الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ١٨
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى
* (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابنى من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنى ما ليس لك به علم إنى أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: * (رب إن ابني من أهلي) * فقد ذكرنا الخلاف في أنه هل كان ابنا له أم لا فلا نعيده، ثم إنه تعالى ذكر أنه قال: * (يا نوح إنه ليس من أهلك) * واعلم أنه لما ثبت بالدليل أنه كان ابنا له وجب حمل قوله: * (إنه ليس من أهلك) * على أحد وجهين: أحدهما: أن يكون المراد أنه ليس من أهل دينك. والثاني: المراد أنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك والقولان متقاربان.
المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب فإن في هذه الصورة
2

كانت قرابة النسب حاصلة من أقوى الوجوه ولكن لما انتفت قرابة الدين لا جرم نفاه الله تعالى بأبلغ الألفاظ وهو قوله: * (إنه ليس من أهلك) *.
ثم قال تعالى: * (إنه عمل غير صالح) * قرأ الكسائي: عمل على صيغة الفعل الماضي، وغير بالنصب، والمعنى: إن ابنك عمل عملا غير صالح يعني أشرك وكذب، وكلمة * (غير) * نصب، لأنها نعت لمصدر محذوف، وقرأ الباقون: عمل بالرفع والتنوين، وفيه وجهان: الأول: أن الضمير في قوله إنه عائد إلى السؤال، يعني أن هذا السؤال عمل وهو قوله: * (إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق) * غير صالح، لأن طلب نجاة الكافر بعد أن سبق الحكم، الجزم بأنه لا ينجي أحدا منهم سؤال باطل. الثاني: أن يكون هذا الضمير عائدا إلى الابن، وعلى هذا التقدير ففي وصفه بكونه عملا غير صالح وجوه: الأول: أن الرجل إذا كثر عمله وإحسانه يقال له: إنه علم وكرم وجود، فكذا ههنا لما كثر إقدام ابن نوح على الأعمال الباطلة حكم عليه بأنه في نفسه عمل باطل. الثاني: أن يكون المراد أنه ذو عمل باطل، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. الثالث: قال بعضهم معنى قوله: * (إنه عمل غير صالح) * أي إنه ولد زنا وهذا القول باطل قطعا.
ثم إنه تعالى قال لنوح عليه السلام: * (فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: احتج بهذه الآية من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام من وجوه:
الوجه الأول: أن قراءة عمل بالرفع والتنوين قراءة متواترة فهي محكمة، وهذا يقتضي عود الضمير في قوله: * (إنه عمل غير صالح) * إما إلى ابن نوح وإما إلى ذلك السؤال، فالقول بأنه عائد إلى ابن نوح لا يتم إلا بإضمار وهو خلاف الظاهر. ولا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة ولا ضرورة ههنا، لأنا إذا حكمنا بعود الضمير إلى السؤال المتقدم فقد استغنينا عن هذا الضمير، فثبت أن هذا الضمير عائد إلى هذا السؤال، فكان التقدير أن هذا السؤال عمل غير صالح، أي قولك: إن ابني من أهلي لطلب نجاته عمل غير صالح، وذلك يدل على أن هذا السؤال كان ذنبا ومعصية.
الوجه الثاني: أن قوله: * (فلا تسألن) * نهي له عن السؤال، والمذكور السابق هو قوله * (إن ابني من أهلي) * فدل هذا على أنه تعالى نهاه عن ذلك السؤال فكان ذلك السؤال ذنبا ومعصية.
الوجه الثالث: أن قوله: * (فلا تسألن ما ليس لك به علم) * يدل على أن ذلك السؤال كان قد صدر لا عن العلم، والقول بغير العلم ذنب لقوله تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * (البقرة: 169).
الوجه الرابع: أن قوله تعالى: * (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) * يدل على أن ذلك السؤال
3

كان محض الجهل. وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر، وأيضا جعل الجهل كناية عن الذنب مشهور في القرآن. قال تعالى: * (يعملون السوء بجهالة) * (النساء: 17) وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: * (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * (البقرة: 67). الوجه الخامس: أن نوحا عليه السلام اعترف بإقدامه على الذنب والمعصية في هذا المقام فإنه قال: * (إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) * واعترافه بذلك يدل على أنه كان مذنبا.
الوجه السادس: في التمسك بهذه الآية أن هذه الآية تدل على أن نوحا نادى ربه لطلب تخليص ولده من الغرق، والآية المتقدمة وهي قوله: * (ونادى نوح ابنه) * وقال: * (يا بني اركب معنا) * تدل على أنه عليه السلام طلب من ابنه الموافقة. فنقول: إما أن يقال إن طلب هذا المعنى من الله كان سابقا على طلبه من الولد أو كان بالعكس، والأول باطل لأن بتقدير أن يكون طلب هذا المعنى من الله تعالى سابقا على طلبه من الابن لكان قد سمع من الله أنه تعالى لا يخلص ذلك الابن من الغرق، وأنه تعالى نهاه عن ذلك الطلب، وبعد هذا كيف قال له: * (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) * وأما إن قلنا: إن هذا الطلب من الابن كان متقدما فكان قد سمع من الابن قوله: * (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) * وظهر بذلك كفره، فكيف طلب من الله تخليصه، وأيضا أنه تعالى أخبر أن نوحا لما طلب ذلك منه وامتنع هو صار من المغرقين فكيف يطلب من الله تخليصه من الغرق بعد أن صار من المغرقين، فهذه الآية من هذه الوجوه الستة تدل على صدور المعصية من نوح عليه السلام.
واعلم أنه لما دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزيه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي، وجب حمل هذه الوجوه المذكورة على ترك الأفضل والأكمل،
وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فلهذا السبب حصل هذا العتاب والأمر بالاستغفار، ولا يدل على سابقة الذنب كما قال: * (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره) * (النصر: 1 - 3) ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ليست بذنب يوجب الاستغفار وقال تعالى: * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) * (محمد: 19) وليس جميعهم مذنبين، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك لأفضل.
المسألة الثانية: قرأ نافع برواية ورش وإسماعيل بتشديد النون وإثبات الياء * (تسألني) * وقرأ ابن عامر ونافع برواية قالون بتشديد النون وكسرها من غير إثبات الياء، وقرأ أبو عمرو بتخفيف
4

النون وكسرها وحذف الياء * (تسألن) * أما التشديد فللتأكيد وأما إثبات الياء فعلى الأصل، وأما ترك التشديد والحذف فللتخفيف من غير إخلال.
واعلم أنه تعالى لما نهاه عن ذلك السؤال حكى عنه أنه قال: * (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) * والمعنى أنه تعالى لما قال له: * (فلا تسألن ما ليس لك به علم) * فقال عند ذلك قبلت يا رب هذا التكليف، ولا أعود إليه إلا أني لا أقدر على الاحتراز منه إلا بإعانتك وهدايتك، فلهذا بدأ أولا بقوله: * (إني أعوذ بك) *.
واعلم أن قوله: * (إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) * إخبار عما في المستقبل، أي لا أعود إلى هذا العمل، ثم أشتغل بالاعتذار عما مضى، فقال: * (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) * وحقيقة التوبة تقتضي أمرين: أحدهما: في المستقبل، وهو العزم على الترك وإليه الإشارة بقوله: * (إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) * والثاني: في الماضي وهو الندم على ما مضى وإليه الإشارة بقوله: * (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) * ونختم هذا الكلام بالبحث عن الزلة التي صدرت عن نوح عليه السلام في هذا المقام. فنقول: إن أمة نوح عليه السلام كانوا على ثلاثة أقسام كافر يظهر كفره ومؤمن يعلم إيمانه وجمع من المنافقين، وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق، وكان ذلك معلوما، وأما أهل النفاق فبقي حكمهم مخفيا وكان ابن نوح منهم وكان يجوز فيه كونه مؤمنا، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون من الأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافرا، بل على الوجوه الصحيحة، فلما رآه بمعزل عن القوم طلب منه أن يدخل السفينة فقال: * (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) * وذلك لا يدل على كفره لجواز أن يكون قد ظن أن الصعود على الجبل يجري مجرى الركوب في السفينة في أنه يصونه عن الغرق، وقول نوح: * (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) * لا يدل إلا على أنه عليه السلام كان يقرر عند بنه أنه لا ينفعه إلا الإيمان والعمل الصالح، وهذا أيضا لا يدل على أنه علم من ابنه أنه كان كافرا فعند هذه الحالة كان قد بقي في قلبه ظن أن ذلك الابن مؤمن، فطلب من الله تعالى تخليصه بطريق من الطرق إما بأن يمكنه من الدخول في السفينة، وإما أن يحفظه على قلة جبل، فعند ذلك أخبره الله تعالى بأنه منافق وأنه ليس من أهل دينه، فالزلة الصادرة عن نوح عليه السلام هو أنه لم يستقص في تعريف ما يدل على نفاقه وكفره، بل اجتهد في ذلك وكان يظن أنه مؤمن، مع أنه أخطأ في ذلك الاجتهاد، لأنه كان كافرا فلم يصدر عنه إلا الخطأ في هذا الاجتهاد، كما قررنا ذلك في أن آدم عليه السلام لم تصدر عنه تلك الزلة إلا لأنه أخطأ في هذا الاجتهاد، فثبت بما ذكرنا أن الصادر عن نوح عليه السلام ما كان من باب الكبائر وإنما هو من باب الخطأ في الاجتهاد، والله أعلم.
5

قوله تعالى
* (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى أخبر عن السفينة أنها استوت على الجودي، فهناك قد خرج نوح وقومه من السفينة لا محالة، ثم إنهم نزلوا من ذلك الجبل إلى الأرض فقوله: * (اهبط) * يحتمل أن يكون أمرا بالخروج من السفينة إلى أرض الجبل وأن يكون أمرا بالهبوط من الجبل إلى الأرض المستوية.
المسألة الثانية: أنه تعالى وعده عند الخروج بالسلامة أولا، ثم بالبركة ثانيا، أما الوعد بالسلامة فيحتمل وجهين: الأول: أنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة أن نوحا عليه السلام تاب عن زلته وتضرع إلى الله تعالى بقوله: * (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) * (هود: 47) وهذا التضرع هو عين التضرع الذي حكاه الله تعالى عن آدم عليه السلام عند توبته من زلته وهو قوله: * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * (الأعراف: 23) فكان نوح عليه السلام محتاجا إلى أن بشره الله تعالى بالسلامة من التهديد والوعيد فلما قيل له: * (يا نوح اهبط بسلام منا) * حصل له الأمن من جميع المكاره المتعلقة بالدين. والثاني أن ذلك الغرق لما كان عاما في جميع الأرض فعند ما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان، فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جميع الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلما قال الله تعالى: * (اهبط بسلام منا) * زال عنه ذلك الخوف، لأن ذلك يدل على حصول السلامة من الآفات ولا يكون ذلك إلا مع الأمن وسعة الرزق، ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة هي عبارة عن الدوام والبقاء، والثبات، ونيل الأمل، ومنه بروك الإبل، ومنه البركة لثبوت الماء فيها، ومنه تبارك وتعالى، أي ثبت تعظيمه، ثم اختلف المفسرون في تفسير هذا الثبات والبقاء.
فالقول الأول: أنه تعالى صير نوحا أبا البشر، لأن جميع من بقي كانوا من نسله وعند هذا
6

قال هذا القائل: إنه لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من ذريته، فالخلق كلهم من نسله وذريته، وقال آخرون: لم يكن في سفينة نوح عليه السلام إلا من كان من نسله وذريته، وعلى التقديرين فالخلق كلهم إنما تولدوا منه ومن أولاده، والدليل عليه قوله تعالى: * (وجعلنا ذريته هم الباقين) * (الصافات: 77) فثبت أن نوحا عليه السلام كان آدم الأصغر، فهذا هو المراد من البركات التي وعده الله بها.
والقول الثاني: أنه تعالى لما وعده بالسلامة من الآفات، وعده بأن موجبات السلامة، والراحة والفراغة يكون في التزايد والثبات والاستقرار، ثم إنه تعالى لما شرفه بالسلامة والبركة شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال: * (وعلى أمم ممن معك) * واختلفوا في المراد منه على ثلاثة أقوال: منهم من حمله على أولئك الأقوام الذين نجوا معه وجعلهم أمما وجماعات، لأنه ما كان في ذلك الوقت في جميع الأرض أحد من البشر إلا هم، فلهذا السبب جعلهم أمما، ومنهم من قال: بل المراد ممن معك نسلا وتولدا قالوا: ودليل ذلك أنه ما كان معه إلا الذين آمنوا وقد حكم الله تعالى عليهم بالقلة في قوله تعالى: * (وما آمن معه إلا قليل) * (هود: 40) ومنهم من قال: المراد من ذلك مجموع الحاضرين مع الذين سيولدون بعد ذلك، والمختار هو القول الثاني: ومن في قوله: * (ممن معك) * لابتداء الغاية، والمعنى: وعلى أمم ناشئة من الذين معك.
واعلم أنه تعالى جعل تلك الأمم الناشئة من الذين معه على قسمين: أحدهما: الذين عطفهم على نوح في وصول سلام الله وبركاته إليهم وهم أهل الإيمان. والثاني: أمم وصفهم بأنه تعالى سيمتعهم مدة في الدنيا ثم في الآخرة يمسهم عذاب أليم، فحكم تعالى بأن الأمم الناشئة من الذين كانوا مع نوح عليه السلام لا بد وأن ينقسموا إلى مؤمن وإلى كافر. قال المفسرون: دخل في تلك السلامة كل مؤمن وكل مؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في ذلك المتاع وفي ذلك العذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، ثم قال أهل التحقيق: إنه تعالى إنما عظم شأن نوح بإيصال السلامة والبركات منه إليه، لأنه قال: * (بسلام منا) * وهذا يدل على أن الصديقين لا يفرحون بالنعمة من حيث إنها نعمة ولكنهم إنما يفرحون بالنعمة من حيث إنها من الحق، وفي التحقيق يكون فرحهم بالحق وطلبهم للحق وتوجههم إلى الحق، وهذا مقام شريف لا يعرفه إلا خواص الله تعالى، فإن الفرح بالسلامة وبالبركة من حيث هما سلامة وبركة غير، والفرح بالسلامة والبركة من حيث إنهما من الحق غير، والأول: نصيب عامة الخلق، والثاني: نصيب المقربين، ولهذا السبب قال بعضهم: من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني، ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة
7

الوصول، وأما أهل العقاب فقد قال في شرح أحوالهم * (وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) * فحكم بأنه تعالى يعطيهم نصيبا من متاع الدنيا فدل ذلك على خساسة الدنيا، فإنه تعالى لما ذكر أحوال المؤمنين لم يذكر البتة أنه يعطيهم الدنيا أم لا. ولما ذكر أحوال الكافرين ذكر أنه يعطيهم الدنيا، وهذا تنبيه عظيم على خساسة السعادات الجسمانية والترغيب في المقامات الروحانية.
قوله تعالى
* (تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين) *.
واعلم أنه تعالى لما شرح قصة نوح عليه السلام على التفصيل قال: * (تلك) * أي تلك الآيات التي ذكرناها، وتلك التفاصيل التي شرحناها من أنباء الغيب، أي من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق فقوله: * (تلك) * في محل الرفع على الابتداء، و * (من أنباء الغيب) * الخبر و * (نوحيها إليك) * خبر ثان وما بعده أيضا خبر ثالث.
ثم قال تعالى: * (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك) * والمعنى: أنك ما كنت تعرف هذه القصة، بل قومك ما كانوا يعرفونها أيضا، ونظيره أن تقول لإنسان لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك.
فإن قيل: أليس قد كانت قصة طوفان نوح عليه السلام مشهورة عند أهل العلم؟
قلنا: تلك القصة بحسب الإجمال كانت مشهورة، أما التفاصيل المذكورة فما كانت معلومة.
ثم قال: * (فاصبر إن العاقبة للمتقين) * والمعنى: يا محمد اصبر أنت وقومك على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح وقومه على أذى أولئك الكفار، وفيه تنبيه على أن الصبر عاقبته النصر والظفر والفرح والسرور كما كان لنوح عليه السلام ولقومه.
فإن قال قائل: إنه تعالى ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم إنه أعادها ههنا مرة أخرى، فما الفائدة في هذا التكرير؟
قلنا: إن القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه: ففي السورة الأولى كان الكفار يستعجلون نزول العذاب، فذكر تعالى قصة نوح في بيان أن قومه كانوا يكذبونه بسبب أن العذاب ما كان يظهر
8

ثم في العاقبة ظهر فكذا في واقعة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذه السورة ذكر هذه القصة لأجل أن الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش، فذكر الله تعالى هذه القصة لبيان أن إقدام الكفار على الإيذاء والإيحاش كان حاصلا في زمان نوح، إلا أنه عليه السلام لما صبر نال الفتح والظفر، فكن يا محمد كذلك لتنال المقصود، ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خاليا عن الفائدة.
قوله تعالى
* (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون * ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرنى أفلا تعقلون) *.
اعلم أن هذا هو القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، واعلم أن هذا معطوف على قوله: * (ولقد أرسلنا نوحا) * (الحديد: 26) والتقدير: ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا وقوله: * (هودا) * عطف بيان.
واعلم أنه تعالى وصف هودا بأنه أخوهم ومعلوم أن تلك الأخوة ما كانت في الدين، وإنما كانت في النسب، لأن هودا كان رجلا من قبيلة عاد، وهذه القبيلة كانت قبيلة من العرب وكانوا بناحية اليمن، ونظيره ما يقال للرجل يا أخا تميم ويا أخا سليم، والمراد رجل منهم.
فإن قيل: إنه تعالى، قال في ابن نوح * (إنه ليس من أهلك) * (هود: 46) فبين أن قرابة النسب لا تفيد إذا لم تحصل قرابة الدين، وههنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدين، فما الفرق بينهما؟
قلنا: المراد من هذا الكلام استمالة قوم محمد صلى الله عليه وسلم، لأن قومه كانوا يستعبدون في محمد مع أنه واحد من قبيلتهم أن يكون رسولا إليهم من عند الله، فذكر الله تعالى أن هودا كان واحدا من عاد وأن صالحا كان واحدا من ثمود لإزالة هذا الاستبعاد.
واعلم أنه تعالى حكى عن هود عليه السلام، أنه دعا قومه إلى أنواع من التكاليف.
فالنوع الأول: أنه دعاهم إلى التوحيد، فقال: * (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم
9

إلا مفترون) * وفيه سؤال وهو أنه كيف دعاهم إلى عبادة الله تعالى قبل أن أقام الدلالة على ثبوت الإله تعالى؟
قلنا: دلائل وجود الله تعالى ظاهرة، وهي دلائل الآفاق والأنفس وقلما توجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله تعالى، ولذلك قال تعالى في صفة الكفار: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) *.
قال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله وختم له بالحسن، دخلت بلاد الهند فرأيت أولئك الكفار مطبقين على الاعتراف بوجود الإله، وأكثر بلاد الترك أيضا كذلك، وأنما الشأن في عبادة الأوثان، فإنها آفة عمت أكثر أطراف الأرض وهكذا الأمر كان في الزمان القديم، أعني زمان نوح وهود وصالح عليهم السلام، فهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، كانوا يمنعونهم من عبادة الأصنام، فكان قوله: * (اعبدوا الله) * معناه لا تعبدوا غير الله والدليل عليه أنه قال عقيبه: * (مالكم من إله غيره) * وذلك يدل على أن المقصود من هذا الكلام منعهم عن الاشتغال بعبادة الأصنام.
وأما قوله: * (مالكم من إله غيره) * فقرئ * (غيره) * بالرفع صفة على محل الجار والمجرور، وقرئ بالجر صفة على اللفظ.
ثم قال: * (إن أنتم إلا مفترون) * يعني أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام تحسن عبادتها، أو في قولكم إنها تستحق العبادة، وكيف لا يكون هذا كذبا وافتراء وهي جمادات لا حس لها ولا إدراك، والإنسان هو الذي ركبها وصورها فكيف يليق بالإنسان الذي صنعها أن يعبدها وأن يضع الجبهة على التراب تعظيما لها، ثم إنه عليه الصلاة والسلام لما أرشدهم إلى التوحيد ومنعهم عن عبادة الأوثان قال: و * (يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني) * وهو عين ما ذكره نوح عليه السلام، وذلك لأن الدعوة إلى الله تعالى إذا كانت مطهرة عن دنس الطمع، قوي تأثيرها في القلب.
ثم قال * (أفلا تعقلون) * يعني أفلا تعقلون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام، وذلك لأن العلم بصحة هذا المنع، كأنه مركوز في بدائه العقول.
10

قوله تعالى
* (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السمآء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين) *.
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التكاليف التي ذكرها هود عليه السلام لقومه، وذلك لأنه في المقام الأول دعاهم إلى التوحيد، وفي هذا المقام دعاهم إلى الاستغفار ثم إلى التوبة، والفرق بينهما قد تقدم في أول هذه السورة. قال أبو بكر الأصم: استغفروا، أي سلوه أن يغفر لكم ما تقدم من شرككم ثم توبوا من بعده بالندم على ما مضى وبالعزم على أن لا تعدوا إلى مثله؛ ثم إنه عليه السلام قال: " إنكم متى فعلتم ذلك فالله تعالى يكثر النعم عندكم ويقويكم على الانتفاع بتلك النعم " وهذا غاية ما يراد من السعادات، فإن النعم إن لم تكن حاصلة تعذر الانتفاع وإن كانت حاصلة، إلا أن الحيوان قام به المنع من الانتفاع بها لم يحصل المقصود أيضا، أما إذا كثرت النعمة وحصلت القوة الكاملة على الانتفاع بها، فههنا تحصل غاية السعادة والبهجة فقوله تعالى: * (يرسل السماء عليكم مدرارا) * إشارة إلى تكثير النعم لأن مادة حصول النعم هي الأمطار الموافقة، وقوله: * (ويزدكم قوة إلى قوتكم) * إشارة إلى كمال حال القوى التي بها يمكن الانتفاع بتلك النعمة، ولا شك أن هذه الكلمة جامعة في البشارة بتحصيل السعادات وأن الزيادة عليها ممتنعة في صريح العقل، ويجب على العاقل أن يتأمل في هذه اللطائف ليعرف ما في هذا الكتاب الكريم من الأسرار المخفية، وأما المفسرون فإنهم قالوا القوم كانوا مخصوصين في الدنيا بنوعين من الكمال: أحدهما: أن بساتينهم ومزارعهم كانت في غاية الطيب والبهجة، والدليل عليه قوله: * (إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد) * (الفجر: 7، 8) والثاني: أنهم كانوا في غاية القوة والبطش ولذلك قالوا: * (من أشد منا قوة) * (فصلت: 15)، ولما كان القوم مفتخرين على سائر الخلق بهذين الأمرين وعدهم هود عليه السلام، أنهم لو تركوا عبادة الأصنام واشتغلوا بالاستغفار والتوبة فإن الله تعالى يقوي حالهم في هذين المطلوبين ويزيدهم فيها درجات كثيرة، ونقل أيضا أن الله تعالى لما بعث هودا عليه السلام إليهم وكذبوه وحبس الله عنهم المطر سنين وأعقم أرحام نسائهم فقال لهم هود: إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد، فذلك قوله: * (يرسل السماء عليكم مدرارا) * والمدرار الكثير الدر وهو من أبنية المبالغة وقوله: * (ويزدكم قوة إلى قوتكم) * ففسروا هذه القوة بالمال والولد، والشدة في الأعضاء، لأن كل ذلكم ما يتقوى به الإنسان.
11

فإن قيل: حاصل الكلام هو أن هودا عليه السلام قال: لو اشتغلتم بعبادة الله تعالى لانفتحت عليكم أبواب الخيرات الدنيوية، وليس الأمر كذلك، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: " خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل " فكيف الجمع بينهما، وأيضا فقد جرت عادة القرآن بالترغيب في الطاعات بسبب ترتيب الخيرات الدنيوية والأخروية عليها، فأما الترغيب في الطاعات، لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها، فذلك لا يليق بالقرآن بل هو طريق مذكور في التوراة.
الجواب: أنه لما أكثر الترغيب في السعادات الأخروية لم يبعد الترغيب أيضا في خير الدنيا بقدر الكفاية.
وأما قوله: * (ولا تتولوا مجرمين) * فمعناه: لا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه وأرغبكم فيه مجرمين أي مصرين على إجرامكم وآثامكم.
قوله تعالى
* (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركى ءالهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون * من دونه فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون * إنى توكلت على الله ربى وربكم ما من دآبة إلا هو ءاخذ بناصيتهآ إن ربى على صراط مستقيم) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن هود عليه السلام ما ذكره للقوم، حكى أيضا ما ذكره القوم له وهو أشياء: أولها: قولهم: * (ما جئتنا ببينة) * أي بحجة، والبينة سميت بينة لأنها تبين الحق من الباطل، ومن المعلوم أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزات إلا أن القوم بجهلهم أنكروها، وزعموا أنه ما جاء بشيء من المعجزات. وثانيها: قولهم: * (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) * وهذا أيضا ركيك، لأنهم
12

كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر، ومتى كان الأمر كذلك فقد ظهر في بديهة العقل أنه لا تجوز عبادتها وتركهم آلهتهم لا يكون عن مجرد قوله بل عن حكم نظر العقل وبديهة النفس. وثالثها: قوله: * (وما نحن لك بمؤمنين) * وهذا يدل على الإصرار والتقليد والجحود. ورابعها: قولهم: * (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) * يقال: اعتراه كذا إذا غشيه وأصابه. والمعنى: أنك شتمت آلهتنا فجعلتك مجنونا وأفسدت عقلك، ثم إنه تعالى ذكر أنهم لما قالوا ذلك قال هود عليه السلام: * (إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه) * وهو ظاهر.
ثم قال: * (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) * وهذا نظير ما قاله نوح عليه السلام لقومه: * (فاجمعوا أمركم وشركاءكم) * إلى قوله: * (ولا تنظرون) * (يونس: 71). واعلم أن هذا معجزة قاهرة، وذلك أن الرجل الواحد إذا أقبل على القوم العظيم وقال لهم: بالغوا في عداوتي وفي موجبات إيذائي ولا تؤجلون فإنه لا يقول هذا إلا إذا كان واثقا من عند الله تعالى بأنه يحفظه ويصونه عن كمد الأعداء.
ثم قال: * (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) * قال الأزهري: الناصية عند العرب منبت الشعر في مقدم الرأس ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته.
واعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذلة والخضوع قالوا: ما ناصية فلان إلا بيد فلان، أي أنه مطيع له، لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا في القرآن بما يعرفون فقوله: * (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) * أي ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته، ومنقاد لقضائه وقدره.
ثم قال: * (إن ربي على صراط مستقيم) * وفيه وجوه: الأول: أنه تعالى لما قال: * (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) * أشعر ذلك بقدرة عالية وقهر عظيم فأتبعه بقوله: * (إن ربي على صراط مستقيم) * أي أنه وإن كان قادرا عليهم لكنه لا يظلمهم ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب، قالت المعتزلة قوله: * (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) * يدل على التوحيد وقوله: * (إن ربي على صراط مستقيم) * يدل على العدل، فثبت أن الدين إنما يتم بالتوحيد والعدل. والثاني: أنه تعالى لما ذكر أن سلطانه قهر جميع الخلق أتبعه بقوله: * (إن ربي على صراط مستقيم) * يعني أنه لا يخفى عليه مستتر، ولا يفوته هارب، فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه، كما قال: * (إن ربك لبالمرصاد) * (الفجر: 14) الثالث: أن يكون المراد * (إن ربي) * يدل على الصراط المستقيم، أي يحث، أو يحملكم بالدعاء إليه.
13

قوله تعالى
* (فإن تولوا فقد أبلغتكم مآ أرسلت به إليكم ويستخلف ربى قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربى على كل شىء حفيظ) *.
اعلم أن قوله: * (فإن تولوا) * يعني فإن تتولوا ثم فيه وجهان: الأول تقدير الكلام فإن تتولوا لم أعاتب على تقصير في الإبلاغ وكنتم محجوبين كأنه يقول: أنتم الذين أصررتم على التكذيب. الثاني: * (فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم) *.
ثم قال: * (ويستخلف ربي قوما غيركم) * يعني يخلق بعدكم من هو أطوع لله منكم، وهذا إشارة إلى نزول عذاب الاستئصال ولا تضرونه شيئا، يعني أن إهلاككم لا ينقص من ملكه شيئا.
ثم قال: * (إن ربي على كل شيء حفيظ) * وفيه ثلاثة أوجه: الأول: حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها. الثاني: يحفظني من شركم ومكركم. الثالث: حفيظ على كل شيء يحفظه من الهلاك إذا شاء ويهلكه إذا شاء.
قوله تعالى
* (ولما جآء أمرنا نجينا هودا والذين ءامنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ * وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) *.
اعلم أن قوله: * (ولما جاء أمرنا) * أي عذابنا وذلك هو ما نزل بهم من الريح العقيم عذبهم الله بها سبع ليال وثمانية أيام، تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية.
14

فإن قيل: فهذه الريح كيف تؤثر في إهلاكهم؟
قلنا: يحتمل أن يكون ذلك لشدة حرها أو لشدة بردها أو لشدة قوتها، فتخطف الحيوان من الأرض، ثم تضربه على الأرض، فكل ذلك محمل.
وأما قوله: * (نجينا هودا) * فاعلم أنه يجوز إتيان البلية على المؤمن وعلى الكافر معا، وحينئذ تكون تلك البلية رحمة على المؤمن وعذابا على الكافر، فأما العذاب
النازل بمن يكذب الأنبياء عليهم السلام فإنه يجب في حكمة الله تعالى أن ينجي المؤمن منه، ولولا ذلك لما عرف كونه عذابا على كفرهم، فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا: * (نجينا هودا والذين آمنوا معه) *.
وأما قوله: * (برحمة منا) * ففيه وجوه: الأول: أراد أنه لا ينجو أحد وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلا برحمة من الله، والثاني: المراد من الرحمة: ما هداهم إليه من الإيمان بالله والعمل الصالح. الثالث: أنه رحمهم في ذلك الوقت، وميزهم عن الكافرين في العقاب.
وأما قوله: * (ونجيناهم من عذاب غليظ) * فالمراد من النجاة الأولى هي النجاة من عذاب الدنيا، والنجاة الثانية من عذاب القيامة، وإنما وصفه بكونه غليظا تنبيها على أن العذاب الذي حصل لهم بعد موتهم بالنسبة إلى العذاب الذي وقعوا فيه كان عذابا غليظا، والمراد من قوله تعالى: * (ونجيناهم) * أي حكمنا بأنهم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ ولا يقعون فيه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: * (وتلك عاد) * فهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم، كأنه تعالى قال: سيروا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا. ثم إنه تعالى جمع أوصافهم ثم ذكر عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة، فأما أوصافهم فهي ثلاثة.
الصفة الأولى: قوله: * (جحدوا بآيات ربهم) * والمراد: جحدوا دلالة المعجزات على الصدق، أو الجحد، ودلالة المحدثات على وجود الصانع الحكيم، إن ثبت أنهم كانوا زنادقة.
الصفة الثانية: قوله: * (وعصوا رسله) * والسبب فيه أنهم إذا عصوا رسولا واحدا، فقد عصوا جميع الرسل لقوله تعالى: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * (البقرة: 285) وقيل: لم يرسل إليهم إلا هود عليه السلام.
الصفة الثالثة: قوله: * (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) * والمعنى أن السفلة كانوا يقلدون الرؤساء في قولهم: * (ما هذا إلا بشر مثلكم) * (المؤمنون: 24) والمراد من الجبار المرتفع المتمرد العنيد العنود والمعاند، وهو المنازع المعارض.
15

واعلم أنه تعالى لما ذكر أوصافهم ذكر بعد ذلك أحوالهم فقال: * (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة) * أي جعل اللعن رديفا لهم، ومتابعا ومصاحبا في الدنيا وفي الآخرة، ومعنى اللعنة الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير.
ثم إنه تعالى بين السبب الأصلي في نزول هذه الأحوال المكروهة بهم فقال: * (ألا إن عادا كفروا ربهم) * قيل: أراد كفروا بربهم فحذف الباء، وقيل: الكفر هو الجحد فالتقدير: ألا إن عادا جحدوا ربهم. وقيل: هو من باب حذف المضاف أي كفروا نعمة ربهم.
ثم قال: * (ألا بعدا لعاد قوم هود) * وفيه سؤالان:
السؤال الأول: اللعن هو البعد، فلما قال: * (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة) * فما الفائدة في قوله: * (ألا بعدا لعاد) *.
والجواب: التكرير بعبارتين مختلفتين يدل على غاية التأكيد.
السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله: * (لعاد قوم هود) *.
الجواب: كان عاد عادين، فالأولى: القديمة هم قوم هود، والثانية: هم إرم ذات العماد، فذكر ذلك لإزالة الاشتباه. والثاني: أن المبالغة في التنصيص تدل على مزيد التأكيد.
قوله تعالى
* (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب مجيب * قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانآ أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونآ إليه مريب) *.
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة وهي قصة صالح مع ثمود، ونظمها مثل النظم المذكور في قصة هود، إلا أن ههنا لما أمرهم بالتوحيد ذكر في تقريره دليلين:
الدليل الأول: قوله: * (هو أنشأكم من الأرض) * وفيه وجهان:
16

الوجه الأول: أن الكل مخلوقون من صلب آدم، وهو كان مخلوقا من الأرض. وأقول: هذا صحيح لكن فيه وجه آخر وهو أقرب منه، وذلك لأن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث، والمني إنما تولد من الدم، فالإنسان مخلوق من الدم، والدم إنما تولد من الأغذية، وهذه الأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانات حالها كحال الإنسان، فوجب انتهاء الكل إلى النبات وظاهر أن تولد النبات من الأرض، فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض.
والوجه الثاني: أن تكون كلمة * (من) * معناها في التقدير: أنشأكم في الأرض، وهذا ضعيف لأنه متى أمكن حمل الكلام على ظاهره فلا حاجة إلى صرفه عنه، وأما تقرير أن تولد الإنسان من الأرض كيف يدل على وجود الصانع فقد شرحناه مرارا كثيرة.
الدليل الثاني: قوله: * (واستعمركم فيها) * وفيه ثلاثة أوجه: الأول: جعلكم عمارها، قالوا: كان ملوك فارس قد أكثروا في حفر الأنهار وغرس الأشجار، لا جرم حصلت لهم الأعمار الطويلة فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه، ما سبب تلك الأعمار؟ فأوحى الله تعالى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي، وأخذ معاوية في إحياء أرض في آخر عمره فقيل له ما حملك عليه، فقال: ما حملني عليه إلا قول القائل: ليس الفتى بفتى لا يستضاء به * ولا يكون له في الأرض آثار
الثاني: أنه تعالى أطال أعماركم فيها واشتقاق * (واستعمركم) * من العمر مثل استبقاكم من البقاء. والثالث: أنه مأخوذ من العمرى، أي جعلها لكم طول أعماركم فإذا متم انتقلت إلى غيركم.
واعلم أن في كون الأرض قابلة للعمارات النافعة للإنسان، وكون الإنسان قادرا عليها دلالة عظيمة على وجود الصانع، ويرجع حاصله إلى ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهي قوله: * (والذي قدر فهدى) * (الأعلى: 3) وذلك لأن حدوث الإنسان مع أنه حصل في ذاته العقل الهادي والقدرة على التصرفات الموافقة يدل على وجود الصانع الحكيم وكون الأرض موصوفة بصفات مطابقة للمصالح موافقة للمنافع يدل أيضا على وجود الصانع الحكيم.
أما قوله: * (فاستغفروه ثم توبوا إليه) * فقد تقدم تفسيره.
وأما قوله: * (إن ربي قريب مجيب) * يعني أنه قريب بالعلم والسمع * (مجيب) * دعاء المحتاجين بفضله ورحمته، ثم بين تعالى أن صالحا عليه السلام لما قرر هذه الدلائل * (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) * وفيه وجوه: الأول: أنه لما كان رجلا قوي العقل قوي الخاطر وكان من قبيلتهم قوي رجاؤهم في أن ينصر دينهم ويقوي مذهبهم ويقرر طريقتهم لأنه متى حدث رجل فاضل في قوم
17

طمعوا فيه من هذا الوجه. الثاني: قال بعضهم المراد أنك كنت تعطف على فقرائنا وتعين ضعفاءنا وتعود مرضانا فقوي رجاؤنا فيك أنك من الأنصار والأحباب، فكيف أظهرت العداوة والبغضة ثم إنهم أضافوا إلى هذا الكلام التعجب الشديد من قوله: * (فقالوا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) * والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد ووجوب متابعة الآباء والأسلاف، ونظير هذا التعجب ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا: * (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) * (ص: 5) ثم قالوا: * (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) * والشك هو أن يبقى الإنسان متوقفا بين النفي والإثبات والمريب هو الذي يظن به السوء فقوله: * (وإننا لفي شك) * يعني به أنه لم يترجح في اعتقادهم صحة قوله وقوله: * (مريب) * يعني أنه ترجح في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغة في تزييف كلامه.
قوله تعالى
* (قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى منه رحمة فمن ينصرنى من الله إن عصيته فما تزيدوننى غير تخسير) *.
اعلم أن قوله: * (إن كنت على بينة من ربي) * ورد بحرف الشك وكان على يقين تام في أمره إلا أن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول، فكأنه قال: قدروا أني على بينة من ربي وأني نبي على الحقيقة، وانظروا أني إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره فمن يمنعني من عذاب الله فما تزيدونني على هذا التقدير غير تخسير، وفي تفسير هذه الكلمة وجهان: الأول: أن على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها. الثاني: أن يكون التقدير فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملوني عليه غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران، وأقول لكم إنكم خاسرون، والقول الأول أقرب لأن قوله: * (فمن ينصرني من الله إن عصيته) * (هود: 63) كالدلالة على أنه أراد إن أتبعكم فيما أنتم عليه من الكفر الذي دعوتموني إليه لم أزدد إلا خسرانا في الدين فأصير من الهالكين الخاسرين.
18

قوله تعالى
* (ويا قوم هذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب * فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) *.
اعلم أن العادة فيمن يدعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام أن يبتدئ بالدعوة إلى عبادة الله ثم يتبعه بدعوى النبوة لا بد وأن يطلبوا منه المعجزة وأمر صالح عليه السلام هكذا كان، يروى أن قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة فدعا صالح ربه فخرجت الناقة كما سألوا.
واعلم أن تلك الناقة كانت معجزة من وجوه، الأول: أنه تعالى خلقها من الصخرة وثانيها: أنه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل. وثالثها: أنه تعالى خلقها حاملا من غير ذكر. ورابعها: أنه خلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة، وخامسها: ما روي أنه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر، وسادسها: أنه كان يحصل منها لبن كثير يكفي الخلق العظيم، وكل من هذه الوجوه معجز قوي وليس في القرآن، إلا أن تلك الناقة كانت آية ومعجزة، فأما بيان أنها كانت معجزة من أي الوجوه فليس فيه بيانه.
ثم قال: * (فذروها تأكل في أرض الله) * والمراد أنه عليه السلام رفع عن القوم مؤنتها، فصارت مع كونها آية لهم تنفعهم ولا تضرهم، لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها على ما روي أنه عليه السلام خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر، فإن الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه، بل يسعى في إخفاءها وإبطالها بأقصى الإمكان، فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها، فلهذا احتاط وقال: * (ولا تمسوها بسوء) * وتوعدهم إن مسوها بسوء بعذاب قريب، وذلك تحذير شديد لهم من الإقدام على قتلها، ثم بين الله تعالى أنهم مع ذلك عقروها وذبحوها، ويحتمل أنهم عقروها لإبطال تلك الحجة، وأن يكون لأنها ضيقت الشرب على القوم، وأن يكون لأنهم رغبوا في شحمها ولحمها، وقوله: * (فيأخذكم عذاب قريب) * يريد اليوم الثالث، وهو قوله: * (تمتعوا في داركم) * ثم بين تعالى أن
19

القوم عقروها، فعند ذلك قال لهم صالح عليه السلام: * (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) * ومعنى التمتع: التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس، ولما كان التمتع لا يحصل إلا للحي عبر به عن الحياة، وقوله: * (في داركم) * فيه وجهان: الأول: أن المراد من الدار البلد، وتسمى البلاد بالديار، لأنه يدار فيها أي يتصرف يقال: ديار بكر أي بلادهم. الثاني: أن المراد بالديار الدنيا. وقوله: * (ذلك وعد مكذوب) * أي غير مكذب والمصدر قد يرد بلفظ المفعول كالمجلود والمعقول وبأيكم المفتون، وقيل غير مكذوب فيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى لما أمهلهم تلك الأيام الثلاثة فقد رغبهم في الإيمان، وذلك لأنهم لما عقروا الناقة أنذرهم صالح
عليه السلام بنزول العذاب، فقالوا وما علامة ذلك؟ فقال: تصير وجوهكم في اليوم الأول مصفرة، وفي الثاني محمرة، وفي الثالث مسودة، ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع، فلما رأوا وجوههم قد اسودت أيقنوا بالعذاب فاحتاطوا واستعدوا للعذاب فصبحهم اليوم الرابع وهي الصيحة والصاعقة والعذاب.
فإن قيل: كيف يعقل أن تظهر فيهم هذه العلامات مطابقة لقول صالح عليه السلام، ثم يبقون مصرين على الكفر.
قلنا: ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حد الجزم واليقين لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينية قطعية، فقد انتهى الأمر إلى حد الإلجاء والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول.
قوله تعالى
* (فلما جآء أمرنا نجينا صالحا والذين ءامنوا معه برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز * وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيهآ ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) *.
اعلم أن مثل هذه الآية قد مضى في قصة عاد، وقوله: * (ومن خزي يومئذ) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: الواو في قوله: * (ومن خزي) * واو العطف وفيه وجهان: الأول: أن يكون
20

التقدير: نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم وبقي العار فيه مأثورا عنهم ومنسوبا إليهم، لأن معنى الخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيا من مثله فحذف ما حذف اعتمادا على دلالة ما بقي عليه. الثاني: أن يكون التقدير: نجينا صالحا برحمة منا ونجيناهم من خزي يومئذ.
المسألة الثانية: قرأ الكسائي ونافع في رواية ورش وقالون وإحدى الروايات عن الأعشى * (يومئذ) * بفتح الميم، وفي المعارج * (عذاب يومئذ) * (المعارج: 11) والباقون بكسر الميم فيهما فمن قرأ بالفتح فعلى أن يوم مضاف إلى إذ وأن إذ مبني، والمضاف إلى المبني يجوز جعله مبنيا ألا ترى أن المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف والتنكير فكذا ههنا، وأما الكسر في إذ فالسبب أنه يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر تقول: جئتك إذ الشمس طالعة، فلما قطع عن المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثم كسرت الذال لسكونها وسكون التنوين، وأما القراءة بالكسر فعلى إضافة الخزي إلى اليوم ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنيا لأن هذه الإضافة غير لازمة.
المسألة الثالثة: الخزي الذل العظيم حتى يبلغ حد الفضيحة ولذلك قال تعالى في المحاربين * (ذلك لهم خزي في الدنيا) * (المائدة: 33) وإنما سمى الله تعالى ذلك العذاب خزيا لأنه فضيحة باقية يعتبر بها أمثالهم ثم قال: * (إن ربك هو القوي العزيز) * وإنما حسن ذلك، لأنه تعالى بين أنه أوصل ذلك العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه، وهذا التمييز لا يصح إلا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء فيجعل الشيء الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاء وعذابا وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحانا ثم إنه تعالى بين ذلك الأمر فقال: * (وأخذ الذين ظلموا) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: إنما قال: * (أخذ) * ولم يقل أخذت لأن الصيحة محمولة على الصياح، وأيضا فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث، وقد سبق لها نظائر.
المسألة الثانية: ذكروا في الصيحة وجهين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد الصاعقة الثاني: الصيحة صيحة عظيمة هائلة سمعوها فماتوا أجمع منها فأصبحوا وهم موتى جاثمين في دورهم ومساكنهم، وجثومهم سقوطهم على وجوههم، يقال إنه تعالى أمر جبريل عليه السلام أن يصيح بهم تلك الصيحة التي ماتوا بها، ويجوز أن يكون الله تعالى خلقها، والصياح لا يكون إلا الصوت الحادث في حلق وفم وكذلك الصراخ، فإن كان من فعل الله تعالى فقد خلقه في حلق حيوان وإن كان فعل جبريل عليه السلام فقد حصل في فمه وحلقه، والدليل عليه أن صوت الرعد أعظم من كل صيحة ولا يسمى بذلك ولا بأنه صراخ.
21

فإن قيل: فما السبب في كون الصيحة موجبة للموت؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها: أن الصيحة العظيمة إنما تحدث عند سبب قوي يوجب تموج الهواء وذلك التموج الشديد ربما يتعدى إلى صماخ الإنسان فيمزق غشاء الدماغ فيورث الموت. والثاني: أنها شيء مهيب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النفسانية إذا قويت أوجبت الموت الثالث: أن الصيحة العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برق شديد محرق، وذلك هو الصاعقة التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما.
ثم قال تعالى: * (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) * والجثوم هو السكون يقال للطير إذا باتت في أوكارها أنها جثمت، ثم إن العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموت فوصف الله تعالى هؤلاء المهلكين بأنهم سكنوا عند الهلاك، حتى كأنهم ما كانوا أحياء وقوله: * (كأن لم يغنوا فيها) * أي كأنهم لم يوجدوا، والمغنى المقام الذي يقيم الحي به يقال: غني الرجل بمكان كذا إذا أقام به.
ثم قال تعالى: * (ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) * قرأ حمزة وحفص عن عاصم * (ألا إن ثمود) * غير منون في كل القرآن، وقرأ الباقون * (ثمودا) * بالتنوين ولثمود كلاهما بالصرف، والصرف للذهاب إلى الحي، أو إلى الأب الأكبر ومنعه للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة.
قوله تعالى
* (ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جآء بعجل حنيذ * فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قآئمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب) *.
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال النحويون: دخلت كلمة " قد " ههنا لأن السامع لقصص الأنبياء عليهم السلام يتوقع قصة بعد قصة، وقد للتوقع، ودخلت اللام في " لقد " لتأكيد الخبر ولفظ * (رسلنا) * جمع
22

وأقله ثلاثة فهذا يفيد القطع بحصول ثلاثة، وأما الزائد على هذا العدد فلا سبيل إلى إثباته إلا بدليل آخر، وأجمعوا على أن الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام، ثم اختلفت الروايات فقيل: أتاه جبريل عليه السلام ومعه اثنا عشر ملكا على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن وقال الضحاك كانوا تسعة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام، وهم الذين ذكرهم الله في سورة والذاريات في قوله: * (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم) * (الذاريات: 24) وفي الحجر * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) * (الحجر: 51).
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بالبشرى على وجهين: الأول: أن المراد ما بشره الله بعد ذلك بقوله: * (فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب) * الثاني: أن المراد منه أنه بشر إبراهيم عليه السلام بسلامة لوط وبإهلاك قومه.
وأما قوله: * (قالوا سلاما قال سلام) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي * (قالوا سلم قال سلم) * بكسر السين وسكون اللام بغير ألف، وفي والذاريات مثله. قال الفراء: لا فرق بين القراءتين كما قالوا حل وحلال وحرم وحرام لأن في التفسير أنهم لما جاؤوا سلموا عليه. قال أبو علي الفارسي: ويحتمل أن يكون سلم خلاف العدو والحرب كأنهم لما امتنعوا من تناول ما قدمه إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة قال إنا سلم ولست بحرب ولا عدو فلا تمتنعوا من تناول طعامي كما يمتنع من تناول طعام العدو، وهذا الوجه عندي بعيد، لأن على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلم إبراهيم عليه السلام بهذا اللفظ بعد إحضار الطعام، إلا أن القرآن يدل على أن هذا الكلام إنما وجد قبل إحضار الطعام لأنه تعالى قال: * (قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) * (هود: 69) والفاء للتعقيب، فدل ذلك على أن مجيئه بذلك العجل الحنيذ كان بعد ذكر السلام.
المسألة الثانية: قالوا سلاما تقديره: سلمنا عليك سلاما قال سلام تقديره: أمري سلام، أي لست مريدا غير السلامة والصلح. قال الواحدي: ويحتمل أن يكون المراد: سلام عليكم، فجاء به مرفوعا حكاية لقوله كما قال: وحذف عنه الخبر كما حذف من قوله: * (فصبر جميل) * (يوسف: 18) وإنما يحسن هذا الحذف إذا كان المقصود معلوما بعد الحذف، وههنا المقصود معلوم فلا جرم حسن الحذف، ونظيره قوله تعالى: * (فاصفح عنهم وقل سلام) * (الزخرف: 89) على حذف الخبر.
واعلم أنه إنما سلم بعضهم على بعض، رعاية للإذن المذكور في قوله تعالى: * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) *.
23

المسألة الثالثة: أكثر ما يستعمل * (سلام عليكم) * بغير ألف ولام، وذلك لأنه في معنى الدعاء، فهو مثل قولهم: خير بين يديك.
فإن قيل: كيف جاز جعل النكرة مبتدأ؟
قلنا: النكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدأ، فإذا قلت سلام عليكم: فالتنكير في هذا الموضع يدل على التمام والكمال، فكأنه قيل: سلام كامل تام عليكم، ونظيره قولنا: سلام عليك، وقوله تعالى: * (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي) * (مريم: 47) وقوله: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) * (سلام على نوح في العالمين) * (الصافات: 79) * (الملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم) * (الرعد: 23، 24) فأما قوله تعالى: * (والسلام على من اتبع الهدى) * (طه: 47) فهذا أيضا جائز، والمراد منه الماهية والحقيقة. وأقول: قوله: * (سلام عليكم) * أكمل من قوله: السلام عليكم، لأن التنكير في قوله: * (سلام عليكم) * يفيد الكمال والمبالغة والتمام. وأما لفظ السلام: فإنه لا يفيد إلا الماهية. قال الأخفش: من العرب من يقول: سلام عليكم فيعرى قوله: سلام عن الألف واللام والتنوين، والسبب في ذلك كثرة الاستعمال أباح هذا التخفيف، والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) * قالوا: مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك، ثم جاءه الملائكة فرأى أضيافا لم ير مثلهم، فعجل وجاء بعجل حنيذ، فقوله: * (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) * معناه: فما لبت في المجيء به بل عجل فيه، أو التقدير: فما لبث مجيئه والعجل ولد البقرة. أما الحنيذ: فهو الذي يشوى في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة، وهو من فعل أهل البادية معروف، وهو محنوذ في الأصل كما قيل: طبيخ ومطبوخ، وقيل: الحنيذ الذي يقطر دسمه. يقال: حنذت الفرس إذا ألقيت عليه الجل حتى تقطر عرقا.
ثم قال تعالى: * (فلما رآى أيديهم لا تصل إليه) * أي إلى العجل، وقال الفراء: إلى الطعام، وهو ذلك العجل * (نكرهم) * أي أنكرهم. يقال: نكره وأنكره واستنكره.
واعلم أن الأضياف إنما امتنعوا من الطعام لأنهم ملائكة والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، وإنما أتوه في صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها، وهو كان مشغوفا بالضيافة. وأما إبراهيم عليه السلام. فنقول: إما أن يقال: إنه عليه السلام ما كان يعلم أنهم ملائكة، بل كان يعتقد فيهم أنهم من البشر، أو يقال: إنه كان عالما بأنهم من الملائكة. أما على الاحتمال الأول فسبب خوفه أمران: أحدهما: أنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس، فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به مكروها، وثانيها: أن من لا يعرف إذا حضر وقدم إليه طعام فإن أكل حصل الأمن وإن لم يأكل حصل الخوف. وأما الاحتمال الثاني: وهو أنه عرف أنهم ملائكة الله تعالى،
24

فسبب خوفه على هذا التقدير أيضا أمران: أحدها: أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه: والثاني: أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه.
فإن قيل: فأي هذين الاحتمالين أقرب وأظهر؟
قلنا: أما الذي يقول إنه ما عرف أنهم ملائكة الله تعالى فله أن يحتج بأمور: أحدها: أنه تسارع إلى إحضار الطعام، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك. وثانيها: أنه لما رآهم ممتنعين من الأكل خافهم، ولو عرف كونهم من الملائكة لما استدل بترك الأكل على حصول الشر، وثالثها: أنه رآهم في أول الأمر في صورة البشر، وذلك لا يدل على كونهم من الملائكة. وأما الذي يقول: إنه عرف ذلك احتج بقوله: * (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف بأي سبب أرسلوا، ثم بين تعالى أن الملائكة أزالوا ذلك الخوف عنه فقالوا: * (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * ومعناه: أرسلنا بالعذاب إلى قوم لوط، لأنه أضمر لقيام الدليل عليه في سورة أخرى، وهو قوله: * (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. لنرسل عليهم حجارة) * (الذاريات: 33).
ثم قال تعالى: * (وامرأته قائمة) * يعني سارة بنت آزر بن باحورا بنت عم إبراهيم عليه السلام، وقوله: * (قائمة) * قيل: كانت قائمة من وراء الستر تستمع إلى الرسل، لأنها ربما خافت أيضا. وقيل: كانت قائمة تخدم الأضياف وإبراهيم عليه السلام جالس معهم، ويأكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود * (وامرأته قائمة) * وهو قاعد.
ثم قال تعالى: * (فضحكت فبشرناها بإسحق) * واختلفوا في الضحك على قولين: منهم من حمله على نفس الضحك، ومنهم من حمل هذا اللفظ على معنى آخر سوى الضحك. أما الذين حملوه على نفس الضحك فاختلفوا في أنها لم ضحكت، وذكروا وجوها: الأول: قال القاضي إن ذلك السبب لا بد وأن يكون سببا جرى ذكره في هذه الآية، وما ذاك إلا أنها فرحت بزوال ذلك الخوف عن إبراهيم عليه السلام حيث قالت الملائكة: * (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * وعظم سرورها بسبب سروره بزوال خوفه، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان، وبالجملة فقد كان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام * (لا تخف) * فكان كالبشارة، فقيل لها: نجعل هذه البشارة بشارتين، فكما حصلت البشارة بزوال الخوف، فقد حصلت البشارة أيضا بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أول العمر إلى هذا الوقت وهذا تأويل في غاية الحسن. الثاني: يحتمل أنها كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لما كانوا عليه من الكفر والعمل الخبيث، فلما أظهروا أنهم جاؤوا لإهلاكهم لحقها السرور فضحكت. الثالث: قال السدي قال إبراهيم عليه السلام لهم: * (ألا تأكلون) * قالوا:
25

لا نأكل طعاما إلا بالثمن، فقال: ثمنه أن تذكروا اسم الله تعالى على أوله وتحمدوه على آخره، فقال جبريل لميكائيل عليهما السلام: " حق لمثل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلا " فضحكت امرأته فرحا منها بهذا الكلام. الرابع: أن سارة قالت لإبراهيم عليه السلام أرسل إلى ابن أخيك وضمه إلى نفسك، فإن الله تعالى لا يترك قومه حتى يعذبهم، فعند تمام هذا الكلام دخل الملائكة على إبراهيم عليه السلام، فلما أخبروه بأنهم إنما جاؤوا لإهلاك قوم لوط صار قولهم موافقا لقولها، فضحكت لشدة سرورها بحصول الموافقة بين كلامها وبين كلام الملائكة. الخامس: أن الملائكة لما أخبروا إبراهيم عليه السلام أنهم من الملائكة لا من البشر وأنهم إنما جاؤوا لإهلاك قوم لوط طلب إبراهيم عليه السلام منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي من الموضع الذي كان موضوعا فيه إلى مرعاه، وكانت امرأة إبراهيم عليه السلام قائمة فضحكت لما رأت ذلك العجل المشوي قد طفر من موضعه. السادس: أنها ضحكت تعجبا من أن قوما أتاهم العذاب وهم في غفلة. السابع: لا يبعد أن يقال إنهم بشروها بحصول مطلق الولد فضحكت، إما على سبيل التعجب فإنه يقال إنها كانت في ذلك الوقت بنت بضع وتسعين سنة وإبراهيم عليه السلام ابن مائة سنة، وإما على سبيل السرور. ثم لما ضحكت بشرها الله تعالى بأن ذلك الولد هو إسحق ومن وراء إسحق يعقوب. الثامن: أنها ضحكت بسبب أنها تعجبت من خوف إبراهيم عليه السلام من ثلاث أنفس حال ما كان معه حشمه وخدمه. التاسع: أن هذا على التقديم والتأخير والتقدير: وامرأته قائمة فبشرناها بإسحق فضحكت سرورا بسبب تلك البشارة فقدم الضحك، ومعناه التأخير. الثاني: هو أن يكون معنى فضحكت حاضت وهو منقول عن مجاهد وعكرمة قالا: ضحكت أي حاضت عند فرحها بالسلامة من الخوف، فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد، وأنكر الفراء وأبو عبيدة أن يكون ضحكت بمعنى حاضت، قال أبو بكر الأنباري هذه اللغة إن لم يعرفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم، حكى الليث في هذه الآية * (فضحكت) * طمثت، وحكى الأزهري عن بعضهم أن أصله من ضحاك الطلعة يقال ضحكت الطلعة إذا انشقت.
واعلم أن هذه الوجوه كلها زوائد. وإنما الوجه الصحيح هو الأول.
ثم قال تعالى: * (ومن وراء إسحق يعقوب) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب بالنصب والباقون بالرفع أما وجه النصب، فهو أن يكون التقدير: بشرناها بإسحق ومن وراء إسحق وهبنا لها يعقوب، وأما وجه الرفع فهو أن يكون التقدير: ومن وراء إسحق يعقوب مولود أو موجود.
26

المسألة الثانية: في لفظ وراء قولان: الأول: وهو قول الأكثرين أن معناه بعد أي بعد إسحق يعقوب وهذا هو الوجه الظاهر. والثاني: أن الوراء ولد الولد، عن الشعبي أنه قيل له هذا ابنك، فقال نعم من الوراء، وكان ولد ولده، وهذا الوجه عندي شديد التعسف، واللفظ كأنه ينبو عنه.
قوله تعالى
* (قالت يا ويلتا ءألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا إن هذا لشىء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء أصل الويل وي وهو الخزي، ويقال: وي لفلان أي خزي له فقوله ويلك أي خزي لك، وقال سيبويه: ويح زجر لمن أشرف على الهلاك،
وويل لمن وقع فيه. قال الخليل: ولم أسمع على بنائه إلا ويح، وويس، وويك، وويه، وهذه الكلمات متقاربة في المعنى وأما قوله: * (يا ويلتا) * فمنهم من قال هذه الألف ألف الندبة وقال صاحب " الكشاف ": الألف في ويلتا مبدلة من ياء الإضافة في * (يا ويلتي) * وكذلك في يا لهفا ويا عجبا ثم أبدل من الياء والكسرة الألف والفتحة، لأن الفتح والألف أخف من الياء والكسرة.
أما قوله: * (أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو آلد بهمزة ومدة، والباقون بهمزتين بلا مد.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول إنها تعجبت من قدرة الله تعالى والتعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر، بيان المقدمة الأولى من ثلاثة أوجه: أولها: قوله تعالى حكاية عنها في معرض التعجب * (أألد وأنا عجوز) * وثانيها: قوله: * (إن هذا لشيء عجيب) * وثالثها: قول الملائكة لها * (أتعجبين من أمر الله) * وأما بيان أن التعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر، فلأن هذا التعجيب يدل على جهلها بقدرة الله تعالى، وذلك يوجب الكفر.
والجواب: أنها إنما تعجبت بحسب العرف والعادة لا بحسب القدرة فإن الرجل المسلم لو أخبره
27

مخبر صادق بأن الله تعالى يقلب هذا الجبل ذهبا إبريزا فلا شك أنه يتعجب نظرا إلى أحوال العادة لا لأجل أنه استنكر قدرة الله تعالى على ذلك.
المسألة الثالثة: قوله: * (وهذا بعلي شيخا) * فاعلم أن شيخا منصوب على الحال، قال الواحدي رحمه الله: وهذا من لطائف النحو وغامضه فإن كلمة هذا للإشارة، فكان قوله: * (وهذا بعلي شيخا) * قائم مقام أن يقال أشير إلى بعلي حال كونه شيخا، والمقصود تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشيخوخة.
المسألة الرابعة: قرأ بعضهم * (وهذا بعلي شيخ) * على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا بعلي وهو شيخ، أو بعلي بدل من المبتدأ وشيخ خبر أو يكونان معا خبرين، ثم حكى تعالى أن الملائكة قالوا: * (أتعجبين من أمر الله) * والمعنى: أنهم تعجبوا من تعجبها، ثم قالوا: * (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) * والمقصود من هذا الكلام ذكر ما يزيل ذلك التعجب وتقديره: إن رحمة الله عليكم متكاثرة وبركاته لديكم متوالية متعاقبة، وهي النبوة والمعجزات القاهرة والتوفيق للخيرات العظيمة فإذا رأيت أن الله خرق العادات في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية الرفيعة وفي إظهار خوارق العادات وإحداث البينات والمعجزات، فكيف يليق به التعجب.
وأما قوله: * (أهل البيت) * فإنه مدح لهم فهو نصب على النداء أو على الاختصاص، ثم أكدوا ذلك بقولهم: * (إنه حميد مجيد) * والحميد هو المحمود وهو الذي تحمد أفعاله، والمجيد الماجد، وهو ذو الشرف والكرم، ومن محامد الأفعال إيصال العبد المطيع إلى مراده ومطلوبه، ومن أنواع الفضل والكرم أن لا يمنع الطالب عن مطلوبه، فإذا كان من المعلوم أنه تعالى قادر على الكل وأنه حميد مجيد، فكيف يبقى هذا التعجب في نفس الأمر فثبت أن المقصود من ذكر هذه الكلمات إزالة التعجب.
قوله تعالى
* (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجآءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب) *.
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة وهي قصة لوط عليه السلام، واعلم أن الروع هو الخوف
28

وهو ما أوجس من الخيفة حين أنكر أضيافه والمعنى: أنه لما زال الخوف وحصل السرور بسبب مجيء البشرى بحصول الولد، أخذ يجادلنا في قوم لوط وجواب لما هو قوله: * (أخذ) * إلا أنه حذف في اللفظ لدلالة الكلام عليه، وقيل تقديره: لما ذهب عن إبراهيم الروع جادلنا.
واعلم أن قوله: * (يجادلنا) * أي يجادل رسلنا.
فإن قيل: هذه المجادلة إن كانت مع الله تعالى فهي جراءة على الله، والجراءة على الله تعالى من أعظم الذنوب، ولأن المقصود من هذه المجادلة إزالة ذلك الحكم وذلك يدل على أنه ما كان راضيا بقضاء الله تعالى وأنه كفر وإن كانت هذه المجادلة مع الملائكة فهي أيضا عجيبة، لأن المقصود من هذه المجادلة أن يتركوا إهلاك قوم لوط، فإن كان قد اعتقد فيهم أنهم من تلقاء أنفسهم يجادلون في هذا الإهلاك فهذا سوء ظن بهم. وإن اعتقد فيهم أنهم بأمر الله جاؤوا فهذه المجادلة تقتضي أنه كان يطلب منهم مخالفة أمر الله تعالى وهذا منكر.
والجواب: من وجهين:
الوجه الأول: وهو الجواب الإجمالي أنه تعالى مدحه عقيب هذه الآية فقال: * (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) * ولو كان هذا الجدل من الذنوب لما ذكر عقيبه ما يدل على المدح العظيم.
والوجه الثاني: وهو الجواب التفصيلي أن المراد من هذه المجادلة سعي إبراهيم في تأخير العذاب عنهم وتقريره من وجوه:
الوجه الأول: أن الملائكة قالوا: * (إنا مهلكوا أهل هذه القرية) * فقال إبراهيم: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: فأربعون قالوا: لا. قال: فثلاثون قالوا لا. حتى بلغ العشرة قالوا: لا. قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فعند ذلك قال: إن فيها لوطا وقد ذكر الله تعالى هذا في سورة العنكبوت فقال: * (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين) * (العنكبوت: 31، 32).
ثم قال: * (ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك) * فبان بهذا أن مجادلة إبراهيم عليه السلام، إنما كانت في قوم لوط بسبب مقام لوط فيما بينهم.
الوجه الثاني: يحتمل أن يقال إنه عليه السلام كان يميل إلى أن تلحقهم رحمة الله بتأخير العذاب عنهم رجاء أنهم أقدموا على الإيمان والتوبة عن المعاصي، وربما وقعت تلك المجادلات
29

