الكتاب: تفسير البغوي
المؤلف: البغوي
الجزء: ١
الوفاة: ٥١٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: خالد عبد الرحمن العك
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: بيروت - دار المعرفة
الناشر: دار المعرفة
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم ولها ثلاثة أسماء معروفة فاتحة الكتاب وأم القرآن والسبع المثاني سميت فاتحة الكتاب لأنه تعالى بها افتتح القرآن وأم الكتاب لأنها أصل القرآن منها بدئ القرآن وأم الشيء أصله ويقال لمكة أم القرى لأنها أصل البلاد دحيت الأرض من تحتها وقيل لأنها مقدمة وإمام لما يتلوها من السور يبدأ بكتابها في الصحف وبقراءتها في الصلاة والسبع المثاني لأنها سبع آيات باتفاق العلماء وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة وقال مجاهد سميت مثاني لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة فدخرها لهم وهي مكية على قول الأكثرين وقال مجاهد مدنية وقيل نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة ولذلك سميت مثاني والأول أصح أنها مكية لأن الله تعالى من على الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) والمراد منها فاتحة الكتاب وسورة الحجر مكية فلم يكن يمن عليه بها قبل نزولها سورة الفاتحة سورة الفاتحة 1 7 1 قوله (بسم الله) الباء زائدة يخفض ما بعدها مثل من وعن والمتعلق به محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره ابدأ بسم الله أو قل بسم الله وأسقطت الألف من الاسم طلبا للخفة لكثرة استعمالها وطولت الباء قال القطيبي ليكون افتتاح كلام كتاب الله بحرف معظم كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول لكتابه طولوا الباء وأظهروا السين وفرجوا بينهما ودوروا الميم تعظيما لكتاب الله عز وجل وقيل لما أسقطوا الألف ردوا طول الألف على الباء ليكون دالا على سقوط الألف ألا ترى أنه لما كتب الألف في (اقرأ باسم ربك) ردت الباء إلى صيغتها ولا يحذف الألف إذا أضيف الاسم إلى غير الله ولا مع غير
37

الباء والاسم هو المسمى وعينه ذاته قال الله تعالى (إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى) أخبر أن اسمه يحيى ثم نادى الاسم فقال (يا يحيى) وقال (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها) وأراد الأشخاص المعبودة لأنهم كانوا يعبدون المسميات وقال (سبح اسم ربك) و (تبارك اسم ربك) ثم يقال للتسمية أيضا اسم فاستعماله في التسمية أكثر من المسمى فإن قيل ما معنى التسمية من الله لنفسه قيل هو تعليم للعباد كيف يستفتحون القراءة واختلفوا في اشتقاقه قال المبرد من البصريين هو مشتق من السمو وهو العلو فكأنه على علا معناه وظهر عليه وصار معناه لا تحته وقال ثعلب من الكوفيين هو من الوسم والسمة وهي العلامة وكأنه علامة لمعناه وعلامة للمسمى والأول أصح لأنه يصغر على سمي ولو كان من السمت لكان يصغر على الوسيم كما يقال في الوعد وعيد ويقال في تصريفه سميت ولو كان من الوسم لقيل وسمت قوله تعالى (الله) قال الخليل وجماعة هو اسم علم خاص لله عز وجل لا اشتقاق له كأسماء الأعلام للعباد مثل زيد وعمرو وقال جماعة هو مشتق ثم اختلفوا في اشتقاقه فقيل من أله إلاهة أي عبد عبادة وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما \ ويذرك وإلاهتك \ أي عبادتك معناه أنه المستحق للعبادة دون غيره وقيل أصله أله قال الله عز وجل (وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق) قال المبرد هو قول العرب ألهت إلى فلان أي سكنت إليه قال الشاعر (ألهت إليها والحوادث جمة) فكأن الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره يقال ألهت إليه أي فزعت إليه وقال الشاعر (ألهت إليها والركائب وقف) وقيل أصل الإله ولاه فأبدلت الواو بالهمزة مثل وشاح وأشاح اشتقاقه من الوله لأن العباد يولهون إليه أي يفزعون إليه في الشدائد ويلجؤون إليه في الحوائج كما يوله كل طفل إلى أمه وقيل هو من الوله وهو ذهاب العقل لفقد من يعز عليك قوله (الرحمن الرحيم) قال ابن عباس رضي الله عنهما هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر واختلفوا فيهما منهم من قال هما بمعنى واحد مثل ندمان ونديم ومعناهما ذو الرحمة وذكر أحدهما بعد الآخر تطميعا لقلوب الراغبين وقال المبرد هو إنعام بعد إنعام وتفضل بعد تفضل ومنهم من فرق بينهما فقال للرحمن معنى العموم وللرحيم معنى الخصوص فالرحمن بمعنى الرزاق في الدنيا وهو على العموم لكافة الخلق والرحيم بمعنى المعافي في الآخرة والعفو في الآخرة للمؤمنين على الخصوص ولذلك قيل في الدعاء يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة فالرحمن من يصل رحمته إلى الخلق على العموم والرحيم من يصل رحمته إليهم على الخصوص ولذلك يدعى غير الله رحيما ولا يدعى رحمن فالرحمن عام المعنى خاص اللفظ والرحيم عام اللفظ خاص المعنى والرحمة إرادة الله الخير لأهله وقيل هي ترك عقوبة من يستحقها وإسداء الخير إلى من لا يستحق فهي على الأول صفة ذات وعلى الثاني صفة فعل واختلفوا في آية التسمية فذهب قراء المدينة والبصرة وفقهاء الكوفة إلى أنها ليست من فاتحة الكتاب ولا من غيرها من السور والافتتاح بها للتيمن والتبرك وذهب قراء مكة والكوفة
38

وأكثر فقهاء الحجاز إلى أنها ليست من الفاتحة وليست من سائر السور فإنما كتبت للفصل وذهب جماعة إلى أنها من الفاتحة ومن كل سورة إلا سورة التوبة وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي في قول لأنها كتبت في المصحف بخط سائر القرآن واتفقوا على أن الفاتحة سبع آيات والآية الأولى عند من يعدها من الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم وابتداء الآية الأخيرة صراط الذين ومن لم يعدها من الفاتحة قال ابتداؤها الحمد لله رب العالمين وابتداء الآية الأخيرة غير المغضوب عليهم واحتج من جعلها من الفاتحة ومن السور بأنها كتبت في المصحف بخط القرآن وبما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم وأنا الربيع بن سليمان أنا الشافعي أنا عبد المجيد عن ابن جريج أخبرني أبي عن سعيد بن جرير ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم هي أم القرآن قال أبي وقرأها على سعيد بن جبير حتى ختمها ثم قال بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة قال سعيد قرأها علي وابن عباس كما قرأتها عليك ثم قال بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة قال ابن عباس فذخرها لكم فما أخرجها لأحد قبلكم ومن لم يجعلها من الفاتحة احتج بما ثنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرازي أنا زاهر بن أحمد ثنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أنه قال قمت وراء أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كلهم كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة قال سعيد بن جبير عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم عن ابن مسعود قال كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم وقال الشعبي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب في بدء الأمر على رسم قريش باسمك اللهم حتى نزل (وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها) فكتب باسم الله حتى نزلت (قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن) فكتب بسم الله الرحمن حتى نزلت (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) فكتب مثلها 2 و 3 (الحمد لله) لفظ خبر كأنه يخبر عن المستحق للحمد هو الله عز وجل وفيه تعليم الخلق تقديره قولوا الحمد لله والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة ويكون بمعنى الثناء عليه بما فيه من الخصال الحميدة يقال حمدت فلانا على ما أسدى إلي من نعمة وحمدته على
علمه وشجاعته والشكر لا يكون إلا على النعمة والحمد أعم من الشكر إذ لا يقال شكرت فلانا على علمه فكل حامد شاكر وليس كل شاكر حامدا وقيل الحمد باللسان قولا والشكر بالأركان فعلا قال الله تعالى (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) وقال (اعملوا آل داود شكرا) يعني اعملوا الأعمال لأجل الشكر فشكرا مفعولا له وانتصب باعملوا قوله (لله) اللام فيه للاستحقاق كما يقال الدار لزيد قوله (رب العالمين الرحمن الرحيم) فالرب يكون بمعنى المالك كما يقال لمالك الدار رب الدار ويقال رب الشيء إذا ملكه ويكون بمعنى التربية والإصلاح يقال رب فلان الضيعة يربها إذا أتمها وأصلحها فهو رب مثل طب وبر فالله
39

تعالى مالك العالمين ومربيهم ولا يقال للمخلوق هو الرب معرفا إنما يقال رب كذا مضافا لأن الألف واللام للتعميم وهو لا يملك الكل والعالمين جمع عالم والعالم جمع لا واحد له من لفظه واختلفوا في العالمين قال ابن عباس هم الجن والإنس لأنهم مكلفون بالخطاب قال الله تعالى (ليكون للعالمين نذيرا) وقال قتادة ومجاهد والحسن جميع المخلوقين قال الله تعالى (قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما) واشتقاقه من العلم والعلامة سموا به لظهور أثر الصنعة فيهم قال أبو عبيد هم أربع أمم الملائكة والإنس والجن والشياطين مشتق من العلم ولا يقال للبهائم عالم لأنها لا تعقل واختلفوا في مبلغهم قال سعيد بن المسيب لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وقال مقاتل بن حيان لله ثمانون ألف عالم أربعون ألفا في البحر وأربعون ألفا في البر وقال وهب لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء وقال كعب الأحبار ولا يحصي عدد العالمين أحد إلا الله قال (وما يعلم جنود ربك إلا هو) 4 قوله (مالك يوم الدين) قرأ عاصم والكسائي ويعقوب (مالك) وقرأ الآخرون ملك قال قوم معناهما واحد مثل فرهين وفارهين وحذرين وحاذرين ومعناهما الرب يقال رب الدار ومالكها وقيل المالك هو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر عليه أحد غير الله قال أبو عبيدة مالك أجمع وأوسع لأنه يقال مالك العبد والطير والدواب ولا يقال ملك هذه الأشياء ولأنه لا يكون مالك لشيء إلا وهو يملكه وقد يكون ملك الشيء ولا يملكه وقال قوم ملك أولى لأن كل ملك ملك وليس كل مالك ملكا ولأنه أوفق لسائر القرآن مثل قوله تعالى (فتعالى الله الملك الحق) و (الملك القدوس) و (ملك الناس) قال ابن عباس ومقاتل والسدي ملك يوم الدين قاضي يوم الحساب وقال قتادة الدين الجزاء ويقع على الجزاء في الخير والشر جميعا كما يقال كما تدين تدان قال محمد بن كعب القرظي ملك يوم لا ينفع فيه إلا الدين وقال يمان بن ريان الدين القهر يقال دنته فدان أي قهرته فذل وقيل الدين الطاعة أي يوم الطاعة وإنما خص يوم الدين بالذكر مع كونه مالكا للأيام كلها لأن الأملاك يومئذ زائلة فلا ملك ولا أمر إلا له قال الله تعالى (الملك يومئذ الحق للرحمن) وقال (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) وقال (والأمر يومئذ لله) وقرأ أبو عمرو (الرحيم ملك) بإدغام الميم في الميم وكذلك يدغم كل حرفين من جنس واحد أو مخرج واحد أو قريبي المخرج سواء كان الحرف ساكنا أو متحركا إلا أن يكون الحرف الأول مشددا أو منونا أو منقوصا أو مفتوحا أو تاء الخطاب قبله ساكن من غير المثلين فإنه لا يدغمهما وإدغام المتحرك يكون في الإدغام الكبير وافقه حمزة في إدغام المتحرك في قوله (بيت طائفة) (والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا) و (الذاريات ذروا) وأدغم التاء فيما بعدها من الحروف وافقه حمزة برواية رجاء وخلف والكسائي إلا في الراء عند اللام والدال عند الجيم وكذلك لا يدغم حمزة
40

الدال عند السين والصاد والزاي ولا إدغام لسائر القراء إلا في أحرف معدودة 5 قوله (إياك) إيا كلمة ضمير خصت بالإضافة إلى المضمر ويستعمل مقدما على الفعل فيقال إياك أعني وإياك أسأل ولا يستعمل مؤخرا إلا منفصلا فيقال ما عنيت إلا إياك قوله (نعبد) أي نوحدك ونطيعك خاضعين والعبادة الطاعة مع التذلل والخضوع وسمي العبد عبدا لذلته وانقياده يقال طريق معبد أي مذلل (وإياك نستعين) نطلب منك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا فإن قيل لم قدم ذكر العبادة على الاستعانة والاستعانة تكون قبل العبادة فلهذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل ونحن نحمد الله ونجعل التوفيق والاستعانة مع الفعل فلا فرق بين التقديم والتأخير ويقال الاستعانة نوع تعبد فكأنه ذكر جملة العبادة أولا ثم ذكر ما هو من تفاصيلها 6 قوله (إهدنا الصراط المستقيم) اهدنا أرشدنا وقال علي وأبي بن كعب ثبتنا كما يقال للقائم قم حتى أعود إليك أي دم على ما أنت عليه وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم على الهداية بمعنى التثبيت وبمعنى طلب مزيد الهداية لأن الإلطاف والهدايات من الله تعالى لا تتناهى على مذهب أهل السنة (الصراط) وصراط قرئ بالسين رواه أويس عن يعقوب وهو الأصل سمي سراطا لأنه يسرط السابلة ويقرأ بالزاي وقرأ حمزة بإشمام الزاي وكلها لغات صحيحة والاختيار الصاد عند أكثر القراء لموافقة المصحف والصراط المستقيم قال ابن عباس وجابر هو الإسلام وهو قول مقاتل وقال ابن مسعود هو القرآن وروي عن علي مرفوعا الصراط المستقيم كتاب الله وقال سعيد بن جبير طريق الجنة وقال سهل بن عبد الله طريق السنة والجماعة وقال بكر بن عبد الله المزني طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو العالية والحسن رسول الله وآله وصاحباه وأصله في اللغة الطريق الواضح 7 (صراط الذين أنعمت عليهم) أي مننت عليهم بالهداية والتوفيق قال عكرمة مننت عليهم بالثبات على الإيمان والاستقامة وهم الأنبياء عليهم السلام وقيل هم كل من ثبته الله على الإيمان من النبيين والمؤمنين الذين ذكر الله تعالى في قوله (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) الآية وقال ابن عباس هم قوم موسى وعيسى عليهما السلام قبل أن غيروا دينهم وقال عبد الرحمن هم النبي ومن معه وقال أبو العالية هم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقال عبد الرحمن بن زيدان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وقال شهر بن حوشب هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته قرأ حمزة عليهم ولديهم واليهم بضم هاآتها ويضم يعقوب كل هاء قبلها ياء ساكنة تثنية وجمعا إلا قوله (بين أيديهن وأرجلهن) وقرأ الآخرون بكسرهما فمن ضم الهاء ردها إلى الأصل لأنها مضمومة عند الانفراد ومن كسرها فلأجل الياء الساكنة والياء أخت الكسرة وضم ابن كثير وأبو جعفر كل ميم جمع
41

مشبعا في الوصل إذا لم يلقها ساكن فإن لقيها ساكن فلا يشبع ونافع يخير ويضم ورش عند ألف القطع وإذا تلقته ألف وصل وقبل الهاء كسر أو ياء ساكنة ضم الهاء والميم حمزة والكسائي وكسرهما أبو عمرو كذلك يعقوب إذا انكسر ما قبله والآخرون يقرؤون بضم الميم وكسر الهاء لأجل الياء أو لكسر ما قبلها وضم الميم على الأصل قوله (
غير المغضوب عليهم) يعني صراط الذين غضبت عليهم والغضب هو إرادة الانتقام من العصاة وغضب الله تعالى لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين (ولا الضالين) أي وغير الضالين عن الهدى وأصل الضلال الهلاك والغيبوبة يقال ضل الماء في اللبن إذا هلك وغاب وغير ههنا بمعنى لا ولا بمعنى غير ولذلك جاز العطف عليها كما يقال فلان غير محسن ولا مجمل فإذا كان غير بمعنى سوى فلا يجوز العطف عليها بلا لا يجوز في الكلام عندي سوى عبد الله ولا زيد وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه صراط من أنعمت عليهم لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال من لعنه الله وغضب عليه وحكم على النصارى بالضلال غير المغضوب عليهم وغير الضالين وقيل (المغضوب عليهم) هم اليهود والضالون هم النصارى فقال (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل) وقال سهل بن عبد الله غير المغضوب عليهم بالبدعة ولا الضالين عن السنة والسنة للقارئ أن يقول بعد فراغه من قراء الفاتحة (آمين) مفصولا عن الفاتحة بسكتة وهو مخفف ويجوز ممدودا ومقصورا ومعناه اللهم اسمع واستجب وقال ابن عباس وقتادة معناه كذلك يكون وقال مجاهد هو اسم من أسماء الله تعالى وقيل هو طابع الدعاء وقيل هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم الخاتم الكتاب يمنعه من الفساد وظهور ما فيه أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد بن القاضي وأبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي قالا أنا أبو بكر أحمد بن حسن الحيري أنا أبو علي محمد بن أحمد بن محمد بن معقل الميداني ثنا محمد بن يحيى ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ إذا قال الإمام (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين وأن الإمام يقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه \ صحيح فصل في فضل فاتحة الكتاب أنا أبو الحسن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الكتاني أنا أبو نصر محمد بن علي بن الفضل الخزاعي أنا عثمان عمر بن عبد الله البصري ثنا محمد بن عبد الوهاب ثنا خالد بن مخلد القطراني حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير هو أخو إسماعيل بن جعفر عن ابن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة
42

قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب وهو قائم يصلي فصاح به فقال تعالى يا أبي فعجل أبي في صلاته ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال \ ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك أليس الله يقول (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) قال أبي لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك إلا كنت مصليا قال أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها فقال أبي نعم يا رسول الله فقال لا تخرج من باب المسجد حتى تعلمها \ والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أبي السورة يا رسول الله فوقف فقال \ نعم كيف تقرأ في صلاتك \ فقرأ أبي أم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها وإنما هي سبع من المثاني التي أتاني الله عز وجل \ هذا حديث حسن صحيح أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي أنا الحاكم أبو الفضل محمد بن حسين الحدادي أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد أنا إسحق بن إبراهيم الحنظلي ثنا يحيى بن آدم ثنا أبو الأحوص عن عمار بن ذريق عن عبد الله بن عيسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقضا من فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال هذا باب فتح من السماء ما فتح قط قال فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال \ أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته \ صحيح أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرازي حدثنا زاهر بن أحمد السرخسي أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري عن مالك عن العلاء ابن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام \ قال فقلت يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام فغمز ذراعي وقال اقرأ بها يا قارئ في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نفصها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل \ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ اقرؤا يقول العبد (الحمد لله رب العالمين) يقول الله حمدني عبدي ويقول العبد الرحمن الرحيم يقول الله (أثنى علي عبدي) يقول العبد مالك يوم الدين يقول الله (مجدني عبدي) يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله عز وجل هذه الآية بيني وبين عبدي فلعبدي ما سأل يقول العبد إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يقول الله (فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل) \ صحيح
43

سورة البقرة سورة البقرة 1 3 1 (ألم) قال الشعبي وجماعة آلم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وهي سر القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها قال أبو بكر الصديق في كل كتاب سر وسر الله في القرآن أوائل السور وقال علي إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي قال داود بن أبي هند كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال يا داود إن لكل كتاب سر وإن سر القرآن فواتح السور فدعها وسل عما سوى ذلك وقال جماعة معلومة المعاني فقيل كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه كما قال ابن عباس في كهيعص الكاف من كاف والهاء من هاد والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق وقيل في آلمص أنا الله الملك الصادق وقال الربيع بن أنس في آلم الألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه اللطيف والميم مفتاح اسمه المجيد وقال محمد بن كعب الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال معنى لم أنا الله أعلم ومعنى المص أنا الله أعلم وأفضل ومعنى الر أنا الله أرى ومعنى المر أنا الله أعلم وأرى قال الزجاج وهذا حسن فإن العرب تذكر حرفا من كلمة تريدها كقولهم (قلت لها قفي فقالت لي قاف) أي وقفت وعن سعيد بن جبير قال هي أسماء الله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم وقال قتادة هذه الحروف أسماء القرآن وقال مجاهد وابن زيد هي أسماء السور وبيانه أن القائل إذا قال قرأت المص عرف السامع أنه قرأ السورة التي افتتحت بالمص وروي عن ابن عباس أنها أقسام وقال الأخفش إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة ومبادئ أسمائه الحسنى 2 (ذلك الكتاب) أي هذا الكتاب وهو القرآن وقيل هذا فيه مضمر أي هذا ذلك الكتاب قال الفراء كان الله
قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق عن كثرة الرد فلما أنزل الله القرآن قال هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أنزله عليك في التوراة والإنجيل وعلى لسان النبيين من قبلك وهذا للتقريب وذلك للتبعيد وقال ابن كيسان إن الله تعالى أنزل قبل سورة البقرة سورا كذب
44

بها المشركون ثم أنزل سورة البقرة فقال ذلك الكتاب يعني ما تقدم البقرة من السور لا شك فيه والكتاب مصدر وهو بمعنى المكتوب كما يقال للمخلوق وهذا الدرهم ضرب فلان أي مضروبه وأصل الكتاب الضم والجمع ويقال للجند كتيبة لاجتماعها وسمي الكتاب كتابا لأنه جمع حرف إلى أحرف قوله تعالى (لا ريب فيه) أي لا شك فيه أنه من عند الله وأنه الحق والصدق وقيل هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه لقوله تعالى (فلا رفث ولا فسوق) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا قرأ ابن كثير فيه بالإشباع في الوصل وكذلك كل هاء كتابة قبلها ساكن يشبعها وصلا ما لم يلها ساكن ثم إن كان الساكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء وإن كان غيرها يشبعها بالضم واوا ووافقه حفص في قوله (فيه مهانا) فأشبعه قوله تعالى (هدى للمتقين) يدغم الغنة عند اللام والراء أبو جعفر وابن كثير وحمزة والكسائي زاد حمزة والكسائي عند الياء وزاد حمزة عند الواو والآخرون لا يدغمونها ويخفي أبو جعفر النون والتنوين عند الخاء والغين هدى للمتقين أي هو هدى أي رشد وبيان لأهل التقوى وقيل هو نصب على الحال أي هاديا تقديره لا ريب فيه في هدايته للمتقين والهدى ما يهتدي به الإنسان للمتقين أي للمؤمنين قال ابن عباس المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش وهو مأخوذ من الإتقاء وأصله الحجز بين شيئين ومنه يقال اتقى بترسه أي جعله حاجزا بين نفسه وبين ما يقصده وفي الحديث كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم أي إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزا بيننا وبين العدو فكأن المتقي يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عما نهاه حاجزا بينه وبين العذاب قال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار حدثنا عن التقوى فقال هل أخذت طريقا ذا شوك قال نعم قال فما عملت فيه قال حذرت وتشمرت قال كعب وذلك التقوى وقال شهر بن حوشب المتقي الذي يترك مالا بأس به حذرا لما به بأس وقال عمر بن عبد العزيز التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير وقيل هو اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث \ جماع التقوى \ في قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية وقال ابن عمر التقوى أن لا ترى نفسك خيرا من أحد وتخصيص المتقين بالذكر تشريف لهم أو لأنهم هم المنتفعون بالهدى 3 قوله تعالى (الذين يؤمنون) موضع الذين خفض نعتا للمتقين يؤمنون يصدقون ويترك همزة أبو عمر وورش والآخرون يهمزونه وكذلك يتركان كل همزة ساكنة هي فاء الفعل نحو يؤمن ومؤمن إلا أحرفا معدودة وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب قال الله تعالى (وما أنت بمؤمن لنا) أي بمصدق لنا وهو في الشريعة الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان فسمي الإقرار والعمل إيمانا لوجه من المناسبة لأنه من شرائعه والإسلام هو الخضوع والانقياد فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا إذا لم يكن معه تصديق قال الله تعالى (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا)
45

وذلك لأن الرجل قد يكون مستسلما في الظاهر غير مصدق في الباطن ويكون مصدقا في الباطن غير منقاد في الظاهر وقد اختلف جواب النبي صلى الله عليه وسلم عنهما حين سأله جبريل عليه السلام وهو ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد التوبة الزراد البخاري أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ثنا أبو أحمد عيسى بن أحمد العسقلاني أنا يزيد بن هارون أنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال كان أول من تكلم في القدر يعني بالبصرة معبد الجهني فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة قلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه ما يقول هؤلاء فلقينا عبد الله بن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي اكتنفوا أي أحاطوا أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فعلمت أنه سيكل الكلام إلي فقلت أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يتفقرون هذا العلم ويطلبونه يزعمون أن لا قدر إنما الأمر أفق قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني براء والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه شيئا حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ثم قال حدثنا عمر بن الخطاب قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ما يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبته تمس ركبته فقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا فقال صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه ثم قال فما الإيمان قال أن تؤمن بالله وحده وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت والجنة والنار وبالقدر خيره وشره فقال صدقت ثم قال فما الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإنك لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت ثم قال فأخبرني عن الساعة فقال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل قال صدقت قال فأخبرني عن أماراتها قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في بنيان المدر قال صدقت ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر هل تدري من الرجل قال قلت الله ورسوله أعلم قال ذلك جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه \ قال الفراء فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الإسلام في هذا الحديث اسما لما ظهر من الأعمال والإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان وتصديق بالقلب ليس من الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين ولذلك قال \ ذلك جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم \ والدليل على أن الأعمال من الإيمان ما أخبر أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاة ثنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان ثنا بشير بن موسى ثنا خلف بن الوليد عن جرير الرازي عن سهل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان \ الإيمان مأخوذ من الأمان فسمي المؤمن مؤمنا لأنه يؤمن نفسه من عذاب الله والله تعالى مؤمن لأنه يؤمن العباد من عذابه
46

