: اختلف القراء في * (المحصنات) * فقرؤا بكسر الصاد وفتحها في جميع القرآن إلا التي في هذه الآية فإنهم أجمعوا على الفتح فيها، فمن قرأ بالكسر جعل الفعل لهن يعني: أسلمن واخترن العفاف، وتزوجن وأحسن أنفسهن بسبب هذه الأمور. ومن قرأ بالفتح جعل الفعل لغيرهن، يعني أحصنهن أزواجهن والله أعلم. المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمة الله عليه: الثيب الذمي إذا زنى يرجم، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يرجم. حجة الشافعي أنه حصل الزنا مع الاحصان وذلك علة لإباحة الدم، فوجب أن يثبت إباحة الدم، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم. أما قولنا: حصل الزنا مع الاحصان، فهذا يعتمد اثبات قيدين: أحدهما: حصول الزنا ولا شك فيه. الثاني:
39

حصول الاحصان وهو حاصل، لأن قوله تعالى: * (والمحصنات من النساء) * يدل على أن المراد من المحصنة: المزوجة، وهذه المرأة مزوجة فهي محصنة، فثبت أنه حصل الزنا مع الاحصان، وإنما قلنا: ان الزنا مع الاحصان علة لإباحة الدم لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يحل دم امرئ مسلم الا لإحدى معان ثلاثة " ومنها قوله: " وزنا بعد إحصان " جعل الزنا بعد الاحصان علة لإباحة الدم في حق المسلم، والمسلم محل لهذا الحكم، أما العلة فهي مجرد الزنا بعد الاحصان، بدليل أن لام التعليل إنما دخل عليه. أقصى ما في الباب أنه حكم في حق المسلم، أن الزنا بعد الاحصان علة لإباحة الدم، إلا أن كونه مسلما محل الحكم، وخصوص محل الحكم لا يمنع من التعدية إلى غير ذلك المحل، والا لبطل القياس بالكلية. وأما العلة فهي ما دخل عليه لام التعليل، وهي ماهية الزنا بعد الاحصان، وهذه الماهية لما حصلت في حق الثيب الذمي، وجب أن يحصل في حقه إباحة الدم، فثبت أنه مباح الدم. ثم ههنا طريقان: ان شئنا اكتفينا بهذا القدر، فانا ندعي كونه مباح الدم والخصم
لا يقول به، فصار محجوجا، أو نقول: لما ثبت أنه مباح الدم وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم لأنه لا قائل بالفرق.
فان قيل: ما ذكرتم إن دل على أن الذمي محصن، فههنا ما يدل على أنه غير محصن، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " من أشرك بالله فليس بمحصن ".
قلنا: ثبت بالدليل الذي ذكرناه ان الذمي محصن، وثبت بهذا الخبر الذي ذكرتم أنه ليس بمحصن، فنقول: إنه محصن بمعنى أنه ذات زوج، وغير محصن بمعنى أنه لا يحد قاذفة، وقوله: من أشرك بالله فليس بمحصن يجب حمله على أنه لا يحد قاذفه، لا على أنه لا يحد على الزنا، لأنه وصفه بوصف الشرك وذلك جناية، والمذكور عقيب الجناية لا بد وأن يكون أمرا يصلح أن يكون عقوبة، وقولنا: انه لا يحد قاذفه يصلح أن يكون عقوبة، أما قولنا: لا يحد على الزنا، لا يصلح أن يكون عقوبة له، فكان المراد من قوله: من أشرك بالله فليس بمحصن ما ذكرناه والله أعلم.
المسألة الرابعة: في قوله: * (والمحصنات من النساء) * قولان: أحدهما: المراد منها ذوات الأزواج، وعلى هذا التقدير ففي قوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * وجهان: الأول: أن المرأة إذا كانت ذات زوج حرمت على غير زوجها، إلا إذا صارت ملكا لانسان فإنها تحل للمالك، الثاني: أن المراد بملك اليمين ههنا ملك النكاح، والمعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع البينونة بينهن وبين أزواجهن، والمقصود من هذا الكلام الزجر عن الزنا والمنع من وطئهن إلا بنكاح جديد، أو بملك يمين إن كانت المرأة مملوكة، وعبر عن
40

ذلك بملك اليمين لأن ملك اليمين حاصل في النكاح وفي الملك.
القول الثاني: أن المراد ههنا بالمحصنات الحرائر، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فما ملكت أيمانكم) * (النساء: 25) ذكر ههنا المحصنات ثم قال بعده: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات) * كان المراد بالمحصنات ههنا ما هو المراد هناك، ثم المراد من المحصنات هناك الحرائر، فكذا ههنا. وعلى هذا التقدير ففي قوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * وجهان: الأول: المراد منه إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع، فصار التقدير: حرمت عليكم الحرائر إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع، الثاني: الحرائر محرمات عليكم إلا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن، وذلك عند حضور الولي والشهود وسائر الشرائط المعتبرة في الشريعة، فهذا الأول في تفسير قوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * هو المختار، ويدل عليه قوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المعارج: 29 - 30، المؤمنون: 5 - 6) جعل ملك اليمين عبارة عن ثبوت الملك فيها، فوجب أن يكون ههنا مفسرا بذلك، لأن تفسير كلام الله تعالى بكلام الله أقرب الطرق إلى الصدق والصواب والله أعلم. المسألة الخامسة: اتفقوا على أنه إذا سبى أحد الزوجين قبل الأخر وأخرج إلى دار الاسلام وقعت الفرقة. أما إذا سبيا معا فقال الشافعي رضي الله عنه: ههنا تزول الزوجية، ويحل للمالك أن يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملا من زوجها، أو بالحيض. وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا تزول. حجة الشافعي رضي الله عنه أن قوله: * (والمحصنات من النساء) * يقتضي تحريم ذات الأزواج ثم قوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * يقتضي أن عند طريان الملك ترفع الحرمة ويحصل الحل، قال أبو بكر الرازي: لو حصلت الفرقة بمجرد طريان الملك لوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها وإرثها، ومعلوم أنه ليس كذلك، فيقال له: كأنك ما سمعت أن العام بعد التخصيص حجة في الباقي، وأيضا: فالحاصل عند السبي إحداث الملك فيها، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص فكان الأول أقوى، فظهر الفرق.
المسألة السادسة: مذهب علي وعمر وعبد الرحمن بن عوف أن الأمة المنكوحة إذا بيعت لا يقع عليها الطلاق، وعليه إجماع الفقهاء اليوم، وقال أبي بن كعب
41

وابن مسعود وابن عباس وجابر وأنس: إنها إذا بيعت طلقت. حجة الجمهور: أن عائشة لما اشترت بريرة وأعتقتها خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مزوجة، ولو وقع الطلاق بالبيع لما كان لذلك التخيير فائدة. ومنهم من روى في قصة بريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: " بيع الأمة طلاقها " وحجة أبي كعب / وابن مسعود عموم الاستثناء في قوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * وحاصل الجواب عنه يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم. ثم إنه تعالى ختم ذكر المحرمات بقوله: * (كتاب الله عليكم) * وفيه وجهان: الأول: أنه مصدر مؤكد من غير لفظ الفعل فان قوله: * (حرمت عليكم) * يدل على معنى الكتبة فالتقدير: كتب عليكم تحريم ما تقدم ذكره من المحرمات كتابا من الله، ومجئ المصدر من غير لفظ الفعل كثير نظيره * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله) * (النمل: 88) الثاني: قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر، ويكون " عليكم " مفسرا له فيكون المعنى: الزموا كتاب الله.
ثم قال: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (وأحل لكم) * على ما لم يسم فاعله عطفا على قوله: * (حرمت عليكم) * والباقون بفتح الألف والحاء عطفا على * (كتاب الله) * يعني كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها.
المسألة الثانية: اعلم أن ظاهر قوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * يقتضي حل كل من سوى الأصناف المذكورة. إلا أنه دل الدليل على تحريم أصناف أخر سوى هؤلاء المذكورين ونحن نذكرها.
الصنف الأول: لا يجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها " وهذا خبر مشهور مستفيض، وربما قيل: إنه بلغ مبلغ التواتر، وزعم الخوارج أن هذا خبر واحد، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز، واحتجوا عليه بوجوه: الأول: أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة، وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة، فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن، فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى وإنه لا يجوز. الثاني: من جملة الأحاديث المشهورة خبر معاذ، وإنه يمنع من تقديم خبر الواحد على عموم القرآن من وجهين لأنه قال: بم تحكم؟ قال بكتاب الله، قال
: فان لم تجد قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم التمسك بكتاب الله على التمسك بالسنة، وهذا يمنع من تقديم السنة على الكتاب، وأيضا فإنه قال: فان لم تجد قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، علق جواز التمسك بالسنة على عدم الكتاب بكلمة " إن " وهي للاشتراط، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط. الثالث: أن من الأحاديث المشهورة قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فاقبلوه وإلا فردوه " فهذا الخبر يقتضي أن لا يقبل خبر الواحد
42

إلا عند موافقة الكتاب، فإذا كان خبر العمة والخالة مخالفا لظاهر الكتاب وجب رده. الرابع: أن قوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * مع قوله عليه السلام: لا تنكح المرأة على عمتها لا يخلو الحال فيهما من ثلاثة أوجه: إما أن يقال: الآية نزلت بعد الخبر، فحينئذ تكون الآية ناسخة للخبر لأنه ثبت أن العام إذا ورد بعد الخاص كان العام ناسخا للخاص، وإما أن يقال: الخبر ورد بعد الكتاب، فهذا يقتضي نسخ القرآن بخر الواحد وإنه لا يجوز، وإما أن يقال: وردا معا، وهذا أيضا باطل لأن على هذا التقدير تكون الآية وحدها مشتبهة، ويكون موضع الحجة مجموع الآية مع الخبر، ولا يجوز للرسول المعصوم أن يسعى في تشهير الشبهة ولا يسعى في تشهير الحجة، فكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يسمع أحدا هذه الآية إلا مع هذا الخبر، وأن يوجب إيجابا ظاهرا على جميع الأمة أن لا يبلغوا هذه الآية أحد إلا مع هذا الخبر، ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساويا لاشتهار هذه الآية، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم.
الوجه الخامس: أن بتقدير أن تثبت صحة هذا الخبر قطعا، إلا أن التمسك بالآية راجح على التمسك بالخبر. وبيانه من وجهين: الأول: أن قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * نص صريح في التحليل كما أن قوله: * (حرمت عليكم) * نص صريح في التحريم. وأما قوله: " لا تنكح المرأة على عمتها " فليس نصا صريحا لأن ظاهره إخبار، وحمل الاخبار على النهي مجاز، ثم بهذا التقدير فدلالة لفظ النهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ الاحلال على معنى الإباحة. الثاني: أن قوله: * (وأحل لكم ما وراء
43

ذلكم) * صريح في تحليل كل ما سوى المذكورات، وقوله: * (لا تنكح المرأة على عمتها) * ليس صريحا في العموم، بل احتماله للمعهود السابق أظهر.
الوجه السادس: أنه تعالى استقصى في هذه الآية شرح أصناف المحرمات فعد منها خمسة عشر صنفا، ثم بعد هذا التفصيل التام والاستقصاء الشديد قال: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * فلو لم يثبت الحل في كل من سوى هذه الأصناف المذكورة لصار هذا الاستقصاء عبثا لغوا، وذلك لا يليق بكلام أحكم الحاكمين، فهذا تقرير وجوه السؤال في هذا الباب.
والجواب على وجوه: الأول: ما ذكره الحسن وأبو بكر الأصم، وهو أن قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * لا يقتضى إثبات الحل على سبيل التأييد، وهذا الوجه عندي هو الأصح في هذا الباب، والدليل عليه أن قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * إخبار عن إحلال كل ما سوى المذكورات وليس فيه بيان أن إحلال كل ما سوى المذكورات وقع على التأييد أم لا، والدليل على أنه لا يفيد التأييد: أنه يصح تقسيم هذا المفهوم إلى المؤبد وإلى غير المؤبد، فيقال تارة: * (وأحل لكم ما وراء / ذلكم) * أبدا، وأخرى * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * إلى الوقت الفلاني، ولو كان قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * صريحا في التأييد لما كان هذا التقسيم ممكنا، ولأن قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * لا يفيد إلا إحلال من سوى المذكورات وصريح العقل يشهد بأن الاحلال أعم من الاحلال المؤبد ومن الاحلال المؤقت، إذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * لا يفيد إلا حل من عدا المذكورات في ذلك الوقت، فأما ثبوت حلهم في سائر الأوقات فاللفظ ساكت عنه بالنفي والاثبات، وقد كان حل من سوى المذكورات ثابتا في ذلك الوقت، وطريان حرمة بعضهم بعد ذلك لا يكون تخصيصا لذلك النص ولا نسخا له، فهذا وجه حسن معقول مقرر. وبهذا الطريق نقول أيضا: إن قوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * (النساء: 23) ليس نصا في تأبيد هذا التحريم، وإن ذلك التأبيد إنما عرفناه بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم، لا من هذا اللفظ، فهذا هو الجواب المعتمد في هذا الموضع.
الوجه الثاني: انا لا نسلم أن حرمة الجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها غير مذكورة في الآية وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى حرم الجمع بين الأختين، وكونهما أختين يناسب هذه الحرمة لأن الأختية قرابة قريبة، والقرابة القريبة تناسب مزيد الوصلة والشفقة والكرامة، وكون إحداهما ضرة الأخرى يوجب الوحشة العظيمة والنفرة الشديدة، وبين الحالتين منافرة عظيمة، فثبت أن كونها أختا لها يناسب حرمة الجمع بينهما في النكاح، وقد ثبت في أصول الفقه ان ذكر الحكم مع الوصف المناسب له، يدل بحسب اللفظ على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فثبت أن قوله: * (وأن تجمعوا بين الأختين) * (النساء: 23) يدل على كون القرابة القريبة مانعة من الجمع في النكاح، وهذا المعنى حاصل بين المرأة وعمتها أو خالتها، فكان الحكم المذكور في الأختين مذكورا في العمة والخالة من طريق الدلالة، بل ههنا أولى، وذلك لأن العمة والخالة يشبهان الأم لبنت الأخ ولبنت الأخت، وهما يشبهان الولد للعمة والخالة، واقتضاء مثل هذه القرابة لترك المضارة أقوى من اقتضاء قرابة الأختية لمنع المضارة، فكان قوله: * (وأن تجمعوا بين الأختين) * مانعا من العمة والخالة بطريق الأولى. الثاني: أنه نص على حرمة التزوج بأمهات النساء فقال: * (وأمهات نسائكم) * (النساء: 23) ولفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة، أما على العمة فلأنه تعالى قال مخبرا عن أولاد يعقوب عليه السلام: * (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل) * (البقرة: 133) فأطلق لفظ الأب على إسماعيل مع أنه كان عما، وإذا كان العم أبا لزم أن تكون العمة أما، وأما إطلاق لفظ الأم على الخالة فيدل عليه قوله تعالى: * (ورفع أبويه على العرش) * (يوسف: 100) والمراد أبوه وخالته، فان أمه كانت متوفاة في ذلك الوقت، فثبت بما
44

أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين
ذكرنا أن لفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة، فكان قوله: * (وأمهات نسائكم) * متناولا للعمة والخالة من بعض الوجوه.
وإذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * المراد ما وراء هؤلاء المذكورات سواء كن مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية، أو بدلالة خفية، وإذا كان كذلك لم تكن العمة والخالة خارجة عن المذكورات.
الوجه الثالث: في الجواب عن شبهة الخوارج أن نقول: قوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * عام، وقوله: " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها " خاص، والخاص مقدم على العام، ثم ههنا طريقان: تارة نقول: هذا الخبر بلغ في الشهرة مبلغ التواتر، وتخصيص عموم القرآن بخبر المتواتر جائز، وعندي هذا الوجه كالمكابرة، لأن هذا الخبر وإن كان في غاية الشهرة في زماننا هذا لكنه لما انتهى في الأصل إلى رواية الآحاد لم يخرج عن أن يكون من باب الآحاد. وتارة نقول: تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد جائز، وتقريره مذكور في الأصول، فهذا جملة الكلام في هذا الباب، والمعتمد في الجواب عندنا الوجه الأول.
الصنف الثالث: من التخصيصات الداخلة في هذا العموم: أن المطلقة ثلاثا لا تحل، إلا أن هذا التخصيص ثبت بقوله تعالى: * (فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * (البقرة: 230).
الصنف الرابع: تحريم نكاح المعتدة، ودليله قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * (البقرة: 228).
الصنف الخامس: من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة، وهذا بالاتفاق. وعند الشافعي: القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة، ودليل هذا التخصيص قوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم) * (النساء: 25) وسيأتي بيان دلالة هذه الآية على هذا المطلوب.
الصنف السادس: يحرم عليه التزوج بالخامسة، ودليله قوله تعالى: * (مثنى وثلاث ورباع) *.
الصنف السابع: الملاعنة: ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ".
قوله تعالى: * (أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) *.
فيه مسائل:
45

المسألة الأولى: قوله: * (أن تبتغوا) * في محله قولان: الأول: أنه رفع على البدل من " ما " والتقدير: وأحل لكم ما وراء ذلكم وأحل لكم أن تبتغوا، على قراءة من قرأ (وأحل) بضم الألف. ومن قرأ بالفتح كان محل " أن تبتغوا " نصبا. الثاني: أن يكون محله على القراءتين النصب بنزع الخافض كأنه قيل: لأن تبتغوا، والمعنى: وأحل لكم ما وراء ذلكم لإرادة أن تبتغوا بأموالكم وقوله: * (محصنين غير مسافحين) * أي في حال كونكم محصنين غير مسافحين، وقوله: * (محصنين) * أي متعففين عن الزنا، وقوله: * (غير مسافحين) * أي غير زانين، وهو تكرير للتأكيد. قال الليث: السفاح والمسافحة الفجور، وأصله في اللغة من السفح وهو الصب يقال: دموع سوافح ومسفوحة، قال تعالى: * (أو دما مسفوحا) * (الانعام: 145) وفلان سفاح للدماء أي سفاك، وسمي الزاني سفاحا لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة.
فان قيل: أين مفعول تبتغوا؟
قلنا: التقدير: وأحل لكم ما وراء ذلكم لإرادة أن تبتغوهن، أي تبتغوا ما وراء ذلكم، فحذف ذكره لدلالة ما قبله عليه والله أعلم.
المسألة الثانية: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا مهر أقل من عشرة دراهم، وقال الشافعي رضي الله عنه: يجوز بالقليل والكثير ولا تقدير فيه. احتج أبو حنيفة بهذه الآية، وذلك لأنه تعالى قيد التحليل بقيد، وهو الابتغاء بأموالهم، والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا، فوجب أن لا يصح جعلها مهرا.
فان قيل: ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال، مع أنكم تجوزون كونها مهرا.
قلنا: ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا تكون العشرة كافية، إلا أنا تركنا العمل بظاهر الآية في هذه الصورة لدلالة الاجماع على جوازه، فتمسك في الأقل من العشرة بظاهر الآية.
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف، لأن الآية دالة على أن الابتغاء بالأموال جائز، وليس فيها دلالة على أن الابتغاء بغير الأموال لا يجوز، إلا على سبيل المفهوم، وأنتم لا تقولون به. ثم نقول: الذي يدل على أنه لا تقدير في المهر وجوه:
الحجة الأولى: التمسك بهذه الآية، وذلك لأن قوله: * (بأموالكم) * مقابلة الجمع بالجمع، فيقتضي توزع الفرد على الفرد، فهذا يقتضي أن يتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا، والقليل والكثير في هذه الحقيقة وفي هذا الاسم سواء، فيلزم من هذه الآية جواز ابتغاء النكاح بأي شيء يسمى مالا من غير تقدير.
46

الحجة الثانية: التمسك بقوله تعالى: * (وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) * (البقرة: 237) دلت الآية على سقوط النصف عن المذكور، وهذا يقتضي أنه لو وقع العقد في أول الأمر بدرهم أن لا يجب عليه إلا نصف درهم، وأنتم لا تقولون به.
الحجة الثالثة: الأحاديث: منها ما روي أن امرأة جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تزوج بها رجل على نعلين، فقال عليه الصلاة والسلام: " رضيت من نفسك بنعلين " فقالت: نعم فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن قيمة النعلين تكون أقل من عشرة دراهم، فان مثل هذا الرجل والمرأة اللذين لا يكون تزوجهما إلا على النعلين يكونان في غاية الفقر، ونعل هذا الانسان يكون قليل القيمة جدا. ومنها ما روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق أو طعام فقد استحل " ومنها ما روي في قصة الواهبة أنه عليه الصلاة والسلام قال لمن أراد التزوج بها: " التمس ولو خاتما من حديد " وذلك لا
يساوي عشرة دراهم.
المسألة الثالثة: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لو تزوج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهرا ولها مهر مثلها، ثم قال: إذا تزوج امرأة على خدمته سنة، فان كان حرا لها مهر مثلها، وإن كان عبدا فلها خدمة سنة. وقال الشافعي رحمة الله عليه: يجوز جعل ذلك مهرا، احتج أبو حنيفة على قوله بوجوه: الأول: هذه الآية وذلك أنه تعالى شرط في حصول الحل أن يكون الابتغاء بالمال، والمال اسم للأعيان لا للمنافع، الثاني: قال تعالى: * (فان طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * (النساء: 4) وذلك صفة الأعيان.
أجاب الشافعي عن الأول بأن الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز، وليس فيه بيان أن الابتغاء بغير المال جائز أم لا، وعن الثاني: أن لفظ الايتاء كما يتناول الأعيان يتناول المنافع الملتزمة، وعن الثالث: أنه خرج الخطاب على الأعم الأغلب، ثم احتج الشافعي رضي الله عنه على جواز جعل المنفعة صداقا لوجوه:
الحجة الأولى: قوله تعالى في قصة شعيب: * (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) * (القصص: 27) جعل الصداق تلك المنافع والأصل في شرع من تقدمنا البقاء إلى أن يطرأ الناسخ.
الحجة الثانية: ان التي وهبت نفسها، لما لم يجد الرجل الذي أراد أن يتزوج بها شيئا، قال عليه الصلاة والسلام: " هل معك شيء من القرآن قال نعم سورة كذا، قال زوجتكها بما معك من
47

فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة
القرآن " والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال أبو بكر الرازي: دلت الآية على أن عتق الأمة لا يكون صداقا لها، لأن الآية تقتضي كون البضع مالا، وما روي أنه عليه السلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها، فذاك من خواص الرسول عليه السلام.
المسألة الخامسة: قوله: * (محصنين) * فيه وجهان: أحدهما: أن يكون المراد أنهم يصيرون محصنين بسبب عقد النكاح، والثاني: أن يكون الاحصان شرطا في الاحلال المذكور في قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * والأول أولى، لأن على هذا التقدير تبقى الآية عامة معلومة المعنى، وعلى هذا التقدير الثاني تكون الآية مجملة، لأن الاحصان المذكور فيه غير مبين، والمعلق على المجمل يكون مجملا، وحمل الآية على وجه يكون معلوما أولى من حملها على وجه يكون مجملا.
قوله تعالى: * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: الاستمتاع في اللغة الانتفاع، وكل ما انتفع به فهو متاع، يقال: استمتع الرجل بولده، ويقال فيمن مات في زمان شبابه: لم يتمتع بشبابه. قال تعالى: * (ربنا استمتع بعضنا ببعض) * (الأنعام: 128) وقال: * (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) * (الأحقاف: 20) يعني تعجلتم الانتفاع بها، وقال: * (فاستمتعتم بخلاقكم) * (التوبة: 69) يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا. وفي قوله: * (فما استمتعتم به منهن) * وجهان: الأول: فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن، فآتوهن أجورهن عليه، ثم أسقط الراجع إلى " ما " لعدم الالتباس كقوله: * (ان ذلك لمن عزم الأمور) * (الشورى: 43) فأسقط منه. والثاني: أن يكون " ما " في قوله: * (ما وراء ذلكم) * بمعنى النساء و " من " في قوله: * (منهن) * للتبعيض، والضمير في قوله: * (به) * راجع إلى لفظ * (ما) * لأنه واحد في اللفظ، وفي قوله: * (فأتوهن أجورهن) * إلى معنى " ما " لأنه جمع في المعنى، وقوله: * (أجورهن) * أي مهورهن، قال تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا) * (النساء: 25) إلى قوله: * (فانكحوهن باذن أهلهن وآتوهن أجورهن) * (النساء: 25) وهي المهور، وكذا قوله: * (فآتوهن أجورهن) * ههنا، وقال تعالى في آية أخرى: * (لا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) * (الممتحنة: 10) وإنما سمي المهر أجرا لأنه بدل المنافع، وليس ببدل من الأعيان، كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا والله أعلم.
48

المسألة الثانية: قال الشافعي: الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر. وقال أبو حنيفة تقرره. واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية لأن قوله: * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) * مشعر بأن وجوب إيتائهن مهورهن كان لأجل الاستمتاع بهن، ولو كانت الخلوة الصحيحة مقررة للمهر كان الظاهر أن الخلوة الصحيحة تتقدم الاستمتاع بهن، فكان المهر يتقرر قبل الاستمتاع، وتقرره قبل الاستمتاع يمنع من تعلق ذلك التقرر بالاستمتاع، والآية دالة على أن تقرر المهر يتعلق بالاستمتاع، فثبت أن الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر.
المسألة الثالثة: في هذه الآية قولان: أحدهما: وهو قول أكثر علماء الأمة أن قوله: * (أن تبتغوا بأموالكم) * المراد منه ابتغاء النساء بالأموال على طريق النكاح، وقوله: * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) * فان استمتع بالدخول بها آتاها المهر بالتمام، وإن استمتع بعقد النكاح آتاها نصف المهر. والقول الثاني: أن المراد بهذه الآية حكم المتعة، وهي عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين فيجامعها، واتفقوا على أنها كانت مباحة في ابتداء الاسلام، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة في عمرته تزين نساء مكة، فشكا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم طول العزوبة فقال: استمتعوا من هذه النساء، واختلفوا في أنها هل نسخت أم لا؟ فذهب السواد الأعظم من الأمة إلى أنها صارت منسوخة، وقال السواد منهم: إنها بقيت مباحة كما كانت وهذا القول مروي عن ابن عباس وعمران بن الحصين، أما ابن عباس فعنه ثلاث روايات: إحداها: القول بالإباحة المطلقة، قال عمارة: سألت ابن عباس عن المتعة: أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا
سفاح ولا نكاح، قلت: فما هي؟ قال: هي متعة كما قال تعالى، قلت: هل لها عدة؟ قال نعم عدتها حيضة، قلت: هل يتوارثان؟ قالا لا.
والرواية الثانية عنه: أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال ابن عباس: قاتلهم الله إني ما أفتيت باباحتها على الاطلاق، لكني قلت: إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له.
والرواية الثالثة: أنه أقر بأنها صارت منسوخة. روى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله: * (فما استمتعتم به منهن) * قال صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) * (الطلاق: 1) وروي أيضا أنه قال عند موته: اللهم إني أتوب إليك من قولي في المتعة والصرف وأما عمران بن الحصين فإنه قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ولم ينزل بعدها آية تنسخها
49

وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا بها، ومات ولم ينهنا عنه، ثم قال رجل برأيه ما شاء. وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة، وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لولا أن عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي، وروى محمد بن علي المشهور بمحمد بن الحنفية أن عليا رضي الله عنه مر بابن عباس وهو يفتي بجواز المتعة، فقال أمير المؤمنين: انه صلى الله عليه وسلم نهى عنها وعن لحوم الحمر الأهلية، فهذا ما يتعلق بالروايات. واحتج الجمهور على حرمة المتعة بوجوه: الأول: أن الوطء لا يحل إلا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المعارج: 29 - 30، المؤمنون: 5 - 6) وهذه المرأة لا شك أنها ليست مملوكة، وليست أيضا زوجة، ويدل عليه وجوه: أحدها: لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى: * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) * (النساء: 12) وبالاتفاق لا توارث بينهما، وثانيها: ولثبت النسب، لقوله عليه الصلاة والسلام: " الولد للفراش " وبالاتفاق لا يثبت، وثالثها: ولوجبت العدة عليها، لقوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * (البقرة: 234) واعلم أن هذه الحجة كلام حسن مقرر.
الحجة الثانية: ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما، ذكر هذا الكلام في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد، فالحال ههنا لا يخلو إما أن يقال: انهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا، أو كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة، أو ما عرفوا إباحتها ولا حرمتها. فسكتوا لكونهم متوقفين في ذلك، والأول هو المطلوب، والثاني يوجب تكفير عمر، وتكفير الصحابة لأن من علم أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإباحة المتعة، ثم قال: إنها محرمة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر بالله، ومن صدقه عليه مع علمه بكونه مخطئا كافرا، كان كافرا أيضا. وهذا يقتضي تكفير الأمة وهو على ضد قوله: * (كنتم خير أمة) * (آل عمران: 110).
والقسم الثالث: وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة فلهذا سكتوا، فهذا أيضا باطل، لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح، واحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما عام في حق الكل، ومثل هذا يمنع أن يبقى مخفيا، بل يجب أن يشتهر العلم به، فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح، وأن إباحته غير منسوخة، وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الانكار على عمر رضي الله عنه لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة في الاسلام.
50

فان قيل: ما ذكرتم يبطل بما أنه روي أن عمر قال: لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته، ولا شك أن الرجم غير جائز، مع أن الصحابة ما أنكروا عليه حين ذكر ذلك، فدل هذا على أنهم كانوا يسكتون عن الانكار على الباطل.
قلنا: لعله كان يذكر ذلك على سبيل التهديد والزجر والسياسة، ومثل هذه السياسات جائزة للامام عند المصلحة، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام قال: " من منع منا الزكاة فانا آخذوها منه وشطر ماله " ثم أن أخذ شطر المال من مانع الزكاة غير جائز، لكنه قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للمبالغة في الزجر، فكذا ههنا والله أعلم.
الحجة الثالثة على أن المتعة محرمة: ما روى مالك عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد ابن علي عن أبيهما عن علي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول: " يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " متعة النساء حرام " وهذه الأخبار الثلاثة ذكرها الواحدي في البسيط، وظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا، لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ، ومجرد النكاح ليس كذلك، أما القائلون بإباحة المتعة فقد احتجوا بوجوه.
الحجة الأولى: التمسك بهذه الآية أعني قوله تعالى: * (أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) * وفي الاستدلال بهذه الآية طريقان:
الطريق الأول: أن قول: نكاح المتعة داخل في هذه الآية، وذلك لأن قوله: * (أن تبتغوا بأموالكم) * يتناول من ابتغى بماله الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأييد، ومن ابتغى بماله على سبيل التأقيت، وإذا كان كل واحد من القسمين داخلا فيه كان قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم) * يقتضي حل القسمين، وذلك يقتضي حل المتعة.
الطريق الثاني: أن نقول: هذه الآية مقصورة على بيان نكاح المتعة، وبيانه من وجوه: الأول: ما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ * (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن) * وهذا أيضا هو قراءة ابن عباس، والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة، فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة، وتقريره ما
ذكرتموه في أن عمر رضي الله عنه لما منع من المتعة والصحابة
51

ما أنكروا عليه كان ذلك إجماعا على صحة ما ذكرنا، وكذا ههنا، وإذا ثبت بالاجماع صحة هذه القراءة ثبت المطلوب. الثاني: أن المذكور في الآية إنما هو مجرد الابتغاء بالمال، ثم انه تعالى أمر بايتائهن أجورهن بعد الاستمتاع بهن، وذلك يدل على أن مجرد الابتغاء بالمال يجوز الوطء، ومجرد الابتغاء بالمال لا يكون إلا في نكاح المتعة، فأما في النكاح المطلق فهناك الحل إنما يحصل بالعقد، ومع الولي والشهود، ومجرد الابتغاء بالمال لا يفيد الحل، فدل هذا على أن هذه الآية مخصوصة بالمتعة. الثالث: أن في هذه الآية أوجب إيتاء الأجور بمجرد الاستمتاع، والاستمتاع عبارة عن التلذذ والانتفاع، فأما في النكاح فايتاء الأجور لا يجب على الاستمتاع البتة، بل على النكاح، ألا ترى أن بمجرد النكاح يلزم نصف المهر، فظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا، لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ. ومجرد النكاح ليس كذلك. الرابع: أنا لو حملنا هذه الآية على حكم النكاح لزم تكرار بيان حكم النكاح في السورة الواحدة، لأنه تعالى قال في أول هذه السورة: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * (النساء: 3) ثم قال: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) * (النساء: 4) أما لو حملنا هذه الآية على بيان نكاح المتعة كان هذا حكما جديدا، فكان حمل الآية عليه أولى والله أعلم. الحجة الثانية على جواز نكاح المتعة: أن الأمة مجمعة على أن نكاح المتعة كان جائزا في الاسلام، ولا خلاف بين أحد من الأمة فيه، إنما الخلاف في طريان الناسخ، فنقول: لو كان الناسخ موجودا لكان ذلك الناسخ إما أن يكون معلوما بالتواتر، أو بالآحاد، فان كان معلوما بالتواتر، كان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعمران بن الحصين منكرين لما عرف ثبوته بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك يوجب تكفيرهم، وهو باطل قطعا، وإن كان ثابتا بالآحاد فهذا أيضا باطل، لأنه لما كان ثبوت إباحة المتعة معلوما بالاجماع والتواتر، كان ثبوته معلوما قطعا، فلو نسخناه بخبر الواحد لزم جعل المظنون رافعا للمقطوع وإنه باطل. قالوا: ومما يدل أيضا على بطلان القول بهذا النسخ أن أكثر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، وأكثر الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح، وهذان اليومان متأخران عن يوم خيبر، وذلك يدل على فساد ما روي أنه عليه السلام نسخ المتعة يوم خيبر، لأن الناسخ يمتنع تقدمه على المنسوخ، وقول من يقول: انه حصل التحليل مرارا والنسخ مرارا ضعيف، لم يقل به أحد من المعتبرين، إلا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات.
الحجة الثالثة: ما روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر: متعتان كانتا مشروعتين في عهد
52

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهي عنهما: متعة الحج، ومتعة النكاح، وهذا منه تنصيص على أن متعة النكاح كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله: وأنا أنهي عنهما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نسخه، وإنما عمر هو الذي نسخه. وإذا ثبت هذا فنقول: هذا الكلام يدل على أن حل المتعة كان ثابتا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه السلام ما نسخه، وأنه ليس ناسخ الا نسخ عمر، وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصير منسوخا لأن ما كان ثابتا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وما نسخه الرسول، يمتنع أن يصير منسوخا بنسخ عمر، وهذا هو الحجة التي احتج بها عمران بن الحصين حيث قال: ان الله أنزل في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة وما نهانا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء، يريد أن عمر نهى عنها، فهذا جملة وجوه القائلين بجواز المتعة.
والجواب عن الوجه الأول أن نقول: هذه الآية مشتملة على أن المراد منها نكاح المتعة وبيانه من ثلاثة أوجه: الأول: أنه تعالى ذكر المحرمات بالنكاح أولا في قوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * ثم قال في آخر الآية: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * فكان المراد بهذا التحليل ما هو المراد هناك بهذا التحريم، لكن المراد هناك بالتحريم هو النكاح، فالمراد بالتحليل ههنا أيضا يجب أن يكون هو النكاح. الثاني: أنه قال: * (محصنين) * والاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح. والثالث: قوله: * (غير مسافحين) * سمى الزنا سفاحا لأنه لا مقصود فيه إلا سفح الماء، ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النكاح، والمتعة لا يراد منها إلا سفح الماء فكان سفاحا، هذا ما قاله أبو بكر الرازي. أما الذي ذكره في الوجه الأول: فكأنه تعالى ذكر أصناف من يحرم على الانسان وطؤهن، ثم قال: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * أي وأحل لكم وطء ما وراء هذه الأصناف، فأي فساد في هذا الكلام؟ وأما قوله ثانيا: الاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح فلم يذكر عليه دليلا، وأما قوله ثالثا: الزنا إنما سمي سفاحا، لأنه لا يراد منه إلا سفح الماء، والمتعة ليست كذلك، فان المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل الله، فان قلتم: المتعة محرمة، فنقول: هذا أول البحث، فلم قلتم: إن الأمر كذلك، فظهر أن الكلام رخو، والذي يجب أن يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول: إنا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة، إنما الذي نقوله: إنها صارت منسوخة، وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا، وهذا هو الجواب أيضا عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس، فان تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل ألا على أن المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع فيه، إنما الذي نقوله: إن النسخ طرأ عليه، وما ذكرتم من الدلائل
53

ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما (24)
لا يدفع قولنا، وقولهم: الناسخ إما أن يكون متواترا أو آحادا.
قلنا: لعل بعضهم سمعه ثم نسيه، ثم إن عمر رضي الله عنه لما ذكر ذلك في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه فسلموا الأمر له.
قوله: إن عمر أضاف النهي عن المتعة إلى نفسه.
قلنا: قد بينا أنه لو كان مراده أن المتعة كانت مباحة في شرع محمد صلى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنه لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه، ويفضي ذلك إلى
تكفير أمير المؤمنين حيث لم يحاربه ولم يرد ذلك القول عليه، وكل ذلك باطل، فلم يبق إلا أن يقال: كان مراده أن المتعة كانت مباحة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهي عنها لما ثبت عندي أنه صلى الله عليه وسلم نسخها، وعلى هذا التقدير يصير هذا الكلام حجة لنا في مطلوبنا والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (فآتوهن أجورهن فريضة) * والمعنى أن إيتاءهن أجورهن ومهورهن فريضة لازمة وواجبة، وذكر صاحب " الكشاف " في قوله: * (فريضة) * ثلاثة أوجه: أحدها: أنه حال من الأجور بمعنى مفروضة. وثانيها: أنها وضعت موضع إيتاء، لأن الايتاء مفروض. وثالثها: أنه مصدر مؤكد، أي فرض ذلك فريضة.
ثم قال تعالى: * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ان الله كان عليما حكيما) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان حكم النكاح قالوا: المراد أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين، فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر أو تبرئه عنه بالكلية، فعلى هذا: المراد من التراضي الحط من المهر أو الابراء عنه، وهو كقوله تعالى: * (فان طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * (النساء: 4) وقوله: * (إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) * (البقرة: 237) وقال الزجاج معناه: لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها، أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر إذا طلقها قبل الدخول. وأما الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان المتعة قالوا: المراد من هذه الآية أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل البتة، فان قال لها: زيديني في الأيام وأزيدك
54

في الأجرة كانت المرأة بالخيار، ان شاءت فعلت، وان شاءت لم تفعل، فهذا هو المراد من قوله: * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) * أي من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل.
المسألة الثانية: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: إلحاق الزيادة في الصداق جائز، وهي ثابتة ان دخل بها أو مات عنها، أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة، وكان لها نصف المسمى في العقد. وقال الشافعي رحمة الله عليه: الزيادة بمنزلة الهبة، فان أقبضها ملكته بالقبض، وان لم يقبضها بطلت. احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقوله: * (لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) * يتناول ما وقع التراضي به في طرفي الزيادة والنقصان، فكان هذا بعمومه يدل على جواز إلحاق الزيادة بالصداق، قال: بل هذه الآية بالزيادة أخص منها بالنقصان؛ لأنه تعالى علقه بتراضيهما، والبراءة والحط لا يحتاج إلى رضا الزوج، والزيادة لا تصح إلا بقبوله، فإذا علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد هو الزيادة.
والجواب: لم لا يجوز أن تكون الزيادة عبارة عما ذكره الزجاج؟ وهو أنه إذا طلقها قبل الدخول، فان شاءت المرأة أبرأته عن النصف، وان شاء الزوج سلم إليها كل المهر، وبهذا التقدير يكون قد زادها عما وجب عليه تسليمه إليها، وأيضا عندنا أنه لا جناح في تلك الزيادة إلا أنها تكون هبة. والدليل القاطع على بطلان هذه الزيادة أن هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان إما مع بقاء العقد الأول، أو بعد زوال العقد، والأول باطل، لأن العقد لما انعقد على القدر الأول، فلو انعقد مرة أخرى على القدر الثاني، لكان ذلك تكوينا لذلك العقد بعد ثبوته، وذلك يقتضى تحصيل الحاصل وهو محال. والثاني باطل لانعقاد الاجماع على أن عند إلحاق الزيادة لا يرتفع العقد الأول، فثبت فساد ما قالوه والله أعلم. ثم إنه تعالى لما ذكر في هذه الآية أنواعا كثيرة من التكاليف والتحريم والاحلال، بين أنه عليم بجميع المعلومات لا يخفى عليه منها خافية أصلا، وحكيم لا يشرع الأحكام إلا على وفق الحكمة، وذلك يوجب التسليم لأوامره والانقياد لأحكامه والله أعلم.
النوع السابع: من التكاليف المذكورة في هذه السورة.
* (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من
55

فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشى لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين من يحل ومن لا يحل: بين فيمن يحل أنه متى يحل، وعلى أي وجه يحل فقال: * (ومن لم يستطع منكم طولا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الكسائي * (المحصنات) * بكسر الصاد، وكذلك * (محصنات غير مسافحات) * وكذلك * (فعليهن نصف ما على المحصنات) * كلها بكسر الصاد، والباقون بالفتح، فالفتح معناه ذوات الأزواج، والكسر معناه العفائف والحرائر والله أعلم.
المسألة الثانية: الطول: الفضل، ومنه التطول وهو التفضل، وقال تعالى: * (ذي الطول) * (غافر: 3) ويقال: تطاول لهذا الشيء أي تناوله، كما يقال: يد فلان مبسوطة وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر؛ لأنه إذا كان طويلا ففيه كمال وزيادة، كما أنه إذا كان قصيرا ففيه قصور ونقصان، وسمي الغنى أيضا طولا، لأنه ينال به من المرادات مالا ينال عند الفقر، كما أن بالطول ينال ما لا ينال بالقصر.
إذا عرفت هذا فنقول: الطول القدرة، وانتصابه على أنه مفعول " يستطع " و * (أن ينكح) * في موضع النصب على أنه مفعول القدرة.
فان قيل: الاستطاعة هي القدرة، والطول أيضا هو القدرة، فيصير تقدير الآية: ومن لم يقدر
56

منكم على القدرة على نكاح المحصنات، فما فائدة هذا التكرير في ذكر القدرة؟
قلنا: الأمر كما ذكرت، والأولى أن يقال: المعنى فمن لم يستطع منكم استطاعة بالنكاح المحصنات، وعلى هذا الوجه يزول الاشكال، فهذا ما يتعلق باللغة.
أما ما قاله المفسرون فوجوه: الأول: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة. الثاني: أن يفسر النكاح بالوطء، والمعنى: ومن لم يستطع منكم طولا وطء الحرائر فلينكح أمة، وعلى هذا التقدير فكل من ليس تحته حرة فإنه يجوز له التزوج بالأمة. وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة، فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له التزوج بالأمة. وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة، فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة، سواء قدر على التزوج بالحرة أو لم يقدر. والثالث: الاكتفاء بالحرة، فله أن يتزوج بالأمة سواء كان تحته حرة أو لم يكن، كل هذه الوجوه إنما حصلت، لأن لفظ الاستطاعة محتمل لكل هذه الوجوه.
المسألة الثالثة: المراد بالمحصنات في قوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات) * هو الحرائر، ويدل عليه أنه تعالى أثبت عند تعذر نكاح المحصنات نكاح الإماء، فلا بد وأن يكون المراد من المحصنات من يكون كالضد للاماء، والوجه في تسمية الحرائر بالمحصنات على قراءة من قرأ بفتح الصاد: أنهن أحصن بحريتهن عن الأحوال التي تقدم عليها الأماء، فان الظاهر أن الأمة تكون خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة، والحرة مصونة محصنة من هذه النقصانات، واما على قراءة من قرأ بكسر الصاد، فالمعنى أنهن أحصن أنفسهن بحريتهن.
المسألة الرابعة: مذهب الشافعي رضي الله عنه: أن الله تعالى شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة، اثنان منها في الناكح، والثالث في المنكوحة، أما اللذان في الناكح. فأحدهما: أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق، وهو معنى قوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات) * فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة.
فان قيل: الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة، فمن أين هذا التفاوت؟
قلنا: كانت العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات، وعلى هذا التقدير يظهر هذا التفاوت.
وأما الشرط الثاني: فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله: * (ذلك لمن خشي العنت منكم) * (النساء: 25) أي بلغ الشدة في العزوبة. وأما الشرط الثالث: المعتبر في المنكوحة، فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة، فان الأمة
57

إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين: الرق والكفر، ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق، وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر، فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكا للكافر، فهذه الشرائط الثلاثة معتبرة عند الشافعي في جواز نكاح الأمة.
وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فيقول: إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة، أما إذا لم يكن تحته حرة جاز له ذلك، سواء قدر على نكاح الحرة أو لم يقدر، واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وتقريره من وجهين: الأول: أنه تعالى ذكر عدم القدرة على طول الحرة، ثم ذكر عقيبه التزوج بالأمة، وذلك الوصف يناسب هذا الحكم لأن الانسان قد يحتاج إلى الجماع، فإذا لم يقدر على جماع الحرة بسبب كثرة مؤنتها ومهرها، وجب أن يؤذن له في نكاح الأمة، إذا ثبت هذا فنقول: الحكم إذا كان مذكورا عقيب وصف يناسبه، فذلك الاقتران في الذكر يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، إذا ثبت هذا فنقول: لو كان نكاح الأمة جائزا بدون القدرة على طول الحرة ومع القدرة عليه لم يكن لعدم هذه القدرة أثر في هذا الحكم البتة، لكنا بينا دلالة الآية على أن له أثرا في هذا الحكم، فثبت أنه لا يجوز التزوج بالأمة مع القدرة على طول الحرة. الثاني: أن نتمسك بالآية على سبيل المفهوم، وهو أن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه، والدليل عليه أن القائل إذا قال: الميت اليهودي لا يبصر شيئا، فان كل أحد يضحك من هذا الكلام ويقول: إذا كان غير اليهودي أيضا لا يبصر فما فائدة التقييد بكونه يهوديا، فلما رأينا أن أهل العرف يستقبحون هذا الكلام ويعللون ذلك الاستقباح بهذه العلة، علمنا اتفاق أرباب اللسان على أن التقييد بالصفة يقتضي نفي الحكم في غير محل القيد. قال أبو بكر الرازي: تخصيص هذه الحالة بذكر الإباحة فيها لا يدل على حظر ما عداه، كقوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * (الإسراء: 31) ولا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحالة، وقوله: * (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) * (آل عمران: 130) لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة، وقوله: * (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) * لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة، فيقال له: ظاهر اللفظ يقتضي ذلك، إلا أنه ترك العمل به بدليل منفصل، كما أن عندك ظاهر الأمر للوجوب، وقد يترك العمل به في صور كثيرة لدليل منفصل، والسؤال الجيد على التمسك بالآية ما ذكرناه، حيث قلنا: لم لا يجوز أن يكون المراد من النكاح الوطء، والتقدير: ومن لم يستطع منكم وطء الحرة، وذلك عند من لا يكون تحته حرة، فإنه يجوز له نكاح الأمة، وعلى هذا التقدير تنقلب الآية حجة لأبي حنيفة.
وجوابه: أن أكثر المفسرين فسروا الطول بالغنى، وعدم الغنى تأثيره في عدم القدرة على العقد، لا في عدم القدرة على الوطء. واحتج أبو بكر الرازي على صحة قوله بالعمومات، كقوله تعالى:
58

/ * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3) وقوله: * (وأنكحوا الأيامى منكم) * وقوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * وقوله: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * (المائدة: 5) وهو متناول للاماء الكتابيات. والمراد من هذا الاحصان العفة.
والجواب: ان آيتنا خاصة، والخاص مقدم على العام، ولأنه دخلها التخصيص فيا إذا كان تحته حرة، وإنما خصت صونا للولد، عن الارقاق، وهو قائم في محل النزاع.
المسألة الخامسة: ظاهر قوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات) * يقتضي كون الايمان معتبرا في الحرة، فعلى هذا: لو قدر على حرة
كتابية ولم يقدر على طول حرة مسلمة فإنه يجوز له أن يتزوج الأمة، وأكثر العلماء أن ذكر الايمان في الحرائر ندب واستحباب، لأنه لا فرق بين الحرة الكتابية وبين المؤمنة في كثرة المؤنة وقلتها.
المسألة السادسة: من الناس من قال: انه لا يجوز التزوج بالكتابيات البتة، واحتجوا بهذه الآيات، فقالوا: انه تعالى بين أن عند العجز عن نكاح الحرة المسلمة يتعين له نكاح الأمة المسلمة، ولو كان التزوج بالحرة الكتابية جائزا، لكان عند العجز عن الحرة المسلمة لم تكن الأمة المسلمة متعينة، وذلك ينفي دلالة الآية. ثم أكدوا هذه الدلالة بقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 221) وقد بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير هذه الآية أن الكتابية مشركة.
المسألة السابعة: الآية دالة على التحذير من نكاح الإماء، وأنه لا يجوز الاقدام عليه إلا عند الضرورة، والسبب فيه وجوه: الأول: أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية، فإذا كانت الأم رقيقة علق الولد رقيقا، وذلك يوجب النقص في حق ذلك الانسان وفي حق ولده. والثاني: أن الأمة قد تكون تعودت الخروج والبروز والمخالطة بالرجال وصارت في غاية الوقاحة، وربما تعودت الفجور، وكل ذلك ضرر على الأزواج. الثالث: أن حق المولى عليها أعظم من حق الزوج، فمثل هذه الزوجة لا تخلص للزوج كخلوص الحرة، فربما احتاج الزوج إليها جدا ولا يجد إليها سبيلا لأن السيد يمنعها ويحبسها. الرابع: أن المولى قد يبيعها من إنسان آخر، فعلى قول من يقول: بيع الأمة طلاقها، تصير مطلقة شاء الزوج أم أبى، وعلى قول من لا يرى ذلك فقد يسافر المولى الثاني بها وبولدها، وذلك من أعظم المضار. الخامس: أن مهرها ملك لمولاها، فهي لا تقدر على هبة مهرها من زوجها، ولا على إبرائه عنه، بخلاف الحرة، فلهذه الوجه ما أذن الله في نكاح الأمة إلا على سبيل الرخصة والله أعلم.
قوله تعالى: * (فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * فيه مسائل:
59

المسألة الأولى: قوله: * (فمن ما ملكت أيمانكم) * أي فليتزوج مما ملكت أيمانكم. قال ابن عباس: يريد جارية أختك، فان الانسان لا يجوز له أن يتزوج بجارية نفسه.
المسألة الثانية: الفتيات: المملوكة جمع فتاة، والعبد فتى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي " ويقال للجارية الحديثة: فتاة، وللغلام فتى، والأمة تسمى فتاة، عجوزا كانت أو شابة، لأنها كالشابة في أنها لا توقر توقير الكبير.
المسألة الثالثة: قوله: * (من فتياتكم المؤمنات) * يدل على تقييد نكاح الأمة بما إذا كانت مؤمنة فلا يجوز التزوج بالأمة الكتابية، سواء كان الزوج حرا أو عبدا، وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن، وقول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز التزوج بالأمة الكتابية.
حجة الشافعي رضي الله عنه: أن قوله: * (من فتياتكم المؤمنات) * تقييد لجواز نكاح الأمة بكونها مؤمنة، وذلك ينفي جواز نكاح غير المؤمنة من الوجهين اللذين ذكرناهما في مسألة طول الحرة، وأيضا قال تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 221).
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: النص والقياس: أما النص فالعمومات التي ذكرنا تمسكه بها في طول الحرة، وآكدها قوله: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * (المائدة: 5) وأما القياس فهو أنا أجمعنا على أن الكتابة الحرة مباحة، والكتابية المملوكة أيضا مباحة، فكذلك إذا تزوج بالكتابية المملوكة وجب أنه يجوز.
والجواب عن العمومات: أن دلائلنا خاصة فتكون مقدمة على العمومات، وعن القياس: أن الشافعي قال: إذا تزوج بالحرة الكتابية فهناك نقص واحد، أما إذا تزوج بالأمة الكتابية فهناك نوعان من النقص: الرق والكفر، فظهر الفرق.
ثم قال تعالى: * (والله أعلم بايمانكم) * قال الزجاج: معناه اعملوا على الظاهر في الايمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور، والله يتولى السرائر والحقائق.
ثم قال تعالى: * (بعضكم من بعض) * وفيه وجهان: الأول: كلكم أولاد آدم فلا تداخلنكم أنفة من تزوج الإماء عند الضرورة. والثاني: ان المعنى: كلكم مشتركون في الايمان، والايمان أعظم الفضائل، فإذا حصل الاشتراك في أعظم الفضائل كان التفاوت فيما وراءه غير ملتفت إليه، ونظيره قوله تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * (التوبة: 71) وقوله: * (أن أكرمكم عند الله أتقاكم) * (الحجرات: 13) قال الزجاج: فهذا الثاني أولى لتقدم ذكر المؤمنات، أو لأن الشرف بشرف الاسلام أولى منه بسائر الصفات، وهو يقوي قول الشافعي رضي الله عنه: ان الايمان شرط لجواز
60

نكاح الأمة.
واعلم أن الحكمة في ذكر هذه الكلمة أن العرب كانوا يفتخرون بالأنساب، فأعلم في ذكر هذه الكلمة أن الله لا ينظر ويلتفت إليه. روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ثلاث من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالأنواء، ولا يدعها الناس في الاسلام " وكان أهل الجاهلية يضعون من ابن الهجين، فذكر تعالى هذه الكلمة زجرا لهم عن أخلاق أهل الجاهلية.
ثم أنه تعالى شرح كيفية هذا النكاح فقال: * (فانكحوهن باذن أهلهن) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اتفقوا على أن نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل، ويدل عليه القرآن والقياس. أما القرآن فهو هذه الآية فان قوله تعالى: * (فانكحوهن باذن أهلهن) * يقتضي كون الاذن شرطا في جواز النكاح، وان لم يكن النكاح واجبا. وهو كقوله عليه الصلاة والسلام: " من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " فالسلم ليس بواجب، ولكنه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط، كذلك النكاح وان لم يكن واجبا، لكنه إذا أراد أن يتزوج أمة، وجب أن لا يتزوجها إلا باذن
سيدها. وأما القياس: فهو أن الأمة ملك للسيد، وبعد التزوج يبطل عليه أكثر منافعها، فوجب أن لا يجوز ذلك إلا باذنه. واعلم أن لفظ القرآن مقتصر على الأمة، وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تزوج العبد بغير اذن السيد فهو عاهر ".
المسألة الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه: المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلا باذن الولي. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يصح، احتج الشافعي بهذه الآية، وتقريره أن الضمير في قوله: * (فانكحوهن باذن أهلهن) * عائد إلى الإماء، والأمة ذات موصوفة بصفة الرق، وصفة الرق صفة زائلة، والإشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة ذات موصوفة بصفة الرق، وصفة الرق صفة زائلة، والإشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة لا يتناول الإشارة إلى تلك الصفة، ألا ترى أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه يحنث في يمينه، فثبت أن الإشارة إلى الذات الموصوفة بصفة عرضية زائلة، باقية بعد زوال تلك الصفة العرضية، وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (فانكحوهن باذن أهلهن) * إشارة إلى الإماء، فهذه الإشارة وجب أن تكون باقية حال زوال الرق عنهن، وحصول صفة الحرية لهن، وإذا كان كذلك فالحرة البالغة العاقلة في هذه الصورة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها، وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة وجب ثبوت هذا الحكم في سائر الصور؛ ضرورة أنه لا قائل بالفرق. احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على فساد قول الشافعي
61

في هذه المسألة فقال: مذهبه أنه لا عبارة للمرأة في عقد النكاح، فعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها، بل مذهبه أن توكل غيرها بتزويج أمتها. قال: وهذه الآية تبطل ذلك، لأن ظاهر هذه الآية يدل على الاكتفاء بحصول اذن أهلها، فمن قال لا يكفي ذلك كان تاركا لظاهر الآية.
والجواب من وجوه: الأول: أن المراد بالاذن الرضا. وعندنا أن رضا المولى لا بد منه، فأما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه، وثانيها: أن أهلهن عبارة عمن يقدر على نكاحهن، وذلك إما المولى أن كان رجلا، أو ولي مولاها إن كان مولاها امرأة. وثالثها: هب أن الاهل عبارة عن المولى، لكنه عام يتناول الذكور والإناث، والدلائل الدالة على أن المرأة لا تنكح نفسها خاصة قال عليه الصلاة والسلام: " العاهر هي التي تنكح نفسها " فثبت بهذا الحديث أنه عبارة لها في نكاح نفسها، فوجب أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكتها، ضرورة أنه لا قائل بالفرق والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وآتوهن أجورهن بالمعروف) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسير الآية قولان: الأول: ان المراد من الأجور: المهور، وعلى هذا التقدير فالآية تدل على وجوب مهرها إذا نكحها، سمي لها المهر أو لم يسم، لأنه تعالى لم يفرق بين من سمى، وبين من لم يسم في إيجاب المهر، ويدل على أنه قد أراد مهر لمثل قوله تعالى: * (بالمعروف) * (البقرة: 33) وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد والمتعارف كقوله تعالى: * (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) * الثاني: قال القاضي: ان المراد من أجورهن النفقة عليهن، قال هذا القائل: وهذا أولى من الأول، لأن المهر مقدر، ولا معنى لاشتراط المعروف فيه، فكأنه تعالى بين أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة، ثم قال القاضي: اللفظ وان كان يحتمل ما ذكرناه فأكثر المفسرين يحملونه على المهر، وحملوا قوله: * (بالمعروف) * على ايصال المهر إليها على العادة الجميلة عند المطالبة من غير مطل وتأخير.
المسألة الثانية: نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها، وان المولى إذا آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجر دونها وهؤلاء احتجوا في المهر بهذه الآية، وهو قوله: * (وآتوهن أجورهن) * وأما الجمهور فإنهم احتجوا على أن مهرها لمولاها بالنص والقياس، أما النص فقوله تعالى: * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) * (النحل: 75) وهذا ينفي كون المملوك مالكا لشيء أصلا، وأما القياس فهو أن المهر وجب عوضا عن منافع البضع، وتلك المنافع مملوكة للسيد، وهو الذي أباحها للزوج بقيد النكاح، فوجب أن
62