بسبب أن إبراهيم كان يقول إن أمر الله ورد بإيصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور بل يقبل التراخي فاصبروا مدة أخرى، والملائكة كانوا يقولون إن مطلق الأمر يقبل الفور، وقد حصلت هناك قرائن دالة على الفور، ثم أخذ كل واحد منهم يقرر مذهبه بالوجوه المعلومة فحصلت المجادلة بهذا السبب، وهذا الوجه عندي هو المعتمد.
الوجه الثالث: في الجواب لعل إبراهيم عليه السلام سأل عن لفظ ذلك الأمر وكان ذلك الأمر مشروطا بشرط فاختلفوا في أن ذلك الشرط هل حصل في ذلك القوم أم لا فحصلت المجادلة بسببه، وبالجملة نرى العلماء في زماننا يجادل بعضهم بعضا عند التمسك بالنصوص، وذلك لا يوجب القدح في واحد منها فكذا ههنا.
ثم قال تعالى: * (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) * وهذا مدح عظيم من الله تعالى لإبراهيم، أما الحليم فهو الذي لا يتعجل بمكافأة غيره، بل يتأنى فيه فيؤخر ويعفو ومن هذا حاله فإنه يحب من غيره هذه الطريقة، وهذا كالدلالة على أن جداله كان في أمر متعلق بالحلم وتأخير العقاب، ثم ضم إلى ذلك ماله تعلق بالحلم وهو قوله: * (أواه منيب) * لأن من يستعمل الحلم في غيره فإنه يتأوه إذا شاهد وصول الشدائد إلى الغير فلما رأى مجيء الملائكة لأجل إهلاك قوم لوط عظم حزنه بسبب ذلك وأخذ يتأوه عليه فلذلك وصفه الله تعالى بهذه الصفة، ووصفه أيضا بأنه منيب، لأن من ظهرت فيه هذه الشفقة العظيمة على الغير فإنه ينيب ويتوب ويرجع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم أو يقال: إن من كان لا يرضى بوقوع غيره في الشدائد فأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها كان أولى ولا طريق إلى صون النفس عن الوقوع في عذاب الله إلا بالتوبة والإنابة فوجب فيمن هذا شأنه يكون منيبا.
قوله تعالى
* (يا إبراهيم أعرض عن هذآ إنه قد جآء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود * ولما جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب) *.
اعلم أن قوله: * (يا إبراهيم أعرض عن هذا) * معناه: أن الملائكة قالوا له: اترك هذه المجادلة لأنه
30

قد جاء أمر ربك بإيصال هذا العذاب إليهم وإذا لاح وجه دلالة النص على هذا الحكم فلا سبيل إلى دفعه فلذلك أمروه بترك المجادلة، ولما ذكروا * (إنه قد جاء أمر ربك) * ولم يكن في هذا اللفظ دلالة على أن هذا الأمر بماذا جاء لا جرم بين الله تعالى أنهم آتيهم عذاب غير مردود، أي عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده.
ثم قال: * (ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا) * وهؤلاء الرسل هم الرسل الذين بشروا إبراهيم بالولد عليهم السلام. قال ابن عباس رضي الله عنهما: انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربع فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم وكانوا في غاية الحسن ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله وذكروا فيه ستة أوجه: الأول: أنه ظن أنهم من الإنس فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجزوا عن مقاومتهم. الثاني: ساءه مجيئهم لأنه ما كان يجد ما ينفقه عليهم وما كان قادرا على القيام بحق ضيافتهم. والثالث: ساءه ذلك لأن قومه منعوه من إدخال الضيف داره. الرابع: ساءه مجيئهم، لأنه عرف بالحذر أنهم ملائكة وأنهم إنما جاؤوا لإهلاك قومه، والوجه الأول هو الأصح لدلالة قوله تعالى: * (وجاء قومه يهرعون إليه) * (هود: 78) وبقي في الآية ألفاظ ثلاثة لا بد من تفسيرها:
اللفظ الأول: قوله: * (سئ بهم) * ومعناه ساء مجيئهم وساء يسوء فعل لازم مجاوز يقال سؤته فسيء مثل شغلته فشغل وسررته فسر. قال الزجاج: أصله سوىء بهم إلا أن الواو سكنت ونقلت كسرتها إلى السين.
اللفظ الثاني: قوله: * (وضاق بهم ذرعا) * قال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة والأصل فيه البعير يذرع بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوته، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فضعف ومد عنقه، فجعل ضيق الذرع عبارة عن قدر الوسع والطاقة. فيقال: مالي به ذرع ولا ذراع أي مالي به طاقة، والدليل على صحة ما قلناه أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع فيقولون ضقت بالأمر ذراعا.
واللفظ الثالث: قوله: * (هذا يوم عصيب) * أي يوم شديد، وإنما قيل للشديد عصيب لأنه يعصب الإنسان بالشر.
قوله تعالى
* (وجآءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم
31

هؤلاء بناتى هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون فى ضيفى أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا فى بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) *.
وفيه مسائل: المسألة الأولى: أنه لما دخلت الملائكة دار لوط عليه السلام مضت امرأته عجوز السوء فقالت لقومه دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن وجوها ولا أنظف ثيابا ولا أطيب رائحة منهم * (فجاءه قومه يهرعون إليه) * أي يسرعون، وبين تعالى أن إسراعهم ربما كان لطلب العمل الخبيث بقوله: * (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) * نقل أن القوم دخلوا دار لوط وأرادوا أن يدخلوا البيت الذي كان فيه جبريل عليه السلام، فوضع جبريل عليه السلام يده على الباب، فلم يطيقوا فتحه حتى كسروه، فمسح أعينهم بيده فعموا، فقالوا: يا لوط قد أدخلت علينا السحرة وأظهرت الفتنة. ولأهل اللغة في * (يهرعون) * قولان:
القول الأول: أن هذا من باب ما جاءت صيغة الفاعل فيه على لفظ المفعول ولا يعرف له فاعل نحو: أولع فلان في الأمر، وأرعد زيد، وزهى عمرو من الزهو.
والقول الثاني: أنه لا يجوز ورود الفاعل على لفظ المفعول، وهذه الأفعال حذف فاعلوها فتأويل أولع زيد أنه أولعه طبعه وأرعد الرجل أرعده غضبه وزهى عمرو معناه
جعله ماله زاهيا وأهرع معناه أهرعه خوفه أو حرصه، واختلفوا أيضا فقال بعضهم: الإهراع هو الإسراع مع الرعدة. وقال آخرون: هو العدو الشديد.
أما قوله تعالى: * (قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) * ففيه قولان: قال قتادة: المراد بناته لصلبه. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: المراد نساء أمته؛ لأنهن في أنفسهن بنات ولهن إضافة إليه بالمتابعة وقبول الدعوة. قال أهل النحو: يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، لأنه كان نبيا لهم فكان كالأب لهم. قال تعالى: * (وأزواجه أمهاتهم) * (الأحزاب: 6) وهو أب لهم وهذا القول عندي هو المختار، ويدل عليه وجوه: الأول: أن إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفجار أمر متبعد لا يليق بأهل المروءة فكيف بأكابر الأنبياء؟ الثاني: وهو أنه قال: * (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) * فبناته اللواتي من
32

صلبه لا تكفي للجمع العظيم. أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل. الثالث: أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان، وهما: زنتا، وزعورا، وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة، فأما القائلون بالقول الأول فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما دعا القوم إلى لزنا بالنسوان بل المراد أنه دعاهم إلى التزوج بهن، وفيه قولان: أحدهما: أنه دعاهم إلى التزوج بهن بشرط أن يقدموا الإيمان. والثاني: أنه كان يجوز تزويج المؤمنة من الكافر في شريعته، وهكذا كان في أول الإسلام بدليل أنه عليه السلام زوج ابنته زينب من أبي العاص بن الربيع وكان مشركا وزوج ابنته من عتبة بن أبي لهب ثم نسخ ذلك بقوله: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 221) وبقوله: * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) * (البقرة: 221) واختلفوا أيضا، فقال الأكثرون: كان له بنتان، وعلى هذا التقدير ذكر الاثنتين بلفظ الجمع، كما في قوله: * (فإن كان له أخوة) * (النساء: 21) * (فقد صغت قلوبكما) * (التحريم: 4) وقيل: إنهن كن أكثر من اثنتين.
أما قوله تعالى: * (هن أطهر لكم) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: ظاهر قوله: * (هن أطهر لكم) * يقتضي كون العمل الذي يطلبونه طاهرا ومعلوم أنه فاسد ولأنه لا طهارة في نكاح الرجل، بل هذا جار مجرى قولنا: الله أكبر، والمراد أنه كبير ولقوله تعالى: * (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم) * (الصافات: 62) ولا خير فيها ولما قال أبو سفيان: اعل أحدا واعل هبل قال النبي: " الله أعلى وأجل " ولا مقاربة بين الله وبين الصنم.
المسألة الثانية: روي عن عبد الملك بن مروان والحسن وعيسى بن عمر أنهم قرؤا * (هن أطهر لكم) * بالنصب على الحال كما ذكرنا في قوله تعالى: * (وهذا بعلي شيخا) * (هود: 72) إلا أن أكثر النحويين اتفقوا على أنه خطأ قالوا لو قرىء * (هؤلاء بناتي هن أطهر) * كان هذا نظير قوله: * (وهذا بعلي شيخا) * إلا أن كلمة " هن " قد وقعت في البين وذلك يمنع من جعل أطهر حالا وطولوا فيه، ثم قال: * (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو ونافع ولا تخزوني بإثبات الياء على الأصل، والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليه.
المسألة الثانية: في لفظ * (لا تخزوني) * وجهان: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تفضحوني في أضيافي، يريد أنهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة. والثاني: لا تخزوني في ضيفي أي لا تخجلوني فيهم، لأن مضيف الضيف يلزمه الخجالة من كل فعل قبيح يوصل إلى الضيف يقال: خزي الرجل إذا استحيا.
33

المسألة الثالثة: الضيف ههنا قائم مقام الأضياف، كما قام الطفل مقام الأطفال. في قوله تعالى: * (أو الطفل الذين لم يظهروا) * (النور: 31) ويجوز أن يكون الضيف مصدرا فيستغنى عن جمعه كما يقال: رجال صوم. ثم قال: * (أليس منكم رجل رشيد) * وفيه قولان: الأول: * (رشيد) * بمعنى مرشد أي يقول الحق ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي. والثاني: رشيد بمعنى مرشد، والمعنى: أليس فيكم رجل أرشده الله تعالى إلى الصلاح. وأسعده بالسداد والرشاد حتى يمنع عن هذا العمل القبيح، والأول أولى.
ثم قال تعالى: * (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) * وفيه وجوه: الأول: مالنا في بناتك من حاجة ولا شهوة، والتقدير أن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق، فلهذا السبب جعل نفي الحق كناية عن نفي الحاجة. الثاني: أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول: معناه إنهن لسن لنا بأزواج ولا حق لنا فيهن البتة. ولا يميل أيضا طبعنا إليهن فكيف قيامهن مقام العمل الذي نريده وهو إشارة إلى العمل الخبيث. الثالث: * (ما لنا في بناتك من حق) * لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نجيبك إلى ذلك فلا يكون لنا فيهن حق. ثم إنه تعالى حكى عن لوط أنه عند سماع هذا الكلام قال: * (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: جواب " لو " محذوف لدلالة الكلام عليه والتقدير: لمنعتكم ولبالغت في دفعكم ونظيره قوله تعالى: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) * (الرعد: 31) وقوله: * (ولو ترى إذ وقفوا على النار) * (الأنعام: 27) قال الواحدي وحذف الجواب ههنا لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من المنع والدفع.
المسألة الثانية: * (لو أن بكم قوة) * أي لو أن لي ما أتقوى به عليكم وتسمية موجب القوة بالقوة جائز قال الله تعالى: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) * (الأنفال: 60) والمراد السلاح، وقال آخرون القدرة على دفعهم، وقوله: * (أو آوى إلى ركن شديد) * المراد منه الموضع الحصين المنيع تشبيها له بالركن الشديد من الجبل،
فإن قيل: ما الوجه ههنا في عطف الفعل على الاسم؟
قلنا: قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (أو آوى) * بالنصب بإضمار أن، كأنه قيل لو أن لي بكم قوة أو آويا.
واعلم أن قوله: * (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) * لا بد من حمل كل واحد من هذين الكلامين على فائدة مستقلة، وفيه وجوه: الأول: المراد بقوله: *
(لو أن لي بكم قوة) * كونه بنفسه قادرا على الدفع وكونه متمكنا إما بنفسه وإما بمعاونة غيره على قهرهم وتأديبهم، والمراد بقوله:
34

* (أو آوى إلى ركن شديد) * هو أن لا يكون له قدرة على الدفع لكنه يقدر على التحصن بحصن ليأمن من شرهم بواسطته. الثالث: أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمنى حصول قوة قوية على الدفع، ثم استدرك على نفسه وقال: بلى الأولى أن آوى إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله تعالى، وعلى هذا التقدير فقوله: * (أو آوي إلى ركن شديد) * كلام منفصل عما قبله ولا تعلق له به، وبهذا الطريق لا يلزم عطف الفعل على الاسم، ولذلك قال النبي عليه السلام: " رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد ".
قوله تعالى
* (قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من اليل ولا يلتفت منكم أحد إلا مرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) *.
اعلم أن قوله تعالى مخبرا عن لوط عليه السلام أنه قال: * (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) * (هود: 80) يدل على أنه كان في غاية القلق والحزن بسبب إقدام أولئك الأوباش على ما يوجب الفضيحة في حق أضيافه، فلما رأت الملائكة تلك الحالة بشروه بأنواع من البشارات: أحدها: أنهم رسل الله. وثانيها: أن الكفار لا يصلون إلى ما هموا به. وثالثها: أنه تعالى يهلكهم. ورابعها: أنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب. وخامسها: إن ركنك شديد وإن ناصرك هو الله تعالى فحصل له هذه البشارات، وروي أن جبريل عليه السلام قال له إن قومك لن يصلوا إليك فافتح الباب فدخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم، وذلك قوله تعالى: * (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم) * (القمر: 37) ومعنى قوله: * (لن يصلوا إليك) * أي بسوء ومكروه فإنا نحول بينهم وبين ذلك. ثم قال: * (فأسر بأهلك) * قرأ نافع وابن كثير * (فأسر) * موصولة والباقون بقطع الألف وهما لغتان، يقال سريت بالليل وأسريت وأنشد حسان: أسرت إليك ولم تكن تسري
35

فجاء باللغتين فمن قرأ بقطع الألف فحجته قوله سبحانه وتعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده) * (الإسراء: 1) ومن وصل فحجته قوله: * (والليل إذا يسر) * (الفجر: 4) والسري السير في الليل. يقال: سرى يسري إذا سار بالليل وأسرى بفلان إذا سير به بالليل، والقطع من الليل بعضه وهو مثل القطعة، يريد اخرجوا ليلا لتسبقوا نزول العذاب الذي موعده الصبح. قال نافع بن الأزرق لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أخبرني عن قول الله * (بقطع من الليل) * قال هو آخر الليل سحر، وقال قتادة: بعد طائفة من الليل، وقال آخرون هو نصف الليل فإنه في ذلك الوقت قطع بنصفين.
ثم قال: * (ولا يلتفت منكم أحد) * نهى من معه عن الالتفات والالتفات نظر الإنسان إلى ما وراءه، والظاهر أن المراد أنه كان لهم في البلدة أموال وأقمشة وأصدقاء، فالملائكة أمروهم بأن يخرجوا ويتركوا تلك الأشياء ولا يلتفتوا إليها البتة، وكان المراد منه قطع القلب عن تلك الأشياء وقد يراد منه الانصراف أيضا. كقوله تعالى: * (قالوا أجئتنا لتلفتنا) * (يونس: 78) أي لتصرفنا، وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله: * (ولا يلتفت منكم أحد) * النهي عن التخلف.
ثم قال: * (إلا امرأتك) * قرأ ابن كثير وأبو عمر * (إلا امرأتك) * بالرفع والباقون بالنصب. قال الواحدي: من نصب وهو الاختيار فقد جعلها مستثناة من الأهل على معنى فأسر بأهلك إلا امرأتك والذي يشهد بصحة هذه القراءة أن في قراءة عبد الله * (فأسر بأهلك إلا امرأتك) * فأسقط قوله: * (ولا يلتفت منكم أحد) * من هذا الموضع، وأما الذين رفعوا فالتقدير * (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) *.
فإن قيل: فهذه القراءة توجب أنها أمرت بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم أحد إلا زيد كان ذلك أمرا لزيد بالقيام.
وأجاب أبو بكر الأنباري عنه فقال: معنى * (إلا) * ههنا الاستثناء المنقطع على معنى، لا يلتفت منكم أحد، لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم، وإذا ان هذا الاستثناء منقطعا كان التفاتها معصية ويتأكد ما ذكرنا بما روي عن قتادة أنه قال إنها كانت مع لوط حين خرج من القرية فلما سمعت هذا العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأصابها حجر فأهلكها.
واعلم أن القراءة بالرفع أقوى، لأن القراءة بالنصب تمنع من خروجها مع أهله لكن على هذا التقدير الاستثناء يكون من الأهل كأنه أمر لوطا بأن يخرج بأهله ويترك هذه المرأة فإنها هالكة مع الهالكين وأما القراءة بالنصب فإنها أقوى من وجه آخر، وذلك لأن مع القراءة بالنصب يبقى الاستثناء متصلا
36

ومع القراءة بالرفع يصير الاستثناء منقطعا. ثم بين الله تعالى أنهم قالوا: إنه مصيبها ما أصابهم. والمراد أنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم. ثم قالوا: * (إن موعدهم الصبح) * روى أنهم لما قالوا لوط عليه السلام: * (إن موعدهم الصبح) * قال أريد أعجل من ذلك بل الساعة فقالوا: * (أليس الصبح بقريب) * قال المفسرون إن لوطا عليه السلام لما سمع هذا الكلام خرج بأهله في الليل.
قوله تعالى
* (فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هى من الظالمين ببعيد) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في الأمر وجهان: الأول: أن المراد من هذا الأمر ما هو ضد النهي ويدل عليه وجوه: الأول: أن لفظ الأمر حقيقة في هذا المعنى مجاز في غيره دفعا للاشتراك. الثاني: أن الأمر لا يمكن حمله ههنا على العذاب، وذلك لأنه تعالى قال: * (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها) * وهذا الجعل هو العذاب، فدلت
هذه الآية على أن هذا الأمر شرط والعذاب جزاء، والشرط غير الجزاء، فهذا الأمر غير العذاب، وكل من قال بذلك قال إنه هو الأمر الذي هو ضد النهي. والثالث: أنه تعالى قال: قبل هذه الآية * (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * (هود: 70) فدل هذا على أنهم كانوا مأمورين من عند الله تعالى بالذهاب إلى قوم لوط وبإيصال هذا العذاب إليهم.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى أمر جمعا من الملائكة بأن يخربوا تلك المدائن في وقت معين، فلما جاء ذلك الوقت أقدموا على ذلك العمل، فكان قوله: * (فلما جاء أمرنا) * إشارة إلى ذلك التكليف.
فإن قيل: لو كان الأمر كذلك، لوجب أن يقال: فلما جاء أمرنا جعلوا عاليها سافلها، لأن الفعل صدر عن ذلك المأمور.
قلنا: هذا لا يلزم على مذهبنا، لأن فعل العبد فعل الله تعالى عندنا. وأيضا أن الذي وقع منهم إنما وقع بأمر الله تعالى وبقدرته، فلم يبعد إضافته إلى الله عز وجل، لأن الفعل كما تحسن إضافته إلى المباشر، فقد تحسن أيضا إضافته إلى السبب.
37

القول الثاني: أن يكون المراد من الأمر ههنا قوله تعالى: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) وقد تقدم تفسير ذلك الأمر.
القول الثالث: أن يكون المراد من الأمر العذاب وعلى هذا التقدير فيحتاج إلى الإضمار، والمعنى: ولما جاء وقت عذابنا جعلنا عاليها سافلها.
المسألة الثانية: اعلم أن ذلك العذاب قد وصفه الله تعالى في هذه الآية بنوعين من الوصف فالأول: قوله: * (جعلنا عاليها سافلها) * روي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك، ولم تنكفئ لهم جرة ولم ينكب لهم إناء، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض.
واعلم أن هذا العمل كان معجزة قاهرة من وجهين: أحدهما: أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب من السماء فعل خارق للعادات. والثاني: أن ضربها من ذلك البعد البعيد على الأرض بحيث لم تتحرك سائر القرى المحيطة بها البتة، ولم تصل الآفة إلى لوط عليه السلام وأهله مع قرب مكانهم من ذلك الموضع معجزة قاهرة أيضا. الثاني: قوله: * (ومطرنا عليها حجارة من سجيل) * واختلفوا في السجيل على وجوه: الأول: أنه فارسي معرب وأصله سنككل وأنه شيء مركب من الحجر والطين بشرط أن يكون في غاية الصلابة، قال الأزهري: لما عربته العرب صار عربيا وقد عربت حروفا كثيرة كالديباج والديوان والاستبرق. والثاني: سجيل، أي مثل السجل وهو الدلو العظيم. والثالث: سجيل، أي شديد من الحجارة. الرابع: مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته وهو فعيل منه. الخامس: من أسجلته، أي أعطيته تقديره مثل العطية في الإدرار، وقيل: كان كتب عليها أسامي المعذبين. السادس: وهو من السجل وهو الكتاب تقديره من مكتوب في الأزل أي كتب الله أن يعذبهم بها، والسجيل أخذ من السجل وهو الدلو العظيمة لأنه يتضمن أحكاما كثيرة، وقيل: مأخوذ من المساجلة وهي المفاخرة. والسابع: من سجيل أي من جهنم أبدلت النون لاما، والثامن: من السماء الدنيا، وتسمى سجيلا عن أبي زيد، والتاسع: السجيل الطين، لقوله تعالى: * (حجارة من طين) * (الذاريات: 33) وهو قول عكرمة وقتادة. قال الحسن كان أصل الحجر هو من الطين، إلا أنه صلب بمرور الزمان، والعاشر: سجيل موضع الحجارة، وهي جبال مخصوصة، ومنه قوله تعالى: * (من جبال فيها من برد) * (النور: 43).
واعلم أنه تعالى وصف تلك الحجارة بصفات:
فالصفة الأولى: كونها من سجيل، وقد سبق ذكره.
38

الصفة الثانية: قوله تعالى: * (منضود) * قال الواحدي: هو مفعول من النضد، وهو موضع الشيء بعضه على بعض، وفيه وجوه: الأول: أن تلك الحجارة كان بعضها فوق بعض في النزول فأتى به على سبيل المبالغة. والثاني: أن كل حجر فإن ما فيه من الأجزاء منضود بعضها ببعض، وملتصق بعضها ببعض. والثالث: أنه تعالى كان قد خلقها في معادنها ونضد بعضها فوق بعض، وأعدها لإهلاك الظلمة.
واعلم أن قوله: * (منضود) * صفة للسجيل.
الصفة الثالثة: مسومة، وهذه الصفة صفة للأحجار ومعناها المعلمة، وقد مضى الكلام فيه في تفسير قوله: * (والخيل المسومة) * (آل عمران: 14) واختلفوا في كيفية تلك العلامة على وجوه: الأول: قال الحسن والسدي: كان عليها أمثال الخواتيم. الثاني: قال ابن صالح: رأيت منها عند أم هانئ حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. الثالث: قال ابن جريج: كان عليها سيما لا تشارك حجارة الأرض، وتدل على أنه تعالى إنما خلقها للعذاب. الرابع: قال الربيع: مكتوب على كل حجر اسم من رمى به.
ثم قال تعالى: * (عند ربك) * أي في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا هو.
ثم قال: * (وما هي من الظالمين ببعيد) * يعني به كفار مكة، والمقصود أنه تعالى يرميهم بها. عن أنس أنه قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن هذا فقال: يعني عن ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. وقيل: الضمير في قوله: * (وما هي) * للقرى. أي وما تلك القرى التي وقعت فيها هذه الواقعة من كفار مكة ببعيد، وذلك لأن القرى كانت في الشأم، وهي قريب من مكة.
قوله تعالى
* (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم عبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إنى أراكم بخير وإنى أخاف عليكم عذاب يوم محيط * ويا قوم أوفوا
المكيال والميزان
39

بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تعثوا فى الارض مفسدين * بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ) *.
اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة. واعلم أن مدين اسم ابن لإبراهيم عليه السلام، ثم صار اسما للقبيلة، وكثير من المفسرين يذهب إلى أن مدين اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم عليه السلام والمعنى على هذا التقدير: وأرسلنا إلى أهل مدين فحذف الأهل.
واعلم أنا بينا أن الأنبياء عليهم السلام يشرعون في أول الأمر بالدعوة إلى التوحيد، فلهذا قال شعيب عليه السلام: * (مالكم من إله غيره) * ثم إنهم بعد الدعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ثم الأهم، ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في المكيال والميزان، دعاهم إلى ترك هذه العادة فقال: * (ولا تنقصوا المكيال والميزان) * والنقص فيه على وجهين: أحدهما: أن يكون الإيفاء من قبلهم فينقصون من قدره. والآخر: أن يكون لهم الاستيفاء فيأخذون أزيد من الواجب وذلك يوجب نقصان حق الغير، وفي القسمين حصل النقصان في حق الغير. ثم قال: * (إني أراكم بخير) * وفيه وجهان: الأول: أنه حذرهم من غلاء السعر وزوال النعمة إن لم يتوبوا فكأنه قال: اتركوا هذا التطفيف وإلا أزال الله عنكم ما حصل عندكم من الخير والراحة. والثاني: أن يكون التقدير أنه تعالى أتاكم بالخير الكثير والمال والرخص والسعة فلا حاجة بكم إلى هذا التطفيف. ثم قال: * (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أخاف أي أعلم حصول عذاب يوم محيط وقال آخرون: بل المراد هو الخوف، لأنه يجوز أن يتركوا ذلك العمل خشية أن يحصل لهم العذاب ولما كان هذا التخويف قائما فالحاصل هو الظن لا العلم.
البحث الثاني: أنه تعالى توعدهم بعذاب يحيط بهم بحيث لا يخرج منه أحد، والمحيط من صفة اليوم في الظاهر، وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور كقوله: * (هذا يوم عصيب) * (هود: 77).
البحث الثالث: اختلفوا في المراد بهذا العذاب فقال بعضهم: هو عذاب يوم القيامة، لأنه اليوم الذي نصب لإحاطة العذاب بالمعذبين، وقال بعضهم: بل يدخل فيه عذاب الدنيا والآخرة
40

وقال بعضهم: بل المراد منه عذاب الاستئصال في الدنيا كما في حق سائر الأنبياء والأقرب دخول كل عذاب فيه وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدائرة بما في داخلها فينالهم من كل وجه وذلك مبالغة في الوعد كقوله: * (وأحيط بثمره) * (الكهف: 42) ثم قال: * (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط) *. فإن قيل: وقع التكرير في هذه الآية من ثلاثة أوجه لأنه قال أولا * (ولا تنقصوا المكيال والميزان) * ثم قال: * (أوفوا المكيال والميزان) * وهذا عين الأول. ثم قال: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) * وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرير؟
قلنا: إن فيه وجوها:
الوجه الأول: أن القوم كانوا مصرين على ذلك العمل فاحتج في المنع منه إلى المبالغة والتأكيد، والتكرير يفيد التأكيد وشدة العناية والاهتمام.
والوجه الثاني: أن قوله: * (ولا تنقصوا المكيال والميزان) * نهي عن التنقيص وقوله: * (أوفوا المكيال والميزان) * أمر بإيفاء العدل، والنهي عن ضد الشيء مغاير للأمر به، وليس لقائل أن يقول: النهي عن ضد الشيء أمر به، فكان التكرير لازما من هذا الوجه، لأنا نقول: الجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى جمع بين الأمر والشيء، وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقول: صل قرابتك ولا تقطعهم، فيدل هذا الجمع على غاية التأكيد. الثاني: أن نقول لا نسلم أن الأمر كما ذكرتم لأنه يجوز أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضا عن أصل المعاملة، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحق، ليدل ذلك على أنه تعالى لم يمنع عن المعاملات ولم ينه عن المبايعات، وإنما منع من التطفيف، وذلك لأن طائفة من الناس يقولون إن المبايعات لا تنفك عن التطفيف ومنع الحقوق فكانت المبايعات محرمة بالكلية، فلأجل إبطال هذا الخيال، منع تعالى في الآية الأولى من التطفيف وفي الآية الأخرى أمر بالإيفاء، وأما قوله ثالثا: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) * فليس بتكرير لأنه تعالى خص المنع في الآية السابقة بالنقصان في المكيال والميزان. ثم إنه تعالى عم الحكم في جميع الأشياء فظهر بهذا البيان أنها غير مكررة، بل في كل واحد منها فائدة زائدة.
والوجه الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى: * (ولا تنقصوا المكيال والميزان) * وفي الثانية قال: * (أوفوا المكيال والميزان) * والإيفاء عبارة عن الإتيان به على سبيل الكمال والتمام، لا يحصل ذلك إلا إذا أعطى قدرا زائدا على الحق، ولهذا المعنى قال الفقهاء: إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من أجزاء الرأس. فالحاصل: أنه تعالى في الآية الأولى نهى عن النقصان، وفي الآية الثانية أمر بإعطاء قدر من الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب
41

إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة فكأنه تعالى نهى أولا عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصا لتحصل له تلك الزيادة، وفي الثاني أمر بالسعي في تنقيص مال نفسه ليخرج باليقين عن العهدة وقوله: * (بالقسط) * يعني بالعدل ومعناه الأمر بإيفاء الحق بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة فالأمر بإيتاء الزيادة على ذلك غير حاصل. ثم قال: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) * والبخس هو النقص في كل الأشياء، وقد ذكرنا أن الآية الأولى دلت على المنع من النقص في المكيال والميزان، وهذه الآية دلت على المنع من النقص في كل الأشياء. ثم قال: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) *.
فإن قيل: العثو الفساد التام فقوله: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * جار مجرى أن يقال: ولا تفسدوا في الأرض مفسدين.
قلنا: فيه وجوه: الأول: أن من سعى في إيصال الضرر إلى الغير فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * معناه ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم. والثاني: أن يكون المراد من قوله: * (ولا تعثوا في الأرض
مفسدين) * مصالح دنياكم وآخرتكم. والثالث: ولا تعثوا في الأرض مفسدين مصالح الأديان. ثم قال: * (بقية الله خير لكم) * قرىء تقية الله وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي. ثم نقول المعنى: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف يعني المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق البخس والتطفيف وقال الحسن: بقية الله أي طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل، لأن ثواب الطاعة يبقى أبدا، وقال قتادة: حظكم من ربكم خير لكم، وأقول المراد من هذه البقية إما المال الذي يبقى عليه في الدنيا، وإما ثواب الله، وأما كونه تعالى راضيا عنه والكل خير من قدر التطفيف، أما المال الباقي فلأن الناس إذا عرفوا إنسانا بالصدق والأمانة والبعد عن الخيانة اعتمدوا عليه ورجعوا في كل المعاملات إليه فيفتح عليه باب الرزق، وإذا عرفوه بالخيانة والمكر انصرفوا عنه ولم يخالطوه البتة فتضيق أبواب الرزق عليه، وأما إن حملنا هذه البقية على الثواب فالأمر ظاهر، لأن كل الدنيا تفنى وتنقرض وثواب الله باق، وأما إن حملناه على حصول رضا الله تعالى فالأمر فيه ظاهر، فثبت بهذا البرهان أن بقية الله خير. ثم قال: * (إن كنتم مؤمنين) * وإنما شرط الإيمان في كونه خيرا لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب عرفوا أن السعي في تحصيل الثواب وفي الحذر من العقاب خير لهم من السعي في تحصيل ذلك القليل.
واعلم أن المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط، فهذه الآية تدل بظاهرها على أن من لم يحترز
42

عن هذا التطفيف فإنه لا يكون مؤمنا.
ثم قال تعالى: * (وما أنا عليكم بحفيظ) * وفيه وجهان: الأول: أن يكون المعنى: إني نصحتكم وأرشدتكم إلى الخير * (وما أنا عليكم بحفيظ) * أي لا قدرة لي على منعكم عن هذا العمل القبيح. الثاني: أنه قد أشار فيما تقدم إلى أن الاشتغال بالبخس والتطفيف يوجب زوال نعمة الله تعالى فقال: * (وما أنا عليكم بحفيظ) * يعني لو لم تتركوا هذا العمل القبيح لزالت نعم الله عنكم وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة.
قوله تعالى
* (قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل فى أموالنا ما نشؤا إنك لانت الحليم الرشيد) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (أصلاتك) * بغير واو. والباقون * (أصلواتك) * على الجمع.
المسألة الثانية: اعلم أن شعيبا عليه السلام أمرهم بشيئين، بالتوحيد وترك البخس فالقوم أنكروا عليه أمره بهذين النوعين من الطاعة، فقوله: * (أن نترك ما يعبد آباؤنا) * إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد وقوله: * (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) * إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس. أما الأول: فقد أشاروا فيه إلى التمسك بطريقة التقليد، لأنهم استبعدوا منه أن يأمرهم بترك عبادة ما كان يعبد آباؤهم يعني الطريقة التي أخذناها من آبائنا وأسلافنا كيف نتركها، وذلك تمسك بمحض التقليد.
المسألة الثالثة: في لفظ الصلاة وههنا قولان: الأول: المراد منه الدين والإيمان، لأن الصلاة أظهر شعار الدين فجعلوا ذكر الصلاة كناية عن الدين، أو نقول: الصلاة أصلها من الإتباع ومنه أخذ المصلي من الخيل الذي يتلو السابق لأن رأسه يكون على صلوى السابق وهما ناحيتا الفخذين والمراد: دينك يأمرك بذلك. والثاني: أن المراد منه هذه الأعمال المخصوصة، روي أن شعيبا كان كثير الصلاة وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم: أصلاتك تأمرك السخرية والهزؤ، وكما أنك إذا رأيت معتوها يطالع كتبا ثم يذكر كلاما فاسدا فيقال له: هذا من مطالعة تلك الكتب على سبيل الهزؤ والسخرية فكذا ههنا.
43

فإن قيل: تقدير الآية: أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وهم إنما ذكروا هذا الكلام على سبيل الإنكار، وهم ما كانوا ينكرون كونهم فاعلين في أموالهم ما يشاؤن، فكيف وجه التأويل.
قلنا: فيه وجهان: الأول: التقدير: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نترك فعل ما نشاء، وعلى هذا فقوله: * (أو أن نفعل) * معطوف على ما في قوله: * (ما يعبد آباؤنا) * والثاني: أن تجعل الصلاة آمرة وناهية والتقدير: أصلواتك تأمرك بأن نترك عبادة الأوثان وتنهاك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وقرأ ابن أبي عبلة * (أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء) * بتاء الخطاب فيهما وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس والاقتناع بالحلال القليل وأنه خير من الحرام الكثير.
ثم قال تعالى حكاية عنهم: * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * وفيه وجوه:
الوجه الأول: أن يكون المعنى إنك لأنت السفيه الجاهل إلا أنهم عكسوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية به، كما يقال للبخيل الخسيس لو رآك حاتم لسجد لك.
والوجه الثاني: أن يكون المراد إنك موصوف عند نفسك وعند قومك بالحلم والرشد.
والوجه الثالث: أنه عليه السلام كان مشهورا عندهم بأنه حليم رشيد، فلما أمرهم بمفارقة طريقتهم قالوا له: إنك لأنت الحليم الرشيد المعروف الطريقة في هذا الباب، فكيف تنهانا عن دين ألفيناه من آبائنا وأسلافنا، والمقصود استبعاد مثل هذا العمل ممن كان موصوفا بالحلم والرشد وهذا الوجه أصوب الوجوه.
قوله تعالى
* (قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقنى منه رزقا حسنا ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب * وياقوم لا يجرمنكم شقاقى أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما
44

قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى حكى عن شعيب عليه السلام ما ذكره في الجواب عن كلماتهم فالأول قوله: * (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا) * وفيه وجوه: الأول: أن قوله: * (إن كنت على بينة من ربي) * إشارة إلى ما آتاه الله تعالى من العلم والهداية والدين والنبوة وقوله: * (ورزقني منه رزقا حسنا) * إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال، فإنه يروى أن شعيبا عليه السلام كان كثير المال.
واعلم أن جواب إن الشرطية محذوف والتقدير: أنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية وهي البينة والسعادات الجسمانية وهي المال والرزق الحسن فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه وأن أخالفه في أمره ونهيه، وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم وذلك لأنهم قالوا له: * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * فكيف يليق بك مع حلمك ورشدك أن تنهانا عن دين آبائنا فكأنه قال إنما أقدمت على هذا العمل، لأن نعم الله تعالى عندي كثيرة وهو أمرني بهذا التبليغ والرسالة، فكيف يليق بي مع كثرة نعم الله تعالى على أن أخالف أمره وتكليفه. الثاني: أن يكون التقدير كأنه يقول لما ثبت عندي أن الاشتغال بعبادة غير الله والاشتغال بالبخس والتطفيف عمل منكر، ثم أنا رجل أريد إصلاح أحوالكم ولا أحتاج إلى أموالكم لأجل أن الله تعالى آتاني رزقا حسنا فهل يسعني مع هذه الأحوال أن أخون في وحي الله تعالى وفي حكمه. الثالث: قوله: * (إن كنت على بينة من ربي) * أي ما حصل عنده من المعجزة وقوله: * (ورزقني منه رزقا حسنا) * المراد أنه لا يسألهم أجرا ولا جعلا وهو الذي ذكره سائر الأنبياء من قولهم: * (لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على رب العالمين) *.
المسألة الثانية: قوله: * (ورزقني منه رزقا حسنا) * يدل على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته وأنه لا مدخل للكسب فيه، وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى والإذلال من الله تعالى، وإذا كان الكل من الله تعالى فأنا لا أبالي بمخالفتكم ولا أفرح بموافقتكم، وإنما أكون على تقرير دين الله تعالى وإيضاح شرائع الله تعالى.
45

وأما الوجه الثاني: من الأجوبة التي ذكرها شعيب عليه السلام فقوله: * (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) * قال صاحب " الكشاف ": يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه. فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذهب عنه صادرا، ومنه قوله: * (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) * يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم فهذا بيان اللغة، وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا بأنه حليم رشيد، وذلك يدل على كمال العقل، وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح، فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعلموا أن الذي اختاره عقلي لنفسي لا بد وأن يكون أصوب الطرق وأصلحها والدعوة إلى توحيد الله تعالى وترك البخس والنقصان يرجع حاصلهما إلى جزأين، التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى وأنا مواظب عليهما غير تارك لهما في شيء من الأحوال البتة فلما اعترفتم لي بالحلم والرشد وترون أني لا أترك هذه الطريقة، فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق، وأشرف الأديان والشرائع.
وأما الوجه الثالث: من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله: * (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) * والمعنى ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي، وقوله: * (ما استطعت) * فيه وجوه: الأول: أنه ظرف والتقدير: مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكنا منه لا آلو فيه جهدا. والثاني: أنه بدل من الإصلاح، أي المقدار الذي استطعت منه. والثالث: أن يكون مفعولا له أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أن القوم كانوا قد أقروا بأنه حليم رشيد، وإما أقروا له بذلك لأنه كان مشهورا فيما بين الخلق بهذه الصفة، فكأنه عليه السلام قال لهم إنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الفساد والخصومة، فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس، فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة وإثارة الفتنة، فإنكم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ولا أدور إلا على ما يوجب الصلح والصلاح بقدر طاقتي، وذلك هو الإبلاغ والإنذار، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله: * (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) * وبين بهذا أن توكله واعتماده في تنفيذ كل الأعمال الصالحة على توفيق الله تعالى وهدايته.
واعلم أن قوله عليه السلام توكلت إشارة إلى محض التوحيد، لأن قوله عليه السلام توكلت يفيد
46

الحصر، وهو أنه لا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى وكيف وكل ما سوى الحق سبحانه ممكن لذاته فإن بذاته، ولا يحصل إلا بإيجاده وتكوينه، وإذا كان كذلك لم يجز التوكل إلا على الله تعالى وأعظم مراتب معرفة المبدأ هو الذي ذكرناه، وأما قوله: * (وإليه أنيب) * فهو إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضا يفيد الحصر لأن قوله: * (وإليه أنيب) * يدل على أنه لا مرجع للخلق إلا إلى الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيب عليه السلام قال: " ذاك خطيب الأنبياء " لحسن مراجعته في كلامه بين قومه.
وأما الوجه الرابع: من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله: * (ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم) * قال صاحب " الكشاف ": جرم مثل كسب في تعديته تارة إلى مفعول واحد وأخرى إلى مفعولين يقال جرم ذنبا وكسبه وجرمه ذنبا وكسبه إياه، ومنه قوله تعالى: * (لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم) * أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب، وقرأ ابن كثير * (يجرمنكم) * بضم الياء من أجرمته ذنبا إذا جعلته جارما له أي كاسبا له. وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، وعلى هذا فلا فرق بين جرمته ذنبا وأجرمته إياه، والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما إلا أن المشهورة أفصح لفظا كما أن كسبه مالا أفصح من أكسبه.
إذا عرفت هذا فنقول: المراد من الآية لا تكسبنكم معاداتكم إياي أي يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا مثل ما حصل لقوم نوح عليه السلام من الغرق، ولقوم عود من الريح العقيم ولقوم صالح من الرجفة، ولقوم لوط من الخسف.
وأما قوله: * (وما قوم لوط منكم ببعيد) * ففيه وجهان: الأول: أن المراد نفي البعد في المكان لأن بلاد قوم لوط عليه السلام قريبة من مدين، والثاني: أن المراد نفي البعد في الزمان لأن إهلاك قوم لوط عليه السلام أقرب الإهلاكات التي عرفها الناس في زمان شعيب عليه السلام، وعلى هذين التقديرين فإن القرب في المكان وفي الزمان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال فكأنه يقول اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله تعالى ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب.
فإن قيل: لم قال: * (وما قوم لوط منكم ببعيد) * وكان الواجب أن يقال ببعيدين؟
أجاب عنه صاحب " الكشاف " من وجهين: الأول: أن يكون التقدير ما إهلاكهم شيء بعيد. الثاني: أنه يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وكثير وقليل بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما.
47

وأما الوجه الخامس: من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله: واستغفروا ربكم من عبادة الأوثان ثم توبوا إليه عن البخس والنقصان إن ربي رحيم بأوليائه ودود. قال أبو بكر الأنباري: الودود في أسماء الله تعالى المحب لعباده، من قولهم وددت الرجل أوده، وقال الأزهري في " كتاب شرح أسماء الله تعالى " ويجوز أن يكون ودود فعولا بمعنى مفعول كركوب وحلوب، ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق.
واعلم أن هذا الترتيب الذي راعاه شعيب عليه السلام في ذكر هذه الوجوه الخمسة ترتيب لطيف وذلك لأنه بين أولا أن ظهور البينة له وكثرة إنعام الله تعالى عليه في الظاهر والباطن يمنعه عن الخيانة في وحي الله تعالى ويصده عن التهاون في تكاليفه. ثم بين ثانيا أنه مواظب على العمل بهذه الدعوة ولو كانت باطلة لما اشتغل هو بها مع اعترافكم بكونه حليما رشيدا، ثم بين صحته بطريق آخر وهو أنه كان معروفا بتحصيل موجبات الصلاح وإخفاء موجبات الفتن، فلو كانت هذه الدعوة باطلة لما اشتغل بها، ثم لما بين صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال لا ينبغي أن تحملكم عداوتي على مذهب ودين تقعون بسببه في العذاب الشديد من الله تعالى، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين، ثم إنه لما صحح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولا وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله: * (ثم توبوا إليه) * ثم بين لهم أن سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطاعة لأنه تعالى رحيم ودود يقبل الإيمان والتوبة من الكافر والفاسق لأن رحمته وحبه لهم يوجب ذلك، وهذا التقرير في غاية الكمال.
قوله تعالى
* (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ومآ أنت علينا بعزيز) *.
اعلم أنه عليه السلام لما بالغ في التقرير والبيان، أجابوه بكلمات فاسدة. فالأول: قولهم: * (يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: أنه عليه السلام كان يخاطبهم بلسانهم، فلم قالوا: * (ما نفقه) * والعلماء ذكروا عنه أنواعا من الجوابات: فالأول: أن المراد: ما نفهم كثيرا مما تقول، لأنهم
48

كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدة نفرتهم عن كلامه وهو كقوله: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * (الأنعام: 25) الثاني: أنهم فهموه بقلوبهم ولكنهم ما أقاموا له وزنا، فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذ لم يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول. الثالث: أن هذه الدلائل التي ذكرها ما أقنعتهم في صحة التوحيد والنبوة والبعث، وما يجب من ترك الظلم والسرقة، فقولهم: * (ما نفقه) * أي لم نعرف صحة الدلائل التي ذكرتها على صحة هذه المطالب.
المسألة الثانية: من الناس من قال: الفقه اسم لعلم مخصوص، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه واحتجوا بهذه الآية وهي قوله: * (ما نفقه كثيرا مما تقول) * فأضاف الفقه إلى القول ثم صار اسما لنوع معين من علوم الدين، ومنهم من قال: إنه اسم لمطلق الفهم. يقال: أوتي فلان فقها في الدين، أي فهما. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " أي يفهمه تأويله.
والنوع الثاني: من الأشياء التي ذكروها قولهم: * (وإنا لنراك فينا ضعيفا) * وفيه وجهان: الأول: أنه الضعيف الذي يتعذر عليه منع القوم عن نفسه، والثاني: أن الضعيف هو الأعمى بلغة حمير. واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه: الأول: أنه ترك للظاهر من غير دليل، والثاني: أن قوله: * (فينا) * يبطل هذا الوجه؛ ألا ترى أنه لو قال: إنا لنراك أعمى فينا كان فاسدا، لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم، الثالث: أنهم قالوا بعد ذلك * (ولولا رهطك لرجمناك) * فنفوا عنه القوة التي أثبتوها في رهطه، ولما كان المراد بالقوة التي أثبتوها للرهط هي النصرة، وجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النصرة، والذين حملوا اللفظ على ضعف البصر لعلهم إنما حملوه عليه، لأنه سبب للضعف. واعلم أن أصحابنا يحوزون العمى على الأنبياء، إلا أن هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى لما بيناه. وأما المعتزلة فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال: إنه لا يجوز لكونه متعبدا فإنه لا يمكنه الاحتراز عن النجاسات، ولأنه ينحل بجواز كونه حاكما وشاهدا، فلأن يمنع من النبوة كان أولى، والكلام فيه لا يليق بهذه الآية، لأنا بينا أن الآية لا دلالة فيها على هذا المعنى.
والنوع الثالث: من الأشياء التي ذكروها قولهم: * (ولولا رهطك لرجمناك) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": الرهط من الثلاثة إلى العشرة، وقيل إلى السبعة، وقد كان رهطه على ملتهم. قالوا لولا حرمة رهطك عندنا بسبب كونهم على ملتنا لرجمناك، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا أنه لا حرمة له عندهم، ولا وقع له في صدورهم، وأنهم إنما لم يقتلوه
49

لأجل احترامهم رهطه.
المسألة الثانية: الرجم في اللغة عبارة عن الرمي، وذلك قد يكون بالحجارة عند قصد القتل، ولما كان هذا الرجم سببا للقتل لا جرم سموا القتل رجما، وقد يكون بالقول
الذي هو القذف، كقوله: * (رجما بالغيب) * (الكهف: 22) وقوله: * (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد) * (سبأ: 53) وقد يكون بالشتم واللعن، ومنه قوله: * (الشيطان الرجيم) * (النحل: 98) وقد يكون بالطرد كقوله: * (رجوما للشياطين) * (الملك: 5).
إذا عرفت هذا ففي الآية وجهان: الأول: * (لرجمناك) * لقتلناك. الثاني: لشتمناك وطردناك.
النوع الرابع: من الأشياء التي ذكروها قولهم: * (وما أنت علينا بعزيز) * ومعناه أنك لما لم تكن علينا عزيزا سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك.
واعلم أن كل هذه الوجوه التي ذكروها ليست دافعا لما قرره شعيب عليه السلام من الدلائل والبينات، بل هي جارية مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة.
قوله تعالى
* (قال ياقوم أرهطى أعز عليكم من الله واتخذتموه ورآءكم ظهريا إن ربى بما تعملون محيط * وياقوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إنى معكم رقيب) *.
اعلم أن الكفار لما خوفوا شعيبا عليه السلام بالقتل والإيذاء، حكى الله تعالى عنه ما ذكره في هذا المقام، وهو نوعان من الكلام:
النوع الأول: قوله: * (يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط) * والمعنى: أن القوم زعموا أنهم تركوا إيذاءه رعاية لجانب قومه. فقال: أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراما لرهطي، والله تعالى أولى أن يتبع أمره، فكأنه يقول: حفظتكم
50

إياي رعاية لأمر الله تعالى أولى من حفظكم إياي رعاية لحق رهطي.
وأما قوله: * (واتخذتموه وراءكم ظهريا) * فالمعنى: أنكم نسيتموه وجعلتموه كالشئ المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به. قال صاحب " الكشاف ": والظهري منسوب إلى الظهر، والكسر من تغيرات النسب ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس إمسي بكسر الهمزة، وقوله: * (إن ربي بما تعملون محيط) * يعني أنه عالم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.
والنوع الثاني: قوله: * (ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل) * والمكانة الحالة يتمكن بها صاحبها من عمله، والمعنى اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إلي فإني أيضا عامل بقدر ما آتاني الله تعالى من القدرة.
ثم قال: * (سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول لم لم يقل * (فسوف تعلمون) * والجواب: إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، وإما بحذف الفاء فإنه يجعله جوابا عن سؤال مقدر والتقدير: أنه لما قال: * (ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل) * فكأنهم قالوا فماذا يكون بعد ذلك؟ فقال: * (سوف تعلمون) * فظهر أن حذف حرف الفاء ههنا أكمل في باب الفظاعة والتهويل. ثم قال * (وارتقبوا إني معكم رقيب) * والمعنى: فانتظروا العاقبة إني معكم رقيب أي منتظر، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم، أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.
قوله تعالى
* (ولما جآء أمرنا نجينا شعيبا والذين ءامنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيهآ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) *.
روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم
51

وقوله: * (ولما جاء أمرنا) * يحتمل أن يكون المراد منه ولما جاء وقت أمرنا ملكا من الملائكة بتلك الصيحة، ويحتمل أن يكون المراد من الأمر العقاب، وعلى التقديرين فأخبر الله أنه نجى شعيبا ومن معه من المؤمنين برحمة منه وفيه وجهان: الأول: أنه تعالى إنما خلصه من ذلك العذاب لمحض رحمته، تنبيها على أن كل ما يصل إلى العبد فليس إلا بفضل الله ورحمته. والثاني: أن يكون المراد من الرحمة الإيمان والطاعة وسائر الأعمال الصالحة وهي أيضا ما حصلت إلا بتوفيق الله تعالى، ثم وصف كيفية ذلك العذاب فقال: * (وأخذت الذين ظلموا الصيحة) * وإنما ذكر الصيحة بالألف واللام إشارة إلى المعهود السابق وهي صيحة جبريل عليه السلام * (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) * والجاثم الملازم لمكانه الذي لا يتحول عنه يعني أن جبريل عليه السلام لما صاح بهم تلك الصيحة زهق روح كل واحد منهم بحيث يقع في مكانه ميتا * (كأن لم يغنوا فيها) * أي كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين.
ثم قال تعالى: * (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) *.
* (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون ومآ أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا فى هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) *.
واعلم أن هذه هي القصة السابعة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر القصص من هذه السورة، أما قوله: * (بآياتنا وسلطان مبين) * ففيه وجوه: الأول: أن المراد من الآيات التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام، ومن السلطان المبين المعجزات القاهرة الباهرة
52

والتقدير: ولقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف وأيدناه بمعجزات قاهرة وبينات باهرة الثاني: أن الآيات هي المعجزات والبينات وهو كقوله: * (إن عندكم من
سلطان بهذا) * (يونس: 68) وقوله: * (ما أنزل الله بها من سلطان) * (النجم: 23) وعلى هذا التقدير ففي الآية وجهان: الأول: أن هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته. الثاني: أن يراد السلطان المبين العصا، لأنه أشهرها وذلك لأنه تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات، وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الثمرات والأنفس. ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبل وفلق البحر، واختلفوا في أن الحجة لم سميت بالسلطان. فقال بعض المحققين: لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة معه عند النظر كما يقهر السلطان غيره، فلهذا توصف الحجة بأنها سلطان، وقال الزجاج: السلطان هو الحجة والسلطان سمي سلطانا لأنه حجة الله في أرضه واشتقاقه من السليط والسليط ما يضاء به ومن هذا قيل للزيت السليط وفيه قول ثالث: وهو أن السلطان مشتق من التسليط، والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوة العلمية والملوك سلاطين بسبب ما معهم من القدرة والمكنة، إلا أن سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك، لأن سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما ولأن سلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة.
فإن قيل: إذا حملتم الآيات المذكورة في قوله: * (بآياتنا) * على المعجزات والسلطان أيضا على الدلائل والمبين أيضا معناه كونه سببا للظهور فما الفرق بين هذه المراتب الثلاثة؟
قلنا: الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظن، وبين الدلائل التي تفيد اليقين وأما السلطان فهو اسم لما يفيد القطع واليقين، إلا أنه اسم للقدر المشترك بين الدلائل التي تؤكد بالحس، وبين الدلائل التي لم تتأكد بالحس، وأما الدليل القاطع الذي تأكد بالحس فهو السلطان المبين، ولما كانت معجزات موسى عليه السلام هكذا لا جرم وصفها الله بأنها سلطان مبين. ثم قال: * (إلى فرعون وملائه) * يعني وأرسلنا موسى بآياتنا بمثل هذه الآيات إلى فرعون وملائه، أي جماعته. ثم قال: * (فاتبعوا أمر فرعون) * ويحتمل أن يكون المراد أمره إياهم بالكفر بموسى ومعجزاته ويحتمل أن يكون المراد من الأمر الطريق والشأن.
ثم قال تعالى: * (وما أمر فرعون برشيد) * أي بمرشد إلى خير، وقيل رشيد أي ذي رشد.
واعلم أن بعد طريق فرعون من الرشد كان ظاهرا لأنه كان دهريا نافيا للصانع والمعاد وكان يقول: لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية
53

لمصلحة العالم وأنكر أن يكون الرشد في عبادة الله ومعرفته فلما كان هو نافيا لهذين الأمرين كان خاليا عن الرشد بالكلية، ثم إنه تعالى ذكر صفته وصفة قومه فقال: * (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) * وفيه بحثان:
البحث الأول: من حيث اللغة يقال: قدم فلان فلانا بمعنى تقدمه، ومنه قادمة الرجل كما يقال قدمه بمعنى تقدمه، ومنه مقدمة الجيش.
والبحث الثاني: من حيث المعنى وهو أن فرعون كان قدوة لقومه في الضلال حال ما كانوا في الدنيا وكذلك مقدمهم إلى النار وهم يتبعونه، أو يقال كما تقدم قومه في الدنيا فأدخلهم في البحر وأغرقهم فكذلك يتقدمهم يوم القيامة فيدخلهم النار ويحرقهم، ويجوز أيضا أن يريد بقوله: * (وما أمر فرعون برشيد) * أي وما أمره بصالح حميد العاقبة ويكون قوله: * (يقدم قومه) * تفسيرا لذلك، وإيضاحا له، أي كيف يكون أمره رشيدا مع أن عاقبته هكذا.
فإن قيل: لم لم يقل: يقدم قومه فيوردهم النار؟ بل قال: يقدم قومه فأوردهم النار بلفظ الماضي.
قلنا: لأن الماضي قد وقع ودخل في الوجود فلا سبيل البتة إلى دفعه، فإذا عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل على غاية المبالغة، ثم قال: * (وبئس الورد المورود) * وفيه بحثان:
البحث الأول: لفظ " النار " مؤنث، فكان ينبغي أن يقال: وبئست الورد المورود إلا أن لفظ " الورد " مذكر، فكان التذكير والتأنيث جائزين كما تقول: نعم المنزل دارك، ونعمت المنزل دارك، فمن ذكر غلب المنزل ومن أنث بنى على تأنيث الدار هكذا قاله الواحدي.
البحث الثاني: الورد قد يكون بمعنى الورود فيكون مصدرا وقد يكون بمعنى الوارد. قال تعالى: * (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * (مريم: 86) وقد يكون بمعنى المورود عليه كالماء الذي يورد عليه. قال صاحب " الكشاف ": الورد المورود الذي حصل وروده. فشبه الله تعالى فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء وشبه أتباعه بالواردين إلى الماء، ثم قال بئس الورد الذي يوردونه النار، لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنار ضده.
ثم قال: * (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) * والمعنى أنهم أتبعوا في هذه الدنيا لعنة وفي يوم القيامة أيضا، ومعناه أن اللعن من الله ومن الملائكة والأنبياء ملتصق بهم في الدنيا وفي الآخرة لا يزول عنهم، ونظيره قوله في سورة القصص: * (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) * (القصص: 42).
54

ثم قال: * (بئس الرفد المرفود) * والرفد هو العطية وأصله الذي يعين على المطلوب سأل نافع بن الأزرق ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله: * (بئس الرفد المرفود) * قال هو اللعنة بعد اللعنة. قال قتادة: ترادفت عليهم لعنتان من الله تعالى لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة وكل شيء جعلته عونا لشيء فقد رفدته به.
قوله تعالى
* (ذلك من أنبآء القرى نقصه عليك منها قآئم وحصيد * وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم ءالهتهم التى يدعون من دون الله من شىء لما جآء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر قصص الأولين قال: * (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك) * والفائدة في ذكرها أمور: أولها: أن الانتفاع بالدليل العقلي المحض إنما يحصل
للإنسان الكامل، وذلك إنما يكون في غاية الندرة. فأما إذا ذكرت الدلائل ثم أكدت بأقاصيص الأولين صار ذكر هذه الأقاصيص كالموصل لتلك الدلائل العقلية إلى العقول.
الوجه الثاني: أنه تعالى خلط بهذه الأقاصيص أنواع الدلائل التي كان الأنبياء عليهم السلام يتمسكون بها ويذكر مدافعات الكفار لتلك الدلائل وشبهاتهم في دفعها، ثم يذكر عقيبهما أجوبة الأنبياء عنها ثم يذكر عقيبها أنهم لما أصروا واستكبروا وقعوا في عذاب الدنيا وبقي عليهم اللعن والعقاب في الدنيا وفي الآخرة، فكان ذكر هذه القصص سببا لإيصال الدلائل والجوابات عن الشبهات إلى قلوب المنكرين، وسببا لإزالة القسوة والغلظة عن قلوبهم، فثبت أن أحسن الطرق في الدعوة إلى الله تعالى ما ذكرناه.
الفائدة الثالثة: أنه عليه السلام كان يذكر هذه القصص من غير مطالعة كتب، ولا تلمذ لأحد وذلك معجزة عظيمة تدل على النبوة كما قررناه.
الفائدة الرابعة: إن الذين يسمعون هذه القصص يتقرر عندهم أن عاقبة الصديق والزنديق والموافق والمنافق إلى ترك الدنيا والخروج عنها، إلا أن المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، والكافر يخرج من الدنيا مع اللعن في الدنيا
55

والعقاب في الآخرة، فإذا تكررت هذه الأقاصيص على السمع، فلا بد وأن يلين القلب وتخضع النفس وتزول العداوة ويحصل في القلب خوف يحمله على النظر والاستدلال، فهذا كلام جليل في فوائد ذكر هذه القصص.
أما قوله: * (ذلك من أنباء القرى) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: أو قوله: * (ذلك) * إشارة إلى الغائب، والمراد منه ههنا الإشارة إلى هذه القصص التي تقدمت، وهي حاضرة، إلا أن الجواب عنه ما تقدم في قوله: * (ذلك الكتاب لا ريب فيه) * (البقرة: 2).
البحث الثاني: أن لفظ " ذلك " يشار به إلى الواحد والاثنين والجماعة لقوله تعالى: * (لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) * (البقرة: 68) وأيضا يحتمل أن يكون المراد ذلك الذي ذكرناه هو كذا وكذا.
البحث الثالث: قال صاحب " الكشاف ": " ذلك " مبتدأ * (من أنباء القرى) * خبر * (نقصه عليك) * خبر بعد خبر أي ذلك المذكور بعض أنبار القرى مقصوص عليك. ثم قال: * (منها قائم وحصيد) * والضمير في قوله: * (منها) * يعود إلى القرى شبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه وما عفا منها وبطر بالحصيد، والمعنى أن تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر البتة.
ثم قال تعالى: * (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) * وفيه وجوه: الأول: وما ظلمناهم بالعذاب والإهلاك، ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية. الثاني: أن الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله بل هو عدل وحكمة، لأجل أن القوم أولا ظلموا أنفسهم بسبب إقدامهم على الكفر والمعاصي فاستوجبوا لأجل تلك الأعمال من الله ذلك العذاب. الثالث: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد وما نقصناهم من النعيم في الدنيا والرزق، ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله تعالى.
ثم قال: * (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء) * أي ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء البتة.
ثم قال: * (وما زادوهم غير تتبيب) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: غير تخسير. يقال: تب إذا خسر وتببه غيره إذا أوقعه في الخسران، والمعنى أن الكفار كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين على تحصيل المنافع ودفع المضار ثم إنه تعالى أخبر أنهم عند مساس الحاجة إلى المعين ما وجدوا منها شيئا لا جلب نفع ولا دفع ضر، ثم كما لم يجدوا ذلك فقد وجدوا ضده، وهو أن ذلك
56

الاعتقاد زال عنهم به منافع الدنيا والآخرة وجلب إليهم مضار الدنيا والآخرة، فكان ذلك من أعظم موجبات الخسران.
قوله تعالى
* (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد * إن فى ذلك لآية لمن خاف عذاب الاخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لاجل معدود) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم والجحدري: * (إذ أخذ القرى) * بألف واحدة، وقرأ الباقون بألفين.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى لما أخبر الرسول عليه السلام في كتابه بما فعل بأمم من تقدم من الأنبياء لما خالفوا الرسل وردوا عليهم من عذاب الاستئصال، وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا قال بعده: * (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة) * فبين أن عذابه ليس بمقتصر على من تقدم، بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك وقوله: * (وهي ظالمة) * الضمير فيه عائد إلى القرى وهو في الحقيقة عائد إلى أهلها، ونظيره قوله: * (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) * (الأنبياء: 11) وقوله: * (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) * (القصص: 58).
واعلم أنه تعالى لما بين كيفية أخذ الأمم المتقدمة ثم بين أنه إنما يأخذ جميع الظالمين على ذلك الوجه أتبعه بما يزيده تأكيدا وتقوية فقال: * (إن أخذه أليم شديد) * فوصف ذلك العذاب بالإيلام وبالشدة، ولا منغصة في الدنيا إلا الألم، ولا تشديد في الدنيا وفي الآخرة، وفي الوهم والعقل إلا تشديد الألم.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن من أقدم على ظلم فإنه يجب عليه أن يتدارك ذلك بالتوبة والإنابة لئلا يقع في الأخذ الذي وصفه الله تعالى بأنه أليم شديد ولا ينبغي أن يظن أن هذه الأحكام
57

مختصة بأولئك المتقدمين، لأنه تعالى لما حكى أحوال المتقدمين قال: * (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة) * فبين أن كل من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي، فلا بد وأن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد.
ثم قال تعالى: * (إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة) * قال القفال: تقرير هذا الكلام أن يقال: إن هؤلاء إنما عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياء وإشراكهم بالله، فإذا عذبوا في الدنيا على ذلك وهي دار العمل، فلأن يعذبوا عليه في الآخرة التي هي دار الجزاء كان أولى.
واعلم أن كثيرا ممن تنبه لهذا البحث من المفسرين عولوا على هذا الوجه، بل هو ضعيف وذلك لأن على هذا الوجه الذي ذكره القفال يكون ظهور عذاب الاستئصال في الدنيا دليلا على أن القول بالقيامة والبعث والنشر حق وصدق، وظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال، لأن القفال يجعل العلم بعذاب الاستئصال أصلا للعلم بأن القيامة حق، فبطل ما ذكره القفال والأصوب عندي أن يقال: العلم بأن القيامة حق موقوف على العلم بأن المدبر لوجود هذه السماوات والأرضين فاعل مختار لا موجب بالذات وما لم يعرف الإنسان أن إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكنات وأن جميع الحوادث الواقعة في السماوات والأرضين لا تحصل إلا بتكوينه وقضائه، لا يمكنه أن يعتبر بعذاب الاستئصال، وذلك لأن الذين يزعمون أن المؤثر في وجود هذا العالم موجب بالذات لا فاعل مختار، يزعمون أن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء مثل الغرق والحرق والخسف والمسخ والصيحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب واتصال بعضها ببعض، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ لا يكون حصولها دليلا على صدق الأنبياء، فأما الذي يؤمن بالقيامة، فلا يتم ذلك الإيمان إلا إذا اعتقد أنه إله العالم فاعل مختار وأنه عالم بجميع الجزئيات، وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بأن حدوث هذه الحوادث الهائلة والوقائع العظيمة إنما كان بسبب أن إله العالم خلقها وأوجدها وأنها ليست بسبب طوالع الكواكب وقراناتها، وحينئذ ينتفع بسماع هذه القصص، ويستدل بها على صدق الأنبياء، فثبت بهذا صحة قوله: * (إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة) *.
ثم قال تعالى: * (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) *.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الآخرة وصف ذلك اليوم بوصفين: أحدهما: أنه يوم مجموع له الناس، والمعنى أن خلق الأولين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون. والثاني: أنه يوم مشهود قال ابن عباس رضي الله عنهما يشهده البر والفاجر. وقال آخرون يشهده أهل السماء
58