سورة البقرة 4 (بالغيب) والغيب مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب كما قيل للعادل عدل وللزائر زور والغيب ما كان مغيبا من العيون قال ابن عباس الغيب ههنا كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك من الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان وقيل الغيب ههنا هو الله تعالى وقيل القرآن وقال الحسن الآخرة
وقال زر بن حبيش وابن جريج الوحي نظيره (أعنده علم الغيب) وقال ابن كيسان بالقدر وقال عبد الرحمن بن يزيد كنا عند عبد الله بن مسعود فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به فقال عبد الله إن أمر محمد كان بيننا لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ (ألم ذلك الكتاب) إلى قوله (المفلحون) قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وورش (يؤمنون) بترك الهمزة وكذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلا في (أنبئهم) و (ينبئهم) و (نبئنا) ويترك أبو عمرو كلها إلا أن يكون علامة للجزم نحو (نبئهم) و (أنبئهم) و (تسؤهم) و (تسؤكم) و (إن نشأ) و (ننسأها) ونحوها أو يكون خروجها من لغة إلى آخرى نحو (مؤصدة) و (رئيا) ويترك ورش كل همزة ساكنة كانت قبل فاء الفعل إلا (تؤوي) و (تؤويه) ولا يترك من عين الفعل إلا (الرؤيا) وبابه إلا ما كان على وزن فعل قوله (ويقيمون الصلاة) أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهيئاتها يقال قام بالأمر وأقام الأمر إذا أتى به معطيا حقوقه أو المراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ الواحد كقوله تعالى (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق) يعني الكتب والصلاة في اللغة الدعاء قال الله تعالى (فصل عليهم) أي ادع لهم وفي الشريعة اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء وثناء وقيل في قوله تعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي) الآية إن الصلاة من الله في هذه الآية الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ومن المؤمنين الدعاء قوله (ومما رزقناهم) أي أعطيناهم والرزق اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والعبد وأصله في اللغة الحظ والنصيب (ينفقون) يتصدقون قال قتادة ينفقون في سبيل الله وطاعته وأصل الإنفاق الإخراج عن اليد والملك ومنه نفاق السوق لأنه يخرج فيه السلعة عن اليد ومنه نفقت الدابة إذا خرجت روحها فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب 4 قوله (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) يعني القرآن (وما أنزل من قبلك) من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويترك أبو جعفر وابن كثير وقالون وأهل
47

سورة البقرة 5 9 البصرة ويعقوب كل مد يقع بين كل كلمتين والآخرون يمدونها وهذه الآية في المؤمنين من أهل الكتب قوله (وبالآخرة) أي بالدار الآخرة سميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا (هم يوقنون) أي يستيقنون أنها كائنة من الإيقان وهو العلم وقيل الإيقان واليقين علم عن استدلال ولذلك لا يسمى الله موقنا ولا علمه يقينا إذ ليس علمه عن استدلال 5 قوله (أولئك) أي أهل هذه الصفة وأولاء كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو هم والكاف للخطاب كما في حرف ذلك (على هدى) أي رشد وبيان وبصيرة (من ربهم وأولئك هم المفلحون) الناجون والفائزون فازوا بالجنة ونجوا من النار ويكون الفلاح بمعنى البقاء أي باقون في النعيم المقيم وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحا لأنه يشق الأرض وفي مثل الحديد بالحديد يفلح أي يشق فهم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة 6 قوله (إن الذين كفروا) يعني مشركي العرب قال الكلبي يعني اليهود والكفر عن الجحود وأصله من الستر ومنه سمي الليل كافرا لأنه يستر الأشياء بظلمته وسمي الزراع كافرا لأنه يستر الحب بالتراب فالكافر يستر الحق بجحوده والكفر على أربعة أنحاء كفر إنكار وكفر جحود وكفر عناد وكفر نفاق فكفر الإنكار هو أن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به وكفر به وكفر الجحود هو أن لا يعرف الله بقلبه ولا يعترف بلسانه ككفر إبليس وكفر اليهود قال الله تعالى (فلما جاءهم من عرفوا كفروا به) وكفر العناد هو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا) (لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا) وأما كفر النفاق فهو أن يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له قوله (سواء عليهم) متساو لديهم (أأنذرتهم) خوفتهم وحذرتهم والإنذار إعلام مع تخويف وتحذير فكل منذر معلم وليس كل معلم منذرا وحقق ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي الهمزتين في (أأنذرتهم) وكذلك كل همزتين تقعان في أول الكلمة
48

والآخرون يلينون الثانية أم حرف عطف على الاستفهام لم حرف جزم لا يلي إلا الفعل لأن الجزم يختص بالأفعال (تنذرهم لا يؤمنون) وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال 7 (ختم الله) أي طبع الله (على قلوبهم) فلا تعي خيرا ولا تفهمه وحقيقة الختم الاستيثاق من الشيء كيلا يدخله ما خرج منه ولا يخرج عنه ما فيه ومنه الختم على الباب قال أهل السنة أي حكم على قلوبهم بالكفر لما سبق من علمه الأول فيهم وقال المعتزلة جعل على قلوبهم علامة تعرفهم الملائكة بها (وعلى سمعهم) أي على موضع سمعهم فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به وأراد على أسماعهم كما قال على قلوبهم وإنما وحده لأنه مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع (وعلى أبصارهم غشاوة) هذا ابتداء كلام غشاوة أي غطاء فلا يرون الحق وقرأ أبو عمرو الكسائي (أبصارهم) بالإمالة وكذلك كل ألف بعدها راء مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها ويميل حمزة منها ما فيه الراء كالقرار ونحوه زاد الكسائي إمالة جبارين والجوار مأواكم ومن أنصاري ونسارع وبابه وكذلك يميل هؤلاء كل ألف بمنزلة لام الفعل أو كانت علما للتأنيث إذا كان قبلها راء فعلم التأنيث مثل الكبرى والأخرى ولام الفعل مثل ترى وفترى يكسرون الراء منها (ولهم عذاب عظيم) أي في الآخرة وقيل القتل والأسر في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى والعذاب كل ما يعني الإنسان ويشق عليه قال الخليل العذاب ما يمنع الإنسان عن مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش 8 قوله (ومن الناس من يقول آمنا بالله) نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ومعتب بن قشير وجد بن قيس وأصحابهم حيث أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود والناس جمع إنسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي كما قال الله تعالى (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) وقيل لظهوره من قولهم أي أبصرت وقيل لأنه يستأنس به (وباليوم الآخر) أي بيوم القيامة قال الله تعالى (وما هم بمؤمنين) 9 (يخادعون الله) أي يخالفون الله وأصل الخداع في اللغة الإخفاء ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر والخداع من الله في قوله (وهو خادعهم) أي يظهر لهم ويعجل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة وقيل أصل الخداع الفساد معناه يفسدون ما اظهروا من الإيمان بما أضمروا من الكفر وقوله (وهو
49

سورة البقرة 10 14 خادعهم) أي يفسد عليهم نعيمهم في الدنيا بما يصيرهم إليه من عذاب الآخرة فإن قيل ما معنى قوله (يخادعون الله) والمفاعلة للمشاركة وقد جل الله
تعالى عن المشاركة في المخادعة قيل قد ترد المفاعلة لا على معنى المشاركة كقولك عافاك الله وعافيت فلانا وطارقت النعل وقال الحسن معناه يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى (إن الذين يؤذون الله) أي أولياء الله وقيل ذكر الله ههنا تحسين والقصد بالمخادعة الذين آمنوا كقوله تعالى (فإن لله خمسه وللرسول) وقيل معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع في دينهم (والذين آمنوا) أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم آمنا وهم غير مؤمنين (وما يخدعون) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (ما يخدعون) كالحرف الأول وجعلوه من المفاعلة التي يختص بالواحد وقرأ الباقون (وما يخدعون) على الأصل (إلا أنفسهم) لأن وبال خداعهم راجع إليهم لأن الله يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى (وما يشعرون) أي لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم 10 (في قلوبهم مرض) شك ونفاق وأصل المرض الضعف سمي الشك في الدنيا مرضا لأنه يضعف الدين كالمرض يضعف البدن (فزادهم الله مرضا) لأن الآيات كانت تنزل تترى آية بعد آية كلما كفروا بآية ازدادوا كفرا ونفاقا وذلك معنى قوله تعالى (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) قرأ ابن عامر وحمزة (فزادهم) بالإمالة وزاد حمزة إمالة زاد حيث وقع وزاغ وخاب وطاب وحاق وضاق والآخرون لا يميلونها (ولهم عذاب أليم مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم (بما كانوا يكذبون) ما للمصدر أي بتكذيبهم الله ورسوله في السر وقرأ الكوفيون يكذبون بالتخفيف أي بكذبهم إذا قالوا آمنا وهم غير مؤمنين وإذا قيل قرأ الكسائي قيل وغيض وجئ وجيل وسيق وسيئت بروم أوائلهن الضم ووافق أهل المدينة في سئ وسيئت ووافق ابن عامر في سيق وحيل وسيء وسيئت لأن أصلها قول بضم القاف وكسر
50

الواو مثل قتل وكذلك في أخواته فأشير إلى الضمة لتكون دالة على الواو المنقلبة والباقون يكسر أوائلهن استثقلوا الحركة على الواو فنقلوا كسرتها إلى فاء الفعل وانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها 11 (وإذا قيل لهم) يعني للمنافقين وقيل لليهود أي قال لهم المؤمنون (لا تفسدوا في الأرض) بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقيل معناه لا تكفروا والكفر أشد فسادا في الدين (قالوا إنما نحن مصلحون) يقول هذا القول كذبا كقولهم آمنا وهم كاذبون 12 (الا) كلمة تنبيه ينبه بها المخاطب (إنهم هم المفسدون) أنفسهم بالكفر والناس بالتعويق عن الإيمان (ولكن لا يشعرون) أي لا يعلمون أنهم مفسدون لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح وقيل لا يعلمون ما أعد الله لهم من العذاب 13 (وإذا قيل لهم) أي للمنافقين وقيل لليهود (آمنوا كما آمن الناس) عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب وقيل كما آمن المهاجرون والأنصار (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) أي الجهال فإن قيل كيف يصح النفاق مع المهاجرة بقولهم أنؤمن كما آمن السفهاء قيل إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك فرد الله عليهم فقال (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) أنهم كذلك والسفيه خفيف العقل رقيق الحلم من قولهم ثوب سفيه أي رقيق وقيل السفيه الكذاب الذي يتعمد بخلاف ما يعلم قرأ أهل الكوفة والشام (السفهاء ألا) بتحقيق الهمزتين وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا والآخرون يحققون الأولى ويلينون الثانية في المختلفتين طلبا للخفة فإن كانتا متفقتين مثل هؤلاء وأولياء وأولئك وجاء أمر ربك قرأ أبو عمرو والبزي عن ابن كثير بهمزة واحدة وقرأ أبو جعفر وورش والقواش ويعقوب بتحقيق الأولى وتليين الثانية وقرأ قالون بتليين الأولى وتحقيق الثانية لأن ما يستأنف أولى بالهمزة مما يسكت عليه 14 (وإذا لقوا الذين آمنوا) يعني هؤلاء المنافقين إذا لقوا المهاجرين والأنصار (قالوا آمنا) كإيمانكم (وإذا خلوا) رجعوا ويجوز أن يكون من الخلوة و (إلى) بمعنى الباء أي بشياطينهم وقيل إلى بمعنى مع كما قال الله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) أي مع أموالكم (شياطينهم) أي رؤسائهم وكهنتهم قال ابن عباس وهم خمسة نفر من اليهود كعب بن الأشرف بالمدينة وأبو بردة في بني أسلم وعبد الدار في جهينة وعوف بن عامر في بني أسد وعبد الله بن السوداء بالشام ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له والشيطان المتمرد العاتي من الجن والإنس ومن كل شيء وأصله البعد يقال بئر شطون أي بعيدة العمق سمي الشيطان شيطانا لامتداده في الشر وبعده من الخير وقال مجاهد إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين (قالوا إنا معكم) أي على دينكم (إنما نحن مستهزؤن) بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما نظهر من
51

سورة البقرة 15 19 قرأ أبو جعفر مستهزؤن ويستهزؤن وقل استهزؤوا وليطفؤا وليواطؤا ويستنبؤنك وخاطين وخاطون ومتكين ومتكون فمالون والمنشون بترك الهمزة فيهن 15 (الله يستهزئ بهم) أي يجازيهم جزاء استهزائهم سمي الجزاء باسمه لأنه بمقابلته كما قال الله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) قال ابن عباس هو أن يفتح لهم باب من الجنة فإذا انتهوا إليه سد عنهم وردوا إلى النار وقيل هو أن يضرب للمؤمنين نور يمشون على الصراط فإذا وصل المنافقون إليه حيل بينهم وبين المؤمنين كما قال الله تعالى (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) وقال الله تعالى (فضرب بينهم بسور له باب) الآية وقال الحسن معناه أن الله يظهر المؤمنين على نفاقهم (ويمدهم) يتركهم ويمهلهم والمد والإمداد واحد وأصله الزيادة إلا أن المد كثيرا ما يأتي في الشر والإمداد في الخير قال الله تعالى في المد (ونمد له من العذاب مدا) وقال في الإمداد (وأمددناكم بأموال وبنين وأمددناكم بفاكهة) (في طغيانهم) أي في ضلالتهم وأصل الطغيان مجاوزة الحد ومنه طغى الماء (يعمهون) أي يترددون في الضلالة متحيرين 16 (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) بالإيمان (فما ربحت تجارتهم) أي استبدلوا الكفر أي ما ربحوا في تجارتهم أضاف الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها كما تقول العرب ربح بيعك وخسرت صفقتك (وما كانوا مهتدين) من الضلالة وقيل مصيبين في تجارتهم 17 (مثلهم) شبههم وقيل صفتهم والمثل قول سائر في عرف الناس يعرف به منه الشيء وهو أحد أقسام القرآن السبعة (كمثل الذي) يعني الذين بدليل سياق الآية ونظيره (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (استوقد نارا) أوقد نارا (فلما أضاءت) النار (ما حوله) أي حول المستوقد وأضاء لازم ومتعد يقال أضاء الشيء بنفسه وأضاء غيره وهو هنا متعد (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) قال ابن عباس وقتادة ومقاتل والضحاك
52

والسدي نزلت في المنافقين يقول مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي
في ظلمة خائفا متحيرا فكذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف وقيل ذهاب نورهم في القبر وقيل في القيامة حيث يقولون للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم وقيل ذهاب نورهم بإظهار عقيدتهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فضرب النار مثلا ثم لم يقل أطفأ الله نارهم لكن عبر بإذهاب النور عنه لأن النور نور وحرارة فيذهب نورهم وتبقى الحرارة عليهم وقال مجاهد إضاءة النار إقبالهم إلى المسلمين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة وقال عطاء ومحمد بن كعب نزلت في اليهود وانتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به ثم وصفهم الله فقال 18 (صم) أي هم صم عن الحق لا يقبلونه وإذا لم يقبلوا فكأنهم لم يسمعوا (بكم) خرس عن الحق لا يقولونه أو أنهم لما أبطنوا خلاف ما أظهروا فكأنهم لم ينطقوا بالحق (عمي) أي لا بصائر لهم ومن لا بصيرة له كمن لا بصر له (فهم لا يرجعون) عن الضلالة إلى الحق 19 (أو كصيب) أي كأصحاب صيب وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى للمنافقين بمعنى إن شئت مثلهم بالمستوقد وإن شئت بأهل الصيب وقيل أو بمعنى الواو يريد وكصيب كقوله تعالى (أو يزيدون) بمعنى ويزيدون والصيب المطر وكل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل فهو صيب فعيل من صاب يصوب أي نزل (من السماء) أي من السحاب وقيل هي السماء بعينها والسماء كل ما علاك فأظلك وهي من أسماء الأجناس يكون واحدا وجمعا (فيه) أي في الصيب وقيل في السماء أي في السحاب ولذلك ذكره وقيل السماء يذكر ويؤنث قال الله تعالى (السماء منفطر به) وقال (إذا السماء انفطرت) (ظلمات) جمع ظلمة (ورعد) وهو الصوت الذي يسمع من السحاب (وبرق) وهو النار التي تخرج منه قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين الرعد اسم ملك يسوق السحاب والبرق لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب وقيل الصوب زجر السحاب وقيل تسبيح الملك وقيل الرعد نطق الملك والبرق ضحكه وقال مجاهد الرعد اسم الملك ويقال لصوته أيضا رعد والبرق اسم ملك يسوق السحاب وقال شهر بن حوشب الرعد ملك يزجر فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النار فهي الصواعق وقيل الرعد صوت انحراق الريح بين السحاب والأول أصح يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت من يسمعها أو يغشى عليه ويقال لكل عذاب مهلك صاعقة وقال الصاعقة قطعة عذاب ينزلها الله على من يشاء روي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال \ اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك \ قوله (حذر الموت) أي مخافة الهلاك
53

سورة البقرة 20 23 (والله محيط بالكافرين) أي عالم بهم وقيل جامعهم قال مجاهد يجمعهم فيعذبهم وقيل مهلكهم دليله قوله تعالى (إلا أن يحاط بكم) أي أي تهلكوا جميعا ويميل أبو عمرو والكسائي الكافرين في محل النصب أو لخفض ولا يميلان (أول كافر به) 20 (يكاد البرق) أي يقرب يقال كاد يفعل إذا قرب ولم يفعل (يخطف أبصارهم) يختلسها والخطف استلاب بسرعة (كلما) كل حرف جملة ضم إلى ما الجزاء فصار أداة للتكرار ومعناهما متى ما (أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) أي وقفوا متحيرين فالله تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة وسواد في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات من صفتها أن الساري لا يمكنه المشي فيها ورعد من صفته أن يضم السامعون أصابعهم إلى آذانهم من هوله وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدة توقده فهذا مثل ضربه الله للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه فالمطر القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطهر حياة الأبدان والظلمات ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والرعد ما خوفوا به من الوعيد وذكر النار والبرق ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة فالكافرون يسدون آذانهم عند قراءة القرآن مخافة ميل القلب إليه لأن الإيمان عندهم كفر والكفر موت يكاد البرق يخطف أبصارهم أي القرآن يبهر قلوبهم وقيل هذا مثل ضربه الله للإسلام فالمطر الإسلام والظلمات ما فيه من البلاء والمحن والرعد ما فيه من الوعيد والمخاوف في الآخرة والبرق ما فيه من الوعد (يجعلون أصابعهم في آذانهم) يعني أن المنافقين إذا رأوا في الإسلام بلاء وشدة هربوا حذارا من الهلاك والله محيط بالكافرين جامعهم يعني لا ينفعهم هربهم لأن الله تعالى من ورائهم يجمعهم فيعذبهم (يكاد البرق) يعني دلائل الإسلام تزعجهم إلى النظر لولا ما سبق لهم من الشقاوة (كلما أضاء لهم مشوا فيه) يعني أن المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان آمنوا فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة وقيل معناه كلما نالوا
54

غنيمة وراحة في الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم وإذا أظلم عليهم يعني رأوا شدة وبلاء تأخروا وقاموا أي وقفوا كما قال الله تعالى (ومن الناس من يعبد الله على حرف) (ولو شاء الله لذهب بسمعهم) أي بأسماعهم (وأبصارهم) الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة وقيل لذهب بما استفادوا من العز والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر (إن الله على كل شيء قدير) قادر قرأ ابن عامر وحمزة شاء وجاء حيث كان بالإمالة 21 قوله تعالى (يا أيها الناس) قال ابن عباس يا أيها الناس خطاب أهل مكة ويا أيها الذين آمنوا خطاب أهل المدينة وهو ههنا عام إلا من حيث إنه لا يدخله الصغار والمجانين (اعبدوا) وحدوا قال ابن عباس كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها التوحيد (ربكم الذي خلقكم) والخلق اختراع الشيء على غير مثال سبق (والذين من قبلكم) أي وخلق الذين من قبلكم (لعلكم تتقون) لكي تنجوا من العذاب وقيل معناه كونوا على رجاء التقوى بأن تصيروا في ستر ووقاية من عذاب الله وحكم الله من ورائكم يفعل ما يشاء كما قال (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) أي ادعوه إلى الحق وكونا على رجاء التذكر وحكم الله من ورائه يفعل ما يشاء قال سيبويه لعل وعسى حرفا ترج وهما من الله واجب 22 (الذي جعل لكم الأرض فراشا) أي بساطا وقيل مناما وقيل وطاء أي ذللها ولم يجعلها حزنة لا يمكن القرار عليها والجعل ههنا بمعنى الخلق (والسماء بناء) سقفا مرفوعا (وأنزل من السماء) أي من السحاب (ماء) وهو المطر (فأخرج به من الثمرات) من ألوان الثمرات وأنواع النبات (رزقا لكم) طعاما لكم وعلفا لدوابكم (فلا تجعلوا لله أندادا) أي أمثالا تعبدونهم كعبادة الله وقال أبو عبيدة الند الضد وهو من الأضداد والله تعالى بريء من المثل والضد (وأنتم تعلمون) أنه واحد خالق هذه الأشياء 23 (وإن كنتم في ريب) أي وإن كنتم في شك لأن الله تعالى علم أنهم شاكون (مما نزلنا) يعني القرآن (على عبدنا) محمد (فأتوا) أمر تعجيز (بسورة) والسورة قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر من أسارت أي أفضلت حذفت الهمزة وقيل السورة اسم للمنزلة الرفيعة ومنه سور البلد لارتفاعه سميت سورة لأن القارئ ينال بقراءتها منزلة رفيعة حتى يستكمل
المنازل باستكماله سور القرآن (من مثله) أي مثل القرآن ومن صلة كقوله تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) وقيل الهاء في مثله راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم يعني من مثل محمد صلى الله عليه وسلم أمي لا يحسن الخط والكتابة (وادعوا شهداءكم) أي واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها (من دون الله) وقال مجاهد ناسا يشهدون لكم (إن كنتم صادقين) أن محمدا صلى الله عليه وسلم تقوله من تلقاء نفس فلما تحداهم عجزوا فقال
55

سورة البقرة 24 25 24 (فإن لم تفعلوا) فيما مضى (ولن تفعلوا) أبدا فيما بقي وإنما قال ذلك لبيان الإعجاز وأن القرآن كان معجزة النبي صلى الله عليه وسلم حيث عجزوا عن الاتيان بمثله قوله (فاتقوا النار) أي فآمنوا واتقوا بالإيمان النار (التي وقودها الناس والحجارة) قال ابن عباس وأكثر المفسرين يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهابا وقيل جمع الحجارة وهو دليل على عظم تلك النار وقيل أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت منحوتة من الحجارة كما قال (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) (أعدت) هيئت (للكافرين) 25 قوله تعالى (وبشر الذين آمنوا) أي أخبر والبشارة كل خبر صدق تتغير به بشرة الوجه ويستعمل في الخير والشر وفي الخير أغلب (وعملوا الصالحات) أي الفعلات الصالحات يعني المؤمنين الذين هم من أهل الطاعات قال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وعملوا الصالحات أي أخلصوا الأعمال كما قال (فليعمل عملا صالحا) أي خاليا من الرياء قال معاذ العمل الصالح الذي فيه أربعة أشياء العلم والنية والصبر والإخلاص (أن لهم جنات) جمع الجنة والجنة البستان الذي فيه أشجار مثمرة سميت بها لاجتنانها وتسترها بالأشجار وقال الفراء الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم (تجري من تحتها) أي من تحت أشجارها ومساكنها (الأنهار) أي المياه في الأنهار لأن النهر لا يجري وقيل من تحتها أي بأمرهم لقوله تعالى حكاية عن فرعون (وهذه الأنهار تجري من تحتي بأمري) والأنهار جمع نهر سمي به لسعته وضيائه ومنه النهار وفي الحديث أنها الجنة تجري في غير أخدود (كلما) متى ما (رزقوا) أطعموا (منها) أي من الجنة (من ثمرة) أي ثمرة ومن صلة (رزقا) طعاما (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) وقبل رفع على الغاية قال الله تعالى (لله الأمر من قبل ومن بعد) قيل من قبل في الدنيا وقيل الثمار في الجنة متشابهة في اللون مختلفة في الطعم فإذا رزقوا ثمرة قيل من قبل في الدنيا وقيل الثمار في الجنة متشابهة في اللون مختلفة في الطعم فإذا رزقوا ثمرة بعد أخرى ظنوا أنها الأولى (وأتوا به) رزقا (متشابها) قال ابن عباس ومجاهد والربيع متشابها في الألوان مختلفا في الطعوم وقال الحسن وقتادة متشابها أي يشبه بعضها بعضا في الجودة أي كلها خيار لا رذالة فيها وقال محمد بن كعب يشبه ثمر الدنيا غير أنها أطيب وقيل متشابها في الاسم مختلفا في الطعم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي أنا أبو حامد بن عبد الله الصالحي أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو عبد الله
56

محمد بن الصفار أنا أحمد بن محمد بن عيسى البزي أنا محمد بن كثير أنا سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبزقون يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون النفس طعامهم الجشاء ورشحهم المسك \ قوله تعالى (ولهم فيها) في الجنان (أزواج) نساء وجوار يعني من الحور العين (مطهرة) من الغائط والبول والحيض والنفاس والبصاق والمخاط والمني والولد وكل قذر قال إبراهيم النخعي في الجنة جماع ما شئت ولا ولد وقال الحسن هن عجائزكم الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا وقيل مطهرة عن مساوئ الأخلاق (وهم فيها خالدون) دائمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها أنا أبو عمرو وعبد الواحد بن أحمد المليجي أنا أبو حامد أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف العزيزي أنا محمد بن إسماعيل البخاري أنا قتيبة بن سعيد أنا جرير عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء \ أنا عبد الواحد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا فضيل هو ابن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أول زمرة من يدخل الجنة يوم القيامة صورة وجوههم مثل صورة القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على لون أحسن الكواكب في السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ سوقهم دون لحومها ودمائها وحللها \ أنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي المروزي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الهمذاني عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها \ صحيح أخرجه محمد بن عبد الله بن محمد عن معاوية بن عمر عن أبي إسحاق عن حميد أنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني أنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي أنا عبد الله بن مسلم أنا أبو بكر الجوريدي أنا أحمد بن الفرج الحمصي أنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار أنا محمد بن المهاجر عن الضحاك المغافري عن سليمان بن موسى حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ألا هل من مشمر للجنة وإن لجنة لا خطر لها وهي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام أبد في دار سليمة وفاكهة خضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية قالوا نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها قال
57