يكون هو المستحق لبدلها.
والجواب عن تمسكهم بالآية من وجوه: الأول: انا إذا حملنا الأجور في الآية على النفقة زال السؤال بالكلية. الثاني: أنه تعالى إنما أضاف إيتاء المهور إليهن لأنه ثمن بضعهن وليس في قوله: * (وآتوهن) * ما يوجب كون المهر ملكا لهن، ولكنه عليه الصلاة والسلام قال: " العبد وما في يده لمولاه " فيصير ذلك المهر ملكا للمولى بهذه الطريق والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: محصنات أي عفائف، وهو حال من قوله: * (فانكحوهن) * باذن أهلهن، فظاهر هذا يوجب حرمة نكاح الزواني من الإماء، واختلف الناس في أن نكاح الزواني هل يجوز أم لا؟ وسنذكره في قوله: * (الزاني لا ينكح إلا زانية) * (النور: 3) والأكثرون على أنه يجوز فتكون هذه الآية محمولة على الندب والاستحباب وقوله: * (غير مسافحات) * أي غير زوان * (ولا متخذات أخدان) * جمع خدن، كالأتراب جمع ترب، والخدن الذي يخادنك وهو الذي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن. قال أكثر المفسرين: المسافحة هي التي تؤاجر نفسها مع أي رجل أرادها، والتي تتخذ الخدن فهي التي تتخذ خدنا معينا، وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين، وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية، فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم لا جرم أن الله سبحانه أفرد كل واحد من هذين القسمين بالذكر، ونص على حرمتهما معا، ونظيره أيضا قوله تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) * (الأعراف: 33).
المسألة الثانية: قال القاضي: هذه الآية أحد ما يستدل به من لا يجعل الايمان في نكاح الفتيات شرطا، لأنه لو كان ذلك شرطا لكان كونهن محصنات عفيفات أيضا شرطا، وهذا ليس بشرط.
وجوابه: أن هذا معطوف لا على ذكر الفتيات المؤمنات، بل على قوله: * (فانكحوهن باذن أهلهن وآتوهن أجورهن) * ولا شك أن كل ذلك واجب، فعلمنا أنه لا يلزم من عدم الوجوب في هذا، عدم الوجوب فيما قبله والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (فإذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم * (أحصن) * بالفتح في الألف، والباقون بضم الألف، فمن فتح فمعناه: أسلمن، هكذا قاله عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي، ومن
63

ضم الألف فمعناه: أنهن أحصن بالأزواج. هكذا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد. ومنهم من طعن في الوجه الأول فقال: انه تعالى وصف الإماء بالايمان في قوله: * (فتياتكم المؤمنات) * ومن البعيد أن يقال فتياتكم المؤمنات، ثم يقال: فإذا آمن، فان حالهن كذا وكذا، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى ذكر حكمين: الأول: حال نكاح الإماء، فاعتبر الايمان فيه بقوله: * (من فتياتكم المؤمنات) * والثاني: حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة، فذكر حال إيمانهن أيضا في هذا الحكم، وهو قوله: * (فإذا أحصن) *.
المسألة الثانية: في الآية إشكال قوي، وهو أن المحصنات في قوله: * (فعليهن نصف ما على المحصنات) * إما أن يكون المراد منه الحرائر المتزوجات، أو المراد منه الحرائر الأبكار. والسبب في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن. والأول مشكل، لأن الواجب على الحرائر المتزوجات في الزنا: الرجم، فهذا يقتضي أن يجب في زنا الإماء نصف الرجم، ومعلوم أن ذلك باطل. والثاني: وهو أن يكون المراد: الحرائر الأبكار، فحينئذ يكون هذا الحكم معلقا بمجرد صدور الزنا عنهن، وظاهر الآية يقتضي كونه معلقا بمجموع الأمرين: الاحصان والزنا، لأن قوله: * (فإذا أحصن فان أتين بفاحشة) * شرط بعد شرط، فيقتضي كون الحكم مشروطا بهما نصا، فهذا إشكال قوي في الآية.
والجواب: أنا نختار القسم الثاني، وقوله: * (فإذا أحصن) * ليس المراد منه جعل هذا الاحصان شرطا لأن يجب في زناها خمسون جلدة، بل المعنى أن حد الزنا يغلظ عند التزوج، فهذه إذا زنت وقد تزوجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليه، فبأن يكون قبل التزوج هذا القدر أيضا أولى، وهذا مما يجري مجرى المفهوم بالنص، لأن عند حصول ما يغلظ الحد، لما وجب تخفيف الحد لمكان الرق، فبأن يجب هذا القدر عند مالا يوجد ذلك المغلظ كان أولى والله أعلم.
المسألة الثالثة: الخوارج اتفقوا على انكار الرجم، واحتجوا بهذه الآية، وهو أنه تعالى أوجب على الأمة نصف ما على الحرة المحصنة، فلو وجب على الحرة المحصنة الرجم، لزم أن يكون الواجب على الأمة نصف الرجم وذلك باطل، فثبت أن الواجب على الحرة المتزوجة ليس إلا الجلد، والجواب عنه ما ذكرناه في المسألة المتقدمة، وتمام الكلام فيه مذكور في سورة النور في تفسير قوله: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * (النور: 2).
المسألة الرابعة: اعلم أن الفقهاء صيروا هذه الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحر
64

يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم
في غير الحد، وإن كان في الأمور مالا يجب ذلك فيه والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (ذلك لمن خشي العنت منكم) * (النساء: 25) ولم يختلفوا في أن ذلك راجع إلى نكاح الإماء فكأنه قال: فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات لمن خشي العنت منكم، والعنت هو الضرر الشديد الشاق قال تعالى فيما رخص فيه مخالطة اليتامى: * (والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم) * (البقرة: 220) أي لشدد الأمر عليكم فألزمكم تمييز طعامكم من طعامهم فلحقكم بذلك ضرر شديد وقال: * (ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم) * (آل عمران: 118)، أي أحبوا أن تقعوا في الضرر الشديد. وللمفسرين فيه قولان: أحدهما: أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تحمل على الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب العظيم في الآخرة، فهذا هو العنت. والثاني: أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد تؤدي بالانسان إلى الأمراض الشديدة، أما في حق النساء فقد تؤدي إلى اختناق الرحم، وأما في حق الرجال فقد تؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر. وأكثر العلماء على الوجه الأول لأنه هو اللائق ببيان القرآن.
ثم قال تعالى: * (وأن تصبروا خير لكم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد أن نكاح الإماء بعد رعاية شرائطه الثلاثة أعني عدم القدرة على التزوج بالحرة، ووجود العنت، وكون الأمة مؤمنة: الأولى تركه لما بينا من المفاسد الحاصلة في هذا النكاح.
المسألة الثانية: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن الاشتغال بالنكاح أفضل من الاشتغال بالنوافل، فان كان مذهبهم أن الاشتغال بالنكاح مطلقا أفضل من الاشتغال بالنوافل، سواء كان النكاح نكاح الحرة أو نكاح الأمة، فهذه الآية نص صريح في بطلان قولهم، وآن قالوا: إنا لا نرجح نكاح الأمة على النافلة، فحينئذ يسقط هذا الاستدلال، إلا أن هذا التفصيل ما رأيته في شيء من كتبهم والله أعلم. ثم انه تعالى ختم الآية بقوله: * (والله غفور رحيم) * وهذا كالمؤكد لما ذكره من أن الأولى ترك هذا النكاح، يعني انه وان حصل ما يقتضي المنع من هذا الكلام إلا أنه تعالى أباحه لكم لاحتياجكم إليه، فكان ذلك من باب المغفرة والرحمة والله أعلم.
* (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم) *.
فيه مسائل:
65

والله عليكم حكيم (26)
المسألة الأولى: اللام في قوله: * (ليبين لكم) * فيه وجهان: الأول: قالوا: إنه قد تقام اللام مقام " أن " في أردت وأمرت، فيقال: أردت أن تذهب، وأردت لتذهب، وأمرتك أن تقوم، وأمرتك لتقوم، قال تعالى: * (يريدون ليطفؤا نور الله) * (الصف: 8) يعني يريدون أن يطفؤا، وقال: * (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) * (الأنعام: 71).
والوجه الثاني: أن نقول؛ إن في الآية إضمارا، والتقدير: يريد الله إنزال هذه الآيات ليبين لكم دينكم وشرعكم، وكذا القول في سائر الآيات التي ذكروها، فقوله: * (يريدون ليطفؤا نور الله) * يعني يريدون كيدهم وعنادهم ليطفؤا، وأمرنا بما أمرنا لنسلم.
المسألة الثانية: قال بعض المفسرين: قوله: * (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم) * معناهما شئ واحد، والتكرير لأجل التأكيد وهذا ضعيف، والحق أن المراد من قوله: * (ليبين لكم) * هو أنه تعالى بين لنا هذه التكاليف، وميز فيها الحلال من الحرام والحسن من القبيح.
ثم قال: * (ويهديكم سنن الذين من قبلكم) * وفيه قولان: أحدهما: أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله لنا من النساء في الآيات المتقدمة، فقد كان الحكم أيضا كذلك في جميع الشرائع والملل، والثاني: أنه ليس المراد ذلك، بل المراد أنه تعالى يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان مالكم فيه من المصلحة كما بينه لهم، فان الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها، إلا أنها متفقة في باب المصالح، وفيه قول ثالث: وهو أن المعنى: أنه يهديكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق لتجتنبوا الباطل وتتبعوا الحق.
ثم قال تعالى: * (ويتوب عليكم) * قال القاضي: معناه أنه تعالى كما أراد منا نفس الطاعة، فلا جرم بينها وأزال الشبهة عنها، كذلك وقع التقصير والتفريط منا، فيريد أن يتوب علينا، لأن المكلف قد يطيع فيستحق الثواب، وقد يعصي فيحتاج إلى التلافي بالتوبة.
واعلم أن في الآية إشكالا: وهو أن الحق إما أن يكون ما يقول أهل السنة من أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، وإما أن يكون الحق ما تقوله المعتزلة من أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى، والآية مشكلة على كلا القولين. أما على القول الأول: فلأن على هذا القول كل ما يريده الله تعالى فإنه يحصل، فإذا أراد أن يتوب علينا وجب أن يحصل التوبة لكلنا، ومعلوم أنه ليس كذلك، وأما على القول الثاني: فهو تعالى يريد منا أن نتوب باختيارنا وفعلنا، وقوله: * (ويتوب عليكم) * ظاهره مشعر بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا ويحصل لنا هذه التوبة، فهذه الآية مشكلة على كلا القولين.
66

والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27)
والجواب أن نقول: إن قوله: * (ويتوب عليكم) * صريح في أنه تعالى هو الذي يفعل التوبة فينا. والعقل أيضا مؤكد له، لأن التوبة عبارة عن الندم في الماضي، والعزم على عدم العود في المستقبل، والندم والعزم من باب الإرادات، والإرادة لا يمكن إرادتها، وإلا لزم التسلسل، فاذن الإرادة يمتنع أن تكون فعل الانسان، فعلمنا أن هذا الندم وهذا العزم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى، فصار هذا البرهان العقلي دالا على صحة ما أشعر به ظاهر القرآن وهو أنه تعالى هو الذي يتوب علينا فأما قوله: لو تاب علينا لحصلت هذه التوبة، فنقول: قوله: * (ويتوب عليكم) * خطاب مع الأمة، وقد تاب عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات، وحصلت هذه التوبة لهم فزال الاشكال والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (والله عليم حكيم) * أي عليم بأحوالكم، حكيم في كل ما يفعله بكم ويحكم عليكم.
* (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قيل: المجوس كانوا يحلون الأخوات وبنات الاخوة والأخوات، فلما حرمهن الله تعالى قالوا: إنكم تحلون بنت الخالة والعمة، والخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا أيضا بنات الأخ والأخت، فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: قوله: * (والله يريد أن يتوب عليكم) * يدل على أنه تعالى يريد التوبة من الكل، والطاعة من الكل. قال أصحابنا: هذا محالا لأنه تعالى علم من الفاسق أنه لا يتوب وعلمه بأنه لا يتوب مع توبته ضدان، وذلك العلم ممتنع الزوال، ومع وجوب أحد الضدين كانت إرادة الضد الآخر إرادة لما علم كونه محالا، وذلك محال، وأيضا إذا كان هو تعالى يريد التوبة من الكل ويريد الشيطان أن تميلوا ميلا عظيما، ثم يحصل مراد الشيطان لا مراد الرحمن، فحينئذ نفاذ الشيطان في ملك الرحمن أتم من نفاذ الرحمن في ملك نفسه وذلك محال، فثبت أن قوله: * (والله يريد أن يتوب عليكم) * خطاب مع قوم معينين حصلت هذه التوبة لهم.
67

* (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) *. (28)
ثم قال (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا)
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في التخفيف قولان: الأول: المراد منه إباحة نكاح الأمة عند الضرورة وهو قول مجاهد ومقاتل، والباقون قالوا: هذا عام في كل أحكام الشرع، وفي جميع ما يسره لنا وسهله علينا، إحسانا منه إلينا، ولم يثقل التكليف علينا كما ثقل على بني إسرائيل، ونظيره قوله تعالى: * (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) * (الأعراف: 157) وقوله: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) وقوله: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وقوله عليه الصلاة والسلام: " جئتكم بالحنيفية السهلة السمحة ".
المسألة الثانية: قال القاضي: هذا يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى، إذ لو كان كذلك فالكافرين يخلق فيه الكفر، ثم يقول له: لا تكفر، فهذا أعظم وجوه التثقيل، ولا يخلق فيه الايمان، ولا قدرة للعبد على خلق الايمان. ثم يقول له: آمن، وهذا أعظم وجوه التثقيل. قال: ويدل أيضا على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع، لأنه أعظم وجوه التثقيل.
والجواب: أنه معارض بالعلم والداعي، وأكثر ما ذكرناه.
ثم قال: * (وخلق الانسان ضعيفا) * والمعنى أنه تعالى لضعف الانسان خفف تكليفه ولم يثقل والأقرب أنه يحمل الضعف في هذا الموضع لا على ضعف الخلقة، بل يحمل على كثرة الدواعي إلى اتباع الشهوة واللذة، فيصير ذلك كالوجه في أن يضعف عن احتمال خلافه. وإنما قلنا: ان هذا الوجه أولى، لأن الضعف في الخلقة والقوة لو قوى الله داعيته إلى الطاعة كان في حكم القوي والقوي في الخلقة والآلة إذا كان ضعيف الدواعي إلى الطاعة صار في حكم الضعيف، فالتأثير في هذا الباب لضعف الداعية وقوتها، لا لضعف البدن وقوته، هذا كله كلام القاضي، وهو كلام حسن، ولكنه يهدم أصله، وذلك لما سلم أن المؤثر في وجود الفعل وعدمه، قوة الداعية وضعفها فلو تأمل لعلم أن قوة الداعية وضعفها لا بد له من سبب، فان كان ذلك لداعية أخرى من العبد لزم التسلسل، وإن كان الكل من الله، فذاك هو الحق الذي لا محيد عنه، وبطل القول بالاعتزال بالكلية والله أعلم.
المسألة الثالثة: روي عن ابن عباس أنه قال: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت: * (يريد الله ليبين لكم) * (النساء: 26) * (والله يريد أن يتوب عليكم) * (النساء: 27) * (يريد الله أن يخفف عنكم) * * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * (النساء: 31) * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * (النساء: 116) * (إن الله لا يظلم مثقال
68

يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم
إن الله كان بكم رحيما (29) ومن يعمل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30)
ذرة) * (النساء: 40) * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه) * (النساء: 110) * (ما يفعل الله بعذابكم) * (آل عمران: 147).
ويقول محمد الرازي مصنف هذا الكتاب ختم الله له بالحسنى: اللهم اجعلنا بفضلك ورحمتك أهلا لها يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
النوع الثامن: من التكاليف المذكورة في هذه السورة.
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما * ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا) *.
اعلم أن في كيفية النظم وجهين: الأول: أنه تعالى لما شرح كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر بعده كيفية التصرف في الأموال. والثاني: قال القاضي: لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهور والنفقات، بين من بعد كيف التصرف في الأموال فقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى خص الأكل ههنا بالذكر وإن كانت سائر التصرفات الواقعة على الوجه الباطل محرمة، لما أن المقصود الأعظم من الأموال: الأكل، ونظيره قوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * (النساء: 10).
المسألة الثانية: ذكروا في تفسير الباطل وجهين: الأول: أنه اسم لكل ما لا يحل في الشرع، كالربا والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة وجحد الحق. وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه يقتضي كونها مجملة، لأنه يصير تقدير الآية: لا تأكلوا أموالكم التي جعلتموها بينكم بطريق غير مشروع، فان الطرق المشروعة لما لم تكن مذكورة ههنا على التفصيل صارت الآية مجملة لا محالة. والثاني: ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهم: أن الباطل هو كل
69

ما يؤخذ من الانسان بغير عوض، وبهذا التقدير لا تكون الآية مجملة، لكن قال بعضهم: إنها منسوخة، قالوا: لما نزلت هذه الآية تحرج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئا، وشق ذلك على الخلق، فنسخه الله تعالى بقوله في سورة النور: * (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) * (النور: 61) الآية. وأيضا: ظاهر الآية إذا فسرنا الباطل بما ذكرناه، تحرم الصدقات والهبات، ويمكن أن يقال: هذا ليس بنسخ وإنما هو تخصيص، ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود أنه قال: هذه الآية محكمة ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * يدخل تحته أكل مال الغير بالباطل، وأكل مال نفسه بالباطل؛ لأن قوله: * (أموالكم) * يدخل فيه القسمان معا، كقوله: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه بالباطل. أما أكل مال نفسه بالباطل. فهو إنفاقه في معاصي الله، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه.
ثم قال: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي: * (تجارة) * بالنصب، والباقون بالرفع. أما من نصب فعلى " كان " الناقصة، والتقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، وأما من رفع فعلى " كان " التامة، والتقدير: إلا أن توجد وتحصل تجارة. وقال الواحدي: والاختيار الرفع، لأن من نصب أضمر التجارة فقال: تقديره إلا أن تكون
التجارة تجارة، والاضمار قبل الذكر ليس بقوى وإن كان جائزا.
المسألة الثانية: قوله: * (إلا) * فيه وجهان: الأول: أنه استثناء منقطع، لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل، فكان " إلا " ههنا بمعنى " بل " والمعنى: لكل يحل أكله بالتجارة عن تراض. الثاني: ان من الناس من قال: الاستثناء متصل وأضمر شيئا، فقال التقدير: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وإن تراضيتم كالربا وغيره، إلا أن تكون تجارة عن تراض.
واعلم أنه كما يحل المستفاد من التجارة، فقد يحل أيضا المال المستفاد من الهبة والوصية والإرث وأخذ الصدقات والمهر وأروش الجنايات، فان أسباب الملك كثيرة سوى التجارة.
فان قلنا: إن الاستثناء منقطع فلا إشكال، فإنه تعالى ذكر ههنا سببا واحد، من أسباب الملك ولم يذكر سائرها، لا بالنفي ولا باثبات.
وإن قلنا: الاستثناء متصل كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل، وعند هذا لا بد إما من النسخ أو التخصيص.
70

المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمة الله عليه: النهي في المعاملات يدل على البطلان، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يدل عليه، واحتج الشافعي على صحة قوله بوجوه: الأول: أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الانسان وكيلا في بعض التصرفات، ثم إن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول الموكل فذاك غير منعقد بالاجماع، فإذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد فبأن يكون التصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد كان أولى. وثانيها: أن هذه التصرفات الفاسدة إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود، وإما أن لا تكون فان كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات الفاسدة. والجامع السعي في أن لا يدخل منشأ النهي في الوجود، وإن كان الثاني وجب القول بصحتها، قياسا على التصرفات الصحيحة، والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسد، فثبت أنه لا بد من وقوع التصرف على هذين الوجهين. فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ولا باطلا فهو محال، وثالثها: أن قوله: لا تبيعوا الدرهم بدرهمين، كقوله: لا تبيعوا الحر بالعبد، فكما أن هذا النهي باللفظ لكنه نسخ للشريعة فكذا الأول، وإذا كان ذلك نسخا للشريعة بطل كونه مفيدا للحكم والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال أبو حنيفة رحمة الله عليه، خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة، وقال الشافعي رحمة الله عليه: ثابت، احتج أبو حنيفة بالنصوص: أولها: هذه الآية، فان قوله: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * ظاهره يقتضي الحل عند حصول التراضي، سواء حصل التفرق أو لم يحصل. وثانيها: قوله: * (أوفوا بالعقود) * فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد عن نفسه. وثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " وقد حصلت الطيبة ههنا بعقد البيع، فوجب أن يحصل الحل. ورابعها: قوله عليه الصلاة والسلام: " من ابتاع طعاما لا يبعه حتى يقبضه " جوز بيعه بعد القبض، وخامسها: ما روي أنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصيعان، وأباح بيعه إذا جرى فيه الصيعان، ولم يشترط فيه الافتراق. وسادسها: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه " واتفقوا على أنه كما اشترى حصل العتق، وذلك يدل على أنه يحصل الملك بمجرد العقد.
واعلم أن الشافعي يسلم عموم هذه النصوص، لكنه يقول: أنتم أثبتم خيار الرؤية في شراء ما لم يره المشتري بحديث اتفق المحدثون على ضعفه، فنحن أيضا نثبت خيار المجلس بحديث اتفق علماء
الحديث على قبوله، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا " وتأويلات أصحاب
71

أبي حنيفة لهذا الخبر وأجوبتها مذكورة في الخلافيات والله أعلم.
قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) * اتفقوا على أن هذا نهي عن أن يقتل بعضهم بعضا وإنما قال: * (أنفسكم) * لقوله عليه السلام: " المؤمنون كنفس واحدة " ولأن العرب يقولون: قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم لأن قتل بعضهم يجري مجرى قتلهم. واختلفوا في أن هذا الخطاب هل هو نهي لهم عن قتلهم أنفسهم؟ فأنكره بعضهم وقال: إن المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه، لأنه ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه، وذلك لأن الصارف عنه في الدنيا قائم، وهو الألم الشديد والذم العظيم، والصارف عنه أيضا في الآخرة قائم، وهو استحقاق العذاب العظيم، وإذا كان الصارف خالصا امتنع منه أن يفعل ذلك وإذا كان كذلك لم يكن للنهي عنه فائدة، وإنما يمكن أن يذكر هذا النهي فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند، وذلك لا يتأتى من المؤمن، ويمكن أن يجاب عنه بأن المؤمن مع كونه مؤمنا بالله واليوم الآخر، قد يلحقه من الغم والأذية ما يكون القتل عليه أسهل من ذلك، ولذلك نرى كثيرا من المسلمين قد يقتلون أنفسهم بمثل السبب الذي ذكرناه، وإذا كان كذلك كان في النهي عنه فائدة، وأيضا ففيه احتمال آخر، كأنه قيل: لا تفعلوا ما تستحقون به القتل: من القتل والردة والزنا بعد الاحصان، ثم بين تعالى أنه رحيم بعباده ولأجل رحمته نهاهم عن كل ما يستوجبون به مشقة أو محنة، وقيل: إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما، حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.
ثم قال: * (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا) *.
واعلم أن فيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن قوله: * (ومن يفعل ذلك) * إلى ماذا يعود؟ على وجوه: الأول: قال عطاء: إنه خاص في قتل النفس المحرمة، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات. الثاني: قال الزجاج: إنه عائد إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية واحدة. والثالث: قال ابن عباس: إنه عائد إلى
كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هذا الموضع.
المسألة الثانية: إنما قال: * (ومن يفعل ذلك عدوانا) * لأن في جملة ما تقدم قتل البعض للبعض، وقد يكون ذلك حقا كالقود، وفي جملة ما تقدم أخذ المال، وقد يكون ذلك حقا كما في الدية وغيرها، فلهذا السبب شرطه تعالى في ذلك الوعيد.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على القطع بوعيد أهل الصلاة. قالوا:
72

وقوله: * (فسوف نصليه نارا) * وان كان لا يدل على التخليد إلا أن كل من قطع بوعيد الفساق قال: بتخليدهم، فيلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر، لأنه لا قائل بالفرق. والجواب عنه بالاستقصاء قد تقدم في مواضع، إلا أن الذي نقوله ههنا: ان هذا مختص بالكفار، لأنه قال: * (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما) * ولا بد من الفرق بين العدوان وبين الظلم دفعا للتكرير، فيحمل الظلم على ما إذا كان قصده التعدي على تكاليف الله، ولا شك أن من كان كذلك كان كافرا لا يقال: أليس أنه وصفهم بالايمان فقال: * (يا أيها الذين آمنوا) * فكيف يمكن أن يقال: المراد بهم الكفار؟ لأنا نقول: مذهبكم أن من دخل تحت هذا الوعيد لا يكون مؤمنا البتة، فلا بد على هذا المذهب أن تقولوا: أنهم كانوا مؤمنين، ثم لما أتوا بهذه الأفعال ما بقوا على وصف الايمان، فإذا كان لا بد لكم من القول بهذا الكلام. فلم لا يصح هذا الكلام منا أيضا في تقرير ما قلناه؟ والله أعلم.
ثم أنه تعالى ختم الآية فقال: * (وكان ذلك على الله يسيرا) *. واعلم أن جميع الممكنات بالنسبة إلى قدرة الله على السوية، وحينئذ يمتنع أن يقال: ان بعض الأفعال أيسر عليه من بعض، بل هذا الخطاب نزل على القول المتعارف فيما بيننا كقوله تعالى: * (وهو أهون عليه) * أو يكون معناه المبالغة في التهديد، وهو أن أحدا لا يقدر على الهرب منه ولا على الامتناع عليه.
* (إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) *.
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: من الناس من قال: جميع الذنوب والمعاصي كبائر. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله، فان الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الاسلام، أو جاحدا فريضة، أو مكذبا بقدر. واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه:
الحجة الأولى: هذه الآية، فان الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر.
73

الحجة الثانية: قوله تعالى: * (وكل صغير وكبير مستطر) * (القمر: 53) وقوله: * (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * (الكهف: 49).
الحجة الثالثة: ان الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر، كقوله: * (الكبائر: الاشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين وقتل النفس) * وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: * (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) * (الحجرات: 7) وهذا صريح في أن المنهيات أقسام ثلاثة: أولها: الكفر، وثانيها: الفسوق. وثالثها: العصيان، فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف، وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر، فالكبائر هي الفسوق، والصغائر هي العصيان. واحتج ابن عباس بوجهين: أحدهما: كثرة نعم من عصى. والثاني: إجلال من عصى، فان اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية، كما قال: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (النحل: 18) وان اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها، وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر، فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة. والجواب من وجهين: الأول: كما أنه تعالى أجل الموجودات وأشرفها، فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين، وكل ذلك يوجب خفة الذنب. الثاني: هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب، ولكن بعضها أكبر من بعض، وذلك يوجب التفاوت. إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر، فالقائلون بذلك فريقان: منهم من قال: الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها، ومنهم من قال: هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها، بل بحسب حال فاعليها، ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين.
أما القول الأول: فالذاهبون إليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديدا، ونحن نشير إلى بعضها، فالأول: قال ابن عباس: كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة، نحو قتل النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف. الثاني: قال ابن مسعود: افتتحوا سورة النساء، فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة، ثم قال: مصداق ذلك: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * (النساء: 31) الثالث: قال قوم: كل عمد فهو كبيرة. واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة.
أما الأول: فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل،
74

فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه.
وأما الثاني: فهو أيضا ضعيف، لأن الله تعالى ذكر كثيرا من الكبائر في سائر السور، ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة.
وأما الثالث: فضعيف أيضا، لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله، فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه، فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه، وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية، فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم لا يعلمون أنه معصية، وهو مع ذلك كفر كبير، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة. وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال: فهذا كله قول
من قال: الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها.
وأما القول الثاني: وهو قول من يقول: الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها، فهؤلاء الذين يقولون: إن لكل طاعة قدرا من الثواب، ولكل معصية قدرا من العقاب، فإذا أتى الانسان بطاعة واستحق بها ثوابا، ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا، فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتعادلا ويتساويا، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد، لأنه تعالى قال: * (فريق في الجنة وفريق في السعير) * (الشورى: 7) ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير.
والقسم الثاني: أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته، وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب، ويفضل من الثواب شيء، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة، وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير.
والقسم الثالث: أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب، ويفضل من العقاب شيء، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة، وهذا الانحباط هو المسمى بالاحباط، وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة. وهذا قول جمهور المعتزلة.
واعلم أن هذا الكلام مبني على ول كلها باطلة عندنا. أولها: أن هذا مبنى على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا، وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن
75

صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا إذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل، ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب، وكون المعصية موجبة للعقاب، وثانيها: أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك، إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة، فان ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر، فان أصروا وقالوا: بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقط أبطلوا على أنفسهم أصلهم، فإنهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين، ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم، فان دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد، وثالثها: أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد، وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات، فكان أداء الطاعات أدار لما وجب بسبب النعم السابقة، ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئا آخر، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا، وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فان عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها، فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر، وذلك أيضا باطل. ورابعها: أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط، وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة، فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة إليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق.
المسألة الثانية: اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا؟ فالأكثرون قالوا: إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر، لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر، فإذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة، عرف أنه متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراءا له بالاقدام على تلك الصغائر، والاغراء بالقبيح لا يليق بالجملة، أما إذا لم يميز الله تعالى كل الكبائر عن كل الصغائر، ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة، ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه كبيرة فيكون ذلك زاجرا له عن الاقدام عليه. قالوا: ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، ووقت الموت في جميع الأوقات. والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة، وأن لا يبين أن الكبائر ليست
76

إلا كذا وكذا، فإنه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة، فحينئذ تصير الصغيرة معلومة، ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما تعدون الكبائر " فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: " الاشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات " وعن عبد الله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها: استحلال آمين البيت الحرام، وشرب الخمر، وعن ابن مسعود أنه زاد فيها: القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله. وذكر عن ابن عباس أنها سبعة، ثم قال: هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب والله أعلم.
المسألة الثالثة: احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر فقال: قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد، لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر، بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته، وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر، ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام.
وأجاب أصحابنا من وجوه: الأول: انكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث إنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيئات، وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها، لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل. لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل، وعندنا انه دلالة ظنية ضعيفة، وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة " إن " على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء، وهذا أيضا ضعيف، ويدل عليه آيات: إحداها: قوله: * (واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون) * (البقرة: 172) فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد. وثانيها: قوله تعالى: * (فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * (البقرة: 283) وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك. وثالثها: * (فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * (البقرة: 282) والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل
الرجلان أو لم يحصلا. ورابعها: * (ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) * والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده. وخامسها: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) * (النور: 33) والاكراه على البغاء محرم، سواء أردن التحصن أو لم يردن. وسادسها: * (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3) والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل، وسابعها: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) * والقصر جائز، سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها: * (فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) * والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضا حق الثنتين، وتاسعها: قوله: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله) * (النساء: 35) وذلك جائز سواء حصل
77

الخوف أو لم يحصل. وعاشرها: قوله: * (إن يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما) * (النساء: 35) وقد يحصل التوفيق بدون إرادتيهما، والحادي عشر: قوله: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) * (النساء: 130) وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق، وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة، فثبت أن المعلق بكلمة " إن " على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء، والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكلمة " إن " على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء، ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية، وذلك يدل على أن حب الانسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي.
الوجه الثاني من الجواب: قال أبو مسلم الأصفهاني: إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات، وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك، فقال تعالى: إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا. وإذا كان هذا الوجه محتملا، لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة. وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين: الأول: أن قوله: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * عام، فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز. الثاني: أن قوله: إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد؛ لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين: إما أن يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم، فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر، أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم، فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات؟ هذا لفظ القاضي في تفسيره.
والجواب عن الأول: أنا لا ندعي القطع بأن قوله: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * محمول على ما تقدم ذكره، لكنا نقول: إنه محتمل، ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه. وعن الثاني: أن قولك: من أين أن اجتناب هذا الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات؟ سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم، وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال، وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال والله أعلم.
الوجه الثالث: من الجواب عن هذا الاستدلال: هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول: إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته، وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد، وعمومات الوعيد ليست قليلة، فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية، فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب، وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي: إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه.
الوجه الرابع: أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا، بالنسبة إلى شيء، ويكون
78

ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما (32)
صغيرا بالنسبة إلى شيء آخر، وكذا القول في الصغائر، إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الاطلاق هو الكفر، وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * الكفر؟ وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة: منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه، فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا، وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) وإذا كان هذا محتملا، بل ظاهرا سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر، وعندنا أنه لا يجب عليه شيء، بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان، وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة.
ثم قال تعالى: * (وندخلكم مدخلا كريما) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ المفضل عن عاصم * (يكفر ويدخلكم) * بالياء في الحرفين على ضمير الغائب، والباقون بالنون على استئناف الوعد، وقرأ نافع * (مدخلا) * بفتح الميم وفي الحج مثله، والباقون بالضم، ولم يختلفوا في * (مدخل صدق) * بالضم، فبالفتح المراد موضع الدخول، وبالضم المراد المصدر وهو الادخال، أي: ويدخلكم إدخالا كريما، وصف الادخال بالكرم بمعنى أن ذلك الادخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم: * (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم) * (الفرقان: 34)
المسألة الثانية: أن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة، بل لا بد معه من الطاعات، فالتقدير: ان أتيتم بجميع الواجبات، واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة، فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة. ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب، بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي، وهو فضل الله وكرمه ورحمته، كما قال: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) * (يونس: 58) والله أعلم.
* (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما كتسبوا وللنسآء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شىء عليما) *.
79

اعلم أن في النظم وجهين: الأول: قال القفال رحمه الله: انه تعالى لما نهاهم في الآية المتقدمة عن أكل الأموال بالباطل، وعن قتل النفس، أمرهم في هذه الآية بما
سهل عليهم ترك هذه المنهيات، وهو أن يرضى كل أحد بما قسم الله له، فإنه إذا لم يرض بذلك وقع في الحسد، وإذا وقع في الحسد وقع لا محالة في أخذ الأموال بالباطل وفي قتل النفوس، فإما إذا رضي بما قدر الله أمكنه الاحتراز عن الظلم في النفوس وفي الأموال.
الوجه الثاني: في كيفية النظم: هو أن أخذ المال بالباطل وقتل النفس، من أعمال الجوارح فأمر أولا بتركهما ليصير الظاهر طاهرا عن الأفعال القبيحة، وهو الشريعة. ثم أمر بعده بترك التعرض لنفوس الناس وأموالهم بالقلب على سبيل الحسد، ليصير الباطن طاهرا عن الأخلاق الذميمة، وذلك هو الطريقة. ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: التمني عندنا عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون، ولهذا قلنا: انه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن لكان متمنيا. وقالت المعتزلة: النهي عن قول القائل: ليته وجد كذا، أو ليته لم يوجد كذا، وهذا بعيد لأن مجرد اللفظ إذا لم يكن له معنى لا يكون تمنيا، بل لا بد وأن يبحث عن معنى هذا اللفظ، ولا معنى له إلا ما ذكرناه من إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون.
المسألة الثانية: اعلم أن مراتب السعادات إما نفسانية، أو بدنية، أو خارجية.
أما السعادات النفسانية فنوعان: أحدهما: ما يتعلق بالقوة النظرية، وهو: الذكاء التام والحدس الكامل، والمعارف الزائدة على معارف الغير بالكمية والكيفية. وثانيهما: ما يتعلق بالقوة العملية، وهي: العفة التي هي وسط بين الخمود والفجور، والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن، واستعمال الحكمة العملية الذي هو توسط بين البله والجربزة، ومجموع هذه الأحوال هو العدالة.
وأما السعادات البدنية: فالصحة والجمال، والعمر الطويل في ذلك مع اللذة والبهجة.
وأما السعادات الخارجية: فهي كثرة الأولاد الصلحاء، وكثرة العشائر، وكثرة الأصدقاء والأعوان، والرياسة التامة، ونفاذ القول، وكونه محبوبا للخلق حسن الذكر فيهم، مطاع الأمر فيهم، فهذا هو الإشارة إلى مجامع السعادات، وبعضها فطرية لا سبيل للكسب فيه، وبعضها كسبية، وهذا الذي يكون كسبيا متى تأمل العاقل فيه يجده أيضا محض عطاء الله، فإنه لا ترجيح للدواعي وإزالة العوائق وتحصيل الموجبات، وإلا فيكون سبب السعي والجد مشتركا فيه، ويكون الفوز
80

بالسعادة والوصول إلى المطلوب غير مشترك فيه، فهذا هو أقسام السعادات التي يفضل الله بعضهم على بعض فيها.
المسألة الثانية: أن الانسان إذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لانسان، ووجد نفسه خاليا عن جملتها أو عن أكثرها، فحينئذ يتألم قلبه ويتشوش خاطره، ثم يعرض ههنا حالتان: إحداهما: أن يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان، والأخرى: أن لا يتمنى ذلك، بل يتمنى حصول مثلها له. أما الأول فهو الحسد المذموم، لأن المقصود الأول لمدبر العالم وخالقه: الاحسان إلى عبيده والجود إليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم، فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله تعالى فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين، وأيضا ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الانسان فيكون هذا اعتراضا على الله وقدحا في حكمته، وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة، ويزيل عن قلبه نور الايمان، وكما أن الحسد سبب للفساد في الدين، فكذلك هو السبب للفساد في الدنيا، فإنه يقطع المودة والمحبة والموالاة، ويقلب كل ذلك إلى أضدادها، فلهذا السبب نهى الله عباده عنه فقال: * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) *.
واعلم أن سبب المنع من هذا الحسد يختلف باختلاف أصول الأديان، أما على مذهب أهل السنة والجماعة، فهو أنه تعالى فعال لما يريد: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * (الأنبياء: 23) فلا اعتراض عليه في فعله. ولا مجال لأحد في منازعته، وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه، وإذا كان كذلك فقد صارت أبواب القيل والقال مسدودة، وطرق الاعتراضات مردودة. وأما على مذهب المعتزلة فهذا الطريق أيضا مسدود، لأنه سبحانه علام الغيوب فهو أعرف من خلقه بوجوه المصالح ودقائق الحكم، ولهذا المعنى قال: * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) * (الشورى: 27) وعلى التقديرين فلا بد لكل عاقل من الرضا بقضاء الله سبحانه، ولهذا المعنى حكى الرسول صلى الله عليه وسلم عن رب العزة أنه قال: " من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر لنعمائي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر لنعمائي فليطلب ربا سواي " فهذا هو الكلام فيما إذا تمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الانسان، ومما يؤكد ذلك ما روى ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتقوم مقامها فان الله هو رازقها " والمقصود من كل ذلك المبالغة في المنع من الحسد. أما إذا لم يتمن ذلك بل تمنى حصول مثلها له فمن الناس من جوز ذلك إلا أن المحققين قالوا: هذا أيضا لا يجوز، لأن تلك النعمة
81

ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة عليه في الدنيا، فلهذا السبب قال المحققون: إنه لا يجوز للانسان أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان، وزوجة مثل زوجة فلان، بل ينبغي أن يقول: اللهم أعطني ما يكون صلاحا في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي. وإذا تأمل الانسان كثيرا لم يجد دعاء أحسن مما ذكر الله في القرآن تعليما لعباده وهو قوله: * (آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) * (البقرة: 201) وروى قتادة عن الحسن أنه قال: لا يتمن أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال، كما في حق ثعلبة وهذا هو المراد بقوله في هذه الآية: * (واسألوا الله من فضله) *.
المسألة الرابعة: ذكروا في سبب النزول وجوها: الأول: قال مجاهد قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، ولهم من الميراث ضعف ما لنا، فليتنا كنا رجالا فنزلت الآية، الثاني: قال السدي: لما نزلت آية المواريث قال الرجال: نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث وقال النساء: نرجو أن يكون الوزر علينا علينا نصف ما على الرجال كما في الميراث فنزلت الآية: الثالث: لما جعل الله الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء: نحن أحوج لأنا ضعفاء، وهم أقدر على طلب المعاش فنزلت الآية. الرابع: أتت واحدة من النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: رب الرجال والنساء واحد، وأنت الرسول إلينا
واليهم، وأبونا آدم وأمنا حواء. فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا، فنزلت الآية. فقالت: وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إن للحامل منكن أجر الصائم القائم فإذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر، فإذا أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس ".
ثم قال تعالى: * (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) *.
واعلم أنه يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما يتعلق بأحوال الدنيا، وأن يكون ما يتعلق بأحوال الآخرة، وأن يكون ما يتعلق بهما.
أما الاحتمال الأول: ففيه وجوه: الأول: أن يكون المراد لكل فريق نصيب مما اكتسب من نعيم الدنيا، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له. الثاني: كل نصيب مقدر من الميراث على ما حكم الله به فوجب أن يرضى به، وأن يترك الاعتراض، والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة والاحراز. الثالث: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان، فأبطل الله ذلك بهذه الآية، وبين أن لكل واحد منهم نصيبا، ذكرا كان أو أنثى، صغيرا كان أو كبيرا.
وأما الاحتمال الثاني: وهو أن يكون المراد بهذه الآية: ما يتعلق بأحوال الآخرة ففيه وجوه: الأول: المراد لكل أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه، فلا تتمنوا خلاف
82

ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على
كل شئ شهيدا (23)
ذلك. الثاني: لكل أحد جزاء مما اكتسب من الطاعات، فلا ينبغي أن يضيعه بسبب الحسد المذموم وتقديره: لا تضيع مالك وتتمن ما لغيرك. الثالث: للرجال نصيب مما اكتسبوا سبب قيامهم بالنفقة على النساء، وللنساء نصيب مما اكتسبن، يريد حفظ فروجهن وطاعة أزواجهن، وقيامها بمصالح البيت من الطبخ والخبز وحفظ الثياب ومصالح المعاش، فالنصيب على هذا التقدير هو الثواب.
وأما الاحتمال الثالث: فهو أن يكون المراد من الآية: كل هذه الوجوه: لأن هذا اللفظ محتمل، ولا منافاة.
ثم قال تعالى: * (واسألوا الله من فضله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير والكسائي: * (وسلوا الله من فضله) * بغير همز، بشرط أن يكون أمرا من السؤال، وبشرط أن يكون قبله واو أو فاء، والباقون بالهمز في كل القرآن.
أما الأول: فنقل حركة الهمزة إلى السين، واستغنى عن ألف الوصل فحذفها.
وأما الثاني: فعلى الأصل. واتفقوا في قوله: * (وليسألوا) * أنه بالهمزة، لأنه أمر لغائب.
المسألة الثانية: قال أبو علي الفارسي: قوله: * (من فضله) * في موضع المفعول الثاني في قول أبي الحسن ويكون المفعول الثاني محذوفا في قياس قول سيبويه، والصفة قائمة مقامه، كأنه قيل: واسألوا الله نعمته من فضله.
المسألة الثالثة: قوله: * (واسألوا الله من فضله) * تنبيه على أن الانسان لا يجوز له أن يعين شيئا في الطلب والدعاء، ولكن يطلب من فضل الله ما يكون سببا لصلاحه في دينه ودنياه على سبيل الاطلاق.
ثم قال: * (إن الله كان بكل شيء عليما) * والمعنى أنه تعالى هو العالم بما يكون صالحا للسائلين، فليقتصر السائل على المجمل، وليحترز في دعائه عن التعيين، فربما كان ذلك محض المفسدة والضرر والله أعلم.
قوله تعالى (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا)
83

في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه يمكن تفسير الآية بحيث يكون الوالدان والأقربون وراثا، ويمكن أيضا بحيث يكونان موروثا عنهما.
أما الأول: فهو أن قوله: * (ولكل جعلنا موالى مما ترك) * أي: ولكل واحد جعلنا ورثة في تركته، ثم كأنه قيل: ومن هؤلاء الورثة؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون، وعلى هذا الوجه لا بد من الوقف عند قوله: * (مما ترك) *.
وأما الثاني: ففيه وجهان: الأول: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالى، أي: ورثة و * (جعلنا) * في هذين الوجهين لا يتعدى إلى مفعولين، لأن معنى * (جعلنا) * خلقنا. الثاني: أن يكون التقدير: ولكل قوم جعلناهم موالى نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، فقوله: * (موالى) * على هذا القول يكون صفة، والموصوف يكون محذوفا، والراجع إلى قوله: * (ولكل) * محذوفا، والخبر وهو قوله: * (نصيب) * محذوف أيضا، وعلى هذا التقدير يكون * (جعلنا) * معتديا إلى مفعولين، والوجهان الأولان أولى، لكثرة الاضمار في هذا الوجه.
المسألة الثانية: لفظ مشترك بين معان: أحدها: المعتق، لأنه ولى نعمته في عتقه، ولذلك يسمى مولى النعمة. وثانيها: العبد المعتق، لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه، وهذا كما يسمى الطالب غريما، لأن له اللزوم والمطالبة بحقه، ويسمى المطلوب غريما لكون الدين لازما له. وثالثها: الحليف لأن المحالف يلي أمره بعقد اليمين. ورابعها: ابن العم، لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما. وخامسها: المولى الولي لأنه يليه بالنصرة قال تعالى: * (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) * (محمد: 11) وسادسها: العصبة، وهو المراد به في هذه الآية لأنه لا يليق بهذه الآية إلا هذا المعنى، ويؤكده ما روى أبو صالح عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة ومن ترك كلا فأنا وليه " وقال عليه الصلاة والسلام: " اقسموا هذا المال فما أبقت السهام فلأولي عصبة ذكر ".
ثم قال تعالى: * (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي: عقدت بغير ألف وبالتخفيف، والباقون بالألف والتخفيف، وعقدت: أضافت العقد إلى واحد، والاختيار: عاقدت، لدلالة المفاعلة على عقد الحلف من الفريقين.
84

المسألة الثانية: الأيمان. جمع يمين، واليمين يحتمل أن يكون معناه اليد، وأن يكون معناه القسم، فان كان المراد اليد ففيه مجاز من ثلاثة أوجه: أحدها: أن المعاقدة مسندة في ظاهر اللفظ إلى الأيدي، وهي في الحقيقة مسندة إلى الحالفين، والسبب في هذا المجاز أنهم كانوا يضربون صفقة البيع بأيمانهم، ويأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد.
والوجه الثاني: في المجاز: وهو أن التقدير: والذين عاقدت بحلفهم أيمانكم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وحسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه. الثالث: أن التقدير: والذين عاقدتهم، إلا أنه حذف الذكر العائد من الصلة إلى الموصول، هذا كله إذا فسرنا اليمين باليد. أما عاقدتهم، إلا أنه حذف الذكر العائد من الصلة إلى الموصول، هذا كله إذا فسرنا اليمين باليد. أما إذا فسرناها بالقسم والحلف كانت المعاقدة في ظاهر اللفظ مضافة إلى القسم، وإنما حسن ذلك لأن سبب المعاقدة لما كان هو اليمين حسنت هذه الإضافة، والقول في بقية المجازات كما تقدم.
المسألة الثالثة: من الناس من قال: هذه الآية منسوخة، ومنهم من قال: إنها غير منسوخة أما القائلون بالنسخ فهم الذين فسروا الآية بأحد هذه الوجوه التي نذكرها: فالأول: هو أن المراد بالذين عاقدت أيمانكم: الحلفاء في الجاهلية، وذلك أن الرجل كان يعاقد غيره ويقول: دمي دمك وسلمي سلمك، وحربي حربك، وترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون لهذا الحليف السدس من الميراث، فنسخ ذلك بقوله تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * (الأنفال: 75) وبقوله: * (يوصيكم الله) * الثاني: أن الواحد منهم كان يتخذ إنسانا أجنبيا ابنا له، وهم المسمون بالأدعياء، وكانوا يتوارثون بذلك السبب ثم نسخ. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يثبت المؤاخاة بين كل رجلين من أصحابه، وكانت تلك المؤاخاة سببا للتوارث. واعلم أن على كل هذه الوجوه الثلاثة كانت المعاقدة سببا للتوارث بقوله: * (فآتوهم نصيبهم) * ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بالآيات التي تلوناها.
القول الثاني: قول من قال: الآية غير منسوخة، والقائلون بذلك ذكروا في تأويل الآية وجوها: الأول: تقدير الآية: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي ورثة فآتوهم نصيبهم، أي فآتوا الموالي والورثة نصيبهم، فقوله: * (والذين عقدت أيمانكم) * معطوف على قوله: * (الوالدان والأقربون) * والمعنى: ان ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به، وسمى الله تعالى الوارث مولى. والمعنى لا تدفعوا المال إلى الحليف، بل إلى المولى والوارث، وعلى هذا التقدير فلا نسخ في الآية، وهذا تأويل أبي علي الجبائي. الثاني: المراد بالذين عاقدت أيمانكم: الزوج والزوجة، والنكاح يسمى عقدا قال تعالى: * (ولا تعزموا
85

عقدة النكاح) * (البقرة: 235) فذكر تعالى الوالدين والأقربين، وذكر معهم الزوج والزوجة، ونظيره آية المواريث في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة، وعلى هذا فلا نسخ في الآية أيضا، وهو قول أبي مسلم الأصفهاني. الثالث: أن يكون المراد بقوله: * (والذين عاقدت أيمانكم) * الميراث الحاصل بسبب الولاء، وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا. الرابع: أن يكون المراد من * (الذين عقدت أيمانكم) * الحلفاء، والمراد بقوله: * (فآتوهم نصيبهم) * النصرة والنصيحة والمصافاة في العشرة، والمخالصة في المخالطة، فلا يكون المراد التوارث، وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا. الخامس: نقل أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي ابنه عبد الرحمن، وذلك أنه رضي الله عنه حلف أن لا ينفق عليه ولا يورثه شيئا من ماله، فلما أسلم عبد الرحمن أمره الله أن يؤتيه نصيبه، وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا. السادس: قال الأصم: إنه نصيب على سبيل التحفة والهدية بالشيء القليل، كما أمر تعالى لمن حضر القسمة أن يجعل له نصيب على ما تقدم ذكره، وكل هذه الوجوه حسنة محتملة والله أعلم بمراده.
المسألة الرابعة: القائلون بأن قوله: * (والذين عقدت أيمانكم) * مبتدأ، وخبره قوله: * (فآتوهم نصيبهم) * قالوا: إنما جاء خبره مع الفاء لتضمن " الذي " معنى الشرط فلا جرم وقع خبره مع الفاء وهو قوله: * (فآتوهم نصيبهم) * ويجوز أن يكون منصوبا على قولك: زيدا فاضربه.
المسألة الخامسة: قال جمهور الفقهاء: لا يرث المولى الأسفل من الأعلى. وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أنه قال: يرث، لما روى ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له، فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق، ولأنه داخل في قوله تعالى: * (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) *.
والجواب عن التمسك بالحديث: أنه لعل ذلك المال لما صار لبيت المال دفعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك الغلام لحاجته وفقره، لأنه كان مالا لا وارث له، فسبيله أن يصرف إلى الفقراء.
المسألة السادسة: قال الشافعي ومالك رضي الله عنهما: من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره، انه لا يرثه بل ميراثه للمسلمين. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يرثه حجة الشافعي: أنا بينا أن معنى هذه الآية ولكل شيء مما تركه الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم، فقد جعلنا له موالى وهم العصبة،
ثم هؤلاء العصبة إما الخاصة وهم الورثة، وإما العامة وهم جماعة المسلمين، فوجب صرف هذا المال إلى العصبة العامة ما لم توجد العصبة الخاصة، واحتج
86

أبو بكر الرازي لقوله بأن الآية توجب
الميراث للذي والاه وعاقده، ثم إنه تعالى نسخه بقوله: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * (الأنفال: 75) فهذا النسخ إنما يحصل إذا وجد أولو الأرحام فإذا لم يوجدوا لزم بقاء الحكم كما كان.
والجواب: أنا بينا أنه لا دلالة في الآية على أن الحليف يرث، بل بينا أن الآية دالة على أنه لا يرث، وبينا أن القول بهذا النسخ باطل.
ثم قال تعالى: * (إن الله كان على كل شيء شهيدا) * وهو كلمة وعد للمطيعين، وكلمة وعيد للعصاة والشهيد الشاهد والمشاهد، والمراد منه إما علمه تعالى بجميع الجزئيات والكليات، وإما شهادته على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه. وعلى التقدير الأول: الشهيد هو العالم، وعلى التقدير الثاني: هو المخبر.
قوله تعالى
* (الرجال قوامون على النسآء بما فضل الله بعضهم على بعض وبمآ أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا) *. (34)
اعلم أنه تعالى قال: * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) * (النساء: 32) وقد ذكرنا أن سبب نزول هذه الآية أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث، فذكر تعالى في هذه الآية أنه إنما فضل الرجال على النساء في الميراث، لأن الرجال قوامون على النساء، فإنهما وإن اشتركا في استمتاع كل واحد منهما بالآخر، أمر الله الرجال أن يدفعوا إليهن المهر، ويدروا عليهن النفقة فصارت الزيادة من أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر، فكأنه لا فضل البتة، فهذا هو بيان كيفية النظم. وفي الآية مسائل:
87

المسألة الأولى: القوام؛ اسم لمن يكون مبالغا في القيام بالأمر، يقال: هذا قيم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في بنت محمد بن سلمة وزوجها سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار، فإنه لطمها لطمة فنشزت عن فراشه وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وذكرت هذه الشكاية، وأنه لطمها وان أثر اللطمة باق في وجهها، فقال عليه الصلاة والسلام: " اقتصي منه ثم قال لها اصبري حتى أنظر " فنزلت هذه الآية: * (الرجال قوامون على النساء) * أي مسلطون على أدبهن والأخذ فوق أيديهن، فكأنه تعالى جعله أميرا عليها ونافذ الحكم في حقها، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير " ورفع القصاص، ثم انه تعالى لما أثبت للرجال سلطنة على النساء ونفاذ أمر عليهن بين أن ذلك معلل بأمرين، أحدهما: قوله تعالى: * (بما فضل الله بعضهم على بعض) * (النساء: 34).
واعلم أن فضل الرجل على النساء حاصل من وجوه كثيرة، بعضها صفات حقيقة، وبعضها أحكام شرعية، أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها إلى أمرين: إلى العلم، وإلى القدرة، ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر، ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة، والكتابة في الغالب والفروسية والرمي، وان منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق، وفي الأنكحة عند الشافعي رضي الله عنه، وزيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث، وفي تحمل الدية في القتل والخطأ، وفي القسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء.
والسبب الثاني: لحصول هذه الفضيلة: قوله تعالى: * (وبما أنفقوا من أموالهم) * يعني الرجل أفضل من المرأة لأنه يعطيها المهر وينفق عليها، ثم انه تعالى قسم النساء قسمين، فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": قرأ ابن مسعود * (فالصوالح قوانت حوافظ للغيب) *.
المسألة الثانية: قوله: * (قانتات حافظات للغيب) * فيه وجهان: الأول: قانتات، أي مطيعات لله، * (حافظات للغيب) * أي قائمات بحقوق الزوج، وقدم قضاء حق الله ثم أتبع ذلك بقضاء حق الزوج. الثاني: أن حال المرأة إما أن يعتبر عند حضور الزوج أو عند غيبته، أما حالها عند حضور الزوج فقد وصفها الله بأنها قانتة، وأصل القنوت دوام الطاعة، فالمعنى أنهن قيمات بحقوق
88

أزواجهن، وظاهر هذا إخبار، إلا أن المراد منه الأمر بالطاعة.
واعلم أن المرأة لا تكون صالحة إلا إذا كانت مطيعة لزوجها، لأن الله تعالى قال: * (فالصالحات قانتات) * والألف واللام في الجمع يفيد الاستغراق، فهذا يقتضي أن كل امرأة تكون صالحة، فهي لا بد وأن تكون قانتة مطيعة. قال الواحدي رحمه الله: لفظ القنوت يفيد الطاعة، وهو عام في طاعة الله وطاعة الأزواج، وأما حال المرأة عند غيبة الزوج فقد وصفها الله تعالى بقوله: * (حافظات للغيب) * واعلم أن الغيب خلاف الشهادة، والمعنى كونهن حافظات بمواجب الغيب، وذلك من وجوه: أحدها: أنها تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها، ولئلا يلتحق به الولد المتكون من نطفة غيره، وثانيها: حفظ ماله عن الضياع، وثالثها: حفظ منزله عما لا ينبغي، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " خير النساء إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها "، وتلا هذه الآية.
المسألة الثالثة: " ما " في قوله: * (بما حفظ الله) * فيه وجهان: الأول: بمعنى الذي، والعائد إليه محذوف، والتقدير: بما حفظه الله لهن، والمعنى أن عليهن ان
يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن، حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن، فقوله: * (بما حفظ الله) * يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أي هذا في مقابلة ذاك.
والوجه الثاني: أن تكون " ما " مصدرية، والتقدير: بحفظ الله، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: أنهن حافظات للغيب بما حفظ الله إياهن، أي لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله، فيكون هذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل. والثاني: أن المعنى: هو أن المرأة إنما تكون حافظة للغيب بسبب حفظهن الله أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره، فان المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكاليف الله وتجتهد في حفظ أوامره لما أطاعت زوجها، وهذا الوجه يكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصالحات، فقال: * (واللاتي تخافون نشوزهن) *.
واعلم أن الخوف عبارة عن حال يحصل في القلب عند ظن حدوث أمر مكروه في المستقبل. قال الشافعي رضي الله عنه: * (واللاتي تخافون نشوزهن) * النشوز قد يكون قولا، وقد يكون فعلا، فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها، وتخضع له بالقول إذا خاطبها ثم تغيرت، والفعل مثل أن كانت تقوم إليه إذا دخل عليها، أو كانت تسارع إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها، ثم إنها تغيرت عن كل ذلك، فهذه أمارات دالة على نشوزها وعصيانها، فحينئذ ظن نشوزها
89

ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز. وأما النشوز فهو معصية الزوج والترفع عليه بالخلاف، وأصله من قولهم نشز الشيء إذا ارتفع، ومنه يقال للأرض المرتفعة: ونشز ونشر.
ثم قال تعالى: * (فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الشافعي رضي الله عنه: أما الوعظ فإنه يقول لها: اتقي الله فان لي عليك حقا وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو هذا، ولا يضربها في هذه الحالة لجواز أن يكون لها في ذلك كفاية، فان أصرت على ذلك النشوز فعند ذلك يهجرها في المضجع وفي ضمنه امتناعه من كلامها، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: ولا يزيد في هجره الكلام ثلاثا، وأيضا فإذا هجرها في المضجع فان كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتترك النشوز، وان كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران، فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها، وفيهم من حمل ذلك على الهجران في المباشرة، لأن إضافة ذلك إلى المضاجع يفيد ذلك، ثم عند هذه الهجرة ان بقيت على النشوز ضربها. قال الشافعي رضي الله عنه: والضرب مباح وتركه أفضل. روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كنا معاشر قريش تملك رجالنا نساءهم، فقدمنا المدينة فوجدنا نساءهم تملك رجالهم، فاختلطت نساؤنا بنسائهم فذئرن على أزواجهن، فأذن في ضربهن فطاف بحجر نساء النبي صلى الله عليه وسلم جمع من النسوان كلهن يشكون أزواجهن، فقال صلى الله عليه وسلم: " لقد أطاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكون أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم " ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا. قال الشافعي رضي الله عنه: فدل هذا الحديث على أن الأولى ترك الضرب، فأما إذا ضربها وجب في ذلك الضرب أن يكون بحيث لا يكون مفضيا إلى الهلاك البتة، بأن يكون مفرقا على بدنها، ولا يوالي بها في موضع واحد ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، وأن يكون دون الأربعين. ومن أصحابنا من قال: لا يبلغ به عشرين لأنه حد كامل في حق العبد، ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده، ولا يضربها بالسياط ولا بالعصا، وبالجملة فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه.
وأقول: الذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الاقدام على الطريق الأشق والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلف أصحابنا قال بعضهم: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب، فان ظاهر
90

اللفظ وان دل على الجمع إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: يعظها بلسانه، فان انتهت فلا سبيل له عليها، فان أبت هجر مضجعها، فان أبت ضربها، فان لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين. وقال بعض أصحابنا: تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها، وهل له أن يهجرها؟ فيه احتمال، وله عند إبداء النشوز أن يعظها أو يهجرها، أو يضربها.
ثم قال تعالى: * (فان أطعنكم) * أي إذا رجعن عن النشوز إلى الطاعة عند هذا التأديب * (فلا تبغوا عليهن سبيلا) * أي لا تطلبوا عليهن الضرب والهجران طريقا على سبيل التعنت والإيذاء * (إن الله كان عليا كبيرا) * وعلوه لا بعلو الجهة، وكبره لا بكبر الجثة، بل هو علي كبير لكمال قدرته ونفاذ مشيئته في كل الممكنات. وذكر هاتين الصفتين في هذا الموضع في غاية الحسن، وبيانه من وجوه: الأول: أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النسوان، والمعنى أنهن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله سبحانه علي قاهر كبير قادر ينتصف لهن منكم ويستوفي حقهن منكم، فلا ينبغي أن تغتروا بكونكم أعلى يدا منهن، وأكبر درجة منهن. الثاني: لا تبغوا عليهن إذا أطعنكم لعلو أيديكم. فان الله أعلى منكم وأكبر من كل شيء، وهو متعال عن أن يكلف إلا بالحق. الثالث: أنه تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون، فكذلك لا تكلفوهن محبتكم، فإنهن لا يقدرن على ذلك. الرابع: أنه مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، بل يغفر له، فإذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تقبلوا توبتها وتتركوا معاقبتها. الخامس: أنه تعالى مع علوه وكبريائه اكتفى من العبد بالظواهر، ولم يهتك السرائر، فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة، وأن لا تقعوا في التفتيش عما في قلبها وضميرها من الحب والبغض.
* (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلهآ إن يريدآ إصلاحا يوفق الله بينهمآ إن الله كان عليما خبيرا) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر عند نشوز المرأة أن الزوج يعظها، ثم يهجرها، ثم يضربها، بين أنه لم
91

يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم فقال: * (وإن خفتم شقاق بينهما) * إلى آخر الآية وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: * (خفتم) * أي علمتم. قال: وهذا بخلاف قوله: * (واللاتي تخافون نشوزهن) * فان ذلك محمول على الظن، والفرق بين الموضعين أن في الابتداء يظهر له أمارات النشوز فعند ذلك يحصل الخوف وأما بعد الوعظ والهجر والضرب لما أصرت على النشوز، فقد حصل العلم بكونها ناشزة: فوجب حمل الخوف ههنا على العلم. طعن الزجاج فيه فقال: * (خفتم) * ههنا بمعنى أيقنتم خطأ، فانا لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم نحتج إلى الحكمين.
وأجاب سائر المفسرين بأن وجود الشقاق وإن كان معلوما، الا أنا لا نعلم أن ذلك الشقاق صدر عن هذا أو عن ذاك، فالحاجة إلى الحكمين لمعرفة هذا المعنى. ويمكن أن يقال: وجود الشقاق في الحال معلوم، ومثل هذا لا يحصل منه خوف، إنما الخوف في أنه هل يبقى ذلك الشقاق أم لا؟ فالفائدة في بعث الحكمين ليست إزالة الشقاق الثابت في الحال فان ذلك محال، بل الفائدة إزالة ذلك الشقاق في المستقبل.
المسألة الثانية: للشقاق تأويلان: أحدهما: أن كل واحد منهما يفعل ما يشق على صاحبه. الثاني: أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة.
المسألة الثالثة: قوله: * (شقاق بينهما) * معناه: شقاقا بينهما، إلا أنه أضيف المصدر إلى الظرف وإضافة المصادر إلى الظروف جائزة لحصولها فيها، يقال: يعجبني صوم يوم عرفة، وقال تعالى: * (بل مكر الليل والنهار) * (سبأ: 33).
المسألة الرابعة: المخاطب بقوله: * (فابعثوا حكما من أهله) * من هو؟ فيه خلاف: قال بعضهم إنه هو الامام أو من يلي من قبله، وذلك لأن تنفيذ الأحكام الشرعية إليه، وقال آخرون: المراد كل واحد من صالحي الأمة وذلك لأن قوله: * (خفتم) * خطاب للجميع وليس حمله على البعض أولى من حمله على البقية، فوجب حمله على الكل، فعلى هذا يجب أن يكون قوله: * (فان خفتم) * خطابا لجميع المؤمنين. ثم قال * (فابعثوا) * فوجب أن يكون هذا أمرا لآحاد الآمة بهذا المعنى، فثبت أنه سواء وجد الامام أو لم يوجد، فللصالحين أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها للاصلاح. وأيضا فهذا يجري مجرى دفع الضرر، ولكل أحد أن يقوم به.
المسألة الخامسة: إذا وقع الشقاق بينهما، فذاك الشقاق إما أن يكون منهما أو منه أو منها، أو يشكل، فان كان منها فهو النشوز وقد ذكرنا حكمه، وان كان منه، فان كان قد فعل فعلا حلالا
92

مثل التزوج بامرأة أخرى، أو تسري بجارية، عرفت المرأة أن ذلك مباح ونهيت عن الشقاق، فان قبلت وإلا كان نشوزا، وإن كان بظلم من جهته أمره الحاكم بالواجب، وإن كان منهما أو كان الأمر متشابها، فالقول أيضا ما قلناه. المسألة السادسة: قال الشافعي رضي الله عنه: المستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين، والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها، لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب، وأشد طلبا للصلاح، فان كانا أجنبيين جاز. وفائدة الحكمين أن يخلو كل واحد منهما بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال، ليعرف أن رغبته في الإقامة على النكاح، أو في المفارقة، ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من إيقاع طلاق أو خلع.
المسألة السابعة: هل يجوز للحكمين تنفيذ أمر يلزم الزوجين بدون إذنهما، مثل أن يطلق حكم الرجل، أو يفتدى حكم المرأة بشيء من مالها؟ للشافعي فيه قولان: أحدهما: يجوز، وبه قال مالك وإسحاق. والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة. وعلى هذا هو وكالة كسائر الوكالات وذكر الشافعي رضي الله عنه حديث علي رضي الله عنه، وهو ما روى ابن سيرين عن عبيدة أنه قال جاء رجل وامرأة إلى علي رضي الله عنه، ومع كل واحد منهما جمع من الناس، فأمرهم علي بأن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ثم قال للحكمين: تعرفان ما عليكما؟ عليكما ان رأيتما أن تجمعا فاجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله تعالى فيما علي ولي فيه. فقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به. قال الشافعي رضي الله عنه: وفي هذا الحديث لكل واحد من القولين دليل.
أما دليل القول الأول فهو أنه بعث من غير رضا الزوجين وقال: عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا، وأقل ما في قوله: عليكما، أن يجوز لهما ذلك.
وأما دليل القول الثاني: أن الزوج لما لم يرض توقف على، ومعنى قوله: كذبت، أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تفعل ما فعلت هي. ومن الناس من احتج للقول الأول بأنه تعالى سماهما حكمين. والحكم هو الحاكم وإذا جعله حاكما فقد مكنه من الحكم، ومنهم من احتج للقول الثاني بأنه تعالى لما ذكر الحكمين، لم يضف إليهما إلا الاصلاح، وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الاصلاح غير مفوض إليهما.
المسألة الثامنة: قوله: * (وإن خفتم شقاق بينهما) * أي شقاقا بين الزوجين، ثم إنه وإن لم يجر ذكرهما إلا أنه جرى ذكر ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء.
93

ثم قال تعالى: * (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في قوله: * (إن يريدا) * وجوه: الأول: ان يرد الحكمان خيرا وإصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير. الثاني: ان يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين. الثالث: إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين. الرابع: إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح، ولا شك أن اللفظ محتمل لكل هذه الوجوه.
المسألة الثانية: أصل التوفيق الموافقة، وهي المساواة في أمر من الأمور، فالتوفيق اللطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة، والآية دالة على أنه لا يتم شيء من الأغراض والمقاصد إلا بتوفيق الله تعالى، والمعنى أنه إن كانت نية الحكمين إصلاح ذات البين يوفق الله بين الزوجين.
ثم قال تعالى: * (إن الله كان عليما خبيرا) * والمراد منه الوعيد للزوجين وللحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق.
النوع التاسع: من التكاليف المذكورة في هذه السورة:
* (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) *.
واعلم أنه تعالى لما أرشد كل واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر وإلى إزالة الخصومة والخشونة، أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة وذكر منها عشرة أنواع.
النوع الأول: قوله: واعبدوا الله) * قال ابن عباس: المعنى وحدوه، واعلم أن العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك، وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح، فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد، وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) *.
94

النوع الثاني: قوله: * (ولا تشركوا به شيئا) * وذلك لأنه تعالى لما أمر بالعبادة بقوله: * (واعبدوا الله) * أمر بالاخلاص في العبادة بقوله: * (ولا تشركوا به شيئا) * لأن من عبد مع الله غيره كان مشركا ولا يكون مخلصا، ولهذا قال تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * (البينة: 5).
النوع الثالث: قوله: * (وبالوالدين إحسانا) * واتفقوا على أن ههنا محذوفا، والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا كقوله: * (فضرب الرقاب) * (محمد: 4) أي فاضربوها، ويقال: أحسنت بفلان، وإلى فلان. قال كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدنيا ولا مقلية إن تقلت
واعلم أنه تعالى قرن إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع: أحدها: في هذه الآية، وثانيها: قوله: * (وقضى ربك أن لا تعبدوا إياه وبالوالدين إحسانا) * (الإسراء: 23) وثالثها: قوله: * (أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير) * (لقمان: 14) وكفى بهذا دلالة على تعظيم حقهما ووجوب برهما والاحسان إليهما. ومما يدل على وجوب البر إليهما قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما) * (الإسراء: 23) وقال: * (ووصينا الانسان بوالديه حسنا) * وقال في الوالدين الكافرين: * (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) * (لقمان: 15) وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: * (أكبر الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس) * وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن استأذنه في الجهاد، فقال عليه السلام: " هل لك أحد باليمن فقال أبواي فقال: أبواك أذنا لك فقال لا فقال فارجع واستأذنهما فان أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما ".
واعلم أن الاحسان إلى الوالدين هو أن يقوم بخدمتهما، وألا يرفع صوته عليهما، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة من البر، وأن لا يشهر عليهما سلاحا، ولا يقتلهما، قال أبو بكر الرازي: إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله أن ترك قتله، فحينئذ يجوز له قتله؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك كان قد قتل نفسه بتمكين غيره منه، وذلك منهي عنه، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا.
النوع الرابع: قوله تعالى: * (وبذي القربى) * وهو أمر بصلة الرحم كما ذكر في أول السورة بقوله: * (والأرحام) *.
واعلم أن الوالدين من الأقارب أيضا، إلا أن قرابة الولاد لما كانت مخصوصة بكونها أقرب القرابات وكانت مخصوصة بخواص لا تحصل في غيرها، لا جرم ميزها الله تعالى في الذكر عن سائر الأنواع، فذكر في هذه الآية قرابة الولاد، ثم أتبعها بقرابة الرحم.
95

النوع الخامس: قوله: * (واليتامى) * واعلم أن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز: أحدهما: الصغر، والثاني: عدم المنفق، ولا شك أن من هذا حاله كان في غاية العجز واستحقاق الرحمة. قال ابن عباس: يرفق بهم ويربيهم ويمسح رأسهم، وإن كان وصيا لهم فليبالغ في حفظ أموالهم.
النوع السادس: قوله: * (والمساكين) * واعلم أنه وان كان عديم المال إلا أنه لكبره يمكنه أن يعرض حال نفسه على الغير، فيجلب به نفعا أو يدفع به ضررا، وأما اليتيم فلا قدرة له عليه، فلهذا المعنى قدم الله اليتيم في الذكر على المسكين، والاحسان إلى المسكين اما بالاجمال إليه، أو بالرد الجميل. كما قال تعالى: * (وأما السائل فلا تنهر) * (الضحى: 9).
النوع السابع: قوله: * (والجار ذي القربى) * قيل: هو الذي قرب جواره، والجار الجنب هو الذي بعد جواره. قال عليه الصلاة والسلام: " لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ألا وان الجوار أربعون دارا " وكان الزهري يقول: أربعون يمنة، وأربعون يسرة، وأربعون أماما وأربعون خلفا. وعن أبي هريرة قيل: يا رسول الله ان فلانة تصوم النهار وتصلي الليل وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها، أي هي سليطة، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا خير فيها هي في النار " وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفس محمد بيده لا يؤدي حق الجار إلا من رحم الله وقليل ما هم أتدرون ما حق الجار ان افتقر أغنيته وان استقرض أقرضته وان أصابه خير هنأته وان أصابه شر عزيته وان مرض عدته وان مات شيعت جنازته " وقال آخرون: عني بالجار ذي القربى: القريب النسيب، وبالجار الجنب: الجار الأجنبي، وقرئ (والجار ذا القربى) نصبا على الاختصاص، كما قرىء (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) (البقرة: 238) تنبيها على عظم حقه، لأنه اجتمع فيه موجبان. الجوار والقرابة.
النوع الثامن: قوله: * (والجار الجنب) * وقد ذكرنا تفسيره. قال الواحدي: الجنب نعت على وزن فعل، وأصله من الجنابة ضد القرابة وهو البعيد. يقال: رجل جنب إذا كان غريبا متباعدا عن أهله، ورجل أجنبي وهو البعيد منك في القرابة. وقال تعالى: * (واجنبني وبني) * (إبراهيم: 35) أي بعدني، والجانبان الناحيتان لبعد كل واحد منهما عن الآخر، ومنه الجنابة من الجماع لتباعده عن الطهارة وعن حضور المساجد للصلاة ما لم يغتسل، ومنه أيضا الجنبان لبعد كل واحد منهما عن
الآخر. وروى المفضل عن عاصم: * (والجار الجنب) * بفتح الجيم وسكون النون وهو يحتمل معنيين: أحدهما: أنه يريد بالجنب الناحية، ويكون التقدير: والجار ذي الجنب فحذف المضاف، لأن المعنى مفهوم والآخر: أن يكون وصفا على سبيل المبالغة، كما يقال: فلان كرم وجود.
النوع التاسع: قوله: * (والصاحب بالجنب) * وهو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في
96

سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الاحسان. قيل: الصاحب الجنب: المرأة فإنها تكون معك وتضجع إلى جنبك.
النوع العاشر: قوله: * (وابن السبيل) * وهو المسافر الذي انقطع عن بلده، وقيل: الضيف.
النوع الحادي عشر: قوله: * (وما ملكت أيمانكم) *.
واعلم أن الاحسان إلى المماليك طاعة عظيمة، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ابتاع شيئا من الخدم فلم توافق شيمته شيمته فليبع وليشتر حتى توافق شيمته شيمته فان للناس شيما ولا تعذبوا عباد الله " وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان آخر كلامه: " الصلاة وما ملكت أيمانكم " وروي أنه كان رجل بالمدينة يضرب عبده، فيقول العبد أعوذ بالله ويستمعه الرسول عليه السلام، والسيد كان يزيده ضربا، فطلع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أعوذ برسول الله فتركه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله كان أحق أن يجار عائذه " قال يا رسول الله فإنه حر لوجه الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: " والذي نفس محمد بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار ".
واعلم أن الاحسان إليهم من وجوه: أحدها: أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به، وثانيها: أن لا يؤذيهم بالكلام الخشن بل يعاشرهم معاشرة حسنة، وثالثها: أن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون إليه. وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الإماء البغاء، وهو الكسب بفروجهن وبضوعهن. وقال بعضهم: كل حيوان فهو مملوك، والاحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة.
واعلم أن ذكر اليمين تأكيد وهو كما يقال: مشت رجلك، وأخذت يدك، قال عليه الصلاة والسلام: " على اليد ما أخذت " وقال تعالى: * (مما عملت أيدينا أنعاما) * (يس: 71) ولما ذكر تعالى هذه الأصناف قال: * (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) * والمختال ذو الخيلاء والكبر. قال ابن عباس: يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق أحد. قال الزجاج: وإنما ذكر الاختيال ههنا، وذكرنا اشتقاق هذه اللفظة عند قوله: * (والخيل المسومة) * (آل عمران: 14) ومعنى الفخر التطاول، والفخور الذي يعدد مناقبه كبرا وتطاولا. قال ابن عباس: هو الذي يفخر على عباد الله بما أعطاه الله من أنواع نعمه، وإنما خص الله تعالى هذين الوصفين بالذم في هذا الموضع، لأن المختال هو المتكبر، وكل من كان متكبرا فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق، ثم أضاف إليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه
97

الحقوق لأجل الرياء والسمعة، بل لمحض أمر الله تعالى.
قوله تعالى
* (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون مآ ءاتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: * (بالبخل) * بفتح الباء والخاء، وفي الحديد مثله، وهي لغة الأنصار، والباقون * (بالبخل) * بضم الباء والخاء وهي اللغة العالية.
المسألة الثانية: الذين يبخلون: بدل من قوله: * (من كان مختالا فخورا) * والمعنى: ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا ولا يحب الذين يبخلون، أو نصب على الذم. ويجوز أن يكون رفعا على الذم، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل: الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون: أحقاء بكل ملامة.
المسألة الثالثة: قال الواحدي: البخل فيه أربع اللغات: البخل. مثل القفل، والبخل مثل الكرم، والبخل مثل الفقر، والبخل بضمتين. ذكره المبرد، وهو في كلام العرب عبارة عن منع الاحسان، وفي الشريعة منع الواجب. المسألة الرابعة: قال ابن عباس: انهم اليهود، بخلوا أن يعترفوا بما عرفوا من نعت محمد عليه الصلاة والسلام وصفته في التوراة، وأمروا قومهم أيضا بالكتمان * (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) * يعني من العلم بما في كتابهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم * (واعتدنا) * في الآخرة لليهود * (عذابا مهينا) * واحتج من نصر هذا القول: بأن ذكر الكافر في آخر الآية يدل على أن المراد بأولها الكافر. وقال آخرون: المراد منه البخل بالمال، لأنه تعالى ذكره عقيب الآية التي أوجب فيها رعاية حقوق الناس بالمال، فإنه قال: * (وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل) * (النساء: 36) ومعلوم أن الاحسان إلى هؤلاء إنما يكون بالمال، ثم ذم المعرضين عن هذا الاحسان فقال: * (ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا) * (النساء: 36) ثم عطف عليه * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * فوجب أن يكون هذا البخل بخلا
98

متعلقا بما قبله، وما ذاك إلا البخل بالمال. والقول الثالث: أنه عام في البخل بالعلم والدين، وفي البخل بالمال، لأن اللفظ عام، والكل مذموم، فوجب كون اللفظ متناولا للكل.
المسألة الخامسة: أنه تعالى ذكر في هذه الآية من الأحوال المذمومة ثلاثا: أولها: كون الانسان بخيلا وهو المراد بقوله: * (الذين يبخلون) * وثانيها: كونهم آمرين لغيرهم بالبخل، وهذا هو النهاية في حب البخل، وهو المراد بقوله: * (ويأمرون الناس بالبخل) * وثالثها: قوله: * (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) * فيوهمون
الفقر مع الغنى، والاعسار مع اليسار، والعجز مع الامكان، ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر، مثل أن يظهر الشكاية عن الله تعالى، ولا يرضى بالقضاء والقدر، وهذا ينتهي إلى حد الكفر، فلذلك قال: * (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) * ومن قال: الآية مخصوصة باليهود، فكلامه في هذا الموضع ظاهر، لأن من كتم الدين والنبوة فهو كافر، ويمكن أيضا أن يكون المراد من هذا الكافر، من يكون كافرا بالنعمة، لا من يكون كافرا بالدين والشرع.
قوله تعالى
* (والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ومن يكن الشيطان له قرينا فسآء قرينا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إن شئت عطفت * (الذين) * في هذه الآية على * (الذين) * في الآية التي قبلها، وإن شئت جعلته في موضع خفض عطفا على قوله: * (للكافرين عذابا مهينا) *.
المسألة الثانية: قال الواحدي: نزلت في المنافقين، وهو الوجه لذكر الرئاء، وهو ضرب من النفاق.
وقيل: نزلت في مشركي مكة المنفقين على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، والأولى أن يقال: إنه تعالى لما أمر بالاحسان إلى أرباب الحاجات، بين أن من لا يفعل ذلك قسمان: فالأول: هو البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال البتة، وهم المذمومون في قوله: * (الذين يبخلون ويأمرون
99

الناس بالبخل) * (النساء: 37) والثاني: الذين ينفقون أموالهم، لكن لا لغرض الطاعة، بل لغرض الرياء والسمعة، فهذه الفرقة أيضا مذمومة، ومتى بطل القول بهذين القسمين لم يبق إلا القسم الأول. وهو إنفاق الأموال لغرض الاحسان.
ثم قال تعالى: * (ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا) *. والمعنى: أن الشيطان قرين لأصحاب هذه الأفعال كقوله: * (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) * (الزخرف: 36) وبين تعالى أنه بئس القرين، إذ كان يضله عن دار النعيم ويورده نار السعير وهو كقوله: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) * (الحج: 3 - 4).
ثم انه تعالى عيرهم وبين سوء اختيارهم في ترك الايمان.
قوله تعالى
* (وماذا عليهم لو ءامنوا بالله واليوم الاخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وماذا عليهم) * استفهام بمعنى الانكار، ويجوز أن يكون " ماذا " اسما واحدا، فيكون المعنى: وأي الشيء عليهم، ويجوز أن يكون " ذا " في معنى الذي، ويكون " ما " وحدها اسما، ويكون المعنى: وما الذي عليهم لو آمنوا.
المسألة الثانية: احتج القائلون بأن الايمان يصح على سبيل التقليد بهذه الآية فقالوا: إن قوله تعالى: * (وماذا عليهم لو آمنوا) * مشعر بأن الاتيان بالايمان في غاية السهولة، ولو كان الاستدلال معتبرا لكان في غاية الصعوبة، فانا نرى المستدلين تفرغ أعمارهم ولا يتم استدلالهم، فدل هذا على أن التقليد كاف.
أجاب المتكلمون بأن الصعوبة في التفاصيل، فأما الدلائل على سبيل الجملة فهي سهلة، واعلم أن في هذا البحث غورا.
المسألة الثالثة: احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية وضربوا له أمثلة، قال الجبائي: ولو كانوا غير قادرين لم يجز أن يقول الله ذلك، كما لا يقال لمن هو في النار معذب: ماذا عليهم لو خرجوا منها وصاروا إلى الجنة، وكما لا يقال للجائع الذي لا يقدر على الطعام: ماذا عليه لو أكل. وقال الكعبي: لا يجوز أن يحدث فيه الكفر ثم يقول: ماذا عليه لو آمن. كما لا يقال لمن أمرضه: ماذا عليه لو كان
100

صحيحا، ولا يقال للمرأة: ماذا عليها لو كانت رجلا، وللقبيح: ماذا عليه لو كان جميلا، وكما لا يحسن هذا القول من العاقل كذا لا يحسن من الله تعالى، فبطل بهذا ما يقال: إنه وإن قبح من غيره، لكنه يحسن منه لأن الملك ملكه. وقال القاضي عبد الجبار: إنه لا يجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتصرف في الضيعة ويحبسه من حيث لا يتمكن من مفارقة الحبس، ثم يقول له: ماذا عليك لو تصرفت في الضيعة، وإذا كان من يذكر مثل هذا الكلام سفيها دل على أن ذلك غير جائز على الله تعالى، فهذا جملة ما ذكروه من الأمثلة.
واعلم أن التمسك بطريقة المدح والذم والثواب والعقاب قد كثر للمعتزلة، ومعارضتهم بمسألتي العلم والداعي قد كثرت، فلا حاجة إلى الإعادة.
ثم قال تعالى: * (وكان الله عليما) * والمعنى أن القصد إلى الرئاء إنما يكون باطنا غير ظاهر، فبين تعالى أنه عليم ببواطن الأمور كما هو عليم بظواهرها، فان الانسان متى اعتقد ذلك صار ذلك كالرادع له عن القبائح من أفعال القلوب: مثل داعية النفاق والرياء والسمعة.
قوله تعالى
* (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *.
اعلم أن تعلق هذه الآية هو بقوله تعالى: * (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله) * (النساء: 39) فكأنه قال: فان الله لا يظلم من هذه حاله مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها، فرغب بذلك في الايمان والطاعة.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على الوعد بأمور ثلاثة: الأول: قوله تعالى: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الذرة النملة الحمراء الصغيرة في قول أهل اللغة. وروي عن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها، ثم قال: كل واحد من هذه الأشياء ذرة و * (مثقال) * مفعال من الثقل يقال: هذا على مثقال هذا، أي وزن هذا، ومعنى * (مثقال ذرة) * أي ما يكون وزنه وزن الذرة.
واعلم أن المراد من الآية أنه تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا، ولكن الكلام خرج على أصغر
101

ما يتعارفه الناس يدل عليه قوله تعالى: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا) * (يونس: 44).
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على أنه تعالى ليس خالقا لأعمال العباد، لأن من جملة تلك الأعمال ظلم بعضهم بعضا، فلو كان موجد ذلك الظلم هو الله تعالى لكان الظالم هو الله، وأيضا لو خلق الظلم في الظالم، ولا قدرة لذلك الظالم على تحصيل ذلك الظلم عند عدمه، ولا على دفعه بعد وجوده، ثم إنه تعالى يقول لمن هذا شأنه وصفته: لم ظلمت ثم يعاقبه عليه، كان هذا محض الظلم، والآية دالة على كونه تعالى منزها عن الظلم.
والجواب: المعارضة بالعلم والداعي على ما سبق مرارا لا حد لها، وقد ذكرنا أن استدلالات هؤلاء المعتزلة وإن كثرت وعظمت، إلا أنها ترجع إلى حرف واحد، وهو التمسك بالمدح والذم والثواب والعقاب، والسؤال على هذا الحرف معين، وهو المعارضة بالعلم والداعي، فكلما أعادوا ذلك الاستدلال أعدنا عليهم هذا السؤال.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: الآية تدل على أنه قادر على الظلم لأنه تمدح بتركه، ومن تمدح بترك فعل قبيح لم يصح منه ذلك التمدح، إلا إذا كان هو قادرا عليه، ألا ترى أن الزمن لا يصح منه أن يتمدح بأنه لا يذهب في الليالي إلى السرقة.
والجواب أنه تعالى تمدح بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، ولم يلزم أن يصح ذلك عليه، وتمدح بأنه لا تدركه الأبصار، ولم يدل ذلك عند المعتزلة على أنه يصح أن تدركه الأبصار.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: الآية دالة على أن العبد يستحق الثواب على طاعته وأنه تعالى لو لم يثبه لكان ظالما، لأنه تعالى بين في هذه الآية أنه لو لم يثبهم على أعمالهم لكان قد ظلمهم، وهذا لا يصح إلا إذا كانوا مستحقين للثواب على أعمالهم.
والجواب: أنه تعالى وعدهم بالثواب على تلك الأفعال، فلو لم يثبهم عليها لكان ذلك في صورة ظلم، فلهذا أطلق عليه اسم الظلم، والذي يدل على أن الظلم محال من الله، أن الظلم مستلزم للجهل والحاجة عندكم، وهما محالان على الله، ومستلزم المحال محال، والمحال غير مقدور. وأيضا الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير، والحق سبحانه لا يتصرف إلا في ملك نفسه، فيمتنع كونه ظالما. وأيضا: الظالم لا يكون إلها والشيء لا يصح إلا إذا كانت لوازمه صحيحة، فلو صح منه الظلم لكان زوال إلهيته صحيحا، ولو كان كذلك لكانت إلهيته جائزة الزوال، وحينئذ يحتاج في حصول صفة الإلهية له إلى مخصص وفاعل، وذلك على الله محال.
المسألة الخامسة: قالت المعتزلة: إن عقاب قطرة من الخمر يزيل ثواب الايمان والطاعة
102

مدة مائة سنة. وقال أصحابنا: هذا باطل؛ لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب كل تلك الطاعات العظيمة تلك السنن المتطاولة، أزيد من عقاب شرب هذه القطرة، فاسقاط ذلك الثواب العظيم بعقاب هذا القدر من المعصية ظلم، وإنه منفي بهذه الآية.
المسألة السادسة: قال الجبائي: إن عقاب الكبيرة يحبط ثواب جملة الطاعات، ولا ينحبط من ذلك العقاب شيء. وقال ابنه أبو هاشم: بل ينحبط. واعلم أن هذا المشروع صار حجة قوية لأصحابنا في بطلان القول بالاحباط فانا نقول: لو انحبط ذلك الثواب لكان إما أن يحبط مثله من العقاب أولا يحبط، والقسمان باطلان. فالقول بالاحباط باطل. إنما قلنا إنه لا يجوز انحباط كل واحد منهما بالآخر، لأنه إذا كان سبب عدم كل واحد منهما وجود الآخر، فلو حصل العدمان معا لحصل الوجدان معا، ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون حاصلة مع المعلول، وذلك محال. وإنما قلنا: إنه لا يجوز انحباط الطاعة بالمعصية مع أن المعصية لا تنحبط بالطاعة، لأن تلك الطاعات لم ينتفع العبد بها البتة، لا في جلب ثواب، ولا في دفع عقاب وذلك ظلم، وهو ينافي قوله تعالى: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) * ولما بطل القسمان ثبت القول بفساد الاحباط على ما تقوله المعتزلة.
المسألة السابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المؤمنين يخرجون من النار إلى الجنة، فقالوا: لا شك أن ثواب الايمان، والمداومة على التوحيد، والاقرار بأنه هو الموصول بصفات الجلال والاكرام، والمواظبة على وضع الجبين على تراب العبودية مائة سنة: أعظم ثوابا من عقاب شرب الجرعة من الخمر، فإذا حضر هذا الشارب يوم القيامة وأسقط عنه قدر عقاب هذا المعصية من ذلك الثواب العظيم فضل له من الثواب قدر عظيم، فإذا أدخل النار بسبب ذلك القدر من العقاب، فلو بقي هناك لكان ذلك ظلما وهو باطل، فوجب القطع بأنه يخرج إلى الجنة.
النوع الثاني: من الأمور التي اشتملت عليها هذه الآية:
قوله تعالى: * (وإن تك حسنة يضاعفها) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير * (حسنة) * بالرفع على تقديره " كان " التامة، والمعنى: وإن حدثت حسنة، أو وقعت حسنة، والباقون بالنصب على تقدير " كان " الناقصة والتقدير: وإن تك زنة الذرة حسنة. وقرأ ابن كثير وابن عامر * (يضعفها) * بالتشديد من غير ألف من التضعيف، والباقون * (يضاعفها) * بالألف والتخفيف من المضاعفة.
المسألة الثانية: تك: أصله من " كان يكون " وأصله " تكون " سقطت الضمة للجزم، وسقطت الواو لسكونها وسكون النون فصار " تكن " ثم حذفوا النون أيضا لأنها
ساكنة. وهي
103

تشبه حروف اللين، وحروف اللين إذا وقعت طرفا سقطت للجزم، كقولك: لم أدر، أي لا أدري وجاء القرآن بالحذف والاثبات، أما الحذف فههنا، وأما الاثبات، فكقوله: * (إن يكن غنيا أو فقيرا) * (النساء: 135).
المسألة الثالثة: ان الله تعالى بين بقوله: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) * أنه لا يبخسهم حقهم أصلا، وبين بهذه الآية أن الله تعالى يزيدهم على استحقاقهم.
واعلم أن المراد من هذه المضاعفة ليس هو المضاعفة في المدة، لأن مدة الثواب غير متناهية، وتضعيف غير المتناهي محال، بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار: مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب، فيجعله عشرين جزءا، أو ثلاثين جزءا، أو أزيد. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه، ثم يقال له: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فان بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته. مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: * (وإن تك حسنة يضاعفها) * وقال الحسن: قوله: * (وإن تك حسنة يضاعفها) * هذا أحب إلى العلماء مما لو قال: في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة، لأن ذلك الكلام يكون مقداره إنها خير من ألف شهر. وقال أبو عثمان النهدي: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، فقدر الله أن ذهبت إلى مكة حاجا أو معتمرا فألفيته فقلت: بلغني عنك أنك تقول: إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة قال أبو هريرة: لم أقل ذلك، ولكن قلت: إن الحسنة تضاعف بألفي ألف ضعف، ثم تلا هذه الآية وقال: إذا قال الله: * (أجرا عظيما) * فمن يقدر قدره.
النوع الثالث: من الأمور التي اشتملت هذه الآية عليها قوله تعالى: * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لدن: بمعنى " عند " إلا أن " لدن " أكثر تمكينا، يقول الرجل: عندي مال إذا كان ماله ببلد آخر، ولا يقال: لدي مال ولا لدني، إلا ما كان حاضرا.
المسألة الثانية: اعلم أنه لا بد من الفرق بين هذا وبين قوله: * (وإن تك حسنة يضاعفها) * والذي يخطر ببالي والعلم عند الله، أن ذلك التضعيف يكون من جنس ذلك الثواب، وأما هذا الأجر
104

العظيم فلا يكون من جنس ذلك الثواب، والظاهر أن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعد بها في الجنة، وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه، فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية، وعند الاستغراق في المحبة والمعرفة، وإنما خص هذا النوع بقوله: * (من لدنه) * لأن هذا النوع من الغبطة والسعادة والبهجة والكمال، لا ينال بالأعمال الجسدانية، بل إنما ينال بما يودع الله في جوهر النفس القدسية من الاشراق والصفاء والنور، وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادة الجسمانية، وهذا الأجر العظيم إشارة إلى السعادة الروحانية.
* (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا * يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا) *.
وجه النظم هو أنه تعالى بين أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم، وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه، فبين تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق، لتكون الحجة على المسئ أبلغ، والتبكيت له أعظم وحسرته أشد، ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم، ويكون هذا وعيدا للكفار الذين قال الله فيهم: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) * ووعدا للمطيعين الذين قال الله فيهم: * (وإن تك حسنة يضاعفها) * (النساء: 40) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: " إقرأ القرآن علي " قال: فقلت يا رسول الله أنت الذي علمتنيه فقال: " أحب أن أسمعه من غيري " قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء، فلما انتهيت إلى هذه الآية بكى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود فأمسكت عن القراءة. وذكر السدي أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون للرسل بالبلاغ، والرسول صلى الله عليه وسلم يشهد لأمته بالتصديق، فلهذا قال: * (جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143) وحكي عن عيسى عليه السلام أنه قال: * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) * (المائدة: 117).
105

المسألة الثانية: من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه: كيف بك إذا كان كذا وكذا، وإذا فعل فلان كذا، وإذا جاء وقت كذا، فمعنى هذا الكلام: كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها، وأستشهدك على هؤلاء، يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم. ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ".
ثم انه تعالى وصف ذلك اليوم فقال: * (يؤمئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (الذين كفروا وعصوا الرسول) * يقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر. لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز، فوجب حمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر، إذا ثبت هذا فنقول: الآية دالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الاسلام، وأنهم كما يعاقبون يوم القيامة على الكفر فيعاقبون أيضا على تلك المعاصي. لأنه لو لم يكن لتلك المعصية أثر في هذا المعنى لما كان في ذكر معصيتهم في هذا الموضع أثر.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو * (تسوى) * مضمومة التاء خفيفة السين على ما لم يسم فاعله، وقرأ نافع وابن عامر * (تسوى) * مفتوحة التاء مشددة السين بمعنى: تتسوى، فأدغم التاء في السين لقربها منها، ولا يكره اجتماع التشديدين في هذه القراءة لأن لها نظائر في التنزيل كقوله: * (اطيرنا بك) * (
النمل: 47) * (وازينت) * (يونس: 24) * (ويذكرون) * (الأنعام: 26) وفي هذه القراءة اتساع، وهو إسناد الفعل إلى الأرض وقرأ حمزة والكسائي * (تسوى) * مفتوحة التاء والسين خفيفة، حذفا التاء التي أدغمها نافع، لأنها كما اعتلت بالادغام اعتلت بالحذف.
المسألة الثالثة: ذكروا في تفسير قوله: * (لو تسوى بهم الأرض) * وجوها: الأول: لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى. والثاني: يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء. الثالث: تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله: * (يا ليتني كنت ترابا) * (النبأ: 40).
المسألة الرابعة: قوله: * (ولا يكتمون الله حديثا) * فيه لأهل التأويل طريقان: الأول: أن هذا متصل بما قبله. والثاني: أنه كلام مبتدأ، فإذا جعلناه متصلا احتمل وجهين: أحدهما: ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: يودون لو تنطبق عليهم الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا كفروا به ولا نافقوا، وعلى هذا القول: الكتمان عائد إلى ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، الثاني: أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله تعالى يغفر لأهل الاسلام ولا يغفر
106

شركا، قالوا: تعالوا فلنجحد فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، وجاء أن يغفر الله لهم، فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يعملون، فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا.
الطريق الثاني في التأويل: أن هذا الكلام مستأنف، فان ما عملوه ظاهر عند الله، فكيف يقدرون على كتمانه؟
المسألة الخامسة: فان قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23).
والجواب من وجوه: الأول: أن مواطن القيامة كثيرة، فموطن لا يتكلمون فيه وهو قوله: * (فلا تسمع إلا همسا) * (طه: 108) وموطن يتكلمون فيه كقوله: * (ما كنا نعمل من سوء) * (النحل: 28) وقولهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * فيكذبون في مواطن، وفي مواطن يعترفون على أنفسهم بالكفر ويسألون الرجعة وهو قولهم: * (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا) * (الأنعام: 27) وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم وجلودهم، فنعوذ بالله من خزي ذلك اليوم. الثاني: أن هذا الكتمان غير واقع، بل هو داخل في التمني على ما بينا. الثالث: أنهم لم يقصدوا الكتمان، وإنما أخبروا على حسب ما توهموا، وتقديره: والله ما كنا مشركين عند أنفسنا، بل مصيبين في ظنوننا حتى تحققنا الآن. وسيجئ الكلام في هذه المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى. النوع العاشر: من التكاليف المذكورة في هذه السورة.
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من الغآئط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب النزول وجهين: الأول: أن جماعة من أفاضل الصحابة صنع لهم عبد الرحمن بن عوف طعاما وشرابا حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا، فلما ثلموا جاء وقت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم. فقرأ: أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد، فنزلت هذه الآية، فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها، فلا يصبحون إلا وقد
107

ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون، ثم نزل تحريمها على الاطلاق في سورة المائدة. وعن عمر رضي الله عنه أنه لما بلغه ذلك قال: اللهم إن الخمر تضر بالعقول والأموال، فأنزل فيها أمرك فصبحهم الوحي بآية المائدة. الثاني: قال ابن عباس: نزلت في جماعة من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهاهم الله عنه.
المسألة الثانية: في لفظ الصلاة قولان: أحدهما: المراد منه المسجد، وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن، وإليه ذهب الشافعي.
واعلم أن إطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل، ويدل عليه وجهان: الأول: أنه يكون من باب حذف المضاف، أي لا تقربوا موضع الصلاة، وحذف المضاف مجاز شائع، والثاني: قوله: * (لهدمت صوامع وبيع وصلوات) * (الحج: 40) والمراد بالصلوات مواضع الصلوات، فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد به المسجد جائز.
والقول الثاني: وعليه الأكثرون: أن المراد بالصلاة في هذه الآية نفس الصلاة، أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى.
واعلم أن فائدة الخلاف تظهر في حكم شرعي، وهو أن على التقدير الأول يكون المعنى: لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى ولا جنبا إلا عابري سبيل، وعلى هذا الوجه يكون الاستثناء دالا على أنه يجوز للجنب العبور في المسجد، وهو قول الشافعي. وأما على القول الثاني فيكون المعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا تقربوها حال كونكم جنبا إلا عابري سبيل، والمراد بعابر السبيل المسافر، فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الاقدام على الصلاة عند العجز عن الماء. قال أصحاب الشافعي: هذا القول الأول أرجح، ويدل عليه وجوه: الأول: أنه قال: * (لا تقربوا الصلاة) * والقرب والبعد لا يصحان على نفس الصلاة على سبيل الحقيقة، إنما يصحان على المسجد. الثاني: أنا لو حملناه على ما قلنا لكان الاستثناء صحيحا، أما لو حملناه على ما قلتم لم يكن صحيحا، لأن من لم يكن عابر سبيل وقد عجز عن استعمال الماء بسبب المرض الشديد، فإنه يجوز له الصلاة بالتيمم، وإذا كان كذلك كان حمل الآية على ذلك أولى. الثالث: انا إذا حملنا عابر السبيل على الجنب المسافر، فهذا إن كان واجدا للماء لم يجز له القرب من الصلاة البتة، فحينئذ يحتاج إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية، وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم، فيفتقر إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية، وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم، فيفتقر إلى إضمار هذا الشرط في الآية، وأما على ما
قلناه فانا لا نفتقر إلى إضمار شيء في الآية فكان قولنا أولى. الرابع: أن الله تعالى ذكر حكم السفر وعدم الماء، وجواز التيمم بعد هذا، فلا يجوز حمل هذا
108

على حكم مذكور في آية بعد هذه الآية، والذي يؤكده أن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله: * (حتى تغتسلوا) * ثم يستأنف قوله: * (وإن كنتم مرضى) * لأنه حكم آخر. وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا لم نحتج فيه إلى هذه الالحاقات فكان ما قلناه أولى. ولمن نصر القول الثاني أن يقول: إن قوله تعالى: * (حتى تعلموا ما تقولون) * يدل على أن المراد من قوله: * (لا تقربوا الصلاة) * نفس الصلاة لأن المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع السكر منه، أما الصلاة ففيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها، فكان حمل لآية على هذا أولى، وللقائل الأول ان يجيب بأن الظاهر أن الانسان إنما يذهب إلى المسجد لأجل الصلاة، فما يخل بالصلاة كان كالمانع من الذهاب إلى المسجد فلهذا ذكر هذا المعنى.
المسألة الثالثة: قال الواحدي رحمه الله: السكارى جمع سكران، وكل نعت على فعلان فإنه يجمع على: فعالى وفعالى، مثل كسالى وكسالى، وأصل السكر في اللغة سد الطريق، ومن ذلك سكر البثق وهو سده، وسكرت عينه سكرا إذا تحيرت، ومنه قوله تعالى: * (إنما سكرت أبصارنا) * (الحجر: 15) أي غشيت فليس ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقيقتها، ومن ذلك سكر الماء وهو رده على سننه في الجري. والسكر من الشراب وهو أن ينقطع عما عليه من النفاذ حال الصحو، فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في حال صحوه. إذا عرفت هذا فنقول: في لفظ السكارى في هذه الآية قولان: الأول: المراد منه السكر من الخمر وهو نقيض الصحو، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين.
والقول الثاني: وهو قول الضحاك: وهو أنه ليس المراد منه سكر الخمر، إنما المراد منه سكر النوم، قال: ولفظ السكر يستعمل في النوم فكان هذا اللفظ محتملا له، والدليل دل عليه فوجب المصير إليه، أما بيان أن اللفظ محتمل له فمن وجهين: الأول: ما ذكرنا: أن لفظ السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق، ولا شك أن عند النوم تمتلئ مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها، ولا ينفذ الروح الباصر والسامع إلى ظاهر البدن. الثاني: قول الفرزدق: من السير والادلاج يحسب انما سقاه الكرى في كل منزلة خمرا
وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له فنقول: الدليل دل عليه، وبيانه من وجوه: الأول: أن قوله تعالى: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) * ظاهره أنه تعالى نهاهم عن القرب من الصلاة حال صيرورتهم بحيث لا يعلمون ما يقولون، وتوجيه التكليف على مثل هذا الانسان ممتنع بالعقل والنقل، أما العقل فلأن تكليف مثل هذا الانسان يقتضي تكليف ما لا يطاق، وأما النقل فهو قوله عليه الصلاة والسلام: " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى
109

يفيق وعن النائم حتى يستيقظ " ولا شك أن هذا السكران يكون مثل المجنون، فوجب ارتفاع التكليف عنه.
والحجة الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا نعس أحدكم وهو في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإنه إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه " هذا تقرير قول الضحاك.
واعلم أن الصحيح هو القول الأول، ويدل عليه وجهان: الأول: أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر، والأصل في الكلام الحقيقة، فأما حمله على السكر من العشق، أو من الغضب أو من الخوف، أو من النوم، فكل ذلك مجاز، وإنما يستعمل مقيدا. قال تعالى: * (وجاءت سكرة الموت) * (ق: 19) وقال: * (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) * (الحج: 2) الثاني: أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر، وقد ثبت في أصول الفقه ان الآية إذا نزلت في واقعة معينة ولأجل سبب معين، امتنع ن لا يكون ذلك السبب مرادا بتلك الآية، فأما قول الضحاك كيف يتناوله النهي حال كونه سكران؟ فنقول: وهذا أيضا لازم عليكم، لأنه يقال: كيف يتناوله النهي وهو نائم لا يفهم شيئا؟ ثم الجواب عنه: ان المراد من الآية النهي عن الشرب المؤدي إلى السكر المخل بالفهم حال وجوب الصلاة عليهم، فخرج اللفظ عن النهي عن الصلاة في حال السكر مع أن المراد منه النهي عن الشرب الموجب للسكر في وقت الصلاة. وأما الحديث الذي تمسك به فذاك لا يدل على أن السكر المذكور في الآية هو النوم.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: هذه الآية منسوخة بآية المائدة، وأقول: الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أنه يقال: نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول والحكم المدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية، فهذا يقتضي جواز قربن الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة فقد رفع هذا الجواز، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية. هذا ما خطر ببالي في تقرير هذا النسخ.
والجواب عنه: أنا بينا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه الا على سبيل الظن الضعيف، ومثل هذا لا يكون نسخا.
المسألة الخامسة: قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (سكارى) * بفتح السين و * (سكرى) * على أن يكون جمعا نحو: هلكى، وجوعى.
110

ثم قال تعالى: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قوله: * (ولا جنبا) * عطف على قوله: * (وأنتم سكارى) * والواو ههنا للحال، والتقدير: لا تقربوا الصلاة حال ما تكونون سكارى، وحال ما تكونون جنبا، والجنب يستوي فيه الواحد والجمع، المذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجناب. وقد ذكرنا أن أصل الجنابة البعد، وقيل للذي يجب عليه الغسل: جنب، لأنه يجتنب الصلاة والمسجد وقراءة القرآن حتى يتطهر. ثم قال: * (إلا عابري سبيل) * وقد ذكرنا أن فيه قولين: أحدهما: أن هذا العبور المراد منه العبور في المسجد. الثاني: أن المراد بقوله: * (إلا عابري سبيل) * المسافرون، وبينا كيفية ترجيح أحدهما على الآخر.
قوله تعالى
* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل) *.
اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أصنافا أربعة: المرضى، والمسافرين، والذين جاؤوا من الغائط، والذين لامسوا النساء.
فالقسمان الأولان: يلجئان إلى التيمم، وهما المرض والسفر.
والقسمان الأخيران: يوجبان التطهر بالماء عند وجود الماء، وبالتيمم عند عدم الماء، ونحن نذكر حكم كل واحد من هذه الأقسام:
أما السبب الأول: وهو المرض، فاعلم أنه على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون بحيث لو استعمل الماء لمات، كما في الجدري الشديد والقروح العظيمة، وثانيها: أن لا يموت باستعمال الماء ولكنه يجد الآلام العظيمة. وثالثها: أن لا يخاف الموت والآلام الشديدة. لكنه يخاف بقاء شين أو عيب على البدن، فالفقهاء جوزوا التيمم في القسمين الأولين، وما جوزوه في القسم الثالث وزعم الحسن البصري أنه لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء، بدليل أنه شرط جواز التيمم للمريض بعدم وجدان الماء، بدليل أنه قال في آخر الآية: * (فلم تجدوا ماء) * وإذا كان هذا الشرط
111

معتبرا في جواز التيمم، فعند فقدان هذا الشرط وجب أن لا يجوز التيمم، وهو أيضا قول ابن عباس. وكان يقول: لو شاء الله لابتلاه بأشد من ذلك. ودليل الفقهاء أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء، وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده، ثم قد دلت السنة على جوازه، ويؤيده ما روي عن بعض الصحابة أنه أصابته جنابة كان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فأمره بالاغتسال، فلما اغتسل مات، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قتلوه قتلهم الله، فدل ذلك على جواز ما ذكرناه.
السبب الثاني: السفر: والآية تدل على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم، طال سفره أو قصر لهذه الآية.
السبب الثالث: قوله: * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان. وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض يحجبه عن أعين الناس، ثم سمي الحدث بهذا الاسم تسمية للشيء باسم مكانه.
السبب الرابع: قوله: * (أو لامستم النساء) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: * (لمستم) * بغير ألف من اللمس، والباقون * (لامستم) * بالألف من الملامسة.
المسألة الثانية: اختلف المفسرون في اللمس المذكور ههنا على قولين: أحدهما: أن المراد به الجماع، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه، لأن اللمس باليد لا ينقض الطهارة. والثاني: أن المراد باللمس ههنا التقاء البشرتين، سواء كان بجماع أو غيره وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي وقول الشافعي رضي الله عنه.
واعلم أن هذا القول أرجح من الأول، وذلك لأن إحدى القراءتين هي قوله تعالى: * (أو لمستم النساء) * واللمس حقيقته المس باليد، فأما تخصيصه بالجماع فذاك مجاز، والأصل حمل الكلام على حقيقته. وأما القراءة الثانية وهي قوله: * (أو لامستم) * فهو مفاعلة من اللمس، وذلك ليس حقيقة في الجماع أيضا، بل يجب حمله على حقيقته أيضا، لئلا يقع التناقض بين المفهوم من القراءتين المتواترتين واحتج من قال: المراد باللمس الجماع، بأن لفظ اللمس والمس وردا في القرآن بمعنى الجماع، قال تعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) * (البقرة: 37) وقال في آية الظهار: * (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) * (المجادلة: 3) وعن ابن عباس أنه قال: إن الله حيي كريم يعف ويكني، فعبر عن المباشرة بالملامسة. وأيضا الحدث نوعان: الأصغر، وهو المراد بقوله: * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * فلو حملنا قوله: * (أو لامستم النساء) *
112

على الحدث الأصغر لما بقي للحدث الأكبر ذكر في الآية، فوجب حمله على الحدث الأكبر.
واعلم أن كل ما ذكروه عدول عن ظاهر اللفظ بغير دليل، فوجب أن لا يجوز. وأيضا فحكم الجنابة تقدم في قوله: * (ولا جنبا) * فلو حملنا هذه الآية على الجنابة لزم التكرار.
المسألة الثالثة: قال أهل الظاهر: إنما ينتقض وضوء اللامس لظاهر قوله: * (أو لامستم النساء) * أما الملموس فلا. وقال الشافعي رضي الله عنه: بل ينتقض وضوءهما معا.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأسباب الأربعة قال: * (فلم تجدوا ماء) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الشافعي رضي الله عنه: إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده وتيمم وصلى، ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب، حجة الشافعي قوله: * (فلم تجدوا ماء) * وعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب، فلا بد في كل مرة من سبق الطلب.
فان قيل: قولنا: وجد، لا يشعر بسبق الطلب، بدليل قوله تعالى: * (ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى) * (الضحى: 7 - 8) وقوله: * (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) * (الأعراف: 102) وقوله: * (ولم نجد له عزما) * فان الطلب على الله محال.
قلنا: الطلب وإن كان في حقه تعالى محالا، إلا أنه لما أخرج محمدا صلى الله عليه وسلم من بين قومه بما لم يكن لائقا لقومه صار ذلك كأنه طلبه، ولما أمر المكلفين بالطاعات ثم إنهم قصروا فيها صار كأنه طلب شيئا ثم لم يجده، فخرجت هذه اللفظة في هذه الآيات على سبيل التأويل من الوجه الذي ذكرناه.
المسألة الثانية: أجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم جاز له التيمم، أما إذا وجد من الماء مالا يكفيه للوضوء، فهل يجب عليه أن يجمع بين استعمال ذلك القدر من الماء وبين التيمم؟ قد أوجبه الشافعي رضي الله عنه، متمسكا بظاهر لفظ الآية.
ثم قال تعالى: * (فتيمموا صعيد طيبا) * وفي مسائل:
المسألة الأولى: التيمم في اللغة عبارة عن القصد، يقال: أممته وتيممته وتأممته، أي قصدته وأما على الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد، قال الزجاج: الصعيد وجه الأرض، ترابا كان أو غيره.
المسألة الثانية: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لو فرضنا صخرا لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافيا. وقال الشافعي رضي الله عنه: بل لا بد من تراب يلتصق بيده. احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال: التيمم هو القصد، والصعيد هو ما تصاعد من الأرض، فقوله: * (فتمموا
113

صعيدا طيبا) * أي اقصدوا أرضا، فوجب أن يكون هذا القدر كافيا. وأما الشافعي فإنه احتج بوجهين الأول: أن هذه الآية ههنا مطلقة، ولكنها في سورة المائدة مقيدة، وهي قوله سبحانه: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * وكلمة " من " للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه. فان قيل: إن كلمة " من " لابتداء الغاية، قال صاحب " الكشاف ": لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب: إلا معنى التبعيض، ثم قال: والاذعان للحق أحق من المراء. الثاني: ما ذكره الواحدي رحمه الله، وهو أنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيبا، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله: * (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) * (الأعراف: 58) فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة، فكان قوله: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * أمرا بالتيمم بالتراب فقط، وظاهر الأمر للوجوب. أن قوله: * (صعيدا طيبا) * أمر بايقاع التيمم بالصعيد الطيب، والصعيد الطيب هو الأرض التي لا سبخة فيها، ولا شك أن التيمم بهذا التراب جائز بالاجماع، فوجب حمل الصعيد الطيب عليه رعاية لقاعدة الاحتياط، لا سيما وقد خصص النبي عليه الصلاة والسلام التراب بهذه الصفة، فقال: " جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا " وقال: " التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء ".
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) * محمول عند كثير من المفسرين على الوجه واليدين إلى الكوعين، وعند أكثر الفقهاء يجب مسح اليدين إلى المرفقين، وحجتهم أن اسم اليد يتناول جملة هذا العضو إلى الإبطين، إلا أنا أخرجنا المرفقين منه بدلالة الاجماع، فبقي اللفظ متناولا للباقي. ثم ختم تعالى الآية بقوله: * (إن الله كان عفوا غفورا) * وهو كناية عن الترخيص، والتيسير، لأن من كان من عادته أنه يعفور عن المذنبين، فبأن يرخص للعاجزين كان أولى.
قوله تعالى
* (والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) *.
114

اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية، قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية، وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين، لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر، فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر، فإنه ينشط الخاطر ويقوى القريحة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (ألم تر) * معناه: ألم ينته علمك إلى هؤلاء، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم) * (البقرة: 258) وحاصل الكلام أن العلم اليقيني يشبه الرؤية، فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم.
المسألة الثانية: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب: هم اليهود، ويدل عليه وجوه: الأول: أن قوله بعد هذه الآية: * (من الذين هادوا) * (النساء: 46، المائدة: 41) متعلق بهذه الآية. الثاني: روى ابن عباس ان هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود، كانا يأتيان رأس المنافقان عبد الله بن أبي ورهطه فيثبطونهم عن الاسلام. الثالث: ان عداوة اليهود كانت أكثر من عداوة النصارى بنص القرآن، فكانت إحالة هذا المعنى على اليهود أولى.
المسألة الثالثة: لم يقل تعالى: انهم أوتوا علم الكتاب، بل قال: * (أوتوا نصيبا من الكتاب) * لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى عليه السلام، ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأما الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وعرفوا الأمرين، فوصفهم الله بأن معهم علم الكتاب، فقال: * (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) * (الرعد: 43) والله أعلم.
المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين: الضلال والاضلال، أما الضلال فهو قوله: * (يشترون الضلالة) * وفيه وجوه: الأول: قال الزجاج: يؤثرون تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة، وإنما ذكر ذلك بلفظ الاشتراء لأن من اشترى شيئا آثره. الثاني: ان في الآية إضمارا، وتأويله: يشترون الضلالة بالهدى كقوله: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * (البقرة: 16) أي يستبدلون الضلالة بالهدى، ولا إضمار على قول الزجاج. الثالث: المراد بهذه الآية عوام اليهود، فإنهم كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم ويطلبون منهم أن ينصروا اليهودية ويتعصبوا لها، فكانوا جارين مجرى من يشتري بماله الشبهة والضلالة، ولا إضمار على هذا التأويل أيضا، ولكن الأولى أن تكون الآية نازلة في علمائهم، ثم لما وصفهم تعالى بالضلال وصفهم بعد ذلك بالاضلال فقال: * (ويريدون أن تضلوا السبيل) * يعني أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم؛ لكي يخرجوا عن الاسلام.
115