وأهل الأرض، والمراد من الشهود الحضور، والمقصود من ذكره أنه ربما وقع في قلب إنسان أنهم لما جمعوا في ذلك الوقت لم يعرف كل أحد إلا واقعة نفسه، فبين تعالى أن تلك الوقائع تصير معلومة للكل بسبب المحاسبة والمساءلة.
ثم قال تعالى: * (وما نؤخره إلا لأجل معدود) * والمعنى أن تأخير الآخرة وإفناء الدنيا موقوف على أجل معدود وكل ماله عدد فهو متناه وكل ما كان متناهيا فإنه لا بد وأن يفنى، فيلزم أن يقال إن تأخير الآخرة سينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم الله القيامة فيه، وأن تخرب الدنيا فيه، وكل ما هو آت قريب.
قوله تعالى
* (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد * فأما الذين شقوا ففى النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شآء ربك إن ربك فعال لما يريد * وأما الذين سعدوا ففى الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شآء ربك عطآء غير مجذوذ) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة * (يأت) * بحذف الياء والباقون بإثبات الياء. قال صاحب " الكشاف ": وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل، ونحوه قولهم لا أدر حكاه الخليل وسيبويه. المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": فاعل يأتي هو الله تعالى كقوله: * (هل
ينظرون
59

إلا أن يأتيهم الله) * (البقرة: 210) وقوله: * (أو يأتي ربك) * (الأنعام: 158) ويعضده قراءة من قرأ * (وما يؤخره) * بالياء أقول لا يعجبني هذا التأويل، لأن قوله: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * حكاه الله تعالى عن أقوام والظاهر أنهم هم اليهود، وذلك ليس فيه حجة وكذا قوله: * (أو يأتي ربك) * أما ههنا فهو صريح كلام الله تعالى وإسناد فعل الإتيان إليه مشكل.
فإن قالوا: فما قولك في قوله تعالى: * (وجاء ربك) *.
قلنا: هناك تأويلات، وأيضا فهو صريح، فلا يمكن دفعه فوجب الامتناع منه بل الواجب أن يقال: المراد منه يوم يأتي الشيء المهيب الهائل المستعظم، فحذف الله تعالى ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": العامل في انتصاب الظرف هو قوله: * (لا تكلم) * أو إضمار أذكر.
أما قوله: * (لا تكلم نفس إلا بإذنه) * ففيه حذف، والتقدير: لا تكلم نفس فيه إلا بإذن الله تعالى.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين سائر الآيات التي توهم كونها مناقضة لهذه الآية منها قوله تعالى: * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) * (النحل: 111) ومنها أنهم يكذبون ويحلفون بالله عليه وهو قولهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) ومنها قوله تعالى: * (وقفوهم إنهم مسؤلون) * (الصافات: 24) ومنها قوله: * (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذون لهم فيعتذرون) * (المرسلات: 35).
والجواب من وجهين: الأول: أنه حيث ورد المنع من الكلام فهو محمول على الجوابات الحقية الصحيحة. الثاني: أن ذلك اليوم يوم طويل وله مواقف، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم.
أما قوله: * (فمنهم شقي وسعيد) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": الضمير في قوله: * (فمنهم) * لأهل الموقف ولم يذكر لأنه معلوم ولأن قوله: * (لا تكلم نفس إلا بإذنه) * يدل عليه لأنه قد مر ذكر الناس في قوله: * (مجموع له الناس) * (هود: 103).
المسألة الثانية: قوله: * (فمنهم شقي وسعيد) * يدل ظاهره على أن أهل الموقف لا يخرجون عن هذين القسمين.
60

فإن قيل: أليس في الناس مجانين وأطفال وهم خارجون عن هذين القسمين؟
قلنا: المراد من يحشر ممن أطلق للحساب وهم لا يخرجون عن هذين القسمين.
فإن قيل: قد احتج القاضي بهذه الآية على فساد ما يقال إن أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النار فما قولكم فيه؟
قلنا: لما سلم أن الأطفال والمجانين خارجون عن هذين القسمين لأنهم لا يحاسبون فلم لا يجوز أيضا أن يقال: إن أصحاب الأعراف خارجون عنه لأنهم أيضا لا يحاسبون، لأن الله تعالى علم من حالهم أن ثوابهم يساوي عذابهم، فلا فائدة في حسابهم.
فإن قيل: القاضي استدل بهذه الآية أيضا على أن كل من حضر عرصة القيامة فإنه لا بد وأن يكون ثوابه زائدا أو يكون عقابه زائدا، فأما من كان ثوابه مساويا لعقابه فإنه وإن كان جائزا في العقل، إلا أن هذا النص دل على أنه غير موجود.
قلنا: الكلام فيه ما سبق من أن السعيد هو الذي يكون من أهل الثواب، والشقي هو الذي يكون من أهل العقاب، وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث، والدليل على ذلك: أن أكثر الآيات مشتملة على ذكر المؤمن والكافر فقط، وليس فيه ذكر ثالث لا يكون لا مؤمنا ولا كافرا مع أن القاضي أثبته، فإذا لم يلزم من عدم ذكر ذلك الثالث عدمه فكذلك لا يلزم من ذكر هذا الثالث عدمه.
المسألة الثالثة: اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بأنه شقي، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه، وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا وعلمه جاهلا وذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا وأن الشقي لا ينقلب سعيدا، وتقرير هذا الدليل مر في هذا الكتاب مرارا لا تحصى. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما نزل قوله تعالى: * (فمنهم شقي وسعيد) * قلت يا رسول الله فعلى ماذا نعمل على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: " على شيء قد فرغ منه يا عمر وجفت به الأقلام وجرت به الأقدار، ولكن كل ميسر لما خلق له " وقالت المعتزلة: نقل عن الحسن أنه قال: فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله.
قلنا: الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات وأيضا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا.
61

واعلم أنه تعالى لما قسم أهل القيامة إلى هذين القسمين شرح حال كل واحد منهما فقال: * (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في الفرق بين الزفير والشهيق وجوها:
الوجه الأول: قال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ولم يخرجه، والشهيق أن يخرج ذلك النفس، وقال الفراء: يقال للفرس إنه عظيم الزفرة أي عظيم البطن وأقول إن الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلب فإذا انحصر الروح قويت الحرارة وعظمت وعند ذلك يحتاج الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء كثيرا باردا حتى يقوى على ترويح تلك الحرارة، فلهذا السبب يعظم في ذلك الوقت استدخال الهواء في داخل البدن وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه، ولما كانت الحرارة الغريزية والروح الحيواني محصورا داخل القلب استولت البرودة على الأعضاء الخارجة فربما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهواء الكثير المستنشق فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصرا في الصدر ويقرب من أن يختنق الإنسان منه وحينئذ تجتهد الطبيعة في إخراج ذلك الهواء فعلى قياس قول الأطباء الزفير هو استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه، والشهيق هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطبيعة في إخراجه وكل واحدة من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم.
الوجه الثاني: في الفرق بين الزفير والشهيق. قال بعضهم: الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار بالنهيق. وأما الشهيق فهو بمنزلة آخر صوت الحمار.
الوجه الثالث: قال الحسن: قد ذكرنا أن الزفير عبارة عن الارتفاع. فنقول: الزفير لهيب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى درجات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من جهنم، وذلك قوله تعالى: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) * فارتفاعهم في النار هو الزفير وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق.
الوجه الرابع: قال أبو مسلم: الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس، والشهيق هوا لذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن، وربما تبعهما الغشية، وربما حصل عقيبه الموت.
الوجه الخامس: قال أبو العالية: الزفير في الحلق والشهيق في الصدر.
62

الوجه السادس: قال قوم: الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف.
الوجه السابع: قال ابن عباس رضي الله عنهما: * (لهم فيها زفير وشهيق) * يريد ندامة ونفسا عالية وبكاء لا ينقطع وحزنا لا يندفع.
الوجه الثامن: الزفير مشعر بالقوة، والشهيق بالضعف على ما قررناه بحسب اللغة.
إذا عرفت هذا فنقول: لم يبعد أن يكون المراد من الزفير قوة ميلهم إلى عالم الدنيا وإلى اللذات الجسدانية، والمراد من الشهيق ضعفهم عن الاستسعاد بعالم الروحانيات والاستكمال بالأنوار الإلهية والمعارج القدسية.
ثم قال تعالى: * (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نهاية، واحتجوا بالقرآن والمعقول. أما القرآن فآيات منها هذه الآية والاستدلال بها من وجهين: الأول: أنه تعالى قال: * (ما دامت السماوات والأرض) * دل هذا النص على أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السماوات والأرض، ثم توافقنا على أن مدة بقاء السماوات والأرض متناهية فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة. الثاني: أن قوله: * (إلا ما شاء ربك) * استثناء من مدة عقابهم وذلك يدل على زوال ذلك العذاب في وقت هذا الاستثناء ومما تمسكوا به أيضا قوله تعالى في سورة عم يتساءلون: * (لابثين فيها أحقابا) * (النبأ: 23) بين تعالى أن لبثهم في ذلك العذاب لا يكون إلا أحقابا معدودة.
وأما العقل فوجهان: الأول: أن معصية الكافر متناهية ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم وأنه لا يجوز. الثاني: أن ذلك العقاب ضرر خال عن النفع فيكون قبيحا بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يرجع إلى الله تعالى لكونه متعاليا عن النفع والضرر ولا إلى ذلك المعاقب لأنه في حقه ضرر محض ولا إلى غيره، لأن أهل الجنة مشغولون بلذاتهم فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعذاب الدائم في حق غيرهم، فثبت أن ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النفع فوجب أن لا يجوز، وأما الجمهور الأعظم من الأمة، فقد اتفقوا على أن عذاب الكافر دائم وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسك بهذه الآية. أما قوله: * (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) * فذكروا عنه جوابين: الأول: قالوا المراد سماوات الآخرة وأرضها. قالوا والدليل على أن في الآخرة سماء وأرضا قوله تعالى: * (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) * (إبراهيم: 48) وقوله: * (وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) * (الزمر: 74) وأيضا لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم، وذلك
63

هو الأرض والسماوات.
ولقائل أن يقول: التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوما مقررا فيشبه به غيره تأكيدا لثبوت الحكم في المشبه ووجود السماوات والأرض في الآخرة غير معلوم وبتقدير أن يكون وجوده معلوما إلا أن بقاءها على وجه لا يفنى البتة غير معلوم، فإذا كان أصل وجودهما مجهولا لأكثر الخلق ودوامهما أيضا مجهولا للأكثر، كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلاما عديم الفائدة، أقصى ما في الباب أن يقال: لما ثبت بالقرآن وجود سماوات وأرض في الآخرة وثبت دوامهما وجب الاعتراف به، وحينئذ يحسن التشبيه، إلا أنا نقول: لما كان الطريق في إثبات دوام سماوات أهل الآخرة ودوام أرضهم هو السمع، ثم السمع دل على دوام عقاب الكافر، فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع، وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع والتشبيه باطل، فكذا ههنا.
والوجه الثاني: في الجواب قالوا إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم ما دامت السماوات والأرض، ونظيره أيضا قولهم ما اختلف الليل والنهار، وما طما البحر، وما أقام الجبل، وأنه تعالى خاطب العرب على عرفهم في كلامهم فلما ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنها باقية أبد الآباد، علمنا أن هذه الألفاظ بحسب عرفهم تفيد الأبد والدوام الخالي عن الانقطاع.
ولقائل أن يقول: هل تسلمون أن قول القائل: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض، يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السماوات، أو تقولون إنه لا يدل على هذا المعنى، فإن كان الأول، فالإشكال لازم، لأن النص لما دل على أنه يجب أن تكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السماوات ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السماوات، ثم ثبت أنه لا بد من فناء السماوات فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب، وأما إن قلتم هذا الكلام لا يمنع بقاء كونهم في النار بعد فناء السماوات والأرض، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب البتة، فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع.
واعلم أن الجواب الحق عندي في هذا الباب شيء آخر، وهو أن المعهود من الآية أنه متى كانت السماوات والأرض دائمتين، كان كونهم في النار باقيا فهذا يقتضي أن كلما حصل الشرط حصل المشروط ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط: ألا ترى أنا نقول: إن كان هذا إنسانا فهو حيوان.
64

فإن قلنا: لكنه إنسان فإنه ينتج أنه حيوان، أما إذا قلنا لكنه ليس بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان، لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئا، فكذا ههنا إذا قلنا متى دامت السماوات دام عقابهم، فإذا قلنا لكن السماوات دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلا، أما إذا قلنا لكنه ما بقيت السماوات لم يلزم عدم دوام عقابهم.
فإن قالوا: فإذا كان العقاب حاصلا سواء بقيت السماوات أو لم تبق لم يبق لهذا التشبيه فائدة؟
قلنا بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه يدل على نفاذ ذلك العذاب دهرا دهرا، وزمانا لا يحيط العقل بطوله وامتداده، فأما أنه هل يحصل له آخر أم لا فذلك يستفاد من دلائل أخر، وهذا الجواب الذي قررته جواب حق ولكنه إنما يفهمه إنسان ألف شيئا من المعقولات.
وأما الشبهة الثانية: وهي التمسك بقوله تعالى: * (إلا ما شاء ربك) * فقد ذكروا فيه أنواعا من الأجوبة.
الوجه الأول: في الجواب وهو الذي ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء. قالوا هذا استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله البتة، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك تكون على ضربه، فكذا ههنا وطولوا في تقرير هذا الجواب، وفي ضرب الأمثلة فيه، وحاصله ما ذكرناه.
ولقائل أن يقول: هذا ضعيف لأنه إذا قال: لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، معناه: لأضربنك إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب، وهذا لا يدل البتة على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا بخلاف قوله: * (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) * فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء ربك، فههنا اللفظ يدل على أن هذه المشيئة قد حصلت جزما، فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام.
الوجه الثاني: في الجواب أن يقال: إن كلمة * (إلا) * ههنا وردت بمعنى: سوى. والمعنى أنه تعالى لما قال: * (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) * فهم منه أنهم يكونون في النار في جميع مدة بقاء السماوات والأرض في الدنيا، ثم قال سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم فذكر أولا في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له بقوله: * (إلا ما شاء ربك) * المعنى: إلا ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها.
الوجه الثالث: في الجواب وهو أن المراد من هذا الاستثناء زمان وقوفهم في الموقف فكأنه تعالى قال فأما الذين شقوا ففي النار إلا وقت وقوفهم للمحاسبة فإنهم في ذلك الوقت لا يكونون
65

في النار، وقال أبو بكر الأصم المراد إلا ما شاء ربك وهو حال كونهم في القبر، أو المراد إلا ما شاء ربك حال عمرهم في الدنيا وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة، والمعنى: خالدين فيها بمقدار مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو مقدار وقوفهم للحساب ثم يصيرون إلى النار.
الوجه الرابع: في الجواب قالوا: الاستثناء يرجع إلى قوله: * (لهم فيها زفير وشهيق) * (هود: 106) وتقريره أن نقول: قوله: * (لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها) * يفيد حصول الزفير والشهيق مع الخلود فإذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل وقت لا يحصل فيه هذا المجموع لكنه ثبت في المعقولات أنه كما ينتفي المجموع بانتفاء جميع أجزائه فكذلك ينتفي بانتفاء فرد واحد من أجزائه فإذا انتهوا آخر الأمر إلى أن يصيروا ساكنين هامدين خامدين فحينئذ لم يبق لهم زفير وشهيق فانتفى أحد أجزاء ذلك المجموع فحينئذ يصح ذلك الاستثناء من غير حاجة إلى الحكم بانقطاع كونهم في النار.
الوجه الخامس: في الجواب أن يحمل هذا الاستثناء على أن أهل العذاب لا يكونون أبدا في النار، بل قد ينقلون إلى البرد والزمهرير وسائر أنواع العذاب وذلك يكفي في صحة هذا الاستثناء.
الوجه السادس: في الجواب قال قوم: هذا الاستثناء يفيد إخراج أهل التوحيد من النار، لأن قوله: * (فأما الذين شقوا ففي النار) * يفيد أن جملة الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم، ثم قوله: * (إلا ما شاء ربك) * يوجب أن لا يبقى ذلك الحكم على ذلك المجموع. ويكفي في زوال حكم الخلود عن المجموع زواله عن بعضهم، فوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء، ولما ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال: الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة، وهذا كلام قوي في هذا الباب.
فإن قيل: فهذا الوجه إنما يتعين إذا فسدت سائر الوجوه التي ذكرتموها، فما الدليل على فسادها، وأيضا فمثل هذا الاستثناء مذكور في جانب السعداء، فإنه تعالى قال: * (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) *.
قلنا: إنا بهذا الوجه بينا أن هذه الآية لا تدل على انقطاع وعيد الكفار، ثم إذا أردنا الاستدلال بهذه الآية على صحة قولنا في أنه تعالى يخرج الفساق من أهل الصلاة من النار.
قلنا: أما حمل كلمة " إلا " على سوى فهو عدول عن الظاهر، وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد أيضا، لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار، ومن المعلوم أن الخلود في النار كيفية من كيفيات الحصول في النار، فقبل الحصول في النار امتنع حصول الخلود في النار، وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه وامتنع حصول الاستثناء. وأما قوله الاستثناء عائد
66

إلى الزفير والشهيق فهذا أيضا ترك للظاهر، فلم يبق للآية محمل صحيح إلا هذا الذي ذكرناه، وأما قوله المراد من الاستثناء نقله من النار إلى الزمهرير. فنقول: لو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السماوات والأرض. والأخبار الصحيحة دلت على أن النقل من النار إلى الزمهرير وبالعكس يحصل في كل يوم مرارا فبطل هذا الوجه، وأما قوله إن مثل هذا الاستثناء حاصل في جانب السعداء فنقول: أجمعت الأمة على أنه يمتنع أن يقال: إن أحدا يدخل الجنة ثم يخرج منها إلى النار، فلأجل هذا الإجماع افتقرنا فيه إلى حمل ذلك الاستثناء على أحد تلك التأويلات. أما في هذه الآية لم يحصل هذا الإجماع، فوجب إجراؤها على ظاهرها فهذا تمام الكلام في هذه الآية.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء قال: * (إن ربك فعال لما يريد) * وهذا يحسن انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفساق من النار، كأنه تعالى يقول أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد وليس لأحد علي حكم البتة.
ثم قال: * (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (سعدوا) * بضم السين والباقون بفتحها وإنما جاز ضم السين لأنه على حذف الزيادة من أسعد ولأن سعد لا يتعدى وأسعد يتعدى وسعد وأسعد بمعنى ومنه المسعود من أسماء الرجال.
المسألة الثانية: الاستثناء في باب السعداء يجب حمله على أحد الوجوه المذكورة فيما تقدم وههنا وجه آخر وهو أنه ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنة إلى العرش وإلى المنازل الرفيعة التي لا يعلمها إلا الله تعالى. قال الله تعالى: * (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر) * (التوبة: 72) وقوله: * (عطاء غير مجذوذ) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: جذه يجذه جذا إذا قطعه وجذ الله دابرهم، فقوله: * (غير مجذوذ) * أي غير مقطوع، ونظيره قوله تعالى في صفة نعيم الجنة * (لا مقطوعة ولا ممنوعة) * (الواقعة: 33).
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى لما صرح في هذه الآية أنه ليس المراد من هذا الاستثناء كون هذه الحالة منقطعة، فلما خص هذا الموضع بهذا البيان ولم يذكر ذلك في جانب الأشقياء دل ذلك على أن المراد من ذلك الاستثناء هو الانقطاع، فهذا تمام الكلام في هذه الآية.
67

قوله تعالى
* (فلا تك فى مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد ءاباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) *.
اعلم أنه تعالى لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول عليه الصلاة والسلام أحوال الكفار من قومه فقال: * (فلا تك في مرية) * والمعنى: فلا تكن، إلا أنه حذف النون لكثرة الاستعمال، ولأن النون إذا وقع على طرف الكلام لم يبق عند التلفظ به إلا مجرد الغنة فلا جرم أسقطوه، والمعنى: فلا تك في شك من حال ما يعبدون في أنها لا تضر ولا تنفع.
ثم قال تعالى: * (ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل) * والمراد أنهم أشبهوا آباءهم في لزوم الجهل والتقليد. ثم قال: * (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) * فيحتمل أن يكون المراد إنا موفوهم نصيبهم أي ما يخصهم من العذاب. ويحتمل أن يكون المراد أنهم وإن كفروا وأعرضوا عن الحق فإنا موفوهم نصيبهم من الرزق والخيرات الدنيوية. ويحتمل أيضا أن يكون المراد إنا موفوهم نصيبهم من إزالة العذر وإزاحة العلل وإظهار الدلائل وإرسال الرسل وإنزال الكتب، ويحتمل أيضا أن يكون الكل مرادا.
قوله تعالى
* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب * وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد، بين أيضا إصرارهم على إنكار نبوته عليه السلام وتكذيبهم بكتابه، وبين تعالى أن هؤلاء الكفار كانوا على
68

هذه السيرة الفاسدة مع كل الأنبياء عليهم السلام وضرب لذلك مثلا؛ وهو أنه لما أنزل التوراة على موسى عليه السلام اختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره آخرون، وذلك يدل على أن عادة الخلق هكذا.
ثم قال تعالى: * (ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم) * وفيه وجوه: الأول: أن المراد: ولولا ما تقدم من حكم الله تعالى بتأخير عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لكان الذي يستحقه هؤلاء الكفار عند عظيم كفرهم إنزال عذاب الاستئصال عليهم لكن المتقدم من قضائه أخر ذلك عنهم في دنياهم. الثاني: لولا كلمة سبقت من ربك وهي أن الله تعالى إنما يحكم بين المختلفين يوم القيامة وإلا لكان من الواجب تمييز المحق عن المبطل في دار الدنيا. الثالث: * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * وهي أن رحمته سبقت غضبه وأن إحسانه راجح على قهره وإلا لقضى بينهم ولما قرر تعالى هذا المعنى قال: * (وإنهم لفي شك منه مريب) * يعني أن كفار قومك لفي شك من هذا القرآن مريب.
ثم قال تعالى: * (وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المعنى أن من عجلت عقوبته ومن أخرت ومن صدق الرسل ومن كذب فحالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة، فجمعت الآية الوعد والوعيد فإن توفية جزاء الطاعات وعد عظيم وتوفية جزاء المعاصي وعيد عظيم، وقوله تعالى: * (إنه بما يعملون خبير) * توكيد الوعد والوعيد، فإنه لما كان عالما بجميع المعلومات كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي فكان عالما بالقدر اللائق بكل عمل من الجزاء، فحينئذ لا يضيع شيء من الحقوق والأجزية وذلك نهاية البيان.
المسألة الثانية: قرأ أبو عمرو والكسائي وإن مشددة النون * (لما) * خفيفة قال أبو علي: اللام في * (لما) * هي التي تقتضيه إن وذلك لأن حرف إن يقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقوله: * (إن الله لغفور رحيم) * (النحل: 18) وقوله: * (إن في ذلك لآية) * (الحجر: 77) واللام الثانية هي التي تجيء بعد القسم كقولك والله لتفعلن ولما اجتمع لأمان دخلت ما لتفصل بينهما فكلمة ما على هذا التقدير زائدة، وقال الفراء: ما موصولة بمعنى من وبقية التقرير كما تقدم ومثله: * (وإن منكم لمن ليبطئن) * (النساء: 72).
والقراءة الثانية: في هذه الآية قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم * (وإن كلا لما) * مخففتان والسبب فيه أنهم أعملوا إن مخففة كما تعمل مشددة لأن كلمة إن تشبه الفعل فكما يجوز أعمال الفعل تاما ومحذوفا في قولك لم يكن زيد قائما ولم يك زيد قائما فكذلك أن وإن.
69

والقراءة الثالثة: قرأ حمزة وابن عامر وحفص: * (وإن كلا لما) * (الفجر: 19) مشددتان، قالوا: وأحسن ما قيل فيه إن أصل لما بالتنوين كقوله: * (أكلا لما)
* والمعنى أن كلا ملمومين أي مجموعين كأنه قيل: وإن كلا جميعا.
المسألة الثالثة: سمعت بعض الأفاضل قال: إنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات: أولها: كلمة * (إن) * وهي للتأكيد. وثانيها: كلمة " كل " وهي أيضا للتأكيد. وثالثها: اللام الداخلة على خبر * (إن) * وهي تفيد التأكيد أيضا. ورابعها: حرف * (ما) * إذا جعلناه على قول الفراء موصولا. وخامسها: القسم المضمر، فإن تقدير الكلام وإن جميعهم والله ليوفينهم. وسادسها: اللام الثانية الداخلة على جواب القسم. وسابعها: النون المؤكدة في قوله * (ليوفينهم) * فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر ثم أردفه بقوله: * (إنه بما يعملون خبير) * وهو من أعظم المؤكدات.
قوله تعالى
* (فاستقم كمآ أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أوليآء ثم لا تنصرون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعلى لما أطنب في شرح الوعد والوعيد قال لرسوله: * (فاستقم كما أمرت) * وهذا الكلمة كلمة جامعة في كل ما يتعلق بالعقائد والأعمال، سواء كان مختصا به أو كان متعلقا بتبليغ الوحي وبيان الشرائع، ولا شك أن البقاء على الاستقامة الحقيقية مشكل جدا وأنا أضرب لذلك مثالا يقرب صعوبة هذا المعنى إلى العقل السليم، وهو أن الخط المستقيم الذي يفصل بين الظل وبين الضوء جزء واحد لا يقبل القسمة في العرض، إلا أن عين ذلك الخط مما لا يتميز في الحس عن طرفيه، فإنه إذا قرب طرف الظل من طرف الضوء اشتبه البعض بالبعض في الحس، فلم يقع الحس على إدراك ذلك الخط بعينه بحيث يتميز عن كل ما سواه.
70

إذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية، فأولها: معرفة الله تعالى وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العبد مصونا في طرف الإثبات عن التشبيه، وفي طرف النفي عن التعطيل في غاية الصعوبة، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك، وأيضا فالقوة الغضبية والقوة الشهوانية حصل لكل واحدة منهما طرفا إفراط وتفريط وهما مذمومان، والفاصل هو المتوسط بينهما بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين، والوقوف عليه صعب ثم العمل به أصعب، فثبت أن معرفة الصراط المستقيم في غاية الصعوبة، بتقدير معرفته فالبقاء عليه والعمل به أصعب، ولما كان هذا المقام في غاية الصعوبة لا جرم قال ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " شيبتني هود وأخواتها، وعن بعضهم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: روي عنك أنك قلت شيبتني هود وأخواتها فقال: " نعم " فقلت: وبأي آية؟ فقال بقوله: * (فاستقم كما أمرت) *.
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة وذلك لأن القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله: * (فاستقم كما أمرت) * ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به وعندي أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس، لأنه لما دل عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله: * (فاستقم كما أمرت) * والعمل بالقياس انحراف عنه، ثم قال: * (ومن تاب معك) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: من في محل الرفع من وجوه: الأول: أن يكون عطفا على الضمير المستتر في قوله: * (فاستقم) * وأغنى الوصل بالجار عن تأكيده بضمير المتصل في صحة العطف أي فاستقم أنت وهم. والثاني: أن يكون عطفا على الضمير في أمرت. والثالث: أن يكون ابتداء على تقدير ومن تاب معك فليستقم.
المسألة الثانية: أن الكافر والفاسق يجب عليهما الرجوع عن الكفر والفسق ففي تلك الحالة لا يصح اشتغالهما بالاستقامة، وأما التائب عن الكفر والفسق فإنه يصح منه الاشتغال بالاستقامة على مناهج دين الله تعالى والبقاء على طريق عبودية الله تعالى، ثم قال: * (ولا تطغوا) * ومعنى الطغيان أن يجاوز المقدار. قال ابن عباس: يريد تواضعوا لله تعالى ولا تتكبروا على أحد وقيل ولا تطغوا في القرآن فتحلوا حرامه وتحرموا حلاله، وقيل: لا تتجاوزوا ما أمرتم به وحد لكم، وقيل: ولا تعدلوا عن طريق شكره والتواضع له عند عظم نعمه عليكم والأولى دخول الكل فيه، ثم قال: * (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) * والركون هو السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة ونقيضه
71

النفور عنه، وقرأ العامة بفتح التاء والكاف والماضي من هذا ركن كعلم وفيه لغة أخرى ركن يركن قال الأزهري: وليست بفصيحة. قال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون، ومعنى قوله: * (فتمسكم النار) * أي أنكم إن ركنتم إليهم فهذه عاقبة الركون، ثم قال: * (وما لكم من دون الله من أولياء) * أي ليس لكم أولياء يخلصونكم من عذاب الله.
ثم قال: * (ثم لا تنصرون) * والمراد لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة.
واعلم أن الله تعالى حكم بأن من ركن إلى الظلمة لا بد وأن تمسه النار وإذا كان كذلك فكيف يكون حال الظالم في نفسه.
قوله تعالى
* (وأقم الصلوة طرفى النهار وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) *.
اعلم أنه تعالى لما أمره بالاستقامة أردفه بالأمر بالصلاة وذلك يدل على أن أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: رأيت في بعض " كتب القاضي أبي بكر الباقلاني " أن الخوارج تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الواجب ليس إلا الفجر والعشاء من وجهين.
الوجه الأول: أنهما واقعان على طرفي النهار والله تعالى أوجب إقامة الصلاة طرفي النهار، فوجب أن يكون هذا القدر كافيا.
فإن قيل: قوله: * (وزلفا من الليل) * يوجب صلوات أخرى.
قلنا: لا نسلم فإن طرفي النهار موصوفان بكونهما زلفا من الليل فإن ما لا يكون نهارا يكون ليلا غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف إلا أن ذلك كثير في القرآن والشعر.
الوجه الثاني: أنه تعالى قال: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * وهذا يشعر بأن من صلى طرفي النهار كان إقامتهما كفارة لكل ذنب سواهما فبتقدير أن يقال إن سائر الصلوات واجبة إلا
72

أن إقامتهما يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات. واعلم أن هذا القول باطل بإجماع الأمة فلا يلتفت إليه.
المسألة الثانية: كثرت المذاهب في تفسير طرفي النهار والأقرب أن الصلاة التي تقام في طرفي النهار وهي الفجر والعصر، وذلك لأن أحد طرفي النهار طلوع الشمس والطرف الثاني منه غروب الشمس فالطرف الأول هو صلاة الفجر والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله: * (وزلفا من الليل) * فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر.
إذا عرفت هذا كانت الآية دليلا على قول أبي حنيفة رحمه الله في أن التنوير بالفجر أفضل، وفي أن تأخير العصر أفضل وذلك لأن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب إقامة الصلاة في طرفي النهار وبينا أن طرفي النهار هما الزمان الأول لطلوع الشمس، والزمان الثاني لغروبها، وأجمعت الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة، فقد تعذر العمل بظاهر هذه الآية، فوجب حمله على المجاز، وهو أن يكون المراد: أقم الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار، لأن ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه، وإذا كان كذلك فكل وقت كان أقرب إلى طلوع الشمس وإلى غروبها كان أقرب إلى ظاهر اللفظ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطلوع من إقامتها عند التغليس، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظل كل شيء مثله، والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى، فثبت أن ظاهر هذه الآية يقوي قول أبي حنيفة في هاتين المسألتين.
وأما قوله: * (وزلفا من الليل) * فهو يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلف من الليل، لأن أقل الجمع ثلاثة وللمغرب والعشاء وقتان، فيجب الحكم بوجوب الوتر حتى يحصل زلف ثلاثة يجب إيقاع الصلاة فيها، وإذا ثبت وجوب الوتر في حق النبي صلى الله عليه وسلم وجب في حق غيره لقوله تعالى: * (واتبعوه) * (سبأ: 20) ونظير هذه الآية بعينها قوله سبحانه وتعالى: * (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) * (طه: 30) فالذي هو قبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر، والذي هو قبل غروبها هو صلاة العصر.
ثم قال تعالى: * (ومن آناء الليل فسبح) * وهو نطير قوله: * (وزلفا من الليل) *.
المسألة الثالثة: قال المفسرون: نزلت هذه الآية في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في رجل أصاب من امرأة محرمة كلما يصيبه الرجل من امرأته غير الجماع، فقال عليه الصلاة والسلام: " ليتوضأ وضوءا حسنا ثم ليقم وليصل " فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقيل
73

للنبي عليه الصلاة والسلام: هذا له خاصة، فقال: " بل هو للناس عامة " وقوله: * (وزلفا من الليل) * قال الليث: زلفة من أول الليل طائفة، والجمع الزلف. قال الواحدي: وأصل الكلمة من الزلفى والزلفى هي القربى، يقال: أزلفته فازدلف أي قربته فاقترب.
المسألة الرابعة: قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (زلفا) * بضمتين و * (زلفا) * بإسكان اللام وزلفى بوزن قربى فالزلف جمع زلفة كظلم جمع ظلمة والزلف بالسكون نحو بسرة وبسر والزلف بضمتين نحو: يسر في يسر، والزلفى بمعنى الزلفة كما أن القربى بمعنى القربة وهو ما يقرب من آخر النهار من نحو: يسر في يسر، والزلفى بمعنى الزلفة كما أن القربى بمعنى القربة وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل، وقيل في تفسير قوله: * (وزلفا من الليل) * وقربا من الليل، ثم قال: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسير الحسنات قولان: الأول: قال ابن عباس: المعنى أن الصلوات الخمس كفارات لسائر الذنوب بشرط الاجتناب عن الكبائر. والثاني: روي عن مجاهد أن الحسنات هي قول العبد سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
المسألة الثانية: احتج من قال إن المعصية لا تضر مع الإيمان بهذه الآية وذلك لأن الإيمان أشرف الحسنات وأجلها وأفضلها. ودلت الآية على أن الحسنات يذهبن السيئات، فالإيمان الذي هو أعلى الحسنات درجة يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان فلأن يقوى على المعصية التي هي أقل السيئات درجة كان أولى، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقل من أن يفيد إزالة العذاب الدائم المؤبد.
ثم قال تعالى: * (ذلك ذكرى للذاكرين) * فقوله: * (ذلك) * إشارة إلى قوله: * (فاستقم كما أمرت) * إلى آخرها * (ذكرى للذاكرين) * عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشدين.
ثم قال: * (واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) * قيل على الصلاة وهو كقوله: * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) * (طه: 132).
قوله تعالى
* (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد فى الارض إلا قليلا
74

ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا مآ أترفوا فيه وكانوا مجرمين) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الأمم المتقدمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أن السبب فيه أمران:
السبب الأول: أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض. فقال تعالى: * (فلولا كان من القرون) * والمعنى فهلا كان، وحكي عن الخليل أنه قال كل ما كان في القرآن من كلمة لولا فمعناه هلا إلا التي في الصافات. قال صاحب " الكشاف ": وما صحت هذه الرواية عنه بدليل قوله تعالى في غير الصافات * (لولا أن تداركه نعمة ن ربه لنبذ بالعراء) * (القلم: 49) * (لولا رجال مؤمنون) * (الفتح: 25) * (لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * (الإسراء: 74)، وقوله: * (أولوا بقية) * فالمعنى أولو فضل وخير، وسمي الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار هذا اللفظ مثلا في الجودة يقال فلان من بقية القيوم أي من خيارهم ومنه قولهم في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا، ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى وقرئ * (أولوا بقية) * بوزن لقية من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره، والبقية المرة من مصدره، والمعنى فلولا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله تعالى. ثم قال: * (إلا قليلا) * ولا يمكن جعله استثناء متصلا لأنه على هذا التقدير يكون ذلك ترغيبا لأولي البقية في النهي عن الفساد إلا القليل من الناجين منهم كما تقول هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم تريد استثناء الصلحاء من المرغبين في قراءة القرآن. وإذا ثبت هذا قلنا: إنه استثناء منقطع، والتقدير: لكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي.
والسبب الثاني: لنزول عذاب الاستئصال قوله: * (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) * والترفه النعمة وصبي مترف إذا كان منعم البدن، والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة المعيشة وأراد بالذين ظلموا تاركي النهي عن المنكرات أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتبعوا طلب الشهوات واللذات واشتغلوا بتحصيل الرياسات وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي * (واتبع الذي ظلموا ما أترفوا) * أي واتبعوا حراما أترفوا فيه، ثم قال: * (وكانوا مجرمين) * ومعناه ظاهر.
75

قوله تعالى
* (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون * ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *.
اعلم أنه تعالى بين أنه ما أهلك أهل القرى إلا بظلم وفيه وجوه:
الوجه الأول: أن المراد من الظلم ههنا الشرك قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) والمعنى أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم والحاصل أن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر، بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم. ولهذا قال الفقهاء إن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة. وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح. ويقال في الأثر الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم، فمعنى الآية: * (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم) * أي لا يهلكهم بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعامل بعضهم بعضا على الصلاح والسداد. وهذا تأويل أهل السنة لهذه الآية، قالوا: والدليل عليه أن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب إنما نزل عليهم عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق.
والوجه الثاني: في التأويل وهو الذي تختاره المعتزلة هو أنه تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لما كان متعاليا عن الظلم فلا جرم لا يفعل ذلك بل إنما يهلكهم لأجل سوء أفعالهم.
ثم قال تعالى: * (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) * والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار وقد سبق الكلام عليه.
ثم قال تعالى: * (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) * والمراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال.
76

واعلم أنه لا سبيل إلى استقصاء مذاهب العالم في هذا الموضع ومن أراد ذلك فليطالع كتابنا الذي سميناه " بالرياض المونقة " إلا أنا نذكر ههنا تقسيما جامعا للمذاهب. فنقول: الناس فريقان منهم من أقر بالعلوم الحسية كعلمنا بأن النار حارة والشمس مضيئة والعلوم البديهية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان، ومنهم من أنكرهما، والمنكرون هم السفسطائية، والمقرون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم، وهم فريقان: منهم من سلم أنه يمكن تركيب تلك العلوم البديهية بحيث يستنتج منها نتائج علمية نظرية، ومنهم من أنكره، وهم الذين ينكرون أيضا النظر إلى العلوم، وهم قليلون، والأولون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم، وهم فريقان: منهم من لا يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلا وهم الأقلون، ومنهم من يثبت له مبدأ وهؤلاء فريقان: منهم من يقول: ذلك المبدأ موجب بالذات، وهم جمهور الفلاسفة في هذا الزمان، ومنهم من يقول: إنه فاعل مختار وهم أكثر أهل العالم، ثم هؤلاء فريقان: منهم من يقول: إنه ما أرسل رسولا إلى العباد، ومنهم من يقول: إنه أرسل الرسول، فالأولون هم البراهمة.
والقسم الثاني أرباب الشرائع والأديان، وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس، وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا حد لها ولا حصر، والعقول مضطربة، والمطالب غامضة، ومنازعات الوهم والخيال غير منقطعة، ولما حسن من بقراط أن يقول في صناعة الطب العمر قصير، والصناعة طويلة، والقضاء
عسر، والتجربة خطر، فلأن يحسن ذكره في هذه المطالب العالية والمباحث الغامضة، كان ذلك أولى.
فإن قيل: إنكم حملتم قوله تعالى: * (ولا يزالون مختلفين) * على الاختلاف في الأديان، فما الدليل عليه، ولم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال. قلنا: الدليل عليه أن ما قبل هذه الآية هو قوله: * (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) * فيجب حمل هذا الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمة واحدة، وما بعد هذه الآية هو قوله: * (إلا من رحم ربك) * فيجب حمل هذا الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه قوله: * (إلا من رحم ربك) * وذلك ليس إلا ما قلنا.
ثم قال تعالى: * (إلا من رحم ربك) * احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى، وذلك لأن هذه الآية تدل على أن زوال الاختلاف في الدين لا يحصل إلا لمن خصه الله برحمته، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة العذر، فإن كل ذلك حاصل في حق الكفار، فلم يبق إلا أن
77

يقال: تلك الرحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة. قال القاضي معناه: إلا من رحم ربك بأن يصير من أهل الجنة والثواب، فيرحمه الله بالثواب، ويحتمل إلا من رحمة الله بألطافه، فصار مؤمنا بألطافه وتسهيله، وهذان الجوابان في غاية الضعف.
أما الأول: فلأن قوله: * (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) * يفيد أن ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة، فوجب أن تكون هذه الرحمة جارية مجرى السبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف، والثواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف، فالاختلاف جار مجرى المسبب له، ومجرى المعلول، فحمل هذه الرحمة على الثواب بعيد.
وأما الثاني: وهو حمل هذه الرحمة على الألطاف فنقول: جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضا في حق الكافر، وهذه الرحمة أمر مختص به المؤمن، فوجب أن يكون شيئا زائدا على تلك الألطاف، وأيضا فحصول تلك الألطاف هل يوجب رجحان وجود الإيمان على عدمه أو لا يوجبه، فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان، فلم يك لطفا فيه، وإن أوجب الرجحان فقد بينا في " الكتب العقلية " أنه متى حصل الرجحان فقد وجب، وحينئذ يكون حصول الإيمان من الله، ومما يدل على أن حصول الإيمان لا يكون إلا بخلق الله، أنه ما لم يتميز الإيمان عن الكفر، والعلم عن الجهل، امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم، وإنما يحصل هذا الامتياز إذا علم كون أحد هذين الاعتقادين مطابقا للمعتقد وكون الآخر ليس كذلك، وإنما يصح حصول هذا العلم، أن لو عرف أن ذلك المعتقد في نفسه كيف يكون، وهذا يوجب أنه لا يصح من العبد القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالما، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محال فثبت أن زوال الاختلاف في الدين وحصول العلم والهداية لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وهو المطلوب.
ثم قال تعالى: * (ولذلك خلقهم) * وفيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: وللرحمة خلقهم، وهذا اختيار جمهور المعتزلة. قالوا: ولا يجوز أن يقال: وللاختلاف خلقهم، ويدل عليه وجوه: الأول: أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما، وأقرب المذكورين ههنا هو الرحمة، والاختلاف أبعدهما. والثاني: أنه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان، لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه، إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف. الثالث: إذا فسرنا الآية بهذا المعنى، كان مطابقا لقوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56).
78

فإن قيل: لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال: ولتلك خلقهم ولم يقل: ولذلك خلقهم.
قلنا: إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثا حقيقيا، فكان محمولا على الفضل والغفران كقوله: * (هذا رحمة من ربي) * (الكهف: 98) وقوله: * (إن رحمة الله قريب من المحسنين) * (الأعراف: 56).
والقول الثاني: أن المراد وللاختلاف خلقهم.
والقول الثالث: وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف. روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا، وأهل العذاب لأن يختلفوا، وخلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه: الأول: الدلائل القاطعة الدالة على أن العلم والجهل لا يمكن حصولهما في العبد إلا بتخليق الله تعالى. الثاني: أن يقال: إنه تعالى لما حكم على البعض بكونهم مختلفين وعلى الآخرين بأنهم من أهل الرحمة وعلم ذلك امتنع انقلاب ذلك، وإلا لزم انقلاب العلم جهلا وهو محال. الثالث: أنه تعالى قال بعده: * (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * وهذا تصريح بأنه تعالى خلق أقواما للهداية والجنة، وأقواما آخرين للضلالة والنار، وذلك يقوي هذا التأويل.
قوله تعالى
* (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجآءك فى هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة.
الفائدة الأولى: تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وذلك لأن الإنسان إذا ابتلى بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركا خف ذلك على قلبه، كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت، فإذا سمع الرسول هذه القصص، وعلم أن حال جميع الأنبياء صلوات الله عليهم مع أتباعهم هكذا، سهل عليه تحمل الأذى من قومه
وأمكنه الصبر عليه.
والفائدة الثانية: قوله: * (وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) * وفي قوله: * (في هذه) * وجوه: أحدها: في هذه السورة. وثانيها: في هذه الآية. وثالثها: في هذه الدنيا، وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع.
79

واعلم أنه لا يلزم من تخصيص هذ السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حال سائر السور بخلاف ذلك، لاحتمال أن يكون الحق المذكور في هذه السورة أكمل حالا مما ذكر في سائر السور، ولو لم يكن فيها إلا قوله: * (فاستقم كما أمرت) * (هود: 112) لكان الأمر كما ذكرنا، ثم إنه تعالى بين أنه جاء في هذه السورة أمور ثلاثة الحق والموعظة والذكرى.
أما الحق: فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة.
وأما الذكرى: فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال الباقية الصالحة.
وأما الموعظة: فهي إشارة إلى التنفير من الدنيا وتقبيح أحوالها في الدار الآخرة، والمذكرة لما هنالك من السعادة والشقاوة، وذلك لأن الروح إنما جاء من ذلك العالم إلا أنه لاستغراقه في محبة الجسد في هذا العالم نسي أحوال ذلك العالم فالكلام الإلهي يذكره أحوال ذلك العالم، فلهذا السبب صح إطلاق لفظ الذكر عليه.
ثم ههنا دقيقة أخرى عجيبة: وهي أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل ومن موجب، وقابلها هو القلب، والقلب ما لم يكن كامل الاستعداد لقبول تلك المعارف الإلهية والتجليات القدسية، لم يحصل الانتفاع بسماع الدلائل، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر إصلاح القلب، وهو تثبيت الفؤاد، ثم لما ذكر صلاح حال القابل، أردفه بذكر الموجب، وهو مجيء هذه السورة المشتملة على الحق والموعظة والذكرى، وهذا الترتيب في غاية الشرف والجلالة.
قوله تعالى
* (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والارض وإليه يرجع الامر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) *.
اعلم أنه تعالى لما بلغ الغاية في الأعذار والإنذار، والترغيب والترهيب، أتبع ذلك بأن قال للرسول: * (وقل للذين لا يؤمنون) * ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة * (اعملوا على مكانتكم إنا عاملون) * وهذا عين ما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه، والمعنى: افعلوا كل ما تقدرون
80

عليه في حقي من الشر، فنحن أيضا عاملون. وقوله: * (اعملوا) * وإن كانت صيغته صيغة الأمر، إلا أن المراد منها التهديد، كقوله تعالى لإبليس: * (واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك) * (الإسراء: 64) وكقوله: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 29) وانتظروا ما يعدكم الشيطان من الخذلان فإنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان. قال ابن عباس رضي الله عنهما: * (وانتظروا) * الهلاك فإنا منتظرون لكم العذاب. ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدسة فقال: * (ولله غيب السماوات والأرض) *.
واعلم أن مجموع ما يحتاج الإنسان إلى معرفته أمور ثلاثة. وهي: الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي فهو أن يعرف الموجود الذي كان موجودا قبله، وذلك الموجود المتقدم عليه هو الذي نقله من العدم إلى الوجود، وذلك هو الإله تعالى وتقدس.
واعلم أن حقيقة ذات الإله وكنه هويته غير معلومة للبشر البتة، وإنما المعلوم للبشر صفاته، ثم إن صفاته قسمان: صفات الجلال، وصفات الإكرام. أما صفات الجلال، فهي سلوب، كقولنا: إنه ليس بجوهر ولا جسم، ولا كذا ولا كذا. وهذه السلوب في الحقيقة ليست صفات الكمال، لأن السلوب عدم، والعدم المحض والنفي الصرف، لا كمال فيه، فقولنا لا تأخذه سنة ولا نوم إنما أفاد الكلام لدلالته على العلم المحيط الدائم المبرأ عن التغير ولولا ذلك كان عدم النوم ليس يدل على كمال أصلا، ألا ترى أن الميت والجماد لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله: * (وهو يطعم ولا يطعم) * (الأنعام: 14) إنما أفاد، الجلال والكمال والكبرياء، لأن قوله: * (ولا يطعم) * يفيد كونه واجب الوجود لذاته غنيا عن الطعام والشراب بل عن كل ما سواه، فثبت أن صفات الكمال والعز والعلو هي الصفات الثبوتية، وأشرف الصفات الثبوتية الدالة على الكمال والجلال صفتان: العلم والقدرة، فلهذا السبب وصف الله تعالى ذاته في هذه الآية بهما في معرض التعظيم والثناء والمدح. أما صفة العلم فقوله: * (ولله غيب السماوات والأرض) * والمراد أن علمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات والمعدومات والموجودات والحاضرات والغائبات، وتمام البيان والشرح في دلالة هذا اللفظ على نهاية الكمال ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه وتعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * (الأنعام: 59) وأما صفة القدرة، فقوله: * (وإليه يرجع الأمر كله) * والمراد أن مرجع الكل إليه، وإنما يكون كذلك لو كان مصدر الكل ومبدأ الكل هو هو والذي يكون مبدأ لجميع الممكنات وإليه يكون مرجع كل المحدثات والكائنات، كان عظيم القدرة نافذ المشيئة قهارا للعدم بالوجود والتحصيل جبارا له بالقوة والفعل والتكميل، فهذان الوصفان هما المذكوران في شرح جلال المبدأ ونعت كبريائه.
81

والمرتبة الثانية: من المراتب التي يجب على الإنسان كونه عالما بها أن يعرف ما هو مهم له في زمان حياته في الدنيا، وما ذلك إلا تكميل النفس بالمعارف الروحانية والجلايا القدسية، وهذه المرتبة لها بداية ونهاية. أما بدايتها فالاشتغال بالعبادات الجسدانية والروحانية. أما العبادات الجسدانية، فأفضل الحركات الصلاة، وأكمل السكنات الصيام، وأنفع البر الصدقة.
وأما العبادة الروحانية فهي: الفكر، والتأمل في عجائب صنع الله تعالى في ملكوت السماوات والأرض، كما قال تعالى: * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض)
* (آل عمران: 191) وأما نهاية هذه المرتبة، فالانتهاء من الأسباب إلى مسببها، وقطع النظر عن كل الممكنات والمبدعات، وتوجيه حدقة العقل إلى نور عالم الجلال، واستغراق الروح في أضواء عالم الكبرياء، ومن وصل إلى هذه الدرجة رأى كل ما سواه مهرولا تائها في ساحة كبريائه هالكا فانيا في فناء سناء أسمائه. وحاصل الكلام: أن أول درجات السير إلى الله تعالى هو عبودية الله، وآخرها التوكل على الله، فلهذا السبب قال: * (فاعبده وتوكل عليه) *.
والمرتبة الثالثة: من المراتب المهمة لكل عامل معرفة المستقبل وهو أنه يعرف كيف يصير حاله بعد انقضاء هذه الحياة الجسمانية، وهل لأعماله أثر في السعادة والشقاوة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (وما ربك بغافل عما تعملون) * والمقصود أنه لا يضيع طاعات المطيعين ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقطمير ويعاتبوا في الصغير والكبير، ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير، فظهر أن هذه الآية وافية بالإشارة إلى جميع المطالب العلوية، والمقاصد القدسية، وأنه ليس وراءها للعقول مرتقى ولا للخواطر منتهى والله الهادي للصواب، تمت السورة بحمد الله وعونه، وقد وجد بخط المصنف رضي الله عنه في النسخة المنتقل منها ثم تفسير هذه السورة قبل طلوع الصبح ليلة الاثنين من شهر رجب ختمه الله بالخير والبركة سنة إحدى وستمائة، وقد كان لي ولد صالح حسن السيرة فتوفى في الغربة في عنفوان شبابه، وكان قلبي كالمحترق لذلك السبب، فأنا أنشد الله إخواني في الدين وشركائي في طلب اليقين وكل من نظر في هذا الكتاب وانتفع به أن يذكر ذلك الشاب بالرحمة والمغفرة، وأن يذكر هذا المسكين بالدعاء وهو يقول: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) * (آل عمران: 8) وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
82

سورة يوسف
مكية، إلا الآيات: 1 و 2 و 3 و 7، فمدنية وآياتها: 111، نزلت بعد سورة هود
بسم الله الرحمن الرحيم
* (الر تلك ءايات الكتاب المبين * إنآ أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) *.
وقد ذكرنا في أول سورة يونس تفسير: * (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) * (يونس: 1) فقوله: * (تلك) * إشارة إلى آيات هذه السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة * (الر) * هي * (آيات الكتاب المبين) * وهو القرآن، وإنما وصف القرآن بكونه مبينا لوجوه: الأول: أن القرآن معجزة قاهرة وآية بينة لمحمد صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه بين فيه الهدى والرشد، والحلال والحرام، ولما بينت هذه الأشياء فيه كان الكتاب مبينا لهذه الأشياء. الثالث: أنه بينت فيه قصص الأولين وشرحت فيه أحوال المتقدمين.
ثم قال: * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وفيه مسائل:
المسألة الأولى: روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين، سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن كيفية قصة يوسف، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر فيها أنه
83

تعالى عبر عن هذه القصة بألفاظ عربية، ليتمكنوا من فهمها ويقدروا على تحصيل المعرفة بها. والتقدير: إنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه قرآنا عربيا، وسمى بعض القرآن قرآنا، لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض.
المسألة الثانية: احتج الجبائي بهذه الآية على كون القرآن مخلوقا من ثلاثة أوجه: الأول: أن قوله: * (إنا أنزلناه) * يدل عليه، فإن القديم لا يجوز تنزيله وإنزاله وتحويله من حال إلى حال، الثاني: أنه تعالى وصفه بكونه عربيا والقديم لا يكون عربيا ولا فارسيا. الثالث: أنه لما قال: * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) * دل على أنه تعالى كان قادرا على أن ينزله لا عربيا، وذلك يدل على حدوثه. الرابع: أن قوله: * (تلك آيات الكتاب) * يدل على أنه مركب من الآيات والكلمات، وكل ما كان مركبا كان محدثا.
والجواب عن هذه الوجوه بأسرها أن نقول: إنها تدل على أن المركب من الحروف والكلمات والألفاظ والعبارات محدث وذلك لا نزاع فيه، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر فسقط هذا الاستدلال.
المسألة الثالثة: احتج الجبائي بقوله: * (لعلكم تعقلون) * فقال: كلمة " لعل " يجب حملها على الجزم والتقدير: إنا أنزلناه قرآنا عربيا لتعقلوا معانيه في أمر الدين، إذ لا يجوز أن يراد بلعلكم تعقلون؟ الشك لأنه على الله محال، فثبت أن المراد أنه أنزله لإرادة أن يعرفوا دلائله، وذلك يدل على أنه تعالى أراد من كل العباد أن يعقلوا توحيده وأمر دينه، من عرف منهم، ومن لم يعرف، بخلاف قول المجبرة.
والجواب: هب أن الأمر ما ذكرتم إلا أنه يدل على أنه تعالى أنزل هذه السورة، وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة ولكن لم قلتم إنها تدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح.
قوله تعالى
* (نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: روى سعيد بن جبير أنه تعالى لما أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه
84

وسلم
وكان يتلوه على قومه، فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت هذه السورة فتلاها عليهم فقالوا لو حدثتنا فنزل: * (الله نزل أحسن الحديث كتابا) * (الزمر: 23) فقالوا لو ذكرتنا فنزل: * (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) * (الحديد: 16).
المسألة الثانية: القصص اتباع الخبر بعضه بعضا وأصله في اللغة المتابعة قال تعالى: * (وقالت لأخته قصيه) * (القصص: 11) أي اتبعي أثره وقال تعالى: * (فارتدا على آثارهما قصصا) * (الكهف: 64) أي اتباعا وإنما سميت الحكاية قصصا لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئا فشيئا كما يقال تلا القرآن إذا قرأه لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية والقصص في هذه الآية يحتمل أن يكون مصدرا بمعنى الاقتصاص يقال قص الحديث يقصه قصا وقصصا إذا طرده وساقه كما يقال أرسله يرسله إرسالا ويجوز أن يكون من باب تسمية المفعول بالمصدر كقولك هذا قدرة الله تعالى أي مقدوره وهذا الكتاب علم فلان أي معلومه وهذا رجاؤنا أي مرجونا فإن حملناه على المصدر كان المعنى نقص عليك أحسن الاقتصاص، وعلى هذا التقدير فالحسن يعود إلى حسن البيان لا إلى القصة والمراد من هذا الحسن كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حد الإعجاز ألا ترى أن هذه القصة مذكورة في كتب التواريخ مع أن شيئا منها لا يشابه هذه السورة في الفصاحة والبلاغة وإن حملناه على المفعول كان معنى كونه أحسن القصص لما فيه من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها فإن إحدى الفوائد التي في هذه القصة أنه لا دافع لقضاء الله تعالى ولا مانع من قدر الله تعالى وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا عليه لم يقدروا على دفعه.
والفائدة الثانية: دلالتها على أن الحسد سبب للخذلان والنقصان.
والفائدة الثالثة: أن الصبر مفتاح الفرج كما في حق يعقوب عليه السلام فإنه لما صبر فاز بمقصوده، وكذلك في حق يوسف عليه السلام.
فأما قوله: * (بما أوحينا إليك هذا القرآن) * فالمعنى بوحينا إليك هذا القرآن، وهذا التقدير إن جعلنا " ما " مع الفعل بمنزلة المصدر.
ثم قال: * (وإن كنت من قبله) * يريد من قبل أن نوحي إليك * (لمن الغافلين) * عن قصة يوسف وإخوته، لأنه عليه السلام إنما علم ذلك بالوحي، ومنهم من قال: المراد أنه كان من الغافلين عن الدين والشريعة قبل ذلك كما قال تعالى: * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * (الشورى: 52).
85

قوله تعالى
* (إذ قال يوسف لابيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تقدير الآية: أذكر * (إذ قال يوسف) * قال صاحب " الكشاف ": الصحيح أنه اسم عبراني، لأنه لو كان عربيا لانصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف، وقرأ بعضهم * (يوسف) * بكسر السين * (ويوسف) * بفتحها. وأيضا روى في يونس هذه اللغات الثلاث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قيل من الكريم فقولوا الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ".
المسألة الثانية: قرأ ابن عامر * (يا أبت) * بفتح التاء في جميع القرآن، والباقون بكسر التاء. أما الفتح فوجهه أنه كان في الأصل يا أبتاه على سبيل الندبة، فحذفت الألف والهاء. وأما الكسر فأصله يا أبي، فحذفت الياء واكتفى بالكسرة عنها ثم أدخل هاء الوقف فقال: * (يا أبت) * ثم كثر استعماله حتى صار كأنه من نفس الكلمة فأدخلوا عليه الإضافة، وهذا قول ثعلب وابن الأنباري.
واعلم أن النحويين طولوا في هذه المسألة، ومن أراد كلامهم فليطالع " كتبهم ".
المسألة الثالثة: أن يوسف عليه السلام رأى في المنام أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدت له، وكان له أحد عشر نفرا من الأخوة، ففسر الكواكب بالأخوة، والشمس والقمر بالأب والأم، والسجود بتواضعهم له ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا قوله: * (إني رأيت أحد عشر كوكبا) * على الرؤيا لوجهين: الأول: أن الكواكب لا تسجد في الحقيقة، فوجب حمل هذا الكلام على الرؤيا. والثاني: قول يعقوب عليه السلام: * (لا تقصص رؤياك على إخوتك) * (يوسف: 5) وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: قوله: * (رأيتهم لي ساجدين) * فقوله: * (ساجدين) * لا يليق إلا بالعقلاء، والكواكب جمادات، فكيف جازت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات.
قلنا: إن جماعة من الفلاسفة الذين يزعمون أن الكواكب أحياء ناطقة احتجوا بهذه الآية، وكذلك احتجوا بقوله تعالى: * (وكل في فلك يسبحون) * (الأنبياء: 33) والجمع بالواو والنون مختص بالعقلاء. وقال
86

الواحدي: إنه تعالى لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل، فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * (الأعراف: 198) وكما في قوله: * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) * (النمل: 18). السؤال الثاني: قال: * (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر) * ثم أعاد لفظ الرؤيا مرة ثانية، وقال: * (رأيتهم لي ساجدين) * فما الفائدة في هذا التكرير؟
الجواب: قال القفال رحمه الله: ذكر الرؤية الأولى لتدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر، والثانية لتدل على مشاهدة كونها ساجدة له، وقال بعضهم: إنه لما قال: * (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر) * فكأنه قيل له: كيف رأيت؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين، وقال آخرون: يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية
والآخر من الرؤية، وهذا القائل لم يبين أن أيهما يحمل على الرؤيا وأيهما الرؤيا فذكر قولا مجملا غير مبين. السؤال الثالث: لم أخر الشمس والقمر؟
قلنا: أخرهما لفضلهما على الكواكب، لأن التخصيص بالذكر يدل على مزيد الشرف كما في قوله: * (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (البقرة: 98).
السؤال الرابع: المراد بالسجود نفس السجود أو التواضع كما في قوله: ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
قلنا: كلاهما محتمل، والأصل في الكلام حمله على حقيقته ولا مانع أن يرى في المنام أن الشمس والقمر والكواكب سجدت له.
السؤال الخامس: متى رأى يوسف عليه السلام هذه الرؤيا؟
قلنا: لا شك أنه رآها حال الصغر، فأما ذلك الزمان بعينه فلا يعلم إلا بالأخبار. قال وهب: رأى يوسف عليه السلام وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى ابتلعتها فذكر ذلك لأبيه فقال إياك أن تذكر هذا لأخوتك ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال لا تذكرها لهم فيكيدوا لك كيدا. وقيل: كان بين رؤيا يوسف ومصير أخوته إليه أربعون سنة وقيل: ثمانون سنة.
واعلم أن الحكماء يقولون إن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب، والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين. قالوا: والسبب في ذلك أن رحمة الله تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول
87

الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل، وأما الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدما على ظهوره بزمان طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذلك الخير أكثر وأتم.
السؤال السادس: قال بعضهم: المراد من الشمس والقمر أبوه وخالته فما السبب فيه؟
قلنا: إنما قالوا ذلك من حيث ورد في الخبر أن والدته توفيت وما دخلت عليه حال ما كان بمصر قالوا: ولو كان المراد من الشمس والقمر أباه وأمه لما ماتت لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام لا بد وأن تكون وحيا وهذه الحجة غير قوية لأن يوسف عليه السلام ما كان في ذلك الوقت من الأنبياء.
السؤال السابع: وما تلك الكواكب؟
قلنا: روى صاحب " الكشاف " أن يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام لليهودي: " إن أخبرتك هل تسلم " قال نعم قال: " جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلت من السماء وسجدت له " فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها.
واعلم أن كثيرا من هذه الأسماء غير مذكور في الكتب المصنفة في صورة الكواكب والله أعلم بحقيقة الحال.
قوله تعالى
* (قال يا بنى لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين * وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب كمآ أتمهآ على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حفص * (يا بني) * بفتح الياء والباقون بالكسر.
88

المسألة الثانية: أن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف وأخيه فحسده إخوته لهذا السبب وظهر ذلك المعنى ليعقوب عليه السلام بالأمارات الكثيرة فلما ذكر يوسف عليه السلام هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فقال لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها فيكيدوا لك كيدا.
المسألة الثالثة: قال الواحدي: الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا والشورى إلا أنه لما صار اسما لهذا المتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء. قال صاحب " الكشاف ": الرؤيا بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة فلا جرم فرق بينهما بحرفي التأنيث، كما قيل: القربة والقربى وقرئ رؤياك بقلب الهمزة واوا وسمع الكسائي يقرأ رياك ورياك بالإدغام وضم الراء وكسرها وهي ضعيفة.
ثم قال تعالى: * (فيكيدوا لك كيدا) * وهو منصوب بإضمار أن والمعنى إن قصصتها عليهم كادوك.
فإن قيل: فلم لم يقل فيكيدوك كما قال: * (فكيدوني) * (هود: 55).
قلنا: هذه اللام تأكيد للصلة كقوله * (للرؤيا تعبرون) *، وكقولك نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك، وقيل هي من صلة الكيد على معنى فيكيدوا كيدا لك. قال أهل التحقيق: وهذا يدل على أنه قد كان لهم علم بتعبير الرؤيا وإلا لم يعلموا من هذه الرؤيا ما يوجب حقدا وغضبا.
ثم قال: * (إن الشيطان للإنسان عدو مبين) * والسبب في هذا الكلام أنهم لو أقدموا على الكيد لكان ذلك مضافا إلى الشيطان ونظيره قول موسى عليه السلام هذا من عمل الشيطان، ثم إن يعقوب عليه السلام قصد بهذه النصيحة تعبير تلك الرؤيا وذكروا أمورا: أولها: قوله: * (وكذلك يجتبيك ربك) * يعني وكما اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبر شأن كذلك يجتبيك لأمور عظام. قال الزجاج: الاجتباء مشتق من جبيت الشيء إذا خلصته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض، واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء، فقال الحسن: يجتبيك ربك بالنبوة، وقال آخرون: المراد منه إعلاء الدرجة وتعظيم المرتبة فأما تعيين النبوة فلا دلالة في
اللفظ عليه. وثانيها: قوله: * (ويعلمك من تأويل الأحاديث) * وفيه وجوه: الأول: المراد منه تعبير الرؤيا سماه تأويلا لأنه يؤل أمره إلى ما رآه في المنام يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم. قالوا: إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية، والثاني: تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين، كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله، وتأويل الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والثالث: الأحاديث جمع حديث،
89