سورة البقرة 26 27 قولوا إن شاء الله قال القوم إن شاء الله وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا يبلى ثيابهم \ وأنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي أنا الحاكم أبو الفضل الحدادي أنا أبو يزيد محمد بن يحيى أنا إسحاق الحنظلي أنا أبو معاوية أنا عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعيد عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن في الجنة لسوقا ليس فيها بيع ولا شراء إلا الصور من الرج الوالنساء فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها وإن فيها لمجتمع الحور العين ينادين بصوت لم يسمع الخلائق مثله نحن الخالدات فلا نبيد أبدا ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا ونحن الراضيات فلا
نسخط فطوبى لمن كان لنا وكنا له أو نحن له \ ورواه أبو عيسى عن هناد وأحمد بن منيع عن أبي معاوية مرفوعا وقال هذا حديث غريب أنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو عثمان سعد بن عبد الجبار البصري أنا حماد بن مسلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا \ 26 قوله تعالى (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) سبب نزول هذه الآية أن الله تعالى لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت فقال (إن الذين تدعون من دن الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) وقال (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) قالت اليهود ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة وقيل قال المشركون إنا لا نعبد إلها يذكر مثل هذه الأشياء فأنزل الله تعالى (إن الله لا يستحي) أي لا يترك ولا يمنعه الحياء أن يضرب مثلا يذكر شبها (ما بعوضة) ما صلة أي مثلا بالبعوضة وبعوضة نصب بدل عن المثل والبعوض صغار البق سميت بعوضة لأنها كانت بعض البق (فما فوقها) يعني الذباب والعنكبوت وقال أبو عبيدة
58

سورة البقرة 28 29 أي فما دونها كما يقال فلان جاهل فيقال وفوق ذلك أي وأجهل (فأما الذين آمنوا) بمحمد والقرآن (فيعلمون أنه) يعني المثل هو (الحق) الصدق (من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) أي بهذا المثل فلما حذف الألف واللام نصب على الحال والقطع ثم أجابهم فقال (يضل به كثيرا) من الكفار وذلك أنهم يكذبون فيزدادون ضلالا (ويهدي به) أي بهذا المثل (كثيرا) من المؤمنين فيصدقونه والإضلال هو الصرف عن الحق إلى الباطل وقيل هو الهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا هلك (وما يضل به إلا الفاسقين) الكافرين وأصل الفسق الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها قال الله تعالى (ففسق عن أمر ربه) أي خرج ثم وصفهم فقال 27 (الذين ينقضون) يخالفون ويتركون وأصل النقض الكسر (عهد الله) أمر الله الذي عهد إليهم يوم الميثاق بقوله (ألست بربكم) (قالوا بلى) وقيل أراد به العهد الذي أخذه على النبيين وسائر الأمم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) الآية وقيل أراد به العهد الذي عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبينوا نعته (من بعد ميثاقه) توكيده والميثاق العهد المؤكد (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) يعني الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل عليهم السلام لأنهم قالوا (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) وقال المؤمنون (لا نفرق بين أحد من رسله) وقيل أراد به الأرحام (ويفسدون في الأرض) بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن (أولئك هم الخاسرون) المغبونون ثم قال لمشركي العرب على وجه التعجب 28 (كيف تكفرون بالله) بعد نصب الدلائل ووضوح البرهان ثم ذكر الدلائل فقال (وكنتم أمواتا) نطفا في أصلاب آبائكم (فأحياكم) في الأرحام والدنيا (ثم يميتكم) عند انقضاء آجالكم (ثم يحييكم) للبعث (ثم إليه ترجعون) أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم قرأ يعقوب (ترجعون) كل القرآن بفتح الياء والتاء على تسمية الفاعل 29 قوله تعالى (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) للحي لكي تعتبروا وتستدلوا وقيل لكي تنتفعوا (ثم استوى إلى السماء) قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف أي ارتفع إلى السماء وقال ابن كيسان
59

سورة البقرة 30 32 والفراء وجماعة من النحويين أي أقبل على خلق السماء وقيل قصد لأنه خلق الأرض أولا ثم عمد إلى خلق السماء (فسواهن سبع سماوات) خلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدوع (وهو بكل شيء عليم) قرأ أبو جعفر وأبو عمرو والكسائي وقالون وهو وهي بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام زاد الكسائي ثم هو وقالون أن يمل هو 30 قوله تعالى (وإذ قال ربك) أي وقال ربك وإذ زائدة وقيل معناه واذكر إذ قال ربك وكذلك كل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وإذ وإذا حرفا توقيت إلا أن إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر قال المبرد إذا جاء إذ مع المستقبل كان معناه ماضيا كقوله تعالى (وإذ يمكر) يريد وإذ مكر وإذا جاء إذا مع الماضي كانت معناه مستقبلا كقوله (فإذا جاءت الطامة) (إذا جاء نصر الله) أي يجيء (للملائكة) جمع ملك وأصله مألك من المألكة والألوكة والألوك وهي الرسالة فقلب فقيل ملأك ثم حذفت الهمزة طلبا للخفة لكثرة استعماله ونقلت حركتها إلى اللام فقيل ملك وأراد به الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض فعبدوا دهرا طويلا في الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا فبعث الله إليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجن وهم خزان الجنان اتق لهم من الجنة رأسهم إبليس وكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علما فهبطوا إلى الأرض فطردوا الجن إلى شعوب الجبال وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة فأعطى الله إبليس الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب وقال في نفسه ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله له ولجنده (إني جاعل في الأرض خليفة) أي بدلا منكم ورافعكم إلي فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة والمراد بالخليفة ههنا آدم سماه خليفة لأنه خلف الجن أي جاء بعدهم وقيل لأنه يخلفه غيره والصحيح أنه خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) بالمعاصي (ويسفك الدماء) بغير حق أي كما فعل بنو الجان فقاسوا الشاد على الغائب وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب (ونحن نسبح بحمدك) قال الحسن نقول سبحان الله وبحمده هو صلاة الخلق وصلاة البهائم وغيرهما سوى الآدميين وعليها يرزقون أخبرنا
60

إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا زهير بن حرب أنا جينان بن هلال أنا وهيب أنا سعيد الجريري عن أبي عبد الله الجسري عن ابن الصامت عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل قال \ ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده \ وقيل نحن نصلي بأمرك قال ابن عباس كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة (ونقدس لك) أي نثني عليك بالقدس والطهارة عما لا يليق
بعظمتك وجلالك وقيل ونطهر أنفسنا لطاعتك وقيل وننزهك واللام صلة وقيل لم يكن هذا من الملائكة على طريق الاعتراض والعجب بالعمل بل على سبيل التعجب وطلب الحكمة فيه (قال) الله (إني أعلم ما لا تعلمون) من المصلحة فيه وقيل إني أعلم أن في ذريته من يطيعني ويعبدني من الأنبياء والأولياء والصلحاء وقيل إن أعلم أن فيكم من يعصيني وهو إبليس وقيل إني أعلم أنهم يذنبون وأنا أغفر لهم قرأ أهل الحجاز والبصرة (إني أعلم) بفتح الياء وكذلك كل ياء إضافة استقبلها ألف مفتوحة إلا في مواضع معدودة ويفتحون في بعض مواضع عند الألف المضمومة والمكسورة وعند غير الألف وبين القراء في تفصيله اختلاف 31 قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض وقيل لأنه كان آدم اللون وكنيته أبو محمد وأبو البشر فلما خلقه الله عز وجل علمه أسماء الأشياء وذلك أن الملائكة قالوا لما قال الله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا وإن كان غيرنا أكرم عليه فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره فأظهر الله تعالى فضله عليهم بالعلم وفيه دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلا كما ذهب إليه أهل السنة والجماعة قال ابن عباس ومجاهد وقتادة علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة وقيل اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وقال الربيع بن أنس أسماء الملائكة وقيل أسماء ذريته وقيل صنعة كل شيء قال أهل التأويل إن الله عز وجل علم آدم جميع اللغات ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة فتفرقوا في البلاد واختص كل فرقة منهم بلغة (ثم عرضهم على الملائكة) إنما قال (عرضهم) ولم يقل عرضها لأن المسميات إذا جمعت من يعقل ومن لا يعقل يكنى عنها بلفظ من يعقل كما يكنى عن الذكور والإناث بلفظ الذكور وقال مقاتل خلق الله كل شيء الحيوان والجماد ثم عرض تلك الشخوص على الملائكة فالكناية راجعة إلى الخصوص فلذلك فقال عرضهم (فقال أنبؤني) أخبروني (بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) إني لا أخلق خلقا إلا وكنتم أفضل وأعلم منه فقالت الملائكة إقرارا بالعجز 32 (قالوا سبحانك) تنزيها لك (لا علم لنا إلا ما علمتنا) معناه إنك أجل من أن نحيط بشيءمن علمك إلا ما علمتنا (إنك أنت العليم) بخلقك (الحكيم) في أمرك والحكيم له معنيان أحدهما
61

سورة البقرة 33 35 الحاكم وهو القاضي العدل والثاني المحكم للأمر كي لا يتطرق إليه الفساد وأصل الحكمة في اللغة المنع فهي تمنع صاحبها من الباطل ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها من الإعوجاج فلما ظهر عجزهم 33 (قال) الله تعالى (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) أخبرهم بأسمائهم فسمى آدم كل شيء وذكر الحكمة التي لأجلها خلق (فلما أنبأهم بأسمائهم قال) الله تعالى (ألم أقل لكم) يا ملائكتي (إني أعلم غيب السماوات والأرض) ما كان منهما وما يكون لأنه قد قال لهم (إني أعلم ما لا تعلمون) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو إني بفتح الياء وكذلك يفتحون كل ياء إضافة استقبلها ألف قطع مفتوحة إلا أحرفا معدودة ويفتح نافع وعمرو عند الألف المكسورة أيضا إلا أحرفا معدودة ويفتح نافع عند المضمومة إلا أحرفا معدودة والآخرون لا يفتحون إلا في أحرف معدودة (وأعلم ما تبدون) قال الحسن وقتادة يعني قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها (وما كنتم تكتمون) قولكم لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا قال ابن عباس هو إن إبليس مر على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه فقال لأمر ما خلق هذا ثم دخل في فيه وخرج من دبره وقال إنه خلق لا يتماسك لأنه أجوف ثم قال للملائكة الذين معه أرأيتم إن فضل هذا عليكم وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون قالوا نطيع أمر ربنا فقال إبليس في نفسه والله لئن سلطت عليه لأهلكنه ولئن سلط علي لأعصينه فقال الله تعالى (وأعلم ما تبدون) يعني ما تبديه الملائكة من الطاعة وما كنتم تكتمون يعني إبليس من المعصية 34 قوله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) قرأ أبو جعفر (للملائكة اسجدوا) بضم التاء على جوار ألف اسجدوا وكذلك قرأ (قل رب احكم بالحق) بضم الباء وضعفه النحاة جدا ونسبوه إلى الغلط فيه واختلفوا في أن هذا الخطاب مع الملائكة فقال بعضهم مع الذين كانوا سكان الأرض والأصح أنه مع جميع الملائكة لقوله تعالى (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) وقوله (اسجدوا) فيه قولان الأصح أن السجود كان لآدم على الحقيقة وتضمن معنى الطاعة لله عز وجل امتثال أمره وكان ذلك سجود تعظيم وتحية لا سجود عبادة كسجود أخوة يوسف له في قوله عز وجل (وخروا له سجدا) ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض إنما كان انحناء فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام وقيل معنى
62

قوله (اسجدوا لآدم) أي إلى آدم فكان آدم قبلة والسجود لله تعالى كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة والصلاة لله عز وجل (فسجدوا) يعني الملائكة (إلا إبليس) وكان اسمه عزازيل بالسريانية وبالعربية الحرث فلما اعصى غير اسمه وصورته فقيل إبليس لأنه أبس من رحمة الله تعالى أي يئس واختلفوا فيه فقال ابن عباس وأكثر المفسرين كان إبليس من الملائكة وقال الحسن كان من الجن ولم يكن من الملائكة وقال الحسن كان من الجن ولم يكن من الملائكة لقوله تعالى (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة والأول أصح لأن خطاب السجود كان مع الملائكة وقوله (كان من الجن) أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة وقال سعيد بن جبير من الذين يعملون في الجنة وقال قوم من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلي أهل الجنة وقيل إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار سموا جنا لاستتارهم عن الأعين وإبليس كان منهم والدليل عليه قوله تعالى (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) وهو قولهم الملائكة بنات الله ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية قوله (أبى) أي امتنع فلم يسجد (واستكبر) أي تكبر عن السجود لآدم (وكان) أي وصار (من الكافرين) وقال أكثر المفسرين وكان في سابق علم الله من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة أنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي أنا ابن الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أنا جرير ووكيع وأبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فأطاع فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار \ قوله تعالى 35 (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) وذلك أن آدم لم يكن في الجنة من يجانسه فنام نومة فخلق الله زوجته حواء من قصيراء شقه الأيسر وسميت حواء لأنها خلقت من حي خلقها الله عز وجل من غير أن يحس به آدم ولا وجد له ألما ولو وجد لما عطف رجل على امرأة قط فلما هب من نومه رآها جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله فقال لها من أنت قالت زوجتك خلقني الل لك تسكن إلي وأسكن إليك (وكلا منها رغدا) واسعا كثيرا (حيث شئتما) كيف شئتما وأين شئتما (ولا
تقربا هذه الشجرة) يعني بالأكل قال بعض العلماء وقع النهي على جنس من الشجر وقال آخرون على شجرة مخصوصة واختلفوا في تلك الشجرة قال ابن عباس ومحمد بن كعب ومقاتل هي السنبلة وقال ابن مسعود هي شجرة العنب وقال ابن جريج شجرة التين وقال قتادة شجرة العلم وفيها من كل شيء وقال علي شجرة الكافور (فتكونا) فتصيرا (من الظالمين) أي الضاربين بأنفسكما بالمعصية وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه
63

سورة البقرة 36 38 36 (فأزلهما) استزل (الشيطان) آدم وحواء أي دعاهما إلى الزلة وقرأ حمزة (فأزالهما) أي نحاهما الشيطان فيعال من شطن أي بعد سمي به لبعده عن الخير وعن الرحمة (عنها) عن الجنة (فأخرجهما مما كانا فيه) من النعيم وذلك أن إبليس أراد أن يدخل ليوسوس إلى آدم وحواء فمنعته الخزنة فأتى الحية وكانت صديقة لإبليس وكانت من أحسن الدواب لها أربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزان الجنة فسألها إبليس أن تدخله في فمها فأدخلته ومرت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة وقال الحسن إنما رآهما على باب الجنة لأنهما كانا يخرجنا منها وقد كان آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم قال لو أن أخلد فاغتنم ذلك منه الشيطان فأتاه الشيطان من قبل الخلد فلما دخل الجنة وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما وهو أول من ناح فقالا له ما يبكيك قال أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة فوقع ذلك في أنفسهما فاغتما ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد فأبى أن يقبل منه وقاسمهما بالله أنه لهما لمن الناصحين فاغترا وما ظنا أن أحدا يحلف بالله كاذبا فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى سكر قادته إليها فأكل قال إبراهيم بن أدهم أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا قال ابن عباس وقتادة قال الله عز وجل لآدم ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة قال بلى يا رب وعزتك ولكن ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا نكدا فأهبط من الجنة وكانا يأكلان فيها رغدا فعلم صعنة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم درس ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ ما شاء الله قال سعيد بن جبير عن ابن عباس إن آدم لما أكل من الشجرة التي نهي عنها قال الله عز وجل يا آدم ما حملك على ما صنعت قال يا رب زينته لي حواء قال فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها ودميتها في الشهر مرتين فرنت حواء عند ذلك فقيل عليك الرنة وعلى بناتك فلما أكلا منها فتت عنهما ثيابهما وبدت سوآتهما وأخرجا من الجنة فذلك قوله تعالى (وقلنا اهبطوا) أنزلوا إلى الأرض يعني آدم وحواء وإبليس والحية فهبط آدم بسر نديب من أرض الهند على جبل يقال له نود وحواء بجدة وإبليس بالأبلة والحية بأصفهان (بعضكم لبعض عدو) أراد العداوة التي بين ذرية آدم والحية وبين المؤمنين من ذرية آدم وبين إبليس قال الله تعالى (إن الشيطان لكما عدو مبين) أنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسن بشران أنا إسماعيل بن محمد
64

الصفار أنا أحمد بن محمد بن الصفار حدثنا منصور الرمادي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال لا أعلمه إلا رفع الحديث \ أنه كان يأمر بقتل الحيات وقال من تركهن خشية أو مخافة ثائر فليس منا \ وزاد موسى بن مسلم عن عكرمة في الحديث \ ما سالمناهن منذ حاربناهن \ وروي \ أنه نهى عن ذوات البيوت \ وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم \ أن بالمدينة جنا قد أسلموا فإن رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان \ قوله تعالى (ولكم في الأرض مستقر) موضع قرار (ومتاع) بلغة ومستمتع (إلى حين) إلى انقضاء آجالكم 37 (فتلقى) تلقى والتلقي هو قبول عن فطنة وفهم وقيل هو التعلم (آدم من ربه كلمات) قراءة العامة آدم برفع الميم وكلمات بخفض التاء وقرأ ابن كثير آدم بالنصب كلمات برفع التاء يعني جاءت الكلمات آدم من ربه وكانت سبب توبته واختلفوا في تلك الكلمات قال سعبد بن جبير ومجاهد والحسن هي قوله (ربنا ظلمنا أنفسنا) الآية وقال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي هو قوله لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين وقال عبيد بن عمير هي أن آدم قال يا رب أرأيت ما أتيت أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني قال الله تعالى لا بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك قال يا رب فكما قدرته قبل أن تخلقني فاغفر لي وقيل هي ثلاثة أشياء الحياء والدعاء والبكاء قال ابن عباس بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما ولم يقرب آدم حواء مائة سنة وروى المسعودي عن يونس بن خطاب وعلقمة بن مرثد قالا لو أن دموع جميع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة قال شهر بن حوشب بلغني أن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى قوله (فتاب عليه) فتجاوز عنه (إنه هو التواب) يقبل توبة عباده (الرحيم) بخلقه 38 قوله تعالى (قلنا اهبطوا منها جميعا) يعني هؤلاء الأربعة وقيل الهبوط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا والهبوط الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض (فإما يأتينكم) أي فإن يأتكم يا
65

سورة البقرة 39 44 ذرية آدم (مني هدى) أي رشد وبيان شريعة وقيل كتاب ورسول (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) قرأ يعقوب فلا خوف بالفتح في كل القرى ن والآخرون بالضم والتنوين (فلا خوف عليهم) فيما يستقبلهم (ولا هم يحزنون) على ما خلقوا وقيل لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة 39 (والذين كفروا) جحدوا (وكذبوا بآياتنا) بالقرآن (أولئك أصحاب النار) يوم القيامة (هم فيها خالدون) لا يخرجون منها ولا يموتون فيها 40 قوله تعالى (يا بني إسرائيل) يا أولاد يعقوب ومعنى إسرائيل عبد الله وإيل هو الله تعالى وقيل صفوة الله وقرأ أبو جعفر إسرائيل بغير همزة (اذكروا) احفظوا والذكر يكون بالقلب ويكون باللسان وقيل أراد به الشكر وذكر بلفظ الذكر لأن في الشكر ذكرا وفي الكفران نسيانا قال الحسن ذكر النعمة شكرها (نعمتي) أي نعمي لفظها واحد ومعناها جمع كقوله تعالى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) (التي أنعمت عليكم) أي على أجدادكم وأسلافكم قال قتادة هي النعم التي خصت بها بنو إسرائيل فلق البحر وإنجاؤهم من فرعون باغراقه وتظليل الغمام عليهم في التيه وإنزال المن والسلوى وإنزال التوراة في نعم كثيرة لا تحصى وقال غيره هي جميع النعم التي لله عز وجل على عباده (
وأوفوا بعهدي) بامتثال أمري (أوف بعهدكم) بالقبول والثواب قال قتادة ومجاهد أراد بهذا العهد ما ذكر في سورة المائدة (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم حفظ اثني عشر نقيبا) إلى أن قال (لأكفرن عنكم سيئاتكم) فهذا قوله (أوف بعهدكم) وقال الحسن هو قوله (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة) فهو شريعة التوراة وقال مقاتل هو قوله (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) وقال الكلبي عهد الله إلى بني إسرائيل على لسان موسى إني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا فمن اتبعه وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين وهو قوله (وإذ أخذ
66

الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس) يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم (وإياي فارهبون) فخافوني في نقض العهد وأثبت يعقوب الياآت المحذوفة في الخط مثل فارهبون فاتقون واخشون والآخرون يحذفونها على الخط 41 (وآمنوا بما أنزلت) يعني القرآن (مصدقا لما معكم) أي موافقا لما معكم من التوراة في التوحيد والنبوة والأخبار ونعت النبي صلى الله عليه وسلم نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه من علماء اليهود ورؤسائهم (ولا تكونوا أول كافر به) أي بالقرآن يريد من أهل الكتاب لأن قريشا كفرت قبل اليهود بمكة معناه ولا تكونوا أول من كفر بالقرآن فتتابعكم اليهود على ذلك فتبوؤا بآثامكم وآثامهم (ولا تشتروا) أي ولا تستبدلوا (بآياتي) ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم (ثمنا قليلا) أي عوضا يسيرا من الدنيا وذلك أن رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مأكلة يصيبونها من سفلتهم وجهالهم يأخذون كل عام منهم شيئا معلوما من زروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا أنهم إن بينوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعوه أن تفوتهم تلك المأكلة فغيروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة (وإياي فاتقون) فاخشوني 42 (ولا تلبسوا الحق بالباطل) أي لا تخلطوا يقال لبس الثوب يلبس لبسا ولبس عليه الأمر يلبس لبسا أي خلط يقال لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم والأكثرون على أنه أراد لا تلبسوا الإسلام باليهودية والنصرانية وقال مقاتل إن اليهود أقروا ببعض صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضا ليصدقوا في ذلك فقال ولا تلبسوا الحق الذي تغيرون بالباطل يعني بما تكتمونه فالحق بيانهم والباطل كتمانهم (وتكتموا الحق) أي لا تكتموه يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم (وأنتم تعلمون) أنه نبي مرسل 43 (وأقيموا الصلاة) يعني الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها (وآتوا الزكاة) أدوا زكاة أموالكم المفروضة فهي مأخوذة من زكاة الزرع إذا نما وكثر وقيل من تزكى أي تطهر وكلا المعنيين موجودان في الزكاة لأن فيها تطهير أو تنمية للمال (واركعوا مع الراكعين) أي صلوا مع المصلين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وذكر بلفظ الركوع لأن الركوع ركن من أركان الصلاة ولأن صلاة اليهود لم يكن فيها ركوع وكأنه قال صلوا صلاة ذات ركوع قيل وإعادته بعد قوله (وأقيموا الصلاة) لهذا أي صلوا مع الذين في صلواتهم ركوع فالأول مطلق في حق الكل وهذا في حق أقوام مخصوصين وقيل هذا حث على إقام الصلاة جماعة كأنه قال لهم صلوا مع المصلين الذين سبقوكم بالإيمان 44 أتأمرون الناس بالبر) أي بالطاعة نزلت في علماء اليهود وذلك أن الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المؤمنين إذا سأله عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم أثبت على دينه فإن أمره حق وقوله صدق وقيل هو خطاب لأخبارهم حيث أمروا أتباعهم بالتمسك بالتوراة ثم خالفوا وغيروا نعت محمد صلى الله عليه وسلم (وتنسون
67

سورة البقرة 45 49 أنفسكم) أي تتركون أنفسكم فلا تتبعونه (وأنتم تتلون الكتاب) تقرؤن التوراة فيها نعته وصفته (أفلا تعقلون) أنه حق فتتبعون والعقل مأخوذ من عقال الدابة وهو ما يشد به ركبة البعير فيمنعه عن الشرود فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والجحود أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو عمرو بكر بن محمد المزني أنا أبو بكر محمد بن عبد الله حفيد العباس بن حمزة أنا الحسين بن الفضل البجلي أنا عفان أنا حماد بن سلمة أنا علي بن زيد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب \ أخبرنا عبد الواحد الميلحي أنا أحمد عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا علي بن عبد الله أنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل قال قال أسامة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في الار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه \ وقال شعبة عن الأعمش فيطحن بها كما يطحن الحمار برحاه 45 (واستعينوا) على ما يستقبلكم من أنواع البلاء وقيل على طلب الآخرة (بالصبر والصلاة) على تمحيض محو الذنوب أراد حبس النفس عن المعاصي وقيل أراد بالصبر الصبر على أداء الفرائض وقال مجاهد الصبر الصوم ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر وذلك لأن الصوم يزهده في الدنيا والصلاة ترغبه في الآخرة وقيل الواو بمعنى على أي واستعينوا بالصبر على الصلاة كما قال الله تعالى (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) وإنها) ولم يقل وإنهما رد الكناية إلى كل واحد منهما أي وإن كل خصلة منهما كما قال (كلتا الجنتين آتت أكلها) أي أكل كل واحد منهما وقيل معناه واستعينوا بالصبر وإنه لكبير وبالصلاة وإنها لكبيرة فحذف أحدهما اختصارا وقال المورج رد الكناية إلى الفضة لأنها أعم وقيل رد الكناية إلى الصلاة لأن الصبر داخل فيها كما قال الله
68

تعالى (والله ورسوله أحق أن يرضوه) ولم يقل يرضوهما لأن رضى الرسول داخل في رضى الله عز وجل وقال الحسين بن الفضل رد الكناية إلى الاستعانة (لكبيرة) أي لثقيلة (إلا على الخاشعين) يعني المؤمنين وقال الحسن الخائفين وقيل المطيعين وقال مقاتل بن حيان المتواضعين وأصل الخشوع السكون قال الله تعالى (وخشعت الأصوات للرحمن) فالخاشع ساكن إلى طاعة الله تعالى 46 (الذين يظنون) يستيقنون فالظن من الأضداد يكون شكا ويقينا كالرجاء يكون أمنا وخوفا (أنهم ملاقوا) معاينوا (ربهم) في الآخرة وهو رؤية الله تعالى وقيل المراد من اللقاء الصيرورة إليه (وإنهم إليه راجعون) فيجزيهم بأعمالهم 47 (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين) أي عالمي زمانكم وذلك التفضيل وإن كان في حق الآباء ولكن يحصل به الشرف في حق الأبناء 48 (واتقوا يوما) واخشوا عقاب يوم (لا تجزي نفس) لا تقضي نفس (عن نفس شيئا) أي حقا لزمها وقيل لا تغني وقيل لا تكفي شيئا من الشدائد (ولا تقبل منها شفاعة) قرأ ابن كثير وأبو
عمرو ويعقوب بالتاء لتأنيث الشفاعة وقرأ الباقون بالياء لأن الشفع والشفاعة بمعنى واحد كالوعظ والموعظة فالتذكير على المعنى والتأنيث على اللفظ كقوله تعالى (قد جاءتكم موعظة من ربكم) وقال في موضع آخر (فمن جاءه موعظة من ربه) أي لا تقبل منها شفاعة إذا كانت كافرة (ولا يؤخذ منها عدل) أي فداء وسمي به لأنه مثل المعدي والعدل والعدل المثل (ولا هم ينصرون) يمنعون من عذاب الله 49 (وإذ نجيناكم) أي أسلافكم وأجدادكم فاعتدها منة عليهم لأنهم نجوا بنجاتهم (من آل فرعون) أتباعه وأهل دينه وفرعون هو الوليد بن مصعب بن الريان وكان من القبط العماليق وعمر أكثر من أربعمائة سنة (يسومونكم) يكلفونكم ويذيقونكم (سوء العذاب) أشد العذاب وأسوأه وقيل يصرفونكم في العذاب مرة هكذا كالإبل السائمة في البرية وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في الأعمال فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يخدمونه ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية قال وهب كانوا أصنافا في أعمال فرعون فذوو القوة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها وطائفة ينقلون الحجارة وطائفة منهم يضربون اللبن ويطبخون الآخر وطائفة نجارون وحدادون والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته غلت يمينه إلى عنقه شهرا والنساء يغزلن الكتان وينسجن وقيل تفسير قوله (يسومونكم سوء العذاب) ما بعده وهو قوله تعالى (يذبحون أبناءكم) فهو مذكور على وجه البدل من قوله (يسومونكم سوء
69