واعلم انك لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين أعني الضلال والاضلال.
ثم قال تعالى: * (والله أعلم بأعدائكم) * أي هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم وصدورهم من العداوة والبغضاء.
ثم قال تعالى: * (وكفى بالله وليا وكفي بالله نصيرا) * والمعنى أنه تعالى لما بين شدة عداوتهم للمسلمين، بين أن الله تعالى ولى المسلمين وناصرهم، ومن كان الله وليا له وناصرا له لم تضره عداوة الخلق، وفي الآية سؤالات: السؤالا الأول: ولاية الله لعبده عبارة عن نصرته له، فذكر النصير بعد ذكر الولي تكرارا.
والجواب: ان الولي المتصرف في الشيء، والمتصرف في الشيء لا يجب أن يكون ناصرا له فزال التكرار.
السؤال الثاني: لم لم يقل: وكفى بالله وليا ونصيرا؟ وما الفائدة في تكرير قوله: * (وكفى بالله) *.
والجواب: ان التكرار في مثل هذا المقام يكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة.
السؤال الثالث: ما فائدة الباء في قوله: * (وكفى بالله وليا) *.
والجواب: ذكروا وجوها، الأول: لو قيل: كفى الله، كان يتصل الفعل بالفاعل. ثم ههنا زيدت الباء إيذانا أن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في الرتبة وعظم المنزلة. الثاني: قال ابن السراج: تقدير الكلام: كفى اكتفاؤك بالله وليا، ولما ذكرت " كفى " دل على الاكتفاء، لأنه من لفظه، كما تقول: من كذب كان شرا له، أي كان الكذب شرا له، فأضمرته لدلالة الفعل عليه. الثالث: يخطر ببالي أن الباء في الأصل للالصاق، وذلك إنما يحسن في المؤثر الذي لا واسطة بينه وبين التأثير، ولو قيل: كفى الله، دل ذلك على كونه تعالى فاعلا لهذه الكفاية، ولكن لا يدل ذلك على أنه تعالى يفعل بواسطة أو بغير واسطة، فإذا ذكرت حرف الباء دل على أنه يفعل بغير واسطة، بل هو تعالى يتكفل بتحصيل هذا المطلوب ابتداء من غير واسطة أحد، كما قال: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * (ق: 16).
قوله تعالى
* (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير
116

مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا فى الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يشترون الضلالة شرح كيفية تلك الضلالة وهي أمور: أحدها: أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في متعلق قوله: * (من الذين) * وجوه: الأول: أن يكون بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب، والتقدير: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا، والثاني: أن يتعلق بقوله: * (نصيرا) * والتقدير: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، وهو كقوله: * (ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا) * (الأنبياء: 77) الثالث: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، و * (يحرفون) * صفته. تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، فحذف الموصوف وأقيم الوصف مكانه. الرابع: أنه تعالى لما قال: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة) * (النساء: 44) بقي ذلك مجملا من وجين، فكأنه قيل: ومن ذلك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب؟ فأجيب وقيل: من الذين هادوا، ثم قيل: وكيف يشترون الضلالة؟ فأجيب وقيل: يحرفون الكلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الجمع مؤنث، فكان ينبغي أن يقال: يحرفون الكلم عن مواضعها.
والجواب: قال الواحدي: هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره، ويمكن أن يقال: كون الجمع مؤنثا ليس أمرا حقيقيا، بل هو أمر لفظي، فكان التذكير والتأنيث فيه جائزا وقرئ، يحرفون الكلم.
المسألة الثالثة: في كيفية التحريف وجوه: أحدها: أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر مثل تحريفهم اسم " ربعة " عن موضعه في التوراة بوضعهم " آدم طويل " مكانه، ونحو تحريفهم " الرجم " بوضعهم " الحد " بدله ونظيره قوله تعالى: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) * (البقرة: 79).
فان قيل: كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور
117

في الشرق والغرب؟
قلنا لعله يقال: القوم كانوا قليلين، والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف، والثاني: أن المراد بالتحريف: إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح. الثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه.
المسألة الرابعة: ذكر الله تعالى ههنا: * (عن مواضعه) * وفي المائدة * (من بعد مواضعه) * والفرق أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة، فههنا قوله: * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، فههنا قوله: * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب. وأما الآية المذكورة في سورة المائدة، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة، وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب، فقوله: * (يحرفون الكلم) * إشارة إلى التأويل الباطل وقوله: * (من بعد مواضعه) * إشارة إلى إخراجه عن الكتاب.
النوع الثاني: من ضلالاتهم: ما ذكره الله تعالى بقوله: * (ويقولون سمعنا وعصينا) * وفيه وجهان: الأول: أن النبي عليه السلام كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر: سمعنا، وقالوا في أنفسهم: وعصينا والثاني: أنهم كانوا يظهرون قولهم: سمعنا وعصينا، إظهارا للمخالفة، واستحقارا للأمر.
النوع الثالث: من ضلالتهم قوله: * (واسمع غير مسمع) *.
واعلم أن هذه الكلمة ذو وجهين يحتمل المدح والتعظيم، ويحتمل الاهانة والشتم. أما أنه يحتمل المدح فهو أن يكون المراد اسمع غير مسمع مكروها، وأما أنه محتمل
للشتم والذم فذاك من وجوه: الأول: أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اسمع، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت، فقوله: * (غير مسمع) * معناه: غير سامع، فان السامع مسمع، والمسمع سامع. الثاني: غير مسمع، أي غير مقبول منك، ولا تجاب إلى ما تدعو إليه، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك ما أسمعت شيئا. الثالث: اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، ومتى كان كذلك فان الانسان لا يسمعه لنبو سمعه عنه، فثبت بما ذكرنا أن هذه الكلمة محتملة للذم والمدح، فكانوا يذكرونها لغرض الشتم.
النوع الرابع: من ضلالاتهم قولهم: * (وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين) * أما تفسير * (راعنا) * فقد ذكرناه في سورة البقرة وفيه وجوه: الأول: أن هذه كلمة كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخرية، فلذلك نهى المسلمون أن يتلفظوا بها في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني:
118

قوله: * (راعنا) * معناه أرعنا سمعك، أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم، وهذا مما لا يخاطب به الأنبياء عليهم السلام، بل إنما يخاطبون بالاجلال والتعظيم. الثالث: كانوا يقولون راعنا ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون أرعنا سمعك، وكانوا يريدون سبه بالرعونة في لغتهم. الرابع: أنهم كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم: * (راعنا) * راعينا، وكانوا يريدون أنك كنت ترعى أغناما لنا، وقوله: * (ليا بألسنتهم) * قال الواحدي: أصل " ليا " لويا، لأنه من لويت، ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون، ومثله الطي وفي تفسيره وجوه: الأول: قال الفراء كانوا يقولون: راعنا ويريدون به الشتم، فذاك هو اللي، وكذلك قولهم: (غير مسمع) وأرادوا به لا سمعت، فهذا هو اللي. الثاني: انهم كانوا يصلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير على سبيل النفاق. الثالث: لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام على سبيل السخرية، كما جرت عادة من يهزأ بانسان بمثل هذا الأفعال، ثم بين تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء لطعنهم في الدين، لأنهم كانوا يقولون لأصحابهم: إنما نشتمه ولا يعرف، ولو كان نبيا لعرف ذلك، فأظهر الله تعالى ذلك فعرفه خبث ضمائرهم، فانقلب ما فعلوه طعناه في نبوته دلالة قاطعة على نبوته، لأن الاخبار عن الغيب معجز.
فان قيل: كيف جاؤوا بالقول المحتمل للوجهين بعدما حرفوا، وقالوا سمعنا وعصينا؟
والجواب من وجهين: الأول: أنا حكينا عن بعض المفسرين أنه قال: إنهم ما كانوا يظهرون قولهم: * (وعصينا) * بل كانوا يقولونه في أنفسهم. والثاني: هب أنهم أظهروا ذلك إلا أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان، ولا يواجهونه بالسب والشتم.
ثم قال تعالى: * (ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم) * والمعنى أنهم لو قالوا بدل قولهم: سمعنا وعصينا، سمعنا وأطعنا لعلمهم بصدقك ولاظهارك الدلائل والبينات مرات بعد مرات، وبدل قولهم: * (واسمع غير مسمع) * قولهم واسمع، وبدل قولهم: * (راعنا) * قولهم: * (انظرنا) * أي اسمع منا ما نقول، وانظرنا حتى نتفهم عنك لكان خيرا لهم عند الله وأقوم، أي أعدل وأصوب، ومنه يقال: رمح قويم أي مستقيم؛ وقومت الشيء من عوج فتقوم.
ثم قال: * (ولكن لعنهم الله بكفرهم) * والمراد أنه تعالى إنما لعنهم بسبب كفرهم.
ثم قال: * (فلا يؤمنون إلا قليلا) * وفيه قولان: أحدهما: أن القليل صفة للقوم، والمعنى فلا يؤمن منهم إلا أقوام قليلون. ثم منهم من قال: كان ذلك القليل عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: هم الذين علم الله منهم أنهم يؤمنون بعد ذلك.
119

والقول الثاني: أن القليل صفة للايمان، والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ولكنهم كانوا يكفرون بسائر الأنبياء، ورجح أبو علي الفارسي هذا القول على الأول، قال: لأن " قليلا " لفظ مفرد، ولو أريد به ناس لجمع نحو قوله: * (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) * (الشعراء: 54) ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا، والمراد به الجمع قال تعالى: * (وحسن أولئك رفيقا) * (النساء: 69) وقال: * (ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم) * (المعارج: 10 - 11) فدل عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنه أريد بهما الكثرة.
قوله تعالى
* (يا أيهآ الذين أوتوا الكتاب ءامنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارهآ أو نلعنهم كما لعنآ أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى بعد أن حكى عن اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم أمرهم بالايمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك، ولقائل أن يقول: كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته، حتى يكون إيمانهم استدلاليا، فلما أمرهم بذلك الايمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالايمان على سبيل التقليد.
والجواب عنه: أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب، وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة. ألا ترى أنه قال في الآية الأولى: * (أم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * (النساء: 44) ولم يقل: ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب، لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة، فلما قال في هذه الآية يقل: ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب، لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة، فلما قال في هذه الآية: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) * علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة، ومن كان كذلك فإنه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل، ولهذا قال تعالى: * (مصدقا لما معكم) * أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد، فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالايمان بمحمد عليه الصلاة والسلام جزما، وأن
120

يقرن الوعيد الشديد بذلك.
المسألة الثانية: الطمس: المحو، تقول العرب في وصف المفازة، إنها طامسة الأعلام وطمس الطريق وطمس إذا درس، وقد طمس الله على بصره إذا أزاله وأبطله، وطمست الريح الأثر إذا محته، وطمست الكتاب محوته، وذكروا في الطمس المذكور في هذه الآية قولين: أحدهما: حمل اللفظ على حقيقته وهو طمس الوجوه: والثاني: حمل اللفظ على مجازه.
أما القول الأول: فهو أن المراد من طمس الوجوه محو تخطيط صورها، فان الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه الحواس، فإذا أزيلت ومحيت كان ذلك طمسا، ومعنى قوله: * (فنردها على أدبارها) * رد الوجوه إلى ناحية القفا، وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة، لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة، فان هذا الوعيد مختص بيوم القيامة على ما سنقيم الدلالة عليه، ومما يقرره قوله تعالى: * (وأما من أوتى كتابه وراء ظهره) * (الانشقاق: 10) فإنه إذا ردت الوجوه إلى القفا أوتوا الكتاب من وراء ظهورهم، لأن في تلك الجهة العيون والأفواه التي بها يدرك الكتاب ويقرأ باللسان.
فاما القول الثاني: فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه، ثم ذكروا فيه وجوها: الأول: قال الحسن: المراد نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها، أي على ضلالتها، والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات، ونظيره قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) * (الأنفال: 24) تحقيق القول فيه أن الانسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس، ثم عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات، فقد أمه عالم المعقولات، ووراءه عالم المحسوسات فالمخذول هو الذي يرد من قدامه إلى خلفه كما قال تعالى في صفتهم: * (ناكسو رؤسهم) * (السجدة: 12). الثاني: يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير، وبالوجوه: رؤساؤهم ووجهاؤهم، والمعنى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الاقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والادبار والمذلة. الثالث: قال عبد الرحمن ابن زيد: هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وإريحاء من أرض الشام، كما جاؤوا منها بدءا، وطمس الوجوه على هذا التأويل يحتمل معنيين: أحدهما: تقبيح صورتهم يقال: طمس الله صورته كقوله: قبح الله وجهه، والثاني: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها.
فان قيل: إنه تعالى هددهم بطمس الوجوه على القول الثاني فلا إشكال البتة، وان فسرناه
121

على القول الأول وهو حمله على ظاهره فالجواب عنه من وجوه: الأول: أنه تعالى ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه، بل جعل الوعيد إما الطمس أو اللعن فإنه قال: * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * وقد فعل أحدهما وهو اللعن وهو قوله: * (أو نلعنهم) * وظاهره ليس هو المسخ. الثاني: قوله تعالى: * (آمنوا) * تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم، فلزم أن يكون قوله: * (من قبل أن نطمس وجوها) * واقعا في الآخرة، فصار التقدير: آمنوا من قبل أن يجئ وقت نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت. الثالث: أنا قد بينا أن قوله: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) * خطاب مع جميع علمائهم، فكان التهديد بهذا الطمس مشروطا بأن لا يأتي أحد منهم بالايمان، وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن عبد الله بن سلام وجمع كثير من أصحابه، ففات المشروط بفوات الشرط، ويقال: لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله كنت أرى أن لا أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. الرابع: أنه تعالى لم يقل: من قبل أن نطمس وجوهكم، بل قال: * (من قبل أن نطمس وجوها) * وعندنا أنه لا بد من طمس في اليهود أو مسخ قبل قيام الساعة، ومما يدل على أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيانهم، بل طمس وجوه غيرهم من أبناء جنسهم قوله: * (أو نلعنهم) * فذكرهم على سبيل المغايبة، ولو كان المراد أولئك المخاطبين لذكرهم على سبيل الخطاب، وحمل الآية على طريقة الالتفات وإن كان جائزا إلا أن الأظهر ما ذكرناه.
ثم قال تعالى: * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * قال مقاتل وغيره: نمسخهم قردة كما فعلنا ذلك بأوائلهم. وقال أكثر المحققين: الأظهر حمل الآية على اللعن المتعارف، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) * ففصل تعالى ههنا بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: إلى من يرجع الضمير في قوله: * (أو نلعنهم) *.
الجواب: إلى الوجوه إن أريد الوجهاء أو لأصحاب الوجوه، لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو يرجع إلى الذين أوتوا على طريقة الالتفات.
السؤال الثاني: قد كان اللعن والطمس حاصلين قبل الوعيد على الفعل فلا بد وأن يتحدا.
والجواب: أن لعنه تعالى لهم من بعد هذا الوعيد يكون أزيد تأثيرا في الخزي فيصح ذلك فيه.
السؤال الثالث: قوله تعالى: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) * خطاب مشافهة، وقوله: * (أو نلعنهم) * خطاب مغايبة، فكيف يليق أحدهما بالآخر؟
122

الجواب: منهم من حمل ذلك على طريقة الالتفات كما في قوله تعالى: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) * (يونس: 22) ومنهم من قال: هذا تنبيه على أن التهديد حاصل في غيرهم ممن يكذبون من أبناء جنسهم. وعندي فيه احتمال آخر: وهو أن اللعن هو الطرد والابعاد، وذكر البعيد لا يكون إلا بالمغايبة، فلما لعنهم ذكرهم بعبارة الغيبة.
ثم قال تعالى: * (وكان أمر الله مفعولا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: يريد لا راد لحكمه ولا ناقض لأمره، على معنى أنه لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، كما تقول في الشيء الذي لا شك في حصوله
: هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد. وإنما قال: * (وكان) * إخبارا عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين أنه مهما أخبرهم بانزال العذاب عليهم فعل ذلك لا محالة، فكأنه قيل لهم: أنتم تعلمون أنه كان تهديد الله في الأمم السالفة واقعا لا محالة، فاحترزوا الآن وكونوا على حذر من هذا الوعيد والله أعلم.
المسألة الثانية: احتج الجبائي بهذه الآية على أن كلام الله محدث فقال: قوله: * (وكان أمر الله مفعولا) * يقتضي أن أمره مفعول، والمخلوق والمصنوع والمفعول واحد، فدل هذا على أن أمر الله مخلوق مصنوع، وهذا في غاية السقوط لأن الأمر في اللغة جاء بمعنى الشأن والطريقة والفعل قال تعالى: * (وما أمر فرعون برشيد) * (هود: 97) والمراد ههنا ذاك.
قوله تعالى
* (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) *.
اعلم أن الله تعالى لما هدد اليهود على الكفر، وبين أن ذلك التهديد لا بد من وقوعه لا محالة بين أن مثل هذا التهديد من خواص الكفر، فأما سائر الذنوب التي هي مغايرة للكفر فليست حالها كذلك، بل هو سبحانه قد يعفو عنها، فلا جرم قال: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع، ويدل عليه وجهان: الأول: أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور، فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك
123

لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية، وبالاجماع هي غير مغفورة، فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك. الثاني: أن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود، فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك، وإلا لم يكن الأمر كذلك.
فان قيل: قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا) * إلى قوله: * (والذين أشركوا) * (الحج: 17) عطف المشرك على اليهودي، وذلك يقتضي المغايرة.
قلنا: المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي، والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي، ولا بد من المصير إلى ما ذكرناه دفعا للتناقض. إذا ثبتت هذه المقدمة فنقول: قال الشافعي رضي الله عنه: المسلم لا يقتل بالذمي، وقال أبو حنيفة: يقتل. حجة الشافعي أن الذمي مشرك لما ذكرناه، والمشرك مباح الدم لقوله تعالى: اقتلوا المشركين. فكان الذمي مباح الدم على الوجه الذي ذكرناه ومباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله، ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في حق النهي، فوجب أن يبقى معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله.
المسألة الثانية: هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر.
واعلم أن الاستدلال بها من وجوه: الوجه الأول: أن قوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * معناه لا يغفر الشرك على سبيل التفضل لأنه بالاجماع لا يغفر على سبيل الوجوب، وذلك عندما يتوب المشرك عن شركه، فإذا كان قوله: إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل، وجب أن يكون قوله: * (ويغفر ما دون ذلك) * هو أن يغفره على سبيل التفضل؛ حتى يكون النفي والاثبات متواردين على معنى واحد. ألا ترى أنه لو قال: فلان لا يعطي أحدا تفضلا، ويعطي زائدا فإنه يفهم منه أنه يعطيه تفضلا، حتى لو صرح وقال: لا يعطي أحدا شيئا على سبيل التفضل ويعطي أزيد على سبيل الوجوب، فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام، فثبت أن قوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * على سبيل التفضل. إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يكون المراد منه أصحاب الكبائر قبل التوبة، لأن عند المعتزلة غفران الصغيرة وغفران الكبيرة بعد التوبة واجب عقلا، فلا يمكن حمل الآية عليه، فإذا تقرر ذلك لم يبق إلا حمل الآية على غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب. الثاني: أنه تعالى قسم المنهيات على قسمين: الشرك وما سوى الشرك، ثم إن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة، والكبيرة بعد التوبة والصغيرة، ثم حكم على الشرك بأنه غير مغفور قطعا، وعلى ما سواه بأنه مغفور قطعا، لتكن في حق من يشاء، فصار تقدير الآية أنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك، لكن في حق
124

من شاء. ولما دلت الآية على أن كل ما سوى الشرك مغفور، وجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة أيضا مغفورة. الثالث: أنه تعالى قال: * (لمن يشاء) * فعلق هذا الغفران بالمشيئة، وغفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به، وغير معلق على المشيئة، فوجب أن يكون الغفران المذكور في هذه الآية هو غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب، واعترضوا على هذا الوجه الأخير بأن تعليق الأمر بالمشيئة لا ينافي وجوبه، ألا ترى أنه تعالى قال بعد هذه الآية: * (بل الله يزكي من يشاء) * (النساء: 49) ثم إنا نعلم أنه تعالى لا يزكي إلا من كان أهلا للتزكية، وإلا كان كذبا، والكذب على الله محال، فكذا ههنا.
واعلم أنه ليس للمعتزلة على هذه الوجوه كلام يلتفت إليه إلا المعارضة بعمومات الوعيد، ونحن نعارضها بعمومات الوعد، والكلام فيه على الاستقصاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * (البقرة: 81) فلا فائدة في الإعادة. وروى الواحدي في البسيط باسناده عن ابن عمر قال: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار، حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادات. وقال ابن عباس: إني لأرجو كما لا ينفع مع الشرك عمل، كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب. ذكر ذلك عند عمر بن الخطاب فسكت عمر. وروي مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتسموا بالايمان وأقربوا به فكما لا يخرج إحسان المشرك المشرك من إشراكه كذلك لا تخرج ذنوب المؤمن المؤمن من إيمانه ".
المسألة الثانية: روي عن ابن عباس انه قال: لما قتل وحشي حمزة يوم أحد، وكانوا قد وعدوه بالاعتاق ان هو فعل ذلك، ثم أنهم ما وفوا له بذلك، فعند ذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذنبهم، وانه لا يمنعهم عن الدخول في الاسلام إلا قوله تعالى: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) * (الفرقان:
68) فقالوا: قد ارتكبنا كل ما في الآية، فنزل قوله: * (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) * (الفرقان: 70) فقالوا: هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به، فنزل قوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * فقالوا: نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته، فنزل * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * (الزمر: 53) فدخلوا عند ذلك في الاسلام. وطعن القاضي في هذه الرواية وقال: ان من يريد الايمان لا يجوز منه المراجعة على هذا الحد؛ ولأن قوله: * (ان الله يغفر الذنوب جميعا) * (الزمر: 53) لو كان على اطلاقه لكان ذلك اغراء لهم بالثبات على ما هم عليه.
والجواب عنه: لا يبعد أن يقال: انهم استعظموا قتل حمزة وايذاء الرسول إلى ذلك
125

الحد، فوقعت الشبهة في قلوبهم أن ذلك هل يغفر لهم أم لا، فلهذا المعنى حصلت المراجعة. وقوله: هذا إغراء بالقبيح، فهو انه إنما يتم على مذهبه، أما على قولنا: انه تعالى فعال لما يريد، فالسؤال ساقط والله أعلم.
ثم قال: * (ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) * أي اختلق ذنبا غير مغفور، يقال: افترى فلان الكذب إذا اعتمله واختلقه، وأصله من الفري بمعنى القطع.
قوله تعالى
* (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشآء ولا يظلمون فتيلا * انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) *.
اعلم أنه تعالى لما هدد اليهود بقوله: * (ان الله لا يغفر أن يشرك به) * فعند هذا قالوا: لسنا من المشركين، بل نحن خواص الله تعالى كما حكى تعالى عنهم انه قالوا: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) وحكى عنهم أنهم قالوا: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * وحكى أيضا أنهم قالوا: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * (البقرة: 111) وبعضهم كانوا يقولون: أن آباءنا كانوا أنبياء فيشفعون لنا. وعن ابن عباس رضي الله عنه ان قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟ فقال لا، فقالوا: والله ما نحن إلا كهؤلاء: ما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل. وبالجملة فالقوم كانوا قد بالغوا في تزكية أنفسهم فذكر تعالى في هذه الآية أنه لا عبرة بتزكية الانسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: التزكية في هذا الموضع عبارة عن مدح الانسان نفسه، ومنه تزكية المعدل للشاهد، قال تعالى: * (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) * (النجم: 32) وذلك لأن التزكية متعلقة بالتقوى، والتقوى صفة في الباطن، ولا يعلم حقيقتها إلا الله، فلا جرم لا تصلح التزكية إلا من الله، فلهذا قال تعالى: * (بل الله يزكي من يشاء) *.
فان قيل: أليس أنه صلى الله عليه وسلم قال: " والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ".
قلنا: إنما قال ذلك حين قال المنافقون له: إعدل في القسمة، ولأن الله تعالى لما زكاه
126

أولا بدلالة المعجزة جاز له ذلك بخلاف غيره.
المسألة الثانية: قوله: * (بل الله يزكي من يشاء) * يدل على أن الايمان يحصل بخلق الله تعالى لأن أجل أنواع الزكاة والطهارة وأشرفها هو الايمان، فلما ذكر تعالى انه هو الذي يزكي من يشاء دل على أن ايمان المؤمنين لم يحصل إلا بخلق الله تعالى.
المسألة الثالثة: قوله: * (ولا يظلمون فتيلا) * هو كقوله: * (ان الله لا يظلم مثقال ذرة) * (النساء: 40) والمعنى ان الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية حق جزائهم من غير ظلم، أو يكون المعنى: أن الذين زكاهم الله فإنه يثيبهم على طاعاتهم ولا ينقص من ثوابهم شيئا، والفتيل ما فتلت بين إصبعيك من الوسخ، فعيل بمعنى مفعول، وعن ابن السكيت: الفتيل ما كان في شق النواة، والنقير النقطة التي في ظهر النواة، والقطمير القشرة الرقيقة على النواة، وهذه الأشياء كلها تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير، أي لا يظلمون لا قليلا ولا كثيرا.
ثم قال تعالى: * (انظر كيف يفترون على الله الكذب) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم من فريتهم على الله، وهي تزكيتهم أنفسهم وافتراؤهم على الله، وهو قولهم: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * وقولهم: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * وقولهم: ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل.
المسألة الثانية: مذهبنا أن الخبر عن الشيء إذا كان على خلاف المخبر عنه كان كذبا، سواء علم قائله كونه كذلك أو لم يعلم، وقال الجاحظ: شرط كونه كذبا أن يعلم كونه بخلاف ذلك، وهذه الآية دليل لنا لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم الزكاء والطهارة، ثم لما أخبروا بالزكاة والطهارة كذبهم الله فيه، وهذا يدل على ما قلناه.
ثم قال تعالى: * (وكفى به إثما مبينا) * وإنما يقال: كفى به في التعظيم على جهة المدح أو على جهة الذم، أما في المدح فكقوله: * (وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) * (النساء: 45) وأما في الذم فكما في هذا الموضع. وقوله: * (إثما مبينا) * منصوب على التمييز.
قوله تعالى
* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون
127

للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين ءامنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) *.
اعلم أنه تعالى حكى عن اليهود نوعا آخر من المكر، وهو أنهم كانوا يفضلون عبدة الأصنام على المؤمنين، ولا شك أنهم كانوا عالمين بأن ذلك باطل، فكان إقدامهم على هذا القول لمحض العناد والتعصب، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: روي أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشا على محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى تطمئن قلوبنا، ففعلوا ذلك. فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت، لأنهم سجدوا للأصنام، فقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقال كعب: ماذا يقول محمد؟ يأمر بعبادة الله وحده وينهي عن عبادة الأصنام وترك دين آبائه، وأوقع الفرقة. قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلا. فهذا هو المراد من قولهم: * (للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) * (النساء: 51).
المسألة الثانية: اختلف الناس في الجبت والطاغوت، وذكروا فيه وجوه: الأول: قال أهل اللغة: كل معبود دون الله فهو جبت وطاغوت، ثم زعم الأكثرون أن الجبت ليس له تصرف في اللغة. وحكى القفال عن بعضهم أن الجبت أصله جبس، فأبدلت السين تاء، والجبس هو الخبيث الردئ، وأما الطاغوت فهو مأخوذ من الطغيان، وهو الاسراف في المعصية، فكل من دعا إلى المعاصي الكبار لزمه هذا الاسم، ثم توسعوا في هذا الاسم حتى أوقعوه على الجماد، كما قال تعالى: * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * (إبراهيم: 35 - 36) فأضاف الاضلال إلى الأصنام مع أنها جمادات. الثاني: قال صاحب " الكشاف ": الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله، والطاغوت الشيطان. الثالث: الجبت الأصنام، والطاغوت تراجمة الأصنام يترجمون للناس عنها الأكاذيب فيضلونهم بها، وهو منقول عن ابن عباس. الرابع: روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الجبت الكاهن، والطاغوت الساحر. الخامس: قال الكلبي: الجبت في هذه الآية حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف، وكانت اليهود يرجعون إليهما، فسميا بهذين الاسمين لسعيهما في إغواء
128

الناس وإضلالهم. السادس: الجبت والطاغوت صنمان لقريش، وهما الصنمان اللذان سجد اليهود لهما طلبا لمرضاة قريش، وبالجملة فالأقاويل كثيرة، وهما كلمتان وضعتا علمين على من كان غاية في الشر والفساد. ثم قال تعالى: * (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) * فبين أن عليهم اللعن من الله وهو الخذلان والابعاد، وهو ضد ما للمؤمنين من القربة والزلفى؛ وأخبر بعده بأن من يلعنه الله فلا ناصر له، كما قال: * (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) * (الأحزاب: 61) فهذا اللعن حاضر، وما في الآخرة أعظم، وهو يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، وفيه وعد للرسول صلى الله عليه وسلم بالنصرة وللمؤمنين بالتقوية، بالضد على الضد، كما قال في الآيات المتقدمة: * (وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) * (النساء: 45).
واعلم أن القوم إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم يجري مجرى المكابرة، فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله! ومن كان دينه الاقبال بالكلية على خدمة الخالق والاعراض عن الدنيا والاقبال على الآخرة، كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال والله أعلم.
قوله تعالى
* (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) *.
اعلم أنه تعالى وصف اليهود في الآية المتقدمة بالجهل الشديد، وهو اعتقادهم أن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى، ووصفهم في هذه الآية بالبخل والحسد، فالبخل هو أن لا يدفع لأحد شيئا مما آتاه الله من النعمة، والحسد هو أن يتمنى أن لا يعطي الله غيره شيئا من النعم، فالبخل والحسد يشتركان في أن صاحبه يريد منع النعمة من الغير، فأما البخيل فيمنع نعمة نفسه عن الغير، وأما الحاسد فيريد أن يمنع نعمة الله من عبادة، وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية لأن النفس الانسانية لها قوتان: القوة العالمة والقوة العاملة، فكمال القوة العالمة العلم، ونقصانها الجهل، وكمال القوة العاملة: الأخلاق الحميدة، ونقصانها الأخلاق الذميمة، وأشد الأخلاق الذميمة نقصانا البخل والحسد، لأنهما منشآن لعود المضار إلى عباد الله.
إذا عرفت هذا فنقول: إنما قدم وصفهم بالجهل على وصفهم بالبخل والحسد لوجهين: الأول: أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية في الشرف والرتبة وأصل لها، فكان شرح حالها يجب
129

أن يكون مقدما على شرح حال القوة العملية. الثاني: أن السبب لحصول البخل والحسد هو الجهل، والسبب مقدم على المسبب، لا جرم قدم تعالى ذكر الجهل على ذكر البخل والحسد. وإنما قلنا: إن الجهل سبب البخل والحسد: أما البخل فلأن بذل المال سبب لطهارة النفس ولحصول السعادة في الآخرة، وحبس المال سبب لحصول مال الدنيا في يده، فالبخل يدعوك إلى الدنيا ويمنعك عن الآخرة، والجود يدعوك إلى الآخرة ويمنعك عن الدنيا، ولا شك أن ترجيح الدنيا على الآخرة لا يكون إلا من محض الجهل. وأما الحسد فلأن الإلهية عبارة عن إيصال النعم والاحسان إلى العبيد، فمن كره ذلك فكأنه أراد عزل الاله عن الإلهية، وذلك محض الجهل. فثبت أن السبب الأصلي للبخل والحسد هو الجهل، فلما ذكر تعالى الجهل أردفه بذكر البخل والحسد ليكون المسبب مذكورا عقيب السبب، فهذا هو الإشارة إلى نظم هذه الآية، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: " أم " ههنا فيه وجوه: الأول: قال بعضهم: الميم صلة، وتقديره: ألهم لأن حرف " أم " إذا لم يسبقه استفهام كان الميم فيه صلة. الثاني: أن " أم " ههنا متصلة، وقد سبق ههنا استفهام على سبيل المعنى، وذلك لأنه تعالى لما حكى عن هؤلاء الملعونين قولهم للمشركين: انهم أهدى سبيلا من المؤمنين، عطف عليه بقوله: * (أم لهم نصيب) * فكأنه تعالى قال: أمن ذلك يتعجب، أم من قولهم: لهم نصيب من الملك، مع أنه لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل. الثالث: أن " أم " ههنا منقطعة وغير متصلة بما قبلها البتة، كأنه لما تم الكلام الأول قال: بل لهم نصيب من الملك، وهذا الاستفهام استفهام بمعنى الانكار، يعني ليس لهم شيء من الملك
البتة، وهذا الوجه أصح الوجوه.
المسألة الثانية: ذكروا في هذا الملك وجوها: الأول اليهود كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب؟ فأبطل الله عليهم قولهم في هذه الآية. الثاني: أن اليهود كانوا يزعمون أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان، وذلك أنه يخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم، فكذبهم الله في هذه الآية. الثالث: المراد بالملك ههنا التمليك، يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك إليهم، ولو كان التمليك إليهم لبخلوا بالنقير والقطمير، فكيف يقدرون على النفي والاثبات. قال أبو بكر الأصم: كانوا أصحاب بساتين وأموال، وكانوا في عزة ومنعة ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل، فنزلت هذه الآية.
المسألة الثالثة: أنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم، وهذا يدل على أن الملك والبخل لا يجتمعان، وتحقيق الكلام فيه من حيث العقل أن الانقياد للغير أمر مكروه لذاته، والانسان لا يتحمل المكروه إلا إذا وجد في مقابلته أمرا مطلوبا مرغوبا فيه، وجهات الحاجات
130

محيطة بالناس، فإذا صدر من إنسان احسان إلى غيره صارت رغبة المحسن إليه في ذلك المال سببا لصيرورته منقادا مطيعا له، فلهذا قيل: بالبر يستعبد الحر، فإذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصا عن المعارض، فلا يحصل الانقياد البتة، فثبت أن الملك والبخل لا يجتمعان ثم إن الملك على ثلاثة أقسام: ملك على الظواهر فقط، وهذا هو ملك الملوك، وملك على البواطن فقط، وهذا هو ملك العلماء، وملك على الظواهر والبواطن معا، وهذا هو ملك الأنبياء صلوات الله عليهم. فإذا كان الجود من لوازم الملك وجب في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا في غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة، ليصير كل واحد من هذه الأخلاق سببا لانقياد الخلق لهم، وامتثالهم لأوامرهم. وكمال هذه الصفات حاصل لمحمد عليه الصلاة والسلام.
المسألة الرابعة: قال سيبويه: " إذن " في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء، وتقريره أن الظن إذا وقع في أول الكلام نصب لا غير، كقولك أظن زيدا قائما، وإن وقع في الوسط جاز إلغاؤه وإعماله، كقوله: زيد أظن قائم، وإن شئت قلت زيدا أظن قائما، وإن تأخر فالأحسن إلغاؤه، تقول زيد منطلق ظننت، والسبب فيما ذكرناه أن " ظن " وما أشبهه من الأفعال نحو علم وحسب ضعيفة في العمل، لأنها لا تؤثر في معمولاتها، فإذا تقدم دل التقديم في الذكر على شدة العناية فقوي على التأثير، وإذا تأخر دل على عدم العناية فلغا، وإن توسط فحينئذ لا يكون في محل العناية من كل الوجوه، ولا في محل الاهمال من كل الوجوه، بل كانت كالمتوسطة في هاتين الحالتين فلا جرم كان الأعمال والالغاء جائزا.
واعلم أن الأعمال في حال التوسط أحسن، والالغاء حال التأخر أحسن.
إذا عرفت هذا فنقول: كلمة " إذن " على هذا الترتيب أيضا، فان تقدمت نصبت الفعل، تقول إذن أكرمك، وإن توسطت أو تأخرت جاز الالغاء، تقول أنا إذن أكرمك، وأنا أكرمك إذن فتلغيه في هاتين الحالتين.
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله تعالى: * (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * كلمة " إذن " فيها متقدمة وما عملت، فذكروا في العذر وجوها: الأول: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والتقدير: لا يؤتون الناس نقيرا إذن. الثاني: أنها لما وقعت بين الفاء والفعل جاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما تلغى إذا توسطت أو تأخرت، وهكذا سبيلها مع الواو كقوله تعالى: * (وإذا لا يلبثون خلفك) * والثالث: قرأ ابن مسعود * (فإذا لا يؤتوا) * على إعمال " إذن " عملها الذي هو النصب.
المسألة الخامسة: قال أهل اللغة: النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة، وأصله أنه
131

فعيل من النقر، ويقال للخشب الذي ينقر فيه نقير لأنه ينقر، والنقر ضرب الحجر وغيره بالمنقار والمنقار حديدة كالفأس تقطع بها الحجارة، والغرض انهم يبخلون بأقل القليل.
قوله تعالى
* (أم يحسدون الناس على مآ ءاتاهم الله من فضله فقد ءاتينآ ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما * فمنهم من ءامن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: أم: منقطعة، والتقدير بل يحسدون الناس.
المسألة الثانية: في المراد بلفظ " الناس " قولان: الأول: وهو قول ابن عباس والأكثرين انه محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا في الجمع العظيم، ومن هذا يقال: فلان أمة وحده، أي يقوم مقام أمة، قال تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة قانتا) * (النحل: 120).
والقول الثاني: المراد ههنا هو الرسول ومن معه من المؤمنين، وقال من ذهب إلى هذا القول: ان لفظ الناس جمع، فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد.
واعلم أنه إنما حسن ذكر الناس لإرادة طائفة معينة من الناس، لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية، كما قال تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا صلى الله عليه وسلم ومن كان على دينه كان وهو وأصحابه كأنهم كل الناس، فلهذا حسن إطلاق لفظ الناس وإرادتهم على التعيين:
المسألة الثالثة: اختلفوا في تفسير الفضل الذي لأجله صاروا محسودين على قولين:
فالقول الأول: انه هو النبوة والكرامة الحاصلة بسببها في الدين والدنيا.
والقول الثاني: انهم حسدوه على أنه كان له من الزوجات تسع.
132

واعلم أن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة، فكلما كانت فضيلة الانسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين، ثم انه تعالى أعطاها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وضم إليها انه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارا وأعوانا وكل ذلك مما يوجب الحسد العظيم. فاما كثرة النساء فهو كالأمر الحقير بالنسبة إلى ما ذكرناه، فلا يمكن تفسير هذا الفضل به، بل إن جعل الفضل اسما لجميع ما أنعم الله تعالى به عليه دخل هذا أيضا تحته، فأما على سبيل القصر عليه فبعيد. واعلم أنه تعالى لما بين أن كثرة نعم الله عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود بين ما يدفع ذلك فقال: * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) * (النساء: 54) والمعنى أنه حصل في أولاد إبراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك، وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونه، فلم تتعجبون من حال محمد ولم تحسدونه؟
واعلم أن * (الكتاب) * إشارة إلى ظواهر الشريعة * (والحكمة) * إشارة إلى أسرار الحقيقة، وذلك هو كمال العلم، وأما الملك العظيم فهو كمال القدرة. وقد ثبت أن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة، فهذا الكلام تنبيه على أنه سبحانه آتاهم أقصى ما يليق بالانسان من الكمالات، ولما لم يكن ذلك مستبعدا فيهم لا يكون مستبعدا في حق محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنهم لما استكثروا نساءه قيل لهم: كيف استكثرتهم له التسع، وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلثمائة بالمهر وسبعمائة سرية؟
ثم قال تعالى: * (منهم من آمن به ومنهم من صد عنه) * واختلفوا في معنى " به " فقال بعضهم: بمحمد عليه الصلاة والسلام، والمراد أن هؤلاء القوم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب آمن بعضهم وبقي بعضهم على الكفر والانكار. وقال آخرون: المراد من تقدم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والمعنى أن أولئك الأنبياء مع ما خصصتهم به من النبوة والملك جرت عادت أممهم فيهم أن بعضهم آمن به وبعضهم بقوا على الكفر، فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء القوم، فان أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت، وذلك تسلية من الله ليكون أشد صبرا على ما ينال من قبلهم.
ثم قال: * (وكفى بجهنم سعيرا) * أي كفى بجهنم في عذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين. سعيرا، والسعير الوقود، يقال أوقدت النار وأسعرتها بمعنى واحد.
133

قوله تعالى
* (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما) *.
اعلم أنه تعالى بعدما ذكر الوعيد بالطائفة الخاصة من أهل الكتاب بين ما يعم الكافرين من الوعيد فقال: * (إن الذين كفروا بآياتنا) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: يدخل في الآيات كل ما يدل على ذات الله وأفعاله وصفاته وأسمائه والملائكة والكتب والرسل، وكفرهم بالآيات ليس يكون بالجحد، لكن بوجوه، منها أن ينكروا كونها آيات، ومنها أن يغفلوا عنها فلا ينظروا فيها. ومنها أن يلقوا الشكوك والشبهات فيها. ومنها: أن ينكروها مع العلم بها على سبيل العناد والحسد، وأما حد الكفر وحقيقته فقد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (ان الذين كفروا سواء عليهم) * (البقرة: 6).
المسألة الثانية: قال سيبويه: " سوف " كلمة تذكر للتهديد والوعيد، يقال: سوف أفعل، وينوب عنها حرف السين كقوله: * (سأصليه سقر) * وقد ترد كلمة " سوف " في الوعد أيضا قال تعالى: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * وقال: * (سوف أستغفر لكم ربي) * قيل أخره إلى وقت السحر تحقيقا للدعاء، وبالجملة فكلمة " السين " و " سوف " مخصوصتان بالاستقبال.
المسألة الثالثة: قوله: * (نصليهم) * أي ندخلهم النار، لكن قوله: * (نصليهم) * فيه زيادة على ذلك فإنه بمنزلة شويته بالنار، يقال شاة مصلية أي مشوية.
ثم قال تعالى: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) * وفيه سؤالان:
السؤال الأول: لما كان تعالى قادرا على ابقائهم أحياء في النار أبد الآباد فلم لم يبق أبدانهم في النار مصونة عن النضج والاحتراق مع أنه يوصل إليها الآلام الشديدة، حتى لا يحتاج إلى تبديل جلودهم بجلود أخرى؟
والجواب: أنه تعالى لا يسأل عما يفعل، بل نقول: انه تعالى قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاما عظيمة من غير إدخال النار مع أنه تعالى أدخلهم النار.
السؤال الثاني: الجلود العاصية إذا احترقت فلو خلق الله مكانها جلودا أخرى وعذبها كان
134

هذا تعذيبا لمن لم يعص وهو غير جائز. والجواب عنه من وجوه: الأول: أن يجعل النضج غير النضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة، فإذا كانت الذات واحدة كان العذاب لم يصل إلا إلى العاصي، وعلى هذا التقدير المراد بالغيرية التغاير في الصفة. الثاني: المعذب هو الانسان، وذلك الجلد ما كان جزأ من ماهية الانسان، بل كان كالشئ الملتصق به الزائد على ذاته، فإذا جدد الله الجلد وصار ذلك الجلد الجدد سببا لوصول العذاب إليه لم يكن ذلك تعذيبا الا للعاصي. الثالث: أن المراد بالجلود السرابيل، قال تعالى: * (سرابيلهم من قطران) * (إبراهيم: 50) فتجديد الجلود إنما هو تجديد السرابيلات. طعن القاضي فيه، فقال: انه ترك للظاهر، وأيضا السرابيل من القطران لا توصف بالنضج، وإنما توصف بالاحتراق. الرابع: يمكن أن يقال: هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع، كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ، وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ من أوله، فكذا قوله: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * (النساء: 56) يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه.
الخامس: قال السدي: إنه تعالى يبدل الجلود من لحم الكافر فيخرج من لحمه جلدا آخر وهذا بعيد، لأن لحمه متناه، فلا بد وأن ينفد، وعند نفاد لحمه لا بد من طريق آخر في تبديل الجلد، ولم يكن ذلك الطريق مذكورا أولا والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (ليذوقوا العذاب) * وفيه سؤالان:
السؤال الأول: قوله: * (ليذوقوا العذاب) * أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للمعزوز: أعزك الله، أي أدامك على العز وزادك فيه. وأيضا المراد ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب، وإلا فهم ذائقون مستمرون عليه.
السؤال الثاني: أنه إنما يقال: فلان ذاق العذاب إذا أدرك شيئا قليلا منه، والله تعالى قد وصف أنهم كانوا في أشد العذاب، فكيف يحسن أن يذكر بعد ذلك أنهم ذاقوا العذاب؟
والجواب: المقصود من ذكر الذوق الاخبار بأن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كاحساس الذائق المذوق، من حيث أنه لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق.
ثم قال تعالى: * (إن الله كان عزيزا حكيما) * والمراد من العزيز: القادر الغالب، ومن الحكيم: الذي لا يفعل إلا الصواب، وذكرهما في هذا الموضع في غاية الحسن، لأنه يقع في القلب تعجب من أنه كيف يمكن بقاء الانسان في النار الشديدة أبد الآباد! فقيل: هذا ليس بعجيب من الله،
135

لأنه القادر الغالب على جميع الممكنات، يقدر على إزالة طبيعة النار، ويقع في القلب أنه كريم رحيم، فكيف يليق برحمته تعذيب هذا الشخص الضعيف إلى هذا الحد العظيم؟ فقيل: كما أنه رحيم فهو أيضا حكيم، والحكمة تقتضي ذلك. فان نظام العالم لا يبقى إلا بتهديد العصاة، والتهديد الصادر منه لا بد وأن يكون مقرونا بالتحقيق صونا لكلامه عن الكذب، فثبت أن ذكر هاتين الكلمتين ههنا في غاية الحسن.
قوله تعالى
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيهآ أبدا لهم فيهآ أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا) *.
اعلم أنه قد جرت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم بأن الوعد والوعيد يتلازمان في الذكر على سبيل الأغلب، وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى: هذه الآية دالة على أن الايمان غير العمل، لأنه تعالى عطف العمل على الايمان، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه. قال القاضي: متى ذكر لفظ الايمان وحده دخل فيه العمل، ومتى ذكر معه العمل كان الايمان هو التصديق، وهذا بعيد لأن الأصل عدم الاشتراك وعدم التغير، ولولا أن الأمر كذلك لخرج القرآن عن كونه مفيدا. فلعل هذه الألفاظ التي نسمعها في القرآن يكون لكل واحد منها معنى سوى ما نعلمه، ويكون مراد الله تعالى منه ذلك المعنى لا هذا الذي تبادرت أفهامنا إليه. هذا على القول بأن احتمال الاشتراك والافراد على السوية، وأما على القول بأن احتمال البقاء على الأصل واحتمال التغيير متساويان فلا، لأن على هذا التقدير يحتمل أن يقال: هذه الألفاظ كانت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم موضوعة لمعنى آخر غير ما نفهمه الآن، ثم تغيرت إلى هذا الذي نفهمه الآن. فثبت أن على هذين التقديرين يخرج القرآن عن كونه حجة، وإذا ثبت أن الاشتراك والتغيير خلاف الأصل اندفع كلام القاضي.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى ذكر في شرح ثواب المطيعين أمورا: أحدها: أنه تعالى يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وقال الزجاج: المراد تجري من تحتها مياه الأنهار، واعلم أنه إن جعل النهر اسما لمكان الماء كان الأمر مثل ما قاله الزجاج، أما إن جعلناه في المتعارف اسما لذلك
136

الماء فلا حاجة إلى هذا الأقمار، وثانيها: أنه تعالى وصفها بالخلود والتأبيد، وفيه رد على جهم بن صفوان حيث يقول: إن نعيم الجنة وعذاب النار ينقطعان، وأيضا أنه تعالى ذكر مع الخلود التأبيد، ولو كان الخلود عبارة عن التأبيد لزم التكرار وهو غير جائز، فدل هذا أن الخلود ليس عبارة عن التأبيد، بل هو عبارة عن طول المكث من غير بيان أنه منقطع أو غير منقطع، وإذا ثبت هذا الأصل فعند هذا يبطل استدلال المعتزلة بقوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * (النساء: 93) على أن صاحب الكبيرة يبقى في النار على سبيل التأبيد، لأنا بينا بدلالة هذه الآية أن الخلود لطول المكث لا للتأبيد، وثالثها: قوله تعالى: * (لهم فيها أزواج مطهرة) * والمراد طهارتهن من الحيض والنفاس وجميع أقذار الدنيا، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة: * (لهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) * واللطائف اللائقة بهذا الموضع قد ذكرناها في تلك الآية. ورابعها: قوله: * (وندخلهم ظلا ظليلا) * قال الواحدي: الظليل ليس ينبئ عن الفعل حتى يقال: إنه بمعنى فاعل أو مفعول، بل هو مبالغة في نعت الظل، مثل قولهم: ليل أليل.
واعلم أن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة، فكان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة، ولهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة. قال عليه الصلاة السلام: " السلطان ظل الله في الأرض " فإذا كان الظل عبارة عن الراحة كان الظليل كناية عن المبالغة العظيمة في الراحة، هذا ما يميل إليه خاطري، وبهذا الطريق يندفع سؤال من يقول: إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل. وأيضا نرى في الدنيا أن المواضع التي يدوم الظل فيها ولا يصل نور الشمس إليها يكون هواؤها عفنا فاسدا مؤذيا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك لأن على هذا الوجه الذي لخصناه تندفع هذه الشبهات.
قوله تعالى
* (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) *.
اعلم أنه سبحانه لما شرح بعض أحوال الكفار وشرح وعيده عاد إلى ذكر التكاليف مرة أخرى، وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا
: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور، سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات، أو من باب الدنيا والمعاملات، وأيضا لما ذكر في الآية السابقة الثواب العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكان من أجل الأعمال الصالحة الأمانة
137

لا جرم أمر بها في هذه الآية. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدار وكان سادن الكعبة باب الكعبة، وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح إليه، وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى علي بين أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذه منه وفتح، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه الآية، فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه، فقال عثمان لعلي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فهبط جبريل عليه السلام وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبدا. فهذا قول سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق. وقال أبو روق: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: أعطني المفتاح فقال: هاك بأمانة الله، فلما أراد أن يتناوله ضم يده، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك مرة ثانية: ان كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فأعطني المفتاح، فقال: هاك بأمانة الله، فلما أراد أن يتناوله ضم يده، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك مرة ثالثة، فقال عثمان في الثالثة: هاك بأمانة الله ودفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يطوف ومعه المفتاح وأراد أن يدفعه إلى العباس، ثم قال: يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس نصيبا معك، فأنزل الله هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: " هاك خالدة تالدة لا ينزعها منك إلا ظالم " ثم إن عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده اليوم.
المسألة الثانية: اعلم أن نزول هذه الآية عند هذه القصة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القضية، بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات، واعلم أن معاملة الانسان اما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد، أو مع نفسه، ولا بد من رعاية الأمانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة.
أما رعاية الأمانة مع الرب: فهي في فعل المأمورات وترك المنهيات، وهذا بحر لا ساحل له قال ابن مسعود: الأمانة في كل شيء لازمة، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إنه تعالى خلق فرج الانسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلا بحقها، واعلم أن هذا باب واسع، فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها، وأمانة العين أن لا يستعملها في النظر إلى الحرام، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي، وسماع الفحش والأكاذيب وغيرها، وكذا القول
138

في جميع الأعضاء.
وأما القسم الثاني: وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيها رد الودائع، ويدخل فيه ترك التطفيف في الكيل والوزن، ويدخل فيه أن لا يفشي على الناس عيوبهم، ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعدل العلماء مع العوام بأن لا يحملوهم على التعصبات الباطلة، بل يرشدونهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ونهيهم عن قولهم للكفار: ان ما أنتم عليه أفضل من دين محمد صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام برد المفتاح إلى عثمان بن طلحة، ويدخل فيه أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها، وفي أن لا تلحق بالزوج ولدا يولد من غيره. وفي اخبارها عن انقضاء عدتها.
وأما القسم الثالث: وهو أمانة الانسان مع نفسه فهو أن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا، وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " فقوله: * (يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * يدخل فيه الكل، وقد عظم الله أمر الأمانة في مواضع كثيرة من كتابه فقال: * (انا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان) * (الأحزاب: 72) وقال: * (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) * (المؤمنون: 8) وقال: * (ولا تخونوا أماناتكم) * (الأنفال: 27) وقال عليه الصلاة والسلام: " لا أيمان لمن لا أمانة له) * وقال ميمون بن مهران: ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة والعهد وصلة الرحم. وقال القاضي: لفظ الأمانة وان كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية: * (ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * فوجب أن يكون المراد بهذه الأمانة ما يجري مجرى المال؛ لأنها هي التي يمكن أداؤها إلى الغير.
المسألة الثالثة: الأمانة مصدر سمي به المفعول، ولذلك جمع فإنه جعل اسما خالصا. قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (الأمانة) * على التوحيد.
المسألة الرابعة: قال أبو بكر الرازي: من الأمانات الودائع، ويجب ردها عند الطلب والأكثرون على أنها غير مضمونة. وعن بعض السلف أنها مضمونة، روى الشعبي عن أنس قال: استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي، فضمنني عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وعن أنس قال: كان لانسان عندي وديعة ستة آلاف درهم فذهبت، فقال عمر: ذهب لك معها شيء؟ قلت لا، فألزمني الضمان، وحجة القول المشهور ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه قال: قال رسول
139

الله صلى الله عليه وسلم: " لا ضمان على راع ولا على مؤتمن " وأما فعل عمر فهو محمول على أن المودع اعترف بفعل يوجب الضمان.
المسألة الخامسة: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: العارية مضمونة بعد الهلاك، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: غير مضمونة. حجة الشافعي قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * وظاهر الأمر للوجوب، وبعد هلاكها تعذر ردها بصورتها، ورد ضمانها ردها بمعناها، فكانت الآية دالة على وجوب التضمين. ونظير هذه الآية قوله عليه الصلاة والسلام: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " أقصى ما في الباب أن الآية مخصوصة في الوديعة، لكن العام بعد
التخصيص حجة، وأيضا فلأنا أجمعنا على أن المستام مضمون، وأن المودع غير مضمون، والعارية وقعت في البين، فنقول: المشابهة بين العارية وبين المستام أكثر، لأن كل واحد منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه، بخلاف المودع، فإنه أخذ الوديعة لغرض المالك، فكانت المشابهة بين المستعار وبين المستام أتم، فظهر الفرق بين المستعار وبين المودع. حجة أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام: " لا ضمان على مؤتمن ".
قلنا: إنه مخصوص في المستام، فكذا في العارية، ولأن دليلنا ظاهر القرآن وهو أقوى.
قوله تعالى: * (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الأمانة عبارة عما إذا وجب لغيرك عليك حق فأديت ذلك الحق إليه فهذا هو الأمانة، والحكم بالحق عبارة عما إذا وجب لانسان على غيره حق فأمرت من وجب عليه ذلك الحق بأن يدفعه إلى من له ذلك الحق، ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الانسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بغيره، لا جرم أنه تعالى ذكر الأمر بالأمانة أولا، ثم بعده ذكر الأمر بالحكم بالحق، فما أحسن هذا الترتيب، لأن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.
140

المسألة الثانية: أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل قال تعالى: * (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) * والتقدير: إن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. وقال: * (أن الله يأمر بالعدل والاحسان) * (النحل: 90) وقال: * (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) * وقال: * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) * (ص: 26) وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت " وعن الحسن قال: ان الله أخذ على الحكام ثلاثا: أن لا يتبعوا الهوى، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس، ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا. ثم قرأ * (يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض) * إلى قوله: * (ولا تتبع الهوى) * (ص: 26) وقرأ * (انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون) * (المائدة: 44) إلى قوله: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * (البقرة: 41) ومما يدل على وجوب العدل الآيات الواردة في مذمة الظلم قال تعالى: * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) * (الصافات: 22) وقال عليه الصلاة والسلام: " ينادي منادي يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة، فيجمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة فيجمعون ويلقون في النار " وقال أيضا: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) * (إبراهيم: 42) وقال: * (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) * (النمل: 52).
فان قيل: الغرض من الظلم منفعة الدنيا.
فأجاب الله عن السؤال بقوله: * (لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين) * (القصص: 58).
المسألة الثالثة: قال الشافعي رضي الله عنه: ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء: في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والاقبال عليهما، والاستماع منهما، والحكم عليهما قال: والمأخوذ عليه التسوية بينهما في الأفعال دون القلب، فان كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته على الآخر فلا شيء عليه لأنه لا يمكنه التحرز عنه. قال: ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته، ولا شاهدا شهادته لأن ذلك يضر بأحد الخصمين، ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف، ولا يلقن المدعي عليه الانكار والاقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا، ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر لأن ذلك يكسر قلب الآخر، ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما، ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يضيف الخصم الا وخصمه معه. وتمام الكلام فيه مذكور في كتب الفقه، وحاصل الأمر فيه أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه، وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر، وذلك هو المراد بقوله: * (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) *.
141