والحديث هو الحادث، وتأويلها مآلها، ومآل الحوادث إلى قدرة الله تعالى وتكوينه وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث كيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات الروحانية والجسمانية على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته، وثالثها: قوله: * (ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب) *.
واعلم أن من فسر الاجتباء بالنبوة لا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة ههنا بالنبوة أيضا وإلا لزم التكرار، بل يفسر إتمام النعمة ههنا بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة. أما سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم وإجلاله في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد. وأما سعادات الآخرة: فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى. وأما من فسر الاجتباء بنيل الدرجات العالية، فههنا يفسر إتمام النعمة بالنبوة ويتأكد هذا بأمور: الأول: أن إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان. وما ذاك في حق البشر إلا بالنبوة، فإن جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة ناقص بالنسبة إلى كمال النبوة، فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوة، والثاني: قوله: * (كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق) * ومعلوم أن النعمة التامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحق عن سائر البشر ليس إلا النبوة، فوجب أن يكون المراد بإتمام النعمة هو النبوة.
واعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء، وذلك لأنه قال: * (ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب) * وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب، فلما كان المراد من إتمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حق من عدا أبناءه فوجب أن لا يبقى معمولا به في حق أولاده. وأيضا أن يوسف عليه السلام قال: * (إني رأيت أحد عشر كوكبا) * وكان تأويله أحد عشر نفسا لهم فضل وكمال ويستضئ بعلمهم ودينهم أهل الأرض، لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى وذلك يقتضي أن يكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلا.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام؟
قلنا: ذاك وقع قبل النبوة، وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها.
القول الثاني: أن المراد من قوله: * (ويتم نعمته عليك) * خلاصه من المحن، ويكون وجه التشبيه في ذلك بإبراهيم وإسحق عليهما السلام هو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النار وعلى ابنه إسحق بتخليصه من الذبح.
والقول الثالث: أن إتمام النعمة هو وصل نعمة الله عليه في الدنيا بنعم الآخرة بأن
90

جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكا ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة.
واعلم أن القول الصحيح هو الأول، لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة، وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها، ثم إنه عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله: * (إن ربك عليم حكيم) * فقوله: * (عليم) * إشارة إلى قوله: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124) وقوله: * (حكيم) * إشارة إلى أن الله تعالى مقدس عن السفه والعبث، لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وجوهرة مشرقة علوية.
فإن قيل: هذه البشارات التي ذكرها يعقوب عليه السلام هل كان قاطعا بصحتها أم لا؟ فإن كان قاطعا بصحتها، فكيف حزن على يوسف عليه السلام، وكيف جاز أن يشتبه عليه أن الذئب أكله، وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه، وكيف قال لإخوته وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، مع علمه بأن الله سبحانه سيجتبيه ويجعله رسولا، فأما إذا قلنا إنه عليه السلام ما كان عالما بصحة هذه الأحوال، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها حكما جازما من غير تردد؟.
قلنا: لا يبعد أن يكون قوله: * (وكذلك يجتبيك ربك) * مشروطا بأن لا يكيدوه، لأن ذكر ذلك قد تقدم، وأيضا فبتقدير أن يقال: إنه عليه السلام كان قاطعا بأن يوسف عليه السلام سيصل إلى هذه المناصب إلا أنه لا يمتنع أن يقع في المضايق الشديدة ثم يتخلص منها ويصل إلى تلك المناصب فكان خوفه لهذا السبب ويكون معنى قوله: * (وأخاف أن يأكله الذئب) * (يوسف: 13) الزجر عن التهاون في حفظه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه.
* (لقد كان فى يوسف وإخوته ءايات للسآئلين * إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين) *.
في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكر صاحب " الكشاف " أسماء إخوة يوسف: يهودا، روبيل، شمعون لاوي، ربالون، يشجر، دينة، دان، نفتالي، جاد، آشر. ثم قال: السبعة الأولون من ليا بنت
91

خالة يعقوب والأربعة الآخرون من سريتين زلفة وبلهة، فلما توفيت ليا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف.
المسألة الثانية: قوله: * (آيات للسائلين) * قرأ ابن كثير آية بغير ألف حمله على شأن يوسف والباقون * (آيات) * على الجمع لأن أمور يوسف كانت كثيرة وكل واحد منها آية بنفسه.
المسألة الثالثة: ذكروا في تفسير قوله تعالى: * (آيات للسائلين) * وجوها: الأول: قال ابن عباس دخل حبر من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع منه قراءة يوسف فعاد إلى اليهود فأعلمهم أنه سمعها منه كما هي في التوراة، فانطلق نفر منهم فسمعوا كما سمع، فقالوا له من علمك هذه القصة؟ فقال: الله علمني، فنزل
: * (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) * وهذا الوجه عندي بعيد، لأن المفهوم من الآية أن في واقعة يوسف آيات للسائلين وعلى هذا الوجه الذي نقلناه ما كانت الآيات في قصة يوسف، بل كانت الآيات في أخبار محمد صلى الله عليه وسلم عنها من غير سبق تعلم ولا مطالعة وبين الكلامين فرق ظاهر. والثاني: أن أهل مكة أكثرهم كانوا أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام وكانوا ينكرون نبوته ويظهرون العداوة الشديدة معه بسبب الحسد فذكر الله تعالى هذه القصة وبين أن إخوة يوسف بالغوا في إيذائه لأجل الحسد وبالآخرة فإن الله تعالى نصره وقواه وجعلهم تحت يده ورايته، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل كانت زجرا له عن الإقدام على الحسد والثالث: أن يعقوب لما عبر رؤيا يوسف وقع ذلك التعبير ودخل في الوجود بعد ثمانين سنة فكذلك أن الله تعالى لما وعد محمدا عليه الصلاة والسلام بالنصر والظفر على الأعداء، فإذا تأخر ذلك الموعود مدة من الزمان لم يدل ذلك على كون محمد عليه الصلاة والسلام كاذبا فيه فذكر هذه القصة نافع من هذا الوجه. الرابع: أن إخوة يوسف بالغوا في إبطال أمره، ولكن الله تعالى لما وعده بالنصر والظفر كان الأمر كما قدره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء، فكذلك واقعة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله لما ضمن له إعلاء الدرجة لم يضره سعي الكفار في إبطال أمره. وأما قوله: * (للسائلين) * فاعلم أن هذه القصة فيها آيات كثيرة لمن سأل عنها، وهو كقوله تعالى: * (في أربعة أيام سواء للسائلين) * (فصلت: 10).
ثم قال تعالى: * (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: * (ليوسف) * اللام لام الابتداء، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة. أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر لا شبهة فيه وأخوه هو بنيامين، وإنما قالوا أخوه، وهم جميعا إخوة لأن أمهما كانت واحدة والعصبة والعصابة العشرة فصاعدا، وقيل إلى الأربعين سموا بذلك
92

لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور، ونقل عن علي عليه السلام أنه قرأ * (ونحن عصبة) * بالنصب قيل: معناه ونحن نجتمع عصبة.
المسألة الثانية: المراد منه بيان السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف، وذلك أن يعقوب كان يفضل يوسف وأخاه على سائر الأولاد في الحب وأنهم تأذوا منه لوجوه: الأول: أنهم كانوا أكبر سنا منهما. وثانيها: أنهم كانوا أكثر قوة وأكثر قياما بمصالح الأب منهما. وثالثها: أنهم قالوا إنا نحن القائمون بدفع المفاسد والآفات، والمشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات. إذا ثبت ما ذكرناه من كونهم متقدمين على يوسف وأخيه في هذه الفضائل، ثم إنه عليه السلام كان يفضل يوسف وأخاه عليهم لا جرم قالوا: * (إن أبانا لفي ضلال مبين) * يعني هذا حيف ظاهر وضلال بين. وههنا سؤالات:
السؤال الأول: إن من الأمور المعلومة أن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد، ويورث الآفات، فلما كان يعقوب عليه السلام عالما بذلك فلم أقدم على هذا التفضيل وأيضا الأسن والأعلم والأنفع أفضل، فلم قلب هذه القضية؟
والجواب: أنه عليه السلام ما فضلهما على سائر الأولاد إلا في المحبة، والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذورا فيه ولا يلحقه بسبب ذلك لوم.
السؤال الثاني: أن أولاد يعقوب عليه السلام إن كانوا قد آمنوا بكونه رسولا حقا من عند الله تعالى فكيف اعترضوا عليه، وكيف زيفوا طريقته وطعنوا في فعله، وإن كانوا مكذبين لنبوته فهذا يوجب كفرهم.
والجواب: أنهم كانوا مؤمنين بنبوة أبيهم مقرين بكونه رسولا حقا من عند الله تعالى، إلا أنهم لعلهم جوزوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يفعلوا أفعالا مخصوصة بمجرد الاجتهاد، ثم إن اجتهادهم أدى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد، وذلك لأنهم كانوا يقولون هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ونحن متقدمون عليهما في السن والعقل والكفاية والمنفعة وكثرة الخدمة والقيام بالمهمات وإصراره على تقديم يوسف علينا يخالف هذا الدليل. وأما يعقوب عليه السلام فلعله كان يقول: زيادة المحبة ليست في الوسع والطاقة، فليس لله علي فيه تكليف. وأما تخصيصهما بمزيد البر فيحتمل أنه كان لوجوه: أحدها: أن أمهما ماتت وهما صغار. وثانيها: لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد، وثالثها: لعله عليه السلام وإن كان صغيرا إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدم أشرف وأعلى بما كان يصدر عن سائر الأولاد، والحاصل
93

أن هذه المسألة كانت اجتهادية، وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر أو في عرضه.
السؤال الثالث: أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال المبين، وذلك مبالغة في الذم والطعن، ومن بالغ في الطعن في الرسول كفر، لا سيما إذا كان الطاعن ولدا فإن حق الأبوة يوجب مزيد التعظيم.
والجواب: المراد منه الضلال عن رعاية المصالح في الدنيا لا البعد عن طريق الرشد والصواب.
السؤال الرابع: أن قولهم: * (ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا) * محض الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيما وقد أقدموا على الكذب بسبب ذلك الحسد، وعلى تضييع ذلك الأخ الصالح وإلقائه في ذل العبودية وتبعيده عن الأب المشفق، وألقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب فما بقيت خصلة مذمومة ولا طريقة في الشر والفساد إلا وقد أتوا بها، وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوة.
والجواب: الأمر كما ذكرتم، إلا أن المعتبر عندنا عصمة الأنبياء عليهم السلام في وقت حصول النبوة. وأما قبلها فذلك غير واجب والله أعلم.
* (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قآئل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه فى غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين) *.
واعلم أنه لما قوي الحسد وبلغ النهاية قالوا لا بد من تبعيد يوسف عن أبيه: وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع
أبيه ولا وجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك، ثم ذكروا العلة فيه وهي قولهم: * (يخل لكم وجه أبيكم) * والمعنى أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة * (وتكونوا من بعده قوما صالحين) * وفيه وجوه: الأول: أنهم علموا أن ذلك الذي عزموا عليه من الكبائر فقالوا: إذا فعلنا ذلك تبنا إلى الله ونصير من القوم الصالحين. والثاني: أنه ليس المقصود ههنا صلاح الدين بل المعنى يصلح شأنكم عند أبيكم ويصير أبوكم محبا لكم مشتغلا بشأنكم. الثالث: المراد أنكم بسبب
94

هذه الوحشة صرتم مشوشين لا تتفرغون لإصلاح مهم، فإذا زالت هذه الوحشة تفرغتم لإصلاح مهماتكم، واختلفوا في أن هذا القائل الذي أمر بالقتل من كان؟ على قولين: أحدهما: أن بعض إخوته قال هذا. والثاني: أنهم شاوروا أجنبيا فأشار عليهم بقتله، ولم يقل ذلك أحد من إخوته، فأما من قال بالأول فقد اختلفوا فقال وهب: إنه شمعون، وقال مقاتل: روبيل.
فإن قيل: كيف يليق هذا بهم وهم أنبياء؟
قلنا: من الناس من أجاب عنه بأنهم كانوا في هذا الوقت مراهقين وما كانوا بالغين، وهذا ضعيف، لأنه يبعد من مثل نبي الله تعالى يعقوب عليه السلام أن يبعث جماعة من الصبيان من غير أن يكون معهم إنسان عاقل يمنعهم من القبائح. وأيضا أنهم قالوا: * (وتكونوا من بعده قوما صالحين) * وهذا يدل على أنهم قبل التوبة لا يكونون صالحين، وذلك ينافي كونهم من الصبيان، ومنهم من أجاب بأن هذا من باب الصغائر، وهذا أيضا بعيد لأن إيذاء الأب الذي هو نبي معصوم، والكذب معه والسعي في إهلاك الأخ الصغير كل واحد من ذلك من أمهات الكبائر، بل الجواب الصحيح أن يقال: إنهم ما كانوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء إلا أن هذه الواقعة إنما أقدموا عليها قبل النبوة.
ثم إنه تعالى حكى أن قائلا قال: * (لا تقتلوا يوسف) * قيل إنه كان روبيل وكان ابن خالة يوسف وكان أحسنهم رأيا فيه فمنعهم عن القتل، وقيل يهودا، وكان أقدمهم في الرأي والفضل والسن.
ثم قال: * (وألقوه في غيابت الجب) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع * (في غيابات الجب) * على الجمع في الحرفين، هذا والذي بعده، والباقون * (غيابة) * على الواحد في الحرفين. أما وجه الغيابات فهو أن للجب أقطارا ونواحي، فيكون فيها غيابات، ومن وحد قال: المقصود موضوع واحد من الجب يغيب فيه يوسف، فالتوحيد أخص وأدل على المعنى المطلوب. وقرأ الجحدري * (في غيبة الجب) *.
المسألة الثانية: قال أهل اللغة: الغيابة كل ما غيب شيئا وستره، فغيابة الجب غوره، وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله. والجب البئر التي ليست بمطوية سميت جبا، لأنها قطعت قطعا ولم يحصل فيها غير القطع من طي أو ما أشبه ذلك، وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين. المسألة الثالثة: الألف واللام في الجب تقتضي المعهود السابق، اختلفوا في ذلك الجب
95

فقال قتادة: هو بئر ببيت المقدس، وقال وهب: هو بأرض الأردن، وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم: * (يلتقطه بعض السيارة) * وذلك لأن تلك البئر كانت معروفة وكانوا يردون عليها كثيرا، وكان يعلم أنه إذا طرح فيها يكون إلى السلامة أقرب، لأن السيارة إذا جازوا وردوها، وإذا وردوها شاهدوا ذلك الإنسان فيها، وإذا شاهدوه أخرجوه وذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك.
المسألة الرابعة: الالتقاط تناول الشيء من الطريق، ومنه: اللقطة واللقيط، وقرأ الحسن * (تلتقطه) * بالتاء على المعنى، لأن بعض السيارة أيضا سيارة، والسيارة الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر. قال ابن عباس: يريد المارة وقوله: * (إن كنتم فاعلين) * فيه إشارة إلى أن الأولى أن لا تفعلوا شيئا من ذلك، وأما إن كان ولا بد فاقتصروا على هذا القدر ونظيره قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * (النحل: 126) يعني الأولى أن لا تفعلوا ذلك.
قوله تعالى
* (قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون) *.
اعلم أن هذا الكلام يدل على أن يعقوب عليه السلام كان يخافهم على يوسف ولولا ذلك وإلا لما قالوا هذا القول.
واعلم أنهم لما أحكموا العزم ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه، وكانت عادتهم أن يغيبوا عنه مدة إلى الرعي فسألوه أن يرسله معهم وقد كان عليه السلام يحب تطييب قلب يوسف فاغتر بقولهم وأرسله معهم. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": * (لا تأمنا) * قرىء بإظهار النونين وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام، والمعنى لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به.
المسألة الثانية: في * (يرتع ويلعب) * خمس قراآت:
القراءة الأولى: قرأ ابن كثير: بالنون، وبكسر عين نرتع من الارتعاء، ويلعب بالياء والارتعاء افتعال من رعيت، يقال: رعت الماشية الكلأ ترعاه رعيا إذا أكلته، وقوله: * (نرتع) *
96

الارتعاء للإبل والمواشي، وقد أضافوه إلى أنفسهم، لأن المعنى نرتع إبلنا، ثم نسبوه إلى أنفسهم لأنهم هم السبب في ذلك الرعي، والحاصل أنهم أضافوا الارتعاء
والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم لأنهم بالغون كاملون وأضافوا اللعب إلى يوسف لصغره.
القراءة الثانية: قرأ نافع: كلاهما بالياء وكسر العين من يرتع أضاف الارتعاء إلى يوسف بمعنى أنه يباشر رعي الإبل ليتدرب بذلك فمرة يرتع ومرة يلعب كفعل الصبيان.
القراءة الثالثة: قرأ أبو عمرو وابن عامر * (نرتع) * بالنون وجزم العين ومثله نلعب. قال ابن الأعرابي: الرتع الأكل بشره، وقيل: إنه الخصب، وقيل: المراد من اللعب الإقدام على المباحات وهذا يوصف به الإنسان، وأما نلعب فروي أنه قيل لأبي عمرو: كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ فقال لم يكونوا يومئذ أنبياء، وأيضا جاز أن يكون المراد من اللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر: " فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك " وأيضا كان لعبهم الاستباق، والغرض منه تعلم المحاربة والمقاتلة مع الكفار، والدليل عليه قولهم: إنا ذهبنا نستبق وإنما سموه لعبا لأنه في صورته.
القراءة الرابعة: قرأ أهل الكوفة: كليهما بالياء وسكون العين، ومعناه إسناد الرتع واللعب إلى يوسف عليه السلام.
القراءة الخامسة: * (يرتع) * بالياء * (ونلعب) * بالنون وهذا بعيد، لأنهم إنما سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا باللعب، والله أعلم.
قوله تعالى
* (قال إنى ليحزننى أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنآ إذا لخاسرون) *.
اعلم أنهم لما طلبوا منه أن يرسل يوسف معهم اعتذر إليهم بشيئين: أحدهما: أن ذهابهم به ومفارقتهم إياه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. والثاني: خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم أو لعبهم لقلة اهتمامهم به. قيل: إنه رأى في النوم أن الذئب شد على يوسف، فكان يحذره فمن هذا ذكر ذلك، وكأنه لقنهم الحجة، وفي أمثالهم البلاء موكل بالمنطق. وقيل: الذئاب كانت في أراضيهم كثيرة، وقرئ * (الذئب) * بالهمز على الأصل وبالتخفيف. وقيل: اشتقاقه من
97

تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة، فلما ذكر يعقوب عليه السلام هذا الكلام أجابوا بقولهم: * (لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون) * وفيه سؤالات:
السؤال الأول: ما فائدة اللام في قوله: * (لئن أكله الذئب) *.
والجواب من وجهين: الأول: أن كلمة إن تفيد كون الشرط مستلزما للجزاء، أي إن وقعت هذه الواقعة فنحن خاسرون، فهذه اللام دخلت لتأكيد هذا الاستلزام. الثاني: قال صاحب " الكشاف " هذه اللام تدل على إضمار القسم تقديره: والله لئن أكله الذئب لكنا خاسرين.
السؤال الثاني: ما فائدة الواو في قوله: * (ونحن عصبة) *.
الجواب: أنها واو الحال حلفوا لئن حصل ما خافه من خطف الذئب أخاهم من بينهم وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب إنهم إذا لقوم خاسرون.
السؤال الثالث: ما المراد من قولهم: * (إنا إذا لخاسرون) *.
الجواب فيه وجوه: الأول: خاسرون أي هالكون ضعفا وعجزا، ونظيره قوله تعالى: * (لئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) * (المؤمنون: 34) أي لعاجزون: الثاني: أنهم يكونون مستحقين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار وأن يقال خسرهم الله تعالى ودمرهم حين أكل الذئب أخاهم وهم حاضرون. الثالث: المعنى أنا إن لم نقدر على حفظ أخينا فقد هلكت مواشينا وخسرناها. الرابع: أنهم كانوا قد أتعبوا أنفسهم في خدمة أبيهم واجتهدوا في القيام بمهماته وإنما تحملوا تلك المتاعب ليفوزوا منه بالدعاء والثناء فقالوا: لو قصرنا في هذه الخدمة فقد أحبطنا كل تلك الأعمال وخسرنا كل ما صدر منا من أنواع الخدمة.
السؤال الرابع: أن يعقوب عليه السلام اعتذر بعذرين فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر؟
والجواب: أن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأول، وهو شدة حبه له فلما سمعوا ذكر ذلك المعنى تغافلوا عنه.
قوله تعالى
* (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينآ إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) *.
98

اعلم أنه لا بد من الإضمار في هذه الآية في موضعين: الأول: أن تقدير الآية قالوا: * (لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون) * فأذن له وأرسله معهم ثم يتصل به قوله: * (فلما ذهبوا به) * والثاني: أنه لا بد لقوله: * (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب) * من جواب إذ جواب لما غير مذكور وتقديره فجعلوه فيها، وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلا عليه وههنا كذلك. قال السدي: إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة الشديدة، وجعل هذا الأخ يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه ولا يرى فيهم رحيما فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يقول يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك، فقال يهودا أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه فانطلقوا به إلى الجب يدلونه فيه وهو متعلق بشفير البئر فنزعوا قميصه، وكان غرضهم أن يلطخوه بالدم ويعرضوه على يعقوب، فقال لهم ردوا علي قميصي لأتوارى به، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا لتؤنسك، ثم دلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة فقام بها وهو يبكي فنادوه فظن أنه رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فقام يهودا فمنعهم وكان يهودا يأتيه بالطعام، وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال يا شاهدا غير غائب. ويا قريبا غير بعيد. ويا غالبا غير مغلوب. اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، وروي أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار جرد عن ثيابه فجاءه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحق، وإسحق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف عليه السلام فجاء جبريل عليه السلام فأخرجه وألبسه إياه.
ثم قال تعالى: * (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (وأوحينا إليه) * قولان: أحدهما: أن المراد منه الوحي والنبوة والرسالة وهذا قول طائفة عظيمة من المحققين، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام هل كان في ذلك الوقت بالغا أو كان صبيا قال بعضهم: إنه كان في ذلك الوقت بالغا وكان سنه سبع عشرة سنة، وقال آخرون: إنه كان صغيرا إلا أن الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحا لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عليه السلام.
والقول الثاني: إن المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى: * (وأوحينا إلى أم موسى) * (القصص: 7) وقوله: * (وأوحى ربك إلى النحل) * (النحل: 68) والأول: لأن الظاهر من الوحي ذلك.
فإن قيل: كيف يجعله نبيا في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟
قلنا: لا يمتنع أن يشرفه بالوحي والتنزيل ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة
99

تقديم الوحي تأنيسه وتسكين نفسه وإزالة الغم والوحشة عن قلبه.
المسألة الثانية: في قوله: * (وهم لا يشعرون) * قولان: الأول: المراد أن الله تعالى أوحى إلى يوسف إنك لتخبرن إخوتك بصنيعهم بعد هذا اليوم وهم لا يشعرون في ذلك الوقت إنك يوسف، والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصير مستوليا عليهم ويصيرون تحت قهره وقدرته. وروي أنهم حين دخلوا عليه لطلب الحنطة وعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فظن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه في البئر وقلتم لأبيكم أكله الذئب. والثاني: أن المراد إنا أوحينا إلى يوسف عليه السلام في البئر بأنك تنبئ إخوتك بهذه الأعمال، وهم ما كانوا يشعرون بنزول الوحي عليه، والفائدة في إخفاء نزول ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.
المسألة الثالثة: إذا حملنا قوله: * (وهم لا يشعرون) * على التفسير الأول، كان هذا أمرا من الله تعالى نحو يوسف في أن يستر نفسه عن أبيه وأن لا يخبره بأحوال نفسه، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه طول تلك المدة، مع علمه بوجد أبيه به خوفا من مخالفة أمر الله تعالى، وصبر على تجرع تلك المرارة، فكان الله سبحانه وتعالى قد قضى على يعقوب عليه السلام أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى الله تعالى، وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وجآءوا أباهم عشآء يبكون * قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ومآ أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجآءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) *.
اعلم أنهم لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء باكين ورواه ابن جني
100

عشا بضم العين والقصر وقال: عشوا من البكاء فعند ذلك فزع يعقوب وقال: هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا قال: فما فعل يوسف؟ قالوا: * (ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب) * فبكى وصاح وقال: أين القميص؟ فطرحه على وجهه حتى تخضب وجهه من دم القميص، وروي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي: يا أبا أمية ما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق، واختلفوا في معنى الاستباق قال الزجاج: يسابق بعضهم بعضا في الرمي، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر " يعني بالنصل الرمي، وأصل السبق في الرمي بالسهم هو أن يرمي اثنان ليتبين أيهما يكون أسبق سهما وأبعد غلوة، ثم يوصف المتراميان بذلك فيقال: استبقا وتسابقا إذا فعلا ذلك ليتبين أيهما أسبق سهما ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن في قراءة عبد الله * (إنا ذهبنا ننتضل) *. والقول الثاني: في تفسير الاستباق ما قاله السدي ومقاتل: * (نستبق) * نشتد ونعدو ليتبين أينا أسرع عدوا.
فإن قيل: كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون وهذا من فعل الصبيان؟
قلنا: الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ولأنه كالآلة لهم في محاربة العدو ومدافعة الذئب إذا اختلس الشاة وقوله: * (فأكله الذئب) * قيل أكل الذئب يوسف وقيل عرضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع، والوجه هو الأول.
ثم قالوا: * (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ليس المعنى أن يعقوب عليه السلام لا يصدق من يعلم أنه صادق، بل المعنى لو كنا عندك من أهل الثقة والصدق لاتهمتنا في يوسف لشدة محبتك إياه ولظننت أنا قد كذبنا والحاصل أنا وإن كنا صادقين لكنك لا تصدقنا لأنك تتهمنا. وقيل: المعنى: إنا وإن كنا صادقين فإنك لا تصدقنا لأنه لم تظهر عندك أمارة تدل على صدقنا.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان في أصل اللغة عبارة عن التصديق، لأن المراد من قوله: * (وما أنت بمؤمن لنا) * أي بمصدق، وإذا ثبت أن الأمر كذلك في أصل اللغة وجب أن يبقى في عرف الشرع كذلك، وقد سبق الاستقصاء فيه في أول سورة البقرة في تفسير قوله: * (الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3).
ثم قال تعالى: * (وجاؤا على قميصه بدم كذب) * وفيه مسائل:
101

المسألة الأولى: إنما جاؤوا بهذا القميص الملطخ بالدم ليوهم كونهم صادقين في مقالتهم. قيل: ذبحوا جديا ولطخوا ذلك القميص بدمه. قال القاضي: ولعل غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيدا لصدقهم، لأنه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعا في نفس القميص ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الإيهام أقوى، فلما شاهد يعقوب القميص صحيحا علم كذبهم.
المسألة الثانية: قوله: * (وجاؤا على قميصه) * أي وجاؤا فوق قميصه بدم كما يقال: جاؤوا على جمالهم بأحمال.
المسألة الثالثة: قال أصحاب العربية وهم الفراء والمبرد والزجاج وابن الأنباري * (بدم كذب) * أي مكذوب فيه، إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير دم ذي كذب ولكنه جعل نفسه كذبا للمبالغة قالوا: والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال: ماء سكب، أي مسكوب ودرهم ضرب الأمير وثوب نسج اليمن، والفاعل كقوله: * (إن أصبح ماؤكم غورا) * (الملك: 30) ورجل عدل وصوم، ونساء نوح ولما سميا بالمصدر سمي المصدر أيضا بهما فقالوا: للعقل المعقول، وللجلد المجلود، ومنه قوله تعالى * (بأيكم المفتون) * (القلم: 6) وقوله: * (إذا مزقتم كل ممزق) * (سبأ: 7) قال الشعبي: قصة يوسف كلها في قميصه، وذلك لأنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه، ولما شهد الشاهد قال: * (إن كان قميصه قد من قبل) * (يوسف: 26) ولما أتي بقميصه إلى يعقوب عليه السلام فألقى على وجهه ارتد بصيرا، ثم ذكر تعالى أن أخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم قال يعقوب عليه السلام: * (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) *.
قال ابن عباس: معناه: بل زينت لكم أنفسكم أمرا. والتسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري: كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان، وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره. وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز وقال صاحب " الكشاف ": * (سولت) * سهلت من السول وهو الاسترخاء.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (بل) * رد لقولهم: * (أكله الذئب) * كأنه قال: ليس كما تقولون: * (بل سولت لكم أنفسكم) * في شأنه * (أمرا) * أي زينت لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون، واختلفوا في السبب الذي به عرف كونهم كاذبين على وجوه: لأول: أنه عرف ذلك بسبب أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم. والثاني: أنه كان عالما بأنه حي لأنه عليه الصلاة والسلام قال ليوسف: * (وكذلك يجتبيك ربك) * (يوسف: 6) وذلك دليل قاطع على أنهم كاذبون في ذلك.
102

القول الثالث: قال سعيد بن جبير: لما جاؤوا على قميصه بدم كذب، وما كان متخرقا، قال كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه، وعن السدي أنه قال: إن يعقوب عليه السلام قال: إن هذا الذئب كان رحيما، فكيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه؟ وقيل: إنه عليه السلام لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله اللصوص، فقال كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله؟ فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم. ثم قال يعقوب عليه السلام: * (فصبر جميل) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: منهم من قال: إنه مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: فصبر جميل أولى من الجزع، ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل. وقال قطرب: معناه: فصبري صبر جميل. وقال الفراء: فهو صبر جميل.
المسألة الثانية: كان يعقوب عليه السلام قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة، فقيل له: ما هذا؟ فقال طول الزمان وكثرة الأحزان: فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وروي عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك أنها قالت: والله لئن حلفت لا تصدقوني وإن اعتذرت لا تعذروني، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده * (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * فأنزل الله عز وجل في عذرها ما أنزل.
المسألة الثالثة: عن الحسن أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: * (فصبر جميل) * فقال: " صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر " ويدل عليه من القرآن قوله تعالى: * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) * (يوسف: 86) وقال مجاهد: فصبر جميل، أي من غير جزع، وقال الثوري: من الصبر أن لا تحدث بوجعك ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك، وههنا بحث وهو أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب فأما الصبر على ظلم الظالمين، ومكر الماكرين فغير واجب، بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير، وههنا أن إخوة يوسف لما ظهر كذبهم وخيانتهم فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولم لم يبالغ في التفتيش والبحث سعيا منه في تخليص يوسف عليه السلام عن البلية والشدة إن كان في الأحياء وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه، فثبت أن الصبر في المقام مذموم.
ومما يقوي هذا السؤال أنه عليه الصلاة والسلام كان عالما بأنه حي سليم لأنه قال له: * (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) * (يوسف: 6) والظاهر أنه إنما قال هذا الكلام من الوحي وإذا كان عالما بأنه حي سليم فكان من الواجب أن يسعى في طلبه. وأيضا إن يعقوب عليه السلام كان رجلا عظيم القدر في نفسه، وكان من بيت عظيم شريف، وأهل العلم كانوا يعرفونه ويعتقدون فيه ويعظمونه فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في أنه
103

عليه السلام مع شدة رغبته في حضور يوسف عليه السلام، ونهاية حبه له لم يطلبه مع أن طلبه كان من الواجبات، فثبت أن هذا الصبر في هذا المقام مذموم عقلا وشرعا.
والجواب عنه: أن نقول لا جواب عنه إلا أن يقال إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة عليه، وتغليظا للأمر عليه، وأيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص، وأنه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضا لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة، ثم لم يرد هتك أستار سرائر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في
العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم فإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقم منه، فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر إلى الله تعالى بالكلية.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (فصبر جميل) * يدل على أن الصبر على قسمين منه ما قد يكون جميلا وما قد يكون غير جميل، فالصبر الجميل هو أن يعرف أن منزل ذلك البلاء هو الله تعالى، ثم يعلم أن الله سبحانه مالك الملك ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعا له من إظهار الشكاية.
والوجه الثاني: أنه يعلم أن منزل هذا البلاء، حكيم لا يجهل، وعالم لا يغفل، عليم لا ينسى رحيم لا يطغى، وإذا كان كذلك، فكان كل ما صدر عنه حكمة وصوابا، فعند ذلك يسكت ولا يعترض. والوجه الثالث: أنه ينكشف له أن هذا البلاء من الحق، فاستغراقه في شهود نور المبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء ولذلك قيل: المحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء، لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والحظ وموصل النصيب لا يكون محبوبا بالذات بل بالعرض، فهذا هو الصبر الجميل. أما إذا كان الصبر لا لأجل الرضا بقضاء الحق سبحانه بل كان لسائر الأغراض، فذلك الصبر لا يكون جميلا، والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات أن كل ما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسنا وإلا فلا، وههنا يظهر صدق ما روي في الأثر " استفت قلبك، ولو أفتاك المفتون " فليتأمل الرجل تأملا شافيا، أن الذي أتى به هل الحاصل والباعث عليه طلب العبودية أم لا؟ فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع البتة. ولما ذكر يعقوب قوله: * (فصبر جميل) * قال: * (والله المستعان على
104

ما تصفون) * والمعنى: أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى، لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا، فكأنه وقعت المحاربة بين الصنفين، فما لم تحصر إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة، فقوله: * (فصبر جميل) * يجري مجرى قوله: * (إياك نعبد) * (الفاتحة: 5) وقوله: * (والله المستعان على ما تصفون) * يجري مجرى قوله: * (وإياك نستعين) * (الفاتحة: 5).
قوله تعالى
* (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) *.
اعلم أنه تعالى بين كيف سهل السبيل في خلاص يوسف من تلك المحنة، فقال: * (وجاءت سيارة) * يعني رفقة تسير للسفر. قال ابن عباس: جاءت سيارة أي قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطؤا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف عليه السلام، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة، وقيل: كان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف عليه السلام فأرسلوا رجلا يقال له: مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء، والوارد الذي يرد الماء ليستقي القوم * (فأدلى دلوه) * ونقل الواحدي عن عامة أهل اللغة أنه يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر ودلاها إذا نزعها من البئر يقال: أدلى يدلي إدلاء إذا أرسل ودلا يدلو دلوا إذا جذب وأخرج، والدلو معروف، والجمع دلاء * (قال يا بشرى هذا غلام) * وههنا محذوف، والتقدير: فظهر يوسف قال المفسرون: لما أدلى الوارد دلوه وكان يوسف في ناحية من قعر البئر تعلق بالحبل فنظر الوارد إليه ورأى حسنه نادى، فقال: يا بشرى. وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (بشرى) * بغير الألف وبسكون الياء، والباقون يا بشراي بالألف وفتح الياء على الإضافة.
المسألة الثانية: في قوله: * (يا بشرى) * قولان:
القول الأول: أنها كلمة تذكر عند البشارة ونظيره قولهم: يا عجبا من كذا وقوله: * (يا أسفا
105

على يوسف) * وعلى هذا القول ففي تفسير النداء وجهان: الأول: قال الزجاج: معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب تنبيه المخاطبين وتوكيد القصة فإذا قلت: يا عجباه فكأنك قلت اعجبوا. الثاني: قال أبو علي: كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك، ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن ولأمرت بالحضور.
واعلم أن سبب البشارة هو أنهم وجدوا غلاما في غاية الحسن وقالوا: نبيعه بثمن عظيم ويصير ذلك سببا لحصول الغنى.
والقول الثاني: وهو الذي ذكره السدي أن الذي نادى صاحبه وكان اسمه، فقال يا بشرى كما تقول يا زيد. وعن الأعمش أنه قال: دعا امرأة اسمها بشرى * (يا بشرى) * قال أبو علي الفارسي: إن جعلنا البشرى اسما للبشارة، وهو الوجه جاز أن يكون في محل الرفع كما قيل: يا رجل لاختصاصه بالنداء، وجاز أن يكون في موضع النصب على تقدير: أنه جعل ذلك النداء شائعا في جنس البشرى، ولم يخص كما تقول: يا رجلا * (ويا حسرة على العباد) * (يس: 30).
وأما قوله تعالى: * (وأسروه بضاعة) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: الضمير في * (وأسروه) * إلى من يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه في الجب، وذلك لأنهم قالوا: إن قلنا للسيارة التقطناه شاركونا فيه، وإن قلنا اشتريناه: سألونا الشركة، فالأصوب أن نقول: إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر. والثاني: نقل عن ابن عباس أنه قال: * (وأسروه) * يعني: إخوة يوسف أسروا شأنه، والمعنى: أنهم أخفوا كونه أخا لهم، بل قالوا: إنه عبد لنا أبق منا وتابعهم على ذلك يوسف لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية، والأول أولى لأن قوله: * (وأسروه بضاعة) * يدل على أن المراد أسروه حال ما حكموا بأنه بضاعة، وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف.
المسألة الثانية: البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت اللحم إذا قطعته. قال الزجاج: وبضاعة منصوبة على الحال كأنه قال: وأسروه حال ما جعلوه بضاعة.
ثم قال تعالى: * (والله عليم بما يعملون) * والمراد منه أن يوسف عليه السلام لما رأى الكواكب والشمس والقمر في النوم سجدت له وذكر ذلك حسده إخوته عليه واحتالوا في إبطال ذلك الأمر عليه فأوقعوه في البلاء الشديد حتى لا يتيسر له ذلك المقصود، وأنه تعالى جعل وقوعه في ذلك البلاء سببا إلى وصوله إلى مصر، ثم تمادت وقائعه وتتابع الأمر إلى أن صار ملك مصر وحصل ذلك الذي رآه في النوم فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيره
106

الله تعالى سببا لحصول ذلك المطلوب، فلهذا المعنى قال: * (والله عليم بما يعملون) *.
ثم قال تعالى: * (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) * أما قوله: * (وشروه) * ففيه قولان:
القول الأول: المراد من الشراء هو البيع، وعلى هذا التقدير ففي ذلك البائع قولان:
القول الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن إخوة يوسف لما طرحوا يوسف في الجب ورجعوا عادوا بعد ثلاث يتعرفون خبره، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا: هذا عبدنا أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منا فباعوه منهم، والمراد من قوله: * (وشروه) * أي باعوه يقال: شريت الشيء إذا بعته، وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع، لأن الضمير في قوله: * (وشروه) * وفي قوله: * (وكانوا فيه من الزاهدين) * عائد إلى شيء واحد لكن الضمير في قوله: * (وكانوا فيه من الزاهدين) * عائد إلى الإخوة فكذا في قوله: * (وشروه) * يجب أن يكون عائدا إلى الإخوة، وإذا كان كذلك فهم باعوه فوجب حمل هذا الشراء على البيع.
والقول الثاني: أن بائع يوسف هم الذين استخرجوه من البئر، وقال محمد بن إسحاق: ربك أعلم أإخوته باعوه أم السيارة، وههنا قول آخر وهو أنه يحتمل أن يقال: المراد من الشراء نفس الشراء، والمعنى أن القوم اشتروه وكانوا فيه من الزاهدين، لأنهم علموا بقائن الحال أن إخوة يوسف كذابون في قولهم إنه عبدنا وربما عرفوا أيضا أنه ولد يعقوب فكرهوا شراءه خوفا من الله تعالى، ومن ظهور تلك الواقعة، إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة لأنهم اشتروه بثمن قليل مع أنهم أظهروا من أنفسهم كونهم فيه من الزاهدين، وغرضهم أن يتوصلوا بذلك إلى تقليل الثمن، ويحتمل أيضا أن يقال إن الأخوة لما قالوا: إنه عبدنا أبق صار المشتري عديم الرغبة فيه. قال مجاهد: وكانوا يقولون استوثقوا منه لئلا يأبق.
ثم اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث.
الصفة الأولى: كونه بخسا. قال ابن عباس: يريد حراما لأن ثمن الحر حرام، وقال كل بخس في كتاب الله نقصان إلا هذا فإنه حرام، قال الواحدي سموا الحرام بخسا لأنه ناقص البركة، وقال قتادة: بخس ظلم والظلم نقصان يقال ظلمه أي نقصه، وقال عكرمة والشعبي قليل وقيل: ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا، وقيل كانت الدراهم زيوفا ناقصة العيار. قال الواحدي رحمه الله تعالى: وعلى الأقوال كلها، فالبخس مصدر وضع موضع الاسم، والمعنى بثمن مبخوس.
الصفة الثانية: قوله: * (دراهم معدودة) * قيل تعد عدا ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا إذا بلغ أوقية، وهي الأربعون ويعدون ما دونها فقيل للقليل معدود، لأن الكثيرة يمتنع من عدها
107

لكثرتها، وعن ابن عباس كانت عشرين درهما، وعن السدي اثنين وعشرين درهما. قالوا والإخوة كانوا أحد عشر فكل واحد منهم أخذ درهمين إلا يهوذا لم يأخذ شيئا.
الصفة الثالثة: قوله: * (وكانوا فيه من الزاهدين) * ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه وأصله القلة. يقال: رجل زهيد إذا كان قليل الطمع، وفيه وجوه: أحدها: أن إخوة يوسف باعوه، لأنهم كانوا فيه من الزاهدين. والثاني: أن السيارة الذين باعوه كانوا فيه من الزاهدين، لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بأي شيء يبيعه أو لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بأوكس الأثمان. والثالث: أن الذين اشتروه كانوا فيه من الزاهدين، وقد سبق توجيه هذه الأقوال فيما تقدم، والضمير في قوله: * (فيه) * يحتمل أن يكون عائد إلى يوسف عليه السلام، ويحتمل أن يكون عائدا إلى الثمن البخس والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف فى الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه هناك. وقيل إن الذي اشتراه قطفير أو إطفير وهو العزيز الذي كان يلي خزائن مصر والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف عليه السلام فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الملك والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل كان الملك في أيامه فرعوه موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: * (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات) * (غافر: 34) وقيل فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، وقيل اشتراه
108

العزيز بعشرين دينارا، وفيل أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه ما يساويه في الوزن من المسك والورق والحرير فابتاعه قطفير بذلك الثمن. وقالوا: اسم تلك المرأة زليخا، وقيل راعيل.
واعلم أن شيئا من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن، ولم يثبت أيضا في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات، فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها.
المسألة الثانية: قوله: * (أكرمي مثواه) * (يوسف: 23) أي منزله ومقامه عندك من قولك ثويت بالمكان إذا أقمت به، ومصدره الثواء والمعنى: اجعلي منزله عندك كريما حسنا مرضيا بدليل قوله: * (إنه ربي أحسن مثواي) * وقال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه، يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال: سلام الله على المجلس العالي، ولما أمرها بإكرام مثواه علل ذلك بأن قال: * (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) * أي يقوم بإصلاح مهماتنا، أو نتخذه ولدا، لأنه كان لا يولد له ولد، وكان حصورا.
ثم قال تعالى: * (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) * أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجب مكناه بأن عطفنا عليه قلب العزيز، حتى توصل بذلك إلى أن صار متمكنا من الأمر والنهي في أرض مصر.
واعلم أن الكمالات الحقيقية ليست إلا القدرة والعلم وأنه سبحانه لما حاول إعلاء شأن يوسف ذكره بهذين الوصفين، أما تكميله في صفة القدرة والمكنة فإليه الإشارة بقوله: * (مكنا ليوسف في الأرض) * وأما تكميله في صفة العلم، فإليه الإشارة بقوله: * (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) * وقد تقدم تفسير هذه الكلمة.
واعلم أنا ذكرنا أنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال تعالى: * (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا) * (يوسف: 15) وذلك يدل ظاهرا على أنه تعالى أوحى إليه في ذلك الوقت. وعندنا الإرهاص جائز، فلا يبعد أن يقال: إن ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت ما كان لأجل بعثته إلى الخلق، بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام، ثم إنه تعالى قال ههنا * (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) * والمراد منه إرساله إلى الخلق بتبليغ التكاليف، ودعوة الخلق إلى الدين الحق، ويحتمل أيضا أن يقال: إن ذلك الوحي الأول كان لأجل الرسالة والنبوة ويحمل قوله: * (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) * على أنه تعالى أوحى إليه بزيادات ودرجات يصير بها كل يوم أعلى حالا مما كان قبله وقال ابن مسعود: أشد النار فراسة ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، والمرأة لما رأت موسى، فقالت: * (يا أبت استأجره) * (القصص: 26)
109

وأبو بكر حين استخلف عمر.
ثم قال تعالى: * (والله غالب على أمره) * وفيه وجهان: الأول: غالب على أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه، والثاني: والله غالب على أمر يوسف، يعني أن انتظام أموره كان إلهيا، وما كان بسعيه وإخوته أرادوا به كل سوء ومكروه والله أراد به الخير، فكان كما أراد الله تعالى ودبر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله. واعلم أن من تأمل في أحوال الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أن الأمر كله لله، وأن قضاء الله غالب.
قوله تعالى
* (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: وجه النظم أن يقال: بين تعالى أن إخوته لما أساؤا إليه، ثم إنه صبر على تلك الشدائد والمحن مكنه الله تعالى في الأرض، ثم لما بلغ أشده آتاه الله الحكم والعلم، والمقصود بيان أن جميع ما فاز به من النعم كان كالجزاء على صبره على تلك المحن، ومن الناس من قال: إن النبوة جزاء على الأعمال الحسنة، ومنهم من قال: إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى وشكر نعماء الله تعالى وجد منصب الرسالة. واحتجوا على صحة قولهم: بأنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة. ثم قال تعالى: * (وكذلك نجزي المحسنين) * وهذا يدل على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف، فإن الله يعطيه تلك المناصب، وهذا بعيد لاتفاق العلماء على أن النبوة غير مكتسبة.
واعلم أن من قال: إن يوسف ما كان رسولا ولا نبيا البتة، وإنما كان عبدا أطاع الله تعالى فأحسن الله إليه، وهذا القول باطل بالإجماع. وقال الحسن: إنه كان نبيا من الوقت الذي قال الله تعالى في حقه: * (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا) * (يوسف: 15) وما كان رسولا، ثم إنه صار رسولا من هذا الوقت أعني قوله: * (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما) * (يوسف: 22) ومنهم من قال: إنه كان رسولا من الوقت الذي ألقى في غيابة الجب.
المسألة الثانية: قال أبو عبيدة تقول العرب بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان وهذا اللفظ يستعمل في الواحد والجمع يقال بلغ أشده وبلغوا أشدهم، وقد ذكرنا تفسير الأشد في سورة الأنعام عند قوله: * (حتى يبلغ أشده) * (الأنعام: 152) وأما التفسير فروى ابن جرير عن مجاهد عن ابن عباس، ولما بلغ أشده قال ثلاثا وثلاثين سنة، وأقول هذه الرواية شديدة
110

الانطباق على القوانين الطبية وذلك لأن الأطباء قالوا إن الإنسان يحدث في أول الأمر ويتزايد كل يوم شيئا فشيئا إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال، ثم يأخذ في التراجع والانتقاص إلى أن لا يبقى منه شيء، فكانت حالته شبيهة بحال القمر، فإنه يظهر هلالا ضعيفا ثم لا يزال يزداد إلى أن يصير بدرا تاما، ثم يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق.
إذا عرفت هذا فنقول: مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوما وكسر فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام، كان كل قسم منها سبعة أيام، فلا جرم رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتم له سبع سنين، ثم إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوة ثم لا يزال في الترقي إلى أن يتم له أربع عشرة سنة. فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثالث. وهناك يكمل العقل ويبلغ إلى حد التكليف وتتحرك فيه الشهوة، ثم لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتم السنة الحادية والعشرين، وهناك يتم الأسبوع الثالث ويدخل في السنة الثانية والعشرين، وهذا الأسبوع آخر أسابيع النشوء والنماء، فإذا تمت السنة الثامنة والعشرون فقد تمت مدة النشوء والنماء، وينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف وهو الزمان الذي يبلغ الإنسان فيه أشده، وبتمام هذا الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمسة وثلاثون سنة، ثم إن هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان؛ فهذا الأسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدة والكمال يبتدأ من السنة التاسعة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين، وقد يمتد إلى الخامسة والثلاثين، فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب، والله أعلم بحقائق الأشياء.
المسألة الثالثة: في تفسير الحكم والعلم، وفيه أقوال:
القول الأول: أن الحكم والحكمة أصلهما حبس النفس عن هواها، ومنعها مما يشينها، فالمراد من الحكم الحكمة العملية، والمراد من العلم الحكمة النظرية. وإنما قدم الحكمة العملية هنا على العملية، لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية. وأما أصحاب الأفكار العقلية والأنظار الروحانية فإنهم يصلون إلى الحكمة النظرية أولا، ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية، وطريقة يوسف عليه السلام هو الأول، لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله عليه أبواب المكاشفات، فلهذا السبب قال: * (آتيناه حكما وعلما) *.
القول الثاني: الحكم هو النبوة، لأن النبي يكون حاكما على الخلق، والعلم علم الدين.
والقول الثالث: يحتمل أن يكون المراد من الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على نفسه الأمارة بالسوء مستعلية عليها قاهرة لها ومتى صارت القوة الشهوانية والغضبية مقهورة ضعيفة
111

فاضت الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس وتحقيق القول في هذا الباب أن جوهر النفس الناطقة خلقت قابلة للمعارف الكلية والأنوار العقلية، إلا أنه قد ثبت عندنا بحسب البراهين العقلية وبحسب المكاشفات العلوية أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة بالماهيات فمنها ذكية وبليدة ومنها حرة ونذلة ومنها شريفة وخسيسة، ومنها عظيمة الميل إلى عالم الروحانيات وعظيمة الرغبة في الجسمانيات فهذه الأقسام كثيرة وكل واحد من هذه المقامات قابل للأشد والأضعف والأكمل والأنقص فإذا اتفق أن كان جوهر النفس الناطقة جوهرا مشرقا شريفا شديد الاستعداد لقبول الأضواء العقلية واللوائح الإلهية، فهذه النفس في حال الصغر لا يظهر منها هذه الأحوال، لأن النفس الناطقة إنما تقوى على أفعالها بواسطة استعمال الآلات الجسدانية وهذه الآلات في حال الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت، فصارت تلك الآلات البدنية صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية وإذا كانت النفس في أصل جوهرها شريفة فعند كمال الآلات البدنية تكمل معارفها وتقوى أنوارها ويعظم لمعان الأضواء فيها، فقوله: * (ولما بلغ أشده) * إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية، وقوله: * (آتيناه حكما وعلما) * إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون) *.
اعلم أن يوسف عليه السلام كان في غاية الجمال والحسن، فلما رأته المرأة طمعت فيه ويقال أيضا إن زوجها كان عاجزا يقال: راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل واحد منها الوطء والجماع * (وغلقت الأبواب) * والسبب أن ذلك العمل لا يؤتى به إلا في المواضع المستورة لا سيما إذا كان حراما، ومع قيام الخوف الشديد وقوله: * (وغلقت الأبواب) * أي أغلقتها قال الواحدي: وأصل هذا من قولهم في كل شيء تشبث في شيء فلزمه قد غلق يقال: غلق في الباطل وغلق في غضبه، ومنه غلق الرهن، ثم يعدى بالألف فيقال: أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه. قال المفسرون: وإنما جاء غلقت على التكثير لأنها غلقت سبعة أبواب، ثم دعته إلى نفسها.
112

ثم قال تعالى: * (وقالت هيت لك) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي: هيت لك اسم للفعل نحو: رويدا، وصه، ومه. ومعناه هلم في قول جميع أهل اللغة، وقال الأخفش: * (هيت لك) * مفتوحة الهاء والتاء، ويجوز أيضا كسر التاء ورفعها. قال الواحدي: قال أبو الفضل المنذري: أفادني ابن التبريزي عن أبي زيد قال: هيت لك بالعبرانية هيالح، أي تعال عربه القرآن، وقال الفراء: إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى بكة فتكلموا بها. قال ابن الأنباري: وهذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في " القسطاس " ولغة العرب والفرس في السجيل ولغة العرب والترك في " الغساق " ولغة العرب والحبشة في " ناشئة الليل ".
المسألة الثانية: قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان * (هيت) * بكسر الهاء وفتح التاء، وقرأ ابن كثير * (هيت لك) * مثل حيث، وقرأ هشام بن عمار عن أبي عامر * (هئت لك) * بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء مثل جئت من تهيأت لك، والباقون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء، ثم إنه تعالى قال: إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام قال يوسف عليه السلام: * (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي) * فقوله: * (معاذ الله) * أي أعوذ بالله معاذا، والضمير في قوله: * (إنه) * للشأن والحديث * (ربي أحسن مثواي) * أي ربي وسيدي ومالكي أحسن مثواي حين قال لك: أكرمي مثواه، فلا يليق بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة
القبيحة * (إنه لا يفلح الظالمون) * الذين يجازون الإحسان بالإساءة، وقيل: أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم أو لأن عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه، وههنا سؤالات: السؤال الأول: أن يوسف عليه السلام كان حرا وما كان عبدا لأحد فقوله: * (إنه ربي) * يكون كذبا وذلك ذنب وكبيرة.
والجواب: أنه عليه السلام أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر وعلى وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبدا له وأيضا أنه رباه وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة فعنى بكونه ربا له كونه مربيا له، وهذا من باب المعاريض الحسنة، فإن أهل الظاهر يحملونه على كونه ربا له وهو كان يعني به أنه كان مربيا له ومنعما عليه.
السؤال الثاني: هل يدل قول يوسف عليه السلام: * (معاذ الله) * على صحة مذهبنا في القضاء والقدر.
والجواب: أنه يدل عليه دلالة ظاهرة لأن قوله عليه السلام أعوذ بالله معاذا، طلب من الله أن يعيذه من ذلك العمل، وتلك الإعاذة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل والآلة، وإزاحة
113

الأعذار، وإزالة الموانع وفعل الألطاف، لأن كل ما كان في مقدور الله تعالى من هذا الباب فقد فعله، فيكون ذلك إما طلبا لتحصيل الحاصل، أو طلبا لتحصيل الممتنع وأنه محال فعلمنا أن تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها، إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة وأن يزيل عن قلبه داعية المعصية، وذلك هو المطلوب، والدليل على أن المراد ما ذكرناه ما نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع بصره على زينب قال: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " وكان المراد منه تقوية داعية الطاعة، وإزالة داعية المعصية فكذا ههنا، وكذا قوله عليه السلام: " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن " فالمراد من الأصبعين داعية الفعل، وداعية الترك وهاتان الداعيتان لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى، وإلا لافتقرت إلى داعية أخرى ولزم التسلسل فثبت أن قول يوسف عليه السلام: * (معاذ الله) * من أدل الدلائل على قولنا والله أعلم.
السؤال الثالث: ذكر يوسف عليه السلام في الجواب عن كلامها ثلاثة أشياء: أحدها: قوله: * (معاذ الله) * والثاني: قوله تعالى عنه: * (إنه ربي أحسن مثواي) * والثالث: قوله: * (إنه لا يفلح الظالمون) * فما وجه تعلق بعض هذا الجواب ببعض؟
والجواب: هذا الترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن الانقياد لأمر الله تعالى وتكليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه وألطافه في حق العبد فقوله: * (معاذ الله) * إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل، وأيضا حقوق الخلق واجبة الرعاية، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقي يقبح مقابلة إنعامه وإحسانه بالإساءة، وأيضا صون النفس عن الضرر واجب، وهذه اللذة لذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة، واللذة القليلة إذا لزمها ضرر شديد، فالعقل يقتضي تركها والاحتراز عنها فقوله: * (إنه لا يفلح الظالمون) * إشارة إليه، فثبت أن هذه الجوابات الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه الترتيب.
قوله تعالى
* (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشآء إنه من عبادنا المخلصين) *.
اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها وفي هذه الآية مسائل:
114

المسألة الأولى: في أنه عليه السلام هل صدر عنه ذنب أم لا؟ وفي هذه المسألة قولان: الأول: أن يوسف عليه السلام هم بالفاحشة. قال الواحدي في كتاب " البسيط " قال المفسرون: الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضا بهذه المرأة هما صحيحا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه. قال جعفر الصادق رضي الله عنه بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال: طمعت فيه وطمع فيها فكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن وعنه أيضا أنها استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه، ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب، وما ذكر آية يحتج بها ولا حديثا صحيحا يعول عليه في تصحيح هذه المقالة، وما أمعن النظر في تلك الكلمات العارية عن الفائدة روي أن يوسف عليه السلام لما قال: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * (يوسف: 52) قال له جبريل عليه السلام ولا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك: * (وما أبرئ نفسي) * (يوسف: 53) ثم قال والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء عليهم السلام وارتفاع منازلهم عند الله تعالى من الذين نفوا لهم عنه، فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب.
والقول الثاني: أن يوسف عليه السلام كان بريئا عن العمل الباطل، والهم المحرم، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين، وبه نقول وعنه نذب.
واعلم أن الدلائل الدالة على وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام كثيرة، ولقد استقصيناها في سورة البقرة في قصة آدم عليه السلام فلا نعيدها إلا أنا نزيد ههنا وجوها:
فالحجة الأولى: أن الزنا من منكرات الكبائر والخيانة في معرض الأمانة أيضا من منكرات الذنوب، وأيضا مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضا من منكرات الذنوب، وأيضا الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكما قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال.
إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام! المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة. ثم إنه تعالى قال في غير هذه الواقعة: * (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) * (يوسف: 24) وذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عنه، ولا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع
115

وأفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئا من السوء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء والفحشاء. وأيضا فالآية تدل على قولنا من وجه آخر، وذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه، إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم والثناء البالغ، فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك الذنب العظيم، فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب وأفحش الأعمال ثم إنه يذكره بالمدح العظيم والثناء البالغ عقيبه، فإن ذلك يستنكر جدا فكذا ههنا والله أعلم. الثالث: أن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة، أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع، ولو كان يوسف عليه السلام أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية. الرابع: أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام من المعصية.
واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف عليه السلام، وتلك المرأة وزوجها، والنسوة والشهود ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب، وإبليس أقر ببراءته أيضا عن المعصية، وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب. أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام: * (هي راودتني عن نفسي) * (يوسف: 26) وقوله عليه السلام: * (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) * (يوسف: 33) وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة: * (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) * (يوسف: 32) وأيضا قالت: * (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) * (يوسف: 51) وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك، فهو قوله: * (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك) * (يوسف: 28، 29) وأما الشهود فقوله تعالى: * (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين) * (يوسف: 26) وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله: * (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) * (يوسف: 24) فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات: أولها: قوله: * (لنصرف عنه السوء) * واللام للتأكيد والمبالغة. والثاني: قوله: * (والفحشاء) * أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء. والثالث: قوله: * (إنه من عبادنا) * مع أنه تعالى قال: * (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) * (الفرقان: 63) والرابع: قوله: * (المخلصين) * وفيه قراءتان: تارة باسم الفاعل وأخرى باسم
116

المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتيا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص. ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته، وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزها عما أضافوه إليه، وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته، فلأنه قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) * (ص: 82، 83) فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى: * (إنه من عبادنا المخلصين) * فكان هذا إقرارا من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى، وعند هذا نقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة كما قال الخوارزمي:
فكنت امرأ من جند إبليس فارتقى * بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده * طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فثبت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام برئ عما يقوله هؤلاء الجهال.
وإذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين:
المقام الأول: أن نقول لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم بها. والدليل عليه: أنه تعالى قال: * (وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) * وجواب * (لولا) * ههنا مقدم، وهو كما يقال: قد كنت من الهالكين لولا أن فلانا خلصك، وطعن الزجاج في هذا الجواب من وجهين: الأول: أن تقديم جواب * (لولا) * شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح. الثاني: أن * (لولا) * يجاب جوابها باللام، فلو كان الأمر على ما ذكرتم لقال: ولقد همت ولهم بها لولا. وذكر غير الزجاج سؤالا ثالثا وهو أنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) * فائدة.
واعلم أن ما ذكره الزجاج بعيد، لأنا نسلم أن تأخير جواب * (لولا) * حسن جائز، إلا أن جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب، وكيف ونقل عن سيبويه أنه قال: إنهم يقدمون الأهم فالأهم، والذي هم بشأنه أعنى فكان الأمر في جواز التقديم والتأخير مربوطا بشدة الاهتمام. وأما تعيين بعض الألفاظ بالمنع فذلك مما لا يليق بالحكمة، وأيضا ذكر جواب * (لولا) * باللام جائز. أما هذا لا يدل على أن ذكره بغير اللام لا يجوز، ثم إنا نذكر آية أخرى تدل على فساد قول الزجاج في هذين السؤالين، وهو قوله تعالى: * (إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها) * (القصص: 10).
وأما السؤال الثالث: وهو أنه لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) * فائدة.
117

فنقول: بل فيه أعظم الفوائد، وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته في النساء، وعدم قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: إن الذي يدل على أن جواب * (لولا) * ما ذكرناه أن * (لولا) * تستدعي جوابا، وهذا المذكور يصلح جوابا له، فوجب الحكم بكونه جوابا له لا يقال إنا نضمر له جوابا، وترك الجواب كثير في القرآن، لأنا نقول: لا نزاع أنه كثير في القرآن، إلا أن الأصل أن لا يكون محذوفا. وأيضا فالجواب إنما يحسن تركه وحذفه إذا حصل
في اللفظ ما يدل على تعينه، وههنا بتقدير أن يكون الجواب محذوفا فليس في اللفظ ما يدل على تعين ذلك الجواب، فإن ههنا أنواعا من الإضمارات يحسن إضمار كل واحد منها، وليس إضمار بعضها أولى من إضمار الباقي فظهر الفرق. والله أعلم.
المقام الثاني: في الكلام على هذه الآية أن نقول: سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول: إن قوله: * (وهم بها) * لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال لأن الهم من جنس القصد والقصد لا يتعلق بالذوات الباقية، فثبت أنه لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم وذلك الفعل غير مذكور فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ونحن نضمر شيئا آخر يغاير ما ذكروه وبيانه من وجوه: الأول: المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأن الهم هو القصد، فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به، فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتنعيم والتمتع واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته وإلى الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، يقال: هممت بفلان أي بضربه ودفعه.
فإن قالوا: فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) * فائدة.
قلنا: بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صونا للنفس عن الهلاك، والثاني: أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به، فكان يتمزق ثوبه من قدام، وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن، ولو كان ثوبه ممزقا من خلف لكانت المرأة هي الخائنة، فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هاربا عنها، حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني: في الجواب أن يفسر الهم بالشهوة، وهذا مستعمل في اللغة الشائعة. يقول القائل: فيما لا يشتهيه ما يهمني هذا، وفيما يشتهيه هذا أهم الأشياء إلي، فسمى الله تعالى شهوة يوسف
118