سورة البقرة 50 العذاب) (ويستحيون نساءكم) يتركونهن أحياء وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر وأحرقت كل قبطي فيها ولم يتعرض لبني إسرائيل فهاله ذلك وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا يولد ولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن لا يسقط على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتل ولا جارية إلا تركت ووكل بالقوابل فكن يفعلن ذلك حتى قيل إنه قتل في طلب موسى عليه السلام اثني عشر ألف صبي وقال هب بلغني أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعين ألف وليد ثم أسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا إن الموت قد وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) قيل البلاء المحنة أي في سومهم إياكم سوء العذاب محنة عظيمة وقيل البلاء النعمة أي في إنجائي إياكم منهم نعمة عظيمة فالبلاء يكون بمعنى النعمة وبمعنى الشدة فالله تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر وعلى الشدة بالصبر قال الله تعالى (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) 50 (وإذ فرقنا بكم البحر) قيل معناه فرقنا لكم وقيل فرقنا البحر بدخولكم إياه وسمي البحر بحرا لاتساعه ومنه قيل للفرس بحر إذا اتسع في جريه وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يسير ببني إسرائيل من مصر ليلا فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح وأخرج الله تعالى كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إليهم وكل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط حتى رجع كل إلى أبيه وألقى الله الموت على القبط فمات كل بكر لهم فاشتغلوا بدفنهم حتى أصبحوا حتى طلعت الشمس وخرج موسى عليه السلام في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يعدون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانا ما بين رجل وامرأة وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال كان أصحاب موسى ستمائة ألف وسبعين ألفا وعن عمرو بن ميمون قال كانوا ستمائة ألف فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبون فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد علينا الطريق فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا فقام موسى ينادي أنشد الله كل من يعلم أن موضع قبر يوسف عليه السلام ألا أخبرني به ومن لم يعلم به فصمت أذناه عن سماع قولي وكان يمر بين الرجلين ينادي ولا يسمعان صوته حتى سمعته عجوز لهم فقالت أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك فأبى عليها وقال حتى أسأل ربي فأمره الله تعالى بإيتائها
70

سؤالها فقالت إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر هذا في الدنيا وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة من الجنة إلا نزلتها معك قال نعم قالت إنه في جوف الماء في النيل فادع الله تعالى حتى يحسر عنه الماء فدعا الله تعالى فحسر عنه الماء ودعا أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف عليه السلام فحفر موسى عليه السلام ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من مرمر وحمله حتى دفنه بالشام ففتح لهم الطريق فساروا وموسى عليه السلام على ساقتهم وهارون على مقدمتهم وندر بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الديك فوالله ما صاح ديك تلك الليلة فخرج فرعون في طلب بني إسرائيل وعلى مقدمة عسكره هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف وكان فيهم سبعون ألفا من دهم الخيل سوى سائر الشيات وقال محمد بن كعب رضي الله عنه كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشيات وكان فرعون في الدهم وقيل كان فرعون في سبعة آلاف ألف وكان بين يديه مائة ألف ناشب ومائة ألف أصحاب حراب ومائة ألف أصحاب الأعمدة فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر أو لماء في غاية الزيادة ونظروا فإذا هم بفرعون حين أشرقت الشمس فبقوا متحيرين فقالوا يا موسى كيف نصنع وأين ما وعدتنا هذا فرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا والبحر أمامنا إن دخلناه غرقنا قال الله تعالى (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال موسى كلا إن معي ربي سيهدين) فأوحى الله إليه (أن اضرب بعصاك البحر) فضربه فلم يطعه فأوحى إليه أن كنه فضربه وقال انفلق يا أبا خالد بإذن الله تعالى (فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) وظهر فيه اثنا عشر طريقا لكل سبط طريق وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبسا فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضا فخافوا وقال كل سبط قد قتل إخواننا فأوحى الله تعالى إلى جبال الماء أن تشبكي فصار الماء شبطات كالطبقات يرى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين فذلك قوله تعالى (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم) من آل فرعون والغرق (وأغرقنا آل فرعون) وذلك أن فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منفلقا قال لقومه انظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا مني ادخلوا البحر فهاب قومه أن يدخلوه وقيل قالوا له إن كنت ربا فادخل البحر كما دخل موسى وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل
فرعون أنثى فجاء جبريل على فرس أنثى وديق فتقدمهم وخاض البحر فلما شم أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر في أثرها وهم لا يرونه ولم يملك فرعون من أمره شيئا وهو لا يرى فرس جبريل واقتحمت الخيول خلفه في البحر وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يسوقهم حتى لا تشذ رجل منهم ويقول لهم الحقوا بأصحابكم حتى خاضروا كلهم البحر وخاض جبريل من البحر وخرج ميكائيل من البحر وهم أولهم بالخروج فأمر الله تعالى البحر أن يأخذهم فالتطم وأغرقهم أجمعين وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ وهو على طرف بحر من بحر فارس قال قتادة بحر من
71

سورة البقرة 51 54 وراء مصر يقال إساف وذلك بمرأى من بني إسرائيل فذلك قوله تعالى (وأنتم تنظرون) إلى مصارعهم وقيل إلى إهلاكهم 51 (وإذ واعدنا) هو من المفاعلة التي تكون من الواحد كقولهم عافاك الله وعاقبت اللص وطارقت النعل وقال الزجاج كان من الله الأمر ومن موسى القبول فلذلك ذكر بلفظ المواعدة وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة (وإذ وعدنا) من الوعد (موسى) اسم عبري عرب وهو بالعبرانية الماء والشجر سمي به لأنه أخذ من بين الماء والشجر ثم قلبت الشين المعجمة سينا في العربية (أربعين ليلة) أي انقضاءها ثلاثون من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة وقرن بالليل دون النهار لأن شهور العرب وضعت على سير القمر والهلال إنما يهل بالليل وقيل لأن الظلمة أقدم من الضوء وخلق الليل قبل النهار قال الله تعالى (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) وذلك أن بني إسرائيل لما أمنوا من عدوهم ودخلوا مصر لم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليهما فوعد الله موسى أن ينزل عليهم التوراة فقال موسى لقومه إني ذاهب لميقات ربكم آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون وواعدهم أربعين ليلة ثلاثين من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة واستخلف عليهم أخاه هارون فلما أتى الوعد جاء جبريل على فرس يقال له فرس الحياة لا يصيب شيئا إلا حيي ليذهب بموسى إلى ربه فلما رآه السامري وكان رجلا صائغا من أهل باجرمي واسمه ميخا وقال سعيد بن جبير كان من أهل كرمان وقال ابن عباس اسمه موسى بن ظفر وقال قتادة كان من بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ورأى موضع قدم الفرس تخضر من ذلك وكان منافقا أظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر فلما رأى جبرائيل على ذلك الفرس علم أن لهذا شأنا فأخذ قبضة من تربة حافر فرس جبرائيل عليه السلام قال عكرمة ألقي في روعه أنه إذا ألقي في شيء غيره حيي وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا حليا كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعلة عرس لهم فأهلك الله فرعون وبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل فلما فصل موسى قال السامري لبني إسرائيل إن الحلي التي استعرتموها من قوم فرعون غنيمة لا تحل لكم فاحفروا حفرة وادفنوها فيها حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه وقال السدي إن هارون عليه السلام أمرهم أن يلقوها في حفيرة حتى يرجع موسى ففعلوا فلما اجتمعت الحلي صاغها السامري
72

عجلا في ثلاثة أيام ثم ألقى فيها القبضة التي أخذها من تراب أثر فرس جبرائيل عليه السلام فخرج عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر كأحسن ما يكون فخار خورة وقال السدي كان يخور ويمشي فقال السامري هذا إلهكم وإله موسى فنسي أي فتركه ههنا وخرج يطلبه وكانت بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد فعدوا اليوم من الليلة يومين فلما مضى عشرون يوما ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة وقيل كان موسى قد وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة فكانت فتنتهم في تلك العشرة فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى ظنوا أنه قد مات ورأوا العجل وسمعوا قول السامري فعكف ثمانية آلاف رجل منهم على العجب يعبدونه وقيل كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل وهذا أصح وقال الحسن كلهم عبدوه إلا هارون وحده فذلك قوله تعالى (ثم اتخذتم العجل) أي إلها (من بعده) أظهر ابن كثير وحفص الذال من أخذت واتخذت والآخرون يدغمونها (وأنتم ظالمون) ضارون لأنفسكم بالمعصية واضعون العبادة في غير موضعها 52 (ثم عفونا عنكم) محونا ذنوبكم) (من بعد ذلك) من عبادتكم العجل (لعلكم تشكرون) لكي تشكروا عفوي عنكم وصنيعي إليكم قيل الشكر هو الطاعة بجميع الجوارح في السر والعلانية قال الحسن شكر النعمة ذكرها قال الله تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث) قال الفضيل شكر كل نعمة أن لا يعصى الله بعد تلك النعمة وقيل حقيقة الشكر العجز عن الشكر حكي أن موسى عليه السلام قال إلهي أنعمت علي النعم السوابغ وأمرتني بالشكر وإنما شكري إياك نعمة منك قال الله تعالى يا موسى تعلمت العلم الذي لا يفوقه شيء من علم حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهو مني وقال داود سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة قوله تعالى 53 (وإذ آتينا موسى الكتاب) يعني التوراة (والفرقان) قال مجاهد هو التوراة أيضا ذكرها باسمين وقال الكسائي الفرقان نعت الكتاب والواو زائدة يعني الكتاب الفرقان أي المفرق بين الحلال والحرام وقال يمان بن ريان أراد بالفرقان انفراق البحر كما قال (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم) (لعلكم تهتدون) بالتوراة 54 (وإذا قال موسى لقومه) الذين عبدوا العجل (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم) ضررتم بأنفسكم (باتخاذكم العجل) إلها قالوا فأي شيء نصنع قال (فتوبوا) فارجعوا (إلى بارئكم) خالقكم قالوا كيف نتوب قال (فاقتلوا أنفسكم) يعني ليقتل البريء منكم المجرم (ذلكم) أي القتل (خير لكم عند بارئكم) فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا نصبر لأمر الله فجلسوا بالأفنية محتبين وقيل لهم من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته واصلت القوم عليهم الخناجر وكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فلم
73

سورة البقرة 56 57 يمكنهم المضي لأمر الله تعالى قالوا يا موسى كيف نفعل فأرسل الله تعالى عليهم ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا فكانوا يقتلونهم إلى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون عليهما السلام وبكيا وتضرعا وقالا يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فكشف الله تعالى السحابة وأمرهم أن يكفوا عن القتل فكشف عن ألوف من القتلى يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال كان عدد القتلى سبعين ألفا فاشتد ذلك على موسى فأوحى الله تعالى إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة فكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي مكفر عنه ذنوبه فذلك قوله تعالى (فتاب عليكم) أي ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم فتجاوز عنكم (إنه هو التواب) القابل للتوبة (الرحيم) بهم 55 قوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) وذلك أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار موسى سبعين رجلا من قومه من خيارهم وقال لهم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ففعلوا فخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه فقالوا لموسى اطلب لنا أن نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام وتغشى الجبل كله فدخل في الغمام وقال للقوم
ادنوا فدنا القوم حتى دخلوا في الغمام وخروا سجدا وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إلي فضرب دونهم الحجاب وسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه وأسمعهم الله إني أنا الله لا إله إلا أنا ذوبكة أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم فقالوا له لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة معاينة وذلك أن العرب تجعل العلم بالقلب رؤية فقال جهرة ليعلم أن المراد منه العيان (فأخذتكم الصاعقة) أي الموت وقيل نار جاءت من السماء فأحرقتهم (وأنتم تنظرون) أي ينظر بعضكم لبعض حين أخذكم الموت وقيل تعلمون والنظر يكون بمعنى العلم فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرع ويقول ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد هلك خيارهم لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلا رجلا بعدما ماتوا يوما وليلة ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون فذلك قوله تعالى
74

(ثم بعثناكم) أحييناكم والبعث إثارة الشيء عن محله يقال بعثت البعير وبعثت النائم فانبعث (من بعد موتكم) قال قتادة أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة (لعلكم تشكرون) 57 (وظللنا عليكم الغمام) في التيه تقيكم حر الشمس والغمام من الغم وأصله التغطية والستر سمي السحاب غماما لأنه يغطي وجه الشمس وذلك أنه لم يكن لهم في التيه كن يسترهم فشكوا إلى موسى فأرسل الله تعالى غماما أبيض رقيقا أطيب من غمام المطر وجعل لهم عمودا من نور يضيء لهم الليل إذ لم يكن لهم قمر (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) أي في التيه والأكثرون عن أن المن هو الترنجبين وقال مجاهد هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد وقال وهب هو الخبز الرقاق قال الزجاج جملة المن من يمن الله به من غير تعب وقال مجاهد جملة المن من يمن الله به من غير تعب أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو نعيم أنا سفيان عن عبد الملك هو ابن عمير عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد قال قال النبي صلى الله عليه وسلم \ الكمأة من المن وماؤها شفاء للعي \ قالوا فكان هذا المن كل ليلة يقع على أشجارهم مثل الثلج لكل إنسان منهم صاع فقالوا يا موسى قتلنا هذا المن بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم فأنزل الله تعالى عليهم السلوى وهو طائر يشبه السماني وقيل هو السماني بعينه بعثه الله سحابة فمطرت السماي في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض وقال المؤرج السلوى العسل فكان الله ينزل عليهم المن والسلوى كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه يوما وليلة وإذا كان يوم الجمعة اخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت (كلوا) أي وقلنا لهم كلوا (من طيبات) حلالات (ما رزقناكم) ولا تدخروا الغد ففعلوا فقطع الله ذلك عنهم ودود وفسد ما ادخروا فقال الله تعالى (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي وما بخسوا بحقنا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون باستيجابهم عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة في الدنيا ولا حساب في العقبى أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر \
75

سورة البقرة 58 60 58 قوله تعالى (وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية) سميت القرية قرية لأنها تجمع أهلها ومنه المقراة للحوض لأنها تجمع الماء قال ابن عباس رضي الله عنهما هي أريحاء وهي قرية الجبارين كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عنق وقيل بلقاء وقال مجاهد بيت المقدس وقال الضحاك هي الرملة والأردة وفلسطين وتدمر وقال مقاتل إيليا وقال ابن كيسان الشام (فكلوا منها حيث شئتم رغدا) موسعا عليكم (وادخلوا الباب) يعني بابا من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب (سجدا) أي ركعا خاضعين منحنين وقال وهب فإذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله تعالى (وقولوا حطة) قال قتادة حط عنا خطايانا أمروا بالاستغفار وقال ابن عباس لا إله إلا الله لأنها تحط الذنوب ورفعها على تقدير قولوا مسألتنا حطة (نغفر لكم خطاياكم) من الغفر وهو الستر فالمغفرة تستر الذنوب وقرأ نافع بالياء وضمها وفتح الفاء وقرأها ابن عامر بالتاء وضمها وفتح الفاء وفي الأعراف قرأ جميعا ويعقوب بالتاء وضمها وقرأ الآخرون فيهما بنصب النون وكسر الفاء (وسنزيد المحسنين) ثوابا من فضلنا (فبدل) فغير (الذين ظلموا) أنفسهم وقالوا (قولا غير الذي قيل لهم) وذلك أنهم بدلوا قول الحطة بالحنطة فقالوا بلسانهم حطانا سمقاثا أي حنطة حمراء استخفافا بأمر الله تعالى وقال مجاهد طوطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فأبوا أن يدخلوها سجدا فدخلوا يزحفون على أستاههم مخالفة في الفعل كما بدلوا القول وقالوا قولا غير الذي قيل لهم أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إسحق بن نصر أنا عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاهم وقالوا حبة في شعرة \ (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) قيل أرسل الله عليهم طاعونا فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا (بما كانوا يفسقون) يعصون ويخرجون من أمر الله تعالى 60 (وإذ استسقى موسى) طلب السقيا (لقومه) وذلك أنهم عطشوا في التيه فسألوا موسى أن
76

سورة البقرة 61 يستسقي لهم ففعل فأوحى إليه كما قال (فقلنا اضرب بعصاك) وكانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا واسمها عليق حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب عليه السلام فأعطاها موسى عليه السلام قال مقاتل اسم العصا بنعته قوله تعالى (الحجر) اختلفوا فيه قال وهب لم يكن حجرا معينا بل كان موسى يضرب أي حجر كان من عرض الحجارة فينفجر عيونا لكل سبط عين وكانوا اثني عشر سبطا ثم تسيل كل عين في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم وقال الآخرون كان حجرا معينا بدليل أنه عرفه بالألف واللام وقال ابن عباس كان حجرا خفيفا مربعا على قدر رأس الرجل كان يضعه في مخلاته فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه وقال عطاء كان للحجر أربعة وجوه لكل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين وقيل كان الحجر رخاما وقيل كان من الكدان فيه اثنتا عشرة حفرة ينبع من كل حفرة عين ماء عذب فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء وكان يسقي كل يوم ستمائة ألف وقال سعيد بن جبير هو الحجر الذي وضع موسى ثوبه عليه ليغتسل ففر بثوبه ومر به على ملأ من بني إسرائيل حين رموه بالأدرة فلما وقف أتاه جبرائيل
فقال إن الله تعالى يقول ارفع هذا الحجر فلي فيه قدرة ولك فيه معجزة فرفعه ووضعه في مخلاته قال عطاء كان يضربه موسى اثنتي عشرة ضربة فيظهر على موضع كل ضربه مثل ثدي المرأة فيعرق تفجر الأنهار ثم يسيل وأكثر أهل التفسير يقولون انبجست وانفجرت واحد وقال أبو عمرو بن العلاء انبجست عرقت وانفجرت أي سالت فذلك قوله تعالى (فانفجرت) أي فضرب فانفجرت أي سالت (منه اثنتا عشرة عينا) على عدد الأسباط (قد علم كل أناس مشربهم) موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره في شربه (كلوا واشربوا من رزق الله) أي وقلنا لهم كلوا من المن والسلوى واشربوا من الماء فهذا كله من رزق الله يأتيكم بلا مشقة (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) والعثي أشد الفساد يقال عثى يعثي عثيا وعثا يعثوا عثوا وعاث يعيث عيثا 61 (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) وذلك أنهم أجمعوا وسئموا من أكل المن والسلوى وإنما قال على طعام واحد وهما اثنان لأن العرب تعبر عن الاثنين بلفظ الواحد كما تعبر عن الواحد
77

سورة البقرة 62 63 بلفظ الاثنين كقوله تعالى (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإنما يخرج من المالح دون العذب وقيل كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فكانا كطعام واحد وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كانوا يعجنون المن بالسلوى فيصيران واحدا (فادع لنا) فسل لأجلنا (ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها) قال ابن عباس الفوم الخبز وقال عطاء الحنطة وقال القتيبي رحمه الله تعالى الحبوب التي تؤكل كلها وقال الكلبي الثوم (وعدسها وبصلها) قال لهم موسى عليه السلام (أتستبدلون الذي هو أدنى) أخس وأردأ (بالذي هو خير) أشرف وأفضل وجعل الحنطة أدنى في القيمة وإن كانت هي خيرا من المن والسلوى أو أراد أنها أسهل وجودا على العادة ويجوز أن يكون الخير راجعا إلى اختيار الله لهم واختيارهم لأنفسهم (اهبطوا مصرا) يعني فإن أبيتم إلا ذلك فانزلوا مصرا من الأمصار وقال الضحاك هو مصر موسى وفرعون والأول أصح لأنه لو أراده لم يصرفه (فإن لكم ما سألتم) من نبات الأرض (وضربت عليهم) جعلت عليهم وألزموا (الذلة) الذل والهوان قيل بالجزية وقال عطاء بن السائب هو الكستيج والزنار وزي اليهودية (والمسكنة) الفقر سمي الفقير مسكينا لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة (فترى اليهود وإن كانوا مياسير كأنهم فقراء وقيل الذلة هي فقر القلب فلا ترى في أهل الملل أذل وأحرص على المال من اليهود (وباؤا بغضب من الله) رجعوا ولا يقال باء إلا بالشر وقال أبو عبيدة احتملوا وأقروا به ومنه الدعاء أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي أي أقر (ذلك) أي الغضب (بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) بصفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم في التوراة ويكفر بالإنجيل والقرآن (ويقتلون النبيين) تفرد نافع بهمز النبي وبابه فيكون معناه المخبر من أنبأ ينبئ والقراءة المعروفة ترك الهمزة وله وجهان أحدهما هو أيضا من الأنباء تركت الهمزة فيه تخفيفا لكثرة الاستعمال والثاني هو بمعنى الرفيع مأخوذ من النبوة وهي المكان المرتفع فعلى هذا يكون النبيين على الأصل (بغير الحق) أي بلا جرم فإن قيل فلم قال بغير الحق وقتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق قيل ذكره وصفا للقتل والقتل تارة يوصف بالحق وتارة يوصف بغير الحق وهو مثل قوله تعالى (قال رب احكم بالحق) ذكر الحق وصف للحكم لا أن حكمه ينقسم إلى الجور والحق ويروى أن اليهود قتلت سبعين نبيا في أول النهار وقامت إلى سوق بقلها في آخر النهار (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي 62 (إن الذين آمنوا والذين هادوا) يعني اليهود سموا به لقولهم إنا هدنا إليك أي ملنا إليك
78

وقيل لأنهم هادوا أي تابوا عن عبادة العجل وقيل لأنهم مالوا عن دين الإسلام وعن دين موسى عليه السلام وقال أبو عمرو بن العلاء لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ويقولون إن السماوات والأرض تحركت حين أتى الله موسى التوراة (والنصارى) سموا به لقول الحواريين نحن أنصار الله وقال مقاتل لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة وقيل لاعتزائهم إلى نصرة وهي قرية كان ينزلها عيسى عليه السلام (والصابئين) قرأ أهل المدينة والصابين والصابون بترك الهمزة والباقون بالهمزة وأصله الخروج يقال صبأ فلان أي خرج من دين إلى دين آخر وصبأت النجوم إذا خرجت من مطالعها وصبأ ناب البعير إذا خرج فهؤلاء سموا به لخروجهم من دين إلى دين قال عمر بن الخطاب وابن عباس هم قوم من أهل الكتاب قال عمر تحل ذبائحهم مثل ذبائح أهل الكتاب وقال ابن عباس لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم قال مجاهد هم قبيلة نحو الشام بين اليهود والمجوس وقال الكلبي هم قوم اليهود والنصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم وقال قتادة هم قوم يقرون بالله ويقرؤن الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كل دين شيئا قال عبد العزيز بن يحيى انقرضوا (من آمن بالله واليوم الآخر) فإن قيل كيف يستقيم قوله من آمن بالله وقد ذكر في ابتداء الآية إن الذين آمنوا قيل اختلفوا في حكم الآية فقال بعضهم أراد بقوله إن الذين آمنوا على التحقيق ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين فقال قوم هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل المبعث وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار وقس بن ساعدة وزي بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل والبراء الشني وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وبحيرا الراهب ووفد النجاشي فمنهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه ومنهم من لم يدركه وقيل هم المؤمنون من الأمم الماضية وقيل هم المؤمنون من هذه الأمة والذين هادوا الذين كانوا على دين موسى عليه السلام ولم يبدلوا والنصارى الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام ولم يغيروا وماتوا على ذلك قالوا وهذان الاسمان لزماهم زمن موسى وعيسى عليهما السلام حيث كانوا على الحق كالإسلام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والصابؤن زمن استقامة أمرهم من آمن أي من مات منهم وهو مؤمن لأن حقيقة الإيمان بالموافاة ويجوز أن يكون الواو مضمرا أي ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة وقال بعضهم إن المذكورين بالإيمان في أول الآية على طريق المجاز دون الحقيقة ثم اختلفوا فيهم فقال بعضهم الذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك وقيل أراد بهم المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم واليهود والنصارى الذين اعتقدوا اليهودية والنصرانية بعد التبديل والصابئون بعض أصناف الكفار من آمن بالله واليوم الآخر من هذه الأصناف بالقلب واللسان (وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم) وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن (من) يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث (ولا خوف عليهم) في الدنيا (ولا هم يحزنون) في الآخرة 63 قوله تعالى (وإذ أخذنا ميثاقكم) عهدكم يا معشر اليهود (ورفعنا فوقكم الطور) وهو الجبل بالسريانية في
79