المسألة الرابعة: قوله: * (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) * كالتصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم، بل ذلك لبعضهم، ثم بقيت الآية مجملة في أنه بأي طريق يصير حاكما ولما دلت سائر الدلائل على أنه لا بد للأمة من الامام الأعظم، وأنه هو الذي ينصب القضاة والولاة في البلاد، صارت تلك الدلائل كالبيان لما في هذه الآية من الاجمال.
ثم قال تعالى: * (إن الله يعظكم به) * أي نعم شيء يعظكم به، أو نعم الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف، أي نعم شيء يعظكم به ذاك، وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل.
ثم قال: * (إن الله كان سميعا بصيرا) * أي اعملوا بأمر الله ووعظه فإنه أعلم بالمسموعات والمبصرات يجازيكم على ما يصدر منكم، وفيه دقيقة أخرى، وهي أنه تعالى لما أمر في هذه الآيات بالحكم على سبيل العدل وبأداء الأمانة قال: * (إن الله كان سميعا بصيرا) * أي إذا حكمت بالعدل فهو سميع لكل المسموعات يسمع ذلك الحكم، وإن أديت الأمانة فهو بصير لكل المبصرات يبصر ذلك، ولا شك أن هذا أعظم أسباب الوعد للمطيع، وأعظم أسباب الوعيد للعاصي، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: " اعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك " وفيه دقيقة أخرى، وهي أن كلما كان احتياج العبد أشد كانت عناية الله أكمل، والقضاة والولاة قد فوض الله إلى أحكامهم مصالح العباد، فكان الاهتمام بحكمهم وقضائهم أشد، فهو سبحانه منزه عن الغفلة والسهو والتفاوت في ابصار المبصرات وسماع المسموعات، ولكن لو فرضنا أن هذا التفاوت كان ممكنا لكان أولى المواضع بالاحتراز عن الغفلة والنسيان هو وقت حكم الولاة والقضاة، فلما كان هذا الموضع مخصوصا بمزيد العناية لا جرم قال في خاتمة هذه الآية: * (إن الله كان سميعا بصيرا) * فما أحسن هذه المقاطع الموافقة لهذه المطالع.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير وأحسن تأويلا) *.
142

اعلم أنه تعالى لما أمر الرعاة والولاة بالعدل في الرعية أمر الرعية بطاعة الولاة فقال: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله) * ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حق على الامام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة: الطاعة موافقة الإرادة، وقال أصحابنا: الطاعة موافقة الأمر لا موافقة الإرادة. لنا أنه لا نزاع في أن موافقة الأمر طاعة، إنما النزاع أن المأمور به هل يجب أن يكون مرادا أم لا؟ فإذا دللنا على أن المأمور به قد لا يكون مرادا ثبت حينئذ أن الطاعة ليست عبارة عن موافقة الإرادة، وإنما قلنا إن الله قد يأمر بما لا يريد لأن علم الله وخبره قد تعلقا بأن الايمان لا يوجد من أبي لهب البتة، وهذا العلم وهذا الخبر يمتنع زوالهما وانقلابهما جهلا، ووجود الايمان مضاد ومناف لهذا العلم ولهذا الخبر، والجمع بين الضدين محال، فكان صدور الايمان من أبي لهب محالا. والله تعالى عالم بكل هذه الأحوال فيكون عالما بكونه محالا، والعالم بكون الشيء محالا لا يكون مريدا له، فثبت أنه تعالى غير مريد للايمان من أبي لهب وقد أمره بالايمان فثبت أن الأمر قد يوجد بدون الإرادة، وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن طاعة الله عبارة عن موافقة أمره لا عن موافقة إرادته، وأما المعتزلة فقد احتجوا على أن الطاعة اسم لموافقة الإرادة بقول الشاعر: رب من أنضجت غيظا صدره قد تمنى لي موتا لم يطع
رتب الطاعة على التمني وهو من جنس الإرادة.
والجواب: أن العاقل عالم بأن الدليل القاطع الذي ذكرناه لا يليق معارضته بمثل هذه الحجة الركيكة.
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية آية شريفة مشتملة على أكثر علم أصول الفقه، وذلك لأن الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربع: الكتاب والسنة والاجماع والقياس، وهذه الآية مشتملة على تقرير هذه الأصول الأربعة بهذا الترتيب. أما الكتاب والسنة فقد وقعت الإشارة إليهما بقوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) *.
فان قيل: أليس أن طاعة الرسول هي طاعة الله، فما معنى هذا العطف؟
قلنا: قال القاضي: الفائدة في ذلك بيان الدلالتين، فالكتاب يدل على أمر الله، ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة، والسنة تدل على أمر الرسول، ثم نعلم منه أمر الله لا محالة، فثبت بما ذكرنا أن قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * يدل على وجوب متابعة الكتاب والسنة.
143

المسألة الثالثة: اعلم أن قوله: * (وأولي الأمر منكم) * يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ والخطأ لكونه خطأ منهي عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وانه محال، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ، فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما، ثم نقول: ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة، لا جائز أن يكون بعض الأمة؛ لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا، وإيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة، ولا طائفة من طوائفهم. ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله: * (وأولي الأمر) * أهل الحل والعقد من الأمة، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة.
فان قيل: المفسرون ذكروا في * (أولي الأمر) * وجوها أخرى سوى ما ذكرتم: أحدها: أن المراد من أولي الأمر الخلفاء الراشدون، والثاني: المراد أمراء السرايا، قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عبد الله بن حذافة السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم أميرا على سرية. وعن ابن عباس أنها نزلت في خالد بن الوليد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم أميرا على سرية وفيها عمار بن ياسر، فجرى بينهما اختلاف في شيء، فنزلت هذه الآية وأمر بطاعة أولي الأمر. وثالثها: المراد العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم، وهذا رواية الثعلبي عن ابن عباس وقول الحسن ومجاهد والضحاك. ورابعها: نقل عن الروافض أن المراد به الأئمة المعصومون، ولما كانت أقوال الأمة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه، وكان القول الذي نصرتموه خارجا عنها كان ذلك باجماع الأمة باطلا.
السؤال الثاني: أن نقول: حمل أولي الأمر على الأمراء والسلاطين أولي مما ذكرتم. ويدل عليه وجوه: الأول: أن الامراء والسلاطين أوامرهم نافذة على الخلق، فهم في الحقيقة أولو الأمر
144

أما أهل الاجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق، فكان حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى. والثاني: أن أول الآية وآخرها يناسب ما ذكرناه، أما أول الآية فهو أنه تعالى أمر الحكام بأداء الأمانات وبرعاية العدل، وأما آخر الآية فهو أنه تعالى أمر بالرد إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وهذا إنما يليق بالأمراء لا بأهل الاجماع. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بالغ في الترغيب في طاعة الأمراء، فقال: " من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله
ومن عصى أميري فقد عصاني " فهذا ما يمكن ذكره من السؤال على الاستدلال الذي ذكرناه.
والجواب: أنه لا نزاع أن جماعة من الصحابة والتابعين حملوا قوله: * (وأولي الأمر منكم) * على العلماء، فإذا قلنا: المراد منه جميع العلماء من أهل العقد والحل لم يكن هذا قولا خارجا عن أقوال الأمة، بل كان هذا اختيارا لأحد أقوالهم وتصحيحا له بالحجة القاطعة، فاندفع السؤال الأول: وأما سؤالهم الثاني فهو مدفوع، لأن الوجوه التي ذكروها وجوه ضعيفة، والذي ذكرناه برهان قاطع، فكان قولنا أولى، على أنا نعارض تلك الوجوه بوجوه أخرى أقوى منها: فأحدها: أن الأمة مجمعة على أن الأمراء والسلاطين إنما يجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب، وذلك الدليل ليس إلا الكتاب والسنة، فحينئذ لا يكون هذا قسما منفصلا عن طاعة الكتاب والسنة، وعن طاعة الله وطاعة رسوله، بل يكون داخلا فيه، كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والولد للوالدين، والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول، أما إذا حملناه على الاجماع لم يكن هذا القسم داخلا تحتها، لأنه ربما دل الاجماع على حكم بحيث لا يكون في الكتاب والسنة دلالة عليه، فحينئذ أمكن جعل هذا القسم منفصلا عن القسمين الأولين، فهذا أولى. وثانيها: أن حمل الآية على طاعة الأمراء يقتضي إدخال الشرط في الآية، لأن طاعة الأمراء إنما تجب إذا كانوا مع الحق، فإذا حملناه على الاجماع لا يدخل الشرط في الآية، فكان هذا أولى. وثالثها: أن قوله من بعد: * (فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله) * مشعر باجماع مقدم يخالف حكمه حكم هذا التنازع. ورابعها: أن طاعة الله وطاعة رسوله واجبة قطعا، وعندنا أن طاعة أهل الاجماع واجبة قطعا، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا، بل الأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم، وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن الضعيف، فكان حمل الآية على الاجماع أولى، لأنه أدخل الرسول وأولي الأمر في لفظ واحد وهو قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر) * فكان حمل أولي الأمر الذي هو مقرون بالرسول على المعصوم أولى من حمله على
145

الفاجر الفاسق. وخامسها: أن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوي العلماء، والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء، فكان حمل لفظ أولي الأمر عليهم أولى، وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد لوجوه: أحدها: ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق، ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الايجاب مشروطا، وظاهر قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * يقتضي الاطلاق، وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال، وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة، وهو قوله: * (وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معا، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر. الثاني: أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر، وأولو الأمر جمع، وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمام واحد، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر. وثالثها: أنه قال: * (فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) * ولو كان المراد بأولي الأمر الامام المعصوم لوجب أن يقال: فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الامام، فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرناه.
المسألة الرابعة: اعلم أن قوله: * (فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) * يدل عندنا على أن القياس حجة، والذي يدل على ذلك أن قوله: * (فان تنازعتم في شيء) * إما أن يكون المراد فان اختلفتم في شيء حكمه منصوص عليه في الكتاب أو السنة أو الاجماع، أو المراد فان اختلفتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثلاثة، والأول باطل لأن على ذلك التقدير وجب عليه طاعته فكان ذلك داخلا تحت قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * وحينئذ يصير قوله: * (فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) * إعادة لعين ما مضى، وإنه غير جائز. وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني وهو أن المراد: فان تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة والاجماع، وإذا كان كذلك لم يكن المراد من قوله: * (فردوه إلى الله والرسول) * طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة. فوجب أن يكون المراد رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له، وذلك هو القياس، فثبت أن الآية دالة على الأمر بالقياس.
فان قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: * (فردوه إلى الله والرسول) * أي فوضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له؟ وأيضا فلم لا يجوز ان يكون المراد فردوا غير المنصوص إلى المنصوص في أنه لا يحكم فيه إلا بالنص؟ وأيضا لم يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام
146

إلى البراءة الأصلية؟ قلنا: أما الأول فمدفوع، وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين، منها ما يكون حكمها منصوصا عليه، ومنها ما لا يكون كذلك، ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد، وأمر في القسم الثاني بالرد إلى الله وإلى الرسول، ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت، لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل ذلك، بل لا بد من قطع الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات، وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله على السكوت عن تلك الواقعة، وبهذا الجواب يظهر فساد السؤال الثالث.
وأما السؤال الثاني: فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل، فلا يكون رد الواقعة إليها ردا إلى الله بوجه من الوجوه، أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها كان هذا ردا للواقعة على أحكام الله تعالى، فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى.
المسألة الخامسة: هذه الآية دالة على أن الكتاب والسنة مقدمان على القياس مطلقا، فلا يجوز ترك العمل بهما بسبب القياس، ولا يجوز تخصيصهما بسبب القياس البتة، سواء كان القياس جليا أو خفيا، سواء كان ذلك النص مخصوصا قبل ذلك أم لا، ويدل عليه أنا بينا أن قوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * أمر بطاعة الكتاب والسنة، وهذا الأمر مطلق، فثبت أن متابعة الكتاب والسنة سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصصهما أو لم يوجد واجبة، ومما يؤكد ذلك وجوه أخرى: أحدها: أن كلمة " ان " على قول كثير من الناس للاشتراط، وعلى هذا المذهب كان قوله: * (فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) * صريح في أنه لا يجوز
العدول إلى القياس إلا عند فقدان الأصول. الثاني: انه تعالى أخر ذكر القياس عن ذكر الأصول الثلاثة، وهذا مشعر بأن العمل به مؤخر عن الأصول الثلاثة. الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا الترتيب في قصة معاذ حيث أخر الاجتهاد عن الكتاب، وعلق جوازه على عدم وجدان الكتاب والسنة بقوله: " فان لم تجد " الرابع: انه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم حيث قال: * (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) * (البقرة: 34) ثم إن إبليس لم يدفع هذا النص بالكلية، بل خصص نفسه عن ذلك العموم بقياس هو قوله: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) * (الأعراف: 12) ثم أجمع العقلاء على أنه جعل القياس مقدما على النص وصار بذلك السبب ملعونا، وهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس تقديم للقياس على النص وانه غير جائز. الخامس: أن القرآن مقطوع في متنه لأنه ثبت بالتواتر، والقياس ليس كذلك، بل هو مظنون من جميع الجهات، والمقطوع راجح على المظنون. السادس: قوله تعالى
147

* (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) * (المائدة: 45) وإذا وجدنا عموم الكتاب حاصلا في الواقعة ثم انا لا نحكم به بل حكمنا بالقياس لزم الدخول تحت هذا العموم. السابع: قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) * (الجمرات: 1) فإذا كان عموم القرآن حاضر، ثم قدمنا القياس المخصص لزم التقديم بين يدي الله ورسوله. الثامن: قوله تعالى: * (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله) * (الأنعام: 148) إلى قوله: * (ان يتبعون إلى الظن) * (النجم: 23 - 28) جعل اتباع الظن من صفات الكفار، ومن الموجبات القوية في مذمتهم، فهذا يقتضي أن لا يجوز العمل بالقياس البتة ترك هذا النص لما بينا أنه يدل على جواز العمل بالقياس، لكنه إنما دل على ذلك عند فقدان النصوص، فوجب عند وجدانها أن يبقى على الأصل. التاسع: انه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فاقبلوه وإلا ذروه " ولا شك ان الحديث أقوى من القياس، فإذا كان الحديث الذي لا يوافقه الكتاب مردودا فالقياس أولى به. العاشر: ان القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والقياس يفرق عقل الانسان الضعيف، وكل من له عقل سليم علم أن الأول أقوى بالمتابعة وأحرى.
المسألة السادسة: هذه الآية دالة على أن ما سوى هذه الأصول الأربعة: أعني الكتاب والسنة والاجماع والقياس مردود باطل، وذلك لأنه تعالى جعل الوقائع قسمين: أحدهما: ما تكون أحكامها منصوصة عليها وأمر فيها بالطاعة وهو قوله: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * والثاني: ما لا تكون أحكامها منصوصة عليها وأمر فيها بالاجتهاد وهو قوله: * (فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) * فإذا كان لا مزيد على هذين القسمين وقد أمر الله تعالى في كل واحد منهما بتكليف خاص معين دل ذلك على أنه ليس للمكلف أن يتمسك بشيء سوى هذه الأصول الأربعة، وإذا ثبت هذا فنقول: القول بالاستحسان الذي يقول به أبو حنيفة رضي الله عنه، والقول بالاستصلاح الذي يقول به مالك رحمه الله إن كان المراد به أحد هذه الأمور الأربعة فهو تغيير عبارة ولا فائدة فيه، وإن كان مغايرا لهذه الأربعة كان القول به باطلا قطعا لدلالة هذه الآية على بطلانه كما ذكرنا.
المسألة السابعة: زعم كثير من الفقهاء أن قوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * يدل على أن ظاهر الأمر للوجوب، واعترض المتكلمون عليه فقالوا: قوله: * (أطيعوا الله) * فهذا لا يدل على الايجاب إلا إذا ثبت أن الأمر للوجوب. وهذا يقتضي افتقار الدليل إلى المدلول وهو باطل، وللفقهاء أن يجيبوا عنه من وجهين: الأول: أن الأوامر الواردة في الوقائع المخصوصة دالة على
148

الندبية فقوله: * (أطيعوا) * لو كان معناه أن الاتيان بالمأمورات مندوب فحينئذ لا يبقى لهذه الآية فائدة. لأن مجرد الندبية كان معلوما من تلك الأوامر، فوجب حملها على إفادة الوجوب حتى يقال: ان الأوامر دلت على أن فعل تلك المأمورات أولى من تركها، وهذه الآية دلت على المنع من تركها فحينئذ يبقى لهذه الآية فائدة. والثاني: أنه تعالى ختم الآية بقوله: * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * وهو وعيد، فكما أن احتمال اختصاصه بقوله: * (فردوه إلى الله) * قائم، فكذلك احتمال عوده إلى الجملتين أعني قوله: * (أطيعوا الله) * وقوله: * (فردوه إلى الله) * قائم، ولا شك أن الاحتياط فيه، وإذا حكمنا بعود ذلك الوعيد إلى الكل صار قوله: * (أطيعوا الله) * موجبا للوجوب، فثبت أن هذه الآية دالة على أن ظاهر الامر للوجوب، ولا شك أنه أصل معتبر في الشرع.
المسألة الثامنة: اعلم أن المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم اما القول واما الفعل، أما القول فيجب إطاعته لقوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * وأما الفعل فيجب على الأمة الاقتداء به إلا ما خصه الدليل. وذلك لأنا بينا ان قوله: * (أطيعوا) * يدل على أن أوامر الله للوجوب ثم انه تعالى قال في آية أخرى في صفة محمد عليه الصلاة والسلام: * (فاتبعوه) * وهذا أمر، فوجب أن يكون للوجوب، فثبت أن متابعته واجبة، والمتابعة عبارة عن الاتيان بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله، فثبت ان قوله * (أطيعوا الله) * يوجب الاقتداء بالرسول في كل أفعاله، وقوله: * (وأطيعوا الرسول) * يوجب الاقتداء به في جميع أقواله، ولا شك أنهما أصلان معتبران في الشريعة. المسألة التاسعة: اعلم أن ظاهر الأمر وان كان في أصل الوضع لا يفيد التكرار ولا الفور إلا أنه في عرف الشرع يدل عليه، ويدل عليه وجوه: الأول: ان قوله: * (أطيعوا الله) * يصح منه استثناء أي وقت كان، وحكم الاستثناء اخراج ما لولاه لدخل، فوجب أن يكون قوله: * (أطيعوا الله) * متناولا لكل الأوقات، وذلك يقتضي التكرار، والتكرار يقتضي الفور. الثاني: انه لو لم يفد ذلك لصارت الآية مجملة، لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكورة، أما لو حملناه على العموم كانت الآية مبينة، وحمل كلام الله على الوجه الذي يكون مبينا أولى من حمله على الوجه الذي به يصير مجملا مجهولا، أقصى ما في الباب أنه يدخله التخصيص، والتخصيص خير من الاجمال. الثالث: ان قوله: * (أطيعوا الله) * أضاف لفظ الطاعة إلى لفظ الله، فهذا يقتضي أن وجوب الطاعة علينا له إنما كان لكوننا عبيدا له ولكونه إلها، فثبت من هذا الوجه ان المنشأ لوجوب الطاعة هو العبودية والربوبية، وذلك يقتضي دوام وجوب الطاعة على جميع المكلفين إلى قيام القيامة
149

وهذا أصل معتبر في الشرع.
المسألة العاشرة: انه قال: * (أطيعوا الله) * فأفرده في الذكر، ثم قال: * (وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * وهذا تعليم من الله سبحانه لهذا الأدب، وهو أن لا يجمعوا في الذكر بين اسمه سبحانه وبين اسم غيره، وأما إذا آل الأمر إلى المخلوقين فيجوز ذلك، بدليل انه قال: * (وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * وهذا تعليم لهذا الأدب، ولذلك روي أن واحدا ذكر عند الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: من أطاع الله والرسول فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى، فقال عليه الصلاة والسلام: " بئس الخطيب أنت هلا قلت من عصى الله وعصى رسوله " أو لفظ هذا معناه، وتحقيق القول فيه أن الجمع بين الذكرين في اللفظ يوهم نوع مناسبة ومجانسة، وهو سبحانه متعال عن ذلك.
المسألة الحادية عشرة: قد دللنا على أن قوله: * (وأولي الأمر منكم) * يدل على أن الاجماع حجة فنقول: كما أنه دل على هذا الأصل فكذلك دل على مسائل كثيرة من فروع القول بالاجماع، ونحن نذكر بعضها:
الفرع الأول: مذهبنا أن الاجماع لا ينعقد إلا بقول العلماء الذين يمكنهم استنباط أحكام الله من نصوص الكتاب والسنة، وهؤلاء هم المسمون بأهل الحل والعقد في كتب أصول الفقه نقول: الآية دالة عليه لأنه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر، والذين لهم الأمر والنهي في الشرع ليس إلا هذا الصنف من العلماء، لأن المتكلم الذي لا معرفة له بكيفية استنباط الأحكام من النصوص لا اعتبار بأمره ونهيه، وكذلك المفسر والمحدث الذي لا قدرة له على استنباط الأحكام من القرآن والحديث، فدل على ما ذكرناه، فلما دلت الآية على أن اجماع أولي الأمر حجة علمنا دلالة الآية على أن ينعقد الاجماع بمجرد قول هذه الطائفة من العلماء. وأما دلالة الآية على أن العامي غير داخل فيه فظاهر؛ لأنه من الظاهر أنهم ليسوا من أولي الأمر.
الفرع الثاني: اختلفوا في أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف هل هو حجة؟ والأصح أنه حجة، والدليل عليه هذه الآية، وذلك لأنا بينا أن قوله: * (وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * يقتضي وجوب طاعة جملة أهل الحل والعقد من الأمة، وهذا يدخل فيه ما حصل بعد الخلاف وما لم يكن كذلك، فوجب أن يكون الكل حجة.
الفرع الثالث: اختلفوا في أن انقراض أهل العصر هل هو شرط؟ والأصح أنه ليس بشرط، والدليل عليه هذه الآية، وذلك لأنها تدل على وجوب طاعة المجمعين، وذلك يدخل فيه ما إذا انقرض العصر وما إذا لم ينقرض.
150

الفرع الرابع: دلت الآية على أن العبرة باجماع المؤمنين لأنه تعالى قال في أول الآية: * (يا أيها الذين آمنوا) * ثم قال: * (وأولي الأمر منكم) * فدل هذا على أن العبرة باجماع المؤمنين، فأما سائر الفرق الذين يشك في إيمانهم فلا عبرة بهم.
المسألة الثانية عشرة: ذكرنا أن قوله: * (فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) * يدل على صحة العمل بالقياس، فنقول: كما أن هذه الآية دلت على هذا الأصل، فكذلك دلت على مسائل كثيرة من فروع القول بالقياس، ونحن نذكر بعضها:
الفرع الأول: قد ذكرنا أن قوله: * (فردوه إلى الله) * معناه فردوه إلى واقعة بين الله حكمها، ولا بد وأن يكون المراد فردوها إلى واقعة تشبهها، إذ لو كان المراد بردها ردها إلى واقعة تخالفها في الصورة والصفة، فحينئذ لم يكن ردها إلى بعض الصور أولى من ردها إلى الباقي، وحينئذ يتعذر الرد، فعلمنا أنه لا بد وأن يكون المراد: فردوها إلى واقعة تشبهها في الصورة والصفة. ثم إن هذا المعنى الذي قلناه يؤكد بالخبر والأثر، أما الخبر فإنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصائم فقال عليه الصلاة والسلام: " أرأيت لو تمضمضت " يعني المضمضة مقدمة الأكل، كما أن القبلة مقدمة الجماع، فكما أن تلك المضمضة لم تنقض الصوم، فكذا القبلة. ولما سألته الخثعمية عن الحج فقال عليه الصلاة والسلام: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته هل يجزى فقالت نعم: قال عليه الصلاة والسلام: فدين الله أحق بالقضاء " وأما الأثر فما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك، فدل مجموع ما ذكرناه من دلالة هذه الآية ودلالة الخبر ودلالة الأثر على أن قوله: * (فردوه) * أمر برد الشيء إلى شبيهة، وإذا ثبت هذا فقد جعل الله المشابهة في الصورة والصفة دليلا على أن الحكم في غير محل النص مشابه للحكم في محل النص، وهذا هو الذي يسميه الشافعي رحمه الله قياس الأشباه، ويسميه أكثر الفقهاء قياس الطرد، ودلت هذه الآية على صحته لأنه لما ثبت بالدليل أن المراد من قوله: * (فردوه) * هو أنه ردوه إلى شبيهه علمنا أن الأصل المعول عليه في باب القياس محض المشابهة، وهذا بحث فيه طول، ومرادنا بيان كيفية استنباط المسائل من الآيات، فأما الاستقصاء فيها فمذكور في سائر الكتب.
الفرع الثاني: دلت الآية على أن شرط الاستدلال بالقياس في المسألة أن لا يكون فيها نص من الكتاب والسنة لأن قوله: * (فان تنازعتم في شيء فردوه) * مشعر بهذا الاشتراط.
الفرع الثالث: دلت الآية على أنه إذا لم يوجد في الواقعة نص من الكتاب والسنة والاجماع جاز استعمال القياس فيه كيف كان، وبطل به قول من قال: لا يجوز استعمال القياس في الكفارات
151

والحدود وغيرهما؛ لأن قوله: * (فان تنازعتم في شيء) * عام في كل واقعة لا نص فيها.
الفرع الرابع: دلت الآية على أن من أثبت الحكم في صورة بالقياس فلا بد وأن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالنص، ولا يجوز أن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالقياس لأن قوله: * (فردوه إلى الله والرسول) * ظاهره مشعر بأنه يجب رده إلى الحكم الذي ثبت بنص الله ونص رسوله.
الفرع الخامس: دلت الآية على أن القياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالقرآن، والقياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالسنة إذا تعارضا كان القياس على القرآن مقدما
على القياس على الخبر لأنه تعالى قدم الكتاب على السنة في قوله: * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * وفي قوله: * (فردوه إلى الله والرسول) * وكذلك في خبر معاذ.
الفرع السادس: دلت الآية على أنه إذا تعارض قياسان أحدهما تأيد بايماء في كتاب الله والآخر تأيد بايماء خبر من أخبار رسول الله، فان الأول مقدم على الثاني، يعني كما ذكرناه في الفرع الخامس، فهذه المسائل الأصولية استنبطناها من هذه الآية في أقل من ساعتين، ولعل الانسان إذا استعمل الفكر على الاستقصاء أمكنه استنباط أكثر مسائل أصول الفقه من هذه الآية.
المسألة الثالثة عشرة: قوله: * (وأولي الأمر) * معناه ذوو الأمر وأولو جمع، وواحده ذو على غير القياس، كالنساء والإبل والخيل، كلها أسماء للجمع ولا واحد له في اللفظ.
المسألة الرابعة عشرة: قوله: * (فان تنازعتم) * قال الزجاج: اختلفتم وقال كل فريق: القول قولي واشتقاق المنازعة من النزع الذي هو الجذب، والمنازعة عبارة عن مجاذبة كل واحد من الخصمين لحجة مصححة لقوله، أو محاولة جذب قوله ونزعه إياه عما يفسده.
ثم قال تعالى: * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا الوعيد يحتمل أن يكون عائدا إلى قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * وإلى قوله: * (فردوه إلى الله والرسول) * والله أعلم.
المسألة الثانية: ظاهر قوله: * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * يقتضي أن من لم يطع الله والرسول لا يكون مؤمنا، وهذا يقتضي أن يخرج المذنب عن الايمان لكنه محمول على التهديد،.
ثم قال تعالى: * (ذلك خير وأحسن تأويلا) * أي ذلك الذي أمرتكم به في هذه الآية خير لكم وأحسن عاقبة لكم لأن التأويل عبارة عما إليه مآل الشيء ومرجعه وعاقبته.
152

قوله تعالى
* (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) *.
اعلم أنه تعالى لما أوجب في الآية الأولى على جميع المكلفين أن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول ذكر في هذه الآية أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه، وانما يريدون حكم غيره، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الزعم والزعم لغتان، ولا يستعملان في الأكثر الا في القول الذي لا يتحقق. قال الليث: أهل العربية يقولون زعم فلان إذا شكوا فيه فلم يعرفوا أكذب أو صدق، فكذلك تفسير قوله: * (هذا لله بزعمهم) * أي بقولهم الكذب. قال الأصمعي: الزعوم من الغنم التي لا يعرفون أبها شحم أم لا، وقال ابن الأعرابي: الزعم يستعمل في الحق، وأنشد لأمية بن الصلتواني أدين لكم أنه سينجزكم ربكم ما زعم
إذا عرفت هذا فنقول: الذي في هذه الآية المراد به الكذب، لأن الآية نزلت في المنافقين.
المسألة الثانية: ذكروا في أسباب النزول وجوها: الأول: قال كثير من المفسرين: نازع رجل من المنافقين رجلا من اليهود فقال اليهودي: بيني وبينك أبو القاسم، وقال المنافق: بيني وبينك كعب بن الأشرف، والسبب في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالحق ولا يلتفت إلى الرشوة، وكعب بن الأشرف كان يريد الرغبة في الرشوة، واليهودي كان محقا، والمنافق كان مبطلا، فلهذا المعنى كان اليهودي يريد التحاكم إلى الرسول، والمنافق كان يريد كعب بن الأشرف، ثم أصر اليهودي على قوله، فذهبا إليه صلى الله عليه وسلم، فحكم الرسول عليه الصلاة والسلام لليهودي
153

على المنافق، فقال المنافق لا أرضى انطلق بنا إلى أبي بكر، فحكم أبو بكر رضي الله عنه لليهودي فلم يرض المنافق، وقال المنافق: بيني وبينك عمر، فصارا إلى عمر فأخبره اليهودي أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأبا بكر حكما على المنافق فلم يرض بحكمهما، فقال للمنافق: أهكذا فقال نعم، قال: اصبرا إن لي حاجة أدخل فأقضيها وأخرج إليكما. فدخل فأخذ سيفه ثم خرج إليهما فضرب به المنافق حتى برد وهرب اليهودي، فجاء أهل المنافق فشكوا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عمر عن قصته، فقال عمر: إنه رد حكمك يا رسول الله، فجاء جبريل عليه السلام في الحال وقال: انه الفاروق فرق بين الحق والباطل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: " أنت الفاروق " وعلى هذا القول الطاغوت هو كعب بن الأشرف.
الرواية الثانية: في سبب نزول هذه الآية أنه أسلم ناس من اليهود ونافق بعضهم، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضريا قتل به وأخذ منه دية مائة وسق من تمر، وإذا قتل نضري قرظيا لم يقتل به، لكن أعطي ديته ستين وسقا من التمر، وكان بنو النضير أشرف وهم حلفاء الأوس، وقريظة حلفاء الخزرج، فلما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة قتل نضري قرظيا فاختصما فيه، فقالت بنو النضير: لا قصاص علينا، إنما علينا ستون وسقا من تمر على ما اصطلحنا عليه من قبل، وقالت الخزرج: هذا حكم الجاهلية، ونحن وأنتم اليوم إخوة، وديننا واحد ولا فضل بيننا، فأبي بنو النضير ذلك، فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي، وقال المسلمون: بل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى المنافقون وانطلقوا إلى الكاهن ليحكم بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ودعا الرسول عليه الصلاة والسلام الكاهن إلى الاسلام فأسلم، هذا قول السدي، وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن.
الرواية الثالثة: قال الحسن: ان رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق، فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمون إليه، ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن، فالمراد بالطاغوت هو ذلك الرجل.
الرواية الرابعة: كانوا يتحاكمون إلى الأوثان، وكان طريقهم أنهم يضربون القداح بحضرة الوثن، فما خرج على القداح عملوا به، وعلى هذا القول فالطاغوت هو الوثن.
واعلم أن المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في بعض المنافقين، ثم قال أبو مسلم: ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقا من أهل الكتاب، مثل أنه كان يهوديا فأظهر الاسلام على سبيل النفاق لأن قوله تعالى: * (يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * إنما يليق بمثل هذا المنافق.
154

المسألة الثالثة: مقصود الكلام ان بعض الناس أراد أن يتحاكم إلى بعض أهل الطغيان ولم يرد التحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. قال القاضي: ويجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر، وعدم الرضا بحكم محمد عليه الصلاة والسلام كفر، ويدل عليه وجوه: الأول: انه تعالى قال: * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) * فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون ايمانا به، ولا شك أن الايمان بالطاغوت كفر بالله، كما أن الكفر بالطاغوت إيمان بالله. الثاني: قوله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * إلى قوله: * (ويسلموا تسليما) * (النساء: 65) وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام. الثالث: قوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * (النور: 63) وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة، وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خارج عن الاسلام، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد، وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: ان قوله تعالى: * (ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) * يدل على أن كفر الكافر ليس بخلق الله ولا بإرادته، وبيانه من وجوه: الأول: أنه لو خلق الله الكفر في الكافر وأراده منه فأي تأثير للشيطان فيه، وإذا لم يكن له فيه تأثير فلم ذمه عليه؟ الثاني: انه تعالى ذم الشيطان بسبب انه يريد هذه الضلالة؟ فلو كان تعالى مريدا لها لكان هو بالذم أولى من حيث إن كل من عاب شيئا ثم فعله كان بالذم أولى قال تعالى: * (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * (الصف: 3) الثالث: ان قوله تعالى في أول الآية صريح في إظهار التعجب من أنهم كيف تحاكموا إلى الطاغوت مع أنهم قد أمروا أن يكفروا به، ولو كان ذلك التحاكم بخلق الله لما بقي التعجب، فإنه يقال: إنما فعلوا لأجل أنك خلقت ذلك الفعل فيهم وأردته منهم، بل التعجب من هذا التعجب أولى، فان من فعل ذلك فيهم ثم أخذ يتعجب منهم انهم كيف فعلوا ذلك كان التعجب من هذا التعجب أولى.
واعلم أن حاصل هذا الاستدلال يرجع إلى التمسك بطريقة المدح أو الذم، وقد عرفت منا انا لا نقدح في هذه الطريقة إلا بالمعارضة بالعلم والداعي والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) * وفيه مسألتان:
155

المسألة الأولى: بين في الآية الأولى رغبة المنافقين في التحاكم إلى الطاغوت، وبين بهذه الآية نفرتهم عن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. قال المفسرون: إنما صد المنافقون عن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا ظالمين؛ وعلموا أنه لا يأخذ الرشا وانه لا يحكم إلا بمر الحكم، وقيل: كان ذلك الصد لعداوتهم في الدين.
المسألة الثانية: يصدون عنك صدودا، أي يعرضون عنك، وذكر المصدر للتأكيد والمبالغة كأنه قيل: صدودا أي صدود.
قوله تعالى
* (فكيف إذآ أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جآءوك يحلفون بالله إن أردنآ إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم فى أنفسهم قولا بليغا) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهين: الأول: أن قوله: * (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) * كلام وقع في البين، وما قبل هذه الآية متصل بما بعدها هكذا: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود، ثم بعد ذلك يجيئونك ويحلفون بالله كذبا على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الاحسان والتوفيق، وعلى هذا التقدير يكون النظم متصلا، وتلك الآية وقعت في البين كالكلام الأجنبي، وهذا يسمى اعتراضا، وهو كقول الشاعر: إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله: وبلغتها، كلام أجنبي وقع في البين، إلا أن هذا الكلام الأجنبي شرطه أن يكون له من بعض الوجوه تعلق بذلك المقصود كما في هذا البيت، فان قوله: بلغتها دعاء للمخاطب وتلطف في
156

القول معه، والآية أيضا كذلك، لأن أول الآية وآخرها في شرح قبائح المنافقين وفضائحهم وأنواع كيدهم ومكرهم، فان الآية أخبرت بأنه تعالى حكى عنهم في أول الآية أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت مع أنهم أمروا بالكفر به، ويصدون عن الرسول مع أنهم أمروا بطاعته، فذكر بعد هذا ما يدل على شدة الأحوال عليهم بسبب هذه الأعمال السيئة في الدنيا والآخرة فقال: * (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) * أي فكيف حال تكل الشدة وحال تلك المصيبة، فهذا تقرير هذا القول، وهو قول الحسن البصري، واختيار الواحدي من المتأخرين.
الوجه الثاني: أنه كلام متصل بما قبله، وتقريره انه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويفرون من الرسول عليه الصلاة والسلام أشد الفرار دل ذلك على شدة نفرتهم من الحضور عند الرسول والقرب منه، فلما ذكر ذلك قال: * (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) * يعني إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا، فكيف يكون حالهم في شدة الغم والحسرة إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك، ثم جاؤوك شاؤوا أم أبوا ويحلفون بالله على سبيل الكذب: انا ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة، والغرض من هذا الكلام بيان ان ما في قلبهم من النفرة عن الرسول لا غاية له، سواء غابوا أم حضروا، وسواء بعدوا أم قربوا، ثم انه تعالى أكد هذا المعنى بقوله: * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) * والمعنى أن من أراد المبالغة في شيء قال: هذا شيء لا يعلمه إلا الله، يعني انه لكثرته وقوته لا يقدر أحد على معرفته إلا الله تعالى، ثم لما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام شدة بغضهم ونهاية عداوتهم ونفرتهم أعلمه انه كيف يعاملهم فقال: * (فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) * وهذا الكلام على ما قررناه منتظم حسن الاتساق لا حاجة فيه إلى شيء من الحذف والإضمار، ومن طالع كتب التفسير علم أن المتقدمين والمتأخرين كيف اضطربوا فيه والله أعلم. المسألة الثانية: ذكروا في تفسير قوله: * (أصابتهم مصيبة) * وجوها: الأول: أن المراد منه قتل عمر صاحبهم الذي أقر أنه لا يرضى بحكم الرسول عليه السلام، فهم جاؤوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فطالبوا عمر بدمه وحلفوا انهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا المصلحة، وهذا اختيار الزجاج. الثاني: قال أبو علي الجبائي: المراد من هذه المصيبة ما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه لا يستصحبهم في الغزوات، وانه يخصهم بمزيد الاذلال والطرد عن حضرته وهو قوله تعالى: * (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم
157

ثم لا يجاورونك فيها الا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) * (الأحزاب: 60 - 61) وقوله: * (قل لن تخرجوا معي أبدا) * (التوبة: 83) وبالجملة فأمثال هذه الآيات توجب لهم الذل العظيم، فكانت معدودة في مصائبهم، وانما يصيبهم ذلك لأجل نفاقهم، وعني بقوله: * (ثم جاؤوك) * أي وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون أنا ما أردنا بما كان منا من مداراة الكفار الا الصلاح، وكانوا في ذلك كاذبين لانهم أضمروا خلاف ما أظهروه، ولم يريدوا بذلك الاحسان الذي هو الصلاح. الثالث: قال أبو مسلم الأصفهاني: انه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم رغبوا في حكم الطاغوت وكرهوا حكم الرسول، بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ستصيبهم مصائب تلجئهم إليه، والى أن يظهروا له الايمان به والى أن يحلفوا بأن مرادهم الاحسان والتوفيق. قال: ومن عادة العرب عند التبشير والانذار أن يقولوا: كيف أنت إذا كان كذا وكذا، ومثاله قوله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) * (النساء: 41) وقوله: * (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) * (آل عمران: 25) ثم أمره تعالى إذا كان منهم ذلك أن يعرض عنهم ويعظهم.
المسألة الثالثة: في تفسير الاحسان والتوفيق وجوه: الأول: معناه ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم الا الاحسان إلى خصومنا واستدامة الاتفاق والائتلاف فيما بيننا، وانما كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا إلى الخصوم لأنهم لو كانوا عند الرسول لما قدروا على رفع صوت عند تقرير كلامهم، ولما قدروا على التمرد من حكمه، فاذن كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا إلى الخصوم. الثاني: أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أنه يحسن إلى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به الرسول. الثالث: أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك يا رسول الله الا أنك لا تحكم الا بالحق المر، وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالاحسان إلى الآخر، وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى يحصل بينهما الموافقة.
ثم قال تعالى: * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) * والمعنى أنه لا يعلم ما في قلوبهم من النفاق والغيظ والعداوة الا الله.
ثم قال تعالى: * (فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) * واعلم أنه تعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم بثلاثة أشياء: الأول: قوله: * (فأعرض عنهم) * وهذا يفيد أمرين أحدهما: أن لا يقبل منهم ذلك العذر ولا يغتر به، فان من لا يقبل عذر غيره ويستمر على سخطه قد يوصف بأنه معرض عنه غير ملتفت إليه. والثاني: أن هذا يجري مجرى أن يقول له: اكتف بالاعراض عنهم ولا تهتك سترهم، ولا تظهر لهم أنك عالم بكنه ما في بواطنهم، فان من هتك ستر
158

عدوه وأظهر له كونه عالما بما في قلبه فربما يجرئه ذلك على أن لا يبالي باظهار العداوة فيزداد الشر، ولكن إذا تركه على حاله بقي في خوف ووجل فيقل الشر.
النوع الثاني: قوله تعالى: * (وعظهم) * والمراد أنه يزجرهم عن النفاق والمكر والكيد والحسد والكذب ويخوفهم بعقاب الآخرة، كما قال تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * (النحل: 125).
النوع الثالث: قوله تعالى: * (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في قوله: * (في أنفسهم) * وجوه: الأول: أن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير: وقل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف استشعارا. الثاني: أن يكون التقدير: وقل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا، وإن الله يعلم ما في قلوبكم فلا يغني عنكم إخفاؤه، فطهروا قلوبكم من النفاق وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك أو شرا من ذلك وأغلظ. الثالث: قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم على سبيل السر، لأن النصحية على الملأ تقريع وفي السر محض المنفعة.
المسألة الثانية: في الآية قولان: أحدهما: أن المراد بالوعظ التخويف بعقاب الآخرة، والمراد بالقول البليغ التخويف بعقاب الدنيا، وهو أن يقول لهم: إن ما في قلوبكم من النفاق والكيد معلوم عند الله، ولا فرق بينكم وبين سائر الكفار، وإنما رفع الله السيف عنكم لأنكم أظهرتم الايمان، فان واظبتم على هذه الأفعال القبيحة ظهر للكل بقاؤكم على الكفر، وحينئذ يلزمكم السيف. الثاني: أن القول البليغ صفة للوعظ، فأمر تعالى بالوعظ، ثم أمر أن يكون ذلك الوعظ بالقول البليغ، وهو أن يكون كلاما
بليغا طويلا حسن الألفاظ حسن المعاني مشتملا على الترغيب والترهيب والاحذار والانذار والثواب والعقاب، فان الكلام إذا كان هكذا عظم وقعه في القلب، وإذا كان مختصرا ركيك اللفظ قليل المعنى لم يؤثر البتة في القلب.
قوله تعالى
* (ومآ أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) *.
قوله تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) *. (النساء: 64) واعلم أنه تعالى لما أمر بطاعة الرسول في قوله: * (وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * ثم حكى ان بعضهم تحاكم إلى الطاغوت ولم يتحاكم إلى الرسول، وبين قبح طريقه وفساد منهجه، رغب في هذه الآية مرة أخرى في طاعة الرسول فقال: * (وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله) * وفي
159

الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج كلمة " من " ههنا صلة زائدة، والتقدير: وما أرسلنا رسولا، ويمكن أن يكون التقدير: وما أرسلنا من هذا الجنس أحدا الا كذا وكذا، وعلى هذا التقدير تكون المبالغة أتم.
المسألة الثانية: قال أبو علي الجبائي: معنى الآية: وما أرسلت من رسول إلا وأنا مريد أن يطاع ويصدق ولم أرسله ليعصى. قال: وهذا يدل على بطلان مذهب المجبرة لانهم يقولون: انه تعالى أرسل رسلا لتعصى، والعاصي من المعلوم أنه يبقى على الكفر، وقد نص الله على كذبهم في هذه الآية، فلو لم يكن في القرآن ما يدل على بطلان قولهم إلا هذه الآية لكفى، وكان يجب على قولهم أن يكون قد أرسل الرسل ليطاعوا وليعصوا جميعا، فدل ذلك على أن معصيتهم للرسل غير مرادة لله، وأنه تعالى ما أراد ألا أن يطاع.
واعلم أن هذا الاستدلال في غاية الضعف وبيانه من وجوه: الأول: ان قوله: * (إلا ليطاع) * يكفي في تحقيق مفهومه أن يطيعه مطيع واحد في وقت واحد، وليس من شرط تحقق مفهومه أن يطيعه جميع الناس في جميع الأوقات، وعلى هذا التقدير فنحن نقول بموجبه: وهو أن كل من أرسله الله تعالى فقد أطاعه بعض الناس في بعض الأوقات، اللهم الا أن يقال: تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه، الا أن الجبائي لا يقول بذلك، فسقط هذا الاشكال على جميع التقديرات. الثاني: لم لا يجوز أن يكون المراد به ان كل كافر فإنه لا بد وأن يقربه عند موته، كما قال تعالى: * (وإن من أهل الكتاب الا ليؤمنن به قبل موته) * (النساء: 159) أو يحمل ذلك على ايمان الكل به يوم القيامة، ومن المعلوم أن العلم بعدم الطاعة مع وجود الطاعة متضادان، والضدان لا يجتمعان، وذلك العلم ممتنع العدم، فكانت الطاعة ممتنعة الوجود، والله عالم بجميع المعلومات، فكان عالما بكون الطاعة ممتنعة الوجود، والعالم بكون الشيء ممتنع الوجود لا يكون مريدا له، فثبت بهذا البرهان القاطع أن يستحيل أن يريد الله من الكافر كونه مطيعا، فوجب تأويل هذه اللفظة وهو أن يكون المراد من الكلام ليس الإرادة بل الأمر، والتقدير: وما أرسلنا من رسول إلا ليؤمر الناس بطاعته، وعلى هذا التقدير سقط الاشكال.
المسألة الثالثة: قال أصحابنا: الآية دالة على أنه لا يوجد شيء من الخير والشر والكفر والايمان والطاعة والعصيان إلا بإرادة الله تعالى، والدليل عليه قوله تعالى: * (الا ليطاع بإذن الله) * ولا يمكن أن يكون المراد من هذا الاذن الأمر والتكليف، لأنه لا معنى لكونه رسولا الا أن الله
160

أمر بطاعته، فلو كان المراد من الاذن هو هذا لصار تقدير الآية: وما أذنا في طاعة من أرسلناه الا بإذننا وهو تكرار قبيح، فوجب حمل الاذن على التوفيق والاعانة. وعلى هذا الوجه فيصير تقدير الآية: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بتوفيقنا وإعانتنا، وهذا تصريح بأنه سبحانه ما أراد من الكل طاعة الرسول، بل لا يريد ذلك الا من الذي وفقه الله لذلك وأعانه عليه وهم المؤمنون. وأما المحرومون من التوفيق والاعانة فالله تعالى ما أراد ذلك منهم، فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على مذهبنا.
المسألة الرابعة: الآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعا في تلك الشريعة ومتبوعا فيها، إذ لو كان لا يدعو إلا إلى شرع من كان قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعا، بل كان المطاع هو الرسول المتقدم الذي هو الواضع لتلك الشريعة، والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع.
المسألة الخامسة: الآية دالة على أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن المعاصي والذنوب لأنها دلت على وجوب طاعتهم مطلقا، فلو أتوا بمعصية لوجب علينا الاقتداء بهم في تلك المعصية فتصير تلك المعصية واجبة علينا، وكونها معصية يوجب كونها محرمة علينا، فيلزم توارد الايجاب والتحريم على الشيء الواحد وإنه محال.
فان قيل: ألستم في الاعتراض على كلام الجبائي ذكرتم أن قوله: * (إلا ليطاع) * لا يفيد العموم، فكيف تمسكتم به في هذه المسألة مع أن هذا الاستدلال لا يتم إلا مع القول بأنها تفيد العموم.
قلنا: ظاهر اللفظ يوهم العموم، وإنما تركنا العموم في تلك المسألة للدليل العقلي القاطع الذي ذكرناه على أنه يستحيل منه تعالى أن يريد الايمان من الكافر، فلأجل ذلك المعارض القاطع صرفنا الظاهر عن العموم، وليس في هذه المسألة برهان قاطع عقلي يوجب القدح في عصمة الأنبياء فظهر الفرق.
قوله تعالى: * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) *.
وفيه مسائل:
161

المسألة الأولى: في سبب النزول وجهان: الأول: المراد به من تقدم ذكره من المنافقين، يعني لو أنهم عندما ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت والفرار من التحاكم إلى الرسول جاؤوا الرسول وأظهروا الندم على ما فعلوه وتابوا عنه واستغفروا منه واستغفر لهم الرسول بأن يسأل الله أن يغفرها لهم عند توبتهم لوجدوا الله توابا رحيما.
الثاني: قال أبو بكر الأصم: إن قوما من المنافقين اصطلحوا على كيد في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم دخلوا عليه لأجل ذلك الغرض فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره به، فقال صلى الله عليه وسلم: إن قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه، فليقوموا وليستغفروا الله حتى أستغفر لهم فلم يقوموا، فقال: ألا تقومون، فلم يفعلوا فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا فلان قم يا فلان حتى عد أثنى عشر رجلا منهم، فقاموا وقالوا: كنا عزمنا على ما قلت، ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا فاستغفر لنا، فقال: الآن اخرجوا أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار: وكان الله أقرب إلى الإجابة اخرجوا عني.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح لكانت توبتهم مقبولة، فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم؟
قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله، وكان أيضا إساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإدخالا للغم في قلبه، ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره، فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم. الثاني: أن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم ذلك التمر، فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه الاستغفار. الثالث: لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتوا بها على وجه الخلل، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول والله أعلم.
المسألة الثالثة: إنما قال: * (واستغفر لهم الرسول) * ولم يقل واستغفرت لهم إجلالا للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنهم إذا جاؤه فقد جاؤوا من خصه الله برسالته وأكرمه بوحيه وجعله سفيرا بينه وبين خلقه، ومن كان كذلك فان الله لا يرد شفاعته، فكانت الفائدة في العدول عن لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة ما ذكرناه.
المسألة الرابعة: الآية دالة على الجزم بأن الله تعالى يقبل توبة التائب، لأنه تعالى لما ذكر عنهم الاستغفار قال بعده: * (لوجدوا الله توابا رحيما) * وهذا الجواب إنما ينطلق على ذلك الكلام إذا كان المراد من قوله: * (توابا رحيما) * هو أن يقبل توبتهم ويرحم تضرعهم
162

ولا يرد استغفارهم.
قوله تعالى
* (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما: وهو قول عطاء ومجاهد والشعبي: ان هذه الآية نازلة في قصة اليهودي والمنافق، فهذه الآية متصلة بما قبلها، وهذا القول هو المختار عندي. والثاني: انها مستأنفة نازلة في قصة أخرى، وهو ما روي عن عروة بن الزبير أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في ماء يسقى به النخل، فقال صلى الله عليه وسلم للزبير: " اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك " فقال الأنصاري: لأجل أنه ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير: " اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ".
واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء وحقه تمام السقي، فالرسول صلى الله عليه وسلم أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة، فلما أساء خصمه الأدب ولم يعرف حق ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من المسامحة لأجله أمره النبي عليه الصلاة والسلام باستيفاء حقه على سبيل التمام، وحمل خصمه على مر الحق.
المسألة الثانية: " لا " في قوله: " فلا وربك " فيه قولان: الأول: معناه فوربك، كقوله: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) * و " لا " مزيدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في * (لئلا يعلم) * لتأكيد وجوب العلم و * (لا يؤمنون) * جواب القسم. والثاني: انها مفيدة، وعلى هذا التقدير ذكر الواحدي فيه وجهين: الأول: انه يفيد نفي أمر سبق، والتقدير: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك، ثم استأنف القسم بقوله: * (فوربك لا يؤمنون حتى يحكموك) * والثاني: أنها لتوكيد النفي الذي جاء فيما بعد، لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن.
المسألة الثالثة: يقال شجر يشجر شجورا وشجرا إذا اختلف واختلط، وشاجره إذا نازعه وذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض عند المنازعة، ومنه يقال لخشبات الهودج شجار، لتداخل
163

بعضها في بعض. قال أبو مسلم الأصفهاني: وهو مأخوذ عندي من التفاف الشجر، فان الشجر يتداخل بعض أغصانه في بعض، وأما الحرج فهو الضيق. قال الواحدي: يقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه: حرج، وجمعه حراج، وأما التسليم فهو تفعيل يقال: سلم فلان أي عوفي ولم ينشب به نائبة، وسلم هذا الشيء لفلان، أي خلص له من غير منازع، فإذا ثقلته بالتشديد فقلت: سلم له فمعناه أنه سلمه له وخلصه له، هذا هو الأصل في اللغة، وجميع استعمالات التسليم راجع إلى الأصل فقولهم: سلم عليه، أي دعا له بأن يسلم، وسلم إليه الوديعة، أي دفعها إليه بلا منازعة، وسلم إليه أي رضي بحكمه، وسلم إلى فلان في كذا، أي ترك منازعته فيه، وسلم إلى الله أمره أي فوض إليه حكم نفسه، على معنى أنه لم ير لنفسه في أمره أثرا ولا شركة، وعلم أن المؤثر الصانع هو الله تعالى وحده لا شريك له.
المسألة الرابعة: اعلم أن قوله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون) * قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الايمان إلا عند حصول شرائط: أولها: قوله تعالى: * (حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا.
واعلم أن من يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بارشاد النبي المعصوم قال: لأن قوله: * (لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) *
تصريح بأنه لا يحصل لهم الايمان إلا بأن يستعينوا بحكم النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما اختلفوا فيه، ونرى أهل العلم مختلفين في صفات الله سبحانه وتعالى، فمن معطل ومن مشبه، ومن قدري ومن جبري، فلزم بحكم هذه الآية أنه لا يحصل الايمان إلا بحكمه وارشاده وهدايته، وحققوا ذلك بأن عقول أكثر الخلق ناقصة وغير وافية بادراك هذه الحقائق؟ وعقل النبي المعصوم كامل مشرق، فإذا اتصل اشراق نوره بعقول الأمة قويت عقولهم وانقلبت من النقص إلى الكمال، ومن الضعف إلى القوة، فقدروا عند ذلك على معرفة هذه الأسرار الإلهية. والذي يؤكد ذلك أن الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا جازمين متيقنين كاملي الايمان والمعرفة، والذين بعدوا عنه اضطربوا أو اختلفوا، وهذه المذاهب ما تولدت إلا بعد زمان الصحابة والتابعين، فثبت ان الأمر كما ذكرنا، والتمسك بهذه الآية رأيته في كتب محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، فيقال له: فهذا الاستقلال الذي ذكرته إنما استخرجته من عقلك، فإذا كان عقول الأكثرين ناقصة فلعلك ذكرت هذه الاستدلال لنقصان عقلك، وإذا كان هذا الاحتمال قائما وجب أن يشك في صحة مذهبك وصحة هذا الدليل الذي تمسكت به، ولأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الاله، فلو توقفت معرفة الاله على معرفة النبوة لزم الدور، وهو محال.
164

الشرط الثاني: قوله: * (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) * قال الزجاج: لا تضيق صدورهم من أفضيتك.
واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب فبين في هذه الآية انه لا بد من حصول الرضا به في القلب، واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر، فليس المراد من الآية ذلك، بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق.
الشرط الثالث: قوله تعالى: * (ويسلموا تسليما) * واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول، فبين تعالى أنه كما لا بد في الايمان من حصول ذلك اليقين في القلب. فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر، فقوله: * (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) * المراد به الانقياد في الباطن، وقوله: * (ويسلموا تسليما) * المراد منه الانقياد في الظاهر والله أعلم.
المسألة الخامسة: دلت الآية على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن الخطأ في الفتوى وفي الأحكام، لأنه تعالى أوجب الانقياد لحكمهم وبالغ في ذلك الايجاب وبين انه لا بد من حصول ذلك الانقياد في الظاهر وفي القلب، وذلك ينفي صدور الخطأ عنهم، فهذا يدل على أن قوله: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * (التوبة: 43) وأن فتواه في أسارى بدر، وأن قوله: * (لم تحرم ما أحل الله لك) * (التحريم: 1) وأن قوله: * (عبس وتولى) * (عبس: 1) كل ذلك محمول على الوجوه التي لخصناها في هذا الكتاب.
المسألة السادسة: من الفقهاء من تمسك بقوله تعالى: * (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) * على أن ظاهر الأمر للوجوب، وهو ضعيف لأن القضاء هو الالزام، ولا نزاع في أنه للوجوب.
المسألة السابعة: ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس، لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الاطلاق، وانه لا يجوز العدول عنه إلى غيره، ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف، وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس، وقوله: * (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) * مشعر بذلك لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص فهناك يحصل الحرج في النفس، فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج، ويسلم النص تسليما كليا، وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف. المسألة الثامنة: قالت المعتزلة: لو كانت الطاعات والمعاصي بقضاء الله تعالى لزم التناقض،
165

وذلك لأن الرسول إذا قضى على إنسان بأنه ليس له أن يفعل الفعل الفلاني وجب على جميع المكلفين الرضا بذلك لأنه قضاء الرسول. والرضا بقضاء الرسول واجب لدلالة هذه الآية، ثم لو أن ذلك الرجل فعل ذلك الفعل على خلاف فتوى الرسول، فلو كانت المعاصي بقضاء الله لكان ذلك الفعل بقضاء الله، والرضا بقضاء الله واجب، فيلزم أن يجب على المكلفين الرضا بذلك الفعل. لأنه قضاء الله، فوجب أن يلزمهم الرضا بالفعل والترك معا، وذلك محال.
والجواب: أن المراد من قضاء الرسول الفتوى المشروعة، والمراد من قضاء الله التكوين والايجاد، وهما مفهومان متغايران، فالجمع بينهما لا يفضي إلى التناقض.
قوله تعالى
* (ولو أنا كتبنا عليهم أن قتلوا أنفسكم أو خرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لاتيناهم من لدنآ أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما) *.
اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الاخلاص وترك النفاق، والمعنى أنا لو شددنا التكليف على الناس، نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان لصعب ذلك عليهم ولما فعله إلا الأقلون، وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم، فلما لم نفعل ذلك رحمة منا على عبادنا بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة، فليقبلوها بالاخلاص وليتركوا التمرد والعناد حتى ينالوا خير الدارين، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي: * (أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) * بضم النون في " أن " وضم واو " أو " والسبب فيه نقل ضمة * (اقتلوا) * وضمة * (اخرجوا) * إليهما، وقرأ عاصم وحمزة بالكسر فيهما لالتقاء الساكنين، وقرأ أبو عمرو بكسر النون وضم الواو، وقال الزجاج: ولست أعرف لفصل أبي عمرو بين هذين الحرفين خاصية إلا أن يكون رواية. وقال غيره: أما كسر النون فلأن الكسر هو الأصل لالتقاء الساكنين، وأما ضم الواو فلأن
الضمة
166