عليه السلام هما، فمعنى الآية: ولقد اشتهته واشتهاها لولا أن رأى برهان ربه لدخل ذلك العمل في الوجود. الثالث: أن يفسر الهم بحديث النفس، وذلك لأن المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلا بد وأن يقع هناك بين الحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات، فتارة تقوى داعية الطبيعة والشهوة وتارة تقوى داعية العقل والحكمة. فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية، ومثال ذلك أن الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف، إذا رأى الجلاب المبرد بالثلج فإن طبيعته تحمله على شربه، إلا أن دينه وهداه يمنعه منه، فهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل، فقد ظهر بحمد الله تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين، ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين.
واعلم أن بعض الحشوية روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات " فقلت الأولى أن لا نقبل مثل هذه الأخبار فقار على طريق الاستنكار فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت له: يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عليه السلام عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول للواحدي: ومن الذي يضمن لنا أن الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين، والله أعلم.
المسألة الثانية: في أن المراد بذلك البرهان ما هو أما المحققون المثبتون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان بوجوه: الأول: أنه حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب والثاني: أن الله تعالى طهر نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة. بل نقول: إنه تعالى طهر نفوس المتصلين به عنها كما قال: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (الأحزاب: 33) فالمراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات. والثالث: أنه رأى مكتوبا في سقف البيت * (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) * (الإسراء: 32) والرابع: أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، والدليل عليه أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا لمنع الخلق عن القبائح والفضائح فلو أنهم منعوا الناس عنها، ثم أقدموا على أقبح أنواعها وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * (الصف: 2، 3)
119

وأيضا أن الله تعالى عير اليهود بقوله: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) * (البقرة: 44) وما يكون عيبا في حق اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد بالمعجزات. وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه السلام فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أمورا: الأول: قالوا إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف: لم فعلت ذلك؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصية، فقال يوسف: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فوالله لا أفعل ذلك أبدا قالوا: فهذا هو البرهان. الثاني: نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تمثل له يعقوب فرآه عاضا على أصابعه ويقول له: أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء فاستحى منه. قال وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين قال سعيد بن جبير: تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله. والثالث: قالوا إنه سمع في الهواء قائلا يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنا ذهب ريشه. والرابع: نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لم ينزجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل عليه السلام فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج، ولما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف وقال: هذا الذي ذكرناه قول أئمة التفسير الذين أخذوا التأويل عمن شاهد التنزيل فيقال له: إنك لا تأتينا البتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها فأين هذا من الحجة والدليل، وأيضا فإن ترادف الدلائل على الشيء الواحد جائز، وأنه عليه
الصلاة والسلام كان ممتنعا عن الزنا بحسب الدلائل الأصلية، فلما انضاف إليها هذه الزواجر قوي الانزجار وكمل الاحتراز والعجب أنهم نقلوا أن جروا دخل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبقي هناك بغير علمه قالوا: فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول عليه أربعين يوما، وههنا زعموا أن يوسف عليه السلام حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل عليه السلام، والعجب أنهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام، ولو أن أفسق الخلق وأكفرهم كان مشتغلا بفاحشة فإذا دخل عليه رجل على زي الصالحين استحيا منه وفر وترك ذلك العمل، وههنا أنه رأى يعقوب عليه السلام عض على أنامله فلم يلتفت إليه، ثم إن جبريل عليه السلام على جلالة قدره دخل عليه فلم يمتنع أيضا عن ذلك القبيح بسبب حضوره حتى احتاج جبريل عليه السلام إلى أن يركضه على ظهره فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين، والخذلان في طلب اليقين فهذا هو الكلام المخلص في هذه المسألة والله أعلم.
المسألة الثالثة: في الفرق بين السوء والفحشاء وفيه وجوه: الأول: أن السوء جناية اليد
120

والفحشاء هو الزنا. الثاني: السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة والفحشاء هو الزنا. أما قوله: * (إنه من عبادنا المخلصين) * أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى ومن فتح اللام أراد الذين خلصهم الله من الأسواء، ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذي قال الله فيهم: * (إنا أخلصناهم بخالصة) * (ص: 46).
المسألة الرابعة: قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو * (المخلصين) * بكسر اللام في جميع القرآن والباقون بفتح اللام.
قوله تعالى
* (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزآء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهد من أهلهآ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عنها أنها * (همت) * أتبعه بكيفية طلبها وهربه فقال: * (واستبقا الباب) * والمراد أنه هرب منها وحاول الخروج من الباب وعدت المرأة خلفه لتجذبه إلى نفسها، والاستباق طلب السبق إلى الشيء، ومعناه تبادر إلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه فإن سبق يوسف فتح
121

الباب وخرج، وإن سبقت المرأة أمسكت الباب لئلا يخرج، وقوله: * (واستبقا الباب) * أي استبقا إلى الباب كقوله: * (واختار موسى قومه سبعين رجلا) * (الأعراف: 155) أي من قومه.
واعلم أن يوسف عليه السلام سبقها إلى الباب وأراد الخروج والمرأة تعدو خلقه فلم تصل إلا إلى دبر القميص فقدته، أي قطعته طولا، وفي ذلك الوقت حضر زوجها وهو المراد من قوله * (وألفيا سيدها لدى الباب) * أي صادفا بعلها تقول المرأة لبعلها سيدي، وإنما لم يقل سيدهما لأن يوسف عليه السلام ما كان مملوكا لذلك الرجل في الحقيقة، فعند ذلك خافت المرأة من التهمة فبادرت إلى أن رمت يوسف بالفعل القبيح، وقالت: * (ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم) * والمعنى ظاهر. وفي الآية لطائف: إحداها: أن " ما " يحتمل أن تكون نافية، أي ليس جزاؤه إلا السجن، ويجوز أيضا أن تكون استفهامية يعني أي شيء جزاؤه إلا أن يسجن كما تقول: من في الدار إلا زيد. وثانيها: أن حبها الشديد ليوسف حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن، وأخرت ذكر العذاب، لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب، وأيضا أنها لم تذكر أن يوسف يجب أن يعامل بأحد هذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكرا كليا صونا للمحبوب عن الذكر بالسوء والألم، وأيضا قالت: * (إلا أن يسجن) * والمراد أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخفيف.
فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر بهذه العبارة، بل يقال: يجب أن يجعل من المسجونين ألا ترى أن فرعون هكذا قال حين تهدد موسى عليه السلام في قوله: * (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) * (الشعراء: 29) وثالثها: أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها أنه كان في عنفوان العمر وكمال القوة ونهاية الشهوة، عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول إن يوسف عليه السلام قصدني بالسوء، وما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض، فانظر إلى تلك المرأة ما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب وأن هؤلاء الحشوية يرمونه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بهذا الذنب القبيح. ورابعها: أن يوسف عليه السلام أراد يضربها ويدفعها عن نفسه، وكان ذلك بالنسبة إليها جاريا مجرى السوء فقولها: * (ما جزاء من أراد بأهلك سوأ) * جاريا مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي.
واعلم أن المرأة لما ذكرت هذا الكلام ولطخت عرض يوسف عليه السلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال:) * هي راودتني عن نفسي) *، وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر.
122

واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق: فالأول: أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبدا لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني: أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدوا شديدا ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه، والثالث: أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى، الرابع: أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر، وذلك أيضا مما يقوي الظن، الخامس: أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاما مجملا مبهما، وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهما لما قدر على التصريح
باللفظ الصريح فإن الخائن خائف؛ السادس: قيل: إن زوج المرأة كان عاجزا وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى، فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة، ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلا آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة، وهو قوله: * (وشهد شاهد من أهلها) * وفي هذا الشاهد ثلاثة أقوال: الأول: أنه كان لها ابن عم وكان رجلا حكيما واتفق في ذلك الوقت أنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه، قال ابن عمها: * (إنه من كيدكم إن كيدكن عظيم) * أي من عملكن. ثم قال ليوسف أعرض عن هذا واكتمه، وقال لها استغفري لذنبك، وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين. والثاني: وهو أيضا منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك: إن ذلك الشاهد كان صبيا أنطقه الله تعالى في المهد، فقال ابن عباس: تكلم في المهد أربعة صغار شاهد يوسف، وابن ماشطة بنت فرعون، وعيسى بن مريم، وصاحب جريج الراهب قال الجبائي: والقول الأول أولى لوجوه: الأول: أنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافيا وبرهانا قاطعا، لأنه من البراهين القاطعة القاهرة، والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز. الثاني: أنه تعالى قال: * (وشهد شاهد من أهلها) * وإنما قال من أهلها
123

ليكون أولى بالقبول في حق المرأة لأن الظاهر من حال من يكون من أقرباء المرأة ومن أهلها أن لا يقصدها بالسوء والإضرار، فالمقصود بذكر كون ذلك الرجل من أهلها تقوية قول ذلك الرجل وهذه الترجيحات إنما يصار إليها عند كون الدلالة ظنية، ولو كان هذا القول صادرا عن الصبي الذي في المهد لكان قوله حجة قاطعة ولا يتفاوت الحال بين أن يكون من أهلها، وبين أن لا يكون من أهلها وحينئذ لا يبقى لهذا القيد أثر. والثالث: أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا على من تقدمت له معرفة بالواقعة وإحاطة بها.
والقول الثالث: أن ذلك الشاهد هو القميص، قال مجاهد: الشاهد كون قميصه مشقوقا من دبر، وهذا في غاية الضعف لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل. واعلم أن القول الأول عليه أيضا إشكال وذلك لأن العلامة المذكورة لا تدل قطعا على براءة يوسف عليه السلام عن المعصية لأن من المحتمل أن الرجل قصد المرأة لطلب الزنا فالمرأة غضبت عليه فهرب الرجل فعدت المرأة خلف الرجل وجذبته لقصد أن تضربه ضربا وجيعا فعلى هذا الوجه يكون القميص متخرقا من دبر مع أن المرأة تكون برية عن الذنب والرجل يكون مذنبا.
وجوابه: أنا بينا أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعولوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جاريا مجرى المقويات والمرجحات.
ثم إنه تعالى أخبر وقال: * (فلما رأى قميصه) * وذلك يحتمل السيد الذي هو زوجها ويحتمل الشاهد فلذلك اختلفوا فيه، قال: * (إنه من كيدكن) * أي أن قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوءا من كيدكن إن كيدكن عظيم.
فإن قيل: إنه تعالى لما خلق الإنسان ضعيفا فكيف وصف كيد المرأة بالعظم، وأيضا فكيد الرجال قد يزيد على كيد النساء.
والجواب عن الأول: أن خلقة الإنسان بالنسبة إلى خلقة الملائكة والسماوات والكواكب خلقة ضعيفة وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيم ولا منافاة بين القولين وأيضا فالنساء لهن في هذا الباب من المكر والحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال.
واعلم أنه لما ظهر للقوم براءة يوسف عليه السلام عن ذلك الفعل المنكر حكى تعالى عنه أنه قال: * (يوسف أعرض عن هذا) * فقيل: إن هذا من قول العزيز، وقيل: إنه من قول الشاهد، ومعناه: أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها، وكما أمر يوسف بكتمان هذه الواقعة أمر المرأة بالاستغفار فقال: * (واستغفري لذنبك) * وظاهر ذلك طلب المغفرة،
124

ويحتمل أن يكون المراد من الزوج ويكون معنى المغفرة العفو والصفح، وعلى هذا التقدير فالأقرب أن قائل هذا القول هو الشاهد، ويحتمل أن يكون المراد بالاستغفار من الله، لأن أولئك الأقوام كانوا يثبتون الصانع، إلا أنهم مع ذلك كانوا يعبدون الأوثان بدليل أن يوسف عليه السلام قال: * (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * (يوسف: 29) وعلى هذا التقدير: فيجوز أن يكون القائل هو الزوج. وقوله: * (إنك كنت من الخاطئين) * نسبة لها إلى أنها كانت كثيرة الخطأ فيما تقدم، وهذا أحد ما يدل على أن الزوج عرف في أول الأمر أن الذنب للمرأة لا ليوسف، لأنه كان يعرف عنها إقدامها على ما لا ينبغي. وقال أبو بكر الأصم: إن ذلك لزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار. قال صاحب " الكشاف ": وإنما قال من الخاطئين بلفظ التذكير، تغليبا للذكور على الإناث، ويحتمل أن يقال: المراد إنك من نسل الخاطئين، فمن ذلك النسل سرى هذا العرق الخبيث فيك. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقال نسوة فى المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها فى ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وءاتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذآ إلا ملك كريم) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: لم لم يقل: * (وقالت نسوة) * قلنا لوجهين: الأول: أن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث، الثاني: قال الواحدي تقديم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع.
125

المسألة الثانية: قال الكلبي: هن أربع، امرأة ساقي العزيز. وامرأة خبازه وامرأة صاحب سجنه. وامرأة صاحب دوابه، وزاد مقاتل وامرأة الحاجب. والأشبه أن تلك الواقعة شاعت في البلد واشتهرت وتحدث بها النساء. وامرأة العزيز هي هذه المرأة المعلومة * (تراود فتاها عن نفسه) * الفتى الحدث الشاب والفتاة الجارية الشابة * (قد شغفها حبا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أن الشغاف فيه وجوه: الأول: أن الشغاف جلدة محيطة بالقلب يقال لها غلاف القلب يقال شغفت فلانا إذا أصبت شغافه كما تقول كبدته أي أصبت كبده فقوله: * (شغفها حبا) * أي دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب. والثاني: أن حبه أحاط بقلبها مثل إحاطة الشغاف بالقلب، ومعنى إحاطة ذلك الحب بقلبها هو أن اشتغالها بحبه صار حجابا بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا تعقل سواه ولا يخطر ببالها إلا إياه. والثالث: قال الزجاج: الشغاف حبة القلب وسويداء القلب. والمعنى: أنه وصل حبه إلى سويداء قلبها، وبالجملة فهذا كناية عن الحب الشديد والعشق العظيم.
المسألة الثانية: قرأ جماعة من الصحابة والتابعين * (شعفها) * بالعين. قال ابن السكيت: يقال شعفه الهوى إذا بلغ إلى حد الاحتراق، وشعف الهناء البعير إذا بلغ منه الألم إلى حد الاحتراق، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى فقال: الشعف بالعين إحراق الحب القلب مع لذة يجدها، كما أن البعير إذا هنئ بالقطران يبلغ منه مثل ذلك ثم يستروح إليه. وقال ابن الأنباري: الشعف رؤوس الجبال، ومعنى شعف بفلان إذا ارتفع حبه إلى أعلى المواضع من قلبه. المسألة الثالثة: قوله: * (حبها) * نصب على التمييز.
ثم قال: * (إنا لنراها في ضلال مبين) * أي في ضلال عن طريق الرشد بسبب حبها إياه كقوله: * (إن أبانا لفي ضلال مبين) * (يوسف: 8).
ثم قال تعالى: * (فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المراد من قوله: * (فلما سمعت بمكرهن) * أنها سمعت قولهن وإنما سمي قولهن مكرا لوجوه: الأول: أن النسوة إنما ذكرت ذلك الكلام استدعاء لرؤية يوسف عليه السلام والنظر إلى وجهه لأنهن عرفن أنهن إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهن ليتمهد عذرها عندهن. الثاني: أن امرأة العزيز أسرت إليهن حبها ليوسف وطلبت منهن كتمان هذا السر، فلما أظهرن السر كان ذلك غدرا ومكرا. الثالث: أنهن وقعن في غيبتها، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر.
126

المسألة الثانية: أنها لما سمعت أنهن يلمنها على تلك المحبة المفرطة أرادت إبداء عذرها فاتخذت مائدة ودعت جماعة من أكابرهن وأعتدت لهن متكأ، وفي تفسيره وجوه: الأول: المتكأ النمرق الذي يتكأ عليه. الثاني: أن المتكأ هو الطعام. قال العتبي والأصل فيه أن من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له وسادة تسمى الطعام متكأ على الاستعارة، والثالث: متكأ أترجا، وهو قول وهب وأنكر أبو عبيد ذلك ولكنه محمول على أنها وضعت عندهن أنواع الفاكهة في ذلك المجلس. والرابع: متكأ طعاما يحتاج إلى أن يقطع بالسكين، لأن الطعام متى كان كذلك احتاج الإنسان إلى أن يتكأ عليه عند القطع. ثم نقول: حاصل ذلك أنها دعت أولئك النسوة وأعدت لكل واحدة منهن مجلسا معينا وآتت كل واحدة منهن سكينا أي لأجل أكل الفاكهة أو لأجل قطع اللحم ثم إنها أمرت يوسف عليه السلام بأن يخرج إليهن ويعبر عليهن وأنه عليه السلام ما قدر على مخالفتها خوفا منها * (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: في * (أكبرنه) * قولان: الأول: أعظمنه. والثاني: * (أكبرن) * بمعنى حضن. قال الأزهري والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر وفيه وجه آخر، وهو أن المرأة إذا خافت وفزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت، فإن صح تفسير الإكبار بالحيض فالسبب فيه ما ذكرناه وقوله: * (فقطعن أيديهن) * كناية عن دهشتهن وحيرتهن، والسبب في حسن هذه الكناية أنها لما دهشت فكانت تظن أنها تقطع الفاكهة وكانت تقطع يد نفسها، أو يقال: إنها لما دهشت صارت بحيث لا تميز نصابها من حديدها وكانت تأخذ الجانب الحاد من ذلك السكين بكفها فكان يحصل الجراحة في كفها.
المسألة الثالثة: اتفق الأكثرون على أنهن إنما أكبرنه بحسب الجمال الفائق والحسن الكامل قيل: كان فضل يوسف على الناس في الفضل والحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مررت بيوسف عليه السلام ليلة عرج بي إلى السماء فقلت لجبريل عليه السلام من هذا؟ فقال هذا يوسف فقيل يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: كالقمر ليلة البدر " وقيل: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من السماء عليها، وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه، وهذا القول هو الذي اتفقوا عليه، وعندي أنه يحتمل وجها آخر وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والاحتشام، وشاهدن منها مهابة النبوة، وهيئة الملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح، وعدم الاعتداد بهن، وكان الجمال العظيم مقرونا بتلك الهيبة والهيئة فتعجبن من تلك
127

الحالة فلا جرم أكبرنه وعظمنه، ووقع الرعب والمهابة منه في قلوبهن، وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه أولى.
فإن قيل: فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينطبق على هذا التأويل قولها: * (فذلكن الذي لمتنني فيه) * وكيف تصير هذه الحالة عذرا لها في قوة العشق وإفراط المحبة؟
قلنا: قد تقرر أن الممنوع متبوع فكأنها قالت لهن مع هذا الخلق العجيب وهذه السيرة الملكية الطاهرة المطهرة فحسنه يوجب الحب الشديد وسيرته الملكية توجب اليأس عن الوصول إليه فلهذا السبب وقعت في المحبة، والحسرة، والأرق والقلق، وهذا الوجه في تأويل الآية أحسن والله أعلم.
المسألة الثالثة: قرأ أبو عمرو * (وقلن حاشا لله) * بإثبات الألف بعد الشين وهي رواية الأصمعي عن نافع وهي الأصل لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد، والباقون بحذف الألف للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعا للمصحف " وحاشا " كلمة يفيد معنى التنزيه، والمعنى ههنا تنزيه الله تعالى من المعجز حيث قدر على خلق جميل مثله. أما قوله: * (حاش لله ما علمنا عليه من سوء) * فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله.
المسألة الرابعة: قوله: * (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) * فيه وجهان:
الوجه الأول: وهو المشهور أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له قالوا: لأنه تعالى ركز في الطباع أن لا حي أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان، ولذلك قال تعالى في صفة جهنم * (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) * (الصافات: 65) وذلك لما ذكرنا أنه تقرر في الطباع أن أقبح الأشياء هو الشيطان فكذا ههنا تقرر في الطباع أن أحسن الأحياء هو الملك، فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف عليه السلام بالحسن لا جرم شبهنه بالملك. والوجه الثاني: وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة، وجواذب الغضب، ونوازع الوهم والخيال فطعامهم توحيد الله تعالى وشرابهم الثناء على الله تعالى، ثم إن النسوة لما رأين يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن البتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة، وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثرا من أثر الشهوة، ولا شيئا من البشرية، ولا صفة من الإنسانية، فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر، وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية.
فإن قالوا: فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة؟ فالجواب قد سبق. والله أعلم.
128

المسألة الخامسة: القائلون بأن الملك أفضل من البشر احتجوا بهذه الآية فقالوا: لا شك إنهن إنما ذكرت هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف عليه السلام. فوجب أن يكون إخراجه من البشرية وإدخاله في الملكية سببا لتعظيم شأنه وإعلاء مرتبته، وإنما يكون الأمر كذلك لو كان الملك أعلى حالا من البشر، ثم نقول: لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الظاهر، أو كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الباطن، والأول باطل لوجهين: الأول: أنهم وصفوه بكونه كريما، وإنما يكون كريما بسبب الأخلاق الباطنة لا بسبب الخلقة الظاهرة، والثاني: أنا نعلم بالضرورة أن وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة البتة. أما كونه بعيدا عن الشهوة والغضب معرضا عن اللذات الجسمانية متوجها إلى عبودية الله تعالى مستغرق القلب، والروح فيه فهو أمر مشترك فيه بين الإنسان الكامل وبين الملائكة.
وإذا ثبت هذا فنقول: تشبيه الإنسان بالملك في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل المشابهة فيه البتة، فثبت أن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في هذه الآية إنما وقع في الخلق الباطن، لا في الصورة الظاهرة، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب أن يكون الملك أعلى حالا من الإنسان من هذه الفضائل، فثبت أن الملك أفضل من البشر والله أعلم.
المسألة السادسة: لغة أهل الحجاز إعمال " ما " عمل ليس وبها ورد قوله: * (ما هذا بشرا) * ومنها قوله: * (ما هن أمهاتهم) * (المجادلة: 2) ومن قرأ على لغة بني تميم. قرأ * (ما هذا بشر) * وهي قراءة ابن مسعود وقرئ * (ما هذا بشرا) * أي ما هو بعبد مملوك للبشر * (إن هذا إلا ملك كريم) * ثم نقول: ما هذا بشرا، أي حاصل بشرا بمعنى هذا مشترى، وتقول: هذا لك بشرا أم بكرا، والقراءة المعتبرة هي الأولى لموافقتها المصحف، ولمقابلة البشر للملك.
قوله تعالى
* (قالت فذلكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل مآ ءامره ليسجنن وليكونا من الصاغرين) *.
اعلم أن النسوة لما قلن في امرأة العزيز قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين، عظم ذلك
129

عليها فجمعتهن * (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن) * فعند ذلك ذكرت أنهن باللوم أحق لأنهن بنظرة واحدة لحقهن أعظم مما نالها مع أنه طال مكثه عندها.
فإن قيل: فلم قالت: * (فذلكن) * مع أن يوسف عليه السلام كان حاضرا؟
والجواب عنه من وجوه: الأول: قال ابن الأنباري: أشارت بصيغة ذلكن إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس. والثاني: وهو الذي ذكره صاحب " الكشاف " وهو أحسن ما قيل: إن النسوة كن يقلن إنها عشقت عبدها الكنعاني، فلما رأينه ووقعن في تلك الدهشة قالت: هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني فيه يعني: أنكن لم تتصورنه حق تصوره ولو حصلت في خيالكن صورته لتركتن هذه الملامة.
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت: * (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) *.
واعلم أن هذا تصريح بأنه عليه السلام كان بريئا عن تلك التهمة، وعن السدي أنه قال: * (فاستعصم) * بعد حل السراويل وما الذي يحمله على إلحاق هذه الزيادة الفاسدة الباطلة بنص الكتاب.
ثم قال: * (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين) * والمراد أن يوسف عليه السلام إن لم يوافقها على مرادها يوقع في السجن وفي الصغار، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس عظيم الخطر مثل يوسف عليه السلام، وقوله: * (وليكونا) * كان حمزة والكسائي يقفان على * (وليكونا) * بالألف، وكذلك قوله: * (لنسفعا) * (العلق: 15) والله أعلم.
قوله تعالى
* (قال رب السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم) *.
واعلم أن المرأة لما قالت: * (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين) * (يوسف: 32) وسائر النسوة سمعن هذا التهديد فالظاهر أنهن اجتمعن على يوسف عليه السلام وقلن لا مصلحة لك في مخالفة أمرها
130

وإلا وقعت في السجن وفي الصغار فعند ذلك اجتمع في حق يوسف عليه السلام أنواع من الوسوسة: أحدها: أن زليخا كانت في غاية الحسن. والثاني: أنها كانت ذات مال وثروة، وكانت على عزم أن تبذل الكل ليوسف بتقدير أن يساعدها على مطلوبها. والثالث: أن النسوة اجتمعن عليه وكل واحدة منهن كانت ترغبه وتخوفه بطريق آخر، ومكر النساء في هذا الباب شديد، والرابع: أنه عليه السلام كان خائفا من شرها وإقدامها على قتله وإهلاكه، فاجتمع في حق يوسف جميع جهات الترغيب على موافقتها وجميع جهات التخويف على مخالفتها، فخاف عليه السلام أن تؤثر هذه الأسباب القوية الكثيرة فيه.
واعلم أن القوة البشرية والطاقة الإنسانية لا تفي بحصول هذه العصمة القوية، فعند هذا التجأ إلى الله تعالى وقال: * (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) * وقرئ * (السجن) * بالفتح على المصدر، وفيه سؤالان:
السؤال الأول: السجن في غاية المكروهية، وما دعونه إليه في غاية المطلوبية، فكيف قال: المشقة أحب إلي من اللذة؟
والجواب: أن تلك اللذة كانت تستعقب آلاما عظيمة، وهي الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، وذلك المكروه وهو اختيار السجن كان يستعقب سعادات عظيمة، وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة، فلهذا السبب قال: * (السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) *.
السؤال الثاني: أن حبسهم له معصية كما أن الزنا معصية، فكيف يجوز أن يحب السجن مع أنه معصية.
والجواب: تقدير الكلام أنه إذا كان لا بد من التزام أحد الأمرين أعني الزنا والسجن، فهذا أولى، لأنه متى وجب التزام أحد شيئين كل واحد منهما شر فأخفهما أولاهما بالتحمل.
ثم قال: * (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) * أصب إليهن أمل إليهن يقال: صبا إلى اللهو يصبو صبوا إذا مال، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإنسان لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى عنها قالوا: لأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إن لم يصرفه عن ذلك القبيح وقع فيه وتقريره: أن القدرة والداعي إلى الفعل والترك إن استويا امتنع الفعل، لأن الفعل رجحان لأحد الطرفين ومرجوحية للطرف الآخر وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين وهو محال، وإن حصل الرجحان في أحد الطرفين فذلك الرجحان ليس من العبد وإلا لذهبت المراتب إلى غير النهاية بل هو من الله تعالى فالصرف عبارة عن جعله مرجوحا لأنه متى
131

صار مرجوحا صار ممتنع الوقوع لأن الوقوع رجحان، فلو وقع حال المرجوحية لحصل الرجحان حال حصول المرجوحية، وهو يقتضي حصول الجمع بين النقيضين وهو محال، فثبت بهذا أن انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من الله تعالى. ويمكن تقرير هذا الكلام من وجه آخر، وهو أنه كان قد حصل في حق يوسف عليه السلام جميع الأسباب المرغبة في تلك المعصية وهو الانتفاع بالمال والجاه والتمتع بالمنكوح والمطعوم وحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفرة، ومتى كان الأمر كذلك، فقد قويت الدواعي في الفعل وضعفت الدواعي في الترك، فطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحدث في قلبه أنواعا من الدواعي المعارضة النافية لدواعي المعصية إذ لو لم يحصل هذا المعارض لحصل المرجح للوقوع في المعصية خاليا عما يعارضه، وذلك يوجب وقوع الفعل وهو المراد بقوله: * (أصب إليهن وأكن من الجاهلين) *.
قوله تعالى
* (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين * ودخل معه السجن فتيان قال أحدهمآ إنى أرانى أعصر خمرا وقال الآخر إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن زوج المرأة لما ظهر له براءة ساحة يوسف عليه السلام فلا جرم لم يتعرض له، فاحتالت المرأة بعد ذلك بجميع الحيل حتى تحمل يوسف عليه السلام على موافقتها على مرادها، فلم يلتفت يوسف إليها، فلما أيست منه احتالت في طريق آخر وقالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم: إني راودته عن نفسه، وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة، فهذا هو المراد من قوله * (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) * لأن البداء عبارة عن تغير الرأي عما كان عليه
132

في الأول، والمراد من الآيات براءته بقد القميص من دبر، وخمش الوجه، وإلزام الحكم إياها بقوله: * (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) * (يوسف: 28) وذكرنا أنه ظهرت هناك أنواع أخر من الآيات بلغت مبلغ القطع ولكن القوم سكتوا عنها سعيا في إخفاء الفضيحة.
المسألة الثالثة: قوله: * (بدا لهم) * فعل وفاعله في هذا الموضع قوله: * (ليسجننه) * وظاهر هذا الكلام يقتضي إسناد الفعل إلى فعل آخر، إلا أن النحويين اتفقوا على أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يجوز، فإذا قلت خرج ضرب لم يفد البتة، فعند هذا قالوا: تقدير الكلام ثم بدا لهم سجنه، إلا أنه أقيم هذا الفعل مقام ذلك الاسم، وأقول: الذوق يشهد بأن جعل الفعل مخبر عنه لا يجوز وليس لأحد أن يقول الفعل خبرا فجعل الخبر مخبرا عنه لا يجوز، لأنا نقول: الاسم قد يكون خبرا كقولك: زيد
قائم فقائم اسم وخبر فعلمنا أن كون الشيء خبرا لا ينافي كونه مخبرا عنه، بل نقول في هذا المقام: شكوك أحدها: أنا إذا قلنا: ضرب فعل فالمخبر عنه بأنه فعل هو ضرب، فالفعل صار مخبرا عنه.
فإن قالوا: المخبر عنه هو هذه الصيغة وهي اسم فنقول: فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل اسم لا فعل وذلك كذب وباطل، بل نقول المخبر عنه بأنه فعل إن كان فعلا فقد ثبت أن الفعل يصح الإخبار عنه وإن كان اسما كان معناه: أنا أخبرنا عن الاسم بأنه فعل ومعلوم أنه باطل، وفي هذا الباب مباحث عميقة ذكرناها في " كتب المعقولات ".
المسألة الثالثة: قال أهل اللغة: الحين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه، وعلى الطويل، وقال ابن عباس: يريد إلى انقطاع المقالة وما شاع في المدينة من الفاحشة، ثم قيل: الحين ههنا خمس سنين، وقيل: بل سبع سنين، وقال مقاتل بن سليمان: حبس يوسف اثنتي عشر سنة، والصحيح أن هذه المقادير غير معلومة، وإنما القدر المعلوم أنه بقي محبوسا مدة طويلة لقوله تعالى: * (وادكر بعد أمة) * (يوسف: 45).
أما قوله تعالى: * (ودخل معه السجن فتيان) * فههنا محذوف، والتقدير: لما أرادوا حبسه حبسوه وحذف ذلك لدلالة قوله: * (ودخل معه السجن فتيان) * عليه قيل: هما غلامان كانا للملك الأكبر بمصر أحدهما صاحب طعامه، والآخر صاحب شرابه رفع إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه وظن أن الآخر يساعده عليه فأمر بحبسهما بقي في الآية سؤالات:
السؤال الأول: كيف عرفا أنه عليه السلام عالم بالتعبير؟
والجواب: لعله عليه السلام سألهما عن حزنهما وغمهما فذكرا إنا رأينا في المنام هذه الرؤيا، ويحتمل أنهما رأياه وقد أظهر معرفته بأمور منها تعبير الرؤيا فعندها ذكرا له ذلك.
133

السؤال الثاني: كيف عرف أنهما كانا عبدين للملك:
الجواب: لقوله: * (فيسقي ربه خمرا) * (يوسف: 41) أي مولاه ولقوله: * (اذكرني عند ربك) * (يوسف: 42).
السؤال الثالث: كيف عرف أن أحدهما صاحب شراب الملك، والآخر صاحب طعامه؟
والجواب: رؤيا كل واحد منهما تناسب حرفته لأن أحدهما رأى أنه يعصر الخمر والآخر كأنه يحمل فوق رأسه خبزا.
السؤال الرابع: كيف وقعت رؤية المنام؟
والجواب: فيه قولان:
القول الأول: أن يوسف عليه السلام لما دخل السجن قال لأهله إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتيين، هلم فلنخبر هذا العبد العبراني برؤيا نخترعها له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا. قال ابن مسعود: ما كانا رأيا شيئا وإنما تحالما ليختبرا علمه.
والقول الثاني: قال مجاهد كانا قد رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف عليه السلام فسألاه عنها، فقال الساقي أيها العالم إني رأيت كأني في بستان فإذا بأصل عنبة حسنة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكأن كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيتها الملك فشربه فذلك قوله: * (إني أراني أعصر خمرا) * وقال صاحب الطعام إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها خبز وألوان وأطعمه وإذا سباع الطير تنهش منه فذلك قوله تعالى: * (وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه) *.
السؤال الخامس: كيف عرف يوسف عليه السلام أن المراد من قوله: * (إني أراني أعصر خمرا) * رؤيا المنام؟
الجواب: لوجوه: الأول: أنه لو لم يقصد النوم كان ذكر قوله: * (أعصر) * يغنيه عن ذكر قوله * (أراني) * والثاني: دل عليه قوله: * (نبئنا بتأويله) * (يوسف: 36).
السؤال السادس: كيف يعقل عصر الخمر؟
الجواب: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون المعنى أعصر عنب خمر، أي العنب الذي يكون عصيره خمرا فحذف المضاف. الثاني: أن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤل إليه إذا انكشف المعنى ولم يلتبس يقولون فلان يطبخ دبسا وهو يطبخ عصيرا. والثالث: قال أبو صالح: أهل عمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها قال الضحاك: نزل القرآن بألسنة جميع العرب.
134

السؤال السابع: ما معنى التأويل في قوله: * (نبئنا بتأويله) *.
الجواب: تأويل الشيء ما يرجع إليه وهو الذي يؤل إليه آخر ذلك الأمر.
السؤال الثامن: ما المراد من قوله: * (إنا نراك من المحسنين) *.
الجواب من وجوه: الأول: معناه إنا نراك تؤثر الإحسان وتأتي بمكارم الأخلاق وجميع الأفعال الحميدة. قيل: إنه كان يعود مرضاهم، ويؤنس حزينهم فقالوا إنك من المحسنين أي في حق الشركاء والأصحاب، وقيل: إنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة فقالوا إنك من المحسنين في أمر الدين، ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا، وفي سائر الأمور، وقيل: المراد * (إنا نراك من المحسنين) * في علم التعبير، وذلك لأنه متى عبر لم يخط كما قال * (وعلمتني
من تأويل الأحاديث) * (يوسف: 101).
السؤال التاسع: ما حقيقة علم التعبير؟
الجواب: القرآن والبرهان يدلان على صحته. أما القرآن فهو هذه الآية، وأما البرهان فهو أنه قد ثبت أنه سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك، ومطالعة اللوح المحفوظ والمانع لها من ذلك اشتغالها بتدبير البدن وفي وقت النوم يقل هذا التشاغل فتقوى على هذه المطالعة فإذا وقعت الروح على حالة من الأحوال تركت آثارا مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فالمعبر يستدل بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات العقلية فهذا كلام مجمل، وتفصيله مذكور في " الكتب العقلية "، والشريعة مؤكدة له روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الرؤيا ثلاثة: رؤيا ما يحدث به الرجل نفسه، ورؤيا تحدث من الشيطان ورؤيا التي هي الرؤيا الصادقة حقة " وهذا تقسيم صحيح في العلوم العقلية وقال عليه السلام: " رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ".
قوله تعالى
* (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمنى ربى إنى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالاخرة هم كافرون * واتبعت ملة ءابآءي إبراهيم وإسحاق
135

ويعقوب ما كان لنآ أن نشرك بالله من شىء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المذكور في هذه الآية ليس بجواب لما سألا عنه فلا بد ههنا من بيان الوجه الذي لأجله عدل عن ذكر الجواب إلى هذا الكلام والعلماء ذكروا فيه وجوها: الأول: أنه لما كان جواب أحد السائلين أنه يصلب، ولا شك أنه متى سمع ذلك عظم حزنه وتشتد نفرته عن سماع هذا الكلام، فرأى أن الصلاح أن يقدم قبل ذلك ما يؤثر معه بعلمه وكلامه، حتى إذا جاء بها من بعد ذلك خرج جوابه عن أن يكون بسبب تهمة وعداوة. الثاني: لعله عليه السلام أراد أن يبين أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدوا فيه، وذلك لأنهم طلبوا منه علم التعبير، ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين، فبين لهما أنه لا يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين مع عجز كل الخلق عنه، وإذا كان الأمر كذلك فبأن يكون فائقا على كل الناس في علم التعبير كان أولى، فكان المقصود من ذكر تلك المقدمة تقرير كونه فائقا في علم التعبير واصلا فيه إلى ما لم يصل غيره، والثالث: قال السدي: * (لا يأتيكما طعام ترزقانه) * في النوم بين ذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس بمقصور على شيء دون غيره، ولذلك قال: * (إلا نبأتكما بتأويله) * الرابع: لعله عليه السلام لما علم أنهما اعتقدا فيه وقبلا قوله: فأورد عليهما ما دل على كونه رسولا من عند الله تعالى، فإن الاشتغال بإصلاح مهمات الدين أولى من الاشتغال بمهمات الدنيا، والخامس: لعله عليه السلام لما علم أن ذلك الرجل سيصلب اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتى لا يموت على الكفر، ولا يستوجب العقاب الشديد * (وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) * (الأنفال: 42) والسادس: قوله: * (لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله) * محمول على اليقظة، والمعنى: أنه لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما أي طعام هو، وأي لون هو، وكم هو، وكيف يكون عاقبته؟ أي إذا أكله الإنسان فهو يفيد الصحة أو السقم، وفيه وجه آخر، قيل: كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما فأرسله إليه، فقال يوسف لا يأتيكما طعام ألا أخبرتكما أن فيه سما أم لا، هذا هو المراد من قوله: * (لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله) * وحاصله راجع إلى أنه ادعى الإخبار عن الغيب، وهو يجري مجرى
136

قوله عيسى عليه السلام، * (أنبئكم بما تأكلون، وما تدخرون في بيوتكم) * (آل عمران: 49) فالوجوه الثلاثة الأول لتقرير كونه فائقا في علم التعبير، والوجوه الثلاثة الأخر لتقرير كونه نبيا صادقا من عند الله تعالى.
فإن قيل: كيف يجوز حمل الآية على ادعاء المعجزة مع أنه لم يتقدم ادعاء للنبوة؟
قلنا: إنه وإن لم يذكر ذلك لكن يعلم أنه لا بد وأن يقال: إنه كان قد ذكره، وأيضا ففي قوله: * (ذلكما مما علمني ربي) * وفي قوله: * (واتبعت ملة آبائي) * ما يدل على ذلك.
ثم قال تعالى: * (ذلكما مما علمني ربي) * أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم، وإنما أخبرتكما بوحي من الله وعلم حصل بتعليم الله.
ثم قال: * (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: في قوله: * (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) * توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة. فنقول جوابه من وجوه: الأول: أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضا فيه. والثاني: وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبدا لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد، ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفا منهم على سبيل التقية، ثم إنه أظهره في هذا الوقت، فكان هذا جاريا مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
المسألة الثانية: تكرير لفظ * (هم) * في قوله: * (وهم بالآخرة هم كافرون) * لبيان اختصاصهم بالكفر، ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ، فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد.
واعلم أن قوله: * (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) * إشارة إلى علم المبدأ. وقوله: * (وهم بالآخرة هم كافرون) * إشارة إلى علم المعاد، ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد، وإن ما وراء ذلك عبث.
ثم قال تعالى: * (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) * وفيه سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في ذكر هذا الكلام. الجواب: أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة، وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء الله ورسله، فإن الإنسان متى ادعى حرفة
137

أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه، وأيضا فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمرا مشهورا في الدنيا، فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال، فكان انقيادهم له أتم وأثر قلوبهم بكلامه أكمل.
السؤال الثاني: لما كان نبيا فكيف قال: إني اتبعت ملة آبائي، والنبي لا بد وأن يكون مختصا بشريعة نفسه.
قلنا: لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير، وأيضا لعله كان رسولا من عند الله، إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام.
السؤال الثالث: لم قال: * (ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) * وحال كل المكلفين كذلك؟
والجواب: ليس المراد بقوله: * (ما كان لنا) * أنه حرم ذلك عليهم، بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر، ونظيره قوله: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * (مريم: 35).
السؤال الرابع: ما الفائدة في قوله: * (من شيء) *.
الجواب: أن أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد العقل والنفس والطبيعة، فقوله: * (ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) * رد على كل هؤلاء الطوائف والفرق، وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله.
ثم قال: * (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس) * وفيه مسألة. وهي أنه قال: * (ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) *.
ثم قال: * (ذلك من فضل الله) * فقوله: * (ذلك) * إشارة إلى ما تقدم من عدم الإشراك، فهذا يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله. ثم بين أن الأمر كذلك في حقه بعينه، وفي حق الناس. ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون، ويجب أن يكون المراد أنهم لا يشكرون الله على نعمة الإيمان، حكي أن واحدا من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر، وقال: هل تشكر الله على الإيمان أم لا. فإن قلت: لا، فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلا له، فقال له بشر إنا نشكره على أنه تعالى أعطانا القدرة والعقل والآلة، فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة، فأما أن نشكره على الإيمان مع أن الإيمان ليس فعلا له، فذلك باطل، وصعب الكلام على بشر، فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس وقال: إنا لا نشكر الله على الإيمان، بل الله يشكرنا عليه كما قال: * (أولئك كان سعيهم مشكورا) * (الإسراء: 19) فقال بشر: لما صعب الكلام سهل.
138

واعلم أن الذين ألزمه ثمامة باطل بنص هذه الآية، وذلك لأنه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، وإنما ذكره على سبيل الذم فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله تعالى على نعمة الإيمان وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة. قال القاضي قوله: * (ذلك) * إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بألطافه وتسهيله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة.
والجواب: أن ذلك إشارة إلى المذكور السابق، وذاك هو ترك الإشراك فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى، والقاضي يصرفه إلى الألطاف والتسهيل، فكان هذا تركا للظاهر وأما صرفه إلى النبوة فبعيد، لأن اللفظ الدال على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات وهو ههنا عدم الإشراك.
قوله تعالى
* (يا صاحبى السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (يا صاحبي السجن) * يريد صاحبي في السجن، ويحتمل أيضا أنه لما حصلت مرافقتهما في السجن مدة قليلة أضيفا إليه وإذا كانت المرافقة القليلة كافية في كونه صاحبا فمن عرف الله وأحبه طول عمره أولى بأن يبقى عليه اسم المؤمن العارف المحب.
المسألة الثانية: اعلم أنه عليه السلام لما ادعى النبوة في الآية الأولى وكان إثبات النبوة مبنيا على إثبات الإلهيات لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات، ولما كان أكثر الخلق مقرين بوجود الإله العالم القادر وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصناما على صورة الأرواح الفلكية
139

ويعبدونها ويتوقعون حصول النفع والضر منها لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء في المنع من عبادة الأوثان، فكان الأمر على هذا القانون في زمان يوسف عليه السلام، فلهذا السبب شرع ههنا في ذكر ما يدل على فساد القول بعبادة الأصنام وذكر أنواعا من الدلائل والحجج.
الحجة الأولى: قوله: * (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * وتقرير هذه الحجة أن نقول: إن الله تعالى بين أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا
العالم وهو قوله: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل، وكون الإله واحدا يقتضي حصول النظام وحسن الترتيب فلما قرر هذا المعنى في سائر الآيات قال ههنا: * (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار.
والحجة الثانية: أن هذه الأصنام معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة، فإن الإنسان إذا أراد كسرها وإبطالها قدر عليها فهي مقهورة لا تأثير لها، ولا يتوقع حصول منفعة ولا مضرة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر يقدر على إيصال الخيرات ودفع الشرور والآفات فكان المراد أن عبادة الآلهة المقهورة الذليلة خير أم عبادة الله الواحد القهار، فقوله: * (أأرباب) * إشارة إلى الكثرة فجعل في مقابلته كونه تعالى واحدا وقوله: * (متفرقون) * إشارة إلى كونها مختلفة في الكبر والصغر، واللون والشكل، وكل ذلك إنما حصل بسبب أن الناحت والصانع يجعله على تلك الصورة فقوله: * (متفرقون) * إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وجعل في مقابلته كونه تعالى قهارا فبهذا الطريق الذي شرحناه اشتملت هذه الآية على هذين النوعين الظاهرين.
والحجة الثالثة: أن كونه تعالى واحدا يوجب عبادته، لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا، فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك، وفيه إشارة إلى ما يدل على فساد القول بعبادة الأوثان وذلك لأن بتقدير أن تحصل المساعدة على كونها نافعة ضارة إلا أنها كثيرة فحينئذ لا نعلم أن نفعنا ودفع الضرر عنا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الآخر أو حصل بمشاركتهما ومعاونتهما، وحينئذ يقع الشك في أن المستحق للعبادة هو هذا أم ذاك أما إذا كان المعبود واحدا ارتفع هذا الشك وحصل اليقين في أنه لا يستحق للعبادة إلا هو ولا معبود للمخلوقات والكائنات إلا هو، فهذا أيضا وجه لطيف مستنبط من هذه الآية.
الحجة الرابعة: أن بتقدير أن يساعد على أن هذه الأصنام تنفع وتضر على ما يقوله أصحاب الطلسمات إلا أنه لا نزاع في أنها تنفع في أوقات مخصوصة وبحسب آثار مخصوصة، والإله تعالى قادر على جميع المقدورات فهو قهار على الإطلاق نافذ المشيئة والقدرة في كل الممكنات على الإطلاق فكان الاشتغال بعبادته أولى.
140

الحجة الخامسة: وهي شريفة عالية، وذلك لأن شرط القهار أن لا يقهره أحد سواه وأن يكون هو قهارا لكل ما سواه وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكنا لكان مقهورا لا قاهرا ويجب أن يكون واحدا، إذ لو حصل في الوجود واجبان لما كان قاهرا لكل ما سواه، فالإله لا يكون قهارا إلا إذا كان واجبا لذاته وكان واحدا، وإذا كان المعبود يجب أن يكون كذلك فهذا يقتضي أن يكون الإله شيئا غير الفلك وغير الكواكب وغير النور والظلمة وغير العقل والنفس. فأما من تمسك بالكواكب فهي أرباب متفرقون وهي ليست موصوفة بأنها قهارة، وكذا القول في الطبائع والأرواح والعقول والنفوس فهذا الحرف الواحد كاف في إثبات هذا التوحيد المطلق وأنه مقام عال فهذا مجموع الدلائل المستنبطة من هذه الآية بقي فيها سؤالان:
السؤال الأول: لم سماها أربابا وليست كذلك.
والجواب: لاعتقادهم فيها أنها كذلك، وأيضا الكلام خرج على سبيل الفرض والتقدير: والمعنى أنها إن كانت أربابا فهي خير أم الله الواحد القهار.
السؤال الثاني: هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال إنها خير أم الله الواحد القهار؟
الجواب: أنه خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار.
ثم قال: * (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) * وفيه سؤال: وهو أنه تعالى قال فيما قبل هذه الآية: * (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * وذلك يدل على وجود هذه المسميات. ثم قال عقيب تلك الآية: * (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها) * وهذا يدل على أن المسمى غير حاصل وبينهما تناقض.
الجواب: أن الذات موجودة حاصلة إلا أن المسمى بالإله غير حاصل وبيانه من وجهين: الأول: أن ذوات الأصنام وإن كانت موجودة إلا أنها غير موصوفة بصفات الإلهية، وإذا كان كذلك كان الشيء الذي هو مسمى بالإله في الحقيقة غير موجود ولا حاصل، الثاني: يروى أن عبدة الأوثان مشبهة فاعتقدوا أن الإله هو النور الأعظم وأن الملائكة أنوار صغيرة ووضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأوثان ومعبودهم في الحقيقة هو تلك الأنوار السماوية، وهذا قول المشبهة فإنهم تصوروا جسما كبيرا مستقرا على العرش ويعبدونه وهذا المتخيل غير موجود البتة فصح أنهم لا يعبدون إلا مجرد الأسماء.
141

واعلم أن جماعة ممن يعبدون الأصنام قالوا نحن لا نقول: إن هذه الأصنام آلهة للعالم بمعنى أنها هي التي خلقت العالم إلا أنا نطلق عليها اسم الإله ونعبدها ونعظمها لاعتقادنا أن الله أمرنا بذلك، فأجاب الله تعالى عنه، فقال أما تسميتها بالآلهة فما أمر الله تعالى بذلك وما أنزل في حصول هذه التسمية حجة ولا برهانا ولا دليلا ولا سلطانا، وليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام بل الحكم والأمر والتكليف ليس إلا له، ثم إنه أمر أن ألا تعبدوا إلا إياه، وذلك لأن العبادة نهاية التعظيم والإجلال فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والعقل والرزق والهداية، ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية ثم إنه تعالى لما بين هذه الأشياء، قال * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * وتفسيره أن أكثر الخلق يسندون حدوث الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية لأجل أنه تقرر في العقول أن الحادث لا بد له من سبب فإذا رأوا أن تغير أحوال هذا العالم في الحر والبرد والفصول الأربعة، إنما يحصل عند تغير أحوال الشمس في أرباع الفلك ربطوا الفصول الأربعة بحركة الشمس، ثم لما شاهدوا أن أحوال النبات والحيوان مختلفة بحسب اختلاف الفصول الأربعة ربطوا حدوث النبات وتغير أحوال الحيوان باختلاف الفصول الأربعة، فبهذا الطريق غلب على طباع أكثر الخلق أن المدبر لحدوث الحوادث في هذا العالم هو الشمس والقمر وسائر الكواكب، ثم إنه تعالى إذا وفق إنسانا حتى ترقى من هذه الدرجة وعرف أنها في ذواتها وصفاتها مفتقرة إلى موجد ومبدع قاهر قادر عليم حكيم، فذلك الشخص يكون في غاية الندرة، فلهذا قال: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
قوله عز وجل (يا صاحبي السجن أما أحد كما فيسقى ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير
من رأسه قضى الامر الذي فيه تستفتيان)
اعلم أنه عليه السلام لما قرر أمر التوحيد والنبوة عاد إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه،
والمعنى ظاهر، وذلك لان السابق لما قص رؤياه على يوسف، وقد ذكرنا كيف قص عليه قال له
يوسف: ما أحسن ما رأيت. أما حسن العنبة فهو حسن حالك، وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام
يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيردك إلى عملك فتصير كما كنت بل أحسن، وقال للخباز: لما قص
142

* (وقال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرنى عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث فى السجن بضع سنين) *.
عليه بئسما رأيت السلال الثلاث ثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيصلبك وتأكل الطير من
رأسك، ثم نقل في التفسير أنهما قالا ما رأينا شيئا فقال (قضى الامر الذي فيه تستفتيان) واختلف
فيما لأجله قالا ما رأينا شيئا فقيل أنهما وضعا هذا الكلام ليختبرا علمه بالتعبير مع أنهما ما رأيا شيئا
وقيل: إنهما لما كرها ذلك الجواب قالا ما رأينا شيئا.
فان قيل: هذا الجواب الذي ذكره يوسف عليه السلام ذكره بناء على الوحي من قبل الله تعالى
أو بناء على علم التعبير، والأول باطل لان ابن عباس رضى الله تعالى عنهما نقل أنه إنما ذكر على
سبيل التعبير، وأيضا قال تعالى (وقال للذي ظن أنه ناج منهما) ولو كان ذلك التعبير مبنيا على الوحي
لكان الحاصل منه القطع واليقين لا الظن والتخمين، والثاني: أيضا باطل لان علم التعبير مبنى على
الظن والحسبان.
الجواب: لا يبعد أن يقال: إنهما لما سألاه عن ذلك المنام صدقا فيه أو كذبا فان الله تعالى
أوحى إليه أن عاقبة كل واحد منهما تكون على الوجه المخصوص، فلما نزل الوحي بذلك الغيب
عند ذلك السؤال وقع في الظن أنه ذكره على سبيل التعبير، ولا يبعد أيضا أن يقال: إنه نبي ذلك
الجواب على علم التعبير، وقوله (قضى الامر الذي فيه تستفتيان) ما عنى به ان الذي ذكره واقع لا محالة
بل عنى به أنه حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره.
قوله عز وجل (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر به فلبث
في السجن بضع سنين)
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن الموصوف بالظن هو يوسف عليه السلام أو الناجي فعلى الأول كان المعنى وقال الرجل الذي ظن يوسف عليه السلام كونه ناجيا، وعلى هذا القول وجهان: الأول: أن تحمل هذا الظن على العلم واليقين، وهذا إذا قلنا بأنه عليه السلام إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الوحي. قال هذا القائل وورود لفظ الظن بمعنى اليقين كثير في القرآن. قال تعالى: * (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) * (البقرة: 46) وقال: * (إني ظننت أني ملاق حسابيه) * (الحاقة: 20) والثاني: أن تحمل هذا الظن على حقيقة
143

الظن، وهذا إذا قلنا إنه عليه السلام ذكر ذلك التعبير لا بناء على الوحي، بل على الأصول المذكورة في ذلك العلم، وهي لا تفيد إلا الظن والحسبان.
والقول الثاني: أن هذا الظن صفة الناجي، فإن الرجلين السائلين ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف ورسالته، ولكنهما كانا حسني الاعتقاد فيه، فكان قوله لا يفيد في حقهما إلا مجرد الظن.
المسألة الثانية: قال يوسف عليه السلام لذلك الرجل الذي حكم بأنه يخرج من الحبس ويرجع إلى خدمة الملك * (اذكرني عند ربك) * أي عند الملك. والمعنى: أذكر عنده أنه مظلوم من جهة إخوته لما أخرجوه وباعوه، ثم إنه مظلوم في هذه الواقعة التي لأجلها حبس، فهذا هو المراد من الذكر.
ثم قال تعالى: * (فأنساه الشيطان ذكر ربه) * وفيه قولان: الأول: أنه راجع إلى يوسف، والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه، وعلى هذا القول ففيه وجهان: أحدهما: أن تمسكه بغير الله كان مستدركا عليه، وتقريره من وجوه: الأول: أن مصلحته كانت في أن لا يرجع في تلك الواقعة إلى أحد من المخلوقين وأن لا يعرض حاجته على أحد سوى الله، وأن يقتدي بجده إبراهيم عليه السلام، فإنه حين وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار جاءه جبريل عليه السلام وقال: هل من حاجة، فقال أما إليك فلا، فلما رجع يوسف إلى المخلوق لا جرم وصف الله ذلك بأن الشيطان أنساه ذلك التفويض، وذلك التوحيد، ودعاه إلى عرض الحاجة إلى المخلوقين، ثم لما وصفه بذلك ذكر أنه بقي لذلك السبب في السجن بضع سنين، والمعنى أنه لما عدل عن الانقطاع إلى ربه إلى هذا المخلوق عوقب بأن لبث في السجن بضع سنين، وحاصل الأمر أن رجوع يوسف إلى المخلوق صار سببا لأمرين: أحدهما: أنه صار سببا لاستيلاء الشيطان عليه حتى أنساه ذكر ربه، الثاني: أنه صار سببا لبقاء
المحنة عليه مدة طويلة.
الوجه الثاني: أن يوسف عليه السلام قال في إبطال عبادة الأوثان * (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * ثم إنه ههنا أثبت ربا غيره حيث قال: * (اذكرني عند ربك) * ومعاذ الله أن يقال إنه حكم عليه بكونه ربا بمعنى كونه إلها، بل حكم عليه بالربوبية كما يقال: رب الدار، ورب الثوب على أن إطلاق لفظ الرب عليه بحسب الظاهر يناقض نفي الأرباب.
الوجه الثالث: أنه قال في تلك الآية ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، وذلك نفي للشرك على الإطلاق، وتفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى، فههنا الرجوع إلى غير الله تعالى كالمناقض لذلك التوحيد.
واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين
144

فهذا وإن كان جائزا لعامة الخلق إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب.
الوجه الثاني: في تأويل الآية أن يقال: هب أنه تمسك بغير الله وطلب من ذلك الساقي أن يشرح حاله عند ذلك الملك، إلا أنه كان من الواجب عليه أن لا يخلي ذلك الكلام من ذكر الله مثل أن يقول إن شاء الله أو قدر الله فلما أخلاه عن هذا الذكر وقع هذا الاستدراك.
القول الثاني: أن يقال إن قوله: * (فأنساه الشيطان ذكر ربه) * راجع إلى الناجي والمعنى: أن الشيطان أنسى ذلك الفتى أن يذكر يوسف للملك حتى طال الأمر * (فلبث في السجن بضع سنين) * بهذا السبب، ومن الناس من قال القول الأول أولى لما روي عنه عليه السلام قال: " رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن " وعن قتادة أن يوسف عليه السلام عوقب بسبب رجوعه إلى غير الله، وعن إبراهيم التيمي أنه لما انتهى إلى باب السجن قال له صاحبه: ما حاجتك قال: أن تذكرني عند رب سوى الرب الذي قال يوسف، وعن مالك لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قيل: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال: طول البلاء أنساني ذكر المولى فقلت هذه الكلمة فويل لإخوتي.
قال مصنف الكتاب فخر الدين الرازي رحمه الله، والذي جربته من أول عمري إلى آخره أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله صار ذلك سببا إلى البلاء والمحنة، والشدة والرزية، وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق ذلك المطلوب على أحسن الوجوه فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين، فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه ومن الناس من رجح القول الثاني لأن صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل أولى من صرفها إلى يوسف الصديق، ولأن الاستعانة بالعباد في التخلص من الظلم جائزة.
واعلم أن الحق هو القول الأول وما ذكره هذا القائل الثاني تمسك بظاهر الشريعة وما قرره القائل الأول تمسك بأسرار الحقيقة ومكارم الشريعة، ومن كان له ذوق في مقام العبودية وشرب من مشرب التوحيد عرف أن الأمر كما ذكرناه، وأيضا ففي لفظ الآية ما يدل على أن هذا القول ضعيف، لأنه لو كان المراد ذلك لقال فأنساه الشيطان ذكره لربه.
المسألة الثالثة: الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة في الشريعة لا إنكار عليه إلا أنه لما كان ذلك مستدركا من المحققين المتوغلين في بحار العبودية لا جرم صار يوسف عليه السلام مؤاخذا
145

به، وعند هذا نقول: الذي يصير مؤاخذا بهذا القدر لأن يصير مؤاخذا بالإقدام على طلب الزنا ومكافأة الإحسان بالإساءة كان أولى فلما رأينا الله تعالى آخذه بهذا القدر، ولم يؤاخذه في تلك القضية البتة، وما عابه بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء علمنا أنه عليه السلام كان مبرأ مما نسبه الجهال والحشوية إليه.
المسألة الرابعة: الشيطان يمكنه إلقاء الوسوسة، وأما النسيان فلا، لأنه عبارة عن إزالة العلم عن القلب، والشيطان لا قدرة له عليه، وإلا لكان قد أزال معرفة الله تعالى عن قلوب بني آدم.
وجوابه: أنه يمكنه من حيث إنه بوسوسته يدعو إلى سائر الأعمال واشتغال الإنسان بسائر الأعمال يمنعه عن استحضار ذلك العلم وتلك المعرفة.
المسألة الخامسة: قوله: * (فلبث في السجن بضع سنين) * فيه بحثان: البحث الأول: بحسب اللغة قال الزجاج: اشتقاقه من بضعت بمعنى قطعت ومعناه القطعة من العدد قال الفراء: ولا يذكر البضع إلا مع عشرة أو عشرين إلى التسعين وذلك يقتضي أن يكون مخصوصا بما بين الثلاثة إلى التسعة، وقال هكذا رأيت العرب يقولون وما رأيتهم يقولون بضع ومائة، وروى الشعبي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: " كم البضع " قالوا الله ورسوله أعلم قال: " ما دون العشرة " واتفق الأكثرون على أن المراد ههنا ببضع سنين، سبع سنين قالوا: إن يوسف عليه السلام حين قال لذلك الرجل: * (اذكرني عند ربك) * كان قد بقي في السجن خمس سنين ثم بقي بعد ذلك سبع سنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما تضرع يوسف عليه السلام إلى ذلك الرجل كان قد اقترب وقت خروجه فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنين، وروي أن الحسن روى قوله صلوات الله عليه وسلامه: " رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها لما لبث في السجن هذه المدة الطويلة " ثم بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر تضرعنا إلى الناس.
قوله تعالى
* (وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتونى فى رؤياى إن كنتم للرؤيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلام وما نحن
146

بتأويل الاحلام بعالمين) *.
اعلم أنه تعالى إذا أراد شيئا هيأ له أسبابا، ولما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر في النوم سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعا أخر يابسات، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكمنة وذكرها لهم وهو المراد من قوله: * (يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي) * فقال القوم هذه الرؤيا مختلطة فلا تقدر على تأويلها وتعبيرها، فهذا ظاهر الكلام وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الليث: العجف ذهاب السمن والفعل عجف يعجف والذكر أعجف والأنثى عجفاء والجمع عجاف في الذكران والإناث. وليس في كلام العرب أفعل وفعلاء جمعا على فعال غير أعجف وعجاف وهي شاذة حملوها على لفظ سمان فقالوا: سمان وعجاف لأنهما نقيضان ومن دأبهم حمل النظير على النظير، والنقيض على النقيض، واللام في قوله: * (للرؤيا تعبرون) * على قول البعض زائدة لتقدم المفعول على الفعل، وقال صاحب " الكشاف ": يجوز أن تكون الرؤيا خبر كان كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه وتعبرون خبرا آخر أو حالا، ويقال عبرت الرؤيا أعبرها وعبرتها تعبيرا إذا فسرتها، وحكى الأزهري أن هذا مأخوذ من العبر، وهو جانب النهر ومعنى عبرت النهر، والطريق قطعته إلى الجانب الآخر فقيل لعابر الرؤيا عابر، لأنه يتأمل جانبي الرؤيا فيتفكر في أطرافها وينتقل من أحد الطرفين إلى الآخر، والأضغاث جمع الضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش بشرط أن يكون مما قام على ساق واستطال قال تعالى: * (وخذ بيدك ضغثا) * (ص: 44).
إذا عرفت هذا فنقول: الرؤيا إن كانت مخلوطة من أشياء غير متناسبة كانت شبيهة بالضغث.
المسألة الثانية: أنه تعالى جعل تلك الرؤيا سببا لخلاص يوسف عليه السلام من السجن، وذلك لأن الملك لما قلق واضطرب بسببه، لأنه شاهد أن الناقص الضعيف استولى على الكامل القوي فشهدت فطرته بأن هذا ليس بجيد وأنه منذر بنوع من أنواع الشر، إلا أنه ما عرف كيفية الحال فيه والشيء إذا صار معلوما من وجه وبقي مجهولا من وجه آخر عظم تشوف الناس إلى تكميل تلك المعرفة وقويت الرغبة في إتمام الناقص لا سيما إذا كان الإنسان عظيم الشأن واسع المملكة، وكان ذلك الشيء دالا على الشر من بعض الوجوه فبهذا الطريق قوى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم بتعبير هذه الرؤيا، ثم إنه تعالى أعجز المعبرين اللذين حضروا عند ذلك الملك عن جواب هذه المسألة وعماه عليهم ليصير ذلك سببا لخلاص يوسف من تلك المحنة.
147

واعلم أن القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير، بل قالوا: إن علم التعبير على قسمين منه ما تكون الرؤيا فيه منتسقة منتظمة فيسهل الانتقال من الأمور المتخيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية ومنه ما تكون فيه مختلطة مضطربة ولا يكون فيها ترتيب معلوم وهو المسمى بالأضغاث والقوم قالوا إن رؤيا الملك من قسم الأضغاث ثم أخبروا أنهم غير عالمين بتعبير هذا القسم وكأنهم قالوا هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة وما كان كذلك فنحن لا نهتدي إليها ولا يحيط عقلنا بها وفيها إيهام أن الكامل في هذا العلم والمتبحر فيه قد يهتدي إليها، فعند هذه المقالة تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف فإنه كان يعتقد فيه كونه متبحرا في هذا العلم.
قوله تعالى
* (وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون * يوسف أيها الصديق أفتنا فى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون) *.
اعلم أن الملك لما سأل الملأ عن الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب قال الشرابي إن في الحبس رجلا فاضلا صالحا كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في الكل وما أخطأ في حرف فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب. فهذا هو قوله: * (وقال الذي نجا منهما) *.
وأما قوله: * (وادكر بعد أمة) * فنقول: سيجيء أذكر في تفسير قوله تعالى: * (من مدكر) * (القمر: 51) في سورة القمر قال صاحب " الكشاف " * (وادكر) * بالدال هو الفصيح عن الحسن * (واذكر) * بالذال أي تذكر، وأما الأمة ففيه وجوه: الأول: * (بعد أمة) * أي بعد حين، وذلك لأن الحين إنما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم فالحين كان أمة من الأيام والساعات والثاني: قرأ الأشهب العقيلي * (بعد إمة) * بكسر الهمزة والإمة النعمة قال عدي: ثم بعد الفلاح والملك والإمة وارتهم هناك القبور
148