سورة البقرة 64 67 قوله بعضهم وهو قول مجاهد وقيل ما من لغة في الدنيا إلا في القرآن وقال الأكثرون ليس في القرآن لغة غير لغة العرب لقوله تعالى (قرآنا عربيا
) وإنما هذا وأشباهه وفاق وقع بين اللغتين وقال ابن عباس أمر الله تعالى جبلا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رؤسهم وذلك أن الله تعالى أنزل التورة على موسى عليه السلام فأمر موسى قومه أن يقبلوها ويعملوا بأحكاما فأبوا أن يقبلوها للآصار والأثقال التي هي فيها وكانت شريعة ثقيلة فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام فقلع جبلا على قدر عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ فرفعه فوق رؤسهم مثل قامة الرجل كالظلة وقال لهم إن لم تقبلوا التوراة التي أرسلت هذا الجبل عليكم وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رفع الله فوق رؤسهم الطور وبعث نارا من قبل وجوههم وأتاهم البحر الملح من خلفهم (خذوا) أي قلنا لهم خذوا (ما آتيناكم) أعطيناكم (بقوة) بجد واجتهاد ومواظبة (واذكروا) وادرسوا (ما فيه) وقيل احفظوا واعملوا (لعلكم تتقون) لكي تنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى فإن قبلتم وإلا رضختكم بهذا الجبل وأغرقتكم في هذا البحر وأحرقتكم بهذه النار فلما رأوا أن لا مهرب لهم منها قبلوا وسجدوا أو جعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود فصار سنة في اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم ويقولون بهذا السجود رفع العذاب عنا 64 (ثم توليتم) أعرضتم (من بعد ذلك) من بعد ما قبلتم التوراة (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) يعني بالإمهال والإدراج وتأخير العذاب عنكم (لكنتم) لصرتم (من الخاسرين) من المغبونين بالعقوبة وذهاب الدنيا والآخرة وقيل من المعذبين في الحال كأنه رحمهم بالإمهال 65 قوله تعالى (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) أي جاوزوا الحد وأصل السبت القطع قيل سمي يوم السبت بذلك لأن الله تعالى قطع فيه الخلق وقيل لأن اليهود أمروا فيه بقطع الأعمال والقصة فيه أنهم كانوا زمن داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك حتى يخرجن خراطيمهن من الماء لا منها حتى لا يرى الماء لكثرتها فإذا مضى السبت تفرقن ولزمن قعر البحر فلا يرى شيء منها فذلك قوله تعالى (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) ثم إن الشيطان وسوس إليهم وقال إنما نهيتم
80

عن أخذها يوم السبت فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كانت عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا يقدرن على الحخروج لبعد عمقها وقلة مائها فإذا كان يوم الأحد أخذوها وقيل كانوا يسوقون الحيتان إلى الحياض يوم السبت ولا يأخذونها ثم يأخذونها يوم الأحد وقيل كانوا ينصبون الحبائل والشخوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زمانا ولم تنزل عليهم عقوبة فتجرؤوا على الذنب وقالوا ما ندري السبب إلا وقد أحل لنا فاخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا واشتروا وكثر مالهم فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية وكانوا نحوا من سبعين ألفا ثلاثة أصناف صنف أمسك ونهى وصنف أمسك ولم ينه وصنف انتهك الحرمة وكان الناهون اثني عشر ألفا فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار وغيروا بذلك سنتين ولعنهم داود عليه السلام وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد ولم يفتحوا بابهم فلما أبطؤا تسوروا عليهم الحائط فإذا هم جميع قردة لها أذناب يتعاوون قال قتادة صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيام ولم يتوالدوا قال الله تعالى (فقلنا لهم كونوا قردة) أمر تحويل وتكوين (خاسئين) مبعدين مطرودين قيل فيه تقديم وتأخير أي كونوا خاسئين قردة ولذلك لم يقل خاسئات والخسأ الطرد والإبعاد وهو لازم ومتعد يقال خسأته خسأ فخسأ خسوأ مثل رجعته رجعا فرجع رجوعا 66 (فجعلناها) أي جعلنا عقوبتهم بالمسخ (نكالا) أي عقوبة وعبرة والنكال اسم لكل عقوبة ينكل الناظر من فعل ما جعلت العقوبة جزاء عليه ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع وأصل من النكل وهو القيد وجمعه يكون أنكالا (لما بين يديها) قال قتادة أراد بما بين يديها يعني ما سبق من الذنوب أي جعلنا تلك العقوبة جزاء لما تقدم من ذنوبهم قبل نهيهم عن اخذ الصيد (وما خلفها) ما حضر من الذنوب التي أخذوا بها وهي العصيان بأخذ الحيتان وقال أبو العالية والربيع عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم أن يستنوا بسنتهم و (ما) الثانية بمعنى من وقيل جعلناها أي جعلنا قرية أصحاب السبت عبرة لما بين يديها أي القرى التي كانت مبنية في الحال وما خلفها وما يحدث من القرى بعد ليتعظوا وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناها وما خلفها أي ما أعد لهم من العذاب في الآخرة وجزاء لما بين يديها أي لما تقدم من ذنوبهم باعتدائهم في السبت (وموعظة للمتقين) للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يفعلون مثل فعلهم 67 قوله عز وجل (وإذ قالوا موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) البقرة هي الأنثى من البقر يقال هي مأخوذة من البقر وهي الشق سميت به لأنها تبقر الأرض أي تشقها للحراثة والقصة فيه أنه كان في بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى وألقاه بفنائهم ثم أصبح يطلب ثأره وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل فسألهم موسى
81

سورة البقرة 68 71 فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى قال الكلبي وذلك قبل نزول قسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم بدعائه فأمرهم الله بذبح بقرى فقال لهم موسى (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) (قالوا أتتخذنا هزوا) أي تستهزئ بنا نحن نسألك عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح البقرة وإنما قالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر ولم يدروا ما الحكمة فيه قرأ حمزة هزوا وكفوا بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتثقيل ويترك الهمزة حفص (قال) موسى (أعوذ بالله) أمتنع بالله (أن أكون من الجاهلين) أي من المستهزئين بالمؤمنين وقيل من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال لأن الجواب لا على وفق السؤال جهل فلما علم القوم أن ذبح البقرة عزم من الله عز وجل استوصفوها ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم وكانت تحته حكمة وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة اتى بها إلى غيضة وقال اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى تكبر ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عوانا وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن كان بارا بوالدته وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث يصلي ثلثا وينام ثلثا ويجلس عند رأس أمه ثلثا فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به إلى السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه فقالت له أمه يوما إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا انطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها وكانت تلك البقرة تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها
فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى فقالت أيها الفتى البار بوالدتك اركبني فإن ذلك أهون عليك فقال الفتى إن أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت خذ بعنقها فقالت البقرة بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليه أبدا فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمك فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له إنك فقير لا مال لك فيشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع البقرة فقال بكم أبيعها
82

قالت بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها الفتى إلى السوق وبعث الله ملكا ليري خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بأمه وكان الله به خبيرا فقال له الملك بكم تبيع هذه البقرة قال بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضى والدتي فقال الملك لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك فقال الفتى لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضا أمي فردها إلى أمه وأخبرها بالثمن فقالت ارجع فبعها بستة دنانير على رضى مني فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال استأمرت أمك فقال الفتى إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها وقال الملك فإني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمه فأخبرها بذلك فقالت إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي فإذا أتاك فقل له أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ففعل فقال له الملك اذهب إلى أمك وقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبعها إلا بملء مسكها دنانير فأمسكها وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصفت لهم تلك البقرة بعينها مكافأة له على بره بوالدته فضلا منه ورحمة فذلك قوله تعالى 68 (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) أي ما سنها (قال) موسى (إنه يقول) يعني فسأل الله تعالى فقال إنه يعني إن الله تعالى يقول (إنها بقرة لا فارض ولا بكر) أي لا كبيرة ولا صغيرة والفارض المسنة التي لا تلد يقال منه فرضت تفرض فروضا والبكر الفتية الصغيرة التي لم تلد قط وحذفت الهاء منهما للاختصاص بالإناث كالحائض (عوان) وسط نصف (بين ذلك) أي بين السنين يقال عونت المرأة تعوينا إذا زادت على الثلاثين قال الأخفش العوان التي نتجب مرارا وجمعها عون (فافعلوا ما تؤمرون) من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال 69 (قالوا ادع لنا ربك لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها) قال ابن عباس شديدة الصفرة وقال قتادة صاف وقال الحسن الصفراء السوداء والأول أصح لأنه لا يقال أسود فاقع إنما يقال أصفر فاقع وأسود حالك وأحمر قانئ وأخضر ناضر وأبيض بقق للمبالغة (تسر الناظرين) إليها يعجبهم حسنها وصفاء لونها 70 (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) أسائمة أم عاملة (إن البقر تشابه علينا) ولم يقل تشابهت لتذكير لفظ البقر كقوله تعالى (أعجاز نخل منقعر) وقال الزجاج أي جنس البقر تشابه أي التبس واشتبه أمره علينا فلا نهتدي إليه (وإنا إن شاء الله لمهتدون) إلى وصفها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ وأيم الله لو لم يستثنوا لما بينت لهم إلى آخر الأبد \ 71 (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول) مذللة بالعمل يقال رجل ذلول بين الذل ودابة ذلولة بينة الذل (تثير الأرض) تقلبها للزراعة (ولا تسقي الحرث) أي ليست بسانية (مسلمة) بريئة من
83

سورة البقرة 72 74 العيوب (لا شية فيها) لا لون لها سوى لون جميع جلدها قال عطاء لا عيب فيها قال مجاهد لا بياض فيها ولا سواد (قالوا الآن جئت بالحق) أي بالبيان التام الشافي الذي لا إشكال فيه وطلبوها فلم يجدوا بكمال وصفها إلا مع الفتى فاشتروها بملء مسكها ذهبا (فذبحوها وما كادوا يفعلون) من غلاء ثمنها وقال محمد بن كعب وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها وقيل وما كادوا يفعلون من شدة اضطرابهم واختلافهم فيها 72 قوله عز وجل (وإذ قتلتم نفسا) هذا أول القصة وإن كان مؤخرا في التلاوة واسم القتيل عاميل (فادرأتم فيها) أصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال وأدخلت الألف مثل قوله (اثاقلتم) قال ابن عباس ومجاهد معناه فاختلفتم وقال الربيع بن أنس تدافعتم أي يحيل بعضكم على بعض من الدرء وهو الدفع فكان كل واحد يدفع عن نفسه (والله مخرج) أي مظهر (ما كنتم تكتمون) فإن القاتل كان يكتم القتل 73 قوله عز وجل (فقلنا اضربوه) يعني القتيل (ببعضها) أي ببعض البقرة واختلفوا في ذلك البعض قال ابن عباس رضي الله عنه وأكثر المفسرين ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو المقتل وقال مجاهد وسعيد بن جبير بعجب الذنب لأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى ويركب عليه الخلق ثانيا وهو البعث وقال الضحاك بلسانها وقال الحسين بن الفضل هذا أدل بها لأنه آلة الكلام وقال الكلبي وعكرمة بفخذها الأيمن وقيل بعضو منها لا بعينه ففعلوا ذلك فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى وأوداجه أي عروق العنق تشخب دما وقال قتلني فلان ثم سقط ومات مكانه فحرم قاتله الميراث وفي الخبر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة وفيه إضمار تقديره فضربت فحي (كذلك يحي الله الموتى) كما أحيا عاميل (ويريكم آياته لعلكم تعقلون) قيل تمنعون أنفسكم من المعاصي أما حكم هذه المسألة إذا وجد في الإسلام قتيل في موضع ولا يعرف قاتله فإن كان ثم لوث على إنسان واللوث أن يغلب على القلب صدق المدعي بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء فتفرقوا عن قتيل يغلب على القلب أن القاتل فيهم أو وجد قتيل في محلة أو قرية كلهم أعداء للقتيل لا يخالطهم غيرهم فيغلب على القلب أنهم قتلوه فادعى الولي على بعضهم يحلف المدعي خمسين يمينا على من يدعي عليه وإن كان الأولياء جماعة توزع الإيمان عليهم ثم بعدما حلفوا أخذوا الدية من عاقلة المدعى عليه إن ادعوا قتل
84

خطأ وإن ادعوا قتل عمد فمن ماله ولا قود على قول الأكثرين وذهب بعضهم إلى وجوب القود وهو قول عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك وأحمد وإن لم يكن على المدعي عليه لوث فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ثم هل يحلف يمينا واحدا أم خمسين يمينا فيه قولان أحدهما يمينا واحدة كما في سائر الدعاوي والثاني يحلف خمسين يمينا تغليظا لأمر الدم وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا حكم للوث ولا يبدأ بيمين المدعي وقال إذا وجد قتيل في محلة يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها فيحلفهم أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا ثم يأخذ الدية من سكانها والدليل على أن البداية بيمين المدعي عند وجود اللوث ما أخبرنا به عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر فتفرقا لحاجتهما فقتل عبد الله بن سهل فانطلق هو وعبد الرحمن أخو المقتول وحويصة ابن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له قتل عبد الله بن سهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم \ فقالوا يا
رسول الله لم نشهد ولم نحضر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ فتبرئكم يهود بخمسين يمينا \ فقالوا يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار فعزم النبي صلى الله عليه وسلم عقله من عنده وفي لفظ آخر فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم عقله من عنده قال بشير بن يسار قال سهل لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض في مربد لنا وفي رواية لقد ركضتني ناقة حمراء من تلك الفرائض في مربد لنا وجه الدليل من الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعين لتقوى جانبهم باللوث وهو أن عبد الله بن سهل وجد قتيلا في خيبر وكانت العداوة ظاهر بين الأنصار وأهل خيبر وكان يغلب على القلب أنهم قتلوه واليمين أبدا تكون حجة لمن يقوى جانبه وعند عدم اللوث تقوى جانب المدعى عليه من حيث أن الأصل براءة ذمته وكان القول قوله مع يمينه 74 قوله تعالى (ثم قست قلوبكم) أي يبست وجفت جفاف القلب خروج الرحمة واللين عنه وقيل غلظت وقيل اسودت (من بعد ذلك) من بعد ظهور الدلالات قال الكلبي قالوا بعد ذلك نحن لم نقتله فلم يكونوا قط أعمى قلبا ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك أي (فهي) في الغلظة والشدة (كالحجارة أو أشد قسوة) قيل أو بمعنى الواو كقوله (مائة ألف أو يزيدون) أي بل يزيدون وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأن الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار وقد لان لداود عليه السلام والحجارة لا تلين قط ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال (وإن من الحجارة لمن يتفجر منه الأنهار) قيل أراد به جميع الحجارة وقيل أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط (وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) أراد به عيونا دون الأنهار (وإن منها لما يهبط) ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله (من خشية الله) وقلوبكم لا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود فإن قيل الحجر جماد لا يفهم فكيف يخشى قيل الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه ومذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف
85

سورة البقرة 75 76 عليه غير الله فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال جل ذكره (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) وقال (والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه) وقال (ألم تر أن الله يسسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر) الآية فيجب على المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ علي فيعاقبني الله بذلك فقال له جبل حراء إلي يا رسول الله أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ثنا السدي أبو الحسين محمد بن حسن العلوي أنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب النيسابوري أنا محمد بن إسماعيل الصائغ أنا يحيى بن أبي بكر أنا إبراهيم بن طهمان عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن \ هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن أبي بكر وصح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال \ هذا جبل يحبنا ونحبه \ وروي عن أبي هريرة يقول صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس بوجهه وقال \ بينما رجل يسوق بقرة إذ عيي فركبها فضربها فقالت إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم وقال بينما رجل في غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها فأدركها صاحبها فاستنقذها فقال الذئب فمن لها يوم السبع أي يوم القيامة يوم لا راعي لها غيري فقال الناس سبحان الله ذئب يتكلم فقال أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم \ وصح عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ اهدأ أي اسكن فما ليك إلا نبي أو صديق أو شهيد \ صحيح أخرجه مسلم أنا عبد الله الصالحي أنا أبو سعيد يحيى بن أحمد بن علي الصانع أنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن هشام الرازي أنا محمد بن أيوب بن ضريس وهو بجلي الرازي أنا محمد بن الصباح عن الوليد بن أبي ثور عن السدي عن عبادة بن أبي يزيد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في نواحيها خارجا من مكة بين الجبال والشجر فلم يمر بشجرة
86

ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله أنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية وحن كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكنت قال مجاهد لا ينزل حجر من الأعلى إلى الأسفل إلا من خشية الله ويشهد لما قلنا قوله تعالى (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) قوله عز وجل (وما الله بغافل) بساه (عما تعملون) وعيد وتهديد وقيل بتارك عقوبة ما تعملون بل يجازيكم به قرأ ابن كثير يعملون بالياء والآخرون بالتاء 75 قوله عز وجل (أفتطمعون) افترجون يريد محمدا وأصحابه (أن يؤمنوا لكم) تصدقكم اليهود بما تخبرونهم به (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله) يعني التوراة (ثم يحرفونه) يغيرون ما فيها من الأحكام (من بعد ما عقلوه) علموه غير واصفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم (وهم يعلمون) أنهم كاذبون هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة والسدي وجماعة وقال ابن عباس ومقاتل نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه وذلك أنهم لما رجعوا بعدما سمعوا كلام الل إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم وأما الصادقون منهم فأدوا كما سمعوا وقالت طائفة منهم سمعنا الله يقول في آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا فهذا تحريفهم وهم يعلمون أنه الحق 76 قوله عز وجل (وإذا لقوا الذين آمنوا) قال ابن عباس والحسن وقتادة يعني منافقي اليهود الذين آمنوا بألسنتهم إذا لقوا المؤمنين المخلصين (قالوا آمنا) كإيمانكم (وإذا خلا) رجع (بعضهم إلى بعض) كعب بن الأشراف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا أو غيرهم من رؤساء اليهود لأمرهم على ذلك (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) بما قص الله عليكم في كتابكم أن محمدا حق وقوله صدق والفتاح القاص وقال الكسائي بما بينه لكم من العلم بصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وقال الواقدي بما أنزل الله عليكم وأعطاكم ونظيره (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) أي أنزلنا وقال أبو عبيدة بما من الله عليكم وأعطاكم (ليحاجوكم به) ليخاصموكم به ويعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحتجوا بقولكم عليكم فيقولوا قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثم لا تتبعونه وذلك أنهم قالوا
لأهل المدينة حين شاوروهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به فإنه حق ثم قال بعضهم لبعض أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به ويعني لتكون لهم الحجة عليكم (عند ربكم) الآخرة
87

سورة البقرة 77 79 وقيل إنهم أخبروا المؤمنين بما عذبهم الله به على الجنايات فقال بعضهم لبعض أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به عند ربكم ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند الله وقال مجاهد هو قول يهود قريظة قال بعضهم لبعض حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يا إخوان القردة والخنازير فقالوا من أخبر محمدا بهذا ما خرج هذا إلا منكم (أفلا تعقلون) 77 قوله عز وجل (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون) يخفون (وما يعلنون) يبدون يعني اليهود 78 وقوله تعالى (ومنهم أميون) أي من اليهود أميون لا يحسنون القراءة والكتابة جمع أمي منسوب إلى الأم كأنه باق على ما انفصل من الأم لم يعلم كتابة ولا قراءة وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال \ إنا أمة أمية \ أي لا نكتب ولا نحسب وقيل هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) قرأ أبو جعفر (أماني) بتخفيف الياء كل القرآن حذف إحدى الياءين تخفيفا وقراءة العامة بالتشديد وهو جمع أمنية وهي التلاوة وقال الله تعالى (إلا إذا تمنى القى الشيطان في أمنيته) أي في قراءته قال أبو عبيدة إلا تلاوة وقراءة عن ظهر القلب لا يقرؤنه من كتاب وقيل يعلمونه حفظا وقراءة لا يعرفون معناه قال ابن عباس يعني غير عارفين بمعاني الكتاب وقال مجاهد وقتادة إلا كذبا وباطلا قال الفراء إلا أماني الأحاديث المفتعلة قال عثمان رضي الله عنه ما تمنيت منذ أسلمت أي ما كذبت وأراد بها الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم ثم أضافوها إلى الله من تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم وغيره وقال الحسن وأبو العالية هي من التمني وهي أمانيهم الباطلة التي يتمنونها على الله عز وجل مثل قولهم (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) وقولهم (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) وقولهم (نحن أبناء الله وأحباؤه) فعلى هذا لا يكون بمعنى لكن أي لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أشياء لا تحصل لهم (وإن هم) وما هم (إلا يظنون) يعني وما يظنون إلا ظنا وتوهما لا يقينا قاله قتادة والربيع وقال مجاهد يكذبون 79 قوله عز وجل (فويل) قال الزجاج ويل كلمة تقولها العرب لكل واقع في هلكة وقيل هو دعاء الكفار على أنفسهم بالويل والثبور وقال ابن عباس شدة العذاب وقال سعيد بن المسيب ويل واد في جهنم
88

سورة البقرة 80 81 لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت ولذابت من شدة حرها أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن راشيد بن سعد عن عمرو بن الحارث أنه حدث عن أبي السمع عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره والصعود جبل من نار يتصع فيه سبعين خريفا ثم يهوي فهو كذلك \ (للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) وذلك أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رياستهم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم وسلم المدينة فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوراة وكانت صفته فيها حسن الوجه حسن الشعر أكحل العينين ربعة القامة فغيروها وكتبوا مكانها طوال أزرق سبط الشعر فإذا سألهم سفلتهم عن صفته قرؤا ما كتبوه فيجدونه مخالفا لصفته ويكذبونه قال الله تعالى (فويل لهم مما كتبت أيديهم) يعني كتبوه بأنفسهم اختراعا من تغيير نعته صلى الله عليه وسلم (وويل لهم مما يكسبون) من المآكل ويقال من المعاصي 80 (وقالوا) يعني اليهود (لن تمسنا النار) لن تصيبنا النار (إلا أياما معدودة) قدرا مقدرا ثم يزول عنا العذاب واختلفوا في هذه الأيام فقال ابن عباس ومجاهد كانت اليهود يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما واحدا ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام وقال قتادة وعطاء يعنون أربعين يوما التي عبد فيها آباؤهم العجل وقال الحسن وأبو العالية قالت اليهود إن ربنا عتب علينا في أمرنا فأقسم الله ليعذبنا أربعين يوما فلن تمسنا النار إلا أربعين يوما تحلة القسم فقال الله عز وجل تكذيبا لهم (قل) يا محمد (أتخذتم عند الله) ألف استفهام دخلت على ألف الوصل (عهدا) موثقا أن لا يعذبكم إلا هذه المدة (فلن يخلف الله عهده) وعده قال ابن مسعود عهدا بالتوحيد يدل عليه قوله تعالى (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) يعني قوله لا إله إلا الله (أم تقولون على الله مالا تعلمون) ثم قال 81 (بلى) وبلى وبل حرفا استدراك ومعناهما نفي الخبر الماضي واثبات الخبر المستقبل (من كسب سيئة) يعني الشرك (وأحاطت به خطيئته) قرأ أهل المدينة (خطيئاته) بالجمع والإحاطة الإحداق بالشيء ومن جميع نواحيه قال ابن عباس وعطاء والضحاك وأبو العالية والربيع وجماعة هي الشرك يموت عليه وقيل السيئة الكبيرة والإحاطة به أن يصر عليها فيموت غير تائب قاله عكرمة والربيع بن خيثم قال الواحدي رحمه الله في تفسيره الوسيط المؤمنون لا يدخلوه في حكم
89

سورة البقرة 82 84 هذه الآية لأن الله تعالى أوعد بالخلود في النار من أحاطت به خطيئته وتقدمت منه سيئة وهي الشرك والمؤمن وإن عمل الكبائر لم يوجد منه الشرك وقال مجاهد هي الذنوب تحيط بالقلب كلما عمل ذنبا ارتفعت حتى يغشى القلب وهي الرين قال الكلبي أوبقته ذنوبه دليله قوله تعالى (إلا أن يحاط بكم) أي تهلكوا (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) 82 (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) 83 قوله تعالى (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) في التوراة والميثاق العهد الشديد (لا تعبدون إلا الله) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (لا يعبدون) بالياء والآخرون بالتاء كقوله تعالى (وقولوا للناس حسنا) معناه أن لا تعبدوا فلما حذف أن صار الفعل مرفوعا وقرأ أبي بن كعب (لا تعبدوا) على النهي (وبالوالدين) أي وصيناهم بالوالدين (إحسانا) برا بهما وعطفا عليهما ونزولا عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله تعالى (وذي القربى) أي وبذي القرابة والقربى مصدر كالحسنى (واليتامى) جمع يتيم وهو الطفل الذي لا أب له (والمساكين) يعني الفقراء (وقولا قولا حسنا) صدقا وحقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فمن سألكم عنه فاصدقوه وبينوا صفته لا تكتموا أمره هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وابن جريج ومقاتل وقال سفيان الثوري مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر وقيل هو اللين في القول والمعاشرة بحسن الخلق قرأ حمزة والكسائي ويعقوب (حسنا) بفتح الحاء والسين أي قولا حسنا (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم) أعرضتم عن العهد والميثاق (إلا قليلا منكم) وذلك أن قوما منهم آمنوا (وأنتم معرضون) كأعراض آبائكم 84 قوله عز وجل (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون) أي لا تريقون (دماءكم) أي لا يسفك بعضكم دم بعض وقيل لا تسفكوا دماء غيركم فيسفك دماءكم
فكأنكم سفكتم دماء أنفسكم (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) لا يخرج بعضكم بعضا من داره وقيل لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجؤهم إلى الخروج بسوء جواركم (ثم أقررتم) بهذا العهد أنه حق وقبلتم (وأنتم تشهدون) اليوم على ذلك يا معشر اليهود وتعترفون بالقبول
90

سورة البقرة 85 85 قوله عز وجل (ثم أنتم هؤلاء) يعني يا هؤلاء وهؤلاء للتنبيه (تقتلون أنفسكم) أي يقتل بعضكم بعضا (وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم) بتشديد الظاء أي تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء فحذفوا تاء التفاعل وأبقوا تاء الخطاب كقوله تعالى (ولا تعاونوا) معناهما جميعا تتعاونون والظهير العون (بالإثم والعدوان) بالمعصية والظلم (وإن يأتوكم أسارى) قرأ حمزة (اسرى) وهما جمع أسير ومعناهما واحد (تفادوهم) بالمال وتنقذوهم وقرأ أهل المدينة وعاصم والكسائي ويعقوب تفادوهم أي تبادلوهم أراد مفاداة الأسير بالأسير وقيل معنى القراءتين واحد ومعنى الآية قال السدي إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه وكانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج وكان يقتلون في حرب سنين فيقاتل بنو قريظة مع حلفائهم وبنو النضير مع خلفائهم وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وإن كان الأسير من عدوهم فتعيرهم العرب ويقولون كيف تقاتلونهم وتفدونهم قالوا إنا أمرنا أن نفديهم فيقولون فلم تقاتلوهم قالوا إنا نستحي أن تذل حلفاؤنا فعيرهم الله تعالى فقال (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) وفي الآية تقديم وتأخير ونظمها وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان (وهو محرم عليكم إخراجهم) وإن يأتوكم أسارى تفادوهم فكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود ترك القتال وترك الإخراج وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم وفداء أسرائهم فأعرضوا عن الكل إلا الفداء قال الله تعالى (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) قال مجاهد يقول إن وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) يا معشر اليهود (إلا خزي) عذاب وهوان (في الحياة الدنيا) فكان خزي بني قريظة القتل والسبي وخزي بني النضير الجلاء والنفي من منازلهم إلى أذرعات وأريحاء من الشام (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) وهو عذاب النار (وما الله بغافل عما تعملون) قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالياء والباقون بالتاء
91