في الواو أحسن لأنها تشبه واو الضمير. واتفق الجمهور على الضم في واو الضمير نحو * (اشتروا الضلالة) * (البقرة: 16) * (ولا تنسوا الفضل) * (البقرة: 237).
المسألة الثانية: الكناية في قوله: * (ما فعلوه) * عائدة إلى القتل والخروج معا، وذلك لأن الفعل جنس واحد وان اختلفت ضروبه، واختلف القراء في قوله: * (الا قليل) * فقرأ ابن عامر * (قليلا) * بالنصب، وكذا هو في مصاحب أهل الشام ومصحف أنس بن مالك، والباقون بالرفع، أما من نصب فقاس النفي على الاثبات، فإن قولك: ما جاءني أحد كلام تام، كما أن قولك: جاءني القوم كلام تام فلما كان المستثنى منصوبا في الإثبات فكذا مع النفي، والجامع كون المستثنى فضلة جاءت بعد تمام الكلام، وأما من رفع فالسبب أنه جعله بدلا من الواو في * (فعلوه) * وكذلك كل مستثنى من منفي، كقولك: ما أتاني أحد إلا زيد، برفع زيد على البدل من أحد، فيحمل إعراب ما بعد " إلا " على ما قبلها. وكذلك في النصب والجر، كقولك: ما رأيت أحدا الا زيدا، وما مررت بأحد إلا زيد. قال أبو علي الفارسي: الرفع أقيس، فان معنى ما أتى أحد إلا زيد، وما أتاني الا زيد واحد، فكما اتفقوا في قولهم ما أتاني الا زيد على الرفع وجب أن يكون قولهم: ما أتاني أحد الا زيد بمنزلته.
المسألة الثالثة: الضمير في قوله: * (ولو أنا كتبنا عليهم) * فيه قولان: الأول: وهو قول ابن عباس ومجاهد انه عائد إلى المنافقين، وذلك لأنه تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم، فقال تعالى: ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله الا قليل رياء وسمعة، وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم، فإذا لم نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليقبلوا الايمان على سبيل الاخلاص، وهذا القول اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر القفال. الثاني: أن المراد لو كتب الله على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم، وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق، وأما الضمير في قوله: * (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) * فهو مختص بالمنافقين، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا، وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين، روي أن ثابت بن قيس بن شماس ناظر يهوديا، فقال اليهودي: ان موسى أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك، وإن محمدا يأمركم بالقتال فتكرهونه، فقال: يا أنت لو أن محمدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ذلك، فنزلت هذه الآية. وروي أن ابن مسعود قال مثل ذلك، فنزلت هذه الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الايمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: والله لو أمرنا ربنا بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي
167

لم يأمرنا بذلك.
المسألة الرابعة: قال أبو علي الجبائي: لما دلت هذه الآية على أنه تعالى لم يكلفهم ما يغلظ ويثقل عليهم، فبأن لا يكلفهم ما لا يطيقون كان أولى، فيقال له: هذا لازم عليك لأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما لم يكلفهم بهذه الأشياء الشاقة، لأنه لو كلفهم بها لما فعلوها، ولو لم يفعلوها لوقعوا في العذاب، ثم انه تعالى علم من أبي جهل وأبي لهب أنهم لا يؤمنون، وأنهم لا يستفيدون من التكليف إلا العقاب الدائم، ومع ذلك فإنه تعالى كلفهم، فكل ما تجعله جوابا عن هذا فهو جوابنا عما ذكرت.
ثم قال تعالى: * (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما) *.
اعلم أن المراد من قوله: * (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) * أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا به، وإنما سمي هذا التكليف والأمر وعظا لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والثواب والعقاب، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظا، ثم إنه تعالى بين أنهم لو التزموا هذه التكاليف لحصلت لهم أنواع من المنافع.
فالنوع الأول: قوله: * (لكان خيرا لهم) * فيحتمل أن يكون المعنى أنه يحصل لهم خير الدنيا والآخرة، ويحتمل أن يكون المعنى المبالغة والترجيح، وهو أن ذلك أنفع لهم وأفضل من غيره، لأن قولنا: " خير " يستعمل على الوجهين جميعا.
النوع الثاني: قوله: * (وأشد تثبيتا) * وفيه وجوه: الأول: أن المراد أن هذا أقرب إلى ثباتهم عليه واستمرارهم، لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها، والواقع منها في وقت يدعو إلى المواظبة عليه. الثاني: أن يكون أثبت وأبقى لأنه حق والحق ثابت باق، والباطل زائل. الثالث: أن الانسان يطلب أولا تحصيل الخير، فإذا حصله فإنه يطلب أن يصير ذلك الحاصل باقيا ثابتا، فقوله: * (لكان خيرا لهم) * إشارة إلى الحالة الأولى، وقوله: * (وأشد تثبيتا) * إشارة إلى الحالة الثانية.
النوع الثالث: قوله تعالى: * (وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما) *.
واعلم أنه تعالى لما بين أن هذا الاخلاص في الايمان خير مما يريدونه من النفاق وأكثر ثباتا وبقاء، بين أنه كما أنه في نفسه خير فهو أيضا مستعقب الخيرات العظيمة وهو الأجر العظيم والثواب العظيم. قال صاحب " الكشاف ": و " إذا " جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا يكون من هذا الخير والتثبيت. فقيل: هو أن نؤتيهم من لدنا أجرا عظيما، كقوله: * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * (النساء: 4).
168

وأقول: إنه تعالى جمع في هذه الآية قرائن كثيرة، كل واحدة منها تدل على عظم هذا الأجر. أحدها: أنه ذكر نفسه بصيغة العظمة وهي قوله: * (آتيناه) * وقوله: * (من لدنا) * والمعطي الحكيم إذا ذكر نفسه باللفظ الدال على عظمة عند الوعد بالعطية دل ذلك على عظمة تلك العطية، وثانيها: قوله: * (من لدنا) * وهذا التخصيص يدل على المبالغة، كما في قوله: * (وعلمناه من لدنا علما) * (الكهف: 65) وثالثها: أن الله تعالى وصف هذا الأجر بالعظيم، والشيء الذي وصفه أعظم العظماء بالعظمة لا بد وأن يكون في نهاية الجلالة، وكيف لا يكون عظيما، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر ".
النوع الرابع: قوله: * (ولهديناهم صراطا مستقيما) * وفيه قولان: أحدهما: أن الصراط المستقيم هو الدين الحق، ونظيره قوله تعالى: * (وانك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله) * (الشورى: 52 - 53) والثاني: انه الصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة، وذلك لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الثواب والأجر، والدين الحق مقدم على الثواب والأجر، والصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إنما يحتاج إليه بعد استحقاق الأجر، فكان حمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى.
قوله تعالى
* (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وحسن أولئك رفيقا * ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما) *.
اعلم أنه تعالى لما أمر بطاعة الله وطاعة الرسول بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * ثم زيف طريقة الذين تحاكموا إلى الطاغوت وصدوا عن الرسول، ثم أعاد الأمر بطاعة الرسول مرة أخرى فقال: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * (النساء: 64) ثم رغب في تلك الطاعة بقوله: * (لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما) * (النساء: 66 - 67 - 68) أكد الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول في هذه الآية مرة أخرى فقال: * (ومن يطع الله والرسول
169

فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين) * إلى آخر الآية وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب النزول وجوها: الأول: روى جمع من المفسرين أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله، فقال يا رسول الله ما بي وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك، لأني إن أدخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين وأنا في درجة العبيد فلا أراك، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا، فنزلت هذه الآية. الثاني: قال السدي: ان ناسا من الأنصار قالوا: يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها، ونحن نشتاق إليك، فكيف نصنع؟ فنزلت الآية. الثالث: قال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك، فما ينفعنا شيء حتى نرجع إليك، ثم ذكرت درجتك في الجنة، فكيف لنا برؤيتك ان دخلنا الجنة؟ فأنزل الله هذه الآية، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أتى الأنصار ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده إلى أن ألقاه، فعمى مكانه، فكان يحب النبي حبا شديدا فجعله الله معه في الجنة. الرابع: قال الحسن: ان المؤمنين قالوا للنبي عليه السلام: مالنا منك إلا الدنيا، فإذا كانت الآخرة رفعت في الأولى فحزن النبي صلى الله عليه وسلم وحزنوا، فنزلت هذه الآية. قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات إلا أن سبب نزول الآية يجب أن يكون شيئا أعظم من ذلك، وهو البعث على الطاعة والترغيب فيها، فإنك تعلم أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين، وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عند الله تعالى.
المسألة الثانية: ظاهر قوله: * (ومن يطع الله والرسول) * يوجب الاكتفاء بالطاعة الواحدة. لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل به في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة. قال القاضي: لا بد من حمل هذا على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الفساق والكفار، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة. وعندي فيه وجه آخر، وهو أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الصفة مشعر بكون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، إذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (ومن يطع الله) *
170

أي ومن يطع الله في كونه إلها، وطاعة الله في كونه إلها هو معرفته والاقرار بجلاله وعزته وكبريائه وصمديته، فصارت هذه الآية تنبيها على أمرين عظيمين من أحوال المعاد، فالأول: هو أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراق الروح بأنوار معرفة الله، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى، وبعدها عن التكدر بمحبة عالم الأجسام أتم كان إلى السعادة أقرب وإلى الفوز بالنجاة أوصل. والثاني: انه تعالى ذكر في الآية المتقدمة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجزيل والهداية إلى الصراط المستقيم، ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا الذي وقع به في الختم لا بد أن يكون أشرف وأعلى مما قبله، ومعلوم أنه ليس المراد من كون هؤلاء معهم هو أنهم يكونون في عين تلك الدرجات، لأن هذا ممتنع، فلا بد وأن يكون معناه أن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا لسبب الحب الشديد، فإذا فارقت هذا العالم ووصلت إلى عالم الآخرة بقيت تلك العلائق الروحانية هناك، ثم تصير تلك الأرواح الصافية كالمرايا المجلوة المتقابلة، فكأن هذه المرايا ينعكس الشعاع من بعضها على بعض، وبسبب هذه الانعكاسات تصير أنوارها في غاية القوة، فكذا القول في تلك الأرواح فإنها لما كانت مجلوة بصقالة المجاهدة عن غبار حب ما سوى الله، وذلك هو المراد من طاعة الله وطاعة الرسول، ثم ارتفعت الحجب الجسدانية أشرقت عليها أنوار جلال الله، ثم انعكست تلك الأنوار من بعضها إلى بعض وصارت الأرواح الناقصة كاملة بسبب تلك العلائق الروحانية، فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه.
المسألة الثالثة: ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين، كون الكل في درجة واحدة، لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وإنه لا يجوز. بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، وإذا
أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه، فهذا هو المراد من هذه المعية.
المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى ذكر النبيين، ثم ذكر أوصافا ثلاثة: الصديقين والشهداء والصالحين، واتفقوا على أن النبيين مغايرون للصديقين والشهداء والصالحين، فأما هذه الصفات الثلاثة فقد اختلفوا فيها، قال بعضهم: هذه الصفات كلها لموصوف واحد، وهي صفات متداخلة فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أن يكون صديقا وشهيدا وصالحا. وقال الآخرون: بل المراد
171

بكل وصف صنف من الناس، وهذا الوجه أقرب لأن المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه، وكما أن النبيين غير من ذكر بعدهم، فكذلك الصديقون يجب أن يكونوا غير من ذكر بعدهم وكذا القول في سائر الصفات، ولنبحث عن هذه الصفات الثلاث:
الصفة الأولى: الصديق: وهو اسم لمن عادته الصدق، ومن غلب على عادته فعل إذا وصف بذلك الفعل قيل فيه فعيل، كما يقال: سكير وشريب وخمير، والصدق صفة كريمة فاضلة من صفات المؤمنين، وكفى الصدق فضيلة أن الايمان ليس إلا التصديق، وكفى الكذب مذمة أن الكفر ليس إلا التكذيب. إذا عرفت هذا فنقول: للمفسرين في الصديق وجوه: الأول: أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق، والدليل عليه قوله تعالى: * (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون) * (الحديد: 19). الثاني: قال قوم: الصديقون أفاضل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. الثالث: أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فصار في ذلك قدوة لسائر الناس، وإذا كان الأمر كذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أولى الخلق بهذا الوصف أما بيان انه سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فلأنه قد اشتهرت الرواية عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: " ما عرضت الاسلام على أحد إلا وله كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم " دل هذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم لما عرض الاسلام على أبي بكر قبله أبو بكر ولم يتوقف، فلو قدرنا أن اسلامه تأخر عن إسلام غيره لزم أن يقال: ان النبي صلى الله عليه وسلم قصر حيث أخر عرض الاسلام عليه، وهذا لا يكون قدحا في أبي بكر، بل يكون قدحا في الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفر، ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه صلى الله عليه وسلم ما قصر في عرض الاسلام عليه، ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه صلى الله عليه وسلم ما قصر في عرض الاسلام عليه، والحديث دل على أن أبا بكر لم يتوقف البتة، فحصل من مجموع الأمرين ان أبا بكر رضي الله تعالى عنه أسبق الناس إسلاما، أما بيان أنه كان قدوة لسائر الناس في ذلك فلأن بتقدير أن يقال: إن إسلام علي كان سابقا على إسلام أبي بكر، إلا أنه لا يشك عاقل أن عليا ما صار قدوة في ذلك الوقت، لأن عليا كان في ذلك الوقت صبيا صغيرا، وكان أيضا في تربية الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان شديد القرب منه بالقرابة، وأبو بكر ما كان شديد القرب منه بالقرابة وإيمان من هذا شأنه يكون سببا لرغبة سائر الناس في الاسلام. وذلك لأنهم اتفقوا على أنه رضي الله تعالى عنه لما آمن جاء بعد ذلك بمدة قليلة بعثمان بن عفان رضي الله عنه، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم أجمعين حتى أسلموا، فكان إسلامه
172

سببا لاقتداء هؤلاء الأكابر به، فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه رضوان الله عليه كان أسبق الناس إسلاما، وثبت أن إسلامه صار سببا لاقتداء أفاضل الصحابة في ذلك الاسلام، فثبت أن أحق الأمة بهذه الصفة أبو بكر رضي الله عنه. إذا عرفت هذا فنقول: هذا الذي ذكرناه يقتضي انه كان أفضل الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيانه من وجهين: الأول: أن إسلامه لما كان أسبق من غيره وجب أن يكون ثوابه أكثر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " الثاني: أنه بعد أن أسلم جاهد في الله وصار جهاده مفضيا إلى حصول الاسلام لأكابر الصحابة مثل عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وعلي رضي الله تعالى عنهم، وجاهد علي يوم أحد ويوم الأحزاب في قتل الكفار، ولكن جهاد أبي بكر رضي الله عنه أفضى إلى حصول الإسلام لمثل الذين هم أعيان الصحابة، وجهاد على أفضى إلى قتل الكفار، ولا شك أن الأول أفضل، وأيضا فأبو بكر جاهد في أول الإسلام حين كان النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الضعف، وعلي إنما جاهد يوم أحد ويوم الأحزاب، وكان الاسلام قويا في هذه الأيام، ومعلوم أن الجهاد وقت الضعف أفضل من الجهاد وقت القوة، ولهذا المعنى قال تعالى: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) * (الحديد: 10) فبين أن نصرة الاسلام وقت ما كان ضعيفا أعظم ثوابا من نصرته وقت ما كان قويا، فثبت من مجموع ما ذكرنا أن أولى الناس بهذا الوصف هو الصديق، فلهذا أجمع المسلمون على تسليم هذا اللقب له إلا من لا يلتفت إليه فإنه ينكره، ودل تفسير الصديق بما ذكرناه على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف وهو كون الانسان صديقا، وكما دل الدليل عليه فقد دل لفظ القرآن عليه، فإنه أينما ذكر الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة، فقال في وصف إسماعيل: * (إنه كان صادق الوعد) * وفي صفة إدريس * (إنه كان صديقا نبيا) * (مريم: 56) وقال في هذه الآية: * (من النبيين والصديقين) * يعني انك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة، وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية، ولا متوسط بينهما، وقال في آية أخرى: * (والذي جاء بالصدق وصدق به) * (الزمر: 33) فلم يجعل بينهما واسطة، وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة حتى جعلوا الامام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر على سبيل الاجماع، ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية، فلا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها.
173

الصفة الثانية: الشهادة: والكلام في الشهداء قد مر في مواضع من هذا الكتاب، ولا بأس بأن نعيد البعض فنقول: لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الانسان مقتول الكافر، والذي يدل عليه وجوه: الأول: أن هذه الآية دالة على أن مرتبة الشهادة مرتبة عظيمة في الدين، وكون الانسان مقتول الكافر ليس فيه زيارة شرف، لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله. الثاني: أن المؤمنين قد يقولون: اللهم ارزقنا الشهادة، فلو كانت الشهادة عبارة عن قتل الكافر إياه لكانوا قد طلبوا
من الله ذلك القتل وانه غير جائز، لأن طلب صدور ذلك القتل من الكافر كفر، فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر، الثالث: روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: المبطون شهيد والغريق شهيد، فعلمنا أن الشهادة ليست عبارة عن القتل، بل نقول: الشهيد فعيل بمعنى الفاعل، وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، فالشهداء هم القائمون بالقسط، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) * ويقال للمقتول في سبيل الله شهيد من حيث أنه بذل نفسه في نصرة دين الله، وشهادته له بأنه هو الحق وما سواه هو الباطل، وإذا كان من شهداء الله بهذا المعنى كان من شهداء الله في الآخرة، كما قال: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) * (البقرة: 143).
الصفة الثالثة: الصالحون: والصالح هو الذي يكون صالحا في اعتقاده وفي عمله، فان الجهل فساد في الاعتقاد، والمعصية فساد في العمل، وإذا عرفت تفسير الصديق والشهيد والصالح ظهر لك ما بين هذه الصفات من التفاوت، وذلك لأن كل من كان اعتقاده صوابا وكان عمله طاعة وغير معصية فهو صالح، ثم إن الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل، وهذه الشهادة تارة تكون بالحجة والدليل وأخرى بالسيف، وقد لا يكون الصالح موصوفا بكونه قائما بهذه الشهادة، فثبت أن كل من كان شهيدا كان صالحا، وليس كل من كان صالحا شهيدا، فالشهيد أشرف أنواع الصالح، ثم إن الشهيد قد يكون صديقا وقد لا يكون: ومعنى الصديق الذي كان أسبق إيمانا من غيره، وكان إيمانه قدوة لغيره، فثبت أن كل من كان صديقا كان شهيدا، وليس كل من كان شهيدا كان صديقا، فثبت أن أفضل الخلق هم الأنبياء عليهم السلام، وبعدهم الصديقون، وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة، وبعدهم من ليس له إلا محض درجة الصلاح. فالحاصل أن أكابر الملائكة يأخذون الدين الحق عن الله، والأنبياء يأخذون عن الملائكة، كما قال: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) * (النحل: 2) والصديقون يأخذونه عن الأنبياء. والشهداء يأخذونه عن الصديقين، لأنا بينا أن الصديق هو الذي يأخذ في المرة الأولى عن
174

الأنبياء وصار قدوة لمن بعده، والصالحون يأخذونه عن الشهداء، فهذا هو تقرير هذه المراتب وإذا عرفت هذا ظهر لك أنه لا أحد يدخل الجنة إلا وهو داخل في بعض هذه النعوت والصفات.
ثم قال تعالى: * (وحسن أولئك رقيقا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": فيه معنى التعجيب. كأنه قيل: ما أحسن أولئك رفيقا.
المسألة الثانية: الرفق في اللغة لين الجانب ولطافة الفعل، وصاحبه رفيق. هذا معناه في اللغة ثم الصاحب يسمي رفيقا لارتفاق بعضهم ببعض.
المسألة الثالثة: قال الواحدي: إنما وحد الرفيق وهو صفة لجمع، لأن الرفيق والرسول والبريد تذهب به العرب إلى الواحد والى الجمع قال تعالى: * (إنا رسول رب العالمين) * (الشعراء: 16) ولا يجوز أن يقال: حسن أولئك رجلا، وبالجملة فهذا إنما يجوز في الاسم الذي يكون صفة، أما إذا كان اسما مصرحا مثل رجل وامرأة لم يجز، وجوز الزجاج ذلك في الاسم أيضا وزعم أنه مذهب سيبويه، وقيل: معنى قوله: * (وحسن أولئك رفيقا) * أي حسن كل واحد منهم رفيقا، كما قال: * (يخرجكم طفلا) * (غافر: 67).
المسألة الرابعة: * (رفيقا) * نصب على التمييز، وقيل على الحال: أي حسن واحد منهم رفيقا.
المسألة الخامسة: اعلم أنه تعالى بين فيمن أطاع الله ورسوله أنه يكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم لم يكترث بذلك، بل ذكر أنه يكون رفيقا له، وقد ذكرنا أن الرفيق هو الذي يرتفق به في الحضر والسفر، فبين أن هؤلاء المطيعين يرتفقون بهم، وإنما يرتفقون بهم إذا نالوا منهم رفقا وخيرا، ولقد ذكرنا مرارا كيفية هذا الارتفاق، وأما على حسب الظاهر فلأن الانسان قد يكون مع غيره ولا يكون رفيقا له، فأما إذا كان عظيم الشفقة عظيم الاعتناء بشأنه كان رفيقا له، فبين تعالى أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون له كالرفقاء من شدة محبتهم له وسرورهم برؤيته.
ثم قال تعالى: * (ذلك الفضل من الله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لا شك أن قوله تعالى: * (ذلك) * إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من وصف الثواب، فلما حكم على كل ذلك بأنه فضل من الله دل هذا على أن الثواب غير واجب على الله، ومما يدل عليه من جهة المعقول وجوه: الأول: القدرة على الطاعة إن كانت لا تصلح إلا للطاعة، فخالق تلك القدرة هو الذي أعطى الطاعة، فلا يكون فعله موجبا عليه شيئا، وإن كانت صالحة للمعصية أيضا لم يترجح جانب الطاعة على جانب المعصية إلا بخلق الداعي إلى الداعي، ويصير مجموع القدرة والداعي موجبا للفعل، فخالق هذا المجموع هو الذي أعطى الطاعة، فلا يكون فعله موجبا عليه
175

شيئا. الثاني: نعم الله على العبد لا تحصى وهي موجبة للطاعة والشكر، وإذا كانت الطاعات تقع في مقابلة النعم السالفة امتنع كونها موجبة للثواب في المستقبل. الثالث: أن الوجوب يستلزم استحقاق الذنب عند الترك، وهذا الاستحقاق ينافي الإلهية، فيمتنع حصوله في حق الاله تعالى، فثبت أن ظاهر الآية كما دل على أن الثواب كله فضل من الله تعالى، فالبراهين العقلية القاطعة دالة على ذلك أيضا، وقالت المعتزلة: الثواب وإن كان واجبا لكن لا يمتنع إطلاق اسم الفضل عليه، وذلك أن العبد إنما استحق ذلك الثواب لأن الله تعالى كلفه والتكليف تفضل، ولأنه تعالى هو الذي أعطى العقل والقدرة وأزاح الأعذار والموانع حتى تمكن المكلف من فعل الطاعة، فصار ذلك بمنزلة من وهب لغيره ثوبا كي ينتفع به، فإذا باعه وانتفع بثمنه جاز أن يوصف ذلك الثمن بأنه فضل من الواهب فكذا ههنا:
المسألة الثانية: قوله: * (ذلك الفضل من الله) * فيه احتمالان: أحدهما: أن يكون التقدير: ذلك هو الفضل من الله، ويكون المعنى أن ذلك الثواب لكمال درجته كأنه هو الفضل من الله وأن ما سواه فليس بشيء، والثاني: أن يكون التقدير: ذلك الفضل هو من الله، أي ذلك الفضل المذكور، والثواب المذكور هو من الله لا من غيره
، ولا شك أن الاحتمال الأول أبلغ.
ثم قال تعالى: * (وكفى بالله عليما) * وله موقع عظيم في توكيد ما تقدم من الترغيب في طاعة الله لأنه تعالى نبه بذلك على أنه يعلم كيفية الطاعة وكيفة الجزاء والتفضل، وذلك مما يرغب المكلف في كمال الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) *.
واعلم أنه تعالى عاد بعد الترغيب في طاعة الله وطاعة رسوله إلى ذكر الجهاد الذي تقدم، لأنه أشق الطاعات، ولأنه أعظم الأمور التي بها يحصل تقوية الدين فقال: * (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الحذر والحذر بمعنى واحد، كالأثر والأثر، والمثل والمثل، يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه، والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم، هذا ما ذكره صاحب " الكشاف ". وقال الواحدي رحمه الله فيه قولان: أحدهما: المراد بالحذر ههنا السلاح، والمعنى خذوا سلاحكم، والسلاح يسمى حذرا، أي خذوا سلاحكم وتحذروا، والثاني: أن يكون * (خذوا حذركم) * بمعنى
176

احذروا عدوكم لأن هذا الأمر بالحذر يتضمن الامر بأخذ السلاح، لأن أخذ السلاح هو الحذر من العدو، فالتأويل أيضا يعود إلى الأول، فعلى القول الأول الأمر مصرح بأخذ السلاح، وعلى القول الثاني أخذ السلاح مدلول عليه بفحوى الكلام.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: ذلك الذي أمر الله تعالى بالحذر عنه ان كان مقتضى الوجود لم ينفع الحذر، وان كان مقتضى العدم لا حاجة إلى الحذر، فعلى التقديرين الامر بالحذر عبث وعنه عليه الصلاة والسلام قال: " المقدور كائن والهم فضل " وقيل أيضا: الحذر لا يغني من القدر فنقول: ان صح هذا الكلام بطل القول بالشرائع، فإنه يقال: إن كان الانسان من أهل السعادة في قضاء الله وقدره فلا حاجة إلى الايمان، وان كان من أهل الشقاوة لم ينفعه الايمان والطاعة، فهذا يفضي إلى سقوط التكليف بالكلية، والتحقيق في الجواب أنه لما كان الكل بقدر كان الامر بالحذر أيضا داخلا في القدر، فكان قول القائل: أي فائدة في الحذر كلاما متناقضا، لأنه لما كان هذا الحذر مقدرا فأي فائدة في هذا السؤال الطاعن في الحذر.
المسألة الثالثة: قوله: * (فانفروا) * يقال: نفر القوم ينفرون نفرا ونفيرا إذا نهضوا لقتال عدو وخرجوا للحرب، واستنفر الامام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون إذا حثهم على النفير ودعاهم إليه، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: " وإذا استنفرتم فانفروا " والنفير اسم للقوم الذين ينفرون، ومنه يقال: فلان لا في العير ولا في النفير، وقال أصحاب العربية: أصل هذا الحرف من النفور والنفار وهو الفزع، يقال نفر إليه إذا فزع إليه، ونفر منه إذا فزع منه وكرهه، ومعنى الآية فانفروا إلى قتال عدوكم.
المسألة الرابعة: قال جميع أهل اللغة: الثبات جماعات متفرقة واحدها ثبة، وأصلها من: ثبيت الشيء، أي جمعته، ويقال أيضا: ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه، وتأويله جمع محاسنه، فقوله: * (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) * معناه: انفروا إلى العدو إما ثبات، أي جماعات متفرقة، سرية بعد سرية، وإما جميعا، أي مجتمعين كوكبة واحدة، وهذا المعنى أراد الشاعر في قوله: طاروا إليه زرافات ووحدانا
ومثله قوله تعالى: * (فان خفتم فرجالا أو ركبانا) * (البقرة: 239) أي على أي الحالتين كنتم فصلوا.
قوله تعالى
* (وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم
177

شهيدا * ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: * (وإن منكم) * يجب أن يكون راجعا إلى المؤمنين الذين ذكرهم الله بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) * واختلفوا على قولين: الأول: المراد منه المنافقون كانوا يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فان قيل: قوله: * (وإن منكم لمن ليبطئن) * تقديره: يا أيها الذين آمنوا إن منكم لمن ليبطئن، فإذا كان هذا المبطئ منافقا فكيف جعل المنافق قسما من المؤمن في قوله: * (وإن منكم) *.
والجواب من وجوه: الأول: أنه تعالى جعل المنافق من المؤمنين من حيث الجنس والنسب والاختلاط. الثاني: أنه تعالى جعلهم من المؤمنين بحسب الظاهر لأنهم كانوا في الظاهر متشبهين بأهل الايمان. الثالث: كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا في زعمكم ودعواكم كقوله: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) * (الحجر: 6). القول الثاني: أن هؤلاء المبطئين كانوا ضعفة المؤمنين وهو اختيار جماعة من المفسرين قالوا: والتبطئة بمعنى الابطاء أيضا، وفائدة هذا التشديد تكرر الفعل منه. وحكى أهل اللغة أن العرب تقول: ما أبطأ بك يا فلان عنا، وإدخالهم الباء يدل على أنه في نفسه غير متعد، فعلى هذا معنى الآية أن فيهم من يبطئ عن هذا الغرض ويتثاقل عن هذا الجهاد، فإذا ظفر المسلمون تمنوا أن يكونوا معهم ليأخذوا الغنيمة، وان أصابتهم مصيبة سرهم أن كانوا متخلفين. قال: وهؤلاء هم الذين أرادهم الله بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) * قال: والذي يدل على أن المراد بقوله: * (ليبطئن) * الابطاء منهم لا تثبيط غيرهم، ما حكاه
تعالى من قولهم: * (يا ليتني كنت معهم) * عند الغنيمة، ولو كان المراد منه تثبيط الغير لم يكن لهذا الكلام معنى. وطعن القاضي في هذا القول وقال: انه تعالى حكى عن هؤلاء المبطئين أنهم يقولون عند مصيبة المؤمنين: * (قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا) * فيعد قعوده عن القتال نعمة من الله تعالى، ومثل هذا الكلام
178

انما يليق بالمنافقين لا بالمؤمنين، وأيضا لا يليق بالمؤمنين أن يقال لهم: * (كأن لم يكن بينكم وبينه) * يعني الرسول: * (مودة) * فثبت أنه لا يمكن حمله على المؤمنين، وإنما يمكن حمله على المنافقين، ثم قال: فان حمل على أنه من الابطاء والتثاقل صح في المنافقين، لأنهم كانوا يتأخرون عن الجهاد ويتثاقلون ولا يسرعون إليه، وإن حمل على تثبيط الغير صح أيضا فيهم، فقد كان يثبطون كثيرا من المؤمنين بما يوردون عليهم من أنواع التلبيس، فكلا الوصفين موجود في المنافقين، وأكثر المفسرين حمله على تثبيط الغير، فكأنهم فصلوا بين أبطأ وبطأ، فجعلوا الأول لازما، والثاني متعديا، كما يقال في أحب وحب، فان الأول لازم والثاني متعد.
المسألة الثانية: قال الزجاج: " من " في قوله: * (لمن ليبطئن) * موصولة بالحال للقسم كأن هذا لو كان كلاما لك لقلت إن منكم لمن حلف بالله ليبطئن.
ثم قال تعالى: * (فان أصابتكم مصيبة) * يعني من القتل والانهزام وجهد من العيش. يعني لم أكن معهم شهيدا حاضرا حتى يصيبني ما أصابهم من البلاء والشدة * (ولئن أصابكم فضل من الله) * من ظفر وغنيمة ليقولن: * (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم * (كأن لم تكن) * بالتاء المنقطة من فوق يعني المودة، والباقون بالياء لتقدم الفعل. قال الواحدي: وكلا القراءتين قد جاء به التنزيل. قال: * (قد جاءتكم موعظة من ربكم) * (يونس: 57) وقال في آية أخرى: * (فمن جاءه موعظة من ربه) * (البقرة: 275) فالتأنيث هو الأصل والتذكير يحسن إذا كان التأنيث غير حقيقي، سيما إذا وقع فاصل بين الفعل والفاعل.
المسألة الثانية: قرأ الحسن * (ليقولن) * بضم اللام أعاد الضمير إلى معنى " من " لأن قوله: * (لمن ليبطئن) * في معنى الجماعة، إلا أن هذه القراءة ضعيفة لأن " من " وإن كان جماعة في المعنى لكنه مفرد في اللفظ، وجانب الافراد قد ترجح في قوله: * (قال قد أنعم الله علي) * (النساء: 72) وفي قوله: * (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) *.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: لو كان التنزيل هكذا: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما كان النظم مستقيما حسنا، فكيف وقع قوله: * (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) * في البين؟
وجوابه: أنه اعتراض وقع في البين وهو في غاية الحسن، بيانه أنه تعالى حكى عن هذا المنافق أنه إذا وقعت للمسلمين نكبة أظهر السرور الشديد بسبب أنه كان متخلفا عنهم، ولو فازوا بغنيمة
179

ودولة أظهر الغم الشديد بسبب فوات تلك الغنيمة، ومثل هذه المعاملة لا يقدم عليها الانسان إلا في حق الأجنبي العدو، لأن من أحب إنسانا فرح عند فرحه وحزن عند حزنه، فاما إذا قلبت هذه القضية فذاك إظهار للعداوة.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه تعالى حكى عن هذا المنافق سروره وقت نكبة المسلمين، ثم أراد أين يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاته الغنيمة، فقبل أن يذكر هذا الكلام بتمامه ألقى في البين قوله: * (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) * والمراد التعجب كأنه تعالى يقول: انظروا إلى ما يقول هذا المنافق كأنه ليس بينكم أنها المؤمنون وبينه مودة ولا مخالطة أصلا، فهذا هو المراد من الكلام، وهو وإن كان كلاما واقعا في البين على سبيل الاعتراض إلا أنه في غاية الحسن.
قوله تعالى
* (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحيوة الدنيا بالاخرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *.
اعلم أنه تعالى لما ذم المبطئين في الجهاد عاد إلى الترغيب فيه فقال: * (فليقاتل في سبيل الله) * وللمفسرين في قوله: * (يشرون الحياة الدنيا) * وجهان: الأول: أن * (يشرون) * معناه يبيعون قال ابن مفرغ وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
قال: وبرد هو غلامه، وشربته بمعنى بعته، وتمنى الموت بعد بيعه، فكان معنى الآية: فليقاتل في سبيل الله الذين يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة، وهو كقوله: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * إلى قوله: * (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) *.
والقول الثاني: معنى قوله: * (يشرون) * أي يشترون قالوا: والمخاطبون بهذا الخطاب هم المنافقون الذين تخلفوا عن أحد، وتقرير الكلام: فليقاتل الذين يختارون الحياة الدنيا على الآخرة، وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف تقديره: آمنوا ثم قاتلوا لاستحالة حصول الأمر بشرائع الاسلام قبل حصول الاسلام. وعندي في الآية احتمالات أخرى: أحدها: أن الانسان لما أراد أن يبذل هذه الحياة الدنيا في سبيل الله بخلت نفسه بها، فاشتراها من نفسه بسعادة الآخرة ليقدر على بذلها في سبيل الله بطيبة النفس. وثانيها: أنه تعالى أمر بالقتال مقرونا ببيان فساد ما لأجله يترك الانسان
180

القتال، فان من ترك القتال فإنما يتركه رغبة في الحياة الدنيا، وذلك يوجب فوات سعادة الآخرة، فكأنه قيل له: اشتغل بالقتال واترك ترجيح الفاني على الباقي. وثالثها: كأنه قيل: الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة إنما رجحوا الحياة الدنيا على الآخرة إذا كانت مقرونة بالسعادة والغبطة والكرامة وإذا كان كذلك فليقاتلوا، فإنهم بالمقاتلة يفوزون بالغبطة والكرامة في الدنيا، لأنهم بالمقاتلة يستولون على الأعداء ويفوزون بالأموال، فهذه وجوه خطرت بالبال والله أعلم بمراده.
ثم قال تعالى: * (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * والمعنى من يقاتل في سبيل الله فسواء صار مقتولا للكفار أو صار غالبا للكفار فسوف نؤتيه أجرا عظيما، وهو المنفعة الخالصة الدائمة المقرونة بالتعظيم، ومعلوم أنه لا واسطة بين هاتين الحالتين، فإذا كان الأجر حاصلا على كلا التقديرين لم يكن
عمل أشرف من الجهاد. وهذا يدل على أن المجاهد لا بد وأن يوطن نفسه على أنه لا بد من أحد أمرين، إما أن يقتله العدو، وإما أن يغلب العدو ويقهره، فإنه إذا عزم على ذلك لم يفر عن الخصم ولم يحجم عن المحاربة، فأما إذا دخل لا على هذا العزم فما أسرع ما يقع في الفرار، فهذا معنى ما ذكره الله تعالى من التقسيم في قوله: * (فيقتل أو يغلب) *.
قوله تعالى
* (وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنسآء والولدان الذين يقولون ربنآ أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) *.
اعمل أن المراد منه إنكاره تعالى لتركهم القتال، فصار ذلك توكيدا لما تقدم من الأمر بالجهاد وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وما لكم لا تقاتلون) * يدل على أن الجهاد واجب، ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ حال المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف، فهذا حث شديد على القتال، وبيان العلة التي لها صار القتال واجبا، وهو ما في القتال من
181

تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة، لأن هذا الجمع إلى الجهاد يجري مجرى فكاك الأسير.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة قوله: * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) * انكار عليهم في ترك القتال وبيان أنه لا عذر لهم البتة في تركه، ولو كان فعل العبد بخلق الله لبطل هذا الكلام لأن من أعظم العذر أن الله ما خلقه وما أراده وما قضى به، وجوابه مذكور.
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن قوله: * (والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان) * متصل بما قبله، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون عطفا على السبيل، والمعنى: مالكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين. والثاني: أن يكون معطوفا على اسم الله عز وجل، أي في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين.
المسألة الرابعة: المراد بالمستضعفين من الرجال والنساء والولدان قوم من المسلمين بقوا بمكة وعجزوا عن الهجرة إلى المدينة، وكانوا يلقون من كفار مكة أذى شديدا. قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان.
المسألة الخامسة: الولدان: جمع الولد، ونظيره مما جاء على فعل وفعلان، نحو حزب وحزبان، وورك ووركان، كذلك ولد وولدان. قال صاحب " الكشاف ": ويجوز أن يراد بالرجال والنساء الأحرار والحرائر، وبالولدان العبيد والإماء، لأن العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة، وجمعهما الولدان والولائد، إلا أنه جعل ههنا الولدان جمعا للذكور والإناث تغليبا للذكور على الإناث، كما يقال آباء وإخوة والله أعلم. المسألة السادسة: إنما ذكر الله الولدان مبالغة في شرح ظلمهم حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين إرغاما لآبائهم وأمهاتهم، ومبغضة لهم بمكانهم، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا، كما وردت السنة باخراجهم في الاستسقاء، ثم حكى تعالى عن هؤلاء المستضعفين أنهم كانوا يقولون: * (ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أجمعوا على أن المراد امن هذه القرية الظالم أهلها مكة، وكون أهلها موصوفين بالظلم يحتمل أن يكون لأنهم كانوا مشركين قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) وأن يكون لأجل أنهم كانوا يؤذون المسلمين ويوصلون إليهم أنواع المكاره.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: القرية مؤنثة، وقوله: * (الظالم أهلها) * صفة للقرية ولذلك خفض،
182

فكان ينبغي أن يقال: الظالمة أهلها، وجوابه أن النحويين يسمون مثل هذه الصفة الصفة المشبهة باسم الفاعل، والأصل في هذا الباب: أنك إذا أدخلت الألف واللام في الأخير أجريته على الأول في تذكيره وتأنيثه، نحو قولك: مررت بامرأة حسنة الزوج كريمة الأب، ومررت برجل جميل الجارية، وإذا لم تدخل الألف واللام في الأخير حملته على الثاني في تذكيره وتأنيثه كقولك: مررت بامرأة كريم أبوها، ومن هذا قوله تعالى: * (أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) * ولو أدخلت الألف واللام على الأهل لقلت من هذه القرية الظالمة الأهل، وإنما جاز أن يكون الظالم نعتا للقرية لأنه صفة للأهل، والأهل منتسبون إلى القرية، وهذا القدر كاف في صحة الوصف كقولك مررت برجل قائم أبوه، فالقيام للأب وقد جعلته وصفا للرجل، وإنما كان هذا القدر كافيا في صحة الوصف لأن المقصود من الوصف التخصيص والتمييز، وهذا المقصود حاصل من مثل هذا الوصف والله أعلم.
المسألة الثانية: في قوله: * (واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) * قولان: فالأول: قال ابن عباس: يريدون اجعل علينا رجلا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا، فأجاب الله تعالى دعاءهم لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميرا لهم، فكان الولي هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان النصير عتاب بن أسيد، وكان عتاب ينصف الضعيف من القوي والذليل من العزيز. الثاني: المراد: واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة، والحاصل كن أنت لنا وليا وناصرا.
قوله تعالى
* (الذين ءامنوا يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) *.
واعلم أنه تعالى لما بين وجوب الجهاد بين أنه لا عبرة بصورة الجهاد. بل العبرة بالقصد والداعي، فالمؤمنون يقاتلون لغرض نصرة دين الله وإعلاء كلمته، والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت، وهذه الآية كالدلالة على أن كل من كان غرضه في فعله رضا غير الله فهو في سبيل الطاغوت، لأنه تعالى لما ذكر هذه القسمة وهي أن
القتال إما أن يكون في سبيل الله: أو في سبيل
183

الطاغوت وجب أن يكون ما سوى الله طاغوتا، ثم إنه تعالى أمر المقاتلين في سبيل الله بأن يقاتلوا أولياء الشيطان، وبين أن كيد الشيطان كان ضعيفا، لأن الله ينصر أولياءه، والشيطان ينصر أولياءه ولا شك أن نصرة الشيطان لأوليائه أضعف من نصرة الله لأوليائه، ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وان كانوا حال حياتهم في غاية الفقر والذلة، وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم، والكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه يقال: كاده يكيده إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه وفائدة إدخال (كان) في قوله: * (كان ضعيفا) * للتأكيد لضعف كيده، يعني أنه منذ كان كان موصوفا بالضعف والذلة.
قوله تعالى
* (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية صفة للمؤمنين أو المنافقين؟ فيه قولان: الأول: أن الآية نزلت في المؤمنين، قال الكلبي: نزلت في عبد الرحمن بن عوف والمقداد وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص، كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجروا إلى المدينة، ويلقون من المشركين أذى شديدا فيشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: ائذن لنا في قتالهم ويقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفوا أيديكم فاني لم أومر بقتالهم، واشتغلوا بإقامة دينكم
184

من الصلاة والزكاة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمروا بقتالهم في وقعة بدر كرهه بعضهم، فأنزل الله هذه الآية. واحتج الذاهبون إلى هذا القول بان الذين يحتاج الرسول أن يقول لهم: كفوا عن القتال هم الراغبون في القتال، والراغبون في القتال هم المؤمنون، فدل هذا على أن الآية نازلة في حق المؤمنين. ويمكن الجواب عنه بأن المنافقين كانوا يظهرون من أنفسهم انا مؤمنون وانا نريد قتال الكفار ومحاربتهم، فلما أمر الله بقتالهم الكفار أحجم المنافقون عنه وظهر منهم خلاف ما كانوا يقولونه.
القول الثاني: أن الآية نازلة في حق المنافقين، واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الآية مشتملة على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين. فالأول: أنه تعالى قال في وصفهم: * (يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) * (النساء: 77) ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق إلا بالمنافق، لأن المؤمن لا يجوز أن يكون خوفه من الناس أزيد من خوفه من الله تعالى. والثاني: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال، والاعتراض على الله ليس إلا من صفة الكفار والمنافقين. الثالث: أنه تعالى قال للرسول: * (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى) * وهذا الكلام يذكر مع من كانت رغبته في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة، وذلك من صفات المنافقين.
وأجاب القائلون بالقول الأول عن هذه الوجوه بحرف واحد، وهو أن حب الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع، فالخشية المذكورة في هذه الآية محمولة على هذا المعنى، وقولهم: * (لم كتبت علينا القتال) * محمول على التمني لتخفيف التكليف لا على وجه الانكار لايجاب الله تعالى، وقوله تعالى: * (قل متاع الدنيا قليل) * مذكور لا لأن القوم كانوا منكرين لذلك، بل لأجل إسماع الله لهم هذا الكلام مما يهون على القلب أمر هذه الحياة، فحينئذ يزول من قلبهم نفرة القتال وحب الحياة ويقدمون على الجهاد بقلب قوي، فهذا ما في تقرير هذين القولين والله أعلم، والأولى حمل الآية على المنافقين لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) * (النساء: 78) ولا شك أن من هذا كلام المنافقين، فإذا كانت هذه الآية معطوفة على الآية التي نحن في تفسيرها ثم المعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضا.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على إيجاب الجهاد، وهذا هو الترتيب المطابق لما في العقول، لأن الصلاة عبارة عن التعظيم لأمر الله، والزكاة عبارة عن الشفقة على خلق الله، ولا شك أنهما مقدمان على الجهاد.
المسألة الثالثة: قوله: * (كخشية الله) * مصدر مضاف إلى المفعول.
185

المسألة الرابعة: ظاهر قوله: * (أو أشد خشية) * يوهم الشك، وذلك على علام الغيوب محال. وفيه وجوه من التأويل: الأول: المراد منه الابهام على المخاطب، بمعنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة، وذلك لأن كل خوفين فأحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويا أو أزيد فبين تعالى بهذه الآية أن خوفهم من الناس ليس أنقص من خوفهم من الله، بل بقي إما أن يكون مساويا أو أزيد، فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكا فيه، بل يوجب إبقاء الابهام في هذين القسمين على المخاطب. الثاني: أن يكون " أو " بمعنى الواو، والتقدير: يخشونهم كخشية الله وأشد خشية، وليس بين هذين القسمين منافاة، لأن من هو أشد خشية فمعه من الخشية مثل خشيته من الله وزيادة. الثالث: أن هذا نظير قوله: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * (الصافات: 147) يعني أن من يبصرهم يقول هذا الكلام، فكذا ههنا والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال) *.
واعلم أن هؤلاء القائلين إن كانوا مؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله، لكن جزعا من الموت وحبا للحياة، وإن كانوا منافقين فمعلوم أنهم كانوا منكرين لكون
الرب تعالى كاتبا للقتال عليهم، فقالوا ذلك على معنى أنه تعالى كتب القتال عليهم في زعم الرسول عليه الصلاة والسلام وفي دعواه، ثم قالوا: * (لولا أخرتنا إلى أجل قريب) * وهذا كالعلة لكراهتهم لايجاب القتال عليهم، أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا، ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم فقال: * (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى) * وإنما قلنا: إن الآخرة خير لوجود: الأول: ان نعم الدنيا قليلة، ونعم الآخرة كثيرة. والثاني: ان نعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبدة. والثالث: أن نعم الدنيا مشوبة بالهموم والغموم والمكاره، ونعم الآخرة صافية عن الكدرات. والرابع: أن نعم الدنيا مشكوكة فان أعظم الناس تنعما لا يعرف أنه كيف يكون عاقبته في اليوم الثاني، ونعم الآخرة يقينية، وكل هذه الوجوه تجب رجحان الآخرة على الدنيا، إلا أن هذه الخيرية إنما تحصل للمؤمنين المتقين، فلهذا المعنى ذكر تعالى هذا الشرط وهو قوله: * (لمن اتقى) * وهذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ".
ثم قال تعالى: * (ولا تظلمون فتيلا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: * (يظلمون) * بالياء على أنه راجع إلى المذكورين في قوله: * (ألم ترى إلى الذين قيل) * والباقون بالتاء على سبيل الخطاب، ويؤيد التاء قوله: * (قل متاع الدنيا قليل) * فان قوله: * (قل) * يفيد الخطاب.
186

المسألة الثانية: قالت المعتزلة: الآية تدل على أنهم يستحقون على طاعتهم الثواب، وإلا لما تحقق نفي الظلم، وتدل على أنه تعالى يصح منه الظلم وإن كنا نقطع بأنه لا يفعل، وإلا لما صح التمدح به.
المسألة الثالثة: قوله: * (ولا تظلمون فتيلا) * أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم مثل فتيل النواة وهو ما تفتله بيدك ثم تلقيه احتقارا. وقد مضى الكلام فيه.
قوله تعالى
* (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) *.
والمقصود من هذا الكلام تبكيت من حكى عنهم أنهم عند فرض القتال يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال، فقال تعالى: * (أينما تكونوا يدرككم الموت) * فبين تعالى أنه لا خلاص لهم من الموت، والجهاد موت مستعقب لسعادة الآخرة، فإذا كان لا بد من الموت، فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسعادة الأبدية كان أولى من أن لا يكون كذلك، ونظير هذه الآية قوله: * (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا) * (الأحزاب: 16) والبروج في كلام العرب هي القصور والحصون، وأصلها في اللغة من الظهور، يقال: تبرجت المرأة، إذا أظهرت محاسنها، والمشيدة المرتفعة، وقرئ * (مشيدة) * قال صاحب " الكشاف ": من شاد إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجص، وقرأ نعيم بن ميسرة بكسر الياء وصفا لها بفعل فاعلها مجازا، كما قالوا: قصيدة شاعرة، وإنما الشاعر قائلها.
قوله تعالى: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد خائفين من الموت غير راغبين
187

في سعادة الآخرة حكى عنهم في هذه الآية خصلة أخرى قبيحة أقبح من الأولى، وفي النظم وجه آخر، وهو أن هؤلاء الخائفين من الموت المتثاقلين في الجهاد من عادتهم أنهم إذا جاهدوا وقاتلوا فان أصابوا واحدة وغنيمة راحة قالوا: هذه من عند الله، وإن أصابهم مكروه قالوا: هذا من شؤم مصاحبة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على غاية حمقهم وجهلهم وشدة عنادهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في الحسنة والسيئة وجوها؛ الأول: قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله عنهم بعض الامساك كما جرت عادته في جميع الأمم، قال تعالى: * (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) * فعند هذا قال اليهود والمنافقون: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل، نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم، فقوله تعالى: * (وان تصبهم حسنة) * يعني الخصب ورخص السعر وتتابع الأمطار قالوا: هذا من عند الله * (وان تصبهم سيئة) * جدب وغلاء سعر قالوا هذا من شؤم محمد، وهذا كقوله تعالى: * (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وان تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) * (الأعراف: 131) وعن قوم صالح: * (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) *.
القول الثاني: المراد من الحسنة النصر على الأعداء والغنيمة، ومن السيئة القتل والهزيمة قال القاضي: والقول الأول هو المعتبر لأن إضافة الخصب والغلاء إلى الله وكثرة النعم وقلتها إلى الله جائزة، أما إضافة النصر والهزيمة إلى الله فغير جائزة، لأن السيئة إذا كانت بمعنى الهزيمة والقتل لم يجز إضافتها إلى الله، وأقول: القول كما قال على مذهبه، أما على مذهبنا فالكل داخل في قضاء الله وقدره.
المسألة الثانية: اعلم أن السيئة تقع على البلية والمعصية، والحسنة على النعمة والطاعة قال تعالى: * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) * (الأعراف: 168) وقال: * (ان الحسنات يذهبن السيئات) * (هود: 114).
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (وان تصبهم حسنة) * يفيد العموم في كل الحسنات، وكذلك قوله: * (وان تصبهم سيئة) * يفيد العموم في كل السيئات، ثم قال بعد ذلك: * (قل كل من عند الله) * فهذا تصريح بأن جميع الحسنات والسيئات من الله، ولما ثبت بما ذكرنا أن الطاعات والمعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة والسيئة كانت الآية دالة على أن جميع الطاعات والمعاصي من الله وهو المطلوب.
فان قيل: المراد ههنا بالحسنة والسيئة ليس هو الطاعة والمعصية، ويدل عليه وجوه: الأول: اتفاق الكل على أن هذه الآية نازلة في معنى الخصب والجدب فكانت مختصة بهما. الثاني: أن الحسنة التي يراد بها الخير والطاعة لا يقال فيها أصابتني، إنما يقال أصبتها، وليس في كلام العرب
188

أصابت فلانا حسنة بمعنى عمل خيرا، أو أصابته سيئة بمعنى عمل معصية، فعلى هذا لو كان المراد ما ذكرتم لقال ان أصبتم حسنة. الثالث: لفظ الحسنة واقع بالاشتراك على الطاعة وعلى المنفعة، وههنا أجمع المفسرون على أن المنفعة مرادة، فيمتنع كون الطاعة مرادة، ضرورة أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا.
فالجواب عن الأول: أنكم تسلمون أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ.
والجواب عن الثاني: أنه يصح أن يقال: أصابني توفيق من الله وعون من الله، وأصابه خذلان من الله، ويكون مراده من ذلك التوفيق والعون تلك الطاعة، ومن الخذلان تلك المعصية.
والجواب عن الثالث: أن كل ما كان منتفعا به فهو حسنة، فان كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة، وإن كان منتفعا به في الدنيا فهو السعادة الحاضرة، فاسم الحسنة بالنسبة إلى هذين القسمين متواطئ الاشتراك، فزال السؤال. فثبت أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه، ومما يدل على أن المراد ليس إلا ذاك ما ثبت في بدائه العقول أن كل موجود فهو إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى، والممكن لذاته كل ما سواه، فالممكن لذاته إن استغنى عن المؤثر فسد الاستدلال بجواز العالم وحدوثه على وجود الصانع، وحينئذ يلزم نفي الصانع، وإن كان الممكن لذاته محتاجا إلى المؤثر، فإذا كان كل ما سوى الله ممكنا كان كل ما سوى الله مستندا إلى الله، وهذا الحكم لا يختلف بأن يكون ذلك الممكن ملكا أو جمادا أو فعلا للحيوان أو صفة للنبات، فان الحكم لاستناد الممكن لذاته إلى الواجب لذاته لما بينا من كونه ممكنا كان الكل فيه على السوية، وهذا برهان أوضح وأبين من قرص الشمس على أن الحق ما ذكره تعالى، وهو قوله: * (قل كل من عند الله) *.
ثم قال تعالى: * (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: انه لما كان البرهان الدال على أن كل ما سوى الله مستندا إلى الله على الوجه الذي لخص انه في غاية الظهور والجلاء، قال تعالى: * (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) * وهذا يجري مجرى التعجب من عدم وقوفهم على صحة هذا الكلام مع ظهوره. قالت المعتزلة: بل هذه الآية دالة على صحة قولنا، لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق الله تعالى لم يبق هذا التعجب معنى البتة، لأن السبب في عدم حصول هذه المعرفة هو أنه تعالى ما خلقها وما أوجدها، وذلك يبطل هذا التعجب، فحصول هذا التعجب يدل على أنه إنما تحصل بايجاد العبد لا بايجاد الله تعالى.
واعلم أن هذا الكلام ليس إلا التمسك بطريقة المدح والذم، وقد ذكرنا أنها معارضة بالعلم.
189

المسألة الثانية: قالت المعتزلة: أجمع المفسرون على أن المراد من قوله: * (لا يكادون يفقهون حديثا) * أنهم لا يفقهون هذه الآية المذكورة في هذا الموضع، وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث، والحديث فعيل بمعنى مفعول، فيلزم منه أن يكون القرآن محدثا.
والجواب: مرادكم بالقرآن ليس إلا هذه العبارات، ونحن لا ننازع في كونها محدثة.
المسألة الثالثة: الفقه: الفهم، يقال أوتى فلانا فقها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: " فقهه في التأويل " أي فهمه.
قوله تعالى
* (مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا) *.
قال أبو علي الجبائي: قد ثبت أن لفظ السيئة تارة يقع على البلية والمحنة، وتارة يقع على الذنب والمعصية، ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله: * (قل كل من عند الله) * (النساء: 78) وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله: * (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * (النساء: 79) فلا بد من التوفيق بين هاتين الآيتين وإزالة التناقض عنهما، ولما كانت السيئة بمعنى البلاء والشدة مضافة إلى الله وجب أن تكون السيئة بمعنى المعصية مضافة إلى العبد حتى يزول التناقض بين هاتين الآيتين المتجاورتين، قال: وقد حمل المخالفون أنفسهم على تغيير الآية وقرأوا: * (فمن تعسك) * فغيروا القرآن وسلكوا مثل طريقة الرافضة من ادعاء التغيير في القرآن.
فان قيل: فلماذا فصل تعالى بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة وكلاهما فعل العبد عندكم؟
قلنا: لأن الحسنة وإن كانت من فعل العبد فإنما وصل إليها بتسهيله تعالى وألطافه فصحت الإضافة إليه، وأما السيئة التي هي من فعل العبد فهي غير مضافة إلى الله تعالى لا بأنه تعالى فعلها ولا بأنه أرادها، ولا بأنه أمر بها، ولا بأنه رغب فيها، فلا جرم انقطعت إضافة هذه السيئة من جميع الوجوه إلى الله تعالى. هذا منتهى كلام الرجل في هذا الموضع.
190