والمعنى: بعدما أنعم عليه بالنجاة. الثالث: قرىء * (بعد أمه) * أي بعد نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي والصحيح أنها بفتح الميم وذكره أبو عبيدة بسكون الميم، وحاصل الكلام أنه إما أن يكون المراد وادكر بعد مضي الأوقات الكثيرة من الوقت الذي أوصاه يوسف عليه السلام بذكره عند الملك، والمراد وادكر بعد وجدان النعمة عند ذلك الملك أو المراد وادكر بعد النسيان.
فإن قيل: قوله: * (وادكر بعد أمة) * يدل على أن الناسي هو الشرابي وأنتم تقولون الناسي هو يوسف عليه السلام.
قلنا: قال ابن الأنباري: أذكر بمعنى ذكر وأخبر وهذا لا يدل على سبق النسيان فلعل الساقي إنما لم يذكره للملك خوفا من أن يكون ذلك اذكارا لذنبه الذي من أجله حبسه فيزداد الشر ويحتمل أيضا أن يقال: حصل النسيان ليوسف عليه السلام وحصل أيضا لذلك الشرابي. وأما قوله: * (فأرسلون) * خطاب إما للملك والجمع أو للملك وحده على سبيل التعظيم، أما قوله: * (يوسف أيها الصديق) * ففيه محذوف، والتقدير: فأرسل وأتاه وقال أيها الصديق، والصديق هو البالغ في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه لم يجرب عليه كذبا وقيل: لأنه صدق في تعبير رؤياه وهذا يدل على أن من أراد أن يتعلم من رجل شيئا فإنه يجب عليه أن يعظمه، وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال ثم إنه أعاد السؤال بعين اللفظ الذي ذكره الملك ونعم ما فعل، فإن تعبير الرؤيا قد يختلف بسبب اختلاف اللفظ كما هو مذكور في ذلك العلم.
أما قوله تعالى: * (لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون) * فالمراد لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لعلهم يعلمون فضلك وعلمك وإنما قال لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لأنه رأى عجز سائر المعبرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز هو أيضا عنها، فلهذا السبب قال: * (لعلي أرجع إلى الناس) *.
قوله تعالى
* (قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه فى سنبله إلا قليلا مما
149

تأكلون * ثم يأتى من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتى من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) *.
اعلم أنه عليه السلام ذكر تعبير تلك الرؤيا فقال: * (تزرعون) * وهو خبر بمعنى الأمر، كقوله: * (والمطلقات يتربصن) * (البقرة: 228) * (والوالدات يرضعن) * (البقرة: 233) وإنما يخرج الخبر بمعنى الأمر، ويخرج الأمر في صورة الخير للمبالغة في الإيجاب، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: * (فذروه في سنبله) * وقوله: * (دأبا) * قال أهل اللغة: الدأب استمرار الشيء على حالة واحدة وهو دائب بفعل كذا إذا استمر في فعله، وقد دأب يدأب دأبا ودأبا أي زراعة متوالية في هذه السنين. قال أبو علي الفارسي: الأكثرون في دأب الإسكان ولعل الفتحة لغة، فيكون كشمع وشمع، ونهر ونهر. قال الزجاج: وانتصب دأبا على معنى تدأبون دأبا. وقيل: إنه مصدر وضع في موضع الحال، وتقديره تزرعون دائبين فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون كل ما أردتم أكله فدوسوه ودعوا الباقي في سنبله حتى لا يفسد ولا يقع السوس فيه، لأن إبقاء الحبة في سنبله يوجب بقاءها على الصلاح * (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد) * أي سبع سنين مجدبات، والشداد الصعاب التي تشتد على الناس، وقوله: * (يأكلن ما قدمتم لهن) * هذا مجاز، فإن السنة لا تأكل فيجعل أكل أهل تلك السنين مسندا إلى السنين. وقوله: * (إلا قليلا مما تحصنون) * الإحصان الإحراز، وهو إلقاء الشيء في الحصن يقال أحصنه إحصانا إذا جعله في حرز، والمراد إلا قليلا مما تحرزون أي تدخرون وكلها ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله: * (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس) * قال المفسرون السبعة المتقدمة سنو الخصب وكثرة النعم والسبعة الثانية سنو القحط والقلة وهي معلومة من الرؤيا، وأما حال هذه السنة فما حصل في ذلك المنام شيء يدل عليه بل حصل ذلك من الوحي فكأنه عليه السلام ذكر أنه يحصل بعد السبعة المخصبة والسبعة المجدبة سنة مباركة كثيرة الخير والنعم، وعن قتادة زاده الله علم سنة.
فإن قيل: لما كانت العجاف سبعا دل ذلك على أن السنين المجدبة لا تزيد على هذا العدد، ومن المعلوم أن الحاصل بعد انقضاء القحط هو الخصب وكان هذا أيضا من مدلولات المنام، فلم قلتم إنه حصل بالوحي والإلهام؟
قلنا: هب أن تبدل القحط بالخصب معلوم من المنام، أما تفصيل الحال فيه، وهو قوله: * (فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) * لا يعلم إلا بالوحي، قال ابن السكيت يقال: غاث الله البلاد يغيثها غيثا إذا أنزل فيها الغيث وقد غيثت الأرض تغاث، وقوله: * (يغاث الناس) * معناه يمطرون، ويجوز أن
150

يكون من قولهم: أغاثه الله إذا أنقذه من كرب أو غم، ومعناه ينقذ الناس فيه من كرب الجدب، وقوله: * (وفيه يعصرون) * أي يعصرون السمسم دهنا والعنب خمرا والزيتون زيتا، وهذا يدل على ذهاب الجدب وحصول الخصب والخير، وقيل: يحلبون الضروع، وقرئ * (يعصرون) * من عصره إذا نجاه، وقيل: معناه يمطرون من أعصرت السحابة إذا عصرت بالمطر، ومنه قوله: * (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا) * (النبأ: 14).
قوله تعالى
* (وقال الملك ائتونى به فلما جآءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتى قطعن أيديهن إن ربى بكيدهن عليم * قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الان حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين * ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين) *.
اعلم أنه لما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه الملك فقال: ائتوني به، وهذا يدل على فضيلة العلم، فإنه سبحانه جعل علمه سببا لخلاصه من المحنة الدنيوية، فكيف لا يكون العلم سببا للخلاص من المحن الأخروية، فعاد الشرابي إلى يوسف عليه السلام قال أجب الملك، فأبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا بعد أن ينكشف أمره وتزول التهمة بالكلية عنه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوا لي ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: * (ارجع إلى ربك) * ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة وبادرتهم إلى الباب؛ ولما ابتغيت العذر أنه كان حليما ذا أناة ".
151

واعلم أن الذي فعله يوسف من الصبر والتوقف إلى أن تفحص الملك عن حاله هو اللائق بالحزم والعقل، وبيانه من وجوه: الأول: أنه لو خرج في الحال فربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثرها، فلما التمس من الملك أن يتفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوسل بها إلى الطعن فيه. الثاني: أن الإنسان الذي بقي في السجن اثنتي عشرة سنة إذا طلبه الملك وأمر بإخراجه الظاهر أنه يبادر بالخروج، فحيث لم يخرج عرف منه كونه في نهاية العقل والصبر والثبات، وذلك يصير سببا لأن يعتقد فيه بالبراءة عن جميع أنواع التهم، ولأن يحكم بأن كل ما قيل فيه كان كذبا وبهتانا. الثالث: أن التماسه من الملك أن يتفحص عن حاله من تلك النسوة يدل أيضا على شدة طهارته إذ لو كان ملوثا بوجه ما، لكان خائفا أن يذكر ما سبق. الرابع: أنه حين قال للشرابي: * (اذكرني عند ربك) * فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن بضع سنين وههنا طلبه الملك فلم يلتفت إليه ولم يقم لطلبه وزنا، واشتغل بإظهار براءته عن التهمة، ولعله كان غرضه عليه السلام من ذلك أن لا يبقى في قلبه التفات إلى رد الملك وقبوله، وكان هذا العمل جاريا مجرى التلافي لما صدر من التوسل إليه في
قوله: * (اذكرني عند ربك) * ليظهر أيضا هذا المعنى لذلك الشرابي، فإنه هو الذي كان واسطة في الحالتين معا.
أما قوله: * (فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير والكسائي * (فسله) * بغير همز والباقون * (فاسأله) * بالهمز، وقرأ عاصم برواية أبي بكر عنه * (النسوة) * بضم النون والباقون بكسر النون، وهما لغتان.
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية فيها أنواع من اللطائف: أولها: أن معنى الآية: فسل الملك يأن يسأل ما شأن تلك النسوة وما حالهن ليعلم براتي عن تلك التهمة، إلا أنه اقتصر على أن يسأل الملك عن تلك الواقعة لئلا يشتمل اللفظ على ما يجري مجرى أمر الملك بعمل أو فعل وثانيها: أنه لم يذكر سيدته مع أنها هي التي سعت في إلقائه في السجن الطويل، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة. وثالثها: أن الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عمل قبيح وفعل شنيع عند الملك، فاقتصر يوسف عليه السلام على مجرد قوله: * (ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) * وما شكا منهن على سبيل التعيين والتفصيل. ثم قال يوسف بعد ذلك: * (إن ربي بكيدهن عليم) * وفي المراد من قوله: * (إن ربي) * وجهان: الأول: أنه هو الله تعالى، لأنه تعالى هو العالم بخفيات الأمور. والثاني: أن المراد الملك وجعله ربا لنفسه لكونه مربيا وله وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالما بكيدهن ومكرهن.
واعلم أن كيدهن في حقه يحتمل وجوها: أحدها: أن كل واحدة منهن ربما طمعت فيه،
152

فلما لم تجد المطلوب أخذت تطعن فيه وتنسبه إلى القبيح. وثانيها: لعل كل واحدة منهن بالغت في ترغيب يوسف في موافقة سيدته على مرادها، ويوسف علم أن مثل هذه الخيانة في حق السيد المنعم لا تجوز، فأشار بقوله: * (إن ربي بكيدهن عليم) * إلى مبالغتهن في الترغيب في تلك الخيانة. وثالثها: أنه استخرج منهن وجوها من المكر والحيل في تقبيح صورة يوسف عليه السلام عند الملك فكان المراد من هذا اللفظ ذاك، ثم إنه تعالى حكى عن يوسف عليه السلام أنه لما التمس ذلك، أمر الملك بإحضارهن وقال لهن: * (ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه) * وفيه وجهان: الأول: أن قوله: * (إذ راودتن يوسف عن نفسه) * وإن كانت صيغة الجمع، فالمراد منها الواحدة كقوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) * (آل عمران: 173) والثاني: أن المراد منه خطاب الجماعة. ثم ههنا وجهان: الأول: أن كل واحدة منهن راودت يوسف عن نفسها. والثاني: أن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه، وعند هذا السؤال * (قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء) * وهذا كالتأكيد لما ذكرن في أول الأمر في حقه وهو قولهن: * (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) *.
واعلم أن امرأة العزيز كانت حاضرة، وكانت تعلم أن هذه المناظرات والتفحصات إنما وقعت بسببها ولأجلها فكشفت عن الغطاء وصرحت بالقول الحق وقالت: * (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذه شهادة جازمة من تلك المرأة بأن يوسف صلوات الله عليه كان مبرأ عن كل الذنوب مطهرا عن جميع العيوب، وههنا دقيقة، وهي أن يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال: * (ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) * فذكرهن ولم يذكر تلك المرأة البتة فعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيما لجانبها وإخفاء للأمر عليها، فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء واعترفت بأن الذنب كله كان من جانبها وأن يوسف عليه السلام كان مبرأ عن الكل، ورأيت في بعض الكتب أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر، فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى تتمكن الشهود من إقامة الشهادة، فقال الزوج: لا حاجة إلى ذلك، فإني مقر بصدقها في دعواها، فقالت المرأة لما أكرمتني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمتك من كل حق لي عليك.
المسألة الثانية: قال أهل اللغة: * (حصحص الحق) * معناه: وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس من قولهم: حصحص البعير في بروكه، إذا تمكن واستقر في الأرض. قال الزجاج: اشتقاقه في اللغة من الحصة، أي بانت حصة الحق من حصة الباطل.
153

المسألة الثالثة: اختلفوا في أن قوله: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * كلام من؟ وفيه أقوال:
القول الأول: وهو قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام. قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى: * (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة) * (النمل: 34) وهذا كلام بلقيس. ثم إنه تعالى قال: * (وكذلك يفعلون) * وأيضا قوله تعالى: * (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) * (آل عمران: 9) كلام الداعي.
ثم قال: * (إن الله لا يخلف الميعاد) * بقي على هذا القول سؤالات:
السؤال الأول: قوله: * (ذلك) * إشارة إلى الغائب، والمراد ههنا: الإشارة إلى تلك الحادثة الحاضرة.
والجواب: أجبنا عنه في قوله: * (ذلك الكتاب) * (البقرة: 2) وقيل: ذلك إشارة إلى ما فعله من رد الرسول كأنه يقول ذلك الذي فعلت من ردي الرسول إنما كان، ليعلم الملك أني لم أخنه بالغيب.
السؤال الثاني: متى قال يوسف عليه السلام هذا القول؟
الجواب: روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال ذلك ليعلم وإنما ذكره على لفظ الغيبة تعظيما للملك عن الخطاب والأولى أنه عليه السلام إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه لأن ذكر هذا الكلام في حضرة الملك سوء أدب.
السؤال الثالث: هذه الخيانة وقعت في حق العزيز فكيف يقول: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) *.
والجواب: قيل المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بالغيبة، وقيل إنه إذا خان وزيره فقد خانه من بعض الوجوه، وقيل إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن قال ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ثم ختم الكلام بقوله: * (وأن الله لا يهدي كد الخائنين) * ولعل المراد منه أني لو كنت خائنا لما خلصني الله تعالى من هذه الورطة، وحيث خلصني منها ظهر أني كنت مبرأ عما نسبوني إليه.
والقول الثاني: أن قوله: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * كلام امرأة العزيز والمعنى: أني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه عند غيبته، أي لم أقل فيه وهو في السجن خلاف الحق. ثم إنها بالغت في تأكيد الحق بهذا القول، وقالت: * (وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) * يعني أني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت وأنه لما كان بريئا عن الذنب لا جرم طهره الله تعالى عنه. قال صاحب هذا القول: والذي يدل على صحته أن يوسف عليه السلام ما كان حاضرا في ذلك المجلس حتى يقال لما ذكرت المرأة قولها: * (الآن حصحص الحق أنا راودته
154

عن نفسه وإنه لمن الصادقين) * ففي تلك الحالة يقول يوسف: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول من ذلك المجلس إلى السجن ويذكر له تلك الحكاية، ثم إن يوسف يقول ابتداء * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * ومثل هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ما جاء البتة في نثر ولا نظم فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة. المسألة الرابعة: هذه الآية دالة على طهارة يوسف عليه السلام من الذنب من وجوه كثيرة: الأول: أن الملك لما أرسل إلى يوسف عليه السلام وطلبه فلو كان يوسف متهما بفعل قبيح وقد كان صدر منه ذنب وفحش لاستحال بحسب العرف والعادة أن يطلب من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة، لأنه لو كان قد أقدم على الذنب ثم إنه يطلبه من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة كان ذلك سعيا منه في فضيحة نفسه وفي تجديد العيوب التي صارت مندرسة مخفية والعاقل لا يفعل ذلك، وهب أنه وقع الشك لبعضهم في عصمته أو في نبوته إلا أنه لا شك أنه كان عاقلا، والعاقل يمتنع أن يسعى في فضيحة نفسه وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه. والثاني: أن النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ونزاهته حيث قلن: * (حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) * (يوسف: 31) وفي المرة الثانية حيث قلن: * (حاش لله ما علمنا عليه من سوء) * والثالث: أن امرأة العزيز أقرت في المرة الأولى بطهارته حيث قالت: * (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) * (يوسف: 32) وفي المرة الثانية في هذه الآية.
واعلم أن هذه الآية دالة على طهارته من وجوه: أولها: قول المرأة: * (أنا راودته عن نفسه) * وثانيها: قولها: * (وإنه لمن الصادقين) * وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله: * (هي راودتني عن نفسي) * (يوسف: 26) وثالثها: قول يوسف عليه السلام: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال جبريل عليه السلام، ولا حين هممت، وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعيا منهم في تحريف ظاهر القرآن. ورابعها: قوله: * (وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) * يعني أن صاحب الخيانة لا بد وأن يفتضح، فلو كنت خائنا لوجب أن افتضح وحيث لم افتضح وخلصني الله تعالى من هذه الورطة، فكل ذلك يدل على أني ما كنت من الخائنين، وههنا وجه آخر وهو أقوى من الكل، وهو أن في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسة، وتلك المحنة صارت منتهية، فإقدامه على قوله: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة، وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلا لا يليق بأحد من العقلاء، فكيف يليق إسناده إلى سيد العقلاء، وقدوة الأصفياء؟ فثبت أن هذه الآية تدل دلالة قاطعة على
155

براءته مما يقوله الجهال والحشوية.
قوله تعالى
* (ومآ أبرىء نفسى إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن تفسير هذه الآية يختلف بحسب اختلاف ما قبلها لأنا إن قلنا إن قوله: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * (يوسف: 52) كلام يوسف كان هذا أيضا من كلام يوسف، وإن قلنا إن ذلك من تمام كلام المرأة كان هذا أيضا كذلك ونحن نفسر هذه الآية على كلا التقديرين، أما إذا قلنا إن هذا كلام يوسف عليه السلام فالحشوية تمسكوا به وقالوا: إنه عليه السلام لما قال: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * قال جبريل عليه السلام ولا حين هممت بفك سراويلك فعند ذلك قال يوسف: * (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) * أي بالزنا * (إلا ما رحم ربي) * أي عصم ربي * (إن ربي غفور) * للهم الذي هممت به * (رحيم) * أي لو فعلته لتاب علي.
واعلم أن هذا الكلام ضعيف فإنا بينا أن الآية المتقدمة برهان قاطع على براءته عن الذنب بقي أن يقال: فما جوابكم عن هذه الآية فنقول فيه وجهان:
الوجه الأول: أنه عليه السلام لما قال: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * كان ذلك جاريا مجرى مدح النفس وتزكيتها، وقال تعالى: * (فلا تزكوا أنفسكم) * (النجم: 32) فاستدرك ذلك على نفسه بقوله: * (وما أبرئ نفسي) * والمعنى: وما أزكي نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية.
والوجه الثاني: في الجواب أن الآية لا تدل البتة على شيء مما ذكروه وذلك لأن يوسف عليه السلام لما قال: * (إني لم أخنه بالغيب) * بين أن ترك الخيانة ما كان لعدم الرغبة ولعدم ميل النفس والطبيعة، لأن النفس أمارة بالسوء والطبيعة تواقة إلى الذات فبين بهذا الكلام أن الترك ما كان لعدم الرغبة، بل لقيام الخوف من الله تعالى
. أما إذا قلنا: إن هذا الكلام من بقية كلام المرأة ففيه وجهان: الأول: وما أبرئ نفسي عن مراودته ومقصودها تصديق يوسف عليه السلام في قوله: * (هي راودتني عن نفسي) * الثاني: أنها لما قالت: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * (يوسف: 52) قالت وما أبرئ نفسي عن الخيانة مطلقا فإني قد خنته حين قد أحلت الذنب عليه وقلت: * (ما جزاء من أراد بأهلك
156

سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم) * (يوسف: 25) وأودعته السجن كأنها أرادت الاعتذار مما كان.
فإن قيل جعل هذا الكلام كلاما ليوسف أولى أم جعله كلاما للمرأة؟
قلنا: جعله كلاما ليوسف مشكل، لأن قوله: * (قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق) * (يوسف: 51) كلام موصول بعضه ببعض إلى آخره، فالقول بأن بعضه كلام المرأة والبعض كلام يوسف مع تخلل الفواصل الكثيرة بين القولين وبين المجلسين بعيد، وأيضا جعله كلاما للمرأة مشكل أيضا، لأن قوله: * (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) * كلام لا يحسن صدوره إلا ممن احترز عن المعاصي، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل كسر النفس، وذلك لا يليق بالمرأة التي استفرغت جهدها في المعصية.
المسألة الثانية: قالوا: * (ما) * في قوله: * (إلا ما رحم ربي) * بمعنى " من " والتقدير: إلا من رحم ربي، وما ومن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر كقوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3) وقال: * (ومنهم من يمشي على أربع) * (النور: 45) وقوله: * (إلا ما رحم ربي) * استثناء متصل أو منقطع، فيه وجهان: الأول: أنه متصل، وفي تقريره وجهان: الأول: أن يكون قوله: * (إلا ما رحم ربي) * أي إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة. الثاني: إلا ما رحم ربي أي إلا وقت رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت العصمة.
والقول الثاني: أنه استثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة كقوله: * (ولاهم ينصرون) * (البقرة: 48) * (إلا رحمة منا) * (يس: 44).
المسألة الثالثة: اختلف الحكماء في أن النفس الإمارة بالسوء ما هي؟ والمحققون قالوا إن النفس الإنسانية شيء واحد، ولها صفات كثيرة فإذا مالت إلى العالم الإلهي كانت نفسا مطمئنة، وإذا مالت إلى الشهوة والغضب كانت أمارة بالسوء، وكونها أمارة بالسوء يفيد المبالغة والسبب فيه أن النفس من أول حدوثها قد ألفت المحسوسات والتذت بها وعشقتها، فأما شعورها بعالم المجردات وميلها إليه، فذلك لا يحصل إلا نادرا في حق الواحد، فالواحد وذلك الواحد فإنما يحصل له ذلك التجرد والانكشاف طول عمره في الأوقات النادرة فلما كان الغالب هو انجذابها إلى العالم الجسداني وكان ميلها إلى الصعود إلى العالم الأعلى نادرا لا جرم حكم عليها بكونها أمارة بالسوء، ومن الناس من زعم أن النفس المطمئنة هي النفس العقلية النطقية، وأما النفس الشهوانية والغضبية فهما مغايرتان للنفس العقلية، والكلام في تحقيق الحق في هذا الباب مذكور في المعقولات.
المسألة الرابعة: تمسك أصحابنا في أن الطاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله بقوله:
157

* (إلا ما رحم ربي) * قالوا دلت الآية على أن انصراف النفس من الشر لا يكون إلا برحمته؛ ولفظ الآية مشعر بأنه متى حصلت تلك الرحمة حصل ذلك الانصراف. فنقول: لا يمكن تفسير هذه الرحمة بإعطاء العقل والقدرة والألطاف كما قاله القاضي لأن كل ذلك مشترك بين الكافر والمؤمن فوجب تفسيرها بشيء آخر، وهو ترجيح داعية الطاعة على داعية المعصية وقد أثبتنا ذلك أيضا بالبرهان القاطع وحينئذ يحصل منه المطلوب.
قوله تعالى
* (وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين * قال اجعلنى على خزآئن الارض إنى حفيظ عليم) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال: هو العزيز، ومنهم من قال: بل هو الريان الذي هو الملك الأكبر، وهذا هو الأظهر لوجهين: الأول: أن قول يوسف: * (اجعلني على خزائن الأرض) * يدل عليه. الثاني: أن قوله: * (أستخلصه لنفسي) * يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصا له، وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصا للعزيز، فدل هذا على أن هذا الملك هو الملك الأكبر.
المسألة الثانية: ذكروا أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام وهو في الحبس وقال: " قل اللهم اجعل لي من عندك فرجا ومخرجا وارزقني من حيث لا أحتسب " فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن، وتقرير الكلام: أن الملك عظم اعتقاده في يوسف لوجوه: أحدها: أنه عظم اعتقاده في علمه، وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه، وثانيها: أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته، وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج بل صبر وتوقف وطلب أولا ما يدل على براءة حاله عن جميع لتهم، وثالثها: أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه، وذلك لأنه اقتصر على قوله: * (ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) * (يوسف: 50) وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها، وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء
158

وهذا من الأدب العجيب. ورابعها: براءة حاله عن جميع أنواع التهم فإن الخصم أقر له بالطهارة والنزاهة والبراءة عن الجرم. وخامسها: أن الشرابي وصف له جده في الطاعات واجتهاده في الإحسان إلى الذين كانوا في السجن. وسادسها: أنه بقي في السجن بضع سنين، وهذه الأمور كل واحد منها يوجب حسن الاعتقاد في الإنسان
، فكيف مجموعها، فلهذا السبب حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله شيئا جمع أسبابه وقواها.
إذا عرفت هذا فنقول: لما ظهر للملك هذه الأحوال من يوسف عليه السلام رغب أن يتخذه لنفسه فقال: * (ائتوني به أستخلصه لنفسي) * روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام ثم إلى الملك متنظفا من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، ولما دخل عليه قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم دخل عليه وسلم ودعا له بالعبرانية والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك وهذا الملك طلب أن يكون يوسف له وحده وأنه لا يشاركه فيه غيره لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة الرفيعة فلما علم الملك أنه وحيد زمانه وفريد أقرانه أراد أن ينفرد به.
روي أن الملك قال ليوسف عليه السلام ما من شيء إلا وأحب أن تشركني فيه إلا في أهلي وفي أن لا تأكل معي فقال يوسف عليه السلام، أما ترى أن آكل معك، وأنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق الذبيح بن إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم قال: * (فلما كلمه) * وفيه قولان: أحدهما: أن المراد فلما كلم الملك يوسف عليه السلام قالوا لأن في مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبتدئ بالكلام وإنما الذي يبتدئ به هو الملك، والثاني: أن المراد: فلما كلم يوسف الملك قيل: لما صار يوسف إلى الملك وكان ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة، فلما رآه الملك حدثا شابا قال للشرابي: هذا هو الذي علم تأويل رؤياي مع أن السحرة والكهنة ما علموها قال نعم، فأقبل على يوسف وقال: إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاها، فأجاب بذلك الجواب شفاها وشهد قلبه بصحته، فعند ذلك قال له: * (إنك اليوم لدينا مكين أمين) * يقال: فلان مكين عند فلان بين المكانة أي المنزلة، وهي حالة يتمكن بها صاحبها مما يريد. وقوله: * (أمين) * أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما نسبت إليه.
واعلم أن قوله: * (مكين أمين) * كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب، وذلك لأنه لا بد في كونه مكينا من القدرة والعلم. أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة. وأما العلم فلأن كونه متمكنا من
أفعال الخير لا يحصل إلا به إذ لو لم يكن عالما بما ينبغي وبما لا ينبغي لا يمكنه تخصيص ما ينبغي
159

بالفعل، وتخصيص ما لا ينبغي بالترك، فثبت أن كونه مكينا لا يحصل إلا بالقدرة والعلم. أما كونه أمينا فهو عبارة عن كونه حكيما لا يفعل الفعل لداعي الشهوة بل إنما يفعله لداعي الحكمة، فثبت أن كونه مكينا أمينا يدل على كونه قادرا، وعلى كونه عالما بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وعلى كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لا لداعية الشهوة، وكل من كان كذلك فإنه لا يصدر عنه فعل الشر والسفه فلهذا المعنى لما حاولت المعتزلة إثبات أنه تعالى لا يفعل القبيح قالوا إنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه تعالى عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنيا عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح قالوا: وإنما يكون غنيا عن القبيح إذا كان قادرا، وإذا كان منزها عن داعية السفه فثبت أن وصفه بكونه مكينا أمينا نهاية ما يمكن ذكره في هذا الباب ثم حكى تعالى أن يوسف عليه السلام قال في هذا المقام * (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال المفسرون: لما عبر يوسف عليه السلام رؤيا الملك بين يديه قال له الملك: فما ترى أيها الصديق قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف: * (اجعلني على خزائن الأرض) * أي على خزائن أرض مصر وأدخل الألف واللام على الأرض، والمراد منه المعهود السابق. روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أنه قال: " رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لأستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره عنه سنة " وأقول هذا من العجائب لأنه لما تأبى عن الخروج من السجن سهل الله عليه ذلك على أحسن الوجوه ولما تسارع في ذكر الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه وهذا يدل على أن ترك التصرف والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: لم طلب يوسف الإمارة والنبي عليه الصلاة والسلام قال لعبد الرحمن بن سمرة: " لا تسأل الإمارة " وأيضا فكيف طلب الإمارة من سلطان كافر، وأيضا لم لم يصبر مدة ولم أظهر الرغبة في طلب الأمارة في الحالة، وأيضا لم طلب أمر الخزائن في أول الأمر، مع أن هذا يورث نوع تهمة وأيضا كيف جوز من نفسه مدح نفسه بقوله: * (إني حفيظ عليم) * مع أنه تعالى يقول: * (فلا تزكوا أنفسكم) * (النجم: 32) وأيضا فما الفائدة في قوله: * (إني حفيظ عليم) * وأيضا لم ترك الاستثناء في هذا فإن الأحسن أن يقول: إني حفيظ عليم إن شاء الله بدليل قوله تعالى: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله) * (الكهف: 23، 24) فهذه أسئلة سبعة لا بد من جوابها فنقول: الأصل في جواب هذه
160

المسائل أن التصرف في أمور الخلق كان واجبا عليه، فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان، إنما قلنا: إن ذلك التصرف كان واجبا عليه لوجوه: الأول: أنه كان رسولا حقا من الله تعالى إلى الخلق، والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان، والثاني: وهو أنه عليه السلام علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاك الخلق العظيم، فلعله تعالى أمره بأن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق، والثالث: أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول.
وإذا ثبت هذا فنقول: إنه عليه السلام كان مكلفا برعاية مصالح الخلق من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فكان هذا الطريق واجبا عليه ولما كان واجبا سقطت الأسئلة بالكلية، وأما ترك الاستثناء فقال الواحدي: كان ذلك من خطيئة أوجبت عقوبة وهي أنه تعالى أخر عنه حصول ذلك المقصود سنة، وأقول: لعل السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء لأعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي
فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء، وأما قوله لم مدح نفسه فجوابه من وجوه: الأول: لا نسلم أنه مدح نفسه لكنه بين كونه موصوفا بهاتين الصفتين النافعتين في حصول هذا المطلوب، وبين البابين فرق وكأنه قد غلب على ظنه أنه يحتاج إلى ذكر هذا الوصف لأن الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكنه ما كان عالما بأنه يفي بهذا الأمر، ثم نقول هب أنه مدح نفسه إلا أن مدح النفس إنما يكون مذموما إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل، فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم فقوله تعالى: * (فلا تزكوا أنفسكم) * (النجم: 32) المراد منه تزكية النفس حال ما يعلم كونها غير متزكية، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: * (هو أعلم بمن اتقى) * أما إذا كان الإنسان عالما بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه والله أعلم.
قوله ما الفائدة في وصفه نفسه بأنه حفيظ عليم؟
قلنا: إنه جار مجرى أن يقول حفيظ بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال، عليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها، ويقال: حفيظ بجميع مصالح الناس، عليم بجهات حاجاتهم أو يقال: حفيظ لوجوه أياديك وكرمك، عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والخضوع وهذا باب واسع يمكن تكثيره لمن أراده.
161

قوله تعالى
* (وكذلك مكنا ليوسف فى الارض يتبوأ منها حيث يشآء نصيب برحمتنا من نشآء ولا نضيع أجر المحسنين * ولاجر الاخرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك الله عن الملك أنه قال: قد فعلت، بل الله سبحانه قال: * (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) * فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره: قال الملك قد فعلت، إلا أن تمكين الله له في الأرض يدل على أن الملك الملك قد أجابه إلى ما سأل. وأقول: ما قالوه حسن، إلا أن ههنا ما هو أحسن منه وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر وأما المؤثر الحقيقي: فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض، وذلك لأن ذلك الملك كان متمكنا من القبول ومن الرد، فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي، وما دام يبقى هذ التساوي امتنع حصول القبول، فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك، وذلك الترجح لا يكون إلا بمرجح يخلقه الله تعالى، إذا خلق الله تعالى ذلك المرجح حصل القبول لا محالة، فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق الله تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب الأثر، فلهذا السبب ترك الله تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي، لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو.
المسألة الثانية: روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلد بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت، فقال يوسف عليه السلام: أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، وجلس على السرير ودانت له القوم، وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ومات بعد ذلك وزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال أليس هذا خيرا مما طلبت، فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفرايم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية
162

ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم سنين فقالوا والله ما رأينا ملكا أعظم شأنا من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيدا له فلما سمع ذلك قال إني أشهد الله أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين هكذا رواه صاحب " الكشاف " والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: * (وكذلك) * الكاف منصوبة بالتمكين، وذلك إشارة إلى ما تقدم يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس، وقوله: * (مكنا ليوسف في الأرض) * أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع وقوله: * (يتبوأ منها حيث يشاء) * يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره مكناه متبوأ وقرأ ابن كثير: * (نشاء) * بالنون مضافا إلى الله تعالى والباقون بالياء مضافا إلى يوسف. واعلم أن قوله: * (يتبوأ منها حيث يشاء) * يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد، ولا ينازعه منازع بل صار مستقلا بكل ما شاء وأراد ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله فقال: * (نصيب برحمتنا من نشاء) *.
واعلم أنه تعالى ذكر أولا أن ذلك التمكين كان من الله لا من أحد سواه وهو قوله: * (كذلك مكنا ليوسف في الأرض) * ثم أكد ذلك ثانيا بقوله: * (نصيب برحمتنا من نشاء) * وفيه فائدتان:
الفائدة الأولى: أن هذا يدل على أن الكل من الله تعالى. قال القاضي: تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فعلها الله تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى.
وجوابه: أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل الله تعالى، لأن لفظ القرآن يدل على قولنا، والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا، فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه.
الفائدة الثانية: أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة. قال القاضي: هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح.
قلنا: الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأما رعاية قيد الصلاح، فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه.
ثم قال تعالى: * (ولا نضيع أجر المحسنين) * وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى، فكانت الإضاعة ممتنعة
. واعلم أن هذا شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول
163

بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال: إنه كان من المحسنين، فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق.
ثم قال تعالى: * (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) * وفيه مسائل:
المسألة الأول: في تفسير هذه الآية قولان:
القول الأول: المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارا وأطوارا، وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعا خالصا دائما مقرونا بالتعظيم، وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا.
القول الثاني: أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال: الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيرا من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال: الثريد خير من الله يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله.
إذا ثبت هذا فقوله: * (ولأجر الآخرة خير) * إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضا، وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضا خيرات بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير، وأما ما سواه فعبث.
المسألة الثانية: لا شك أن المراد من قوله: * (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) * شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهذا تنصيص من الله عز وجل. على أنه كان في الزمان السابق من المتقين، وليس ههنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه: * (ولقد همت به وهم بها) * (يوسف: 24) فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين، وأيضا قوله: * (ولا نضيع أجر المحسنين) * شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين، وقوله: * (إنه من عبادنا المخلصين) * شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين، والجاهل الحشوي يقول: إنه كان من الأخسرين المذنبين، ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين.
164

المسألة الثالثة: قال القاضي: قوله تعالى: * (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) * يدل على بطلان قول المرجئة: الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر.
قلنا: هذا ضعيف، لأنا إن حملنا لفظ خير على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلا، وإن حملناه على أصل معنى الخيرية، فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير.
قوله تعالى
* (وجآء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى ولا تقربون * قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون) *.
اعلم أنه لما عم القحط في البلاد، ووصل أيضا إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه إن بمصر رجلا صالحا يمير الناس فاذهبوا إليه بدراهمكم وخذوا الطعام فخرجوا إليه وهم عشرة ودخلوا على يوسف عليه السلام وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف عليه السلام مع إخوته وظهور صدق ما أخبر الله تعالى عنه في قوله ليوسف عليه السلام حال ما ألقوه في الجب * (لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) * (يوسف: 15) وأخبر تعالى أن يوسف عرفهم وهم ما عرفوه البتة، أما أنه عرفهم فلأنه تعالى كان قد أخبره في قوله: * (لتنبئنهم بأمرهم) * بأنهم يصلون إليه ويدخلون عليه، وأيضا الرؤيا التي رآها كانت دليلا على أنهم يصلون إليه، فلهذا السبب كان يوسف عليه السلام مترصدا لذلك الأمر، وكان كل من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحص عنهم ويتعرف أحوالهم ليعرف أن هؤلاء الواصلين هل هم إخوته أم لا فلما وصل إخوة
165

يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم تفحصا ظهر له أنهم إخوته، وأما أنهم ما عرفوه فلوجوه: الأول: أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بالواسطة ومتى كان الأمر كذلك لا جرم أنهم لم يعرفوه لا سيما مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف، وكل ذلك مما يمنع من التأمل التام الذي عنده يحصل العرفان. والثاني: هو أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيرا. ثم إنهم رأوه بعد وفور اللحية، وتغير الزي والهيئة فإنهم رأوه جالسا على سريره، وعليه ثياب الحرير، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج من ذهب، والقوم أيضا نسوا واقعة يوسف عليه السلام لطول المدة. فيقال: إن من وقت ما ألقوه في الجب إلى هذا الوقت كان قد مضى أربعون سنة، وكل واحد من هذه الأسباب يمنع من حصول المعرفة، لا سيما عند اجتماعها، والثالث: أن حصول العرفان والتذكير بخلق الله تعالى، فلعله تعالى ما خلق ذلك العرفان والتذكير في قلوبهم تحقيقا لما أخبره عنه بقوله: * (لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) * وكان ذلك من معجزات يوسف عليه السلام.
ثم قال تعالى: * (ولما جهزهم بجهازهم) * قال الليث: جهزت القوم تجهيزا إذا تكلفت لهم جهازهم للسفر، وكذلك جهاز العروس والميت وهو ما يحتاج إليه في
وجهه. قال: وسمعت أهل البصرة يقولون: الجهاز بالكسر. قال الأزهري: القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة ليست بجيدة، قال المفسرون: حمل لكل رجل منهم بعيرا وأكرمهم أيضا بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه في السفر، فذلك قوله: * (جهزهم بجهازهم) * ثم بين تعالى أنه لما جهزهم بجهازهم قال: * (ائتوني بأخ لكم من أبيكم) *.
واعلم أنه لا بد من كلام سابق حتى يصير ذلك الكلام سببا لسؤال يوسف عن حال أخيهم، وذكروا فيه وجوها:
الوجه الأول: وهو أحسنها إن عادة يوسف عليه السلام مع الكل أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه ولا أنقص، وإخوة يوسف الذين ذهبوا إليه كانوا عشرة، فأعطاهم عشرة أحمال، فقالوا: إن لنا أبا شيخا كبيرا وأخا آخر بقي معه، وذكروا أن أباهم لأجل سنه وشدة حزنه لم يحضر، وأن أخاهم بقي في خدمة أبيه ولا بد لهما أيضا من شيء من الطعام فجهز لهما أيضا بعيرين آخرين من الطعام فلما ذكروا ذلك قال يوسف فهذا يدل على أن أحب أبيكم له أزيد من حبه لكم، وهذا شيء عجيب لأنكم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل، وفي الفضل والأدب فجيئوني به حتى أراه فهذا السبب محتمل مناسب.
166

والوجه الثاني: أنهم لما دخلوا عليه، عليه السلام وأعطاهم الطعام قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال: لعلكم جئتم عيونا فقالوا معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد شيخ صديق نبي اسمه يعقوب قال: كم أنتم قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحد وبقي واحد مع الأب يتسلى به عن ذلك الذي هلك، ونحن عشرة وقد جئناك قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخ لكم من أبيكم ليبلغ إلي رسالة أبيكم فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده.
والوجه الثالث: لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف: فلم تركتموه وحيدا فريدا؟ قالوا: ما تركناه وحيدا، بل بقي عنده واحد. فقال لهم: لم استخلصه لنفسه ولم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده؟ فقالوا: لا. بل لأجل أنه يحبه أكثر من محبته لسائر الأولاد فعند هذا قال يوسف لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم بعيد عن المجازفة، ثم إنه خصه بمزيد المحبة وجب أن يكون زائدا عليكم في الفضل، وصفات الكمال مع أني أراكم فضلاء علماء حكماء فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ فائتوني به، والسبب الثاني: ذكره المفسرون، والأول والثالث محتمل والله أعلم.
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه قال: * (ألا ترون أني أوف الكيل) * أي أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم، وأنا خير المنزلين، أي خير المضيفين لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم. وأقول: هذا الكلام يضعف الوجه الثاني وهو الذي نقلناه عن المفسرين، لأن مدار ذلك الوجه على أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس، ولو شافههم بذلك الكلام فلا يليق به أن يقوم لهم: * (ألا ترون أني أوف الكيل وأنا خير المنزلين) * وأيضا يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقا أن يقول لهم أنتم جواسيس وعيون، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التهمة، لأن البهتان لا يليق بحال الصديق.
ثم قال: * (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون) *.
واعلم أنه عليه السلام لما طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب والترهيب. أما الترغيب: فهو قوله: * (ألا ترون أني أوف الكيل وأنا خير المنزلين) * وأما الترهيب: فهو قوله: * (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون) * وذلك لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام، وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، فإذا منعهم من الحضور عنده كان ذلك نهاية الترهيب والتخويف، ثم إنهم لما سمعوا هذا الكلام من يوسف قالوا: * (سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون) * أي سنجتهد ونحتال على أن ننزعه من يده، وإنا لفاعلون هذه المراودة، والغرض من التكرير
167

التأكيد، ويحتمل أن يكون * (وإنا لفاعلون) * أن نجيئك به، ويحتمل * (وإنا لفاعلون) * كل ما في وسعنا من هذا الباب.
قوله تعالى
* (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم لعلهم يعرفونهآ إذا نقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون * فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنآ أخانا نكتل وإنا له لحافظون * قال هل آمنكم عليه إلا كمآ أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين) *.
في الآية مسائل:
المسائل الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لفتيانه بالألف والنون والباقون * (لفتيته) * بالتاء من غير ألف، وهما لغتان كالصبيان والصبية، والإخوان والإخوة قال أبو علي الفارسي الفتية جمع فتى في العدد القليل والفتيان للكثير، فوجه البناء الذي للعدد القليل أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكونون قليلين لأن هذا من باب الأسرار فوجب صونه إلا عن العدد القليل ووجه الجمع الكثير أنه قال: * (اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) * والرحال تفيد العدد الكثير فوجب أن يكون الذين يباشرون ذلك العمل كثيرين.
المسألة الثانية: اتفق الأكثرون على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم ومنهم من قال إنهم كانوا عارفين به، وهو ضعيف لأن قوله: * (لعلهم يعرفونها) * يبطل ذلك ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجوه: الأول: أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه، علموا أن ذلك كان كرما من يوسف وسخاء محضا فيبعثهم ذلك على العود إليه والحرص على معاملته. الثاني: خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى
168

الثالث: أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان القحط. الرابع: رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع شدة حاجتهم إلى الطعام لؤم. الخامس: قال الفراء: إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد الأنبياء فرجعوا ليعرفوا السبب فيه، أو رجعوا ليردوا المال إلى مالكه. السادس: أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب ولا منة. السابع: مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا لطلب زيادة في الثمن. الثامن: أراد أن يعرف أبوه أنه أكرمهم وطلبه له لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه. التاسع: أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدة الزمان، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق، فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم. العاشر: أراد أن يقابل مبالغتهم في الإساءة بمبالغته في الإحسان إليهم.
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما رجعوا إلى أبيهم قالوا: * (يا أبانا منع منا الكيل) * وفيه قولان: الأول: أنهم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عنده منعوا منه، فقولهم: * (منع مهنا الكيل) * إشارة إليه. والثاني: أنه منع الكيل في المستقبل وهو إشارة إلى قول يوسف: * (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي) * (يوسف: 60) والدليل على أن المراد ذلك قولهم: * (فأرسل معنا أخانا نكتل) * قرأ حمزة والكسائي: * (يكتل) * بالياء، والباقون بالنون، والقراءة الأولى تقوى القول الأول، والقراءة الثانية تقوي القول الثاني. ثم قالوا: * (وإنا له لحافظون) * ضمنوا كونهم حافظين له، فلما قالوا ذلك قال يعقوب عليه السلام: * (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل) * والمعنى أنكم ذكرتم قبل هذا الكلام في يوسف وضمنتم لي حفظه حيث قلتم: * (وإنا له لحافظون) * (يوسف: 12) ثم ههنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه فهل يكون ههنا أماني إلا ما كان هناك يعني لما لم يحصل الأمان هناك فكذلك لا يحصل ههنا.
ثم قال: * (فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين) * قرأ حمزة والكسائي * (حافظا) * بالألف على التمييز والتفسير على تقدير هو خير لكم حافظا كقولهم: هو خيرهم رجلا ولله دره فارسا، وقيل: على الحال والباقون: * (حفظا) * بغير ألف على المصدر يعني خيركم حفظا يعني حفظ الله لبنيامين خير من حفظكم، وقرأ الأعمش * (فالله خير حافظ) * وقرأ أبو هريرة رضي الله عنه * (خير الحافظين وهو أرحم الراحمين) * وقيل: معناه وثقت بكم في حفظ يوسف عليه السلام فكان ما كان فالآن أتوكل على الله في حفظ بنيامين.
فإن قيل: لم بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد.
169

قلنا: لوجوه: أحدها: أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح، وثانيها: أنه كان يشاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام، وثالثها: أن ضرورة القحط أحوجته إلى ذلك، ورابعها: لعله تعالى أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه.
فإن قيل: هل يدل قوله: * (فالله خير حافظا) * على أنه أذن في ذهاب ابنه بنيامين في ذلك الوقت.
قلنا: الأكثرون قالوا: يدل عليه. وقال آخرون: لا يدل عليه، وفيه وجهان: الأول: التقدير أنه لو أذن في خروجه معهم لكان في حفظ الله لا في حفظهم. الثاني: أنه لما ذكر يوسف قال: * (فالله خير حافظا) * أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي.
قوله تعالى
* (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير) *.
اعلم أن المتاع ما يصلح لأن يستمتع به وهو عام في كل شيء، ويجوز أن يراد به ههنا الطعام الذي حملوه، ويجوز أن يراد به أوعية الطعام.
ثم قال: * (وجدوا بضاعتهم ردت إليهم) * واختلف القراء في * (ردت) * فالأكثرون بضم الراء، وقرأ علقمة بكسر الراء. قال صاحب " الكشاف ": كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء كما في قيل وبيع. وحكى قطرب أنهم قالوا في قولنا: ضرب زيد على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد. وأما قوله: * (ما نبغي) * ففي كلمة * (ما) * قولان:
القول الأول: أنها للنفي، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه: الأول: أنهم كانوا قد وصفوا يوسف بالكرم واللطف وقالوا: إنا قدمنا على رجل في غاية الكرم أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب لما فعل ذلك، فقولهم: * (ما نبغي) * أي بهذا الوصف الذي ذكرناه كذبا ولا ذكر شيء لم يكن. الثاني: أنه بلغ في الإكرام إلى غاية ما وراءها شيء آخر، فإنه بعد أن بالغ في إكرامنا أمر ببضاعتنا فردت إلينا. الثالث: المعنى أنه رد بضاعتنا إلينا، فنحن لا نبغي منك عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى، فإن هذه التي معنا كافية لنا.
170

والقول الثاني: أن كلمة " ما " ههنا للاستفهام، والمعنى: لما رأوا أنه رد إليهم بضاعتهم قالوا: ما نبغي بعد هذا، أي أعطانا الطعام، ثم رد علينا ثمن الطعام على أحسن الوجوه، فأي شيء نبغي وراء ذلك؟
واعلم أنا إذا حملنا " ما " على الاستفهام صار التقدير أي شيء نبغي فوق هذا الإكرام إن الرجل رد دراهمنا إلينا فإذا ذهبنا إليه نمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير بسبب حضور أخينا. قال الأصمعي: يقال ماره يميره ميرا إذا أتاه بميرة أي بطعام ومنه يقال: ما عنده خير ولا مير وقوله: * (ونزداد كيل بعير) * معناه: أن يوسف عليه السلام كان يكيل لكل رجل حمل بعير فإذا حضر أخوه فلا بد وأن يزداد ذلك الحمل، وأما إذا حملنا كلمة " ما " على النفي كان المعنى لا نبغي شيئا آخر هذه بضاعتنا ردت إلينا فهي كافية لثمن الطعام في الذهاب الثاني، ثم نفعل كذا وكذا.
وأما قوله: * (ذلك كيل يسير) * ففيه وجوه: الأول: قال مقاتل: ذلك كيل يسير على هذا الرجل المحسن لسخائه وحرصه على البذل وهو اختيار الزجاج. والثاني:
ذلك كيل يسير، أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير. والثالث: أن يكون المراد ذلك الذي يدفع إلينا دون أخينا شيء يسير قليل فابعث أخانا معنا حتى نتبدل تلك القلة بالكثرة.
قوله تعالى
* (قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتننى به إلا أن يحاط بكم فلمآ ءاتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل) *.
اعلم أن الموثق مصدر بمعنى الثقة ومعناه: العهد الذي يوثق به فهو مصدر بمعنى المفعول يقول: لن أرسله معكم حتى تعطوني عهدا موثوقا به وقوله: * (من الله) * أي عهدا موثوقا به بسبب تأكده بإشهاد الله وبسبب القسم بالله عليه، وقوله: * (لتأتنني به) * دخلت اللام ههنا لأجل أنا بينا أن المراد بالموثق من الله اليمين فتقديره: حتى تحلفوا بالله لتأتنني به. وقوله: * (إلا أن يحاط بكم) * فيه بحثان:
البحث الأول: قال صاحب " الكشاف ": هذا الاستثناء متصل. فقوله: * (إلا أن يحاط بكم) * مفعوله له، والكلام المثبت الذي هو قوله: * (لتأتنني به) * في تأويل المنفي، فكان المعنى: لا تمتنعون
171

من الإتيان به لعلة من العلل إلا لعلة واحدة.
البحث الثاني: قال الواحدي للمفسرين فيه قولان:
القول الأول: أن قوله: * (إلا أن يحاط بكم) * معناه الهلاك قال مجاهد: إلا أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذرا عندي، والعرب تقول أحيط بفلان إذا قرب هلاكه قال تعالى: * (وأحيط بثمره) * (الكهف: 42) أي أصابه ما أهلكه. وقال تعالى: * (وظنوا أنهم أحيط بهم) * (يونس: 22) وأصله أن من أحاط به العدو وانسدت عليه مسالك النجاة دنا هلاكه، فقيل: لكل من هلك قد أحيط به.
والقول الثاني: ما ذكره قتادة * (إلا أن يحاط بكم) * إلا أن تصيروا مغلوبين مقهورين، فلا تقدرون على الرجوع.
ثم قال تعالى: * (فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل) * يريد شهيد، لأن الشهيد وكيل بمعنى أنه موكول إليه هذا العهد فإن وفيتم به جازاكم بأحسن الجزاء، وإن غدرتم فيه كافأكم بأعظم العقوبات.
قوله تعالى
* (وقال يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ومآ أغنى عنكم من الله من شىء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) *.
اعلم أن أبناء يعقوب لما عزموا على الخروج إلى مصر. وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد قال لهم: * (لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) * وفيه قولان: الأول: وهو قول جمهور المفسرين أنه خاف من العين عليهم ولنا ههنا مقامان. المقام الأول: إثبات أن العين حق والذي يدل عليه وجوه: الأول: إطباق المتقدمين من المفسرين على أن المراد من هذه الآية ذلك. والثاني: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: " أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة " ويقول هكذا كان يعوذ إبراهيم إسماعيل وإسحق صلوات الله عليهم. والثالث: ما روى عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم
172

عدت إليه آخر النهار فرأيته معافى فقال: " إن جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد الله يشفيك " قال فأفقت، والرابع: روي أن بني جعفر ابن أبي طالب كانوا غلمانا بيضا فقالت أسماء: يا رسول الله إن العين إليهم سريعة أفأسترقي لهم من العين فقال لها نعم. والخامس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا: يا رسول الله أصابته العين فقال أفلا تسترقون له من العين. والسادس: قوله عليه السلام: " العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر " والسابع: قالت عائشة رضي الله عنها: كن يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغسل منه المعين الذي أصيب بالعين.
المقام الثاني: في الكشف عن ماهيته فنقول: إن أبا علي الجبائي أنكر هذا المعنى إنكارا بليغا ولم يذكر في إنكاره شبهة فضلا عن حجة، وأما الذين اعترفوا به وأقروا بوجوده فقد ذكروا فيه وجوها: الأول: قال الحافظ: إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه وتسري فيه كتأثير اللسع والسم والنار، وإن كان مخالفا في جهة التأثير لهذه الأشياء قال القاضي: وهذا ضعيف لأنه لو كان الأمر كما قال، لوجب أن يؤثر في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيره في المستحسن واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف وذلك لأنه إذا استحسن شيئا فقد يحب بقاءه كما إذا استحسن ولد نفسه وبستان نفسه، وقد يكره بقاءه أيضا كما إذا أحس الحاسد بشيء حصل لعدوه، فإن كان الأول فإنه يحصل له عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله والخوف الشديد يوجب انحصار الروح في داخل القلب فحينئذ يسخن القلب والروح جدا، ويحصل في الروح الباصرة كيفية قوية مسخنة وإن كان الثاني: فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان حسد شديد وحزن عظيم بسبب حصول تلك النعمة لعدوه. والحزن أيضا يوجب انحصار الروح في داخل القلب ويحصل فيه سخونة شديدة، فثبت أن عند الاستحسان القوي تسخن الروح جدا فيسخن شعاع العين بخلاف ما إذا لم يستحسن فإنه لا تحصل هذه السخونة فظهر الفرق بين الصورتين، ولهذا السبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال.
الوجه الثاني: قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي إنه لا يمتنع أن تكون العين حقا، ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص وذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به، فهذا المعنى غير ممتنع، ثم لا يبعد أيضا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الإعجاب وسأل ربه تقية ذلك، فعنده تتعين المصلحة ولما كانت هذه العادة مطردة لا جرم قيل العين حق.
173

الوجه الثالث: وهو قول الحكماء قالوا هذا الكلام مبني على مقدمة وهي أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعا على الأرض، قدر الإنسان على المشي عليه ولو كان موضوعا فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان على المشي عليه، وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه، فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة، وأيضا أن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذيا له حصل في قلبه غضب، ويسخن مزاجه جدا فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذلك التصور النفساني، ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان. فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان وأيضا جواهر النفوس المختلفة بالماهية فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ويتعجب منه، فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه والنفوس النبوية نطقت به فعنده لا يبقى في وقوعه شك.
وإذا ثبت هذا ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين كلام حق لا يمكن رده.
القول الثاني: وهو قول أبي علي الجبائي: أن أبناء يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بهم وبحسهم وكمالهم. فقال: * (لا تدخلوا) * تلك المدينة * (من باب واحد) * على ما أنتم عليه من العدد والهيئة فلم يأمن عليهم حسد الناس أو يقال: لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم، واعلم أن هذا الوجه محتمل لا إنكار فيه إلا أن القول الأول قد بينا أنه لا امتناع فيه بحسب العقل والمفسرون أطبقوا عليه فوجب المصير إليه، ونقل عن الحسن أنه قال: خاف عليهم العين، فقال: * (لا تدخلوا من باب واحد) * ثم رجع إلى علمه وقال: * (وما أغني عنكم من الله من شيء) * وعرف أن العين ليست بشيء وكان قتادة يفسر الآية بإصابة العين ويقول: ليس في قوله: * (وما أغني عنكم من الله من شيء) * إبطال له لأن العين وإن صح فالله قادر على دفع أثره.
القول الثالث: أنه عليه السلام كان عالما بأن ملك مصر هو ولده يوسف إلا أن الله تعالى ما أذن له في إظهار ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال: * (لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) * وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة، وهذا قول إبراهيم النخعي، فأما
174

قوله: * (وما أغني عنكم من الله من شيء) * فاعلم أن الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم ومأمور أيضا بأن يعتقد ويجزم بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله تعالى وأن الحذر لا ينجي من القدر، فإن الإنسان مأمور بأن يحذر عن الأشياء المهلكة، والأغذية الضارة، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضار بقدر الإمكان ثم إنه مع ذلك ينبغي أن يكون جازما بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله فقوله عليه السلام: * (لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) * فهو إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله: * (وما أغني عنكم من الله من شيء) * إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى التوحيد المحض والبراءة عن كل شيء سوء الله تعالى وقول القائل: كيف السبيل إلى الجمع بين هذين القولين، فهذا السؤال غير مختص به، وذلك لأنه لا نزاع في أنه لا بد من إقامة الطاعات، والاحتراز عن المعاصي والسيئات مع أنا نعتقد أن السعيد من سعد في بطن أمه، وأن الشقي من شقي في بطن أمه فكذا ههنا نأكل ونشرب ونحترز عن السموم وعن الدخول في النار مع أن الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله تعالى، فكذا ههنا، فظهر أن هذا السؤال غير مختص بهذا المقام، بل هو بحث عن سر مسألة الجبر والقدر، بل الحق أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة، وبعد ذلك السعي البليغ والجد الجهيد فإنه يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فلا بد وأن يكون بقضاء الله تعالى ومشيئته وسابق حكمه وحكمته ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى، فقال: * (إن الحكم إلا لله) *.
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا في القضاء والقدر، وذلك لأن الحكم عبارة عن الإلزام والمنع من النقيض وسميت حكمة الدابة بهذا الاسم، لأنها تمنع الدابة عن الحركات الفاسدة والحكم إنما سمي حكما لأنه يقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بحيث يصير الطرف الآخر ممتنع الحصول، فبين تعالى أن الحكم بهذا التفسير ليس إلا لله سبحانه وتعالى، وذلك يدل على أن جميع الممكنات مستندة إلى قضائه وقدره ومشيئته وحكمه، إما بغير واسطة وإما بواسطة ثم قال: * (عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) * ومعناه أنه لما ثبت أن الكل من الله ثبت أنه لا توكل إلا على الله وأن الرغبة ليست إلا في رجحان وجود الممكنات على عدمها وذلك الرجحان المانع عن النقيض هو الحكم، وثبت بالبرهان أنه لا حكم إلا لله فلزم القطع بأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله، ويوجب أنه لا توكل إلا على الله فهذا مقام شريف عال ونحن قد أشرنا إلى ما هو البرهان الحق فيه والشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله أطنب في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتاب " إحياء علوم الدين " فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب.
175

قوله تعالى
* (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شىء إلا حاجة فى نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
قال المفسرون: لما قال يعقوب: * (وما أغني عنكم من الله من شيء) * (يوسف: 67) صدقه الله في ذلك فقال: وما كان ذلك التفرق يغني من الله من شيء وفيه بحثان:
البحث الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ذلك التفرق ما كان يرد قضاء الله ولا أمرا قدره الله. وقال الزجاج: إن العين لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم وهم مجتمعون. وقال ابن الأنباري: لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم، وهذه الكلمات متقاربة، وحاصلها أن الحذر لا يدفع القدر.
البحث الثاني: قوله: * (من شيء) * يحتمل النصب بالمفعولية والرفع بالفاعلية.
أما الأول: فهو كقوله: ما رأيت من أحد، والتقدير: ما رأيت أحدا، فكذا ههنا تقدير الآية: أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئا، أي ذلك التفرق ما كان يخرج شيئا من تحت قضاء الله تعالى.
وأما الثاني: فكقولك: ما جاءني من أحد، وتقديره ما جاءني أحد فكذا ههنا التقدير: ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه.
أما قوله: * (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) * فقال الزجاج: إنه استثناء منقطع، والمعنى: لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، يعني أن الدخول على صفة التفرق قضاء حاجة في نفس يعقوب قضاها، ثم ذكروا في تفسير تلك الحاجة وجوها: أحدها: خوفه عليهم من إصابة العين، وثانيها: خوفه عليهم من حسد أهل مصر، وثالثها: خوفه عليهم من أن يقصدهم ملك مصر بشر، ورابعها: خوفه عليهم من أن لا يرجعوا إليه، وكل هذه الوجوه متقاربة.
وأما قوله: * (وإنه لذو علم لما علمناه) * فقال الواحدي: يحتمل أن يكون * (ما) * مصدرية والهاء عائدة إلى يعقوب، والتقدير: وإنه لذو علم من أجل تعليمنا إياه، ويمكن أن تكون * (ما) * بمعنى الذي والهاء
176

عائدة إليها، والتأويل وإنه لذو علم للشيء الذي علمناه، يعني أنا لما علمناه شيئا حصل له العلم بذلك الشيء وفي الآية قولان آخران: الأول: أن المراد بالعلم الحفظ، أي أنه لذو حفظ لما علمناه ومراقبة له والثاني: لذو علم لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وهو إشارة إلى كونه عاملا بما علمه، ثم قال: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * وفيه وجهان: الأول: ولكن أكثر الناس لا يعلمون مثل ما علم يعقوب. والثاني: لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة والعلم، والمراد بأكثر الناس المشركون، فإنهم لا يعلمون بأن الله كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى
* (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون * فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون * قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون * قالوا نفقد صواع الملك ولمن جآء به حمل بعير وأنا به زعيم) *.
اعلم أنهم لما أتوه بأخيه بنيامين أكرمهم وأضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف بقي أخوكم وحيدا فأجلسه معه على مائدة ثم أمر أن ينزل منهم كل اثنين بيتا وقال: هذا لا ثاني له فاتركوه معي فآواه إليه، ولما رأى يوسف تأسفه على أخ له هلك قال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال: من يجد أخا مثلك ولكنك لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وقال: إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (آوى إليه أخاه) * أي أنزله في الموضع الذي كان يأوي إليه. وقوله: * (إني أنا أخوك) * فيه قولان: قال وهب: لم يرد أنه أخوه من النسب، ولكن أراد به إني
177

أقوم لك مقام أخيك في الإيناس لئلا تستوحش بالتفرد. والصحيح ما عليه سائر المفسرين من أنه أراد تعريف النسب، لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة وحصول الأنس، ولأن الأصل في الكلام الحقيقة، فلا وجه لصرفه عنها إلى المجاز من غير ضرورة.
وأما قوله: * (فلا تبتئس) * فقال أهل اللغة: تبتئس تفتعل من البؤس وهو الضرر والشدة والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس. وقوله: * (بما كانوا يعملون) * فيه وجوه: الأول: المراد بما كانوا يعملون من إقامتهم على حسدنا والحرص على انصراف وجه أبينا عنا، الثاني: أن يوسف عليه السلام ما بقي في قلبه شيء من العداوة وصار صافيا مع إخوته، فأراد أن يجعل قلب أخيه صافيا معه أيضا، فقال: * (فلا تبتئس بما كانوا يعملون) * أي لا تلتفت إلى ما صنعوه فيما تقدم، ولا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي أقدموا عليها. الثالث: أنهم إنما فعلوا بيوسف ما فعلوه، لأنهم حسدوه على إقبال الأب عليه وتخصيصه بمزيد الإكرام، فخاف بنيامين أن يحسدوه بسبب أن الملك خصه بمزيد الإكرام، فأمنه منه وقال: لا تلتفت إلى ذلك فإن الله قد جمع بيني وبينك. الرابع: روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا يعيرون يوسف وأخاه بسبب أن جدهما أبا أمهما كان يعبد الأصنام، وأن أم يوسف امرأت يوسف فسرق جونة كانت لأبيها فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها إذا فقدها. فقال له: * (فلا تبتئس بما كانوا يعملون) * أي من التعيير لنا بما كان عليه جدنا. والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه) * وقد مضى الكلام في الجهاز والرحل، أما السقاية فقال صاحب " الكشاف ": مشربة يسقي بها وهو الصواع قيل: كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعا يكال به، وهو بعيد لأن الإناء الذي يشرب الملك الكبير منه لا يصلح أن يجعل صاعا، وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها أيضا وهذا أقرب، ثم قال وقيل كانت من فضة مموهة بالذهب، وقيل: كانت من ذهب، وقيل: كانت مرصعة بالجواهر وهذا أيضا بعيد لأن الآنية التي يسقى الدواب فيها لا تكون كذلك، والأولى أن يقال: كان ذلك الإناء شيئا له قيمة، أما إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا.
ثم قال تعالى: * (ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون) * يقال: أذنه أي أعلمه وفي الفرق بين أذن وبين أذن وجهان: قال ابن الأنباري: أذن معناه أعلم إعلاما بعد إعلام لأن فعل يوجب تكرير الفعل قال ويجوز أن يكون إعلاما واحدا من قبيل أن العرب تجعل فعل بمعنى أفعل في كثير من المواضع، وقال سيبويه: أذنت وأذنت معناه أعلمت لا فرق بينهما، والتأذين معناه: النداء والتصويت بالإعلام.
178