سورة البقرة 86 88 86 قوله عز وجل (أولئك الذين اشتروا) استبدلوا (الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف) يهون (عنهم العذاب ولا هم ينصرون) لا يمنعون من عذاب الله عز وجل 87 (ولقد آتينا) أعطينا (موسى الكتاب) التوراة جملة واحدة (وقفينا) وأتبعنا (من بعده بالرسل) رسولا بعد رسول (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) الدلالات الواضحات وهي ما ذكر الله في سورة آل عمران والمائدة وقيل أراد الإنجيل (وأيدناه) قويناه (بروح القدس) قرأ ابن كثير (القدس) بسكون الدال والآخرون بضمها وهما لغتان مثل الرعب والرعب واختلفوا في روح القدس قال الربيع وغيره أراد الروح الذي لا نفخ فيه والقدس هو الله أضافه إلى نفسه تكريما وتخصيصا أي التي نفخ فيه نحو بيت الله وناقة الله كما قال (فنفخنا فيه من روحنا) (وروح منه) وقيل أراد بالقدس الطهارة يعني الروح الطاهرة سمي روحه قدسا لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحول ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث إنما كان أمرا من أمر الله تعالى قال قتادة والسدي والضحاك روح القدس جبريل عليه السلام وقيل وصف جبريل بالقدس أي بالطهارة لأنه لم يقترف ذنبا وقال الحسن القدس هو الله وروحه جبريل قال الله تعالى (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) وتأييد عيسى بجبريل عليهما السلام أنه أمر أن يسير معه حيث سار حتى صعد به إلى السماء وقيل سمي جبريل عليه السلام روحا للطافته ولمكانته من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب وقال ابن عباس وسعيد بن جبير روح القدس هو اسم الله تعالى الأعظم الذي كان يحيي به الموتى ويري الناس العجائب وقيل هو الإنجيل جعل له روحا كما جعل القرآن روحا لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه سبب لحياة القلوب وقال الله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) فلما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه السلام فقالوا يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما يقص علينا من الأنبياء فعلت فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا قال الله تعالى (أفكلما جاءكم) يا معشر اليهود (رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم) تكبرتم وتعظمتم عن الإيمان (ففريقا) طائفة (كذبتم) مثل عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم (وفريقا تقتلون) أي أقتلتم مثل زكريا ويحيى وشعيبا وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم السلام 88 (وقالوا) يعني اليهود (قلوبنا غلف) جمع أغلف وهو الذي عليه غشاوة معناه عليها غشاوة
92

سورة البقرة 89 90 فلا تسمع ولا تفق ما يقول قال مجاهد وقتادة نظيره قوله تعالى (وقالوا قلوبنا في أكنة) وقرأ ابن عباس (غلف) بضم اللام وهي قراءة الأعرج وهي جمع غلاف أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا تحتاج إلى علمك قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبي معناه أوعية لكل علم فهي لا تسمع حديثا إلا وعته إلا حديثك لا تعقله ولا تعيه ولو كان فيه خير لوعته وفهمته قال الله عز وجل (بل لعنهم الله) طردهم الل وأبعدهم عن كل خير (بكفرهم فقليلا ما يؤمنون) قال قتادة معناه لا يؤمن منهم إلا قليل لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود أي فقليلا يؤمنون ونصب قليل على الحال وقال معمر لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره أي فقليل يؤمنون ونصب قليلا بنزع الخافض وما صلة على قولهما وقال الواقدي معناه لا يؤمنون لا قليلا ولا كثيرا كقول الرجل للآخر ما أقل ما تفعل كذا أي لا تفعله أصلا 89 (ولما جاءهم كتاب من عند الله) يعني القرآن (مصدق) موافق (لما معهم) يعني التوراة (وكانوا) يعني اليهود (من قبل) من قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم (يستفحون) يستنصرون (على الذين كفروا) على مشركي العرب وذلك أنهم كانوا يقولون إذا أحزنهم أمر ودهمهم عدو اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة فكانوا ينصرون وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وإرم (فلما جاءهم ما عرفوا) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم من غير بني إسرائيل وعرفوا نعته وصفته (كفروا به) بغيا وحسدا (فلعنة الله على الكافرين) 90 (بئسما اشتروا به أنفسهم) بئس ونعم فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم لا يتصرفان تصرف الأفعال معناه بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق وقيل الاشتراء ههنا بمعنى البيع والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم أي اختاروا الكفر وبذلوا أنفسهم للنار (أن يكفروا بما أنزل الله) يعني القرآن (بغيا) أي حسدا وأصل البغي الفساد يقال
بغي الجرح
93

سورة البقرة 91 93 إذا فسد والبغي الظلم وأصله الطلب والباغي طالب الظلم والحاسد يظلم المحسود جهده طلبا لإزالة نعمة الله تعالى عنه (أن ينزل الله من فضله) أي النبوة والكتاب (على من يشاء من عباده) محمد صلى الله عليه وسلم قرأ أهل مكة والبصرة (ينزل) وبابه بالتخفيف إلا في (سبحان الذي) في موضعين (وننزل من القرآن) (وحتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) قال ابن كثير يشددهما وشدد البصريون في الأنعام على (أن ينزل آية) زاد يعقوب تشديد بما ينزل في النحل ووافق حمزة والكسائي في تخفيف (وينزل الغيث) في سورة لقمان وحمعسق والآخرون يشددون الكل ولم يختلفوا في تشديد (وما ننزله إلا بقدر) في الحجر (فباؤا) رجعوا (بغضب على غضب) أي مع غضب قال ابن عباس ومجاهد الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلهم والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقال قتادة الأول بكفرهم بعيسى الإنجيل والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقال السدي الأول بعبادة العجل والثاني بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم (وللكافرين) الجاحدين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم (عذاب مهين) مخر يهانون فيه 91 قوله عز وجل (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) يعني القرآن (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) يعني التوراة يكفينا ذلك (ويكفرون بما وراءه) أي بما سواه من الكتب كقوله عز وجل (فمن ابتغى وراء ذلك) أي سواه وقال أبو عبيدة بما بعده (وهو الحق) يعني القرآن (مصدقا) نصب على الحال (لما معهم) من التوراة (قل) لهم يا محمد (فلم تقتلون) أي قتلتم (أنبياء الله من قبل) ولم أصله لما فحذفت الألف فرقا بين الخبر والاستفهام كقولهم فيم وبم (إن كنتم مؤمنين) بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء عليهم السلام 92 قوله عز وجل (ولقد جاءكم موسى بالبينات) بالدلالات الواضحة والمعجزات الباهرة (ثم اتخذتم العجل من بعده) أي من بعد انطلاقه إلى الجبل (وأنتم ظالمون) 93 قوله عز وجل (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا) أي
94

سورة البقرة 94 96 استجيبوا وأطيعوا سميت الطاعة والإجابة سمعا على المجاز لأنه سبب للطاعة والإجابة (قالوا سمعنا) قولك (وعصينا) أمرك وقيل سمعنا بالأذن وعصينا بالقلوب قال أهل المعاني إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوه وتلقوه بالعصيان نسب ذلك إلى القول اتساعا (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) أي حب العجل أي معناه أدخل في قلوبهم حب العجل وخالطها كإشراب اللون لشدة الملازمة يقال فلان أشرب اللون إذا اختلط بياضه بالحمرة وفي القصص أن موسى أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذره في النهر وأمرهم بالشرب منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه قوله عز وجل (قل بئسما يأمركم به إيمانكم) أن تعبدوا العجل من دون الله أي بئس إيمان يأمر بعبادة العجل (إن كنتم مؤمنين) بزعمكم وذلك أنهم قالوا نؤمن بما أنزل علينا فكذبهم الله عز وجل 94 قوله تعالى (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله) وذلك أن اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) و (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) وقولهم (نحن أبناء الله وأحباؤه) فكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال قل لهم يا محمد إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله يعني الجنة (خالصة) أي خالصة (من دون الناس فتمنوا الموت) أي فأريدوه أو اسألوه لأن من علم أن الجنة مأواه حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني (إن كنتم صادقين) في قولكم وقيل فتمنوا الموت أي ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ لو تمنوا الموت لغص كل انسان منهم بريقه وما بقي على وجه اأرض يهودي إلا مات \ 95 قال الله تعالى (ولم يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم) لعلمهم أنهم في دعواهم كاذبون وأراد بما قدمت أيديهم ما قدموه من الأعمال وأضاف العمل إلى اليد لأن أكثر جنايات الإنسان تكون باليد فأضيف إلى اليد أعماله وإن لم يكن لليد فيها عمل (والله عليم بالظالمين) 96 (ولتجدنهم) اللام لام القسم والنون تأكيد للقسم تقديره والله لتجدنهم يا محمد يعني
95

سورة البقرة 97 اليهود (أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا) قيل هو متصل بالأول أي وأحرص من الذين أشركوا وقيل تم الكلام بقوله (على حياة) ثم ابتدأ (ومن الذين أشركوا) وأراد بالذين أشركوا المجوس قال أبو العالية والربيع سموا مشركين لأنهم يقولون بالنور والظلمة (يود) يريد ويتمنى (أحدهم لو يعمر ألف سنة) يعني تعمير ألف سنة وهي تحية المجوس فيما بينهم يقولون عش ألف سنة وكل ألف نيروز ومهرجان يقول الله تعالى اليهود أحرص على الحياة من المجوس الذي يقولون ذلك (وما هو بمزحزحه) مباعده (من العذاب) من النار (أن يعمر) أي طول عمره لا يبعده من العذاب وزحزح لازم ومتعد يقال زحزحته فتزحزح وزحزحته فزحزح (والله بصير بما يعملون) قرأ يعقوب بالتاء والباقون بالياء 97 قوله عز وجل (قل من كان عدوا لجبريل) قال ابن عباس رضي الله عنهما إن حبرا من أحبار اليهود يقال له عبد الله بن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أي ملك يأتيك من السماء قال جبريل قال ذلك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل لآمنا بك إن جبريل ينزل العذاب والقتال والشدة وإنه عادانا مرارا كان أشد ذلك علينا ن الله تعالى أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له بختنصر وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه فاما كان وقته بعثنا رجلا من أقوياء بني إسرائيل في طلبه ليقتله فانطلق حتى لقيه ببابل غلاما مسكينا فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وكبر بختنصر وقوي وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدوا فأنزل الله هذه الآية وقال مقاتل قالت اليهود إن جبريل عدونا لأنه أمر ن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا وقال قتادة وعكرمة والسدي كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة وممرها على مدارس اليهود فكان إذا أتى أرضه يأتيهم ويسمع منهم فقالوا له ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك إنهم يمرون بها فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا وإنا لنطمع فيك فقال عمر والله ما آتيكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم أزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم فقالوا من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة قال جبريل فقالوا ذاك عدونا يطلع محمدا على سرنا وهو صاحب كل عذاب وخسف وسنة وشدة وإن ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والسلم فقال لهم عمر تعرفون جبريل وتنكرون محمدا قالوا نعم قال فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله عز وجل قالوا جبريل عن يمينه وميكائيلعن يساره وميكائيل عدو لجبريل قال عمر فإني أشهد أن من كان عدوا لجبريل فهو عدو لميكائيل ومن كان عدوا لميكائيل فإنه
عدو لجبريل ومن كان عدوا لهما كان الله عدوا له ثم رجع عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات فقال \ لقد وافقك ربك يا عمر \
96

سورة البقرة 98 100 فقال عمر لقد رأيتني بعد ذلك في دين الله أصلب من الحجر قال الله تعالى (قل من كان عدوا لجبريل فإنه) يعني جبريل (نزله) يعني القرآن كناية عن غير مذكور (على قلبك) يا محمد (بإذن الله) بأمر اللهه (مصدقا) موافقا (لما بين يديه) لما قبله من الكتب (وهدى وبشرى للمؤمنين) قوله عز وجل 98 (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) خصهما بالذكر من جملة الملائكة مع دخولها في قوله (وملائكته) تفضيلا وتخصيصا كقوله تعالى (فيما فاكهة ونخل ورمان) خص النخل والرمان بالذكر مع دخولهما في ذكر الفاكهة للتفضيل والواو فيهما بمعنى أو يعني من كان عدوا لأحد هؤلاء فإنه عدو للكل لأن الكافر بالواحد كافر بالكل (فإن الله عدو للكافرين) قال عكرمة جيروميت وإسراف هي العبد بالسريانية وآل وايل هو الله تعالى ومعناهما عبد الله وعبد الرحمن وقرأ ابن كثير جبريل بفتح الجيم غير مهموز بوزن فعليل قال حسان (وجبريل رسول الله فينا وروح القديس ليس له كفاء) وقرأ حمزة والكسائي بالهمة والإشباع وزن سلسبيل وقرأ أبو بكر بالاختلاس وقرأ الآخرون بكسر الجيم غير مهموز وميكائيل قرأ أبو عمر ويعقوب وحفص ميكال بغير همز قال جرير (اعبدوا الصليب وكذبوا بمحمد وبجبرائيل وكذبوا ميكال) وقال آخر (ويوم بدر لقيناكم لنا مدد فيه مع نصر جبريل وميكال) وقرأ نافع وأهل المدينة بالهمزة والاختلاس بوزن ميكاعل وقرأ الآخرون بالهمزة والاشباع بوزن ميكاعل قال ابن صوريا ما جئتنا بشيء نعرفه فأنزل الله تعالى 99 (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات) واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام (وما يكفر بها إلا الفاسقون) الخارجون عن أمر الله عز وجل 100 (أوكلما) واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام (عاهدوا عهدا) يعني اليهود عاهدوا لئن خرج محمد صلى الله عليه وسلم لتؤمنن به فلما خرج إليهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به قال ابن عباس رضي الله عنهما لما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ الله عليهم وعهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف والله ما عهد إلينا عهدا في محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية يدل عليه قراءة أبي رجاء
97

سورة البقرة 101 102 العطاردي أو كلما عاهدوا فجعلهم مفعولين وقال عطاء هي العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود أن لا يعاونوا المشركين على قتاله فنقضوها كفعل بني قريظة والنضير دليله قوله تعالى (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم) (نبذه) طرحه ونقضه (فريق) طوائف (منهم) من اليهود (بل أكثرهم لا يؤمنون) 101 (ولما جاءهم رسول من عند الله) يعني محمدا (مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم) يعني التوراة وقيل القرآن (كأنهم لا يعلمون) قال الشعبي كانوا يقرأون التوراة ولا يعملون بها وقال سفيان بن عيينة أدرجوها في الحرير والديباج وحلوها بالذهب والفضة ولم يعملوا بها فذلك نبذهم 102 (واتبعوا) يعني اليهود (ما تتلو الشياطين) أي ما تلت والعرب تضع المستقبل موضع الماضي والماضي موضع المستقبل وقيل ما كانت تتلو أي تقرأ قال ابن عباس رضي الله عنه تتبع وتعمل به وقال عطاء تحدث وتتكلم به (على ملك سليمان) أي في ملكه وعهده وقصة الآية أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف بن برخيا هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك ثم دفنوها تحت مصلاه حتى نزع الله الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس إنما ملكهم سليمان بهذا فتعلموها فأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا معاذ الله أن يكون هذا من علم سليمان وأما السفلة فقالوا هذا علم سليمان وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم وفشت الملامة لسليمان فلم يزل هذا حالهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه براء سليمان هذا قول الكلبي وقال السدي كانت الشياطين تصعد إلى السماء فيستمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما سمعوا في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق
98

ودفنه تحت كرسيه وقال لا أسمع أحدا يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفرا من بني إسرائيل فقال هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا قالوا نعم قال فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان وقام ناحية فقالوا ادن قال لا ولكن ههنا فإن لم تجدوه فاقتلوني وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق فحفروا وأخرجوا تلك الكتب قال الشيطان إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا ثم طار الشيطان وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله تعالى سليمان من ذلك وأنزل في عذر سليمان (وما كفر سليمان) بالسحر وقيل لم يكن سليمان كافرا يسحر ويعمل به (ولكن الشياطين كفروا) قرأ ابن عباس رضي الله عنه والكسائي وحمزة ولكن خفيفة النون والشياطين رفع وقرأ الآخرون ولكن مشددة النون والشياطين نصب وكذلك (ولكن اللهه قتلهم) (ولكن الله رمى) ومعنى لكن نفي الخبر الماضي وإثبات المستقبل (يعلمون الناس السحر) قيل معنى السحر العلم والحذق بالشيء قال الله تعالى (وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك) أي العالم والصحيح أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة وعليه أكثر الأمم ولكن العمل به كفر حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال السحر يخيل ويمرض وقد يقتل حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه فإذا تلقاه منه بتعليمه إياه استعمله في غيره وقيل إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة الحمار ويجعل الحمار على صورة الكلب والأصح أن ذلك تخييل قال الله تعالى (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون وللكلام تأثير في الطباع والنفوس وقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمى ويغضب وربما يحم منه وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العوارض والعلل التي تؤثر في الأبدان قوله عز وجل (وما أنزل على الملكين ببابل) أي ويعلمون الذي أنزل على الملكين أي إلهاما وعلما فالإنزال بمعنى الإلهام والتعليم وقيل واتبعوا ما أنزل على الملكين وقرأ ابن عباس والحسن الملكين بكسر اللام وقال ابن عباس هما رجلان ساحران كانا ببابل وقال الحسن علجان لأن الملائكة لا يعلمون السحر وبابل هي بابل العراق سميت بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح
نمرود أي تفرقها قال ابن مسعود بابل أرض الكوفة وقيل جبل دماوند والقراءة المعروفة (على الملكين) بالفتح فإن قيل كيف يجوز تعليم السحر من الملائكة قيل له تأويلان أحدهما أنهما لا يتعمدان التعليم لكن يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه
99

والتعليم بمعنى الإعلام فالشقي يترك نصيحتهما ويتعلم السحر من صنعتهما والتأويل الثاني هو الأصح أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقي يتعلم السحر منهما فيكفر به ومن سعد يتركه فيبقى على الإيمان ويزداد المعلمان بالتعليم عذابا ففيه ابتلاء للمعلم والمتعلم ولله أن يمتحن عباده بما شاء فله الأمر والحكم قوله عز وجل (هاروت وماروت) هما اسمان سريانيان وهما في محل الخفض على تفسير الملكين إلا أنهما نصبا لعجمتهما ومعرفتهما وكانت قصتهما على ما ذكر ابن عباس والمفسرون أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام فعيروهم وقالوا هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض خليفة واخترتهم فهم يصعونك فقال الله تعالى لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لارتكبتم مثل ما ارتكبوا فقالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال الله تعالى فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم وقال الكلبي قال الله تعالى لهم اختاروا ثلاثة فاختاروا عزائيل وهو هاروت وعزايا وهو ماروت غيرا اسمهما لما قارفا الذنب فركب الله فيهم الشهوة وأهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر فأما عزائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبهه استقبل ربه وسألهه أن يرفعه إلى السماء فأقاله فسجد أربعين سنة لم يرفع رأسه ولم يزل بعد مطاطئا رأسه حياء من الله تعالى وأما الآخران فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يقضيان بين الناس يومهما فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا به إلى السماء قال قتادة فما مر عليما شهر حتى افتتنا قالوا جميعا وذلك أنه اختصم إليهما ذات يوم الزهرة وكانت من أجمل النساء قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكانت من أهل فارس وكانت ملكة في بلدها فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت لا إلا أن تعبدا ما أعبد وتصليا لهذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله تعالى قد نهانا عنها فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا الصلاة لغير الله عظيم وقتل النفس عظيم وأهون الثلاثة شرب الخمر فشربا الخمر فانتشيا ووقعا بالمرأة فزنيا فلما فرغا رآهما انسان فقتلاه قال الربيع بن أنس وسجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكبا وقال بعضهم جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجا لها فقال أحدهما للآخر هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي قال نعم فقال وهل لك أن تقضي لها على زوجها فقال له صاحبه أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب فقال له صاحبه أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فسألاها عن نفسها فقالت لا إلا أن تقضيا لي على زوجي فقضيا لها ثم سألاها نفسها فقالت لا إلا أن تقتلاه فقال أحدهما أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب فقال له صاحبه أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فقتلاه ثم سألاهم نفسها فقالت لا إلا أن لنا صنما نعبده إن أنتما صليتما معي عنده فعلت
100

فقال أحدهما لصاحبه مثل القول الأول وقال صاحبه مثله فصلبا معها فمسخت شهابا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والكلبي والسدي إنها قالت لهما لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا باسم الله الأكبر قالت فما أنتما بمدركي حتى تعلمانيه فقال أحدهما لصاحبه علمها فقال إني أخاف الله قال الآخر فأين رحمة الله تعالى فعلماها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكبا وذهب بعضهم إلى أنها هي الزهرة بعينها وأنكر الآخرون هذا وقالوا إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم الله بها فقال (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) والتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى الزهرة لجمالها فلما بغت مسخها الله تعالى شهابا قالوا فلما أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما فعلما ما حل بهما فقصدا إدريس النبي عليه السلام فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل قالا له إنا رأيناك يصعد لك من العبادات مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا إلى ربك ففعل ذلك إدريس عليه السلام فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع فهما ببابل يعذبان واختلفوا في كيفية عذابهما فقال عبد الله بن مسعود هما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة وقال عطاء بن أبي رباح رؤسهما مصوبة تحت أجنحتهما وقال قتادة كبلا من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما وقال مجاهد جعلا في جب مليء نارا وقال عمر بن سعد منكوسان يضربان بسياط الحديد وروي أن رجلا قصد هاروت وماروت لتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما مزرقة أعينهما مسودة جلودهما ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال لا إله إلا الله فلما سمعا كلامه قالا له من أنت قال رجل من الناس قالا من أي أمة قال من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالا أو قد بعث محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم قالا الحمد لله وأظهر الاستبشار فقال الرجل وبم استبشاركما قالا إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا (وما يعلمان من أحد) أي أحدا و (من) صلة (حتى) ينصحاه أولا (يقولا إنما نحن فتنة) ابتلاء ومحنة (فلا تكفر) أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر وأصل الفتنة الاختبار والامتحان من قولهم فتنة الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار ليتميز الجيد من الرديء وإنما وحد الفتنة وهما اثنان لأن الفتنة مصدر والمصادر لا تثنى ولا تجمع وقيل إنهما يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرات قال عطاء والسدي فإن أبى إلا التعلم قالا له إئت هذا الرماد فبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فذلك نور المعرفة وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب
101

سورة البقرة 103 104 الله تعالى قال مجاهد إن هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة اختلافة واحدة (فيتعلمون منها ما يفرقون به بين المرء وزوجه) وهو أن يؤخذ كل واحد عن صاحبه ويبغض كل واحد إلى صاحبه قال الله تعالى (وما هم) قيل أي السحرة وقيل الشياطين (بضارين به) أي بالسحر (من أحد) أي أحدا (إلا بإذن الله) أي بعلمه وتكوينه فالساحر يسحر والله يكون قال سفيان الثوري معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته (ويتعلمون ما يضرهم) يعني السحر يضرم (ولا ينفعهم ولقد علموا) يعني اليهود (لمن اشتراه) أي اختار السحر (ماله في الآخرة) أي في الجنة (من خلاق) من نصيب (ولبئس ما شروا
به) باعوا به (أنفسهم) حظ أنفسهم حيث اختارواالسحر والكفر على الدين والحق (لو كانوا يعلمون) فإن قيل أليس قد قال (ولقد علموا لمن اشتراه ما معنى قول تعالى (لو كانوا يعلمون) بعدما أخبر أنهم علموا قيل أراد بقوله ولقد علموا يعني الشياطين وقوله (لو كانوا يعلمون) يعني اليهود وقيل كلاهما في اليهود ولكنهم لما لم يعلموا بما علموا فكأنهم لم يعلموا 103 (ولو أنهم آمنوا) بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن (واتقوا) اليهودية والسحر (لمثوبة من عند الله خير) لكان ثواب الله إياهم خيرا لهم (لو كانوا يعلمون) 104 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) وذلك أن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول الله من المراعاة أي أرعنا سمعك أي فرغ سمعك لكل منا يقال أرعى الله الشيء وأرعاه أي أصغى إليه واستمعه وكانت هذه اللفظة سبا قبيحا بلغة اليهودية وقيل كان معناها عندهم اسمع لا سمعت وقيل هي من الرعونة كانوا إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا راعنا بمعنى يا أحمق فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهم كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا به الآن فكانوا يأتونه ويقولون راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال لليهود لئن سمعتها من أحد منكم يقولها للرسول صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه فقالوا أولستم تقولونها فأنزل الله تعالى (لا تقولوا راعنا) لكيلا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقولوا انظرنا) أي انظر إلينا وقيل انتظرنا وتأن بنا يقال نظرت بفلان وانتظرته ومنه قوله تعالى
102

سورة البقرة 105 106 (انظرونا نقتبس من نوركم) قال مجاهد معناه فهمنا (واسمعوا) ما تؤمرون به وأطيعوا (وللكافرين) يعني اليهود (عذاب أليم) 105 قوله تعالى (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب) وذلك أن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن عليه ولوددنا لو كان خيرا فأنزل الله تكذيبا لهم ما يود الذين أي ما يجب وما يتمنى الذين كفروا من أهل الكتاب يعني اليهود (ولا المشركين) جره بالنسق على من (أن ينزل عليكم من خير من ربكم) أي خير ونبوة و (من) صلة (والله يختص برحمته) بنبوته (من يشاء والله ذو الفضل العظيم) والفضل ابتداء احسان بلا علة وقيل المراد بالرحمة الإسلام والهداية وقيل معنى الآية إن الله تعالى بعث الأنبياء من ولد إسحاق فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل لم يقع ذلك بود اليهود ومحبتهم وأما المشركون فإنما لم يقع بودهم لأنه جاء بتفضيحهم وعيب آلهتهم فنزلت الآية فيه 106 قوله عز وجل (ما ننسخ من آية أو ننسها) وذلك أن المشركين قالوا إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلاف ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا كما أخبر الله (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل) قالوا إنما أنت مفتر وأنزل (وما ننسخ من آية أو ننسها) فبين وجه الحكمة في النسخ بهذه الآية والنسخ في اللغة شيئان أحدهما بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أني حول من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ والثاني يكون بمعنى الرفع يقال نسخت الشمس الظل أي ذهبت به وأبطلته فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخا وبعضه منسوخا وهو المراد من الآية وهذا على وجوه أحدها أن يثبت الخط وينسخ الحكم مثل آية الوصية للأقارب وآية عدة الوفاة بالحول وآية التخفيف في القتال وآية الممتحنة ونحوها وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (ما ننسخ من آية) ما نثبت خطها ونبدل حكمها ومنها أن يرفع تلاوتها ويبقي حكمها مثل آية الرجم ومنها أن يرفع أصلا عن المصحف وعن القلوب كما روي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن قوما من الصحابة رضي الله عنهم قاموا ليلة ليقرؤا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
103