ونحن نقول: هذه الآية دالة على أن الايمان حصل بتخليق الله تعالى، والقوم لا يقولون به فصاروا محجوجين بالآية.
إنما قلنا: إن الآية دالة على ذلك لأن الايمان حسنة، وكل حسنة فمن الله.
إنما قلنا: إن الايمان حسنة، لأن الحسنة هي الغبطة الخالية عن جميع جهات القبح، ولا شك أن الايمان كذلك، فوجب أن يكون حسنة لأنهم اتفقوا على أن قوله: * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) * (فصلت: 33) المراد به كلمة الشهادة، وقيل في قوله: * (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) * (النحل: 90) قيل: هو لا إله
إلا الله، فثبت أن الايمان حسنة، وإنما قلنا إن كل حسنة من الله لقوله تعالى: * (ما أصابك من حسنة فمن الله) * (النساء: 79) وقوله: * (ما أصابك من حسنة) * يفيد العموم في جميع الحسنات، ثم حكم على كلها بأنها من الله، فيلزم من هاتين المقدمتين، أعني أن الايمان حسنة، وكل حسنة من الله، القطع بأن الايمان من الله.
فان قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من كون الايمان من الله هو أن الله أقدره عليه وهداه إلى معرفة حسنة، وإلى معرفة قبح ضده الذي هو الكفر؟
قلنا: جميع الشرائع مشتركة بالنسبة إلى الايمان والكفر عندكم، ثم إن العبد باختيار نفسه أوجد الايمان، ولا مدخل لقدرة الله وإعانته في نفس الايمان، فكان الايمان منقطعا عن الله في كل الوجوه، فكان هذا مناقضا لقوله: * (ما أصابك من حسنة فمن الله) * فثبت بدلالة هذه الآية أن الايمان من الله، والخصوم لا يقولون به، فصاروا محجوجين في هذه المسألة، ثم إذا أردنا أن نبين أن الكفر أيضا من الله. قلنا فيه وجوه: الأول: أن كل من قال: الايمان من الله قال: الكفر من الله، فالقول بأن أحدهما من الله دون الآخر مخالف لاجماع الأمة. الثاني: أن العبد لو قدر على تحصيل الكفر فالقدرة الصالحة لايجاد الكفر إما أن تكون صالحة لايجاد الايمان أو لا تكون، فان كانت صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يعود القول في أن إيمان العبد منه، وإن لم تكن صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يكون القادر على الشيء غير قادر على ضده، وذلك عندهم محال، ولأن على هذا التقدير تكون القدرة موجبة للمقدور، وذلك يمنع من كونه قادرا عليه، فثبت أنه لما لم يكن الايمان منه وجب أن لا يكون الكفر منه. الثالث: أنه لما لم يكن العبد موجدا للايمان فبأن لا يكون موجدا للكفر أولى، وذلك لأن المستقل بايجاد الشيء هو الذي يمكنه تحصيل مراده، ولا نرى في الدنيا عاقلا إلا ويريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الايمان والمعرفة والحق، وإن أحدا من العقلاء لا يريد أن يكون الحاصل في قلبه هو
191

الجهل والضلال والاعتقاد الخطأ، فإذا كان العبد موجدا لأفعال نفسه وهو لا يقصد إلا تحصيل العلم الحق المطابق، وجب أن لا يحصل في قلبه إلا الحق، فإذا كان الايمان الذي هو مقصوده ومطلوبه ومراده لم يقطع بايجاده، فبأن يكون الجهل الذي ما أراده وما قصد تحصيله وكان في غاية النفرة عنه والفرار منه غير واقع بايجاده وتكوينه كان ذلك أولى. والحاصل أن الشبهة في أن الايمان واقع بقدرة العبد أشد من الشبهة في وقوع الكفر بقدرته، فلما بين تعالى في الايمان أنه من الله ترك ذكر الكفر للوجه الذي ذكرناه، فهذا جملة الكلام في بيان دلالة هذه الآية على مذهب إمامنا.
أما ما احتج الجبائي به على مذهبه من قوله: * (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) *.
فالجواب عنه من وجهين: الأول: أنه تعالى قال حكاية عن إبراهيم عليه السلام: * (وإذا مرضت فهو يشفين) * (الشعراء: 80) أضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله، فلم يقدح ذلك في كونه تعالى خالقا للمرض والشفاء، بل إنما فصل بينهما رعاية الأدب، فكذا ههنا، فإنه يقال: يا مدبر السماوات والأرض، ولا يقال يا مدبر القمل والصبيان والخنافس، فكذا ههنا. الثاني: أكثر المفسرين قالوا في تفسير قول إبراهيم: * (هذا ربي) * أنه ذكر هذا استفهاما على سبيل الانكار، كأنه قال: أهذا ربي، فكذا ههنا، كأنه قيل: الايمان الذي وقع على وفق قصده قد بينا أنه ليس واقعا منه، بل من الله، فهذا الكفر ما قصده وما أراده وما رضي به البتة، أفيدخل في العقل أن يقال: إنه وقع به؟ فانا بينا أن الحسنة في هذه الآية يدخل فيها الايمان، والسيئة يدخل فيها الكفر، أما قراءة من قرأ * (فمن تعسك) * فنقول: إن صح أنه قرأ بهذه الآية واحد من الصحابة والتابعين فلا طعن فيه، وإن لم يصح ذلك فالمراد أن من حمل الآية على أنها وردت على سبيل الاستفهام على وجه الانكار ذكر في تفسير الاستفهام على سبيل الانكار هذا الكلام، لأنه لما أضاف السيئة إليهم في معرض الاستفهام على سبيل الانكار كان المراد أنها غير مضافة إليهم، فذكر هذا القائل قوله: * (فمن تعسك) * (النساء: 79) لا على اعتقاد أنه من القرآن، بل لأجل أنه يجري مجرى التفسير لقولنا: إنه استفهام على سبيل الانكار، ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى، قوله تعالى بعد هذه الآية: * (وأرسلناك للناس رسولا) * يعني ليس لك إلا الرسالة والتبليغ، وقد فعلت ذلك وما قصرت * (وكفى بالله شهيدا) * (النساء: 166) على جدك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي، فأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله، ونظيره قوله تعالى: * (ليس لك من الأمر شيء) * وقوله: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) * (القصص: 56) فهذا جملة ما خطر بالبال في هذه الآية، والله أعلم بأسرار كلامه.
192

ثم إنه تعالى أكد هذا الذي قلناه.
* (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا) *.
والمعنى أن من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله، وذلك في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا، فان من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق، فان أحدا من الخلق لا يقدر على إرشاده.
واعلم أن من أنار الله قلبه بنور الهداية قطع بأن الأمر كما ذكرنا، فإنك ترى الدليل الواحد تعرضه على شخصين في مجلس واحد، ثم إن أحدهما يزداد إيمانا على إيمان عند سماعه، والآخر يزداد كفرا على كفر عند سماعه، ولو أن المحب لذلك الكلام أراد أن يخرج عن قلبه حب ذلك الكلام واعتقاد صحته لم يقدر عليه، ولو أن المبغض له أراد أن يخرج عن قلبه بغض ذلك الكلام واعتقاد فساده لم يقدر، ثم بعد أيام ربما انقلب المحب مبغضا والمبغض محبا، فمن تأمل للبرهان القاطع الذي ذكرناه في أنه لا بد من إسناد جميع الممكنات إلى واجب الوجود، ثم اعتبر من نفسه الاستقراء الذي ذكرناه، ثم لم يقطع بأن الكل بقضاء الله وقدره، فليجعل واقعته من أدل الدلائل على أنه لا تحصل الهداية إلا بخلق الله من جهة أن مع العلم بمثل هذا الدليل، ومع العلم بمثل هذا الاستقراء لما لم يحصل في قلبه هذا الاعتقاد، عرف أنه ليس ذلك إلا بأن الله صده عنه ومنعه منه. بقي في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي كل ما يبلغه عن الله، لأنه لو أخطأ في شيء منها لم تكن طاعته طاعة الله وأيضا وجب أن يكون معصوما في جميع أفعاله، لأنه تعالى أمر بمتابعته في قوله: * (فاتبعوه) * (الأنعام: 153 - 155) والمتابعة عبارة عن الاتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير، فكان الآتي بمثل ذلك الفعل مطيعا لله في قوله: * (فاتبعوه) * فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وفي جميع أفعاله، إلا ما خصه الدليل، طاعة لله وانقياد لحكم الله.
المسألة الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة في باب فرض الطاعة للرسول: ان قوله تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * يدل على أن كل تكليف كلف الله به عباده في باب الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأبواب في القرآن، ولم يكن ذلك التكليف مبينا في القرآن، فحينئذ لا سبيل لنا إلى القيام بتلك التكاليف إلا ببيان الرسول، وإذا كان الأمر كذلك
193

لزم القول بأن طاعة الرسول عين طاعة الله، هذا معنى كلام الشافعي.
المسألة الثالثة: قوله: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * يدل على أنه لا طاعة إلا لله البتة، وذلك لأن طاعة الرسول لكونه رسولا فيما هو فيه رسول لا تكون إلا طاعة لله، فكانت الآية دالة على أنه لا طاعة لأحد إلا لله. قال مقاتل في هذه الآية: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله " فقال المنافقون: لقد قارب هذا الرجل الشرك وهو أن ينهي أن نعبد غير الله، ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى، فأنزل الله هذه الآية.
واعلم أنا بينا كيفية دلالة الآية على أنه لا طاعة البتة للرسول، وإنما الطاعة لله. أما قوله: * (ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) * ففيه قولان: أحدهما: أن المراد من التولي هو التولي بالقلب، يعني يا محمد حكمك على الظواهر، أما البواطن فلا تتعرض لها. والثاني: أن المراد به التولي بالظاهر، ثم ههنا ففي قوله: * (فما أرسلناك عليهم حفيظا) * قولان: الأول: معناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولي وأن تحزن، فما أرسلناك لتحفظ الناس عن المعاصي، والسبب في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يشتد حزنه بسبب كفرهم وإعراضهم، فالله تعالى ذكر هذا الكلام تسلية له عليه الصلاة والسلام عن ذلك الحزن. الثاني: أن المعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عن ذلك لتولى وهو كقوله: * (لا إكراه في الدين) * (البقرة: 256) ثم نسخ هذا بعده بآية الجهاد.
قوله تعالى
* (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طآئفة منهم غير الذى تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) *.
أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء * (طاعة) * بالرفع، أي أمرنا وشأننا طاعة، ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة، وهذا كما إذا قال الرجل المطيع المنقاد: سمعا وطاعة، وسمع وطاعة. قال سيبويه: سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال لهم كيف أصبحت؟ فيقول: حمد الله وثناء عليه، كأنه قال: أمرى وشأني حمدا لله.
واعلم أن النصب يدل على مجرد الفعل. وأما الرفع فإنه يدل على ثبات الطاعة واستقرارها * (فإذا برزوا من عندك) * أي خرجوا من عندك * (بيت طائفة منهم غير الذي تقول) * وفيه مسائل:
194

المسألة الأولى: قال الزجاج: كل أمر تفكروا فيه كثيرا وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيرا قيل هذا أمر مبيت، قال تعالى: * (إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) * (النساء: 108) وفي اشتقاقه وجهان: الأول: اشتقاقه من البيتوتة، لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الانسان في بيته بالليل، فهناك تكون الخواطر أخلى والشواغل أقل، فلما كان الغالب أن الانسان وقت الليل يكون في البيت، والغالب له أنه إنما يستقصي في الأفكار في الليل، لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيتا. الثاني: اشتقاقه من بيت الشعر. قال الأخفش: العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه فسموا المتفكر فيه المستقصى مبيتا، تشبيها له ببيت الشعر من حيث أنه يسوى ويدبر.
المسألة الثانية: أنه تعالى خص طائفة من جملة المنافقين بالتبييت، وفي هذا التخصيص وجهان: أحدهما: أنه تعالى ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فإنه لم يذكرهم. والثاني: أن هذه الطائفة كانوا قد أسهروا ليلهم في التبييت، وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا، فلا جرم لم يذكروا.
المسألة الثالثة: قرأ أبو عمرو وحمزة * (بيت طائفة) * بادغام التاء في الطاء، والباقون بالاظهار أما من أدغم فله فيه وجهان: الأول: قال الفراء: جزموا لكثرة الحركات، فلما سكنت التاء أدغمت في الطاء، والثاني: أن الطاء والدال والتاء من حيز واحد، فالتقارب الذي بينها يجريها مجرى الأمثال في الادغام، ومما يحسن هذا الادغام أن الطاء تزيد على التاء بالاطباق، فحسن إدغام الأنقص صوتا في الأزيد صوتا. أما من لم يدغم فعلته أنهما حرفان من مخرجين في كلمتين متفاصلتين، فوجب إبقاء كل واحد منهما بحاله.
المسألة الرابعة: قال: * (بيت) * بالتذكير ولم يقل: بيتت بالتأنيث، لأن تأنيث الطائفة غير حقيقي، ولأنها في معنى الفريق والفوج. قال صاحب " الكشاف ": * (بيت طائفة) * أي زورت وزينت خلاف ما قلت وما أمرت به، أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة، لأنهم أبطنوا الرد لا القبول والعصيان لا الطاعة.
ثم قال تعالى: * (والله يكتب ما يبيتون) * ذكر الزجاج فيه وجهين: أحدهما: أن معناه ينزل إليك في كتابه. والثاني: يكتب ذلك في صحائف أعمالهم ليجازوا به.
ثم قال تعالى: * (فأعرض عنهم) * والمعنى لا تهتك سترهم ولا تفضحهم ولا تذكرهم بأسمائهم، وإنما أمر الله بستر أمر المنافقين إلى أن يستقيم أمر الاسلام. ثم قال: * (وتوكل على الله) * في شأنهم، فان الله يكفيك شرهم وينتقم منهم * (وكفى بالله وكيلا) * لمن توكل عليه. قال المفسرون: كان الأمر بالاعراض عن
195

المنافقين في ابتداء الاسلام، ثم نسخ ذلك بقوله: * (جاهد الكفار والمنافقين) * (التوبة: 73، التحريم: 9) وهذا الكلام فيه نظر، لأن الأمر بالصفح مطلق فلا يفيد
إلا المرة الواحدة، فورود الأمر بعد ذلك بالجهاد لا يكون ناسخا له.
قوله تعالى
* (أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين أنواع مكرهم وكيدهم، وكان كل ذلك لأجل أنهم ما كانوا يعتقدون كونه محقا في ادعاء الرسالة صادقا فيه، بل كانوا يعتقدون أنه مفتر متخرص، فلا جرم أمرهم الله تعالى بأن ينظروا ويتفكروا في الدلائل الدالة على صحة نبوته. فقال: * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * فاحتج تعالى بالقرآن على صحة نبوته وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: التدبير والتدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور وأدبارها، ومنه قوله: إلام تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها، ويقال في فصيح الكلام: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، أي لو عرفت في صدر أمري ما عرفت من عاقبته.
المسألة الثانية: اعلم أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى احتج بالقرآن على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لو تحمل الآية على ذلك لم يبق لها تعلق بما قبلها البتة، والعلماء قالوا: دلالة القرآن على صدق محمد صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه: أولها: فصاحته. وثانيها: اشتماله على الاخبار عن الغيوب. والثالث: سلامته عن الاختلاف، وهذا هو المذكور في هذه الآية، ثم القائلون بهذا القول ذكروا في تفسير سلامته عن الاختلاف ثلاثة أوجه: الأول: قال أبو بكر الأصم: معناه أن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد، والله تعالى كان يطلع الرسول عليه الصلاة والسلام على تلك الأحوال حالا فحالا: ويخبره عنها على سبيل التفصيل، وما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق، فقيل لهم: إن ذلك لو لم يحصل باخبار الله تعالى وإلا لما اطرد الصدق فيه، ولظهر في قول محمد أنواع الاختلاف والتفاوت، فلما لم يظهر ذلك علمنا أن ذلك ليس إلا باعلام الله تعالى، والثاني: وهو الذي ذهب إليه أكثر
196

المتكلمين أن المراد منه أن القرآن كتاب كبير، وهو مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم، فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة، لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك، ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا أنه ليس من عند غير الله.
فان قيل: أليس أن قوله: * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) * (القيامة: 23) كالمناقض لقوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار) * (الأنعام: 103) وآيات الجبر كالمناقضة لآيات القدر، وقوله: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) * (الحجر: 92) كالمناقض لقوله: * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) * (الرحمن: 39).
قلنا: قد شرحنا في هذا التفسير أنه لا منافاة ولا مناقضة بين شيء منها البتة.
الوجه الثالث: في تفسير قولنا: القرآن سليم عن الاختلاف ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أن المراد منه الاختلاف في رتبة الفصاحة، حتى لا يكون في جملته ما يعد في الكلام الركيك، بل بقيت الفصاحة فيه من أوله إلى آخره على نهج واحد، ومن المعلوم أن الانسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة، فإذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكبيرة، فلا بد وأن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا، ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه لمعجز من عند الله تعالى، وضرب القاضي لهذا مثلا فقال: ان الواحد منا لا يمكنه أن يكتب الطوامير الطويلة بحيث لا يقع في شيء من تلك الحروف خلل ونقصان، حتى لو رأينا الطوامير الطويلة مصونة عن مثل هذا الخلل والنقصان لكان ذلك معدودا في الاعجاز فكذا ههنا.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن القرآن معلوم المعنى خلاف ما يقوله من يذهب إلى أنه لا يعلم معناه إلا النبي والامام المعصوم، لأنه لو كان كذلك لما تهيأ للمنافقين معرفة ذلك بالتدبر، ولما جاز أن يأمرهم الله تعالى به وأن يجعل القرآن حجة في صحة نبوته، ولا أن يجعل عجزهم عن مثله حجة عليهم، كما لا يجوز أن يحتج على كفار الزنج بمثل ذلك.
المسألة الرابعة: دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال، وعلى القول بفساد التقليد، لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته، وإذا كان لا بد في صحة نبوته من الاستدلال، فبأن يحتاج في معرفة ذات الله وصفاته إلى الاستدلال كان أولى.
المسألة الخامسة: قال أبو علي الجبائي: دلت الآية على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى لأن قوله تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * يقتضي أن فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف، والاختلاف والتفاوت شيء واحد، فإذا كان فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف والتفاوت، وفعل الله لا يوجد فيه التفاوت لقوله تعالى: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * (الملك: 3) فهذا
197

يقتضي أن فعل العبد لا يكون فعلا لله.
والجواب أن قوله: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * معناه نفي التفاوت في أنه يقع على وفق مشيئته بخلاف غيره، فان فعل غيره لا يقع على وفق مشيئته على الاطلاق.
قوله تعالى
* (وإذا جآءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) *.
اعلم أنه تعالى حكى عن المنافقين في هذه الآية نوعا آخر من الأعمال الفاسدة، وهو أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوه وأفشوه، وكان ذلك سبب الضرر من وجوه: الأول: أن مثل هذه الارجافات لا تنفك عن الكذب الكثير. والثاني: أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة، فإذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول عليه السلام، لأن المنافقين كانوا يروون تلك الارجافات عن الرسول، وإن كان ذلك في جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الارجافات سببا للفتنة من هذا الوجه.
الوجه الثالث: وهو أن الارجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام، وذلك سبب لظهور الأسرار، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة. الرابع: أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين وبين الكفار، وكان كل واحد من الفريقين في إعداد آلات الحرب وفي انتهاز الفرصة فيه، فكل ما كان آمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني، فان وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم أرجف المنافقون بذلك فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار، فأخذوا في التحصن من المسلمين، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم،
198

وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك، وزادوا فيه وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين، فظهر من هذا أن ذلك الارجاف كان منشأ للفتن والآفات من كل الوجوه، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تلك الإذاعة وذلك التشهير، ومنعهم منه.
واعلم أن قوله: أذاعه به لغتان.
ثم قال تعالى: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في * (أولي الأمر) * قولان: أحدهما: إلى ذوي العلم والرأي منهم. والثاني: إلى أمراء السرايا، وهؤلاء رجحوا هذا القول على الأول، قالوا لأن أولي الأمر الذين لهم أمر على الناس، وأهل العلم ليسوا كذلك، إنما الأمراء هم الموصوفون بأن لهم أمرا على الناس.
وأجيب عنه: بأن العلماء إذا كانوا عالمين بأوامر الله ونواهيه، وكان يجب على غيرهم قبول قولهم لم يبعد أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه، والذي يدل عليه قوله تعالى: * (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * (التوبة: 122) فأوجب الحذر بانذراهم وألزم المنذرين قبول قولهم، فجاز لهذا المعنى إطلاق اسم أولي الأمر عليهم.
المسألة الثانية: الاستنباط في اللغة الاستخراج؛ يقال: استنبط الفقيه إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه، وأصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، والنبط إنما سموا نبطا لاستنباطهم الماء من الأرض.
المسألة الثالثة: في قوله: * (الذين يستنبطونه منهم) * قولان: الأول: أنهم هم أولئك المنافقون المذيعون، والتقدير: ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولي الأمر، وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، وهم هؤلاء المنافقون المذيعون منهم، أي من جانب الرسول ومن جانب أولي الأمر.
القول الثاني: أنهم طائفة من أولي الأمر، والتقدير: ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر، وذلك لأن أولي الأمر فريقان، بعضهم من يكون مستنبطا، وبعضهم من لا يكون كذلك، فقوله: * (منهم) * يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر.
فان قيل: إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله: * (وإلى أولي الأمر منهم) *.
199

قلنا: إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر، لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون، ونظيره قوله تعالى: * (وإن منكم لمن ليبطئن) * وقوله: * (ما فعلوه إلا قليل منهم) * والله أعلم. المسألة الرابعة: دلت هذه الآية على أن القياس حجة في الشرع، وذلك لأن قوله: * (الذين يستنبطونه منهم) * صفة لأولي الأمر، وقد أوجب الله تعالى على الذين يجيئهم أمر من الأمن أو الخوف أن يرجعوا في معرفته إليهم، ولا يخلوا إما أن يرجعوا إليهم في معرفة هذه الوقائع مع حصول النص فيها، أولا مع حصول النص فيها، والأول باطل، لأن على هذا التقدير لا يبقى الاستنباط لأن من روى النص في واقعة لا يقال: إنه استنبط الحكم، فثبت أن الله أمر المكلف برد الواقعة إلى من يستنبط الحكم فيها، ولولا أن الاستنباط حجة لما أمر المكلف بذلك، فثبت أن الاستنباط حجة، والقياس إما استنباط أو داخل فيه، فوجب أن يكون حجة. إذا ثبت هذا فنقول: الآية دالة على أمور: أحدها: أن في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص بل بالاستنباط. وثانيها: أن الاستنباط حجة: وثالثها: أن العامي يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث. ورابعها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مكلفا باستنباط الأحكام لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر.
ثم قال تعالى: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * ولم يخصص أولي الأمر بذلك دون الرسول وذلك يوجب أن الرسول وأولي الأمر كلهم مكلفون بالاستنباط.
فان قيل: لا نسلم أن المراد بقوله: * (الذين يستنبطونه منهم) * هم أولوا الأمر، بل المراد منهم المنافقون المذيعون على ما رويتم هذا القول في تفسير الآية، سلمنا أن المراد بالذين يستنبطونه منهم أولو الأمر لكن هذه الآية إنما نزلت في شأن الوقائع المتعلقة بالحروب والجهاد، فهب أن الرجوع إلى الاستنباط جائز فيها، فلم قلتم إنه
يلزم جوازه في الوقائع الشرعية؟ فان قيس أحد البابين على الآخر كان ذلك إثباتا للقياس الشرعي بالقياس الشرعي وإنه لا يجوز، سلمنا أن الاستنباط في الأحكام الشرعية داخل تحت الآية. فلم قلتم: إنه يلزم أيكون القياس حجة؟ بيانه أنه يمكن أن يكون المراد من الاستنباط استخراج الأحكام من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص، أو المراد من استخراج الأحكام من البراءة الأصلية، أو مما ثبت بحكم العقل كما يقول الأكثرون: ان الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار الحرمة، سلمنا أن القياس من الشرعي داخل في الآية، لكن بشرط أن يكون ذلك القياس مفيدا للعلم بدليل قوله تعالى: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * فأخبر تعالى في هذه الآية أنه يحصل العلم
200

من هذا الاستنباط، ولا نزاع في مثل هذا القياس، انما النزاع في أن القياس الذي يفيد الظن هل هو حجة في الشرع أم لا؟ والجواب:
أما في السؤال الأول: فمدفوع لأنه لو كان المراد بالذين يستنبطونه المنافقين لكان الأولى أن يقال: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلموه، لأن عطف المظهر على المضمر، وهو قوله: * (ولو ردوه) * قبيح مستكره.
وأما السؤال الثاني: فمدفوع لوجهين: الأول: أن قوله: * (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف) * النساء: 83) عام في كل ما يتعلق بالحروب وفيما يتعلق بسائر الوقائع الشرعية، لأن الامن والخوف حاصل في كل ما يتعلق بباب التكليف، فثبت انه ليس في الآية ما يوجب تخصيصها بأمر الحروب. الثاني: هب أن الامر كما ذكرتم لكن تعرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي، ولما ثبت جوازه وجب أن يجوز التمسك بالقياس الشرعي في سائر الوقائع لأنه لا قائل بالفرق، ألا ترى أن من قال: القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت إليه، فكذا ههنا.
وأما السؤال الثالث: وهو حمل الاستنباط على النصوص الخفية أو على تركيبات النصوص فجوابه: أن كل ذلك لا يخرج عن كونه منصوصا، والتمسك بالنص لا يسمى استنباطا. قوله: لم لا يجوز حمله على التمسك بالبراءة الأصلية؟ قلنا ليس هذا استنباطا بل هو إبقاء لما كان على ما كان، ومثل هذا لا يسمى استنباطا البتة.
وأما السؤال الرابع: وهو قوله ان هذا الاستنباط إنما يجوز عند حصول العلم، والقياس الشرعي لا يفيد العلم.
قلنا: الجواب عنه من وجهين: الأول: ان القياس الشرعي عندنا يفيد العلم، وذلك لان بعد ثبوت أن القياس حجة نقطع بأنه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الأصل معلل بكذا، ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع، فههنا يحصل ظن أن حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الأصل، وعند هذا الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن، فالحاصل أن الظن واقع في طريق الحكم، وأما الحكم فمقطوع به، وهو يجري مجرى ما إذا قال الله: مهما غلب على ظنك كذا فاعلم أن في الواقعة الفلانية حكمي كذا فإذا حصل الظن قطعنا بثبوت ذلك الحكم. والثاني: وهو ان العلم قد يطلق ويراد به الظن، قال عليه الصلاة والسلام: " إذا علمت مثل الشمس فاشهد " شرط العلم في جواز الشهادة، وأجمعنا على أن عند الظن تجوز الشهادة، فثبت أن الظن قد يسمى بالعلم والله أعلم.
201

ثم قال تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ان ظاهر هذا الاستثناء يوهم أن ذلك القليل وقع لا بفضل الله ولا برحمته ومعلوم ان ذلك محال. فعند هذا اختلف المفسرون وذكروا وجوها، قال بعضهم: هذا الاستثناء راجع إلى قوله: * (أذاعوا) * وقال قوم: راجع إلى قوله: * (لعلمه الذين يستنبطونه) * وقال آخرون: إنه راجع إلى قوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) *.
واعلم أن الوجوه لا يمكن أن تزيد على هذه الثلاثة لأن الآية متضمنة للاخبار عن هذه الأحكام الثلاثة، ويصح صرف الاستثناء إلى كل واحد منها، فثبت أن كل واحد من هذه الأقوال محتمل.
أما القول الأول: فالتقدير: وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا، فأخرج تعالى بعض المنافقين عن هذه الإذاعة كما أخرجهم في قوله: * (بيت طائفة منهم غير الذي تقول (النساء: 81)) *.
والقول الثاني: الاستثناء عائد إلى قوله: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا القليل: قال الفراء والمبرد: القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه، والأكثر يجهله، وصرف الاستثناء إلى ما ذكره يقتضي ضد ذلك. قال الزجاج: هذا غلط لأنه ليس المراد من هذا الاستثناء شيئا يستخرجه بنظر دقيق وفكر غامض، إنما هو استنباط خبر، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه، إنما البالغ في البلادة والجهالة هو الذي لا يعرفه ويمكن أن يقال: كلام الزجاج إنما يصح لو حملنا الاستنباط على مجرد تعرف الاخبار والأراجيف، أما إذا حملناه على الاستنباط في جميع الأحكام كما صححنا ذلك بالدليل كان الحق كما ذكره الفراء والمبرد.
القول الثالث: انه متعلق بقوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) * ومعلوم أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه.
واعلم أن هذا القول لا يتمشى الا إذا فسرنا الفضل والرحمة بشيء خاص، وفيه وجهان: الأول: وهو قول جماعة من المفسرين، أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية إنزال القرآن وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم، والتقدير: ولولا بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن لاتبعتم الشيطان وكفرتم بالله الا قليلا منكم، فان ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان، وما كان يكفر بالله، وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وهم الذين كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
202

الوجه الثاني: ما ذكره أبو مسلم، وهو أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم: * (فأفوز فوزا عظيما)
* (النساء: 73) فبين تعالى أنه لولا حصول النصر والظفر على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين الا قليل منكم، وهم أهل البصائر الناقدة والنيات القوية والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا، فلأجل تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا، ولأجل تواتر الانهزام والانكسار يدل على كونه باطلا، بل الامر في كونه حقا وباطلا على الدليل، وهذا أصح الوجوه وأقربها إلى التحقيق.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن الذين اتبعوا الشيطان فقد منعهم الله فضله ورحمته، والا ما كان يتبع، وهذا يدل على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على الله رعاية الأصلح في الدين. أجاب الكعبي عنه بأن فضل الله ورحمته عامان في حق الكل، لكن المؤمنين انتفعوا به، والكافرين لم ينتفعوا به، فصح على سبيل المجاز أنه لم يحصل للكافر من الله فضل ورحمة في الدين.
والجواب: أن حمل اللفظ على المجاز خلاف الأصل.
قوله تعالى
* (فقاتل فى سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) *.
اعلم أنه تعالى لما أمر بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب في الآيات المتقدمة، وذكر في المنافقين قلة رغبتهم في الجهاد، بل ذكر عنهم شدة سعيهم في تثبيط المسلمين عن الجهاد، عاد في هذه الآية إلى الامر بالجهاد فقال: * (فقاتل في سبيل الله) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الفاء في قوله: * (فقاتل) * بماذا تتعلق؟ فيه وجوه: الأول: أنها جواب لقوله: * (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل) * (النساء: 74) من طريق المعنى لأنه يدل على معنى ان أردت الفوز فقاتل الثاني: أن يكون متصلا بقوله: * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) * (النساء: 75) * (فقاتل في سبيل الله) * (النساء: 84) والثالث: أن يكون متصلا بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين، والمعنى أن من أخلاق هؤلاء المنافقين كذا وكذا، فلا تعتد بهم ولا تلتفت إلى أفعالهم، بل قاتل.
203

المسألة الثانية: دلت الآية على أن الله تعالى أمره بالجهاد ولو وحده قبل دعاء الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان واعد الرسول صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا، فنزلت هذه الآية، فخرج وما معه الا سبعون رجلا ولم يلتفت إلى أحد، ولو لم يتبعوه لخرج وحده.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو صلى الله عليه وسلم موصوف بهذه الصفات، ولقد اقتدى به أبو بكر رضي الله عنه حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة، ومن علم أن الأمر كله بيد الله وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل ذلك عليه.
ثم قال تعالى: * (لا تكلف إلا نفسك) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (لا تكلف) * بالجزم على النهي. و * (لا نكلف) * بالنون وكسر اللام، أي لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها.
المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه الله. انتصاب قوله: * (نفسك) * على مفعول ما لم يسم فاعله.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أنه لو لم يساعده على القتال غيره لم يجز له التخلف عن الجهاد البتة، والمعنى لا تؤاخذ إلا بفعلك دون فعل غيرك، فإذا أديت فعلك لا تكلف بفرض غيرك.
واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول عليه السلام من فروض الكفايات، فما لم يغلب على الظن أنه يفيد لم يجب، بخلاف الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه على ثقة من النصر والظفر بدليل قوله تعالى: * (والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 67) وبدليل قوله ههنا: * (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) * و " عسى " من الله جزم، فلزمه الجهاد وان كان وحده.
ثم قال تعالى: * (وحرض المؤمنين) * والمعنى ان الواجب على الرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو الجهاد وتحريض الناس في الجهاد، فان أتى بهذين الأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا للجهاد شيء.
ثم قال: * (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: عسى: حرف من حروف المقاربة وفيه ترج وطمع، وذلك على الله تعالى محال.
والجواب عنه ان " عسى " معناها الأطماع، وليس في الأطماع أنه شك أو يقين، وقال بعضهم: إطماع الكريم إيجاب.
204

المسألة الثانية: الكف المنع، والبأس أصله المكروه، يقال ما عليك من هذا الأمر بأس أي مكروه، ويقال بئس الشيء هذا إذا وصف بالرداءة، وقوله: * (بعذاب بئيس) * (الأعراف: 165) أي مكروه، ويقال بئس الشيء هذا إذا وصف بالرداءة، وقوله: * (بعذاب بئيس) * أي مكروه، والعذاب قد يسمى بأسا لكونه مكروها، قال تعالى: * (فمن ينصرنا من بأس الله) * (غافر: 9) * (فلما أحسوا بأسنا. فلما رأوا بأسنا) * (الأنبياء: 12) قال المفسرون: عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا، وقد كف بأسهم، فقد بدا لأبي سفيان وقال هذا عام مجدب وما كان معهم زاد إلا السويق، فترك الذهاب إلى محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: * (والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) * يقال: نكلت فلانا إذا عاقبته عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله، من قولهم: نكل الرجل عن الشيء إذا جبن عنه وامتنع منه، قال تعالى: * (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) * (البقرة: 66) وقال في السرقة: * (بما كسبا نكالا من الله) * (المائدة: 38) ويقال: نكل
فلان عن اليمين إذا خافه ولم يقدم عليه:
إذا عرفت هذا فنقول: الآية دالة على أن عذاب الله وتنكيله أشد من عذاب غيره ومن تنكيله، وأقبل الوجوه في بيان هذا التفاوت أن عذاب غير الله لا يكون دائما، وعذاب الله دائم في الآخرة، وعذاب غير الله قد يخلص الله منه، وعذاب الله لا يقدر أحد على التخلص منه، وأيضا عذاب غير الله لا يكون إلا من وجه واحد، وعذاب الله قد يصل إلى جميع الأجزاء والأبعاض والروح والبدن.
قوله تعالى
* (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شىء مقيتا) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها: الأول: أن الله تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يحرض الأمة على الجهاد، والجهاد من الأعمال الحسنة والطاعات الشريفة، فكان تحريض النبي عليه الصلاة والسلام للأمة على الجهاد تحريضا منه لهم على الفعل الحسن والطاعة الحسنة، فبين تعالى في هذه الآية أن من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، والغرض
205

منه بيان أنه عليه الصلاة والسلام لما حرضهم على الجهاد فقد استحق بذلك التحريض أجرا عظيما. الثاني: أنه تعالى لما أمره بتحريضهم على الجهاد ذكر أنهم لو لم يقبلوا أمره لم يرجع إليه من عصيانهم وتمردهم عيب، ثم بين في هذه الآية أنهم لما أطاعوا وقبلوا التكليف رجع إليهم من طاعتهم خير كثير، فكأنه تعالى قال للرسول عليه الصلاة والسلام: حرضهم على الجهاد، فان لم يقبلوا قولك لم يكن من عصيانهم عتاب لك، وإن أطاعوك حصل لك من طاعتهم أعظم الثواب، فكان هذا ترغيبا من الله لرسوله في أن يجتهد في تحريض الأمة على الجهاد، والسبب في أنه عليه الصلاة والسلام كان يرجع إليه عند طاعتهم أجر عظيم، وما كان يرجع إليه من معصيتهم شيء من الوزر، هو أنه عليه السلام بذل الجهد في ترغيبهم في الطاعة وما رغبهم البتة في المعصية، فلا جرم يرجع إليه من طاعتهم أجر ولا يرجع إليه من معصيتهم وزر. الثالث: يجوز أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام لما كان يرغبهم في القتال ويبالغ في تحريضهم عليه، فكان بعض المنافقين يشفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أن يأذن لبعضهم في التخلف عن الغزو، فنهى الله عن مثل هذه الشفاعة وبين أن الشفاعة إنما تحسن إذا كانت وسيلة إلى إقامة طاعة الله، فأما إذا كانت وسيلة إلى معصيته كانت محرمة منكرة. الرابع: يجوز أن يكون بعض المؤمنين راغبا في الجهاد، إلا أنه لم يجد أهبة الجهاد، فصار غيره من المؤمنين شفيعا له إلى مؤمن آخر ليعينه على الجهاد، فكانت هذه الشفاعة سعيا في إقامة الطاعة، فرغب الله تعالى في مثل هذه الشفاعة، وعلى جميع الوجوه فالآية حسنة الاتصال بما قبلها.
المسألة الثانية: الشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو أن يصير الانسان نفسه شفعا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة فيها.
إذا عرفت هذا فنقول: في الشفاعة المذكورة في الآية وجوه: الأول: أن المراد منها تحريض النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على الجهاد، وذلك لأنه إذا كان عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد، وأيضا فالتحريض على الشيء عبارة عن الأمر به لا على سبيل التهديد، بل على سبيل الرفق والتلطف، وذلك يجري مجرى الشفاعة. الثاني: أن المراد منه ما ذكرنا من أن بعض المنافقين كان يشفع لمنافق آخر في أن يأذن له الرسول عليه الصلاة والسلام في التخلف عن الجهاد، أو المراد به أن بعض المؤمنين كان يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث في أن يحصل له ما يحتاج إليه من آلات الجهاد. الثالث: نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما معناه أن الشفاعة الحسنة ههنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار، والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالمحبة للكفار وترك إيذائهم: الرابع: قال مقاتل: الشفاعة
206

إلى الله إنما تكون بالدعاء، واحتج بما روى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال الملك له ولك مثل ذلك " فهذا هو النصيب، وأما الشفاعة السيئة فهي ما روي أن اليهود كانوا إذا دخلوا على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: السام عليكم، والسام هو الموت، فسمعت عائشة رضي الله عنها فقالت عليكم السام واللعنة، أتقولون هذا للرسول! فقال صلى الله عليه وسلم: قد علمت ما قالوا فقلت وعليكم، فنزلت هذه الآية. الخامس: قال الحسن ومجاهدي والكلبي وابن زيد: المراد هو الشفاعة التي بين الناس بعضهم لبعض، فما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة، وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة، ثم قال الحسن: من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر، وإن لم يشفع، لأن الله تعالى يقول: * (من يشفع) * ولم يقل: ومن يشفع، ويتأيد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: " اشفعوا تؤجروا ".
وأقول: هذه الشفاعة لا بد وأن يكون لها تعلق بالجهاد وإلا صارت الآية منقطعة عما قبلها، وذلك التعلق حاصل بالوجهين الأولين، فأما الوجوه الثلاثة الأخيرة فان كان المراد قصر الآية عليها فذلك باطل، وإلا صارت هذه الآية أجنبية عما قبلها، وإن كان المراد دخول هذه الثلاثة مع الوجهين الأولين في اللفظ فهذا جائز؛ لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ.
المسألة الثالثة: قال أهل اللغة: الكفل: هو الحظ ومنه قوله تعالى: * (يؤتكم كفلين من رحمته) * (الحديد: 28) أي حظين وهو مأخوذ من قولهم: كفلت البعير واكتفلته إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه. وإنما قيل: كفلت البعير واكتفلته لأنه لم يستعمل كل الظهر، وإنما استعمل نصيبا من الظهر. قال ابن المظفر: لا يقال: هذا كفل فلان حتى تكون قد هيأت لغيره مثله، وكذا القول في النصيب، فان أفردت فلا تقل له كفل ولا نصيب.
فان قيل: لم قال في الشفاعة الحسنة: * (يكن له نصيب منها) * وقال في الشفاعة السيئة: * (يكن له كفل منها) * وهل لاختلاف هذين اللفظين فائدة؟
قلنا: الكفل اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس، وإنما يقال كفل البعير لأنك حميت ظهر البعير بذلك الكساء عن الآفة، وحمي الراكب بدنه بذلك الكساء عن ارتماس ظهر البعير فيتأذى به، ويقال للضامن: كفيل. وقال عليه الصلاة والسلام: " أنا وكافل اليتيم كهاتين " فثبت أن الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الانسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، إذا ثبت هذا فنقول: * (ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) * أي يحصل له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له في معاشه ومعاده، والمقصود حصول ضد ذلك * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21)
207

والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى.
ثم قال تعالى: * (وكان الله على كل شيء مقيتا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في المقيت قولان: الأول: المقيت القادر على الشيء، وأنشدوا للزبير بن عبد المطلب. وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على إساءته مقيتا
وقال آخر: ليت شعري وأشعرن إذا * ما قربوها منشورة ودعيت
إلي الفضل أم علي إذا حوسبت * اني على الحساب مقيت
وأنشد النضر بن شميل: تجلد ولا تجزع وكن ذا * حفيظة فاني على ما ساءهم لمقيت
الثاني: المقيت مشتق من القوت، يقال: قت الرجل إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته، واسم ذلك الشيء هو القوت، وهو الذي لا فضل له على قدر الحفظ، فالمقيت هو الحفيظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة، ثم قال القفال رحمه الله: وأي المعنيين كان فالتأويل صحيح، وهو أنه تعالى قادر على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع، وعلى الوجه الثاني أنه تعالى حافظ الأشياء شاهد عليها لا يخفى عليه شيء من أحوالنا، فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو في باطل حفيظ عليه فيجازى كلا بما علم منه. المسألة الثانية: انما قال: * (وكان الله على كل شيء مقيتا) * تنبيها على أن كونه تعالى قادرا على المقدورات صفة كانت ثابتة له من الأزل، وليست صفة محدثة، فقوله: * (كان) * مطلقا من غير أن قيد ذلك بأنه كان من وقت كذا أو حال كذا، يدل على أنه كان حاصلا من الأزل إلى الأبد.
قوله تعالى
* (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ إن الله كان على كل شىء حسيبا) *.
208

في النظم وجهان: الأول: أنه لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأن الأعداء لو رضوا بالمسألة فكونوا أنتم أيضا راضين بها، فقوله: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * كقوله تعالى: * (وان جنحوا للسلم فاجنح لها) * (الأنفال: 61). الثاني: ان الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه، فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله، وربما ظهر أنه كان مسلما، فمنع الله المؤمنين عنه وأمرهم ان كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الاكرام يقابلونه بمثل ذلك الاكرام أو أزيد، فإنه ان كان كافرا لا يضر المسلم ان قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الاكرام، أما ان كان مسلما وقتله ففيه أعظم المضار والمفاسد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: التحية تفعلة من حييت، وكان في الأصل تحيية، مثل التوصية والتسمية، والعرب تؤثر التفعلة على التفعيل في ذوات الأربعة، نحو قوله: * (وتصلية جحيم) * (الواقعة: 94) فثبت أن التحية أصلها التحيية ثم أدغموا الياء في الياء.
المسألة الثانية: اعلم أن عادة العرب قبل الاسلام أنه إذا لقي بعضهم بعضا قالوا: حياك الله واشتقاقه من الحياة كأنه يدعو له بالحياة، فكانت التحية عندهم عبارة عن قول بعضهم لبعض حياك الله، فلما جاء الاسلام أبدل ذلك بالسلام، فجعلوا التحية اسما للسلام. قال تعالى: * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * (الأحزاب: 44) ومنه قول المصلى: التحيات لله، أي السلام من الآفات لله، والأشعار ناطقة بذلك. قال عنترة: حييت من طلل تقادم عهده إنا محيوك يا سلمى فحيينا
وقال آخر:
واعلم أن قول القائل لغيره: السلام عليك أتم وأكمل من قوله: حياك الله، وبيانه من وجوه: الأول: أن الحي إذا كان سليما كان حيا لا محالة، وليس إذا كان حيا كان سليما، فقد تكون حياته مقرونة بالآفات والبليات، فثبت أن قوله: السلام عليك أتم وأكمل من قوله: حياك الله. الثاني: أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فالابتداء بذكر الله أو بصفة من صفاته الدالة على أنه يريد ابقاء السلامة على عباده أكمل من قوله: حياك الله. الثالث: أن قول الانسان لغيره: السلام عليك فيه بشارة بالسلامة، وقوله: حياك الله لا يفيد ذلك، فكان هذا أكمل. ومما يدل على فضيلة السلام القرآن والأحاديث والمعقول، أما القرآن فمن وجوه: الأول: اعلم أن الله تعالى سلم على المؤمن في اثني عشر موضعا: أولها: أنه تعالى كأنه سلم عليك في الأزل، ألا ترى أنه قال في وصف ذاته: الملك القدوس السلام، وثانيها: أنه سلم على نوح وجعل لك من ذلك السلام نصيبا، فقال: * (قيل
209

يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) * والمراد منه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وثالثها: سلم عليك على لسان جبريل، فقال: * (تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر) * (القدر: 5) قال المفسرون: إنه عليه الصلاة والسلام خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فقال الله: لا تهتم لذلك فاني وإن أخرجتك من الدنيا، إلا أني جعلت جبريل خليفة لك، ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني. ورابعها: سلم عليك على لسان موسى عليه السلام حيث قال: * (والسلام على من اتبع الهدى) * (طه: 47) فإذا كنت متبع الهدى وصل سلام موسى
إليك. وخامسها: سلم عليك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: * (الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) * (النمل: 59) وكل من هدى الله إلى الايمان فقد اصطفاه، كما قال: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) * (فاطر: 32) وسادسها: أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بالسلام على سبيل المشافهة، فقال: * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) * (الأنعام: 54) وسابعها: أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتسليم عليك قال: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * وثامنها: سلم عليك على لسان ملك الموت فقال: * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم) * قيل: إن ملك الموت يقول في أذن المسلم: السلام يقرئك السلام، ويقول: أجبني فاني مشتاق إليك، واشتاقت الجنات والحور العين إليك، فإذا سمع المؤمن البشارة، يقول لملك الموت: للبشير مني هدية، ولا هدية أعز من روحي، فاقبض روحي هدية لك، وتاسعها: السلام من الأرواح الطاهرة المطهرة، قال تعالى: * (وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين) * (الواقعة: 91) وعاشرها: سلم الله عليك على لسان رضوان خازن الجنة فقال تعالى: * (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) * إلى قوله: * (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم) * (الزمر: 73) والحادي عشر: إذا دخلوا الجنة فالملائكة يزورونهم ويسلمون عليهم. قال تعالى: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * (الرعد: 23 - 24) والثاني عشر: السلام من الله من غير واسطة وهو قوله: * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * (الأحزاب: 44) وقوله: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) وعند ذلك يتلاشى سلام الكل لأن المخلوق لا يبقى على تجلي نور الخالق.
الوجه الثاني: من الدلائل القرآنية الدالة على فضيلة السلام أن أشد الأوقات حاجة إلى السلامة والكرامة ثلاثة أوقات: وقت الابتداء، ووقت الموت، ووقت البعث، والله تعالى لما أكرم يحيى عليه السلام فإنما أكرمه بأن وعده السلام في هذه الأوقات الثلاثة فقال: وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) * وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال: * (والسلام علي يوم
210

ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) * (مريم: 33).
الوجه الثالث: أنه تعالى لما ذكر تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام قال: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) * يروى في التفسير أن اليهود كانوا إذا دخلوا قالوا: السام عليك، فحزن الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا المعنى، فبعث الله جبريل عليه السلام وقال: إن كان اليهود يقولون السام عليك، فأنا أقول من سرادقات الجلال: السلام عليك، وأنزل قوله: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * إلى قوله: * (وسلموا تسليما) *.
وأما ما يدل من الأخبار على فضيلة السلام فما روي أن عبد الله بن سلام قال: لما سمعت بقدوم الرسول عليه الصلاة والسلام دخلت في غمار الناس، فأول ما سمعت منه: " يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ".
وأما ما يدل على فضل السلام من جهة المعقول فوجوه: الأول: قالوا: تحية النصارى وضع اليد على الفم، وتحية اليهود بعضهم لبعض الإشارة بالأصابع، وتحية المجوس الانحناء، وتحية العرب بعضهم لبعض أن يقولوا: حياك الله، وللملوك أن يقولوا: أنعم صباحا، وتحية المسلمين بعضهم لبعض أن يقولوا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، ولا شك أن هذه التحية أشرف التحيات وأكرمها. الثاني: أن السلام مشعر بالسلامة من الآفات والبليات. ولا شك أن السعي في تحصيل الصون عن الضرر أولى من السعي في تحصيل النفع. الثالث: أن الوعد بالنفع يقدر الانسان على الوفاء به وقد لا يقدر، أما الوعد بترك الضرر فإنه يكون قادرا عليه لا محالة، والسلام يدل عليه. فثبت أن السلام أفضل أنواع التحية.
المسألة الثالثة: من الناس من قال: من دخل دارا وجب عليه أن يسلم على الحاضرين، واحتج عليه بوجوه: الأول: قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) * (النور: 27) وقال عليه الصلاة والسلام: " أفشوا السلام " والأمر للوجوب. الثاني: أن من دخل على إنسان كان كالطالب له، ثم المدخول عليه لا يعلم أنه يطلبه لخير أو لشر، فإذا قال: السلام عليك فقد بشره بالسلامة وآمنه من الخوف، وإزالة الضرر عن المسلم واجبة قال عليه الصلاة والسلام: " المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه " فوجب أن يكون السلام واجبا. الثالث: أن السلام من شعائر أهل الاسلام، وإظهار شعائر الاسلام واجب، وأما المشهور فهو أن السلام سنة، وهو قول ابن عباس والنخعي.
وأما الجواب على السلام فقد أجمعوا على وجوبه، ويدل عليه وجوه: الأول: قوله تعالى
211

* (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * الثاني: أن ترك الجواب إهانة، والإهانة ضرر والضرر حرام.
المسألة الرابعة: منتهى الأمر في السلام أن يقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بدليل أن هذا القدر هو الوارد في التشهد.
واعلم أنه تعالى قال: * (فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * فقال العلماء: الأحسن هو أن المسلم إذا قال السلام عليك زيد في جوابه الرحمة، وإن ذكر السلام والرحمة في الابتداء زيد في جوابه البركة، وإن ذكر الثلاثة في الابتداء أعادها في الجواب. روي أن رجلا قال للرسول صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وآخر قال: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وجاء ثالث فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقال الرجل: نقصتني، فأين قول الله: * (فحيوا بأحسن منها) * فقال صلى الله عليه وسلم: إنك ما تركت لي فضلا فرددت عليك ما ذكرت.
المسألة الخامسة: المبتدئ يقول: السلام عليك والمجيب، يقول: وعليكم السلام، هذا هو الترتيب الحسن، والذي خطر ببالي فيه أنه إذا قال: السلام عليكم كان الابتداء
واقعا بذكر الله، فإذا قال المجيب: وعليكم السلام كان الاختتام واقعا بذكر الله، وهذا يطابق قوله: * (هو الأول والآخر) * (الحديد: 3) وأيضا لما وقع الابتداء والاختتام بذكر الله فإنه يرجى أن يكون ما وقع بينهما يصير مقبولا ببركته كما في قوله: * (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات) * (هود: 114) فلو خالف المبتدئ فقال: وعليكم السلام فقد خالف السنة، فالأولى للمجيب أن يقول: وعليكم السلام، لأن الأول لما ترك الافتتاح بذكر الله، فهذا لا ينبغي أن يترك الاختتام بذكر الله.
المسألة السادسة: ان شاء قال: سلام عليكم، وان شاء قال: السلام عليكم قال تعالى في حق نوح: * (يا نوح اهبط بسلام منا) * (هود: 48) وقال عن الخليل: * (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي) * (مريم: 47) وقال في قصة لوط: * (قالوا سلاما قال سلام) * (هود: 69) وقال عن يحيى: * (وسلام عليه) * وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم: * (قل الحمد لله وسلام على عباده) * (النمل: 59) وقال عن الملائكة: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم) * (الرعد: 23 - 24) وقال عن رب العزة: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) وقال: * (فقل سلام عليكم) * وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام: * (فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى) * (طه: 47) وقال عن عيسى عليه السلام: * (والسلام علي يوم ولدت ويوم
212

أموت) * (مريم: 33) فثبت أن الكل جائز، وأما في التحليل من الصلاة فلا بد من الألف واللام بالاتفاق، واختلفوا في سائر المواضع أن التنكير أفضل أم التعريف؟ فقيل التنكير أفضل، ويدل عليه وجوه: الأول: أن لفظ السلام على سبيل التنكير كثير في القرآن فكان أفضل. الثاني: ان كل ما ورد من الله والملائكة والمؤمنين فقد ورد بلفظ التنكير على ما عددناه في الآيات، وأما بالألف واللام فإنما ورد في تسليم الانسان على نفسه قال موسى صلى الله عليه وسلم: * (والسلام على من اتبع الهدى) * (طه: 47) وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: * (والسلام علي) * (مريم: 33) والثالث: وهو المعنى المعقول ان لفظ السلام بالألف واللام يدل على أصل الماهية، والتنكير يدل على أصل الماهية مع وصف الكمال، فكان هذا أولى:
المسألة السابعة: قال صلى الله عليه وسلم: " السنة أن يسلم الراكب على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر، والقائم على القاعد ".
وأقول: أما الأول فلوجهين: أحدهما: ان الراكب أكثر هيبة فسلامه يفيد زوال الخوف والثاني: أن التكبر به أليق، فأمر بالابتداء بالتسليم كسرا لذلك التكبر، وأما أن القائم يسلم على القاعد فلأنه هو الذي وصل إليه، فلا بد وأن يفتتح هذا الواصل الموصول بالخير.
المسألة الثامنة: السنة في السلام الجهر لأنه أقوى في إدخال السرور في القلب.
المسألة التاسعة: السنة في السلام الافشاء والتعميم لأن في التخصيص ايحاشا.
المسألة العاشرة: المصافحة عند السلام عادة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: " إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر ".
المسألة الحادية عشرة: قال أبو يوسف: من قال لآخر: اقرئ فلانا عني السلام وجب عليه أن يفعل.
المسألة الثانية عشرة: إذا استقبلك رجل واحد فقل سلام عليكم، واقصد الرجل والملكين فإنك إذا سلمت عليهما ردا السلام عليك، ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب الله.
المسألة الثالثة عشرة: إذا دخلت بيتا خاليا فسلم، وفيه وجوه: الأول: انك تسلم من الله على نفسك. والثاني: انك تسلم على من فيه من مؤمني الجن. والثالث: أنك تطلب السلامة ببركة السلام ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات.
المسألة الرابعة عشرة: السنة أن يكون المبتدي بالسلام على الطهارة، وكذا المجيب. روي أن واحدا سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كان في قضاء الحاجة، فقام وتيمم ثم رد السلام.
213

المسألة الخامسة عشرة: السنة إذا التقى إنسانان أن يبتدرا بالسلام إظهارا للتواضع.
المسألة السادسة عشرة: لنذكر المواضع التي لا يسلم فيها، وهي ثمانية: الأول: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يبدأ اليهودي بالسلام، وعن أبي حنيفة أنه قال: لا يبدأ بالسلام في كتاب ولا في غيره، وعن أبي يوسف: لا تسلم عليهم ولا تصافحهم، وإذا دخلت فقل: السلام على من اتبع الهدى. ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة، وأما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء: ينبغي أن يقال وعليك، والأصل فيه أنهم كانوا يقولون عند الدخول على الرسول: السام عليك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وعليكم، فجرت السنة بذلك، ثم ههنا تفريع وهو أنا إذا قلنا لهم: وعليكم السلام، فهل يجوز ذكر الرحمة فيه؟ قال الحسن يجوز أن يقال للكافر: وعليكم السلام، لكن لا يقال ورحمة الله لأنها استغفار. وعن الشعبي انه قال لنصراني: وعليكم السلام ورحمة الله فقيل له فيه، فقال: أليس في رحمة الله يعيش. الثاني: إذا دخل يوم الجمعة والامام يخطب، فلا ينبغي أن يسلم لاشتغال الناس بالاجتماع، فان سلم فرد بعضهم فلا بأس، ولو اقتصروا على الإشارة كان أحسن. الثالث: إذا دخل الحمام فرأى الناس متزرين يسلم عليهم، وإن لم يكونوا متزرين لم يسلم عليهم، الرابع: الأولى ترك السلام على القارئ، لأنه إذا اشتغل بالجواب يقطع عليه التلاوة وكذلك القول فيمن كان مشتغلا برواية الحديث ومذاكرة العلم، الخامس: لا يسلم على المشتغل بالأذان والإقامة للعلة التي ذكرناها. السادس: قال أبو يوسف. لا يسلم على لاعب النرد، ولا على المغني، ومطير الحمام، وفي معناه كل من كان مشتغلا بنوع معصية، السابع: لا يسلم على
من كان مشتغلا بقضاء الحاجة، مر على الرسول عليه الصلاة والسلام رجل وهو يقضي حاجته، فسلم عليه، فقام الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الجدار فتيمم ثم رد الجواب، وقال: " لولا أني خشيت أن تقول سلمت عليه فلم يرد الجواب لما أجبتك إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي فإنك إن سلمت علي لم أرد عليك " الثامن: إذا دخل الرجل بيته سلم على امرأته، فان حضرت أجنبية هناك لم يسلم عليهما. المسألة السابعة عشرة: في أحكام الجواب وهي ثمانية: الأول: رد الجواب واجب لقوله تعالى: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * ولأن ترك الجواب إهانة وضرر وحرام، وعن عباس: ما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة. الثاني: رد الجواب فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، والأولى للكل أن يذكروا الجواب إظهارا للاكرام ومبالغة فيه، الثالث: أنه واجب
214

على الفور، فان أخر حتى انقضى الوقت فان أجاب بعد فوت الوقت كان ذلك ابتداء سلام ولا يكون جوابا. الرابع: إذا ورد عليه سلام في كتاب فجوابه بالكتبة أيضا واجب، لقوله تعالى: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * الخامس: إذا قال السلام عليكم، فالواجب أن يقول: وعليكم السلام. السادس: روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: لا يجهر بالرد يعني الجهر الكثير. السابع: إن سلمت المرأة الأجنبية عليه وكان يخاف في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة لم يجب الرد، بل الأولى أن لا يفعل. الثامن: حيث قلنا انه لا يسلم، فلو سلم لم يجب عليها الرد، لأنه أتى بفعل منهي عنه فكان وجوده كعدمه.
المسألة الثامنة عشرة: اعلم أن لفظ التحية على ما بيناه صار كناية عن الاكرام، فجميع أنواع الاكرام يدخل تحت لفظ التحية.
إذا عرفت هذا فنقول: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: من وهب لغير ذي رحم محرم فله الرجوع فيها ما لم يثب منها، فإذا أثيب منها فلا رجوع فيها. وقال الشافعي رضي الله عنه: له الرجوع في حق الولد، وليس له الرجوع في حق الأجنبي، احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على صحة قول أبي حنيفة فان قوله: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * يدخل فيه التسليم، ويدخل فيه الهبة، ومقتضاه وجوب الرد إذا لم يصر مقابلا بالأحسن، فإذا لم يثبت الوجوب فلا أقل من الجواز، وقال الشافعي: هذا الأمر محمول على الندب، بدليل أنه لو أثيب بما هو أقل منه سقطت مكنة الرد بالاجماع، مع أن ظاهر الآية يقتضي أن يأتي بالأحسن، ثم احتج الشافعي على قوله بما روى ابن عباس وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده " وهذا نص في أن هبة الأجنبي يحرم الرجوع فيها، وهبة الولد يجوز الرجوع فيها.
ثم قال تعالى: * (إن الله كان على كل شيء حسيبا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الحسيب قولان: الأول: أنه بمعنى المحاسب على العمل، كالأكيل والشريب والجليس بمعنى المؤاكل والمشارب والمجالس. الثاني: أنه بمعنى الكافي في قولهم: حسبي كذا؛ أي كافي، ومنه قوله تعالى: * (حسبي الله) * (التوبة: 129، الزمر: 38).
المسألة الثانية: المقصود منه الوعيد، فانا بينا أن الواحد منهم قد كان يسلم على الرجل المسلم،
215