وأما قوله تعالى: * (أيتها العير إنكم لسارقون) * قال أبو الهيثم: كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير وقول من قال العير الإبل خاصة باطل، وقيل:
العير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجئ، وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر ذلك حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير وجمعها فعل كسقف وسقف.
إذا عرفت هذا فنقول: * (أيتها العير) * المراد أصحاب العير كقوله: يا خيل الله اركبي وقرأ ابن مسعود: * (وجعل السقاية) * على حذف جواب لما كأنه قيل فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا * (ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون) *.
فإن قيل: هل كان ذلك النداء بأمر يوسف أو ما كان بأمره؟ فإن كان بأمره فكيف يليق بالرسول الحق من عند الله أن يتهم أقواما وينسبهم إلى السرقة كذبا وبهتانا، وإن كان الثاني وهو أنه ما كان ذلك بأمره فهلا أنكره وهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة.
قلنا: العلماء ذكروا في الجواب عنه وجوها: الأول: أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال له: إني أريد أن أحبسك ههنا، ولا سبيل إليه إلا بهذه الحيلة فإن رضيت بها فالأمر لك فرضي بأن يقال في حقه ذلك، وعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام فخرج عن كونه ذنبا. والثاني: أن المراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام والمعاريض لا تكون إلا كذلك. والثالث: أن ذلك المؤذن ربما ذكر ذلك النداء على سبيل الاستفهام، وعلى هذا التقدير يخرج عن أن يكون كذبا. الرابع: ليس في القرآن أنهم نادوا بذلك النداء عن أمر يوسف عليه السلام والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم لأنهم لما طلبوا السقاية وما وجدوها وما كان هناك أحد إلا هم غلب على ظنونهم أنهم هم الذين أخذوها ثم إن إخوة يوسف * (قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون) * وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي * (تفقدون) * من أفقدته إذا وجدته فقيدا قالوا تفقد صواع الملك. قال صاحب " الكشاف ": قرىء صواع وصاع وصوع وصوع بفتح الصاد وضمها، والعين معجمة وغير معجمة. قال بعضهم جمع صواع صيعان، كغراب وغربان، وجمع صاع أصواع، كباب وأبواب. وقال آخرون: لا فرق بين الصاع والصواع، والدليل عليه قراءة أبي هريرة: * (قالوا نفقد صاع الملك) * وقال بعضهم: الصواع اسم، والسقاية وصف، كقولهم: كوز وسقاء، فالكوز اسم والسقاء وصف.
ثم قال: * (ولمن جاء به حمل بعير) * أي من الطعام * (أنا به زعيم) * قال مجاهد: الزعيم هو المؤذن الذي أذن. وتفسير زعيم كفيل. قال الكلبي: الزعيم الكفيل بلسان أهل اليمن. وروى أبو عبيدة
179

عن الكسائي: زعمت به تزعم زعما وزعامة. أي كفلت به، وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " الزعيم غارم ".
فإن قيل: هذه كفالة بشيء مجهول؟
قلنا: حمل بعير من الطعام كان معلوما عندهم، فصحت الكفالة به إلا أن هذه الكفالة مال لرد سرقة، وهو كفالة بما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة، ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم.
قوله تعالى
* (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد فى الارض وما كنا سارقين * قالوا فما جزآؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزؤه من وجد فى رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى الظالمين) *.
قال البصريون: الواو في * (والله) * بدل من التاء والتاء بدل من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عز وجل. قال المفسرون: حلفوا على أمرين: أحدهما: على أنهم ما جاؤوا لأجل الفساد في الأرض لأنه ظهر من أحواله امتناعهم من التصرف في أموال الناس بالكلية لا بالأكل ولا بإرسال الدواب في مزارع الناس، حتى روي أنهم كانوا قد سدوا أفواه دوابهم لئلا تعبث في زرع، وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات، ومن كانت هذه صفته فالفساد في الأرض لا يليق به. والثاني: أنهم ما كانوا سارقين، وقد حصل لهم فيه شاهدا قاطع، وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر ولم يستحلوا أخذها، والسارق لا يفعل ذلك البتة ثم لما بينوا براءتهم عن تلك التهمة قال أصحاب يوسف عليه السلام: * (فما جزاؤه إن كنتم كاذبين) * فأجابوا و * (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) * قال ابن عباس كانوا في ذلك الزمان يستعبدون كل سارق بسرقته وكان استعباد السارق في شرعهم يجري مجرى وجوب القطع في شرعنا، والمعنى جزاء هذا الجرم من وجد المسروق في رحله، أي ذلك الشخص هو جزاء ذلك الجرم، والمعنى: أن استعباده هو جزاء ذلك الجرم، قال الزجاج: وفيه وجهان: أحدهما: أن يقال جزاؤه مبتدأ ومن وجد في رحله خبره. والمعنى: جزاء السرقة هو الإنسان الذي
180

وجد في رحله السرقة، ويكون قوله: * (فهو جزاؤه) * زيادة في البيان كما تقول جزاء السارق القطع فهو جزاؤه. الثاني: أن يقال: * (جزاؤه) * مبتدأ وقوله: * (من وجد في رحله فهو جزاؤه) * جملة وهي في موضع خبر المبتدأ. والتقدير: كأنه قيل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو، إلا أنه أقام المضمر للتأكيد والمبالغة في البيان وأنشد النحويون:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء * نغص الموت الغني والفقيرا
وأما قوله: * (كذلك نجزي الظالمين) * أي مثل هذا الجزاء جزاء الظالمين يريد إذا سرق استرق ثم قيل: هذا من بقية كلام أخوة يوسف. وقيل: إنهم لما قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه، فقال أصحاب يوسف: * (كذلك نجزي الظالمين) *.
قوله تعالى
* (فبدأ بأوعيتهم قبل وعآء أخيه ثم استخرجها من وعآء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك إلا أن يشآء الله نرفع درجات من نشآء وفوق كل ذى علم
عليم) *.
اعلم أن إخوة يوسف لما أقروا بأن من وجد المسروق في رحله فجزاؤه أن يسترق قال لهم المؤذن: إنه لا بد من تفتيش أمتعتكم، فانصرف بهم إلى يوسف * (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه) * لإزالة التهمة والأوعية جمع الوعاء وهو كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به استخرجها من وعاء أخيه، وقرأ الحسن * (وعاء أخيه) * بضم الواو وهي لغة، وقرأ سعيد بن جبير * (أعاء أخيه) * فقلب الواو همزة.
فإن قيل: لم ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه؟
قلنا: قالوا رجع ضمير المؤنث إلى السقاية وضمير المذكر إلى الصواع أو يقال: الصواع يؤنث ويذكر، فكان كل واحد منهما جائزا أو يقال: لعل يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعا فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية وفيما يتصل بهم صواعا، عن قتادة أنه قال: كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تائبا مما قذفهم به، حتى إنه لما لم يبق إلا أخوه قال ما أرى هذا قد أخذ شيئا،
181

فقالوا: لا نذهب حتى تتفحص عن حاله أيضا، فلما نظروا في متاعه استخرجوا الصواع من وعائه والقوم كانوا قد حكموا بأن من سرق يسترق، فأخذوا برقبته وجروا به إلى دار يوسف.
ثم قال تعالى: * (كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) * وفيه بحثان: الأول: المعنى ومثل ذلك الكيد كدنا ليوسف، وذلك إشارة إلى الحكم باسترقاق السارق، أي مثل هذا الحكم الذي ذكره إخوة يوسف حكمنا ليوسف. الثاني: لفظ الكيد مشعر بالحيلة والخديعة، وذلك في حق الله تعالى محال إلا أنا ذكرنا قانونا معتبرا في هذا الباب، وهو أن أمثال هذه الألفاظ تحمل على نهايات الأغراض لا على بدايات الأغراض، وقررنا هذا الأصل في تفسير قوله تعالى: * (إن الله لا يستحيي) * (البقرة: 26) فالكيد السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه ولا سبيل له إلى دفعه، فالكيد في حق الله تعالى محمول على هذا المعنى. ثم اختلفوا في المراد بالكيد ههنا فقال بعضهم: المراد أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمر يوسف، والله تعالى نصره وقواه وأعلى أمره. وقال آخرون: المراد من هذا الكيد هو أنه تعالى ألقى في قلوب إخوته أن حكموا بأن جزاء السارق هو أن يسترق، لا جرم لما ظهر الصواع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق، وصار ذلك سببا لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عند نفسه.
ثم قال تعالى: * (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) * والمعنى: أنه كان حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق، فما كان يوسف قادرا على حبس أخيه عند نفسه بناء على دين الملك وحكمه، إلا أنه تعالى كاد له ما جرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق فقد بينا أن هذا الكلام توسل به إلى أخذ أخيه وحبسه عند نفسه وهو معنى قوله: * (إلا أن يشاء الله) * ثم قال: * (نرفع درجات من نشاء) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ حمزة وعاصم والكسائي * (درجات) * بالتنوين غير مضاف، والباقون بالإضافة.
المسألة الثانية: المراد من قوله: * (نرفع درجات من نشاء) * هو أنه تعالى يريه وجوه الصواب في بلوغ المراد، ويخصه بأنواع العلوم، وأقسام الفضائل، والمراد ههنا هو أنه تعالى رفع درجات يوسف على إخوته في كل شيء.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات، لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة والفكرة مدحه لأجل ذلك فقال: * (نرفع درجات من نشاء) * وأيضا وصف إبراهيم عليه السلام بقوله: * (نرفع درجات من نشاء) * (الأنعام: 83) عند إيراده ذكر دلائل التوحيد والبراءة عن
182

إلهية الشمس والقمر والكواكب ووصف ههنا يوسف أيضا بقوله: * (نرفع درجات من نشاء) * لما هداه إلى هذه الحيلة وكم بين المرتبتين من التفاوت.
ثم قال تعالى: * (وفوق كل ذي علم عليم) * والمعنى أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء فضلاء، إلا أن يوسف كان زائدا عليهم في العلم.
واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى عالم بذاته لا بالعلم فقالوا: لو كان عالما بالعلم لكان ذا علم ولو كان كذلك، لحصل فوقه عليم تمسكا بعموم هذه الآية وهذا باطل.
واعلم أن أصحابنا قالوا دلت سائر الآيات على إثبات العلم لله تعالى وهي قوله: * (إن الله عنده علم الساعة) * (لقمان: 34) * (أنزله بعلمه) * (النساء: 166) * (لا يحيطون بشيء من علمه) * (البقرة: 255) * (ما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) * (فاطر: 11) وإذا وقع التعارض فنحن نحمل الآية التي تمسك الخصم بها على واقعة يوسف وإخوته خاصة غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص العموم، إلا أنه لا بد من المصير إليه لأن العالم مشتق من العلم، والمشتق مركب والمشتق منه مفرد، وحصول المركب بدون حصول المفرد محال في بديهة العقل فكان الترجيح من جانبنا.
قوله تعالى
* (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون) *.
اعلم أنه لما خرج الصواع من رحل أخي يوسف نكس إخوته رؤسهم وقالوا: هذه الواقعة عجيبة أن راحيل ولدت ولدين لصين، ثم قالوا: يا بني راحيل ما أكثر البلاء علينا منكم، فقال بنيامين ما أكثر البلاء علينا منكم ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة، ثم تقولون لي هذا الكلام، قالوا له: فكيف خرج الصواع من رحلك، فقال: وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم.
واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أنهم قالوا للملك: إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان أيضا سارقا، وكان غرضهم من هذا الكلام أنا لسنا على طريقته ولا
على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة لأنهما من أم أخرى، واختلفوا في السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال: الأول: قال سعيد بن جبير: كان جده أبو أمه كافرا يعبد الأوثان فأمرته
183

أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك، فهذا هو السرقة، والثاني: أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه ويدفعه إلى الفقراء، وقيل سرق عناقا من أبيه ودفعه إلى المسكين وقيل دجاجة. والثالث: أن عمته كانت تحبه حبا شديدا فأرادت أن تمسكه عند نفسها، وكان قد بقي عندها منطقة لإسحاق عليه السلام وكانوا يتبركون بها فشدتها على وسط يوسف ثم قالت بأنه سرقها وكان من حكمهم بأن من سرق يسترق، فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها. والرابع: أنهم كذبوا عليه وبهتوه وكانت قلوبهم مملوءة بالغضب على يوسف بعد تلك الوقائع، وبعد انقضاء تلك المدة الطويلة، وهذه الواقعة تدل على أن قلب الحاسد لا يطهر عن الغل البتة.
ثم قال تعالى: * (فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) * واختلفوا في أن الضمير في قوله: * (فأسرها يوسف) * إلى أي شيء يعود على قولين قال الزجاج: فأسرها إضمار على شريطة التفسير، تفسيره أنتم شر مكانا وإنما أنث لأن قوله: * (أنتم شر مكانا) * جملة أو كلمة لأنهم يسمون الطائفة من الكلام كلمة كأنه قال: فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله: * (أنتم شر مكانا) * وفي قراءة ابن مسعود * (فأسر) * بالتذكير يريد القول أو الكلام وطعن أبو علي الفارسي في هذا الوجه فيما استدركه على الزجاج من وجهين:
الوجه الأول: قال الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين: أحدهما: أن يفسر بمفرد كقولنا: نعم رجلا زيد ففي نعم ضمير فاعلها، ورجلا تفسير لذلك الفاعل المضمر والآخر أن يفسر بجملة وأصل هذا يقع في الابتداء كقوله: * (فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) * (الأنبياء: 97) * (قل هو الله أحد) * (الصمد: 1) والمعنى القصة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر الله أحد. ثم إن العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضا نحو إن كقوله: * (إنه من يأت ربه مجرما) * (طه: 74) * (فإنها لا تعمي الأبصار) * (الحج: 46).
إذا عرفت هذا فنقول: نفس المضمر على شريطة التفسير في كلا القسمين متصل بالجملة التي حصل منها الإضمار، ولا يكون خارجا عن تلك الجملة ولا مباينا لها. وههنا التفسير منفصل عن الجملة التي حصل منها الإضمار فوجب أن لا يحسن. والثاني: أنه تعالى قال: * (أنتم شر مكانا) * وذلك يدل على أنه ذكر هذا الكلام، ولو قلنا: إنه عليه السلام أضمر هذا الكلام لكان قوله أنه قال ذلك كذبا. واعلم أن هذا الطعن ضعيف لوجوه:
أما الأول: فلأنه لا يلزم من حسن القسمين الأولين قبح قسم ثالث.
وأما الثاني: فلأنا نحمل ذلك على أنه عليه السلام قال ذلك على سبيل الخفية وبهذا التفسير يسقط هذا السؤال.
184

والوجه الثاني: وهو أن الضمير في قوله: * (فأسرها) * عائد إلى الإجابة كأنهم قالوا: * (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) * فأسر يوسف إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقت ثان ويجوز أيضا أن يكون إضمارا للمقالة. والمعنى: أسر يوسف مقالتهم، والمراد من المقالة متعلق تلك المقالة كما يراد بالخلق المخلوق وبالعلم المعلوم يعني أسر يوسف في نفسه كيفية تلك السرقة، ولم يبين لهم أنها كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والطعن. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عوقب يوسف عليه السلام ثلاث مرات لأجل همه بها، عوقب بالحبس وبقوله: * (اذكرني عند ربك) * (يوسف: 42) عوقب بالحبس الطويل وبقوله: * (إنكم لسارقون) * (يوسف: 7) عوقب بقولهم: * (فقد سرق أخ له من قبل) * ثم حكى تعالى عن يوسف أنه قال: * (أنتم شر مكانا) * أي أنتم شر منزلة عند الله تعالى لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم فأخذتم أخاكم وطرحتموه في الجب، ثم قلتم لأبيكم إن الذئب أكله وأنتم كاذبون، ثم بعتموه بعشرين درهما، ثم بعد المدة الطويلة والزمان الممتد ما زال الحقد والغضب عن قلوبكم فرميتموه بالسرقة.
ثم قال تعالى: * (والله أعلم بما تصفون) * يريد أن سرقة يوسف كانت رضا لله، وبالجملة فهذه الوجوه المذكورة في سرقته لا يوجب شيء منها عود الذم واللوم إليه، والمعنى: والله أعلم بأن هذا الذي وصفتموه به هل يوجب عود مذمة إليه أم لا.
قوله تعالى
* (قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنآ إذا لظالمون) *.
اعلم أنه تعالى بين أنهم بعد الذي ذكروه من قولهم: * (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) * (يوسف: 77) أحبوا موافقته والعدول إلى طريقة الشفاعة فإنهم وإن كانوا قد اعترفوا أن حكم الله تعالى في السارق أن يستعبد، إلا أن العفو وأخذ الفداء كان أيضا جائزا، فقالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا أي في السن، ويجوز أن يكون في القدر والدين، وإنما ذكروا ذلك لأن كونه ابنا لرجل كبير القدر
185

يوجب العفو والصفح. ثم قالوا: * (فخذ أحدنا مكانه) * يحتمل أن يكون المراد على طريق الاستبعاد ويحتمل أن يكون المراد على طريق الرهن حتى نوصل الفداء إليك. ثم قالوا: * (إنا نراك من المحسنين) * وفيه وجوه: أحدها: إنا نراك من المحسنين لو فعلت ذلك. وثانيها: إنا نراك من المحسنين إلينا حيث أكرمتنا وأعطيتنا البذل الكثير وحصلت لنا مطلوبنا على أحسن الوجوه ووردت إلينا ثمن الطعام. وثالثها: نقل أنه عليه السلام لما اشتد القحط على القوم ولم يجدوا شيئا يشترون به الطعام، وكانوا يبيعون أنفسهم منه فصار ذلك سببا لصيرورة أكثر أهل مصر عبيدا له ثم إنه أعتق الكل، فلعلهم قالوا: * (إنا نراك من المحسنين) * إلى عامة الناس بالإعتاق فكن محسنا أيضا إلى هذا الإنسان بإعتاقه من هذه المحنة، فقال يوسف: * (معاذ الله) * أي أعود بالله معاذا أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، أي أعوذ بالله أن آخذ
بريئا بمذنب قال الزجاج: موضع " أن " نصب والمعنى: أعوذ بالله من أخذ أحد بغيره فلما سقطت كلمة " من " انتصب الفعل عليه وقوله: * (إنا إذا لظالمون) * أي لقد تعديت وظلمت إن آذيت إنسانا بجرم صدر عن غيره.
فإن قيل: هذه الواقعة من أولها إلى آخرها تزوير وكذب، فكيف يجوز من يوسف عليه السلام مع رسالته الإقدام على هذا التزوير والترويج وإيذاء الناس من غير سبب لا سيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عند نفسه بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه، فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد.
والجواب: لعله تعالى أمره بذلك تشديدا للمحنة على يعقوب ونهاه عن العفو والصفح وأخذ البدل كما أمر تعالى صاحب موسى بقتل من لو بقي لطغى وكفر.
قوله تعالى
* (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم فى يوسف فلن أبرح الارض حتى يأذن لى أبى أو يحكم الله لى وهو خير الحاكمين) *.
في الآية مسائل:
186

المسألة الأولى: اعلم أنهم لما قالوا: * (فخذ أحدنا مكانه) * (يوسف: 78) وهو نهاية ما يمكنهم بذله فقال يوسف في جوابه: * (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) * (يوسف: 79) فانقطع طمعهم من يوسف عليه السلام في رده، فعند هذا قال تعالى: * (فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا) * وهو مبالغة في يأسهم من رده * (وخلصوا نجيا) * أي تفردوا عن سائر الناس يتناجون ولا شبهة أن المراد يتشاورون ويتحيلون الرأي فيما وقعوا فيه، لأنهم إنما أخذوا بنيامين من أبيهم بعد المواثيق المؤكدة وبعد أن كانوا متهمين في حق يوسف فلو لم يعيدوه إلى أبيهم لحصلت محن كثيرة: أحدها: أنه لو لم يعودوا إلى أبيهم وكان شيخا كبيرا فبقاؤه وحده من غير أحد من أولاده محنة عظيمة. وثانيها: أن أهل بيتهم كانوا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة. وثالثها: أن يعقوب عليه السلام ربما كان يظن أن أولاده هلكوا بالكلية وذلك غم شديد ولو عادوا إلى أبيهم بدون بنيامين لعظم حياؤهم فإن ظاهر الأمر يوهم أنهم خانوه في هذا الابن كما أنهم خانوه في الابن الأول، ولكان يوهم أيضا أنهم ما أقاموا لتلك المواثيق المؤكدة وزنا ولا شك أن هذا الموضع موضع فكرة وحيرة، وذلك يوجب التفاوض والتشاور طلبا للأصلح الأصوب فهذا هو المراد من قوله: * (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا) *.
المسألة الثانية: قال الواحدي روي عن ابن كثير استيأسوا * (حتى إذا استيأس الرسل) * (يوسف: 110) بغير همز وفي ييئس لغتان يئس وييأس مثل حسب ويحسب ومن قال استيأس قلب العين إلى موضع الفاء فصار استعفل وأصله استيأس ثم خففت الهمزة. قال صاحب " الكشاف ": استيأسوا يئسوا، وزيادة السين والتاء للمبالغة كما في قوله: * (استعصم) * (يوسف: 32) وقوله: * (خلصوا) * قال الواحدي: يقال خلص الشيء يخلص خلوصا إذا ذهب عنه الشائب من غيره، ثم فيه وجهان: الأول: قال الزجاج خلصوا أي انفردوا، وليس معهم أخوهم، والثاني: قال الباقون تميزوا عن الأجانب، وهذا هو الأظهر. وأما قوله: * (نجيا) * فقال صاحب " الكشاف ": النجي على معنيين يكون بمعنى المناجي كالعشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر. ومنه قوله تعالى: * (وقربناه نجيا) * (مريم: 52) وبمعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل: النجوى بمعنى المتناجين، فعلى هذا معنى * (خلصوا نجيا) * اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم * (نجيا) * أي مناجيا. روي * (نجوى) * أي فوجا * (نجيا) * أي مناجيا لمناجاة بعضهم بعضا، وأحسن الوجوه أن يقال: إنهم تمحضوا تناجيا، لأن من كمل حصول أمر من الأمور فيه وصف بأنه صار غير ذلك الشيء، فلما أخذوا في التناجي على غاية الجد صاروا كأنهم في أنفسهم، صاروا نفس التناجي حقيقة.
أما قوله تعالى: * (قال كبيرهم) * فقيل المراد كبيرهم في السن وهو روبيل، وقيل كبيرهم في العقل
187

وهو يهودا، وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف، ثم حكى تعالى عن هذا الكبير أنه قال: * (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما قال يوسف عليه السلام: * (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) * (يوسف: 79) غضب يهودا، وكان إذا غضب وصاح فلا تسمع صوته حامل إلا وضعت ويقوم شعره على جسده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه فقال لبعض إخوته اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف عليه السلام لابن صغير له مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف عليه السلام رجله على الأرض وأخذ بملابسه وجذبه فسقط فعنده قال يا أيها العزيز، فلما أيسوا من قبول الشفاعة تذاكروا وقالوا: إن أبانا قد أخذ علينا موثقا عظيما من الله. وأيضا نحن متهمون بواقعة يوسف فكيف المخلص من هذه الورطة.
المسألة الثانية: لفظ ما في قوله: * (ما فرطتم) * فيها وجوه: الأول: أن يكون أصله من قبل هذا فرطتم في شأن يوسف عليه السلام، ولم تحفظوا عهد أبيكم. الثاني: أن تكون مصدرية ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف، وهو من قبل. ومعناه وقع من قبل تفريطكم في يوسف، الثالث: النصب عطفا على مفعول * (ألم تعلموا) * والتقدير: ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقكم وتفريطكم من قبل في يوسف. الرابع: أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة، ومحله الرفع والنصب على الوجهين المذكورين، ثم قال: * (فلن أبرح الأرض) * أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي في الانصراف إليه أو يحكم الله لي بالخروج منها أو بالانتصاف ممن أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب وهو خير الحاكمين، لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق، وبالجملة فالمراد ظهور عذر يزول معه حياؤه وخجله من أبيه أو غيره قاله انقطاعا إلى الله تعالى في إظهار عذره بوجه من الوجوه.
قوله تعالى
* (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنآ إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين * واسئل القرية التى كنا فيها والعير التى أقبلنا فيها وإنا لصادقون) *.
188

واعلم أنهم لما تفكروا في الأصوب ما هو ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على الوجه من غير تفاوت، والظاهر أن هذا القول قاله ذلك الكبير الذي قال: * (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي) * قيل إنه روبيل، وبقي هو في مصر وبعث سائر إخوته إلى الأب.
فإن قيل: كيف حكموا عليه بأنه سرق من غير بينة، لا سيما وهو قد أجاب بالجواب الشافي، فقال الذي جعل الصواع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحلكم.
والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أنهم شاهدوا أن الصواع كان موضوعا في موضع ما كان يدخله أحد إلا هم، فلما شاهدوا أنهم أخرجوا الصواع من رحله غلب على ظنونهم أنه هو الذي أخذ الصواع، وأما قوله: وضع الصواع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم فالفرق ظاهر، لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأما هذا الصواع فإن أحدا لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصواع في رحله فظهر الفرق فلهذا السبب غلب على ظنونهم أنه سرق، فشهدوا بناء على هذا الظن، ثم بينهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم: * (وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) *.
والوجه الثاني: في الجواب أن تقدير الكلام * (إن ابنك سرق) * في قول الملك وأصحابه ومثله كثير في القرآن. قال تعالى: * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * (هود: 87) أي عند نفسك، وقال تعالى: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49) أي عند نفسك وأما عندنا فلا فكذا ههنا.
الوجه الثالث: في الجواب أن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة ومثل هذا الشيء يسمى سرقة فإن إطلاق اسم أحد الشبيهين على الشبيه الآخر جائز في القرآن قال تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40).
الوجه الرابع: أن القوم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت فلا يبعد أن يقال: إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة لا سيما وقد شاهدوا شيئا يوهم ذلك.
الوجه الخامس: أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقرأ * (إن ابنك سرق) * بالتشديد، أي نسب إلى السرقة فهذه القراءة لا حاجة بها إلى التأويل لأن القوم نسبوه إلى السرقة، إلا أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه القراءات لا تدفع السؤال، لأن الإشكال إنما يدفع إذا قلنا القراءة الأولى باطلة، والقراءة الحقة هي هذه. أما إذا سلمنا أن القراءة الأولى حقة كان الإشكال باقيا سواء صحت هذه القراءة الثانية أو لم تصح، فثبت أنه لا بد من الرجوع إلى أحد الوجوه المذكورة
189

أما قوله: * (وما شهدنا إلا بما علمنا) * فمعناه ظاهر لأنه يدل على أن الشهادة غير العلم بدليل قوله تعالى: * (وما شهدنا إلا بما علمنا) * وذلك يقتضي كون الشهادة مغايرة للعلم ولأنه عليه السلام قال: إذا علمت مثل الشمس فاشهد، وذلك أيضا يقتضي ما ذكرنا وليست الشهادة أيضا عبارة عن قوله أشهد لأن قوله أشهد إخبار عن الشهادة والإخبار عن الشهادة غير الشهادة. إذا ثبت هذا فنقول: الشهادة عبارة عن الحكم الذهني وهو الذي يسميه المتكلمون بكلام النفس، وأما قوله: * (وما كنا للغيب حافظين) * ففيه وجوه: الأول: أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله، وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله. والثاني: قال عكرمة معناه: لعل الصواع دس في متاعه بالليل، فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات. والثالث: قال مجاهد والحسن وقتادة: وما كنا نعلم أن ابنك يسرق، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقا من الله في رده إليك. والرابع: نقل أن يعقوب عليه السلام قال لهم: فهب أنه سرق ولكن كيف عرف الملك أن شرع بني إسرائيل أن من سرق يسترق، بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم فقالوا عند هذا الكلام: أنا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة وما كنا نعلم أن هذه الواقعة نقع فيها فقوله: * (وما كنا للغيب حافظين) * إشارة إلى هذا المعنى.
فإن قيل: فهل يجوز من يعقوب عليه السلام أن يسعى في إخفاء حكم الله تعالى على هذا القول.
قلنا: لعله كان ذلك الحكم مخصوصا بما إذا كان المسروق منه مسلما فلهذا أنكر ذكر هذا الحكم عند الملك الذي ظنه كافرا.
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا: * (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها) *.
واعلم أنهم لما كانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام بالغوا في إزالة التهمة عن أنفسهم فقالوا: * (واسأل القرية التي كنا فيها) * والأكثرون اتفقوا على أن المراد من هذه القرية مصر وقال قوم، بل المراد منه قرية على باب مصر جرى فيها حديث السرقة والتفتيش، ثم فيه قولان: الأول: المراد واسأل أهل القرية إلا أنه حذف المضاف للإيجاز والاختصار، وهذا النوع من المجاز مشهور في لغة العرب قال أبو علي الفارسي ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضروريات وجاحد المحسوسات. والثاني: قال أبو بكر الأنباري المعنى: اسأل القرية والعير والجدار والحيطان فإنها تجيبك وتذكر لك صحة ما ذكرناه لأنك من أكابر أنبياء الله فلا يبعد أن ينطق الله هذه الجمادات معجزة لك حتى تخبر بصحة ما ذكرناه، وفيه وجه ثالث، وهو أن الشيء إذا ظهر ظهورا تاما كاملا فقد يقال فيه، سل السماء والأرض وجميع الأشياء عنه، والمراد أنه بلغ في الظهور إلى الغاية التي
190

ما بقي للشك فيه مجال.
أما قوله: * (والعير التي أقبلنا فيها) * فقال المفسرون كان قد صحبهم قوم من الكنعانيين فقالوا: سلهم عن هذه الواقعة. ثم إنهم لما بالغوا في التأكيد والتقرير قالوا: * (وإنا لصادقون) * يعني سواء نسبتنا إلى التهمة أو لم تنسبنا إليها فنحن صادقون، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم بأنفسهم لأن هذا يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه، بل الإنسان إذا قدم ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده وأنا صادق في ذلك يعني فتأمل فيما ذكرته من الدلائل والبينات لتزول عنك الشبهة.
قوله تعالى
* (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم) *.
اعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع من أبنائه ذلك الكلام لم يصدقهم فيما ذكروا كما في واقعة يوسف فقال: * (بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل) * فذكر هذا الكلام بعينه في هذه الواقعة إلا أنه قال في واقعة يوسف عليه السلام: * (والله المستعان على ما تصفون) * (يوسف: 18) وقال ههنا: * (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم إن قوله: * (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) * ليس المراد منه ههنا الكذب والاحتيال كما في قوله في واقعة يوسف عليه السلام حين قال: * (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) * لكنه عنى سولت لكم أنفسكم إخراج بنيامين عني والمصير به إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم علي في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله إنما جاء على خلاف تقديركم وقيل: بل المعنى سولت لكم أنفسكم أمرا خيلت لكم أنفسكم أنه سرق وما سرق.
المسألة الثانية: قيل إن روبيل لما عزم على الإقامة بمصر أمره الملك أن يذهب مع إخوته فقال اتركوني وإلا صحت صيحة لا تبقى بمصر امرأة حامل إلا وتضع حملها فقال يوسف دعوه ولما رجع القوم إلى يعقوب عليه السلام وأخبروه بالواقعة بكى وقال: يا بني لا تخرجوا من عندي مرة إلا ونقص بعضكم، ذهبتم مرة فنقص يوسف، وفي الثانية نقص شمعون، وفي هذه الثالثة نقص روبيل وبنيامين، ثم بكى وقال: عسى الله أن يأتيني بهم جميعا وإنما حكم بهذا الحكم لوجوه: الأول: أنه لما طال حزنه وبلاؤه ومحنته علم أنه تعالى سيجعل له فرجا ومخرجا عن قريب فقال ذلك
191

على سبيل حسن الظن برحمة الله. والثاني: لعله تعالى قد أخبره من بعد محنة يوسف أنه حي أو ظهرت له علامات ذلك وإنما قال: * (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) * لأنهم حين ذهبوا بيوسف كانوا اثني عشر فضاع يوسف وبقي أحد عشر، ولما أرسلهم إلى مصر عادوا تسعة لأن بنيامين حبسه يوسف واحتبس ذلك الكبير الذي قال: * (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي) * (يوسف: 80) فلما كان الغائبون ثلاثة لا جرم * (قال عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) *.
ثم قال: * (إنه هو العليم الحكيم) * يعني هو العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة.
قوله تعالى
* (وتولى عنهم وقال يا أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم * قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنمآ أشكو بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون * يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تياسوا من روح الله إنه لا يايس من روح الله إلا القوم الكافرون) *.
واعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع كلام أبنائه ضاق قلبه جدا وأعرض عنهم وفارقهم ثم بالآخرة طلبهم وعاد إليهم.
أما المقام الأول: وهو أنه أعرض عنهم، وفر منهم فهو قوله: * (وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف) *.
واعلم أنه لما ضاق صدره بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين عظم أسفه على
192

يوسف عليه السلام: * (وقال يا أسفى على يوسف) * وإنما عظم حزنه على مفارقة يوسف عند هذه الواقعة لوجوه:
الوجه الأول: أن الحزن الجديد يقوي الحزن القديم الكامن والقدح إذا وقع على القدح كان أوجع وقال متمم بن نويرة: وقد لامني عند القبور على البكا * رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته * لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى * فدعني فهذا كله قبر مالك
وذلك لأنه إذا رأى قبرا فتجدد حزنه على أخيه مالك فلاموه عليه، فأجاب بأن الأسى يبعث الأسى. وقال آخر: فلم تنسني أو في المصيبات بعده * ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع
والوجه الثاني: أن بنيامين ويوسف كانا من أم واحدة وكانت المشابهة بينهما في الصورة والصفة أكمل، فكان يعقوب عليه السلام يتسلى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام، فلما وقع ما وقع زال ما يوجب السلوة فعظم الألم والوجد.
الوجه الثالث: أن المصيبة في يوسف كانت أصل مصائبه التي عليها ترتب سائر المصائب والرزايا، وكان الأسف عليه أسفا على الكل. الرابع: أن هذه المصائب الجديدة كانت أسبابها جارية مجرى الأمور التي يمكن معرفتها والبحث عنها. وأما واقعة يوسف فهو عليه السلام كان يعلم كذبهم في السبب الذي ذكروه، وأما السبب الحقيقي فما كان معلوما له، وأيضا أنه عليه السلام كان يعلم أن هؤلاء في الحياة وأما يوسف فما كان يعلم أنه حي أو ميت، فلهذه الأسباب عظم وجده على مفارقته وقويت مصيبته على الجهل بحاله.
المسألة الثانية: من الجهال من عاب يعقوب عليه السلام على قوله: * (يا أسفى على يوسف) * قال: لأن هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية من الله وأنه لا يجوز، والعلماء بينوا أنه ليس الأمر كما ظنه هذا الجاهل، وتقريره أنه عليه السلام لم يذكر هذه الكلمة ثم عظم بكاؤه، وهو المراد من قوله: * (وابيضت عيناه من الحزن) * ثم أمسك لسانه عن النياحة، وذكر مالا ينبغي، وهو المراد من قوله: * (فهو كظيم) * ثم إنه ما أظهر الشكاية مع أحد من الخلق بدليل قوله: * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) * وكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته فإنه صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية فلا جرم استوجب به المدح العظيم
والثناء العظيم. روي أن يوسف عليه السلام سأل جبريل
193

هل لك علم بيعقوب؟ قال نعم قال: وكيف حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى وهي التي لها ولد واحد ثم يموت. قال: فهل له فيه أجر؟ قال: نعم أجر مائة شهيد.
فإن قيل: روي عن محمد بن علي الباقر قال: مر بيعقوب شيخ كبير فقال له أنت إبراهيم فقال: أنا ابن ابنه والهموم غيرتني وذهبت بحسني وقوتي، فأوحى الله تعالى إليه: " حتى متى تشكوني إلى عبادي وعزتي وجلالي لو لم تشكني لأبدلنك لحما خيرا من لحمك ودما خيرا من دمك " فكان من بعد يقول: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان ليعقوب أخ مواخ " فقال له: ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك فقال الذي أذهب بصري البكاء على يوسف وقوس ظهري الحزن على بنيامين، فأوحى الله تعالى إليه " أما تستحي تشكوني إلى غيري " فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فقال يا رب أما ترحم الشيخ الكبير قوست ظهري، وأذهبت بصري، فاردد علي ريحانتي يوسف وبنيامين فأتاه جبريل عليه السلام بالبشرى وقال: لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاما للمساكين، فإن أحب عبادي إلي الأنبياء والمساكين، وكان يعقوب عليه السلام إذا أراد الغداء نادى مناديه من أراد الغداء فليتغد مع يعقوب، وإذا كان صائما نادى مثله عند الإفطار. وروي أنه كان يرفع حاجبيه بخرقة من الكبر، فقال له رجل: ما هذا الذي أراه بك، قال طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه " أتشكوني يا يعقوب " فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
قلنا: إنا قد دللنا على أنه لم يأت إلا بالصبر والثبات وترك النياحة. وروي أن ملك الموت دخل على يعقوب عليه السلام فقال له: جئت لتقبضني قبل أن أرى حبيبي فقال: لا، ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك، وأما البكاء فليس من المعاصي. وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام: بكى على ولده إبراهيم عليه السلام وقال: " إن القلب ليحزن والعين تدمع، ولا نقول: ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون " وأيضا فاستيلاء الحزن على الإنسان ليس باختياره، فلا يكون ذلك داخلا تحت التكليف وأما التأوه وإرسال البكاء فقد يصير بحيث لا يقدر على دفعه، وأما ما ورد في الروايات التي ذكرتم فالمعاتبة فيها إنما كانت لأجل أن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأيضا ففيه دقيقة أخرى وهي أن الإنسان إذا كان في موضع التحير والتردد لا بد وأن يرجع إلى الله تعالى، فيعقوب عليه السلام ما كان يعلم أن يوسف بقي حيا أم صار ميتا، فكان متوقفا فيه وبسبب توقفه كان يكثر الرجوع إلى الله تعالى وينقطع قلبه عن الالتفات عن كل ما سوى الله تعالى إلا في هذه الواقعة، وكان أحواله في هذه الواقعة مختلفة، فربما صار في بعض الأوقات مستغرق الهم بذكر الله تعالى، فإن عن تذكر هذا الواقعة، فكان ذكرها كلا سواها،
194

فلهذا السبب صارت هذا الواقعة بالنسبة إليه، جارية مجرى الإلقاء في النار للخليل عليه السلام ومجرى الذبح لابنه الذبيح.
فإن قيل: أليس أن الأولى عند نزول المصيبة الشديدة أن يقول: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) * (البقرة: 156) حتى يستوجب الثواب العظيم المذكور في قوله: * (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) * (البقرة: 157).
قلنا: قال بعض المفسرين إنه لم يعط الاسترجاع أمة إلا هذه الأمة فأكرمهم الله تعالى إذا أصابتهم مصيبة وهذا عندي ضعيف لأن قوله: * (إنا لله) * إشارة إلى أنا مملوكون لله وهو الذي خلقنا وأوجدنا، وقوله: * (وإنا إليه راجعون) * إشارة إلى أنه لا بد من الحشر والقيامة، ومن المحال أن أمة من الأمم لا يعرفون ذلك فمن عرف عند نزول بعض المصائب به أنه لا بد في العاقبة من رجوعه إلى الله تعالى، فهناك تحصل السلوة التامة عند تلك المصيبة، ومن المحال أن يكون لمؤمن بالله غير عارف بذلك.
المسألة الثالثة: قوله: * (يا أسفى على يوسف) * نداء الأسف وهو كقوله: " يا عجبا " والتقدير كأنه ينادي الأسف ويقول: هذا وقت حصولك وأوان مجيئك وقد قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة منها في تفسير قوله: * (حاش لله) * (يوسف: 31) والأسف الحزن على ما فات. قال الليث: إذا جاءك أمر فحزنت له ولم تطقه فأنت أسيف أي حزني ومتأسف أيضا. قال الزجاج: الأصل * (يا أسفى) * إلا أن ياء الإضافة يجوز إبدالها بالألف لخفة الألف والفتحة.
ثم قال تعالى: * (وابيضت عيناه من الحزن) * وفيه وجهان:
الوجه الأول: أنه لما قال يا أسفى على يوسف غلبه البكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء وقوله: * (وابيضت عيناه من الحزن) * كناية عن غلبة البكاء، والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء لا في حصول العمى فلو حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنا ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل، فكان ما ذكرناه أولى وهذا للتفسير مع الدليل رواه الواحدي في " البسيط " عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والوجه الثاني: أن المراد هو العمى قال مقاتل: لم يبصر بهما ست سنين حتى كشف الله تعالى عنه بقميص يوسف عليه السلام وهو قوله: * (فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا) * (يوسف: 93) قيل إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام حينما كان في السجن فقال إن بصر أبيك ذهب من
195

الحزن عليك فوضع يده على رأسه وقال: ليت أمي لم تلدني ولم أك حزنا على أبي، والقائلون بهذا التأويل قالوا: الحزن الدائم يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمى، فالحزن كان سببا للعمى بهذه الواسطة، وإنما كان البكاء الدائم يوجب العمى، لأنه يورث كدورة في سوداء العين، ومنهم من قال: ما عمي لكنه صار بحيث يدرك إدراكا ضعيفا. قيل: ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف عليه السلام إلى حين لقائه، وتلك المدة ثمانون عاما، وما كان على وجه الأرض عبدا أكرم على الله تعالى من يعقوب عليه السلام.
أما قوله تعالى: * (من الحزن) * فاعلم أنه قرىء * (من الحزن) * بضم الحاء وسكون الزاي، وقرأ الحسن بفتح الحاء والزاي. قال الواحدي: واختلفوا في
الحزن والحزن فقال قوم: الحزن البكاء والحزن ضد الفرح، وقال قوم: هما لغتان يقال أصابه حزن شديد، وحزن شديد، وهو مذهب أكثر أهل اللغة، وروى يونس عن أبي عمرو قال: إذا كان في موضع النصب فتحوا الحاء والزاي كقوله: * (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا) * (التوبة: 92) وإذا كان في موضع الخفض أو الرفع ضموا الحاء كقوله: * (من الحزن) * وقوله: * (أشكو بثي وحزني إلى الله) * قال هو في موضع رفع الابتداء.
وأما قوله تعالى: * (فهو كظيم) * فيجوز أن يكون بمعنى الكاظم وهو الممسك على حزنه فلا يظهره قال ابن قتيبة: ويجوز أن يكون بمعنى المكظوم، ومعناه المملوء من الحزن مع سد طريق نفسه المصدور من كظم السقاء إذا اشتد على ملئه، ويجوز أيضا أن يكون بمعنى مملوء من الغيظ على أولاده.
واعلم أن أشرف أعضاء الإنسان هذه الثلاثة، فبين تعالى أنها كانت غريقة في الغم فاللسان كان مشغولا بقوله: * (يا أسفى) * والعين بالبكاء والبياض والقلب بالغم الشديد الذي يشبه الوعاء المملوء الذي شد ولا يمكن خروج الماء منه وهذه مبالغة في وصف ذلك الغم.
أما قوله تعالى: * (قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن السكيت يقال: ما زلت أفعله وما فتئت أفعله وما برحت أفعله ولا يتكلم بهن إلا مع الجحد. قال ابن قتيبة يقال: ما فتيت وما فتئت لغتان فتيا وفتوأ إذا نسيته وانقطعت عنه قال النحويون وحرف النفي ههنا مضمر على معنى قالوا: ما تفتؤا ولا تفتؤ وجاز حذفه لأنه لو أريد الإثبات لكان باللام والنون نحو والله لتفعلن فلما كان بغير اللام والنون عرف أن كلمة لا مضمرة وأنشدوا قول امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا
196

والمعنى: لا أبرح قاعدا ومثله كثير. وأما المفسرون فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة لا تزال تذكره، وعن مجاهد لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين.
المسألة الثانية: حكى الواحدي عن أهل المعاني أن أصل الحرض فساد الجسم والعقل للحزن والحب، وقوله: حرضت فلانا على فلان تأويله أفسدته وأحميته عليه، وقال تعالى: * (حرض المؤمنين على القتال) * (الأنفال: 65).
إذا عرفت هذا فنقول: وصف الرجل بأنه حرض إما أن يكون لإرادة أنه ذو حرض فحذف المضاف أو لإرادة أنه لما تناهى في الفساد والضعف فكأنه صار عين الحرض ونفس الفساد. وأما الحرض بكسر الراء فهو الصفة وجاءت القراءة بهما معا.
إذا عرفت هذا فنقول: للمفسرين فيه عبارات: أحدها: الحرض والحارض هو الفاسد في جسمه وعقله. وثانيهما: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الحرض فقال: الفاسد الدنف. وثالثها: أنه الذي يكون لا كالأحياء ولا كالأموات، وذكر أبو روق أن أنس بن مالك قرأ: * (حتى تكون حرضا) * بضم الحاء وتسكين الراء قال يعني مثل عود الأشنان، وقوله: * (أو تكون من الهالكين) * أي من الأموات، ومعنى الآية أنهم قالوا لأبيهم إنك لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم كأنهم قالوا: أنت الآن في بلاء شديد ونخاف أن يحصل ما هو أزيد منه وأقوى وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء والأسف.
فإن قيل: لم حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعا؟
قلنا: إنهم بنوا هذا الأمر على الظاهر.
فإن قيل: القائلون بهذا الكلام وهو قوله: * (تالله تفتؤ) * من هم؟
قلنا: الأظهر أن هؤلاء ليسوا هم الإخوة الذين قد تولى عنهم، بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه.
ثم حكى تعالى عن يعقوب عليه السلام أنه قال: * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) * يعني أن هذا الذي أذكره لا أذكره معكم وإنما أذكره في حضرة الله تعالى، والإنسان إذا بث شكواه إلى الله تعالى كان في زمرة المحققين كما قال عليه الصلاة والسلام: " أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك " والله هو الموفق، والبث هو التفريق قال الله تعالى: * (وبث فيها من كل دابة) * (البقرة: 164) فالحزن إذا ستره الإنسان كان هما وإذا ذكره لغيره كان بثا وقالوا: البث أشد الحزن
197

والحزن أشد الهم، وذلك لأنه متى أمكنه أن يمسك لسانه عن ذكره لم يكن ذلك الحزن مستوليا عليه وأما إذا عظم وعجز الإنسان عن ضبطه وانطلق اللسان بذكره شاء أم أبى كان ذلك بثا وذلك يدل على أن الإنسان صار عاجزا عنه وهو قد استولى على الإنسان، فقوله: * (بثي وحزني إلى الله) * أي لا أذكر الحزن العظيم ولا الحزن القليل إلا مع الله، وقرأ الحسن: * (وحزني) * بفتحتين وحزني بضمتين، قيل: دخل على يعقوب رجل وقال: يا يعقوب ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سنا عاليا فقال الذي بي لكثرة غمومي، فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي، فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفرها له، وكان بعد ذلك إذا سئل قال: * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) * وروي أنه أوحى الله إليه إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه، وإن أحب خلقي إلي الأنبياء والمساكين فاصنع طعاما وادع إليه المساكين، وقيل: اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت.
ثم قال يعقوب عليه السلام: * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) * أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون، وهو أنه تعالى يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب، فهو إشارة إلى أنه كان يتوقع وصول يوسف إليه. وذكروا لسبب هذا التوقع أمورا: أحدها: أن ملك الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال لا يا نبي الله ثم أشار إلى جانب مصر وقال: أطلبه ههنا، وثانيها: أنه علم أن رؤيا يوسف صادقة، لأن أمارات الرشد والكمال كانت ظاهرة في حق يوسف ورؤيا مثله عليه
السلام لا تخطئ، وثالثها: لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه، ولكنه تعالى ما عين الوقت فلهذا بقي في القلق، ورابعها: قال السدي: لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله طمع أن يكون هو يوسف وقال: يبعد أن يظهر في الكفار مثله، وخامسها: علم قطعا أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه وما ضربه فغلب على ظنه أن ذلك الملك هو يوسف فهذا جملة الكلام في المقام الأول.
والمقام الثاني: أنه رجع إلى أولاده وتكلم معهم على سبيل اللطف وهو قوله: * (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) *. واعلم أنه عليه السلام لما طمع في وجدان يوسف بناء على الأمارات المذكورة قال لبنيه: تحسسوا من يوسف، والتحسس طلب الشيء بالحاسة وهو شبيه بالسمع والبصر، قال أبو بكر الأنباري يقال: تحسست عن فلان ولا يقال من فلان، وقيل: ههنا من يوسف لأنه أقام من مقام عن، قال: ويجوز أن يقال: من للتبعيض، والمعنى تحسسوا خبرا من أخبار يوسف، واستعلموا بعض أخبار يوسف
198

فذكرت كلمة * (من) * لما فيها من الدلالة على التجيض، وقرئ * (تجسسوا) * بالجيم كما قرىء بهما في الحجرات.
ثم قال: * (ولا تيأسوا من روح الله) * قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه وتركيب الراء والواو الحاء يفيد الحركة والاهتزاز، فكلما يهتز انسان له ويلتذ بوجوده فهو روح. وقال ابن عباس: لا تيأسوا من روح الله يريد من رحمة الله، وعن قتادة: من فضل الله، وقال ابن زيد: من فرج الله، وهذه الألفاظ متقاربة، وقرأ الحسن وقتادة: من روح الله بالضم أي من رحمته.
ثم قال: * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء.
واعلم أن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أو ليس بكريم بل هو بخيل وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا والله أعلم، وقد بقي من مباحث هذه الآية سؤالات:
السؤال الأول: أن بلوغ يعقوب في حب يوسف إلى هذا الحد العظيم لا يليق إلا بمن كان غافلا عن الله، فإن من عرف الله أحبه ومن أحب الله لم يتفرغ قلبه لحب شيء سوى الله تعالى، وأيضا القلب الواحد لا يتسع للحب المستغرق لشيئين، فلما كان قلبه مستغرقا في حب ولده امتنع أن يقال: إنه كان مستغرقا في حب الله تعالى.
والسؤال الثاني: أن عند استيلاء الحزن الشديد عليه كان من الواجب أن يشتغل بذكر الله تعالى، وبالتفويض إليه والتسليم لقضائه.
وأما قوله: * (يا أسفى على يوسف) * فذلك لا يليق بأهل الدين والعلم فضلا عن أكابر الأنبياء.
والسؤال الثالث: لا شك أن يعقوب كان من أكابر الأنبياء، وكان أبوه وجده وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الدنيا، ومن كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة صعبة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية، بل لا بد وأن يبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وبقي يعقوب على حزنه الشديد وأسفه العظيم، وكان يوسف في مصر وكان يعقوب في بعض بلاد الشام قريبا من مصر، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة مخفية.
السؤال الرابع: لم لم يبعث يوسف عليه السلام أحدا إلى يعقوب ويعلمه أنه في الحياة وفي
199

السلامة ولا يقال: إنه كان يخاف إخوته لأنه بعد أن صار ملكا قاهرا كان يمكنه إرسال الرسول إليه وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع الرسول.
والسؤال الخامس: كيف جاز ليوسف عليه السلام أن يضع الصاع في وعاء أخيه ثم يستخرجه منه ويلصق به تهمة السرقة مع أنه كان بريئا عنها.
السؤال السادس: كيف رغب في إلصاق هذه التهمة به وفي حبسه عند نفسه مع أنه كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى.
والجواب عن الأول: أن مثل هذه المحنة الشديدة تزيل عن القلب كل ما سواه من الخواطر. ثم إن صاحب هذه المحنة الشديدة يكون كثير الرجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدعاء والتضرع فيصير ذلك سببا لكمال الاستغراق.
والجواب عن الثاني: أن الداعي الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة فتارة كان يقول: * (يا أسفي على يوسف) * (يوسف: 84) وتارة كان يقول: * (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * (يوسف: 18) وأما بقية الأسئلة فالقاضي أجاب عنها بجواب كلي حسن، فقال هذه الوقائع التي نقلت إلينا إما يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لا يمكن فإن كان الأول فلا إشكال، وإن كان الثاني فنقول: كان ذلك الزمان زمان الأنبياء عليهم السلام وخرق العادة في هذا الزمان غير مستبعد، فلم يمتنع أن يقال: إن بلدة يعقوب عليه السلام مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه السلام، ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل نقض العادة.
قوله تعالى
* (فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينآ إن الله يجزى المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم
200

جاهلون * قالوا أءنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخى قد من الله علينآ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) *.
اعلم أن المفسرين اتفقوا على أن ههنا محذوفا والتقدير: أن يعقوب لما قال لبنيه: * (اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) * قبلوا من أبيهم هذه الوصية فعادوا إلى مصر ودخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له: * (يا أيها العزيز) *.
فإن قيل: إذا كان يعقوب أمرهم أن يتحسسوا أمر يوسف وأخيه فلماذا عدلوا إلى الشكوى وطلبوا إيفاء الكيل؟
قلنا: لأن المتحسسين يتوسلون إلى مطلوبهم بجميع الطرق والاعتراف بالعجز وضيق اليد ورقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة مما يرقق القلب فقالوا: نجربه في ذكر هذه الأمور فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا. فلهذا السبب قدموا ذكر هذه الواقعة وقالوا * (يا أيها العزيز) * والعزيز هو الملك القادر المنيع * (مسنا وأهلنا الضر) * وهوا الفقر والحاجة وكثرة العيال وقلة الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم * (وجئنا ببضاعة مزجاة) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: معنى الإزجاء في اللغة، الدفع قليلا قليلا ومثله التزجية يقال الريح تزجي السحاب. قال الله تعالى: * (ألم تر أن الله يزجي سحابا) * (النور: 43) وزجيت فلانا بالقول دافعته، وفلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالحيلة.
والبحث الثاني: إنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لهما جميعا والمفسرون ذكروا كل هذه الأقسام قال الحسن: البضاعة المزجاة القليلة، وقال آخرون إنها كانت رديئة واختلفوا في تلك الرداءة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، وقيل: خلق الغرارة والحبل وأمتعة رثة، وقيل: متاع الأعراب الصوف والسمن. وقيل: الحبة الخضراء، وقيل: الأقط، وقيل: النعال والأدم، وقيل: سويق المقل، وقيل: صوف المعز، وقيل: إن دراهم مصر كانت تنقش فيها صورة يوسف والدراهم التي جاؤوا بها ما كان فيها صورة يوسف فما كانت مقبولة عند الناس.
البحث الثالث: في بيان أنه لم سميت البضاعة القليلة الرديئة مزجاة؟ وفيه وجوه: الأول: قال الزجاج: هي من قولهم فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل، والمعنى أنا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزمان، وليست مما ينتفع به وعلى هذا الوجه فالتقدير ببضاعة مزجاة بها الأيام، الثاني: قال أبو عبيد: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها
201

قال وهي من الأزجاء، والأزجاء عند العرب السوق والدفع. الثالث: ببضاعة مزجاة أي مؤخرة مدفوعة عن الإنفاق لا ينفق مثلها إلا من اضطر واحتاج إليها لفقد غيرها مما هو أجود منها. الرابع: قال الكلبي: مزجاة لغة العجم، وقيل هي من لغة القبط قال أبو بكر الأنباري: لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق والتصريف منسوبا إلى القبط.
البحث الرابع: قرأ حمزة والكسائي مزجاة بالإمالة، لأن أصله الياء، والباقون بالنصب والتفخيم.
واعلم أن حاصل الكلام في كون البضاعة مزجاة إما لقلتها أو لنقصانها أو لمجموعها ولما وصفوا شدة حالهم ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له: * (فاوف لنا الكيل) * والمراد أن يساهلهم إما بإن يقيم الناقص مقام الزائد أو يقيم الردئ مقام الجيد، ثم قالوا: * (وتصدق علينا) * والمراد المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالردئ كما يسع بالجيد، واختلف الناس في أنه هل كان ذلك طلبا منهم للصدقة فقال سفيان بن عيينة: إن الصدقة كانت حلالا للأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الآية وعلى هذا التقدير، كأنهم طلبوا القدر الزائد على سبيل الصدقة، وأنكر الباقون ذلك وقالوا حال الأنبياء وحال أولاد الأنبياء ينافي طلب الصدقة لأنهم يأنفون من الخضوع للمخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله تعالى والاستغاثة به عمن سواه، وروي عن الحسن ومجاهد: أنهما كرها أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علي، قالوا: لأن الله لا يتصدق إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب، وإنما يقول: اللهم أعطني أو تفضل، فعلى هذا التصدق هو إعطاء الصدقة والمتصدق المعطي، وأجاز الليث أن يقال للسائل: متصدق وأباه الأكثرون. وروي أنهم لما قالوا: * (مسنا وأهلنا الضر) * وتضرعوا إليه اغرورقت عيناه فعند ذلك * (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) * وقيل: دفعوا إليه كتاب يعقوب فيه من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر. أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي في النار ليحرق فنجاه الله وجعلها بردا وسلاما عليه، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من البكاء عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به إليك ثم رجعوا وقالوا: إنه قد سرق وإنك حبسته عندك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك. فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره وعرفهم أنه يوسف.
202

ثم حكى تعالى عن يوسف عليه السلام في هذا المقام أنه قال: * (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) * قيل إنه لما قرأ كتاب أبيه يعقوب ارتعدت مفاصله واقشعر جلده ولان قلبه وكثر بكاؤه وصرح بأنه يوسف. وقيل: إنه لما رأى إخوته تضرعوا إليه ووصفوا ما هم عليه من شدة الزمان وقلة الحيلة أدركته الرقة فصرح حينئذ بأنه يوسف، وقوله: * (هل علمتم ما فعلتم بيوسف) * استفهام يفيد تعظيم الواقعة، ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه، وهو كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وعل تعرف من خالفت؟
واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى: * (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) * (يوسف: 15) وأما قوله: * (وأخيه) * فالمراد ما فعلوا به من تعريضه للغم بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وأمه، وأيضا كانوا يؤذونه ومن جملة أقسام ذلك الإيذاء قالوا في حقه: * (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) * (يوسف: 77) وأما قوله: * (إذ أنتم جاهلون) * فهو يجري مجرى العذر كأنه قال: أنتم إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في جهالة الصبا أو في جهالة الغرور، يعني والآن لستم كذلك، ونظيره ما يقال في تفسير قوله تعالى: * (ما غرك بربك الكريم) * (الإنفطار: 6) قيل إنما ذكر تعالى هذا الوصف المعين ليكون ذلك جاريا مجرى الجواب وهو أن يقول العبد يا رب غرني كرمك فكذا ههنا إنما ذكر ذلك الكلام إزالة للخجالة عنهم وتخفيفا للأمر عليهم. ثم إن إخوته قالوا: * (أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف) * قرأ ابن كثير * (إنك) * على لفظ الخبر، وقرأ نافع * (أينك لأنت يوسف) * بفتح الألف غير ممدودة وبالياء وأبو عمرو * (آينك) * بمد الألف وهو رواية قالون عن نافع، والباقون * (أئنك) * بهمزتين وكل ذلك على الاستفهام، وقرأ أبي * (أو أنت يوسف) * فحصل من هذه القراءات أن من
القراء من قرأ بالاستفهام ومنهم من قرأ بالخبر. أما الأولون فقالوا: إن يوسف لما قال لهم: * (هل علمتم) * وتبسم فأبصروا ثناياه، وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف، فقالوا له استفهاما * (أئنك لأنت يوسف) * ويدل على صحة الاستفهام أنه * (قال أنا يوسف) * وإنما أجابهم عما استفهموا عنه. وأما من قرأ على الخبر فحجته ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه، وكان في فرقه علامة وكان ليعقوب وإسحق مثلها شبه الشامة، فلما رفع التاج عرفوه بتلك العلامة، فقالوا: * (إنك لأنت يوسف) * ويجوز أن يكون ابن كثير أراد الاستفهام ثم حذف حرف الاستفهام وقوله: * (قال أنا يوسف) * فيه بحثان:
البحث الأول: اللام لام الابتداء، وأنت مبتدأ ويوسف خبره، والجملة خبر إن.
البحث الثاني: أنه إنما صرح بالاسم تعظيما لما نزل به من ظلم إخوته وما عوضه الله من
203

الظفر والنصر؛ فكأنه قال: أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه والله تعالى أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك العاجز الذي قصدتم قتله وإلقاءه في البئر ثم صرت كما ترون، ولهذا قال: * (وهذا أخي) * مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول: وهذا أيضا كان مظلوما كما كنت ثم إنه صار منعما عليه من قبل الله تعالى كما ترون وقوله: * (قد من الله علينا) * قال ابن عباس رضي الله عنهما بكل عز في الدنيا والآخرة وقال آخرون بالجمع بيننا بعد التفرقة وقوله: * (إنه من يتق ويصبر) * معناه: من يتق معاصي الله ويصبر على أذى الناس * (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) * والمعنى: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجرهم فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين. وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشريف بكونه متقيا ولو أنه قدم على ما يقوله الحشوية في حق زليخا لكان هذا القول كذبا منه وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء.
المسألة الثانية: قال الواحدي روي عن ابن كثير في طريق قنبل: * (إنه من يتقي) * بإثبات الياء في الحالين ووجهه أن يجعل " من " بمنزلة الذي فلا يوجب الجزم ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله: * (ويصبر) * في موضع الرفع إلا أنه حذف الرفع طلبا للتخفيف كما يخفف في عضد وشمع والباقون بحذف الياء في الحالين.
قوله تعالى
* (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا الخاطئين * قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين * اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وأتونى بأهلكم أجمعين) *.
اعلم أن يوسف عليه السلام لما ذكر لإخوته أن الله تعالى من عليه وأن من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس فإنه لا يضيعه الله صدقوه فيه، واعترفوا له بالفضل والمزية * (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين) * قال الأصمعي: يقال: آثرك إيثارا، أي فضلك الله، وفلان آثر عبد فلان، إذا كان يؤثره بفضله وصلته، والمعنى: لقد فضلك الله علينا بالعلم
204

والحلم والعقل والفضل والحسن والملك، واحتج بعضهم بهذه الآية على أن إخوته ما كانوا أنبياء، لأن جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنسبة إليه فلو شاركوه في منصب النبوة لما قالوا: * (تالله لقد آثرك الله علينا) * وبهذا التقدير يذهب سؤال من يقول لعل المراد كونه زائدا عليهم في الملك وأحوال الدنيا وإن شاركوه في النبوة لأنا بينا أن أحوال الدنيا لا يعبأ بها في جنب منصب النبوة.
وأما قوله: * (وإن كنا لخاطئين) * قيل الخاطئ هو الذي أتى بالخطيئة عمدا وفرق بين الخاطئ والمخطئ، فلهذا الفرق يقال لمن يجتهد في الأحكام فلا يصيب إنه مخطئ، ولا يقال إنه خاطئ وأكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجب وبيعه وتبعيده عن البيت والأب، وقال أبو علي الجبائي: إنهم لم يعتذروا إليه من ذلك، لأن ذلك وقع منهم قبل البلوغ فلا يكون ذنبا فلا يعتذر منه، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطؤا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه، ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله وهذا الكلام ضعيف من وجوه:
الوجه الأول: أنا بينا أنه لا يجوز أن يقال إنهم أقدموا على تلك الأعمال في زمن الصبا لأنه من البعيد في مثل يعقوب أن يبعث جمعا من الصبيان غير البالغين من غير أن يبعث معهم رجلا عاقلا يمنعهم عما لا ينبغي ويحملهم على ما ينبغي.
الوجه الثاني: هب أن الأمر على ما ذكره الجبائي إلا أنا نقول غاية ما في الباب أنه لا يجب الاعتذار عن ذلك إلا أنه يمكن أن يقال إنه يحسن الاعتذار عنه، والدليل عليه أن المذنب إذا تاب زال عقابه ثم قد يعيد التوبة والاعتذار مرة أخرى، فعلمنا أن الإنسان أيضا قد يتوب عند ما لا تكون التوبة واجبة عليه.
واعلم أنهم لما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم مجرمين خاطئين قال يوسف: * (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) * وفيه بحثان:
البحث الأول: التثريب التوبيخ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا زنت أمة أحدكم فليضربها الحد ولا يثربها " أي ولا يعيرها بالزنا، فقوله: * (لا تثريب) * أي لا توبيخ ولا عيب وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش. ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد إزالة الجلد قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام لإخوته * (لا تثريب عليكم) * وقوله يعقوب: * (سوف أستغفر لكم ربي) * (يوسف: 98).
البحث الثاني: إن قوله: * (اليوم) * متعلق بماذا وفيه قولان:
205