سورة البقرة 107 108 فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ تلك سورة رفعت بتلاوتها وأحكامها \ وقيل كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة فرفع أكثرها تلاوة وحكما ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة والوصية للأقارب نسخت بالميراث وعدة الوفاة نسخت من الحول إلى ربعة اشهر وعشر ومصابرة الواحد العشر في القتال سخت بمصابرة الاثنين ومنها ما يرفع ولا يقام غيره مقامه كامتحان النساء والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار أما الآية فقوله (ما ننسخ من آية) قراءة العامة بفتح النون والسين من النسخ أي ترفعا وقرأ ابن عاصم بضم النون وكسر السين من الانساخ له وجهان أحدهما جعله في المنسوخ والثاني أن نجعله في المنسوخ نسخة لك يقال نسخت الكتاب أي كتبته وأنسخته غيري إذا جعلته نسخة له أو ننسها أي ننسها عن قلبك وقال ابن عباس رضي الله عنهما نتركها لا ننسخها قال الله تعالى (نسوا الله فنسيهم) أي تركوه فتركهم وقيل ننسها أي نأمر بتركها يقال أنسيت الشيء إذا أمرت بتركه فيكون النسخ الأول من رفع الحكم وإقامة غيره مقامه والإنساء يكون نسخا من غير إقامة غيره مقامه وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أو ننسأها بفتح النون الأول والسين مهموز أي نؤخرها فلا نبدلها يقال نسأ الله في أجله وأنسأ الله أجله في معناه قولان أحدهما نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها كما فعل في آية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم والقول الثاني قال سعيد بن المسيب وعطاء أما ما نسخ من آية فهو ما قد أتى ونزل من القرآن جعلاه من النسخة أو ننسأها أي نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ فلا تنزل (نأت بخير منها) أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم لا أن آية خير من آية لأن كلام الله واحد وكله خير (أو مثلها) في المنفعة والثواب فكل ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل وما نسخ إلى الأشق فهو في الثواب أكثر (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) من النسخ والتبديل لفظه استفهام ومعناه تقرير أي إنك تعلم 107 (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم) يا معشر الكفار عند نزول العذاب (من دون الله) مما سوى الله (من ولي) قريب وصديق وقيل وال وهو القيم بالأمور (ولا نصير) ناصر يمنعكم من العذاب 108 قوله (أم تريدون أن تسألوا رسولكم) نزلت في اليهود حين قالوا يا محمد ائتنا بكتاب من السماء
104

سورة البقرة 109 110 جملة كما أتى موسى بالتوراة فقال تعالى (أم تريدون) يعني أتريدون فالميم صلة وقيل بل تريدون أن تسألوا رسولكم محمدا صلى الله عليه وسلم (كما سئل موسى من قبل) سأله قومه (أرنا الله جهرة) وقيل إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا كما أن موسى سأله قومه فقالوا أرنا الله جهرة ففيه منعهم عن السؤالات المقترحة بعد ظهور الدلائل والبراهين (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) يستبدل الكفر بالإيمان (فقد ضل سواء
السبيل) أخطأ وسط الطريق وقيل قصد السبيل 109 قوله تعالى (ود كثير من أهل الكتاب) الآية نزلت في نفر من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد لو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم فقال لهم عمار كيف نقض العهد فيكم قالوا شديدا قال فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت فقالت اليهود أما هذا فقد صبا وقال حذيفة أما أنا فقد رضيت بالله تعالى ربا وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ قد أصبتما الخير وأفلحتما \ فأنزل الله تعالى (ود كثير من أهل الكتاب) أي تمنى وأراد كثير من أهل الكتاب من اليهود (لو يردونكم) يا معشر المؤمنين (من بعد إيمانكم كفارا حسدا) نصب على المصدر أي يحسدونكم حسدا (من عند أنفسهم) أي من تلقاء أنفسهم ولم يأمرهم الله بذلك (من بعد ما تبين لهم الحق) في التوراة أن قول محمد صلى الله عليه وسلم صدق ودينه حق (فاعفوا) فاتركوا (واصفحوا) وتجاوزوا فالعفو المحو والصفح الإعراض وكان هذا قبل آية القتال (حتى يأتي الله بأمره) بعذابه القتل والسبي لبني قريظة والجلاء والنفي لبني النضير وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقال قتادة هو أمره بقتالهم في قوله (قاتلوا المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) إلى قوله (وهم صاغرون) وقال ابن كيسان بعلمه وحكمه فيهم حكم لبعضهم بالإسلام ولبعضهم بالقتل والسبي والجزية (إن الله على كل شيء قدير) 110 (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا) تسلفوا (لأنفسكم من خير) طاعة وعمل صالح (تجدوه عند الله) وقيل أراد بالخير المال كقوله تعالى (إن ترك خيرا) وأراد من زكاة أو صدقة تجدوه عند الله حتى الثمرة واللقمة مثل أحد (إن الله بما تعملون بصير)
105

سورة البقرة 111 113 111 (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) أي يهوديا قال الفراء حذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهودية وقال الأخفش الهود جمع هائد مثل عائد وعود وحائل وحول (أو نصارى) وذلك أن اليهود قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ولا دين إلا دين اليهودية وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ولا دين إلا دين النصرانية وقيل نزلت في وفد نجران وكانوا نصارى اجتمعوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود فكذب بعضهم بعضا قال الله تعالى (تلك أمانيهم) أي شهواتهم الباطلة التي تمنوها على الله بغير الحق (قل) يا محمد (هاتوا) أصله آتوا (برهانكم) حجتكم على ما زعمتم (إن كنتم صادقين) ثم قال ردا عليهم 112 (بلى من أسلم وجهه) أي ليس كما قالوا بل الحكم للإسلام وإنما يدخل الجنة من أسلم وجهه (لله) أي أخلص دينه لله وقبل أخلص عبادته لله وقيل خضع وتواضع لله وأصل الإسلام الاستسلام والخضوع وخص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه (وهو محسن) في عمله وقيل مؤمن وقيل مخلص (فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) 113 قوله (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) نزلت في يهود المدينة ونصارى أهل نجران وذلك أن وفد نجران لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت لهم اليهود ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل وقالت لهم النصارى ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بموسى والتوراة فأنزل الله تعالى (وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب) وكلا الفريقين يقرؤون الكتاب وقيل معناه ليس في كتبهم هذا الاختلاف فدل تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم ما فيه على كونهم على الباطل (كذلك قال الذين لا يعلمون) يعني آباءهم الذين مضوا (مثل قولهم) قال مجاهد يعني عوام النصارى وقال مقاتل يعني مشركي
106

سورة البقرة 114 115 العرب كذلك قالوا في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم ليسوا على شيء من الدين وقال عطاء أمم كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام قالوا لنبيهم إنه ليس على شيء (فاللهه يحكم بينهم يوم القيامة) يقضي بين المحق والمبطل (فيما كانوا فيه يختلفون) من الدين 114 قوله (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر) الآية نزلت في ططوس بن اسبيسبانوس الرومي وأصحابه وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير فكان خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال قتادة والسدي هو بختنصر وأصحابه غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك النصارى ططوس الرومي وأصحابه من أهل الروم قال السدي من أجل أنهم قتلوا يحيى بن زكريا وقال قتادة حملهم بعض اليهود على معاونة بختنصر البابلي المجوسي فأنزل الله تعالى (ومن أظلم) أي أكفر (ممن منع مساجد الله) يعني بيت المقدس ومحاربيه أن يذكر (فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) وذلك أن بيت المقدس بعد عمارتها رومي إلا خائفا لو علم به قتل وقال قتادة ومقاتل لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا مستنكرا لو قدر عليه لعوقب قال سيدي أخيفوا بالجزية وقيل هذا خبر بمعنى الأمر أي أجهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد منهم إلا خائفا من القتل والسبي أي ما ينبغي لهم (لهم في الدنيا خزي) عذاب وهوان قال قتادة هو القتل للحربي والجزية للذمي قال مقاتل والكلبي تفتح مدائنهم الثلاثة قسطنطينية ورومية وعمورية (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وهو النار وقال عطاء وعبد الرحمن بن زيد نزلت في مشركي مكة وأراد بالمساجد المسجد الحرام منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حجه والصلاة فيه عام الحديبية وإذا منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يعمره بذكر الله فقد سعوا في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين يعني أهل مكة يقول افتحها عليكم حتى تدخلوها وتكونوا أولى بها منهم ففتحها عليهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك فهذا خوفهم وثبت في الشرع أن لا يمكن مشرك من دخول الحرم لهم في الدنيا خزي الذل والهوان والقتل والسبي والنفي 115 قوله عز وجل (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) قال ابن عباس رضي الله عنهما
107

سورة البقرة 116 خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة فتحروا القبلة وصلوا فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك عليه فنزلت هذه الآية وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نزلت في المسافر يصلي التطوع حيث ما توجهت به راحلته أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنا زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي أنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد
الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيث ما توجهت به وقال عكرمة نزلت في تحويل القبلة قال أبو العالية صرفت القبلة إلى الكعبة وعيرت اليهود المؤمنين وقالوا ليست لهم قبلة فتارة يستقبلون هكذا وتارة هكذا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال مجاهد والحسن لما نزلت (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) قالوا أني ندعوه فأنزل الله عز وجل (ولله المشرق والمغرب) ملكا وخلقا (فأينما تولوا فثم وجه الله) يعني أينما تحولوا وجوهكم فثم أي هناك وجه الله قال الكلبي فثم الله يعلم ويرى (وجه) صلة كقوله تعالى (6 كل شيء هالك إلا وجهه) أي إلا هو وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان فثم قبلة الله والوجه والوجهة والجهة القبلة وقيل رضا الله تعالى (إن الله واسع) أي غني يعطي من السعة قال الفراء الواسع الجود الذي يسع عطاؤه كل شيء قال الكلبي واسع المغفرة (عليم) بنياتهم حيث ما صلوا ودعوا 116 قوله تعالى (وقالوا اتخذ الله ولدا) قرأ ابن عامر (قالوا) بلا واو وقال الآخرون (وقالوا اتخذ الله ولدا) نزلت في يهود المدينة حيث قالوا عزير ابن الله وفي نصارى نجران حيث قالوا المسيح ابن الله وفي مشركي العرب حيث قالوا الملائكة بنات الله (سبحانه) نزه وعظم نفسه أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب بن عبد الرحمن بن أبي حسن نافع بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا \ قوله تعالى (بل له ما في السماوات والأرض) عبيدا وملكا (كل له قانتون) قال مجاهد وعطاء والسدي مطيعون وقال عكرمة ومقاتل مقرون له بالعبودية وقال ابن كيسان قائمون بالشهادة وأصل القنوت القيام قال النبي صلى الله عليه وسلم \ أفضل الصلاة طول القنوت \ واختلفوا في حكم الآية
108

سورة البقرة 117 119 فذهب جماعة إلى أن حكم الآية خاص وقال مقاتل هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هو راجع إلى أهل طاعته دون سائر الناس وذهب جماعة إلى أن حكم الآية عام في جميع الخلق لأن لفظ كل يقتضي الإحاطة بالشيء بحيث لا يشذ منه شيء ثم سلكوا في الكفار طريقين فقال مجاهد يسجد ظلالهم لله على كره منهم قال الله تعالى (وظلالهم بالغدو والآصال) وقال السدي هذا يوم القيامة دليله (وعنت الوجوه للحي القيوم) وقيل قانتون مذللون مسخرون لما خلقوا له 117 قوله عز وجل (بديع السماوات والأرض) أي مبدعها ومنشئها من غير مثال سبق (وإذا قضى أمرا) أي قدره وقيل أحكمه وأتقنه وأصل القضاء الفراغ ومنه قيل لمن مات قضي عليه لفراغه من الدنيا ومنه قضاء الله وقدره لأنه فرغ منه تقديرا أو تدبيرا (فإنما يقول له كن فيكون) قرأ ابن عامر (كن فيكون) بنصب النون في جميع المواضع إلا في آل عمران (كن فيكون الحق من ربك) وفي سورة الأنعام (كن فيكون قوله الحق) وإنما نصبها لأن جواب الأمر بالفاء يكون منصوبا وقرأ الآخرون بالرفع على معنى فهو يكون فإن قيل كيف قال (فإنما يقول له كن) والمعدوم لا يخاطب قيل قال ابن الأنباري معناه فإنما يقول له أي لأجل تكوينه فعلى هذا ذهب معنى الخطاب وقيل هو وإن كان معدوما ولكنه لما قدر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فصح الخطاب 118 قوله عز وجل (وقال الذين لا يعلمون) قال ابن عباس رضي الله عنهما اليهود وقال مجاهد النصارى وقال قتادة مشركو العرب (لولا) هلا (يكلمنا الله) عيانا بأنك رسوله وكل ما في القرآن (لولا) فهو بمعنى هلا إلا واحدا وهو قوله (فلولا أنه كان من المسبحين) معناه فلو لم يكن (أو تأتينا آية) دلالة علامة على صدقك قال الله تعالى (كذلك قال الذين من قبلهم) أي كفار الأمم الخالية (مثل قولهم تشابهت قلوبهم) أي أشبه بعضهم بعضا في الكفر والقسوة وطلب المحال (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) 119 (إنا أرسلناك بالحق) أي بالصدق كقوله (ويستبؤنك أحق هو قل أي وربي إنه لحق) أي
109

سورة البقرة 120 121 صدق قال ابن عباس رضي الله عنهما بالقرآن دليله (بل كذبوا بالحق لما جاءهم) وقال ابن كيسان بالإسلام وشرائعه دليله قوله عز وجل (وقل جاء الحق) وقال مقاتل معناه لم نرسلك عبثا إنما أرسلناك بالحق كما قال (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) قوله عز وجل (بشيرا) أي مبشرا لأوليائي وأهل طاعتي بالثواب الكريم (ونذيرا) أي منذرا مخوفا لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم قرأ نافع ويعقوب (ولا تسأل) على النهي قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم \ ليت شعري ما فعل أبواي \ فنزلت هذه الآية وقيل هو على معنى قولهم لا تسأل عن شر فلان فإنه فوق ما تحسب وليس على النهي وقرأ الآخرون (ولا تسأل) بالرفع على النفي بمعنى ولست بمسئول عنهم كما قال الله تعالى (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) (عن أصحاب الجحيم) والجحيم معظم النار 120 قوله عز وجل (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى) وذلك أنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه فأنزل الله تعالى هذه الآية معناه أنك وإن هادنتهم فلا يرجون بها وإنما يطلبون ذلك تعللا ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم وقال ابن عباس رضي الله عنهما هذا في القبلة وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي إلى قبلتهم فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة أيسوا منه أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود) إلا باليهودية ولا النصارى إلا بالنصرانية والملة الطريقة (ولئن اتبعت أهواءهم) قيل الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة كقوله (لئن أشركت ليحبطن عملك) (بعد الذي جاءك من العلم) البيان بأن دين الله هو الإسلام والقبلة قبلة إراهيم عليه السلام وهي الكعبة (ما لك من الله من ولي ولا نصير) 121 (الذين آتيناهم الكتاب) قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في أهل السفينة قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا وقال الضحاك هم ممن آمن من اليهود عبد الله بن سلام وشعبة بن عمرو وتمام بن يهودا وأسد وأسيد ابنا كعب وابن يامين وعبد الله بن صوريا وقال قتادة وعكرمة هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هم المؤمنون عامة (يتلونه حق تلاوته) قال الكلبي يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من
110

سورة البقرة 122 124 الناس والهاء راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال الآخرون هي عائدة إلى الكتاب واختلفوا في معناه فقال ابن مسعود رضي الله عنه
يقرؤونه كما أنزل ولا يحرفونه ويحلون حلاله ويحرمون حرامه وقال الحسن يعلمون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون علم ما أشكل عليهم إلى عالمه وقال مجاهد يتبعونه حق اتباعه قوله (أولئك يؤمنون به) (ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) 122 (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين) 123 (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) 124 (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) قرأ ابن عامر إبراهام بالألف في بعض المواضع ثلاثة وثلاثون موضعا جملته تسعة وتسعون موضعا وهو اسم أعجمي ولذلك لا يجري عليه الصرف وهو إبراهيم بن تارخ هو آزر بن ناخور وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز وقيل بابل وقيل كوثي وقيل كسكر وقيل حران ولكن أباه نقله إلى أرض بابل بأرض نمروز بن كنعان ومعنى الابتلاء الاختبار والامتحان والأمر وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء لأنه عالم بهم ولكن ليعلم العباد أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضا واختلفوا في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم فقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما هي ثلاثون سماهن شرائع الإسلام لم يبتل بها أحد فأقامها كلها إبراهيم فكتب له البراءة فقال (وإبراهيم الذي وفى) عشر في براءة (التائبون العابدون) إلى آخرها وعشر في الأحزاب (إن المسلمين والمسلمات) إلى آخرها وعشر في سورة المؤمنين في قوله (قد أفلح المؤمنون) الآيات وقوله (إلا المصلين) في سأل سائل وقال طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما ابتلاه الله تعالى بعشرة أشياء وهي الفطرة خمس في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسؤال وفرق الرأس وخمس في البدن تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء وفي الخبر أن إبراهيم عليه السلام أول من قص الشارب وأول من اختتن وأول من قلم الأظافر وأول من رأى الشيب فلما رآه قال يا رب ما هذا قال الوقار قال يا رب زدني وقارا قال مجاهد هي الآيات التي بعدها في قوله عز وجل (إني جاعلك للناس
111

سورة البقرة 125 إماما) إلى آخر القصة وقال الربيع وقتادة مناسك الحج وقال الحسن ابتلاه الله بسبعة أشياء بالكواكب والقمر والشمس فأحسن فيها النظر وعلم أن ربه دائم لا يزول وبالنار فصبر عليها وبالهجرة وبذبح ابنه وبالختان فصبر عليها قال سعيد بن جبير هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان البيت (ربنا تقبل منا) الآية فرفعاه بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال يمان بن رباب هن محاجة قومه قال الله تعالى (وحاجه قومه) إلى قوله تعالى (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم) وقيل هي قوله (الذي خلقني فهو يهدين) إلى آخر الآيات فأتمهن قال قتادة أداهن قال الضحاك قام بهن وقال يمان عمل بهن قال الله تعالى (قال إني جاعلك للناس إماما) يقتدى بك في الخير (قال) إبراهيم (ومن ذريتي) أي ومن أولادي أيضا فاجعل أئمة يقتدى بهم (قال) الله تعالى (لا ينال) لا يصيب (عهدي الظالمين) قرأ حمزة وحفص بإسكان الياء والباقون بفتحها أي من كان منهم ظالما لا يصيبه قال عطاء بن أبي رباح عهدي رحمتي وقال السدي نبوتي وقيل الإمامة قال مجاهد ليس لظالم أن يطاع في ظلمه ومعنى الآية لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالما من ولدك وقيل أراد بالعهد الأمان من النار وبالظالم المشرك كقوله تعالى (الذين آمنوا ولم يلبثوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن) 125 قال الله تعالى (وإذ جعلنا البيت) يعني الكعبة (مثابة للناس) مرجعا لهم قال مجاهد وسعيد بن جبير يثوبون إليه من كل جانب ويحجون قال ابن عباس رضي الله عنهما معاذا وملجأ وقال قتادة وعكرمة مجمعا (وأمنا) أي مأمنا يأمنون فيهه من إيذاء المشركين فإنهم ما كانوا يتعرضون لأهل مكة ويقولون هم أهل الله ويتعرضون لمن حوله كما قال الله تعالى (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا علي بن عبد الله أنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة \ إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة اللهه إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه \ فقال العباس يا رسول اللهه إلا الأذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إلا الأذخر \ (واتخذوا) قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على الخبر وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر (من مقام إبراهيم مصلى) قال يمان المسجد كله مقام إبراهيم وقال إبراهيم
112

النخعي الحرم كله مقام إبراهيم وقيل أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج مثل عرفة ومزدلفة وسائر المشاهد والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي هو المسجد يصلي أليه الأئمة وذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند بناء البيت وقيل كان أثر أصابع رجليه بينا فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي قال قتادة ومقاتل والسدي أمروا بالصلاة عند مقام إبراهيم ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد عن يحيى بن حميد عن أنس قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت الله في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله عز وجل آية الحجاب قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت لهن إن انتهيتن و ليبدلنه اللهه خيرا منكن فأنزل الله تعالى (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) الآية ورواه محمد بن إسماعيل أيضا عن عمرو بن عون أنا هشام عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال قال عمر رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وأما بدء قصة المقام فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما أتى إبراهيم إسماعيل وهاجر وضعهما بمكة وأتت على ذلك مدة ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فقدم إبراهيم مكة وقد ماتت هاجر فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك قالت ذهب يتصيد وكان إسماعيل عليه السلام يخرج من الحرم فيصيد فقال لها إبراهيم هل عندك ضيافة قالت ليس عندي ضيافة وسألها عن عيشهم فقالت نحن في ضيق وشدة فشكت إليه فقال لها إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه فذهب إبراهيم فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال لامرأته هل جاءك أحد فقالت جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه قال فما قال لك قالت قال اقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه قال ذلك أبي وقد أمرني أن أفرقك إلحقي بأهلك فطلقها وتزوج منهم بأخرى فلبث إبراهيم ما شاء الل أن يلبث ثم
استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فجاء إبراهيم عليه السلام حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك قالت ذهب يتصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله فانزل يرحمك الله قال هل عندك ضيافة قالت نعم فجاءت باللبن واللحم وسألها عن عيشهم فقالت نحن بخير وسعة فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز وبر أو شعير أو تمر لكانت أكثر أرض الله برا أو شعيرا أو تمرا فقالت له انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولته إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه فقال لها إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامرأته هل جاءك أحد قالت نعم شيخ أحسن الناس وجها وأطيبهم
113

سورة البقرة 126 ريحا وقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال ذاك إبراهيم النبي أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك وروي عن سعيد بن جبير أيضا عن ابن عباس قال ثم لبثت عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت دوحة قريبة من زمزم فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر تعينني عليه قال أعينك عليه قال إن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا فعند ذلك رفع القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني فلما ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام إبراهيم على الحجر المقام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) وفي الخبر \ الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولولا مسته أيدي المشركين لأضاء ما بين المشرق والمغرب \ قوله عز وجل (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) أي أمرناهما وأوصينا إليهما قيل سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولد ويقول اسمع يا إيل وإيل هو الله فلما رزق الولد سماه به (أن طهرا بيتي) يعني الكعبة أضافه إليه تخصيصا وتفضيلا أي ابنياه على الطهارة والتوحيد وقال سعيد بن جبير وعطاء طهراه من الأوثان والريب وقول الزور وقيل بخراه وخلقاه قاله يمان بن رباب قرأ أهل المدينة وحفص (بيتي) بفتح الياء ههنا وفي سورة الحج وزاد حفص في سورة نوح (للطائفين) الدائرين حوله (والعاكفين) المقيمين المجاورين (والركع) جمع راكع (السجود) ساجد وهم المصلون قال الكلبي ومقاتل الطائفين هم الغرباء والعاكفين أهل مكة قال عطاء ومجاهد وعكرمة الطواف للغرباء أفضل والصلاة لأهل مكة أفضل 126 (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا) يعني مكة وقيل الحرم (بلدا آمنا) أي ذا أمن يأمن فيه أهله (وارزق أهله من الثمرات) إنما دعا بذلك لأنه كان بواد غير ذي زرع وفي القصص أن الطائف كانت من بلاد الشام بأردن فلما دعا إبراهيم عليه السلام هذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل عليه السلام حتى قلعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعا ثم وضعها موضعها الذي هي الآن فيه فمنها أكثر ثمرات مكة (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) دعا للمؤمنين خاصة (قال) الله تعالى (ومن كفر فأمتعه) قرأ ابن عامر (فأمتعه) خفيفا بضم الهمزة والباقون مشددا ومعناهما واحد (قليلا) أي سأرزق الكافر أيضا قليلا إلى منتهى أجله وذلك أن الله تعالى وعد الرزق للخلق كافة مؤمنهم وكافرهم وإنما قيد بالقلة لأن متاع الدنيا قليل (ثم أضطره) أي ألجئه في الآخرة (إلى عذاب النار وبئس المصير) أي المرجع يصير إليه قال مجاهد وجد عند المقام كتاب فيه أنا الله
114

سورة البقرة 127 ذو بكة صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر وحرمتها يوم خلقت السماوات والأرض وحففتها بسبعة أفلاك حنفاء يأتيها رزقها من ثلاثة سبل مبارك لها في اللحم والماء 127 قوله عز وجل (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) قال الرواة إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله آدم إلى الأرض استوحش فشكا إلى الل تعالى فأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر باب شرقي وباب غربي فوضعه على موضع البيت وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي تصلي عنده كما يصلى عند عرشي وأنزل الحجر وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشيا وقيض الله له ملكا يدله على البيت فحج البيت وأقام المناسك فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام قال ابن عباس رضي الله عنه حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجلية فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة وبعث جبريل عليه السلام حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسماعيل وإسحق ببناء بيت يذكر فيه فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت وهي ريح خجول لها رأسان شبه الحية فأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطوقت السكينة على موضع البيت كتطوق الجحفة هذا قول علي والحسن وقال ابن عباس بعث الله سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافق مكة ووقفت على موضع البيت فنودي منها إبراهيم أن ابن علي ظلها لا تزد ولا تنقص وقيل أرسل الله جبريل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجر فذلك قوله تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) يعني أسسه واحدتها قاعدة وقال الكسائي جدر البيت قال ابن عباس إنما بنى البيت من خمسة أجبل طورسينا وطورزيتا ولبنان وهو جبل بالشام والجودي وهو جبل بالجزيرة وبنيا قواعده من حراء وهو جبل بمكة فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل إئتني بحجر حسن يكون للناس علما فأتاه بحجر فقال إئتني بأحسن من هذا فمضى إسماعيل يطلبه فصاح أبو قبيس يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه وقيل إن الله تعالى بنى في السماء بيتا وهو البيت المعمور ويسمى ضراح وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله وقيل أول من بنى الكعبة آدم واندرس زمن الطوفان ثم
115