ثم إن ذلك المسلم ما كان يتفحص عن حاله، بل ربما قتله طمعا في سلبه، فالله تعالى زجر عن ذلك فقال: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * وإياكم أن تتعرضوا له بالقتل.
ثم قال: * (إن الله كان على كل شيء حسيبا) * أي هو محاسبكم على أعمالكم وكافي في إيصال جزاء أعمالكم إليكم فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف، وهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء والمنع من إهدارها.
قوله تعالى
* (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا) *.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: في كيفية النظم وجهان: الأول: أنا بينا أن المقصود من قوله: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * أن لا يصير الرجل المسلم مقتولا، ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله: * (إن الله كان على كل شيء حسيبا) * ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية، فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان، فقوله: * (لا إله إلا هو) * إشارة إلى التوحيد، وقوله: * (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) * إشارة إلى العدل، وهو كقوله: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) * (آل عمران: 18) وكقوله في طه: * (انني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى) * (طه: 14) وهو إشارة إلى التوحيد ثم قال: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) * (طه: 15) وهو إشارة إلى العدل، فكذا في هذه الآية بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة فينتصف للمظلومين من الظالمين، ولا شك أنه تهديد شديد. الثاني: كأنه تعالى يقول: من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر، فان البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو، إنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": قوله: * (لا إله إلا هو) * إما خبر للمبتدأ، وإما اعتراض والخبر * (ليجمعنكم) * واللام لام القسم، والتقدير: والله ليجمعنكم.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: لم لم يقل: ليجمعنكم في يوم القيامة؟
216

والجواب من وجهين: الأول: المراد ليجمعنكم في الموت أو القبور إلى يوم القيامة. الثاني: التقدير: ليضمنكم إلى ذلك اليوم ويجمع بينكم وبينه بأن يجمعكم فيه.
المسألة الرابعة: قال الزجاج: يجوز أن يقال سميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون من قبورهم، ويجوز أيضا أن يقال: سميت بهذا الاسم لأن الناس يقومون للحساب
قال تعالى: * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) * (المطففين: 6) قال صاحب " الكشاف ": القيام القيامة، كالطلاب والطلابة.
المسألة الخامسة: اعلم أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أثبت أن القيامة ستوجد لا محالة، وجعل الدليل على ذلك مجرد إخبار الله تعالى عنه، وهذا حق، وذلك لأن المسائل الأصولية على قسمين منها ما العلم بصحة النبوة يكون محتاجا إلى العلم بصحته، ومنها ما لا يكون كذلك. والأول مثل علمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات، فانا ما لم نعلم ذلك لا يمكننا العلم بصدق الأنبياء، فكل مسألة هذا شأنها فإنه يمتنع اثباتها بالقرآن واخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والا وقع الدور.
وأما القسم الثاني: وهو جملة المسائل التي لا يتوقف العلم بصحة النبوة على العلم بصحتها فكل ذلك مما يمكن اثباته بكلام الله واخباره ومعلوم أن قيام القيامة كذلك، فلا جرم أمكن إثباته بالقرآن وبكلام الله، فثبت أن الاستدلال على قيام القيامة باخبار الله عنه استدلال صحيح.
المسألة السادسة: قوله: * (ومن أصدق من الله حديثا) * استفهام على سبيل الانكار، والمقصود منه بيان أنه يجب كونه تعالى صادقا وأن الكذب والخلف في قوله محال. وأما المعتزلة فقد بنوا ذلك على أصلهم، وهو أنه تعالى عالم بكون الكذب قبيحا، وعالم بكونه غنيا عنه، وكل من كان كذلك استحال أن يكذب. إنما قلنا: انه عالم بقبح الكذب، وعالم بكونه غنيا عنه لأن الكذب قبيح لكونه كذبا، والله تعالى غير محتاج إلى شيء أصلا، وثبت أنه عالم بجميع المعلومات فوجب القطع بكونه عالما بهذين الأمرين، وأما أن كل من كان كذلك استحال أن يكذب فهو ظاهر لأن الكذب جهة صرف لا جهة دعاء، فإذا خلا عن معارض الحاجة بقي ضارا محضا فيمتنع صدور الكذب عنه، وأما أصحابنا فدليلهم أنه لو كان كاذبا لكان كذبه قديما، ولو كان كذبه قديما لامتنع زوال كذبه لامتناع العدم على القديم، ولو امتنع زوال كذبه قديما لامتنع كونه صادقا، لأن وجود أحد الضدين يمنع وجود الضد الآخر، فلو كان كاذبا لامتنع أن يصدق لكنه غير ممتنع، لأنا نعلم بالضرورة أن كل من علم شيئا فإنه لا يمتنع عليه أن يحكم عليه بحكم مطابق
217

للمحكوم عليه، والعلم بهذه الصحة ضروري، فإذا كان إمكان الصدق قائما كان امتناع الكذب حاصلا لا محالة، فثبت أنه لا بد من القطع بكونه تعالى صادقا.
المسألة السابعة: استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن كلام الله تعالى محدث، قالوا لأنه تعالى وصفه بكونه حديثا في هذه الآية وفي قوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث) * (الزمر: 23) والحديث هو الحادث أو المحدث، وجوابنا عنه: إنكما إنما تحكمون بحدوث الكلام الذي هو الحرف والصوت ونحن لا ننازع في حدوثه، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر غير هذه الحروف والأصوات، والآية لا تدل على حدوث ذلك الشيء البتة بالاتفاق منا ومنكم، فأما منا فظاهر، وأما منكم فإنكم تنكرون وجود كلام سوى هذه الحروف والأصوات، فكيف يمكنكم أن تقولوا بدلالة هذه الآية على حدوثه والله أعلم.
قوله تعالى
* (فما لكم فى المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) *.
اعلم أن هذا نوع آخر من أحوال المنافقين ذكره الله تعالى، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها: الأول: أنها نزلت في قوم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وآله مسلمين فأقاموا بالمدينة ما شاء الله، ثم قالوا يا رسول الله: نريد أن نخرج إلى الصحراء فائذن لنا فيه، فأذن لهم، فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فتكلم المؤمنون فيهم، فقال بعضهم: لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا وصبروا كما صبرنا وقال قوم: هم مسلمون، وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر إلى أن يظهر أمرهم، فبين الله تعالى نفاقهم في هذه الآية. الثاني: نزلت الآية في قوم أظهروا الاسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين. فاختلف المسلمون فيهم وتشاجروا، فنزلت الآية. وهو قول ابن عباس وقتادة. الثالث: نزلت الآية في الذين تخلفوا يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فاختلف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، فمنهم فرقة يقولون كفروا، وآخرون قالوا: لم يكفروا، فنزلت هذه الآية. وهو قول زيد بن ثابت، ومنهم من طعن في هذا الوجه وقال: في
218

نسق الآية ما يقدح فيه، وإنهم من أهل مكة، وهو قوله تعالى: * (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله) * (النساء: 89) الرابع: نزلت الآية في قوم ضلوا وأخذوا أموال المسلمين وانطلقوا بها إلى اليمامة فاختلف المسلمون فيهم، فنزلت الآية: وهو قول عكرمة. الخامس: هم العرنيون الذين أغاروا وقتلوا يسارا مولى الرسول صلى الله عليه وسلم. السادس: قال ابن زيد: نزلت في أهل الإفك.
المسألة الثانية: في معنى الآية وجهان: الأول: أن " فئتين " نصب على الحال: كقولك: مالك قائما، أي مالك في حال القيام، وهذا قول سيبويه. الثاني: أنه نصب على خبر كان، والتقدير: مالكم صرتم في المنافقين فئتين، وهو استفهام على سبيل الانكار، اي لم تختلفون في كفرهم مع أن دلائل كفرهم ونفاقهم ظاهرة جلية، فليس لكم أن تختلفوا فيه بل يجب أن تقطعوا بكفرهم.
المسألة الثالثة: قال الحسن: إنما سماهم منافقين وان أظهروا الكفر لأنهم وصفوا بالصفة التي كانوا عليها من قبل، والمراد بقوله: * (فئتين) * ما بينا ان فرقة منهم كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبري والتكفير، والله أعلم.
ثم قال تعالى مخبرا عن كفرهم: * (والله أركسهم بما كسبوا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الركس: رد الشيء من آخره إلى أوله، فالركس والنكس والمركوس والمنكوس واحد، ومنه يقال للروث الركس لأنه رد إلى حالة خسيسة، وهي حالة النجاسة، ويسمى رجيعا لهذا المعنى أيضا، وفيه لغتان: ركسهم وأركسهم فارتكسوا، أي ارتدوا. وقال أمية. فأركسوا في حميم النار إنهم كانوا عصاة وقالوا
الإفك والزورا
المسألة الثانية: معنى الآية أنه ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل بما كسبوا، أي بما أظهروا من الارتداد بعدما كانوا على النفاق، وذلك أن المنافق ما دام يكون متمسكا في الظاهر بالشهادتين لم يكن لنا سبيل إلى قتله، فإذا أظهر الكفر فحينئذ يجري الله تعالى عليه أحكام الكفار.
المسألة الثالثة: قرأ أبي كعب وعبد الله بن مسعود * (والله أركسهم) * وقد ذكرنا أن أركس وركس لغتان.
ثم قال تعالى: * (أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * قالت المعتزلة
219

المراد من قوله: * (أضل الله) * ليس أنه هو خلق الضلال فيه للوجوه المشهورة، ولأنه تعالى قال قبل هذه الآية: * (والله أركسهم بما كسبوا) * فبين تعالى انه إنما ردهم وطردهم بسبب كسبهم وفعلهم، وذلك ينفي القول بان إضلالهم حصل بخلق الله وعند هذا حملوا قوله: * (من أضل الله) * على وجوه: الأول: المراد منه ان الله تعالى حكم بضلالهم وكفرهم كما يقال فلان يكفر فلانا ويضله: بمعنى أنه حكم به وأخبر عنه: الثاني: أن المعنى أتريدون أن تهدوا إلى الجنة من أضله الله عن طريق الجنة، وذلك لأنه تعالى يضل الكفار يوم القيامة عن الاهتداء إلى طريق الجنة. الثالث: أن يكون هذا الاضلال مفسرا بمنع الألطاف:
واعلم أنا قد ذكرنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ضعف هذه الوجوه، ثم نقول: هب أنها صحيحة، ولكنه تعالى لما أخبر عن كفرهم وضلالهم، وانهم لا يدخلون الجنة فقد توجه الاشكال لأن انقلاب علم الله تعالى جهلا محال، والمفضي إلى المحال محال، ومما يدل على أن المراد من الآية أن الله تعالى أضلهم عن الدين قوله: * (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * فالمؤمنون في الدنيا انما كانوا يريدون من المنافقين الايمان ويحتالون في إدخالهم فيه.
ثم قال تعالى: * (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * فوجب أن يكون معناه أنه تعالى لما أضلهم عن الايمان امتنع أن يجد المخلوق سبيلا إلى ادخاله في الايمان، وهذا ظاهر.
قوله تعالى
* (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء فلا تتخذوا منهم أوليآء حتى يهاجروا فى سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: انه تعالى لما قال قبل هذه الآية: * (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) * (النساء: 88) وكان ذلك استفهاما على سبيل الانكار قرر ذلك الاستبعاد بأن قال: انهم بلغوا في الكفر إلى أنهم يتمنون أن تصيروا أيها المسلمون كفارا، فلما بلغوا في تعصبهم في الكفر إلى هذا الحد فكيف تطمعون في ايمانهم. المسألة الثانية: قوله: * (فتكونون سواء) * رفع بالنسق على * (تكفرون) * والمعنى: ودوا لو
220

تكونون، والفاء عاطفة ولا يجوز أن يجعل ذلك جواب التمني، ولو أراد ذلك على تأويل إذا كفروا استووا لكان نصبا، ومثله قوله: * (ودوا لو تدهن فيدهنون) * (القلم: 9) ولو قيل: * (فيدهنوا) * على الجواب لكان ذلك جائزا في الاعراب، ومثله: * (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم) * (النساء: 102) ومعنى قوله: * (فتكونون سواء) * أي في الكفر، والمراد فتكونون أنتم وهم سواء الا أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لوضوح المعنى بسبب تقدم ذكرهم، واعلم أنه تعالى لما شرح للمؤمنين كفرهم وشدة غلوهم في ذلك الكفر، فبعد ذلك شرح للمؤمنين كيفية المخالطة معهم فقال: * (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والالحاد، وهذا متأكد بعموم قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) * والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين، لأن ذلك هو الامر الذي به يتقرب إلى الله تعالى، ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة، وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا) * قال أبو بكر الرازي: التقدير حتى يسلموا ويهاجروا، لأن الهجرة في سبيل الله لا تكون إلا بعد الاسلام، فقد دلت الآية على إيجاب الهجرة بعد الاسلام، وانهم وإن أسلموا لم يكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة، ونظيره قوله: * (مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) *.
واعلم أن هذا التكليف إنما كان لازما حال ما كانت الهجرة مفروضة قال صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك " فكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة، ثم نسخ فرض الهجرة. عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " وروي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الاسلام قائما.
المسألة الثالثة: اعلم أن الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الايمان، وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " وقال المحققون: الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن ترك مأموراته
221

وفعل منهياته، ولما كان كل هذه الأمور معتبرا لا جرم ذكر الله تعالى لفظا عاما يتناول الكل فقال: * (حتى يهاجروا في سبيل الله) * فإنه تعالى لم يقل: حتى يهاجروا
عن الكفر، بل قال: * (حتى يهاجروا في سبيل الله) * وذلك يدخل فيه مهاجرة دار الكفر ومهاجرة شعار الكفر، ثم لم يقتصر تعالى على ذكر الهجرة، بل قيده بكونه في سبيل الله، فإنه ربما كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الاسلام، ومن شعار الكفر إلى شعار الاسلام لغرض من أغراض الدنيا، إنما المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر الله تعالى.
ثم قال تعالى: * (فان تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) *. والمعنى فان أعرضوا عن الهجرة ولزموا مواضعهم خارجا عن المدينة فخذوهم إذا قدرتم عليهم، واقتلوهم أينما وجدتموهم في الحل والحرم، ولا تتخذوا منهم في هذه الحالة وليا يتولى شيئا من مهماتكم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم.
واعلم أنه تعالى لما أمر بقتل هؤلاء الكفار استثنى منه موضعين.
قوله تعالى
* (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جآءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلونكم أو يقاتلوا قومهم ولو شآء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (يصلون) * قولان: الأول: ينتهون إليهم ويتصلون بهم، والمعنى أن كل من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم. قال القفال رحمه الله: وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيتعذر عليهم ذلك المطلوب فيلجأوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد إلى أن يجدوا السبيل إليه.
القول الثاني: أن قوله: * (يصلون) * معناه ينتسبون، وهذا ضعيف لأن أهل مكة أكثرهم كانوا متصلين بالرسول من جهة النسب مع أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أباح دم الكفار منهم.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن القوم الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد من هم؟ قال بعضهم هم الأسلميون فإنه كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فإنه عليه الصلاة والسلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعصيه ولا يعين عليه، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال. وقال ابن عباس: هم بنو بكر بن زيد
222

مناة، وقال مقاتل: هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناة.
واعلم أن ذلك يتضمن بشارة عظيمة لأهل الايمان، لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى من التجأ إلى المسلمين، فبأن يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى والله أعلم.
الموضع الثاني في الاستثناء: قوله تعالى: * (أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم ويقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (أو جاؤكم) * يحتمل أن يكون عطفا على صلة * (الذين) * والتقدير: إلا الذين يصلون بالمعاهدين أو الذين حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم، ويحتمل أن يكون عطفا على صفة " قوم " والتقدير: إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم عهد، أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم، والأول أولى لوجهين: أحدهما: قوله تعالى: * (فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم) * (النساء: 89) وهذا يدل على أن السبب الموجب لترك التعرض لهم هو تركهم للقتال، وهذا انما يتمشى على الاحتمال الأول، وأما على الاحتمال الثاني فالسبب الموجب لترك التعرض لهم هو الاتصال بمن ترك القتال. الثاني: أن جعل ترك القتال موجبا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض، لان على التقدير الأول يكون ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض، وعلى السبب الثاني يصير سببا بعيدا.
المسألة الثانية: قوله: * (حصرت صدورهم) * معناه ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لأنكم مسلمون، ولا يريدون قتالهم لانهم أقاربهم. واختلفوا في موضع قوله: * (حصرت صدورهم) * وذكروا وجوها: الأول: أنه في موضع الحال باضمار " قد " وذلك لان " قد " تقرب
223

الماضي من الحال، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة، ويقال أتاني فلان ذهب عقله، أي أتاني فلان قد ذهب عقله: وتقدير الآية، أو جاؤكم حال ما قد حصرت صدورهم. الثاني: أنه خبر بعد خبر، كأنه قال: أو جاؤكم ثم أخبر بعده فقال: * (حصرت صدورهم) * وعلى هذا التقدير يكون قوله: * (حصرت صدورهم) * بدلا من * (جاؤكم) * الثالث: أن يكون التقدير: جاؤكم قوما حصرت صدورهم أو جاؤكم رجالا حصرت صدورهم، فعلى هذا التقدير قوله: * (حصرت صدورهم) * نصب لأنه صفة لموصوف منصوب على الحال، الا انه حذف الموصوف المنتصب على الحال. وأقيمت صفته مقامه، وقوله: * (أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) * معناه ضاقت قلوبهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فهم لا عليكم ولا لكم.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن الذين استثناهم الله تعالى أهم من الكفار أو من المؤمنين؟ فقال الجمهور: هم من الكفار، والمعنى أنه تعالى أوجب قتل الكافر الا إذا كان معاهدا أو تاركا للقتال فإنه لا يجوز قتلهم، وعلى هذا التقدير فالقول بالنسخ لازم لأن الكافر وان ترك القتال فإنه يجوز قتله، وقال أبو مسلم الأصفهاني: انه تعالى لما
أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر فقال: * (إلا الذين يصلون) * وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة، الا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا إليه خوفا من أولئك الكفار، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه، لأنه يخاف الله تعالى فيه، ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه، أو لأنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم، فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه، فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم وان كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (ولو شاء الله لسلطهم عليكم) * التسليط في اللغة مأخوذ من السلاطة وهي الحدة، والمقصود منه أن الله تعالى من على المسلمين بكف بأس المعاهدين، والمعنى: أن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو لأن الله قذف الرعب في قلوبهم، ولو أنه تعالى قوى قلوبهم على قتال المسلمين لتسلطوا عليهم. قال أصحابنا: وهذا يدل على أنه لا يقبح من الله تعالى تسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه، وأما المعتزلة فقد أجابوا عنه من وجهين: الأول: قال الجبائي قد بينا أن القوم الذين استثناهم الله تعالى قوم مؤمنون لا كافرون، وعلى هذا فمعنى الآية: ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم أن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم. والثاني: قال الكلبي: انه تعالى أخبر أنه لو شاء لفعل، وهذا لا يفيد إلا أنه تعالى قادر على
224

الظلم، وهذا مذهبنا إلا أنا نقول: إنه تعالى لا يفعل الظلم، وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده.
المسألة الخامسة: اللام في قوله: * (فلقاتلوكم) * جواب " للو " على التكرير أو البدل، على تأويل ولو شاء الله لسلطهم عليكم ولو شاء الله لقاتلوكم. قال صاحب " الكشاف ": وقرئ * (فلقتلوكم) * بالتخفيف والتشديد. ثم قال: * (فان اعتزلوكم) * أي فان لم يتعرضوا لكم وألقوا إليكم السلم، أي الانقياد والاستسلام، وقرئ بسكون اللام مع فتح السين * (فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم. واختلف المفسرون فقال بعضهم: الآية منسوخة بآية السيف، وهي قوله: * (اقتلوا المشركين) * (التوبة: 5) وقال قوم: انها غير منسوخة، أما الذين حملوا الاستثناء على المسلمين فذلك ظاهر على قولهم، وأما الذين حملوا الاستثناء على الكافرين فقال الأصم: إذا حملنا الآية على المعاهد فكيف يمكن أن يقال انها منسوخة.
قوله تعالى
* (ستجدون ءاخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) *.
قال المفسرون: هم قوم من أسد وغطفان، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا، وغرضهم أن يأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم * (كلما ردوا إلى الفتنة) * كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين * (أركسوا فيها) * أي ردوا مغلوبين منكوسين فيها، وهذا استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين لأن من وقع في شيء منكوسا يتعذر خروجه منه.
ثم قال تعالى: * (فان لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث
225

ثقفتموهم) *.
والمعنى: فان لم يعتزلوا قتالكم ولم يطلبوا الصلح منكم ولم يكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم. قال الأكثرون: وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم) * (الممتحنة: 8) وقوله: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) * (البقرة: 190) فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا. واعلم أن هذا الكلام مبني على أن المعلق بكلمة " إن " على الشرط عدم عند عدم الشرط، وقد شرحنا الحال فيه في قوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * (النساء: 31).
ثم قال: * (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) *.
وفي السلطان المبين وجهان: الأول: أنه ظهر على جواز قتل هؤلاء حجة واضحة ظاهرة، وهي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الاسلام. الثاني: أن السلطان المبين هو إذن الله تعالى للمسلمين في قتل هؤلاء الكفار.
قوله تعالى
* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما) *.
اعلم أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار، وحرض عليها ذكر بعد ذلك بعض ما يتعلق بهذه المحاربة، فمنها أنه تعالى لما أذن في قتل الكفار فلا شك أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلا يظنه كافرا حربيا
226

فيقتله، ثم يتبين انه كان مسلما، فذكر الله تعالى حكم هذه الواقعة في هذه الآية وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب النزول وجوها: الأول: روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار، فأخذوه وضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول: انه أبي فلم يفهموا قوله إلا بعد أن قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ازداد وقع حذيفة عنده، فنزلت هذه الآية:
الرواية الثانية: أن الآية نزلت في أبي الدرداء، وذلك لأنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسيف، فقال الرجل: لا إله إلا الله، فقتله وساق غنمه ثم وجد في نفسه شيئا، فذكر الواقعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: " هلا شققت عن قلبه " وندم أبو الدرداء فنزلت الآية. الرواية الثالثة: روي أن عياش بن أبي ربيعة، وكان أخا لأبي جهل من أمه، أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وطولا في الأحاديث، فقال أبو جهل: أليس أن محمدا يأمرك ببر الأم فانصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك فرجع، فلما دنوا من مكة قيدوا يديه ورجليه، وجلده أبو جهل مائة جلدة، وجلده الحرث مائة أخرى، فقال للحرث: هذا أخي فمن أنت يا حرث، لله علي إن وجدتك خالي أن أقتلك. وروي أن الحرث قال لعياش حين رجع: ان كان دينك الأول هدى فقد تركته وان كان ضلالا فقد دخلت الآن فيه، فشق ذلك على عياش وحلف أن يقتله، فلما دخل على أمه حلفت أمه لا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول ففعل، ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث أيضا وهاجر، فلقيه عياش خاليا ولم يشعر باسلامه فقتله، فلما أخبر بأنه كان مسلما ندم على فعله وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قتلته ولم أشعر باسلامه، فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (وما كان) * فيه وجهان: الأول: أي وما كان فيما أتاه من ربه وعهد إليه. الثاني: ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك، والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف.
المسألة الثالثة: قوله: * (إلا خطأ) * فيه قولان: الأول: أنه استثناء متصل، والذاهبون إلى هذا القول ذكروا وجوها: الأول: ان هذا الاستثناء ورد على طريق المعنى، لأن قوله: * (وما كان لمؤمن أن
227

يقتل مؤمنا إلا خطأ) * معناه أنه يؤاخذ الانسان على القتل إلا إذا كان القتل قتل خطأ فإنه لا يؤاخذ به. الثاني: أن الاستثناء صحيح أيضا على ظاهر اللفظ، والمعنى أنه ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة إلا عند الخطأ. وهو ما إذا رأى عليه شعار الكفار، أو وجده في عسكرهم فظنه مشركا، فههنا يجوز قتله، ولا شك أن هذا خطأ، فإنه ظن أنه كافر مع أنه ما كان كافرا. الثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والتقدير: وما كان مؤمن ليقتل مؤمنا إلا خطأ، ومثله قوله تعالى: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * (مريم: 35) تأويله: ما كان الله ليتخذ من ولد، لأنه تعالى لا يحرم عليه شيء، إنما ينفي عنه ما لا يليق به، وأيضا قال تعالى: * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) * (النمل: 60) معناه ما كنتم لتنبتوا، لأنه تعالى لم يحرم عليهم أن ينبتوا الشجر، إنما نفى عنهم أن يمكنهم إنباتها، فإنه تعالى هو القادر على إنبات الشجر. الرابع: أن وجه الاشكال في حمل هذا الاستثناء على الاستثناء المتصل، وهو أن يقال: الاستثناء من النفي إثبات، وهذا يقتضي الاطلاق في قتل المؤمن في بعض الأحوال، وذلك محال، إلا أن هذا الاشكال إنما يلزم إذا سلمنا أن الاستثناء من النفي إثبات، وذلك مختلف فيه بين الأصوليين، والصحيح أنه لا يقتضيه لأن الاستثناء يقتضي صرف الحكم عن المستثنى لا صرف المحكوم به عنه، وإذا كان تأثير الاستثناء في صرف الحكم فقط بقي المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالاثبات، وحينئذ يندفع الاشكال. ومما يدل على أن الاستثناء من النفي ليس باثبات قوله عليه الصلاة والسلام: " لا صلاة الا بطهور ولا نكاح الا بولي " ويقال: لا ملك الا بالرجال ولا رجال الا بالمال، والاستثناء في جملة هذه الصور لا يفيد أن يكون الحكم المستثنى من النفي إثباتا والله أعلم. الخامس: قال أبو هاشم وهو أحد رؤساء المعتزلة: تقدير الآية: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيبقى مؤمنا، الا أن يقتله خطأ فيبقى حينئذ مؤمنا، قال: والمراد أن قتل المؤمن للمؤمن يخرجه عن كونه مؤمنا، الا أن يكون خطأ فإنه لا يخرجه عن كونه مؤمنا. واعلم أن هذا الكلام بناء على أن الفاسق ليس بمؤمن، وهو أصل باطل، والله أعلم.
القول الثاني: أن هذا الاستثناء منقطع بمعنى لكن، ونظيره في القرآن كثير. قال تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة) * (النساء: 29) وقال: * (الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم) * (النجم: 53) وقال: * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) * والله أعلم.
المسألة الرابعة: في انتصاب قوله: * (خطأ) * وجوه: الأول: أنه مفعوله له، والتقدير ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل، إلا لكونه خطأ. الثاني: أنه حال، والتقدير: لا يقتله البتة إلا حال كونه خطأ. الثالث: أنه صفة للمصدر. والتقدير: إلا قتلا خطأ.
228

قوله تعالى: * (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الشافعي رحمه الله: القتل على ثلاثة أقسام: عمد، وخطأ، وشبه عمد.
أما العمد: فهو أن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان ذلك جارحا أو لم يكن، وهذا قول الشافعي.
وأما الخطأ فضربان: أحدهما: أن يقصد رمي المشرك أو الطائر فأصاب مسلما. والثاني: أن يظنه مشركا بأن كان عليه شعار الكفار، والأول خطأ في الفعل، والثاني خطأ في القصد.
أما شبه العمد: فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالبا فيموت منه. قال الشافعي رحمه الله: هذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب.
المسألة الثانية: قال أبو حنيفة: القتل بالمثقل ليس بعمد محض، بل هو خطأ وشبه عمد، فيكون داخلا تحت هذه الآية فتجب فيه الدية والكفارة، ولا يجب فيه القصاص. وقال الشافعي رحمه الله: إنه عمد محض يجب فيه القصاص. أما بيان أنه قتل فيدل عليه القرآن والخبر، أما القرآن فهو أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه وكز القبطي فقضى عليه، ثم إن ذلك الوكز يسمى بالقتل، بدليل أنه حكى أن القبطي قال في اليوم الثاني: * (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس) * (القصص:
19) وكان الصادر عن موسى عليه السلام بالأمس ليس إلا الوكز، فثبت أن القبطي سماه قتلا، وأيضا ان موسى صلوات الله عليه سماه قتلا حيث قال: * (ربي اني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون) * (القصص: 33) وأجمع المفسرون على أن المراد منه قتل ذلك القبطي بذلك الوكز، وأيضا ان الله تعالى سماه قتلا حيث قال: * (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا) * (طه: 40) فثبت أن الوكز قتل بقول القبطي وبقول موسى وبقول الله تعالى، وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل " فسماه قتلا، فثبت بهذين الدليلين أنه حصل القتل، وأما أنه عمد فالشاك فيه داخل في السفسطة فان من ضرب رأس إنسان بحجر الرحا، أو صلبه أو غرقه، أو خنقه ثم قال: ما قصدت به قتله كان ذلك إما كاذبا أو مجنونا، وأما أنه عدوان فلا ينازع فيه مسلم، فثبت أنه قتل عمد عدوان، فوجب أن يجب القصاص بالنص والمعقول.
أما النص: فهو جميع الآيات الدالة على وجوب القصاص، كقوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * (البقرة: 178) * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * (المائدة: 45) * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * (الإسراء: 33) * (وجزاء
229

سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194).
وأما المعقول: فهو أن المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الاهدار. قال تعالى: * (ولكم في القصاص حياة) * (البقرة: 179) وإذا كان المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الاهدار، والاهدار من المثقل كهو في المحدد كانت الحاجة إلى شرع الزاجر في إحدى الصورتين كالحاجة إليه في الصورة الأخرى، ولا تفاوت بين الصورتين في نفس الاهدار، إنما التفاوت حاصل في آلة الاهدار، والعلم الضروري حاصل بأن ذلك غير معتبر، والكلام في الفقهيات إذا وصل إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في التحقيق لمن ترك التقليد، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل " وهو عام سواء كان السوط والعصا صغيرا أو كبيرا.
والجواب: أن قوله: " قتيل الخطأ " يدل على أنه لا بد وأن يكون معنى الخطأ حاصلا فيه، وقد بينا أن من خنق إنسانا أو ضرب رأسه بحجر الرحا، ثم قال: ما كنت أقصد قتله، فان كل عاقل ببديهة عقله يعلم أنه كاذب في هذا المقال، فوجب حمل هذا الضرب على الضرب بالعصا الصغيرة حتى يبقى معنى الخطأ فيه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال أبو حنيفة: القتل العمد لا يوجب الكفارة، وقال الشافعي: يوجب. احتج أبو حنيفة بهذه الآية، فقال قوله: * (ومن قتل مؤمنا خطأ) * شرط لوجوب الكفارة وعند انتفاء الشرط لا يحصل المشروط، فيقال له: إنه تعالى قال: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم) * (النساء: 25) فقوله: * (ومن لم يستطع) * ما كان شرطا لجواز نكاح الأمة على قولكم، فكذلك ههنا. ثم نقول: الذي يدل على وجوب الكفارة في القتل العمد الخبر والقياس.
أما الخبر فهو ما روى واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب النار بالقتل، فقال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار.
وأما القياس: فهو أن الغرض من إعتاق العبد هو أن يعتقه الله من النار، والحاجة إلى هذا المعنى في القتل العمد أتم، فكانت الحاجة فيه إلى ايجاب الكفارة أتم والله أعلم.
وذكر الشافعي رضي الله عنه حجة أخرى من قياس الشبه فقال: لما وجبت الكفارة في قتل الصيد في الاحرام سوينا بين العامد وبين الخاطئ إلا في الاثم، فكذا في قتل المؤمن، ولهذا الكلام تأكيد آخر وهو أن يقال: نص الله تعالى هناك في العامد، وأوجبنا على الخاطئ. فههنا نص على الخاطئ، فبأن نوجبه على العامد مع أن احتياج العامد إلى الاعتاق المخلص له عن النار
230

أشد كان ذلك أولى.
المسألة الرابعة: قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي: لا تجزى الرقبة إلا إذا صام وصلى، وقال الشافعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم: يجزى الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما. حجة ابن عباس هذه الآية، فإنه تعالى أوجب تحرير الرقبة المؤمنة، والمؤمن من يكون موصوفا بالايمان، والايمان إما التصديق وإما العمل وإما المجموع، وعلى التقديرات فالكل فائت عن الصبي فلم يكن مؤمنا، فوجب أن لا يجزى. حجة الفقهاء أن قوله: * (ومن قتل مؤمنا خطأ) * يدخل فيه الصغير، فكذا قوله: * (فتحرير رقبة مؤمنة) * فوجب أن يدخل فيه الصغير.
المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه الله: الدية في العمد المحض وفي شبه العمد مغلظة مثلثة ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها.
وأما في الخطأ المحض فمخففة: عشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. وأما أبو حنيفة فهو أيضا هكذا يقول في الكل إلا في شيء واحد فإنه أوجب بني مخاض بدلا عن بنات لبون. حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى أوجب الدية في القرآن ولم يبين كيفية الدية فرجعنا في معرفة الكيفية إلى السنة والقياس، فلم نجد في السنة ما يدل عليه.
وأما القياس فإنه لا مجال للمناسبات والتعليلات المعقولة في تعيين الأسباب وتعيين الأعداد، فلم يبق ههنا مطمع إلا في قياس الشبه، ونرى أن الدية وجبت بسبب أقوى من السبب الموجب للزكاة، ثم إنا رأينا أن الشرع لم يجعل لبني مخاض دخلا في باب الزكاة، فوجب أن لا يكون لها دخل في باب الدية أيضا. وحجة أبي حنيفة أن البراءة كانت ثابتة، والأصل في الثابت البقاء، فكانت البراءة الأصلية باقية، ولا يعدل عن هذا الدليل إلا لدليل أقوى منه فنقول: الأول هو المتفق عليه فاعترفنا بوجوبه
: وأما الزائد عليه فوجب أن يبقى على النفي الأصلي.
والجواب: أن الذمة مشغولة بوجوب الدية، والأصل في الثابت البقاء، وقد رأينا حصول الاتفاق على السقوط بأداء أكثر ما قيل فيه، فوجب أن لا يحصل ذلك السقوط عند أداء أقل ما فيه، والله أعلم.
المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه الله: إذا لم توجد الإبل، فالواجب إما ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم. وقال أبو حنيفة: بل الواجب عشرة آلاف درهم. حجة الشافعي: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: كانت قيمة الدية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
231

ثمانمائة دينار. وثمانية آلاف درهم، فلما استخلف عمر رضي الله عنه قام خطيبا. وقال: إن الإبل قد غلت أثمانها، ثم إن عمر فرضها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق أثنى عشر ألفا، وجه الاستدلال أن عمر ذكر ذلك في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد فكان إجماعا. حجة أبي حنيفة: أن الأخذ بالأقل أولى، وقد سبق جوابه.
المسألة السابعة: قال أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج: الدية واجبة على القاتل، قالوا: ويدل عليه وجوه: الأول: أن قوله: * (فتحرير رقبة مؤمنة) * لا شك أنه إيجاب لهذا التحرير، والايجاب لا بد فيه من شخص يجب عليه ذلك الفعل، والمذكور قبل هذه الآية هو القاتل، وهو قوله: * (ومن قتل مؤمنا خطأ) * فهذا الترتيب يوجب القطع بأن هذا التحرير إنما أوجبه الله تعالى عليه لا على غيره، والثاني: أن هذه الجناية صدرت منه، والمعقول هو أن الضمان لا يجب إلا على المتلف، أقصى ما في الباب أن هذا الفعل صدر عنه على سبيل الخطأ. ولكن الفعل الخطأ قائم في قيم المتلفات وأروش الجنايات، مع أن تلك الضمانات لا تجب إلى على المتلف، فكذا ههنا. الثالث: أنه تعالى أوجب في هذه الآية شيئين: تحرير الرقبة المؤمنة، وتسليم الدية الكاملة، ثم انعقد الاجماع على أن التحرير واجب على الجاني، فكذا الدية يجب أن تكون واجبة على القاتل، ضرورة أن اللفظ واحد في الموضعين. الرابع: أن العاقلة لم يصدر عنهم جناية ولا ما يشبه الجناية، فوجب أن لا يلزمهم شيء للقرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى: * (لا تزر وازرة وزر أخرى) * (الأنعام: 164) وقال تعالى: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * (الأنعام: 29) وقال: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * (البقرة: 286) وأما الخبر فما روي أن أبا رمثة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابنه فقال عليه الصلاة والسلام: من هذا فقال ابني، قال إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه، ومعلوم أنه ليس المقصود منه الاخبار عن نفس الجناية إنما المقصود بيان أن أثر جنايتك لا يتعدى إلى ولدك وبالعكس، وكل ذلك يدل على أن إيجاب الدية على الجاني أولى من إيجابها عل الغير. الخامس: أن النصوص تدل على أن مال الانسان معصوم وأنه لا سبيل لأحد أن يأخذه منه. قال تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة) * (النساء: 29) وقال عليه الصلاة والسلام: " كل امرئ أحق بكسبه " وقال: " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " وقال: " لا يحل مال المسلم إلا بطيبة من نفسه " تركنا العمل بهذه العمومات في الأشياء التي عرفنا بنص القرآن كونها موجبة لجواز الأخذ كما قلنا في الزكوات، وكما قلنا في أخذ الضمانات. وأما في إيجاب الدية على العاقلة فالمعتمد فيه على خبر الواحد، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز، لأن القرآن معلوم، وخبر الواحد مظنون، وتقديم المظنون على المعلوم غير جائز، ولأن هذا خبر واحد ورد
232

فيما تعم به البلوى فيرد، ولأنه خبر واحد ورد على مخالفة جميع أصول الشرائع، فوجب رده، وأما الفقهاء فقد تمسكوا فيه بالخبر والأثر والآية: أما الخبر: فما روى المغيرة أن امرأة ضربت بطن امرأة أخرى فألقت جنينا ميتا، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاقلة الضاربة بالغرة، فقام حمل بن مالك فقال: كيف ندى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك بطل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا من سجع الجاهلية، وأما الأثر: فهو أن عمر رضي الله عنه قضى على علي بأن يعقل عن مولى صفية بنت عبد المطلب حين جنى مولاها، وعلي كان ابن أخي صفية، وقضى للزبير بميراثها، فهذا يدل على أن الدية إنما تجب على العاقلة والله أعلم.
المسألة الثامنة: مذهب أكثر الفقهاء أن دية المرأة نصف دية الرجل. وقال الأصم وابن عطية: ديتها مثل دية الرجل. حجة الفقهاء أن عليا وعمر وابن مسعود قضوا بذلك، ولأن المرأة في الميراث والشهادة على النصف من الرجل، فكذلك في الدية. وحجة الأصم قوله تعالى: * (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) * وأجمعوا على أن هذه الآية دخل فيها حكم الرجل والمرأة، فوجب أن يكون الحكم فيها ثابتا بالسوية والله أعلم.
المسألة التاسعة: انفقوا على أن دية الخطأ مخففة في ثلاث سنين: الثلث في السنة، والثلثان في السنتين، والكل في ثلاث سنين. استفاض ذلك عن عمر ولم يخالفه فيه أحد من السلف فكان إجماعا.
المسألة العاشرة: لا فرق في هذه الدية بين أين يقضي منها الدين وتنفذ منها الوصية، ويقسم الباقي بين الورثة على فرائض الله تعالى. روي أن امرأة جاءت تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر: لا أعلم لك شيئا، إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه، فشهد بعض من الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يورث الزوجة من دية زوجها، فقضى عمر بذلك، وإذ قد ذكرنا هذه المسائل فلنرجع إلى تفسير الآية فنقول: قوله: * (فتحرير رقبة مؤمنة) * معناه فعليه تحرير رقبة، والتحرير عبارة عن جعله حرا، والحر هو الخالص، ولما كان الانسان في أصل الخلقة خلق ليكون مالكا للأشياء كما قال تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (البقرة: 29) فكونه مملوكا يكون صفة تكدر مقتضى الانسانية وتشوشها، فلا جرم سميت إزالة الملك تحريرا، أي تخليصا لذلك الانسان عما يكدر إنسانيته، والرقبة عبارة عن النسمة كما قد يجعل الرأس أيضا عبارة عن نسمة في قولهم: فلان يملك كذا رأسا من الرقيق، والمراد برقبة مؤمنة كل رقبة كانت على حكم الاسلام عند الفقهاء، وعند ابن عباس لا تجزي إلا رقبة قد صلت وصامت، وقد ذكرنا هذه المسألة. وقوله: * (ودية
233

مسلمة إلى أهله) * قال الواحدي: الدية من الودي كالشية من الوشي، والأصل ودية فحذفت الواو يقال: ودى فلانا فلانا، أي أدى ديته إلى وليه، ثم إن الشرع خصص هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس دون ما يؤدى في بدل المتلفات، ودون ما يؤدى في بدل الأطراف والأعضاء.
ثم قال تعالى: * (إلا أن يصدقوا) * أصله يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد، ومعنى التصدق الاعطاء قال الله تعالى: * (وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين) * (يوسف: 88) والمعنى: إلا أن يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية. قال صاحب " الكشاف ": وتقدير الآية، ويجب عليه الدية وتسليمها إلى حين يتصدقون عليه، وعلى هذا فقوله: * (أن يصدقوا) * في محل النصب على الظرف، ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين. ثم قال تعالى: * (فان كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) *.
فاعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى: أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية، وذكر في هذه الآية أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا من قوم عدو لنا فعليه تحرير الرقبة وسكت عن ذكر الدية، ثم ذكر بعد أن المقتول إن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وجبت الدية، والسكوت عن إيجاب الدية في هذه الآية مع ذكرها فيما قبل هذه الآية، وفيما بعدها يدل على أن الدية غير واجبة في هذه الصورة. إذا ثبت هذا فنقول: كلمة " من " في قوله: * (من قوم عدو لكم) * إما أن يكون المراد منها كون هذا المقتول من سكان دار الحرب، أو المراد كونه ذا نسب منهم، والثاني باطل لانعقاد الاجماع على أن المسلم الساكن في دار الاسلام، وجميع أقاربه يكونون كفارا، فإذا قتل على سبيل الخطأ وجبت الدية في قتله، ولما بطل هذا القسم تعين الأول فيكون المراد: وإن كان المقتول خطأ من سكان دار الحرب وهو مؤمن، فالواجب بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير الرقبة، فأما وجوب الدية فلا. قال الشافعي رحمه الله: وكما دلت هذه الآية على هذا المعنى فالقياس يقويه، أما أنه لا تجب الدية فلأنا لو أوجبنا الدية في قتل المسلم الساكن في دار الحرب لاحتاج من يريد غزو دار الحرب إلى أن يبحث عن كل أحد أنه هل هو من المسلمين أم لا، وذلك مما يصعب ويشف فيفضي ذلك إلى احتراز الناس عن الغزو، فالأولى سقوط الدية عن قاتله لأنه هو الذي أهدر دم نفسه بسبب اختياره السكنى في دار الحرب، وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى، لأنه لما صار ذلك الانسان مقتولا فقد هلك إنسان كان مواظبا على عبادة الله تعالى، والرقيق لا يمكنه المواظبة على عبادة الله، فإذا أعتقه فقد أقامه مقام ذلك المقتول في المواظبة على العبادات، فظهر أن القياس يقتضي سقوط الدية، ويقتضي بقاء الكفارة والله أعلم.
234

ثم قال تعالى: * (وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فيه قولان: الأول: ان المراد منه المسلم، وذلك لأنه تعالى ذكر أولا حال المسلم القاتل خطأ ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل الحرب، ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل العهد وأهل الذمة ولا شك ان هذا ترتيب حسن فكان حمل اللفظ عليه جائزا، والذي يؤكد صحة هذا القول أن قوله * (وان كان) * لا بد من إسناده إلى شيء جرى ذكره فيما تقدم، والذي جرى ذكره فيما تقدم هو المؤمن المقتول خطأ. فوجب حمل اللفظ عليه.
القول الثاني: أن المراد منه الذمي، والتقدير: وان كان المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق ومعنى كون المقتول منهم أنه على دينهم ومذهبهم، والقائلون بهذا القول طعنوا في القول الأول من وجوه: الأول: أن المسلم المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو كان من أهل الذمة فهو داخل تحت قوله: * (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) * فلو كان المراد من هذه الآية هو المؤمن لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وانه لا يجوز، بخلاف ما إذا كان المؤمن المقتول خطأ من سكان دار الحرب، فإنه تعالى إنما أعاده لبيان أنه لا تجب الدية في قتله، وأما في هذه الآية فقد أوجب الدية والكفارة، فلو كان المراد منه هو المؤمن لكان هذا إعادة وتكرارا من غير فائدة وإنه لا يجوز. الثاني: أنه لو كان المراد منه ما ذكرتم لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه. الثالث: ان قوله: * (وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) * يقتضي أن يكونوا من ذلك القوم في الوصف الذي وقع التنصيص عليه وهو حصول الميثاق بينهما، فان كونه منهم مجمل لا يدري أنه منهم في أي الأمور، وإذا حملناه على كونه منهم في ذلك الوصف زال الاجمال فكان ذلك أولى، وإذا دلت الآية على أنه منهم في كونه معاهدا وجب أن يكون ذميا أو معاهدا مثلهم ويمكن أن يجاب عن هذه الوجوه:
أما الأول: فجوابه أنه تعالى ذكر حكم المؤمن المقتول على سبيل الخطأ، ثم ذكر أحد قسميه وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان دار الحرب، فبين أن الدية لا تجب في قتله، وذكر القسم الثاني وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان مواضع أهل الذمة، وبين وجوب الدية والكفارة في قتله، والغرض منه اظهار الفرق بين هذا القسم وبين ما قبله.
وأما الثاني: فجوابه أن أهله هم المسلمون الذين تصرف ديته إليهم.
235

وأما الثالث: فجوابه أن كلمة " من " صارت مفسرة في الآية السابقة بكلمة " في " يعني في قوم عدو لكم، فكذا ههنا يجب أن يكون المعنى ذلك لا غير.
واعلم أن فائدة هذا البحث تظهر في مسألة شرعية، وهي أن مذهب أبي حنيفة أن دية الذمي مثل دية المسلم، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المجوسي، ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم. واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) * المراد به الذمي، ثم قال: * (فدية مسلمة إلى أهله) * فأوجب تعالى فيهم تمام الدية، ونحن نقول: إنا بينا أن الآية نازلة في حق المؤمنين لا في حق أهل الذمة فسقط الاستدلال، وأيضا بتقدير أن يثبت لهم أنها نازلة في أهل الذمة لم تدل على مقصودهم، لأنه تعالى أوجب في هذه الآية دية مسلمة، فهذا يقتضي إيجاب شيء من الأشياء التي تسمى دية، فلم قلتم إن الدية التي أوجبها في حق الذمي هي الدية التي أوجبها في حق المسلم؟ ولم لا يجوز أن تكون دية المسلم مقدارا معينا. ودية الذمي مقدارا آخر، فان الدية لا معنى
لها إلا المال الذي يؤدى في مقابلة النفس، فان ادعيتم أن مقدار الدية في حق المسلم وفي حق الذمي واحد فهو ممنوع، والنزاع ما وقع إلا فيه، فسقط هذا الاحتجاج والله أعلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وههنا عكس هذا الترتيب، إذ لو أفاده لتوجه الطعن في إحدى الآيتين فصار هذا كقوله: * (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) * (البقرة) 58) وفي آية أخرى * (وقولوا حطة) * (البقرة: 58) * (وادخلوا الباب) * (البقرة: 154، الأعراف: 161) والله أعلم.
المسألة الثالثة: في هؤلاء الذين بيننا وبينهم ميثاق قولان: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم أهل الذمة من أهل الكتاب. الثاني: قال الحسن: هم المعاهدون من الكفار.
ثم قال تعالى: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله) * أي فعليه ذلك بدلا عن الرقبة إذا كان فقيرا، وقال مسروق إنه بدل عن مجموع الكفارة والدية، والتتابع واجب حتى لو أفطر يوما وجب الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس، وقوله: * (توبة من الله) * انتصب بمعنى صيام ما تقدم، كأنه قيل: اعملوا بما أوجب الله عليكم لأجل التوبة من الله، أي ليقبل الله توبتكم، وهو كما يقال: فعلت كذا حذر الشر.
فان قيل: قتل الخطأ لا يكون معصية، فما معنى قوله: * (توبة من الله) *.
قلنا فيه وجوه: الأول: أن فيه نوعين من التقصير، فان الظاهر أنه لو بالغ في الاحتياط لم يصدر عنه ذلك الفعل، ألا ترى أن من قتل مسلما على ظن أنه كافر حربي، فلو أنه بالغ في الاحتياط
236

والاستكشاف فالظاهر أنه لا يقع فيه، ومن رمى إلى صيد فأخطأ وأصاب أنسانا فلو احتاط فلا يرمي إلا في موضع يقطع بأنه ليس هناك إنسان فإنه لا يقع في تلك الواقعة، فقوله: * (توبة من الله) * تنبيه على أنه كان مقصرا في ترك الاحتياط.
الوجه الثاني في الجواب: أن قوله: * (توبة من الله) * راجع إلى أنه تعالى أذن له في إقامة الصوم مقام الاعتاق عند العجز عنه، وذلك لأن الله تعالى إذا تاب على المذنب فقد خفف عنه، فلما كان التخفيف من لوازم التوبة أطلق لفظ التوبة لإرادة التخفيف إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم.
الوجه الثالث في الجواب: أن المؤمن إذا اتفق له مثل هذا الخطأ فإنه يندم ويتمنى أن لا يكون ذلك مما وقع فسمى الله تعالى ذلك الندم وذلك التمني توبة.
ثم قال تعالى: * (وكان الله عليما حكيما) * والمعنى أنه تعالى عليم بأنه لم يقصد ولم يتعمد حكيم في أنه ما يؤاخذه بذلك الفعل الخطأ، فان الحكمة تقتضي أن لا يؤاخذ الانسان إلا بما يختار ويتعمد.
واعلم أن أهل السنة لما اعتقدوا أن أفعال الله تعالى غير معللة برعاية المصالح قالوا: معنى كونه تعالى حكيما كونه عالما بعواقب الأمور. وقالت المعتزلة: هذه الآية تبطل هذا القول لأنه تعالى عطف الحكيم على العليم، فلو كان الحكيم هو العليم لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وهو محال.
والجواب: أن في كل موضع من القرآن ورد فيه لفظ الحكيم معطوفا على العليم كان المراد من الحكيم كونه محكما في أفعاله، فالأحكام والاعلام عائدان إلى كيفية الفعل والله أعلم.
قوله تعالى
* (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم القتل الخطأ ذكر بعده بيان حكم القتل العمد، وله أحكام مثل وجوب القصاص والدية، وقد ذكر تعالى ذلك في سورة البقرة وهو قوله: * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) * (البقرة: 178) فلا جرم ههنا اقتصر على بيان ما فيه من الاثم والوعيد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: استدلت الوعيدية بهذه الآية على أمرين: أحدهما: على القطع بوعيد الفساق. والثاني: على خلودهم في النار، ووجه الاستدلال أن كلمة " من " في معرض الشرط
237

تفيد الاستغراق، وقد استقصينا في تقرير كلامهم في سورة البقرة في تفسير قوله: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * (البقرة: 81) وبالغنا في الجواب عنها، وزعم الواحدي أن الأصحاب سلكوا في الجواب عن هذه الآية طرقا كثيرة. قال: وأنا لا أرتضي شيئا منها لأن التي ذكروها اما تخصيص، واما معارضة، وإما إضمار، واللفظ لا يدل على شيء من ذلك. قال: والذي أعتمده وجهان: الأول: إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا ثم ذكر تلك القصة. والثاني: أن قوله: * (فجزاؤه جهنم) * معناه الاستقبال أي انه سيجزى بجهنم، وهذا وعيد قال: وخلف الوعيد كرم، وعندنا أنه يجوز ان يخلف الله وعيد المؤمنين، فهذا حاصل كلامه الذي زعم أنه خير مما قاله غيره.
وأقول: أما الوجه الأول فضعيف، وذلك لأنه ثبت في أصول الفقه ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا ثبت ان اللفظ الدال على الاستغراق حاصل، فنزوله في حق الكفار لا يقدح في ذلك العموم، فيسقط هذا الكلام بالكلية، ثم نقول: كما أن عموم اللفظ يقتضي كونه عاما في كل قاتل موصوف بالصفة المذكورة، فكذا ههنا وجه آخر يمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر، وبيانه من وجوه: الأول: انه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون إليه عند اشتغالهم بالجهاد، فابتدأ بقوله: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) * (النساء: 92) فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات: كفارة قتل المسلم في دار الاسلام، وكفارة قتل المسلم
عند سكونه مع أهل الحرب، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد، ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقرونا بالوعيد، فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بيانا لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم القتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ، وجب أن يكون أيضا مختصا بالمؤمنين، فان لم يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه. الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) * (النساء: 94) وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوما فأسلموا فقتلوهم وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف، وعلى هذا التقدير: فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الايمان؛ وهذا أيضا يقتضي أن يكون قوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) * نازلا في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب، فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار. الثالث: أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وبهذا الطريق عرفنا أن قوله: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * (المائدة: 38) وقوله: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) * (النور: 2) الموجب للقطع هو السرقة، والموجب للجلد هو الزنا،
238

فكذا ههنا وجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو هذا القتل العمد، لأن هذا الوصف مناسب لذلك الحكم، فلزم كون ذلك الحكم معللا به، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يقال: أينما ثبت هذا المعنى فإنه يحصل هذا الحكم، وبهذا الوجه لا يبقى لقوله: الآية مخصوصة بالكافر وجه.
الوجه الرابع: أن المنشأ لاستحقاق هذا الوعيد إما أن يكون هو الكفر أو هذا القتل المخصوص، فان كان منشأ هذا الوعيد هو الكفر كان الكفر حاصلا قبل هذا القتل، فحينئذ لا يكون لهذا القتل أثر البتة في هذا الوعيد، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية جارية مجرى ما يقال: ان من يتعمد قتل نفس فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه، لأن القتل العمد لما لم يكن له تأثير في هذا الوعيد جرى مجرى النفس ومجرى سائر الأمور التي لا أثر لها في هذا الوعيد، ومعلوم ان ذلك باطل، وان كان منشأ هذا الوعيد هو كونه قتلا عمدا فحينئذ يلزم أن يقال: أينما حصل القتل يحصل هذا الوعيد، وحينئذ يسقط هذا السؤال، فثبت بما ذكرنا أن هذا الوجه الذي ارتضاه الواحدي ليس بشيء.
وأما الوجه الثاني: من الوجهين اللذين اختارهما فهو في غاية الفساد لأن الوعيد قسم من أقسام الخبر، فإذا جوز على الله الخلف فيه فقد جوز الكذب على الله، وهذا خطأ عظيم، بل يقرب من أن يكون كفرا، فان العقلاء أجمعوا على أنه تعالى منزه عن الكذب، ولأنه إذا جوز الكذب على الله في الوعيد لأجل ما قال: إن الخلف في الوعيد كرم، فلم لا يجوز الخلف في القصص والأخبار لغرض المصلحة، ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في القرآن وكل الشريعة فثبت أن كل واحد من هذين الوجهين ليس بشيء. وحكى القفال في تفسيره وجها آخر، هو الجواب وقال: الآية تدل على أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر، لكن ليس فيها أنه تعالى يوصل هذا الجزاء إليه أم لا، وقد يقول الرجل لعبده: جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا، إلا أني لا أفعله، وهذا الجواب أيضا ضعيف لأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر، وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين. قال تعالى: * (من يعمل سوأ يجز به) * (النساء: 123) وقال: * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * (غافر: 17) وقال: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7 - 8) بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنه يوصل إليهم هذا الجزاء وهو قوله: * (وأعد له عذابا عظيما) * فان بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله: * (فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * فلو كان قوله: * (وأعد له عذابا عظيما) * إخبارا عن الاستحقاق كان تكرارا، فلو حملناه على الاخبار عن أنه تعالى سيفعل لم يلزم التكرار، فكان ذلك أولى.
239

واعلم أنا نقول: هذه الآية مخصوصة في موضعين: أحدهما: أن يكون القتل العمد غير عدوان كما في القصاص فإنه لا يحصل فيه هذا الوعيد البتة. والثاني: القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فإنه لا يحصل فيه الوعيد، وإذا ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) وأيضا فهذه الآية إحدى عمومات الوعيد، وعمومات الوعد أكثر من عمومات الوعيد، وما ذكره في ترجيح عمومات الوعيد قد أجبنا عنه وبينا أن عمومات الوعد راجحة، وكل ذلك قد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * (البقرة: 81)
المسألة الثانية: نقل عن ابن عباس أنه قال: توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة، وقال جمهور العلماء: إنها مقبولة، ويدل عليه وجوه:
الحجة الأولى: أن الكفر أعظم من هذا القتل فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة من هذا القتل أولى بالقبول.
الحجة الثانية: قوله تعالى في آخر الفرقان: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) * (الفرقان: 68، 69، 70) وإذا كانت توبة الآتي بالقتل العمد مع سائر الكبائر المذكورة في هذه الآية مقبولة: فبأن تكون توبة الآتي بالقتل العمد وحده مقبولة كان أولى.
الحجة الثالثة: قوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * وعد بالعفو عن كل ما سوى الكفر، فبأن يعفو عنه بعد التوبة أولى والله أعلم.
تم الجزء العاشر، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي عشر.
240