القول الأول: إنه متعلق بقوله: * (لا تثريب) * أي لا أثر بكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بسائر الأيام، وفيه احتمال آخر وهو أني حكمت في
هذا اليوم بأن لا تثريب مطلقا لأن قوله: * (لا تثريب) * نفي للماهية ونفي الماهية يقتضي انتفاء جميع أفراد الماهية، فكان ذلك مفيدا للنفي المتناول لكل الأوقات والأحوال فتقدير الكلام اليوم حكمت بهذا الحكم العام المتناول لكل الأوقات والأحوال ثم إنه لما بين لهم أنه أزال عنهم ملامة الدنيا طلب من الله أن يزيل عنهم عقاب الآخرة فقال: * (يغفر الله لكم) * والمراد منه الدعاء.
والقول الثاني: أن قوله: * (اليوم) * متعلق بقوله: * (يغفر الله لكم) * كأنه لما نفى التثريب مطلقا بشرهم بأن الله غفر ذنبهم في هذا اليوم، وذلك لأنهم لما انكسروا وخجلوا واعترفوا وتابوا فالله قبل توبتهم وغفر ذنبهم، فلذلك قال: * (اليوم يغفر الله لكم) * روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح، وقال لقريش: " ما تروني فاعلا بكم " فقالوا نظن خيرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، فقال: " أقول ما قال أخي يوسف لا تقريب عليكم اليوم " وروي أن أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس: إذا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتل عليه: * (قال لا تثريب عليكم اليوم) * ففعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " غفر الله لك ولمن علمك " وروي أن إخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تحضرنا في مائدتك بكرة وعشيا ونحن نستحي منك لما صدر منا من الإساءة إليك، فقال يوسف عليه السلام إن أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنهم ينظروني بالعين الأولى ويقولون: سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت الآن بإتيانكم وعظمت في العيون لما جئتم وعلم الناس أنكم إخوتي وإني من حفدة إبراهيم عليه السلام.
ثم قال يوسف عليه السلام: * (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) * قال المفسرون: لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه فقالوا ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه، قال المحققون: إنما عرف أن إلقاء ذلك القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى ولولا الوحي لما عرف ذلك، لأن العقل لا يدل عليه ويمكن أن يقال: لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء وضيق القلب ضعف بصره فإذا ألقي عليه قميصه فلا بد أن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد، وذلك يقوي الروح ويزيل الضعف عن القوي، فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك النقصان، فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى، وقوله: * (يأت بصيرا) * أي يصير بصيرا ويشهد له * (فارتد بصيرا) * (يوسف: 96) ويقال: المراد يأت إلي وهو بصير، وإنما أفرده بالذكر تعظيما له، وقال في الباقين: * (وأتوني بأهلكم أجمعين) * قال
206

الكلبي: كان أهله نحوا من سبعين إنسانا وقال مسروق دخل قوم يوسف عليه السلام مصر. وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة، وروي أن يهودا حمل الكتاب وقال أنا أحزنته بحمل القميص الملطخ بالدم إليه فأفرحه كما أحزنته. وقيل حمله وهو حاف وحاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا.
قوله تعالى
* (ولما فصلت العير قال أبوهم إنى لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم * فلمآ أن جآء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إنى أعلم من الله ما لا تعلمون * قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنآ إنا كنا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم) *.
يقال: فصل فلان من عند فلان فصولا إذا خرج من عنده. وفصل مني إليه كتابا إذا أنفذ به إليه. وفصل يكون لازما ومتعديا وإذا كان لازما فمصدره الفصول وإذا كان متعديا فمصدره الفصل قال لما خرجت العير من مصر متوجهة إلى كنعان قال يعقوب عليه السلام لمن حضر عنده من أهله وقرابته وولد ولده * (إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون) * ولم يكن هذا القول مع أولاده لأنهم كانوا غائبين بدليل أنه عليه السلام قال لهم: * (اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) * (يوسف: 87) واختلفوا في قدر المسافة فقيل: مسيرة ثمانية أيام، وقيل عشرة أيام، وقيل ثمانون فرسخا. واختلفوا في كيفية وصول تلك الرائحة إليه، فقال مجاهد: هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليه السلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فمن ثم قال: * (إني لأجد ريح يوسف) * وروى الواحدي بإسناده عن أنس بن مالك
207

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أما قوله: * (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) * (يوسف: 93) فإن نمروذ الجبار لما ألقى إبراهيم في النار نزل عليه جبريل عليه السلام بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه، فكسا إبراهيم عليه السلام ذلك القميص إسحاق وكساه إسحق يعقوب وكساه يعقوب يوسف فجعله في قصبة من فضة وعلقها في عنقه فألقى في الجب القميص في عنقه فذلك قوله: * (اذهبوا بقميصي هذا) * والتحقيق أن يقال: إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات لا وصول الرائحة إليه من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فيكون معجزة ولا بد من كونها معجزة لأحدهما والأقرب أنه ليعقوب عليه السلام حين أخبر عنه ونسبوه في هذا الكلام إلى ما لا ينبغي، فظهر أن الأمر كما ذكر فكان معجزة له. قال أهل المعاني: إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدة المحنة ومجئ وقت الروح والفرح من المكان البعيد ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدة ثمانين سنة وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل ومعنى: لأجد ريح يوسف أشم وعبر عنه بالوجود لأنه وجدان له بحاسة الشم، وقوله: * (لولا أن تفندون) * قال أبو بكر ابن الأنباري: أفند الرجل إذا حزن وتغير عقله وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه، وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو المفند قال صاحب " الكشاف ": يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم يكن في شبيبتها ذات رأي حتى تفند في كبرها فقوله: * (لولا أن تفندون) * أي لولا أن تنسبوني إلى الخرف، ولما ذكر يعقوب ذلك قال الحاضرون عنده: * (تالله إنك لفي ضلالك القديم) * وفي الضلال ههنا وجوه: الأول: قال مقاتل: يعني بالضلال ههنا الشقاء، يعني شقاء الدنيا والمعنى: إنك لفي شقائك القديم بما تكابد من الأحزان على يوسف، واحتج مقاتل بقوله: * (إنا إذا لفي ضلال وسعر) * (القمر: 24) يعنون لفي شقاء دنيانا، وقال قتادة: لفي ضلالك القديم، أي لفي حبك القديم لا تنساه ولا تذهل عنه وهو
كقولهم: * (إن أبانا لفي ضلال مبين) * (يوسف: 8) ثم قال قتادة: قد قالوا كلمة غليظة ولم يكن يجوز أن يقولوها لنبي الله، وقال الحسن إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أن يوسف قد مات وقد كان يعقوب في ولوعه بذكره، ذاهبا عن الرشد والصواب وقوله: * (فلما أن جاء البشير) * في " أن " قولان: الأول: أنه لا موضع لها من الإعراب وقد تذكر تارة كما ههنا، وقد تحذف كقوله: * (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) * (هود: 74) والمذهبان جميعا موجودان في أشعار العرب. والثاني: قال البصريون هي مع " ما " في موضع رفع بالفعل المضمر تقديره: فلما ظهر أن جاء البشير، أي ظهر مجيء البشير فأضمر الرافع قال جمهور المفسرين البشير هو يهودا قال أنا ذهبت بالقميص الملطخ بالدم وقلت إن يوسف أكله
208

الذئب فأذهب اليوم بالقميص فأفرحه كما أحزنته قوله: * (ألقاه على وجهه) * أي طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو يقال ألقاه يعقوب على وجه نفسه * (فارتد بصيرا) * أي رجع بصيرا ومعنى الارتداد انقلاب الشيء إلى حالة قد كان عليها وقوله: * (فارتد بصيرا) * أي صيره الله بصيرا كما يقال طالت النخلة والله تعالى أطالها واختلفوا فيه فقال بعضهم: إنه كان قد عمي بالكلية فالله تعالى جعله بصيرا في هذا الوقت. وقال آخرون: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء وكثرة الأحزان، فلما ألقوا القميص على وجهه، وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه، فعند ذلك قوي بصره وزال النقصان عنه، فعند هذا قال: * (ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون) * والمراد علمه بحياة يوسف من جهة الرؤيا، لأن هذا المعنى هو الذي له تعلق بما تقدم، وهو إشارة إلى ما تقدم من قوله: * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) * (يوسف: 86) روي أنه سأل البشير وقال: كيف يوسف قال هو ملك مصر، قال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال: على دين الإسلام قال: الآن تمت النعمة، ثم إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون إليه * (وقالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم) * وظاهر الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال، بل وعدهم بأنه يستغفر لهم بعد ذلك، واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: والأكثرون أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر، لأن هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة. الثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: في رواية أخرى أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة، لأنها أوفق الأوقات للإجابة. الثالث: أراد أن يعرف أنهم هل تابوا في الحقيقة أم لا، وهل حصلت توبتهم مقرونة بالإخلاص التام أم لا. الرابع: استغفر لهم في الحال، وقوله: * (سأستغفر لكم) * معناه أني أداوم على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل، فقد روي أنه كان يستغفر لهم في كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة، وقيل: قام إلى الصلاة في وقت فلما فرغ رفع يده إلى السماء وقال: " اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عليه، واغفر لأولادي ما فعلوه في حق يوسف عليه السلام " فأوحى الله تعالى إليه: قد غفرت لك ولهم أجمعين. وروي أن أبناء يعقوب عليه السلام قالوا ليعقوب وقد غلبهم الخوف والبكاء: ما يغني عنا إن لم يغفر لنا، فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى قل صبرهم فظنوا أنها الهلكة فنزل جبريل عليه السلام وقال: " إن الله تعالى أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة " وقد اختلف الناس في نبوتهم وهو مشهور.
209

قوله تعالى
* (فلما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شآء الله ءامنين * ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن وجآء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى إن ربى لطيف لما يشآء إنه هو العليم الحكيم) *.
اعلم أنه روي أن يوسف عليه السلام وجه إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه وخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم تلقوا يعقوب عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهودا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهودا هذا فرعون مصر. قال: لا هذا ولدك يوسف فذهب يوسف يبدأ بالسلام فمنع من ذلك فقال يعقوب عليه السلام: السلام عليك وقيل إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى والمقاتلون منهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الصبيان والشيوخ.
أما قوله: * (آوى إليه أبويه) * ففيه بحثان:
البحث الأول: في المراد بقوله أبويه قولان: الأول: المراد أبوه وأمه، وعلى هذا القول فقيل إن أمه كانت باقية حية إلى ذلك الوقت، وقيل إنها كانت قد ماتت، إلا أن الله تعالى أحياها وأنشرها من قبرها حتى سجدت له تحقيقا لرؤية يوسف عليه السلام.
والقول الثاني: أن المراد أبوه وخالته، لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين، وقيل: بنيامين بالعبرانية ابن الوجع، ولما ماتت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى بأحد الأبوين، لأن
210

الرابة تدعى، إما لقيامها مقام الأم أو لأن الخالة أم كما أن العم أب، ومنه قوله تعالى: * (وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق) * (البقرة: 133).
البحث الثاني: آوى إليه أبويه ضمهما إليهما واعتنقهما.
فإن قيل: ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر؟
قلنا: كأنه حين استقبلهم نزل بهم في بيت هناك أو خيمة فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال لهم: * (ادخلوا مصر) *.
أما قوله: * (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: قال السدي إنه قال: هذا القول قبل دخولهم مصر؛ لأنه كان قد استقبلهم وهذا هو الذي قررناه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بقوله: * (
ادخلوا مصر) * أي أقيموا بها آمنين، سمى الإقامة دخولا لاقتران أحدهما بالآخر.
البحث الثاني: الاستثناء وهو قول: * (إن شاء الله) * فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى الأمن لا إلى الدخول، والمعنى: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله، ونظيره قوله تعالى: * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * (الفتح: 27) وقيل إنه عائد إلى الدخول على القول الذي ذكرناه إنه قال لهم هذا الكلام قبل أن دخلوا مصر.
البحث الثالث: معنى قوله: * (آمنين) * يعني على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحدا، وكانوا فيما سلف يخافون ملوك مصر وقيل آمنين من القحط والشدة والفاقة، وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف.
أما قوله: * (ورفع أبويه على العرش) * قال أهل اللغة: العرش السرير الرفيع قال تعالى: * (ولها عرش عظيم) * (النمل: 23) والمراد بالعرش ههنا السرير الذي كان يجلس عليه يوسف، وأما قوله: * (وخروا له سجدا) * ففيه إشكال، وذلك لأن يعقوب عليه السلام كان أبا يوسف وحق الأبوة عظيم قال تعالى: * (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) * (الإسراء: 23) فقرن حق الوالدين بحق نفسه، وأيضا أنه كان شيخا، والشاب يجب عليه تعظيم الشيخ.
والقول الثالث: أنه كان من أكابر الأنبياء ويوسف وإن كان نبيا إلا أن يعقوب كان أعلى حالا منه.
والقول الرابع: أن جد يعقوب واجتهاده في تكثير الطاعات أكثر من جد يوسف ولما اجتمعت هذه الجهات الكثيرة فهذا يوجب أن يبالغ يوسف في خدمة يعقوب فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب هذا تقرير السؤال.
211

والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: وهو قول ابن عباس في رواية عطاء أن المراد بهذه الآية أنهم خروا له أي لأجل وجدانه سجدا لله تعالى، وحاصل الكلام: أن ذلك السجود كان سجودا للشكر فالمسجود له هو الله، إلا أن ذلك السجود إنما كان لأجله والدليل على صحة هذا التأويل أن قوله: * (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا) * مشعر بأنهم صعدوا ذلك السرير، ثم سجدوا له، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير لأن ذلك أدخل في التواضع.
فإن قالوا: فهذا التأويل لا يطابق قوله: * (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل) * والمراد منه قوله: * (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) * (يوسف: 4).
قلنا: بل هذا مطابق ويكون المراد من قوله: * (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) * لأجلي أي أنها سجدت لله لطلب مصلحتي وللسعي في إعلاء منصبي، وإذا كان هذا محتملا سقط السؤال. وعندي أن هذا التأويل متعين، لأنه لا يستبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة.
والوجه الثاني: في الجواب أن يقال: إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكرا لنعمة وجدانه. وهذا التأويل حسن فإنه يقال: صليت للكعبة كما يقال: صليت إلى الكعبة. قال حسان شعرا: ما كنت أعرف أن الأمر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعرف الناس بالقرآن والسنن
وهذا يدل على أنه يجوز أن يقال فلان صلى للقبلة، وكذلك يجوز أن يقال سجد للقبلة وقوله: * (وخروا له سجدا) * أي جعلوه كالقبلة ثم سجدوا لله شكرا لنعمة وجدانه.
الوجه الثالث: في الجواب قد يسمى التواضع سجودا كقوله: ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
وكان المراد ههنا التواضع إلا أن هذا مشكل، لأنه تعالى قال: * (وخروا له سجدا) * والخرور إلى السجدة مشعر بالإتيان بالسجدة على أكمل الوجوه وأجيب عنه بأن الخرور قد يعني به المرور فقط قال تعالى: * (لم يخروا عليها صما وعميانا) * (الفرقان: 73) يعني لم يمروا.
الوجه الرابع: في الجواب أن نقول: الضمير في قوله: * (وخروا له) * غير عائد إلى الأبوين لا محالة، وإلا لقال: وخروا له ساجدين، بل الضمير عائد إلى إخوته، وإلى سائر من كان يدخل
212

عليه لأجل التهنئة، والتقدير: ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمهما، وأما الإخوة وسائر الداخلين فخروا له ساجدين.
فإن قالوا: فهذا لا يلائم قوله: * (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل) *.
قلنا: إن تعبير الرؤيا لا يجب أن يكون مطابقا للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر، تعبير عن تعظيم الأكابر من الناس له ولا شك أن ذهاب يعقوب مع أولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير مساويا لأصل الرؤيا في الصفة والصورة فلم يوجبه أحد من العقلاء.
الوجه الخامس: في الجواب لعل الفعل الدال على التحية والإكرام في ذلك الوقت هو السجود، وكان مقصودهم من السجود تعظيمه، وهذا في غاية البعد لأن المبالغة في التعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب، فلو كان الأمر كما قلتم، لكان من الواجب أن يسجد يوسف ليعقوب عليه السلام.
والوجه السادس: فيه أن يقال: لعل إخوته حملتهم الأنفة والاستعلاء على أن لا يسجدوا له على سبيل التواضع، وعلم يعقوب عليه السلام أنهم لو لم يفعلوا ذلك لصار
ذلك سببا لثوران الفتن ولظهور الأحقاد القديمة بعد كمونها فهو عليه السلام مع جلالة قدره وعظم حقه بسبب الأبوة والشيخوخة والتقدم في الدين والنبوة والعلم فعل ذلك السجود، حتى تصير مشاهدتهم لذلك سببا لزوال الأنفة والنفرة عن قلوبهم ألا ترى أن السلطان الكبير إذا نصب محتسبا فإذا أراد ترتيبه مكنه في إقامة الحسبة عليه ليصير ذلك سببا في أن لا يبقى في قلب أحد منازعة ذلك المحتسب في إقامة الحسبة فكذا ههنا.
الوجه السابع: لعل الله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا هو كما أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم لحكمة لا يعرفها إلا هو، ويوسف ما كان راضيا بذلك في قلبه إلا أنه لما علم أن الله أمره بذلك سكت.
ثم حكى تعالى أن يوسف لما رأى هذه الحالة: * (قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا) * وفيه بحثان:
البحث الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه لما رأى سجود أبويه وإخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه، وقال ليعقوب هذا تأويل رؤياي من قبل، وأقول: هذا يقوي الجواب السابع كأنه يقول: يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا
213

أمر أمرت به وتكليف كلفت به، فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سببا لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة فكذلك صارت هذه الرؤيا التي رآها يوسف وحكاها ليعقوب سببا لوجوب ذلك السجود، فلهذا السبب حكى ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما رأى ذلك هاله واقشعر جلده ولكنه لم يقل شيئا، وأقول: لا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد الله تعالى على يعقوب كأنه قيل له: إنك كنت دائم الرغبة في وصاله ودائم الحزن بسبب فراقه، فإذا وجدته فاسجد له، فكان الأمر بذلك السجود من تمام الشديد. والله أعلم بحقائق الأمور.
البحث الثاني: اختلفوا في مقدار المدة بين هذا الوقت وبين الرؤيا فقيل ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وقيل: أربعون، وهو قول الأكثرين، ولذلك يقولون إن تأويل الرؤيا إنما صحت بعد أربعين سنة، وقيل ثماني عشرة سنة وعن الحسن أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وبقي في العبودية والسجون ثمانين سنة، ثم وصل إلى أبيه وأقاربه، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة فكان عمره مائة وعشرين سنة والله أعلم بحقائق الأمور.
ثم قال: * (وقد أحسن بي) * أي إلي يقال: أحسن بي وإليه. قال كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية إن ثقلت
إذا أخرجني من السجن ولم يذكر إخراجه من البئر لوجوه: الأول: أنه قال لإخوته * (لا تثريب عليكم اليوم) * ولو ذكر واقعة البئر لكان ذلك تثريبا لهم فكان إهماله جارا مجري الكرم، الثاني: أنه لما خرج من البئر لم يصر ملكا بل صيروه عبدا، أما لما خرج من السجن صيروه ملكا فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاما كاملا، الثالث: أنه لما أخرج من البئر وقع في المضار الحاصلة بسبب تهمة المرأة فلما أخرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته وزالت التهمة فكان هذا أقرب إلى المنفعة، الرابع: قال الواحدي: النعمة في إخراجه من السجن أعظم لأن دخوله في السجن كان بسبب ذنب هم به، وهذا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ورغبة النفس، وهذا وإن كان في محل العفو في حق غيره إلا أنه ربما كان سببا للمؤاخذة في حقه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثم قال: * (وجاء بكم من البدو) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية قولان:
القول الأول: جاء بكم من البدو أي من البداية، وقال الواحدي: البدو بسيط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد وأصله من بدا يبدو بدوا، ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال: بدو
214

وحضر وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبرية.
والقول الثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما كان يعقوب قد تحول إلى بدا وسكنها، ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها قال ابن الأنباري: بدا اسم موضع معروف يقال هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميعا كثير فقال: وأنت التي حببت شعبا إلى بدا * إلى وأوطاني بلاد سواهما
فالبدو على هذا القول معناه قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا يقال بدا القوم يبدون بدوا إذا أتوا بدا كما يقال: غار القوم غورا إذا أتوا الغور فكان معنى الآية وجاء بكم من قصد بدا، وعلى هذا القول كان يعقوب وولده حضريين لأن البدو لم يرد به البادية لكن عنى به قصد بدا إلى ههنا كلام قاله الواحدي في " البسيط ".
المسألة الثانية: تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى، لأن خروج العبد من السجن أضافه إلى نفسه بقوله: * (إذ أخرجني من السجن) * ومجيئهم من البدو وأضافه إلى نفسه سبحانه بقوله: * (وجاء بكم من البدو) * وهذا صريح في أن فعل العبد بعينه فعل الله تعالى وحمل هذا على أن المراد أن ذلك إنما حصل بإقدار الله تعالى وتيسيره عدول عن الظاهر.
ثم قال: * (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) * قال صاحب " الكشاف ": * (نزغ) * أفسد بيننا وأغوى وأصله من نزغ الراكض الدابة وحملها على الجري: يقال: نزغه ونسغه إذا نخسه.
واعلم أن الجبائي والكعبي والقاضي: احتجوا بهذه الآية على بطلان الجبر قالوا: لأنه تعالى أخبر عن يوسف عليه السلام أنه أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان، ولو كان ذلك أيضا من الرحمن لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعم.
والجواب: أن إضافته هذا الفعل إلى الشيطان مجاز، لأن عندكم الشيطان لا يتمكن من الكلام الخفي وقد أخبر الله عنه فقال: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22) فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك. وأيضا فإن كان إقدام المرء على المعصية
بسبب الشيطان فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر لزم التسلسل وهو محال وإن لم يكن بسبب شيطان آخر فليقل مثله في حق الإنسان، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق ليس بسبب الشيطان وليس أيضا بسبب نفسه لأن أحدا لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل والفسق الذي يوجب وقوعه في ذم الدنيا وعقاب الآخرة، ولما كان وقوعه في الكفر والفسق لا بد له من موقع، وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال ذلك من الله تعالى، ثم الذي
215

يؤكد ذلك أن الآية المتقدمة على هذه الآية وهي قوله: * (إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو) * صريح في أن الكل من الله تعالى. ثم قال: * (إن ربي لطيف لما يشاء) * والمعنى أن حصول الاجتماع بين يوسف وبين أبيه وإخوته مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال كان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف فإذا أراد حصول شيء سهل أسبابه فحصل وإن كان في غاية البعد عن الحصول.
ثم قال: * (إنه هو العليم الحكيم) * أعني أن كونه لطيفا في أفعاله إنما كان لأجل أنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها فيكون عالما بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب وحكيم أي محكم في فعله، حاكم في قضائه، حكيم في أفعاله مبرأ عن العبث والباطل والله أعلم.
قوله تعالى
* (رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الاحاديث فاطر السماوات والارض أنت ولى فى الدنيا والاخرة توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: روي أن يوسف عليه السلام أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الذهب والفضة وخزائن الحلي وخزائن الثياب وخزائن السلاح، فلما أدخله مخازن القراطيس قال يا بني ما أغفلك، عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال: نهاني جبريل عليه السلام عنه قال سله عن السبب قال: أنت أبسط إليه فسأله فقال جبريل عليه السلام: أمرني الله بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب فهلا خفتني وروي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعا وعشرين سنة ولما قربت وفاته أوصى إليه أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة، فعند ذلك تمنى ملك الآخرة فتمنى الموت. وقيل: ما تمناه نبي قبله ولا بعده فتوفاه الله طيبا طاهرا، فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحب أن يدفنه في محلتهم حتى هموا بالقتال فرأوا أن الأصلح أن يعملوا له صندوقا من مرمر ويجعلوه فيه ويدفنوه في النيل بمكان يمر الماء عليه ثم يصل إلى مصر لتصل بركته إلى كل أحد، وولد له افراثيم وميشا، وولد لافراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى، ثم دفن يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى
216

فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه.
المسألة الثانية: من في قوله: * (من الملك، ومن تأويل الأحاديث) * للتبعيض، لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا أو بعض ملك مصر وبعض التأويل. قال الأصم: إنما قال من الملك، لأنه كان ذو ملك فوقه.
واعلم أن مراتب الموجودات ثلاثة: المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجسام، فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة فلا يكون لها تأثير في شيء أصلا، وهذان القسمان متباعدان جدا ويتوسطهما قسم ثالث، وهو الذي يؤثر ويتأثر، وهو عالم الأرواح، فخاصية جوهر الأرواح أنها تقبل الأثر والتصرف عن عالم نور جلال الله، ثم إنها إذا أقبلت على عالم الأجسام تصرفت فيه وأثرت فيه، فتعلق الروح بعالم الأجسام بالتصرف والتدبير فيه، وتعلقه بعالم الإلهيات بالعلم والمعرفة. وقوله تعالى: * (قد آتيتني من الملك) * إشارة إلى تعلق النفس بعالم الأجسام وقوله: * (وعلمتني من تأويل الأحاديث) * إشارة إلى تعلقها بحضرة جلال الله، ولما كان لا نهاية لدرجات هذين النوعين في الكمال والنقصان والقوة والضعف والجلاء والخفاء، امتنع أن يحصل منهما للإنسان إلا مقدار متناه، فكان الحاصل في الحقيقة بعضا من أبعاض الملك، وبعضا من أبعاض العلم، فلهذا السبب ذكر فيه كلمة " من " لأنها دالة على التبعيض، ثم قال: * (فاطر السماوات والأرض) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: في تفسير لفظ الفاطر بحسب اللغة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها وأنا ابتدأت حفرها. قال أهل اللغة: أصل الفطر في اللغة الشق يقال: فطر ناب البعير إذ بدا وفطرت الشيء فانفطر، أي شققته فانشق، وتفطر الأرض بالنبات والشجر بالورق إذا تصدعت، هذا أصله في اللغة، ثم صار عبارة عن الإيجاد، لأن ذلك الشيء حال عدمه كأنه في ظلمة وخفاء فلما دخل في الوجود صار كأنه انشق عن العدم وخرج ذلك الشيء منه.
البحث الثاني: أن لفظ الفاطر قد يظن أنه عبارة عن تكوين الشيء عن العدم المحض بدليل الاشتقاق الذي ذكرناه، إلا أن الحق أنه لا يدل عليه ويدل عليه وجوه: أحدها: أنه قال: * (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) * (فاطر: 1) ثم بين تعالى أنه إنما خلقها من الدخان حيث قال: * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) * (فصلت: 11) فدل على أن لفظ الفاطر لا يفيد أنه أحدث ذلك الشيء من العدم المحض. وثانيها: أنه قال تعالى: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * (الروم: 30) مع أنه تعالى إنما خلق الناس من التراب. قال تعالى:
217

* (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) * (طه: 55) وثالثها: أن الشيء إنما يكون حاصلا عند حصول مادته وصورته مثل الكوز، فإنه إنما يكون موجودا إذا صارت المادة المخصوصة موصوفة بالصفة المخصوصة، فعند عدم الصورة ما كان ذلك المجموع موجودا، وبإيجاد تلك الصورة صار موجدا لذلك الكوز فعلمنا أن كونه موجدا للكون لا يقتضي كونه موجدا لمادة الكوز، فثبت أن لفظ الفاطر لا يفيد كونه تعالى موجدا للأجزاء التي منها تركبت السماوات والأرض، وإنما
صار إلينا كونه موجدا لها بحسب الدلائل العقلية لا بحسب لفظ القرآن.
واعلم أن قوله: * (فاطر السماوات والأرض) * يوهم أن تخليق السماوات مقدم على تخليق الأرض عند من يقول: الواو تفيد الترتيب، ثم العقل يؤكده أيضا، وذلك لأن تعين المحيط يوجب تعين المركز وتعينه فإنه لا يوجب تعين المحيط، لأنه يمكن أن يحيط بالمركز الواحد محيطات لا نهاية لها، أما لا يمكن أن يحصل للمحيط الواحد إلا مركز واحد بعينه. وأيضا اللفظ يفيد أن السماء كثيرة والأرض واحدة، ووجه الحكمة فيه قد ذكرناه في قوله: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * (الأنعام: 1).
البحث الثالث: قال الزجاج: نصبه من وجهين: أحدهما: على الصفة لقوله: * (رب) * وهو نداء مضاف في موضع النصب. والثاني: يجوز أن ينصب على نداء ثان.
ثم قال: * (أنت ولي في الدنيا والآخرة) * والمعنى: أنت الذي تتولى إصلاح جميع مهماتي في الدنيا والآخرة فوصل الملك الفاني بالملك الباقي، وهذا يدل على أن الإيمان والطاعة كلمة من الله تعالى إذ لو كان ذلك من العبد لكان المتولي لمصالحه هو هو، وحينئذ يبطل عموم قوله: * (أنت وليي في الدنيا والآخرة) *.
ثم قال: * (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حكى عن جبريل عليه السلام عن رب العزة أنه قال: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " فلهذا المعنى من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم عليه ذكر الثناء على الله فههنا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله: * (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض) * ثم ذكر عقيبه الدعاء وهو قوله: * (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) * ونظيره ما فعله الخليل صلوات الله عليه في قوله: * (الذي خلقني فهو يهدين) * (الشعراء: 78) من هنا إلى قوله: * (رب هب لي حكما) * (الشعراء: 83) ثناء على الله ثم قوله: * (رب هب لي) * إلى آخر الكلام دعاء فكذا ههنا.
218

المسألة الثانية: اختلفوا في أن قوله: * (توفني مسلما) * هل هو طلب منه للوفاة أو لا؟ فقال قتادة: سأل ربه اللحوق به ولم يتمن نبي قط الموت قبله، وكثير من المفسرين على هذا القول، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: في رواية عطاء يريد إذا توفيتني فتوفني على دين الإسلام، فهذا طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة.
واعلم أن اللفظ صالح للأمرين ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت ويعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها: أن كمال النفس الإنسانية على ما بيناه في أن يكون عالما بالإلهيات، وفي أن يكون ملكا ومالكا متصرفا في الجسمانيات، وذكرنا أن مراتب التفاوت في هذين النوعين غير متناهية والكمال المطلق فيهما ليس إلا لله وكل ما دون ذلك فهو ناقص والناقص إذا حصل له شعور بنقصانه وذاق لذة الكمال المطلق بقي في القلق وألم الطلب، وإذا كان الكمال المطلق ليس إلا الله، وما كان حصوله للإنسان ممتنعا لزم أن يبقى الإنسان أبدا في قلق الطلب وألم التعب فإذا عرف الإنسان هذه الحالة عرف أنه لا سبيل له إلى دفع هذا التعب عن النفس إلا بالموت، فحينئذ يتمنى الموت.
والسبب الثاني: لتمنى الموت أن الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمة الدنيا إلا أن حاصل كلامهم يرجع إلى أمور ثلاثة: أحدها: أن هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها. وثانيها: أنها غير خالصة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدرات. وثالثها: أن الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات، ولما عرف العاقل أنه لا سبيل إلى تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم يتمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات.
والسبب الثالث: وهو الأقوى عند المحققين رحمهم الله أجمعين أن هذه اللذات الجسمانية لا حقيقة لها، وإنما حاصلها دفع الآلام، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع، ولذة الوقاع عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعية المني. ولذة الإمارة والرياسة عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام وطلب الرياسة وإذا كان حاصل هذه اللذات ليس إلا دفع الألم لا جرم صارت عند العقلاء حقيرة خسيسة نازلة ناقصة وحينئذ يتمنى الإنسان الموت ليتخلص عن الاحتياج إلى هذه الأحوال الخسيسة.
والسبب الرابع: أن مداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع: لذة الأكل ولذة الوقاع
219

ولذة الرياسة ولكل واحدة منها عيوب كثيرة. أما لذة الأكل ففيها عيوب: أحدها: أن هذه اللذات ليست قوية فإن الشعور بألم القولنج الشديد والعياذ بالله منه أشد من الشعور باللذة الحاصلة عند أكل الطعام. وثانيها: أن هذه اللذة لا يمكن بقاؤها فإن الإنسان إذا أكل شبع وإذا شبع لم يبق شوقه للالتذاذ بالأكل فهذه اللذة ضعيفة، ومع ضعفها غير باقية. وثالثها: أنها في نفسها خسيسة فإن الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر مستقذر ثم لما يصل إلى المعدة تظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة، وذلك أيضا منفر. ورابعها: أن جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة فيها فإن الروث في مذاق الجعل كاللوزنيج في مذاق الإنسان وكما أن الإنسان يكره تناول غذاء الجعل، فكذلك الجعل يكره تناول غذاء الإنسان، وأما اللذة فمشتركة فيما بين الناس. وخامسها: أن الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع وتلك حاجة شديدة والحاجة نقص وافر. وسادسها: أن الأكل يستحقر عند العقلاء. قيل: من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، فهذا هو الإشارة المختصرة في معايب الأكل، وأما لذة النكاح، فكل ما ذكرناه في الأكل حاصل ههنا مع أشياء أخرى، وهي أن النكاح سبب لحصول الولد، وحينئذ
تكثر الأشخاص فتكثر الحاجة إلى المال فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في طلب المال بطرق لا نهاية لها، وربما صار هالكا سبب طلب المال، وأما لذة الرياسة فعيوبها كثيرة والذي نذكره ههنا بسبب واحد وهو أن كل أحد يكره بالطبع أن يكون خادما مأمورا ويحب أن يكون مخدوما آمرا، فإذا سعى الإنسان في أن يصير رئيسا آمرا كان ذلك دالا على مخالفة كل ما سواه، فكأنه ينازع كل الخلق في ذلك، وهو يحاول تحصيل تلك الرياسة، وجميع أهل الشرق والغرب يحاولون إبطاله ودفعه، ولا شك أن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر وإذا كان كذلك كان حصول هذه الرياسة كالمعتذر ولو حصل فإنه يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان بكل سبب من الأسباب وكان صاحبها عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال وعند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال.
واعلم أن العاقل إذا تأمل هذه المعاني علم قطعا أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات والسعي في هذه الخيرات البتة. ثم إن النفس خلقت مجبولة على طلبها، والعشق الشديد عليها، والرغبة التامة في الوصول إليها وحينئذ ينعقد ههنا قياف، وهو أن الإنسان ما دام يكون في هذه الحياة الجسمانية فإنه يكون طالبا لهذه اللذات وما دام يطلبها كان في عين الآفات وفي لجة الحسرات، وهذا اللازم مكروه فالملزوم أيضا مكروه فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة الجسمانية والسبب في الأمور
220

المرغبة في الموت أن موجبات هذه اللذة الجسمانية متكررة ولا يمكن الزيادة عليها والتكرير يوجب الملالة أما سعادات الآخرة فهي أنواع كثيرة غير متناهية.
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمة الله عليه وهو مصنف هذا الكتاب أنار الله برهانه. أنا صاحب هذه الحالة والمتوغل فيها، ولو فتحت الباب وبالغت في عيوب هذه اللذات الجسمانية فربما كتبت المجلدات وما وصلت إلى القليل منها فلهذا السبب صرت مواظبا في أكثر الأوقات على ذكر هذا الذي ذكره يوسف عليه السلام وهو قوله: * (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين) *.
المسألة الثالثة: تمسك أصحابنا في بيان أن الإيمان من الله تعالى بقوله * (توفني مسلما) * وتقريره أن تحصيل الإسلام وإبقاءه إذا كان من العبد كان طلبه من الله فاسدا وتقريره كأنه يقول افعل يا من لا يفعل والمعتزلة أبدا يشنعون علينا ويقولون إذا كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقال للعبد افعل مع أنك لست فاعلا، فنحن نقول ههنا أيضا إذا كان تحصيل الإيمان وإبقاؤه من العبد لا من الله تعالى، فكيف يطلب ذلك من الله قال الجبائي والكعبي معناه: اطلب اللطف لي في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه. فهذا الجواب ضعيف لأن السؤال وقع على السلام فحمله على اللطف عدول عن الظاهر وأيضا كل ما في المقدور من الألطاف فقد فعله فكان طلبه من الله محالا.
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام، فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وأنه لا يجوز.
والجواب: أحسن ما قيل فيه أن كمال حال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الإسلام ويرضى بقضاء الله وقدره، ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب في هذا الباب، وهذه الحالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر، فالمطلوب ههنا هو الإسلام بهذا المعنى.
المسألة الخامسة: أن يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء عليهم السلام، والصلاح أول درجات المؤمنين، فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من المفسرين: يعني بآبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب، والمعنى: ألحقني بهم في ثوابهم ومراتبهم ودرجاتهم، وههنا مقام آخر من تفسير هذه الآية على لسان أصحاب المكاشفات، وهو أن النفوس المفارقة إذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية، فإذا كانت متناسبة متشاكلة
221

انعكس النور الذي في كل واحدة منها إلى الأخرى بسبب تلك الملازمة والمجانسة، فتعظم تلك الأنوار وتقوى تلك الأضواء، ومثال تلك الأحوال المرآة الصقيلة الصافية إذا وضعت وضعا متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحدة منها إلى الأخرى، فهناك يقوى الضوء ويكمل النور، وينتهي في الإشراق والبريق اللمعان إلى حد لا تطيقه العيون والأبصار الضعيفة، فكذا ههنا.
قوله تعالى
* (ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) *.
اعلم أن قوله: * (ذلك) * رفع بالابتداء وخبره * (من أنباء الغيب - نوحيه إليك) * خبر ثان * (وما كنت لديهم) * أي ما كنت عند إخوة يوسف * (إذ أجمعوا أمرهم) * أي عزموا على أمرهم وذكرنا الكلام في هذا اللفظ عند قوله: * (فأجمعوا أمركم) * وقوله: * (وهم يمكرون) * أي بيوسف، واعلم أن المقصد من هذا إخبار عن الغيب فيكون معجزا. بيان إن إخبار عن الغيب أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما طالع الكتب ولم يتلمذ لأحد وما كانت البلدة بلدة العلماء فإتيانه بهذه القصة الطويلة على وجه لم يقع فيه تحريف ولا غلط من غير مطالعة ولا تعلم، ومن غير أن يقال: إنه كان حاضرا معهم لا بد وأن يكون معجزا وكيف يكون معجزا وقد سبق تقرير هذه المقدمة في هذا الكتاب مرارا، وقوله: * (وما كنت لديهم) * أي وما كنت هناك ذكر على سبيل التهكم بهم، لأن كل أحد يعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما كان معهم.
قوله تعالى
* (ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين * وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين * وكأين من ءاية فى السماوات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون) *.
222

اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التعنت، واعتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا ذكرها فربما آمنوا، فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية، وكأنه إشارة إلى ما ذكره الله تعالى في قوله: * (إنك لا تهدي من
أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) * (القصص: 56) قال أبو بكر بن الأنباري: جواب * (لو) * محذوف، لأن جواب * (لو) * لا يكون مقدما عليها فلا يجوز أن يقال. وقال الفراء في " المصادر " يقال: حرص يحرص حرصا، ولغة أخرى شاذة: حرص يحرص حريصا. ومعنى الحرص: طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد. وقوله: * (وما تسألهم عليه من أجر) * معناه ظاهر وقوله: * (إن هو إلا ذكر للعالمين) * أي هو تذكرة لهم في دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد والقصص والتكاليف والعبادات، ومعناه: أن هذا القرآن يشتمل على هذه المنافع العظيمة، ثم لا تطلب منهم مالا ولا جعلا، فلو كانوا عقلاء لقبلوا ولم يتمردوا. وقوله تعالى: * (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) * يعني: أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ثم إنهم يمرون عليها ولا يلتفتون إليها.
واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة لابد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي إما الأجرام الفلكية وأما الأجرام العنصرية، أما الأجرام الفلكية: فهي قسمان: إما الأفلاك وإما الكواكب. أما الأفلاك: فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته، وقد يستدل بأحوال حركاتها إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم فلا بد من محرك قادر، وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها، وإما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات. وأما الأجرام الكوكبية فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها أحيازها وحركاتها، وتارة بألوانها وأضوائها، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال والظلمات والنور، وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية: فإما أن تكون مأخوذة من بسائط، وهي عجائب البر والبحر، وإما من المواليد وهي أقسام: أحدها: الآثار العلوية كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح. وثانيها: المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها. وثالثها: النبات وخاصية الخشب والورق والثمر واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص وخاصية مخصوصة. ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها. وخامسها: تشريح أبدان الناس وتشريح القوى الإنسانية وبيان المنفعة
223

الحاصلة فيها فهذه مجامع الدلائل. ومن هذا الباب أيضا قصص الأولين وحكايات الأقدمين وأن الملوك الذين استولوا على الأرض وخربوا البلاد وقهروا العباد ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر، ثم بقي الوزر والعقاب عليهم هذا ضبط أنواع هذه الدلائل والكتاب المحتوي على شرح هذه الدلائل هو شرح جملة العالم الأعلى والعالم الأسفل والعقل البشري لا يفي بالإحاطة به فلهذا السبب ذكره الله تعالى على سبيل الإبهام قال صاحب " الكشاف " قرىء * (والأرض) * بالرفع على أنه مبتدأ و * (يمرون) * عليها خبره وقرأ السدي * (والأرض) * بالنصب على تقدير أن يفسر قوله: * (يمرون عليها) * بقولنا يطوفونها، وفي مصحف عبد الله * (والأرض يمشون عليها) * برفع الأرض. أما قوله: * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * فالمعنى: أنهم كانوا مقرين بوجود الإله بدليل قوله: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25) إلا أنهم كانوا يثبتون له شريكا في المعبودية، وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم الذين يشبهون الله بخلقه وعنه أيضا أنه قال: نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب لأنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وعنه أيضا أن أهل مكة قالوا: الله ربنا وحده لا شريك له الملائكة بناته فلم يوحدوا، بل أشركوا، وقال عبدة الأصنام: ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده، وقالت اليهود: ربنا الله وحده وعزيز ابن الله، وقالت النصارى: ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله، وقال عبدة الشمس والقمر: ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا، وقال المهاجرون والأنصار ربنا الله وحده ولا شريك معه، واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن الإقرار باللسان فقط، لأنه تعالى حكم بكونهم مؤمنين مع أنهم مشركون، وذلك يدل على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار باللسان، وجوابه معلوم، أما قوله: * (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله) * أي عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم وتغمرهم * (أو تأتيهم الساعة بغتة) * أي فجأة. وبغتة نصب على الحال يقال: بغتهم الأمر بغتا وبغتة إذا فاجأهم من حيث لم يتوقعوا وقوله: * (وهم لا يشعرون) * كالتأكيد لقوله: * (بغتة) *.
قوله تعالى
* (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله ومآ أنا من المشركين) *.
224

قال المفسرون: قل يا محمد لهم هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها سبيلي وسنتي ومنهاجي، وسمي الدين سبيلا لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب، ومثله قوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك) * (النحل: 125).
واعلم أن السبيل في أصل اللغة الطريق، وشبهوا المعتقدات بها لما أن الإنسان يمر عليها إلى الجنة ادعو الله على بصيرة وحجة وبرهان أنا ومن اتبعني إلى سيرتي وطريقتي وسيرة أتباعي الدعوة إلى الله، لأن كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول وعلى هدى ويقين، فإن لم يكن كذلك فهو محض الغرور وقال عليه الصلاة والسلام: " العلماء أمناء الرسل على عباد الله من حيث يحفظون لما تدعونهم إليه " وقيل أيضا يجوز أن ينقطع الكلام عند قوله * (ادعوا إلى الله) * ثم ابتدأ وقال: * (على بصيرة أنا ومن اتبعني) * وقوله: * (وسبحان الله) * عطف على قوله: * (هذه سبيلي) * أي قل هذه سبيلي وقل سبحان الله تنزيها لله عما يشركون وما أنا من المشركين الذين اتخذوا مع الله ضدا وندا وكفؤا وولدا، وهذه الآية تدل على أن حرفة الكلام وعلم الأصول حرفة الأنبياء عليهم السلام وأن الله ما بعثهم إلى الخلق إلا لأجلها.
قوله تعالى
* (ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الاخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون)
*.
اعلم أنه قرأ حفص عن عاصم * (نوحي) * بالنون، والباقون بالياء * (أفلا يعقلون) * قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو، ورواية حفص عن عاصم: * (تعقلون) * بالتاء على الخطاب، والباقون: بالياء على الغائب.
واعلم أن من جملة شبه منكري نبوته عليه الصلاة والسلام أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكا، فقال تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) * فلما كان الكل
225

هكذا فكيف تعجبوا في حقك يا محمد والآية تدل على أن الله ما بعث رسولا إلى الحق من النسوان وأيضا لم يبعث رسولا من أهل البادية. قال عليه الصلاة والسلام: " من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل ".
ثم قال: * (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا) * إلى مصارع الأمم المكذبة وقوله: * (ولدار الآخرة خير) * والمعنى دار الحالة الآخرة، لأن للناس حالتين حال الدنيا وحال الآخرة، ومثله قوله صلاة الأولى أي صلاة الفريضة الأولى، وأما بيان أن الآخرة خير من الأولى فقد ذكرنا دلائله مرارا.
قوله تعالى
* (حتى إذا استياس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جآءهم نصرنا فنجى من نشآء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) *.
اعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (كذبوا) * بالتخفيف، وكسر الذال والباقون بالتشديد، ومعنى التخفيف من وجهين: أحدهما: أن الظن واقع بالقوم، أي حتى إذا استيأس الرسل من إيمان القوم فظن القوم أن الرسل كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر.
فإن قيل: لم يجر فيما سبق ذكر المرسل إليهم فكيف يحسن عود هذا الضمير إليهم.
قلنا: ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم وإن شئت قلت أن ذكرهم جرى في قوله: * (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) * (يوسف: 109) فيكون الضمير عائدا إلى الذين من قبلهم من مكذبي الرسل والظن ههنا بمعنى التوهم والحسبان.
والوجه الثاني: أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا وهذا التأويل منقول عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قالوا: وإنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية إلا أنه بعيد، لأن المؤمن لا يجوز أن يطن بالله الكذب، بل يخرج بذلك عن الإيمان فكيف يجوز مثله على الرسل، وأما قراءة التشديد ففيها وجهان: الأول: أن الظن بمعنى اليقين، أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك، فحينئذ دعوا عليهم فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال، وورود الظن بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى: * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) * (البقرة: 46) أي يتيقنون ذلك. والثاني: أن يكون الظن بمعنى الحسبان والتقدير
226

حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم فظن الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية، روي أن ابن أبي مليكة نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: وظن الرسل أنهم كذبوا، لأنهم كانوا بشرا ألا ترى إلى قوله: * (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) * (البقرة: 214) قال فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فأنكرته وقالت: ما وعد الله محمدا صلى الله عليه وسلم شيئا إلا وقد علم أنه سيوفيه ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم وهذا الرد والتأويل في غاية الحسن من عائشة.
وأما قوله: * (جاءهم نصرنا) * أي لما بلغ الحال إلى الحد المذكور * (جاءهم نصرنا فنجي من نشاء) * قرأ عاصم وابن عامر * (فنجي من نشاء) * بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء على ما لم يسم فاعله، واختاره أبو عبيدة لأنه في المصحف بنون واحدة. وروي عن الكسائي: إدغام إحدى النونين في الأخرى وقرأ بنون واحدة وتشديد الجيم وسكون الياء، قال بعضهم: هذا خطأ لأن النون متحركة فلا تدغم في الساكن، ولا يجوز إدغام النون في الجيم، والباقون بنونين، وتخفيف الجيم وسكون الياء على معنى: ونحن نفعل بهم ذلك.
واعلم أن هذا حكاية حال، ألا ترى أن القصة فيما مضى، وإنما حكى فعل الحال كما أن قوله: * (من شيعته وهذا من عدوه) * (القصص: 15) إشارة إلى الحاضر والقصة ماضية.
قوله تعالى
* (لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *.
اعلم أن الاعتبار عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، والمراد منه التأمل والتفكر، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور: الأول: أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب، وإعلائه بعد حبسه في السجن وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم، وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة، لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته. الثاني: أن الإخبار عنه جار مجرى الإخبار عن الغيب، فيكون معجزة دالة على صدق
227

محمد صلى الله عليه وسلم، الثالث: أنه ذكر في أول السورة * (نحن نقص عليك أحسن القصص) * (يوسف: 3) ثم ذكر في آخرها: * (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) * تنبيها على أن حسن هذه القصة إنما كان بسبب أنه يحصل منها العبرة ومعرفة الحكمة والقدرة. والمراد من قصصهم قصة يوسف عليه السلام وإخوته وأبيه، ومن الناس من قال: المراد قصص الرسل لأنه تقدم في القرآن ذكر قصص سائر الرسل إلا أن الأولى أن يكون المراد قصة يوسف عليه السلام.
فإن قيل: لم قال: * (عبرة لأولي الألباب) * مع أن قوم محمد صلى الله عليه وسلم كانوا ذوي عقول وأحلام، وقد كان الكثير منهم لم يعتبر بذلك.
قلنا: إن جميعهم كانوا متمكنين من الاعتبار، والمراد من وصف هذه القصة بكونها عبرة كونها بحيث يمكن أن يعتبر بها العاقل، أو نقول: المراد من أولي الألباب الذين اعتبروا وتفكروا وتأملوا فيها وانتفعوا بمعرفتها، لأن * (أولي الألباب) * لفظ يدل على المدح والثناء فلا يليق إلا بما ذكرناه، واعلم أنه تعالى وصف هذه القصة بصفات.
الصفة الأولى: كونها * (عبرة لأولي الألباب) * وقد سبق تقريره.
الصفة الثانية: قوله: * (ما كان حديثا يفترى) * وفيه قولان: الأول: أن المراد الذي جاء به وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يصح منه أن يفتري لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما ورد في التوراة من غير تفاوت، والثاني: أن المراد أنه ليس يكذب في نفسه، لأنه لا يصح الكذب منه، ثم إنه تعالى أكد كونه غير مفترى فقال: * (ولكن تصديق الذي بين يديه) * وهو إشارة إلى أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة وسائر الكتب الإلهية، ونصب تصديقا على تقدير ولكن كان تصديق الذي بين يديه كقوله تعالى: * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله) * (الأحزاب: 40) قاله الفراء والزجاج، ثم قال: ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه.
والصفة الثالثة: قوله: * (وتفصيل كل شيء) * وفيه قولان: الأول: المراد وتفصيل كل شيء من واقعة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته، والثاني: أنه عائد إلى القرآن، كقوله: * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * (الأنعام: 38) فإن جعل هذا الوصف وصفا لكل القرآن أليق من جعله وصفا لقصة يوسف وحدها، ويكون المراد: ما يتضمن من الحلال والحرام وسائر ما يتصل بالدين. قال الواحدي على التفسيرين جميعا: فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله: * (ورحمتي وسعت كل شيء) * (الأعراف: 156) يريد: كل شيء يجوز أن يدخل فيها وقوله: * (وأوتيت من كل شيء) * (النمل: 23).
228

الصفة الرابعة والخامسة: كونها هدى في الدنيا وسببا لحصول الرحمة في القيامة لقوم يؤمنون خصهم بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا به كما قررناه في قوله: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب قال المصنف رحمه الله تعالى تم تفسير هذه السورة بحمد الله تعالى يوم الأربعاء السابع من شعبان، ختم بالخير والرضوان، سنة إحدى وستمائة، وقد كنت ضيق الصدر جدا بسبب وفاة الولد الصالح محمد تغمده الله بالرحمة والغفران وخصه بدرجات الفضل والإحسان وذكرت هذه الأبيات في مرثيته على سبيل الإيجاز:
فلو كانت الأقدار منقادة لنا * فديناك من حماك بالروح والجسم
ولو كانت الأملاك تأخذ رشوة * خضعنا لها بالرق في الحكم والاسم
ولكنه حكم إذا حان حينه * سرى من مقر العرش في لجة اليم
سأبكي عليك العمر بالدم دائما * ولم أنحرف عن ذاك في الكيف والكم
سلام على قبر دفنت بتربه * وأتحفك الرحمن بالكرم الجم
وما صدني عن جعل جفني مدفنا * لجسمك إلا أنه أبدا يهمي
وأقسم إن مسوا رفاتي ورمتي * أحسوا بنار الحزن في مكمن العظم
حياتي وموتي واحد بعد بعدكم * بل الموت أولى من مداومة الغم
رضيت بما أمضى الإله بحكمه * لعلمي بأني لا يجاوزني حكمي
وأنا أوصي من طالع كتابي واستفاد ما فيه من الفوائد النفيسة العالية أن يخص ولدي ويخصني بقراءة الفاتحة، ويدعو لمن قد مات في غربة بعيدا عن الإخوان والأب والأم بالرحمة والمغفرة فإني كنت أيضا كثير الدعاء لمن فعل ذلك في حقي وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا آمين والحمد لله رب العالمين.
229

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد
مدنية، وآياتها: 43، نزلت بعد سورة محمد سورة الرعد أربعون وثلاث آيات مكية
سوى قوله تعالى: * (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) * (الرعد: 31) وقوله: * (ومن عنده علم الكتاب) * (الرعد: 43) قال الأصم هي مدنية بالإجماع سوى قوله تعالى: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) * (الرعد: 31).
بسم الله الرحمن الرحيم
* (المر تلك آيات الكتاب والذى أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) *.
اعلم أنا قد تكلمنا في هذه الألفاظ قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه: أنا الله أعلم، وقال في رواية عطاء أنا الله الملك الرحمن، وقد أمالها أبو عمرو والكسائي وغيرهما وفخمها جماعة منهم عاصم وقوله: * (تلك) * إشارة إلى آيات السورة المسماة بالمر. ثم قال: إنها آيات الكتاب. وهذا الكتاب الذي أعطاه محمدا بأن ينزله عليه ويجعله باقيا على وجه الدهر وقوله: * (والذي أنزل إليك من ربك) * مبتدأ وقوله: * (الحق) * خبره ومن الناس من تمسك بهذه الآية في نفي القياس فقال:
الحكم المستنبط بالقياس غير نازل من عند الله وإلا لكان من لم يحكم به كافرا لقوله تعالى: * (ومن لم يحكم
230

بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * (المائدة: 44) وبالإجماع لا يكفر فثبت أن الحكم المثبت بالقياس غير نازل من عند الله. وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون حقا لأجل أن قوله: * (والذي أنزل إليك من ربك الحق) * يقتضي أنه لا حق إلا ما أنزله الله فكل ما لم ينزله الله وجب أن لا يكون حقا، وإذا لم يكن حقا وجب أن يكون باطلا لقوله تعالى: * (فماذا بعد الحق إلا الضلال) * (يونس: 32) ومثبتو القياس يجيبون عنه بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضا من عند الله، لأنه لما أمر بالعمل بالقياس كان الحكم الذي دل عليه القياس نازلا من عند الله. ولما ذكر تعالى أن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق بين أن أكثر الناس لا يؤمنون به على سبيل الزجر والتهديد.
قوله تعالى
* (الله الذى رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى يدبر الامر يفصل لآيات لعلكم بلقآء ربكم توقنون) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن أكثر الناس لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وهو هذه الآية وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": الله مبتدأ والذي رفع السماوات خبره بدليل قوله: * (وهو الذي مد الأرض) * (الرعد: 3) ويجوز أن يكون الذي رفع السماوات صفة وقوله: * (يدبر الأمر يفصل الآيات) * خبرا بعد خبر، وقال الواحدي: العمد الأساطين وهو جمع عماد يقال عماد وعمد مثل إهاب وأهب، وقال الفراء: العمد والعمد جمع العمود مثل أديم وادم وادم، وقضيم وقضم وقضم، والعماد والعمود ما يعمد به الشيء، ومنه يقال: فلان عمد قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما بينهم.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى استدل بأحوال السماوات وبأحوال الشمس والقمر وبأحوال الأرض وبأحوال النبات، أما الاستدلال بأحوال السماوات بغير عمد ترونها فالمعنى: أن هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجو العالي ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذواتها لوجهين: الأول: أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصول كل جسم في ذلك الحين. والثاني: أن الخلاء لا نهاية له والأحياز المعترضة في ذلك
231

الخلاء الصرف غير متناهية وهي بأسرها متساوية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة فثبت أن حصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها ليس أمرا واجبا لذاته بل لا بد من مخصص ومرجح، ولا يجوز أن يقال إنها بقيت بسلسلة فوقها ولا عمد تحتها، وإلا لعاد الكلام في ذلك الحافظ ولزم المرور إلى ما لا نهاية له وهو محال فثبت أن يقال الأجرام الفلكية في أحيازها العالية لأجل أن مدبر العالم تعالى وتقدس أوقفها هناك. فهذا برهان قاهر على وجود الإله القاهر القادر. ويدل أيضا على أن الإله ليس بجسم ولا مختص بحيز، لأنه لو كان حاصلا في حيز معين لامتنع أن يكون حصوله في ذلك الحيز لذاته ولعينه لما بينا أن الأحياز بأسرها متساوية فيمتنع أن يكون حصوله في حيز معين لذاته فلا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وكل ما حصل بالفاعل المختار فهو محدث فاختصاصه بالحيز المعين محدث وذاته لا تنفك عن ذلك الاختصاص وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث، فثبت أنه لو كان حاصلا في الحيز المعين لكان حادثا وذلك محال، فثبت أنه تعالى متعال عن الحيز والجهة، وأيضا كل ما سماك فهو سماء، فلو كان تعالى موجودا في جهة فوق جهة لكان من جملة السماوات فدخل تحت قوله: * (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها) * فكل ما كان مختصا بجهة فوق جهة فهو محتاج إلى حفظ الإله بحكم هذه الآية فوجب أن يكون الإله منزها عن جهة فوق. أما قوله: * (ترونها) * ففيه أقوال: الأول: أنه كلام مستأنف والمعنى: رفع السماوات بغير عمد. ثم قال: * (ترونها) * أي وأنتم ترونها أي مرفوعة بلا عماد. الثاني: قال الحسن في تقرير الآية تقديم وتأخير تقديره: رفع السماوات ترونها بغير عمد.
واعلم أنه إذا أمكن حمل الكلام على ظاهره كان المصير إلى التقديم والتأخير غير جائز. والثالث: أن قوله: * (ترونها) * صفة للعمد، والمعنى: بغير عمد مرئية، أي للسموات عمد. ولكنا لا نراها قالوا: ولها عمد على جبل قاف وهو جبل من زبرجد محيط بالدنيا ولكنكم لا ترونها. وهذا التأويل في غاية السقوط، لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة على وجود الإله القادر ولو كان المراد ما ذكروه لما ثبتت الحجة لأنه يقال إن السماوات لما كانت مستقرة على جبل قاف فأي دلالة لثبوتها على وجود الإله، وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل وهو أن العماد ما يعتمد عليه وقد دللنا على أن هذه الأجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى وحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى فنتج أن يقال إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الجو العالي وأنهم لا يرون ذلك التدبير
232

ولا يعرفون كيفية ذلك الإمساك.
وأما قوله: * (ثم استوى على العرش) * فاعلم أنه ليس المراد منه كونه مستقرا على العرش، لأن المقصود من هذه الآية ذكر ما يدل على وجود الصانع ويجب أن يكون ذلك الشيء مشاهدا معلوما وأن أحدا ما رأى أنه تعالى استقر على العرش فكيف يمكن الاستدلال به عليه وأيضا بتقدير أن يشاهد كونه مستقرا على العرش إلا أن ذلك لا يشعر بكمال حاله وغاية جلاله، بل يدل على احتياجه إلى المكان والحيز. وأيضا فهذا يدل على أنه ما كان بهذه الحالة ثم صار بهذه الحالة، وذلك يوجب التغير وأيضا الاستواء ضد الاعوجاج فظاهر الآية يدل على أنه كان معوجا مضطربا ثم صار مستويا وكل ذلك على الله محال، فثبت أن المراد استواؤه على عالم الأجسام بالقهر والقدرة والتدبير والحفظ يعني أن من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وفي تدبيره وفي الاحتياج إليه. وأما الاستدلال بأحوال الشمس والقمر: فهو قوله
سبحانه وتعالى: * (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى) *.
واعلم أن هذا الكلام اشتمل على نوعين من الدلالة:
النوع الأول: قوله: * (وسخر الشمس والقمر) * وحاصله يرجع إلى الاستدلال على وجود الصانع القادر القاهر بحركات هذه الأجرام، وذلك لأن الأجسام متماثلة فهذه الأجرام قابلة للحركة والسكون فاختصاصها بالحركة الدائمة دون السكون لا بد له من مخصص. وأيضا أن كل واحدة من تلك الحركات مختصة بكيفية معينة من البطء والسرعة فلا بد أيضا من مخصص لا سيما عند من يقول الحركة البطيئة معناها حركات مخلوطة بسكنات وهذا يوجب الاعتراف بأنها تتحرك في بعض الأحياز وتسكن في البعض فحصول الحركة في ذلك الحيز المعين والسكون في الحيز الآخر لا بد فيه أيضا من مرجح.
الوجه الثالث: وهو أن تقدير تلك الحركات والسكنات بمقادير مخصوصة على وجه تحصل عوداتها وأدوارها متساوية بحسب المدة حالة عجيبة فلا بد من مقدر.
والوجه الرابع: أن بعض تلك الحركات مشرقية وبعضها مغربية وبعضها مائلة إلى الشمال وبعضها مائلة إلى الجنوب وهذا أيضا لا يتم إلا بتدبير كامل وحكمة بالغة.
النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله: * (كل يجري لأجل مسمى) * وفيه قولان: الأول: قال ابن عباس: للشمس مائة وثمانون منزلا كل يوم لها منزل وذلك يتم في ستة أشهر، ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلا، فالمراد بقوله: * (كل يجري لأجل مسمى) * هذا. وتحقيقه أنه تعالى قدر لكل واحد من هذه
233

الكواكب سيرا خاصا إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك. والقول الثاني: أن المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة، وعند مجيء ذلك اليوم تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك السيرات كما وصف الله تعالى ذلك في قوله: * (إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت) * (التكوير: 1، 2) * (إذا السماء انشقت) * (الإنشقاق: 1) * (إذا السماء انفطرت) * (الإنفطار: 1) * (جمع الشمس والقمر) * (القيامة: 9) وهو كقوله سبحانه وتعالى: * (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) * (الأنعام: 2) ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال: * (يدبر الأمر) * وكل واحد من المفسرين حمل هذا على تدبير نوع آخر من أحوال العالم والأولى حمله على الكل فهو يدبرهم بالإيجاد والإعدام وبالإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل وتكليف العباد، وفيه دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك لأن هذا العالم المعلوم من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله تعالى، والدليل المذكور دل على أن اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته، ليس إلا من الله تعالى ومن المعلوم أن كل من اشتغل بتدبير شيء فإنه لا يمكنه شيء آخر إلا الباري سبحانه وتعالى فإنه لا يشغله شأن عن شأن أما العاقل فإنه إذا تأمل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجسام وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير فلا يشغله شأن عن شأن ولا يمنعه تدبير عن تدبير وذلك يدل على أنه تعالى في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته غير مشابه للمحدثات والممكنات.
ثم قال: * (يفصل الآيات) * وفيه قولان: الأول: أنه تعالى بين الآيات الدالة على إلهيته وعلمه وحكمته. والثاني: أن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان: أحدهما: الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك والشمس والقمر والكواكب، وهذا النوع من الدلائل هو الذي تقدم ذكره. والثاني: الموجودات الحادثة المتغيرة، وهي الموت بعد الحياة، والفقر بعد الغنى، والهرم بعد الصحة، وكون الأحمق في أهنأ العيش، والعاقل الذكي في أشد الأحوال، فهذا النوع من الموجودات والأحوال دلالتها على وجود الصانع الحكيم ظاهرة باهرة. وقوله: * (يفصل الآيات) * إشارة إلى أنه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز والتفصيل.
ثم قال: * (لعلكم بلقاء ربكم توقنون) * واعلم أن الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع الحكيم فهي أيضا تدل على صحة القول بالحشر والنشر لأن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها فلأن يقدر على الحشر والنشر كان أولى يروى أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه تعالى كيف
234

يحاسب الخلق دفعة واحدة فقال كما يرزقهم الآن دفعة واحدة وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة. وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجو العالي وإن كان الخلق عاجزين عنه، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن ومن الأصحاب من تمسك بلفظ اللقاء على رؤية الله تعالى وقد مر تقريره في هذا الكتاب مرارا وأطوارا.
235