سورة البقرة 128 129 أظهره الله لإبراهيم حتى بناه (ربنا تقبل منا) فيه إضمار أي ويقولان ربنا تقبل منا بناءنا (إنك أنت السميع) لدعائنا (العليم) بنياتنا 128 (ربنا واجعلنا مسلمين لك) موحدين مطيعين مخلصين خاضعين لك (ومن ذريتنا) أي أولادنا (أمة) جماعة والأمة أتباع الأنبياء (مسلمة لك) خاضعة لك (وأرنا) علمنا وعرفنا قرأ ابن كثير ساكنة الراء وأبو عمرو بالاختلاس والباقون بكسرها ووافق ابن عامر وأبو بكر في الإسكان في حم السجدة وأصله أرئنا فحذفت الهمزة طلبا للخفة
ونقلت حركتها إلى الراء ومن سكنها قال ذهبت الهمزة فذهبت حركتها (مناسكنا) شرائع ديننا وأعلام حجنا وقيل مواضع حجنا وقال مجاهد مذابحنا والنسك الذبيحة وقيل متعبداتنا وأصل النسك العبادة والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما فبعث جبريل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال عرفت يا إبراهيم قال نعم فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات (وتب علينا) تجاوز عنا (إنك أنت التواب الرحيم) 129 (ربنا وابعث فيهم) أي في الأمة المسلمية من ذرية إبراهيم وإسماعيل وقيل في أهل مكة (رسولا منهم) أي مرسلا منهم أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم حدثنا السيد أبو القاسم علي بن موسى الموسوي حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن عباس البلخي أنا ألإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي أنا محمد بن المكي أنا إسحاق بن إبراهيم أنا ابن أخي ابن وهب أنا عمي أنا معاوية عن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى عن هلال السلمي عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام \ وأراد بدعوة إبراهيم هذا فإنه دعا أن يبعث في بني إسماعيل رسولا منهم قال ابن عباس كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين (يتلو) يقرأ (عليهم آياتك) كتابك يعني القرآن والآية من القرآن كلام متصل إلى انقطاعه وقل هي جماعة حروف يقال خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم (ويعلمهم الكتاب) يعني القرآن (والحكمة) قال مجاهد فهم القرآن وقال مقاتل مواعظ القرآن وما فيه من الأحكام قال قتيبة هي العلم والعمل ولا يكون الرجل حكيما حتى
116

سورة البقرة 130 131 يجمعهما وقيل هي السنة والأحكام وقيل هي القضاء وقيل الحكمة الفقه قال أبو بكر بن دريد كل كلمة وعظتم أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة (ويزكيهم) أي يطهرهم من الشرك والذنوب وقيل يأخذ الزكاة من أموالهم وقال ابن كيسان يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ من التزكية وهي التعديل (إنك أنت العزيز الحكيم) قال ابن عباس العزيز الذي لا يوجد مثله وقال الكلبي المنتقم بيانه قوله تعالى (والله عزيز ذو انتقام) وقيل المنيع الذي لا تناله الأيدي ولا يصل إليه شيء وقيل القوي والعزة القوة قال الله تعالى (فعززنا بثالث فقالوا) أي قوينا وقيل الغالب قال الله تعالى إخبارا (وعزني في الخطاب) أي غلبني ويقال في المثل من عزيز أي من غلب سلب 130 (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) وذلك أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما قد علمتما أن الله عز وجل قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة وأبي مهاجر أن يسلم فأنزل الله عز وجل (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) أي يترك دينه وشريعته يقال رغب في الشيء إذا أراده ورغب عنه إذا تركه وقوله (من) لفظة استفهام ومعناه التقريع والتوبيخ يعني ما يرغب عن ملة إبراهيم (إلا من سفه نفسه) قال ابن عباس من خسر نفسه وقال الكلبي ضل من قبل نفسه وقال أبو عبيدة أهلك نفسه وقال ابن كيسان والزجاج معناه جهل نفسه والسفاهة الجهل وضعف الرأي وكل سفيه جاهل وذلك أن من عبد غير الله فقد جهل نفسه لأنه لم يعرف أن الله خلقها وقد جاء من عرف نفسه فقد عرف ربه وفي الأخبار أن الله تعالى أوحى إلى داود اعرف نفسك واعرفني فقال يا رب كيف أعرف نفسي وكيف أعرفك فأوحى الله إليه اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء وقال الأخفش معناه سفه في نفسه و (نفسه) على هذا القول نصب بنزع حرف الصفة وقال الفراء نصب على التفسير وكان الأصل سفهت نفسه فلما أضاف الفعل إلى صاحبها خرجت النفس مفسرة ليعلم موضع السفه كما يقال ضقت به ذرعا أو ضاق ذرعي به (ولقد اصطفيناه في الدنيا) اخترناه في الدنيا (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) يعني أي مع الأنبياء في الجنة وقال الحسين بن الفضل فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين 131 (إذ قال له ربه أسلم) أي استقم على اإسلام وأثبت عليه لأنه كان مسلما قال ابن عباس قال له
117

سورة البقرة 132 133 ذلك حين خرج من السرب وقال الكلبي أخلص دينك وعبادتك لله وقال عطاء أسلم نفسك إلى الله عز وجل وفوض أمورك إليه (قال أسلمت لرب العالمين) أي فوضت قال ابن عباس وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار 132 (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) قرأ أهل المدينة والشام و (أوصى) بالألف وكذلك في مصاحفهم وقرأ الباقون (ووصى) مشددا وهما لغتان مثل نزل ونزل معناه ووصى بها إبراهيم ووصى يعقوب بنيه قال الكلبي ومقاتل يعني كلمة الإخلاص لا إله إلا الله قال أبو عبيدة إن شئت رددت الكناية إلى الملة لأنه ذكر ملة إبراهيم وإن شئت رددتها إلى الوصية أي وصى إبراهيم بنيه الثمانية إسماعيل وأمه هاجر القبطية وإسحق وأمه سارة وستة أمهم قنطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة ويعقوب سمي بذلك لأنه والعيص كانا توأمين فتقدم عيص في الخروج من بطن أمه وخرج يعقوب على أثره آخذ بعقبه قاله ابن عباس وقيل سمي يعقوب لكثرة عقبه يعني ووصى أيضا يعقوب بنيه الاثني عشر (يا بني) معناه أن يا بني (إن الله اصطفى) اختار (لكم الدين) أي دين الإسلام (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) مؤمنون وقيل مخلصون وقيل مفوضون والنهي في ظاهر الكلام وقع على الموت وإنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام معناه داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا وأنتم مسلمون وعن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه قال إلا وأنتم مسلمون أي محسنون بربكم الظن أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي أنا علي بن الجعد أنا أبو جعفر الرازي عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول \ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالل عز وجل \ 133 قوله تعالى (أم كنتم شهداء) يعني أكنتم شهداء يريد ما كنتم شهداء حضورا (غذ حضر يعقوب الموت) أي حين قرب يعقوب من الموت قيل نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فعلى هذا القول يكون الخطاب لليهود وقال الكلبي لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران فجمع ولده وخاف عليهم ذلك فقال عز وجل (إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي) قال عطاء إن الله تعالى لم يقبض نبيا حتى خيره بين الحياة والموت فلما خير يعقوب قال يا رب انظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل الل ذلك به فجمع ولده وولد ولده
118

سورة البقرة 134 135 وقال لهم قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق) وكان إسماعيل عما لهم والعرب تسمي العم أبا كما تسمي الخالة أما قال النبي صلى الله عليه وسلم \ عم الرجل صنو أبيه \ وقال في عمه العباس \ ردوا علي أبي فإني أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود \ وذلك أنهم قتلوه (إلها واحدا) نصب على البدل من قوله (إلهك) وقيل نعرفه إلها واحدا (ونحن له مسلمون) 134 (تلك أمة) جماعة (قد خلت) مضت (لها ما كسبت) من العمل (ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون) يعني يسئل كل عن عمله لا عن عمل غيره 135 (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) قال ابن عباس نزلت في رؤساء يهود المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهود وأبي ياسر بن أخطب وفي نصارى أهل نجران السيد العاقب وأصحابهما وذلك أنهم خاصوا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله فقالت اليهود نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفرت بعيسى والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقالت النصارى نبينا أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك فقال تعالى (قل) يا محمد (بل ملة إبراهيم) بل نتبع ملة إبراهيم وقال الكسائي هو نصب على الإغراء كأنه يقول اتبعوا ملة إبراهيم وقيل معناه بل نكون على ملة إبراهيم فحذف على فصار منصوبا (حنيفا) نصب على الحال عند نحاة البصرة وعند نحاة الكوفة نصب على القطع أراد به ملة إبراهيم الحنيف فلما أسقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فنصب قال مجاهد الحنيفة أتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس قال ابن عباس الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام وأصله من الحنف وهو ميل وعوج يكون في القدم وقال سعيد بن جبير الحنيف هو الحاج المختتن وقال الضحاك إذا كان مع الحنيف المسلم فهو الحاج وإذا لم يكن مع المسلم فهو المسلم قال قتادة الحنيفة الختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وإقامة المناسك (وما كان من المشركين) ثم علم المؤمنين طريق الإيمان فقال جل ذكره
119

سورة البقرة 136 137 136 (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) يعني القرآن (وما أنزل إلى إبراهيم) وهو عشر صحف (وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط) يعني أولاد يعقوب وهم اثنا عشر سبطا واحدهم سبط سموا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة وسبط الرجل حافده ومنه قيل للحسن والحسين رضي الله عنهما سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب من بني إسماعيل والشعوب من العجم وكان في الأسباط أنبياء ولذلك قال (وما أنزل إليهم) وقيل هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلهم أنبياء (وما أوتي موسى) يعني التوراة (وعيسى) يعني الإنجيل (وما أوتي) أعطي (النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم) أي نؤمن بالكل لا نفرق بين أحد منهم فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى (ونحن له مسلمون) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن بشار أنا عثمان بن عمر أنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤن التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله \ الآية 137 (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به) أي بما آمنتم به وكذلك كان يقرؤها ابن عباس والمثل صلة كقوله تعالى (ليس كمثله شيء) أي ليس هو كشيء وقيل معناه فإن آمنوا بجميع ما آمنتم به أي أتوا بإيمان كإيمانكم وتوحيد كتوحيدكم وقيل معناه فإن آمنوا مثل ما آمنتم والباء زائدة كقوله تعالى (وهزي إليك بجذع النخلة) وقال أبو معاذ النحوي معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم (فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق) أي في خلاف ومنازعة قال ابن عباس وعطاء يقال شاق مشاقة إذا خالف كأن كل واحد أخذ في شق غير شق صاحبه قال الله تعالى (لا يجرمنكم شقاقي) أي خلافي وقيل في عداوة دليل قوله تعالى (ذلك بأنهم شاقوا الله) أي عادوا الله (فسيكفيكهم الله) يا محمد أي يكفيك شر اليهود والنصارى وقد كفي بإجلاء بني النضير وقتل بني قريظة وضرب الجزية على اليهود والنصارى (وهو السميع) لأقوالهم (العليم) بأحوالهم
120

سورة البقرة 138 140 138 (صبغة الله) قال ابن عباس في رواية الكلبي وقتادة والحسن دين الله وإنما سماه صبغة لأنه يظهر أثر الدين على المتدين كما يظهر أثر الثوب على الصبغ وقيل لأن المتدين يلزمه ولا يفارقه كالصبغ يلزم الثوب وقال مجاهد فطرة الله وهو قريب من الأول وقيل سنة الله وقيل أراد به الختان لأنه يصبغ صاحبه بالدم وقال ابن عباس هي أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد وفاتت عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودية وصبغوه له ليطهروه بذلك الماء مكان الختان فإذا فعلوا به ذلك قالوا الآن صار نصرانيا حقا فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما يفعله النصارى وهو نصب على الإغراء يعني إلزموا دين الله قال الأخفش هي بدل من قوله (ملة إبراهيم) (ومن أحسن من الله صبغة) دينا وقيل تطهيرا (ونحن له عابدون) مطيعون 139 (قل) يا محمد لليهود والنصارى (أتحاجوننا في الله) أي في دين الله والمحاجة المجادلة في الله لاظهار الحجة وذلك بأنهم قالوا إن الأنبياء كانوا منا وعلى ديننا وديننا أقدم فنحن أولى بالله منكم فقال الله (قل أتحاجوننا في الله) (وهو ربنا وربكم) أي نحن وأنتم سواء في الله فإنه ربنا وربكم (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) أي لكل واحد جزاء عمله فكيف تدعون أنكم أولى بالله (ونحن له مخلصون) وأنتم به مشركون قال سعيد بن جبير الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله فلا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله قال الفضيل ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أني يعافيك الله منهما 140 قال الله تعالى (أم تقولون) يعني أتقولون صيغة استفهام ومعناه التوبيخ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالتاء لقوله تعالى (قل أتحاجوننا في الله) وقال بعده (قل أأنتم أعلم أم الله) وقرأ الآخرون بالياء يعني يقول اليهود والنصارى (إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباء كانوا هودا أو نصارى قل) يا محمد (أأنتم أعلم) بدينهم (أم الله) وقد أخبر الله تعالى أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما (ومن أظلم ممن كتم) أخفى (شهادة عنده من الله) تعالى وهي علمهم بأن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين وأن محمدا صلى الله عليه وسلم حق ورسول أشهدهم الله عليه في كتبهم (وما الله بغافل عما تعملون)
121

سورة البقرة 141 143 141 (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون) كرره تأكيدا 142 قوله تعالى (سيقول السفهاء) الجهال (
من الناس ما ولاهم) أي شيء صرفهم وحولهم (عن قبلتهم التي كانوا عليها) يعني بيت المقدس والقبلة فعلة من المقابلة نزلت في اليهود ومشركي مكة طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة فقالوا لمشركي مكة قد تردد على محمد أمره فاشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم فقال الله تعالى (قل لله المشرق والمغرب) ملكا والخلق عبيده (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) 143 (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) نزلت في رؤساء اليهود قالوا لمعاذ بن جبل ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا وإن قبلتنا قبلة الأنبياء ولقد علم محمد أنا عدل بين الناس فقال معاذ أنا على حق وعدل فأنزل الله تعالى (وكذلك) أي وهكذا وقيل الكاف للتشبيه وهي مردودة على قوله (ولقد اصطفيناه في الدنيا) أي كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم كذلك جعلناكم أمة وسطا أي عدلا خيارا قال الله تعالى (قال أوسطهم) أي خيرهم وأعدلهم وخير الأشياء أوسطها وقال الكلبي يعني أهل دين وسط بين الغلو والتقصير لأنهما مذمومان في الدين وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو معشر إبراهيم بن محمد بن الحسين الوراق أنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن يحيى أنا أبو الصلت أنا حماد بن زيد أنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد العصر فما ترك شيئا إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان قال \ إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا ألا وأن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأخيرها وأكرمها على الله تعالى \ قوله تعالى (لتكونوا شهداء على الناس) يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم قال ابن جريج قلت لعطاء ما معنى قوله تعالى (لتكونوا شهداء على الناس) قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على من يترك الحق من الناس أجمعين (ويكون الرسول) محمد صلى الله عليه وسلم
122

(عليكم شهيدا) معدلا مزكيا لكم وذلك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم الماضية ألم يأتكم نذير فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير فيسأل الله الأنبياء عليهم السلام عن ذلك فيقولون كذبوا قد بلغناهم فيسأل البينة وهو أعلم بهم إقامة للحجة فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم أنهم بلغوا فتقول الأمم الماضية من أين علموا أو إنما أتوا بعدنا فيسأل هذه الأمة فيقولون أرسلت إلينا رسولا وأنزلت عليه كتابا أخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت ثم يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا إسحق بن منصور أخبرنا أبو أسامة قال الأعمش أخبرنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم يا رب فيسأل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقال من شهودك فيقول محمد وأمته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجاء بكم فتشهدون \ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) قوله تعالى (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) أي تحويلها يعني عن بيت المقدس فيكون من باب حذف المضاف ويحتمل أن يكون المفعول الثاني للجعل محذوفا على تقدير وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة وقيل معناه التي أنت عليها وهي الكعبة كقوله تعالى (كنتم خير أمة) أي أنتم (إلا لنعلم من يتبع الرسول) فإن قيل ما معنى قوله (إلا لنعلم) وهو عالم بالأشياء كلها قبل كونها قيل أراد به العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد معناه لنعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب وقيل إلا لنعلم أي لنرى ونميز من يتبع الرسول في القبلة (ممن ينقلب على عقبيه) فيرتد وفي الحديث \ أن القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية وقالوا رجع محمد إلى دين آبائه \ وقال أهل المعاني معناه إلا لعلمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه كأنه سبق في علمه أن تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة قوم وقد يأتي لفظ الاستقبال بمعنى الماضي كما قال الله تعالى (فلم تقتلون أنبياء الله) أي فلم قتلتهم) (وإن كانت) أي وقد كانت أو تولية القبلة وقيل الكتابة راجعة إلى القبلة وقيل إلى الكعبة قال الزجاج وإن كانت التحويلة (لكبيرة) ثقيلة شديدة (إلا على الذين هدى الله) أي هداهم الله قال سيبويه (وإن) تأكيد شبيه باليمين ولذلك دخلت اللام في جوابها (وما كان الله ليضيع إيمانكم) وذلك أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس إن كانت هدى فقد تحولتم عنها وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة فقال المسلمون إنما الهدى ما أمر الله به والضلالة ما نهى الله عنه قالوا فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا وكان قد مات قبل أن تحول إلى الكعبة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون
123

سورة البقرة 144 فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله قد صرفك إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم) يعني صلاتكم إلى بيت المقدس (إن الله بالناس لرؤف رحيم) قرأ أهل الحجاز وابن عامر وحفص لرؤوف مشبعا على وزن فعول لأن أكثر أسماء الله تعالى على فعول وفعيل كالغفور والشكور والرحيم والكريم وغيرها وأبو جعفر يلين الهمزة وقرأ الآخرون بالاختلاس على وزن فعل قال جرير (للمسلمين عليك حقا كفعل الواحد الرؤوف الرحيم) والرأفة أشد الرحمة 144 (قد نرى تقلب وجهك في السماء) هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في المعنى فإنها رأس القصة وأمر القبلة أول ما نسخ من أمور الشرع وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة أمره أن يصلي نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة فصلى بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر أشهر إلى بيت المقدس وكان يجب أن يوجه إلى الكعبة لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام وقال مجاهد كان يحب ذلك من أجل اليهود لأنهم كانوا يقولون يخالفنا محمد صلى الله عليه وسلم في ديننا ويتبع قبلتنا فقال لجبريل عليه السلام وددت لو حولني الله إلى الكعبة فإنها قبلة أبي إبراهيم عليه السلام فقال جبريل إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك فسل أنت ربك فإنك عند الله عز وجل بمكان فعرج جبريل عليه السلام وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة فأنزل الله تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء) (فلنولينك قبلة) فلنحولنك إلى قبلة (ترضاها) أي تحبها وتهواها (
فول) أي حول (وجهك شطر المسجد الحرام) أي نحوه وأراد به الكعبة والحرام المحرم (وحيثما كنتم) من بر أو نحو شرق أو غرب (فولوا وجوهكم شطره) عند الصلاة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا إسحق بن نصر أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال سمعت ابن عباس قال لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال \ هذه القبلة \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمرو بن خالد أخبرنا زهير أخبرنا أبو إسحق عن براء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله
124

سورة البقرة 145 من الأنصار وإنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذا كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب فلما تولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك وقال البراء في حديثه هذا إنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم) وكان تحويل القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين قال مجاهد وغيره نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحول في صلاة واستقبل الميزان وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين وقيل كان التحويل خارج الصلاة بين الصلاتين وأهل قبلء وصل إليهم الخبر في صلاة الصبح أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي أخبرنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي السامري أخبرنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري عن مالك بن أنس عن عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر قال بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذا جاءهم آت وقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد آمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة فلما تحولت القبلة قالت اليهود يا محمد ما هو إلا شيء تبتدعه من تلقاء نفسك فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره فأنزل الله تعالى (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه) يعني أمر الكعبة (الحق من ربهم) ثم هددهم فقال (وما الله بغافل عما يعملون) قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء قال ابن عباس يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم وقرأ الباقون بالياء يعني ما أنا بغافل عما يفعل اليهود فأجازيهم في الدنيا وفي الآخرة 145 قوله تعالى (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب) يعني اليهود والنصارى قالوا إئتنا بآية على ما تقول قال الله تعالى (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية) معجزة (ما تبعوا قبلتك) يعني الكعبة (وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض) لأن اليهود تستقبل بيت المقدس وهو المغرب والنصارى تستقبل المشرق وقبلة المسلمين الكعبة أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد بن الجراح أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي أخبرنا الحسن بن بكر المروزي أخبرنا المعلى بن منصور
125

سورة البقرة 146 148 أخبرنا عبد الله بن جعفر المخزومي عن عثمان الأخنسي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ قبلة ما بين المشرق والمغرب \ وأراد به في حق أهل المشرق وأراد بالمشرق مشرق الشتاء في أقصر يوم من السنة وبالمغرب مغرب الصيف في أطول يوم من السنة فمن جعل مغرب الصيف في هذا الوقت على يمينه ومشرق الشتاء على يساره كان وجهه إلى القبلة (ولئن اتبعت أهواءهم) مرادهم الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة (من بعد ما جاءك من العلم) من الحق في القبلة (إنك إذا لمن الظالمين) 146 قوله تعالى (الذين آتيناهم الكتاب) يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه (يعرفونه) يعني يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم (كما يعرفون أبناءهم) من بين الصبيان قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن سلام إن الله قد أنزل على نبيه (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) فكيف هذه المعرفة قال عبد الله يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما عرفت ابني ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أشد من معرفتي بابني فقال عمر كيف ذلك فقال أشهد أنه رسول حق من الله تعالى وقد نعته الله في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء فقال عمر وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق) يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة (وهم يعلمون) 147 ثم قال (الحق من ربك) أي هذا الحق خير مبتدأ مضمر وقيل رفع بإضمار فعل أي جاء الحق من ربك (فلا تكونن من الممترين) الشاكين 148 قوله تعالى (ولكل وجهة) أي لأهل كل ملة قبلة والوجهة اسم للمتوجه إليه (هو موليها) أي مستقبلها ومقبل عليها يقال وليته ووليت إليه إذا أقبلت عليه ووليت عنه إذا أدبرت عنه قال مجاهد هو موليها وجهه وقال الأخفش هو كناية عن الله عز وجل يعني مولي الأمم إلى قبلتهم وقرأ ابن عامر هو مولاها أي المستقبل مصروف إليها (فاستبقوا الخيرات) أي إلى الخيرات يريد بادروا بالطاعات والمراد المبادرة إلى القبول (أينما تكونوا) أنتم وأهل الكتاب (يأت بكم الله جميعا) يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم (إن الله على كل شيء قدير)
126

سورة البقرة 149 150 149 قوله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون) قرأ أبو عمرو بالياء والباقون بالتاء 150 (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) وإنما كرره لتأييد النسخ (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا) اختلفوا في تأويل هذه الآية ووجه قوله (إلا) فقال بعضهم معناه حولت القبلة إلى الكعبة لئلا يكون للناس عليكم حجة إذا توجهتك إلى غيرها فيقولون ليست لكم قبلة إلا الذين ظلموا وهم قريش واليهود فأما قريش فتقول رجع محمد إلى الكعبة لأنه علم أنها الحق وأنها قبلة آبائه فكذلك يرجع إلى ديننا وأما اليهود فتقول لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه حق إلا أنه يعمل برأيه وقال قوم لئلا يكون للناس عليكم حجة يعني اليهود وكانت حجتهم على طريق المخاصمة على المؤمنين في صلاتهم إلى بيت المقدس أنهم كانوا يقولون ما درى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن وقوله (إلا الذين ظلموا) وهم مشركوا مكة
وحجتهم أنهم قالوا لما صرفت قبلتهم إلى الكعبة إن محمدا قد تحير في دينه وسيعود إلى ملتنا كما عاد إلى قبلتنا وهذا معنى قول مجاهد وعطاء وقتادة وعلى هذين التأويلين يكون الاستثناء صحيحا وقوله (إلا الذين ظلموا) يعني لا حجة لأحد عليكم إلا مشركوا قريش فإنهم يحاجونكم فيجادلونكم ويخاصمونكم بالباطل والظلم والاحتجاج بالباطل يسمى حجة كما قال الله تعالى (حجتهم داحضة عند ربهم) وموضع (الذين) خفض كأنه قال سوى إلا الذين ظلموا قاله الكسائي وقال الفراء نصب بالاستثناء قوله تعالى (منهم) يعني من الناء وقيل هذا استثناء منقطع عن الكلام الأول معناه ولكن الذين ظلموا يجادلونكم بالباطل كما قال الله تعالى (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) يعني لكن يتبعون الظن فهو كقول الرجل مالك عندي حق إلا أن تظلمني قال أبو روق لئلا يكون للناس يعني اليهود عليكم حجة وذلك أنهم عرفوا أن الكعبة لإبراهيم ووجدوا في التوراة أن محمدا سيحول إليها فحوله الله تعالى لئلا يكون لهم حجة فيقولوا إن النبي الذي نجده في كتابنا سيحول إليها ولم تحول أنت فلما حول إليها ذهبت حجتهم إلا الذين ظلموا يعني إلا ن يظلموا فيكتموا ما عرفوا من الحق وقال أبو عبيدة قبلة إلا الذين ظلموا
127

سورة البقرة 151 152 ليس باستثناء ولكن (إلا) في موضع واو العطف يعني والذين ظلموا أيضا لا يكون لهم حجة كما قال الشاعر (وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان) معناه والفرقدان أيضا يتفرقان فمعنى الآية فتوجهوا إلى الكعبة لئلا يكون للناس يعني لليهود عليكم حجة فيقولوا لم تركتم الكعبة وهي قبلة إبراهيم وأنتم على دينه ولا الذين ظلموا وهم مشركو مكة فيقولون لم ترك محمد قبلة جده وتحول عنها إلى قبلة اليهود (فلا تخشوهم) في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرم عليكم بالمجادلة فإني وليكم أظهركم عليهم بالحجة والنصرة (واخشوني ولأتم نعمتي عليكم) عطف على قوله (لئلا يكون للناس عليكم حجة) ولكي أتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم فتتم به لكم الملة الحنيفية وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه تمام النعمة الموت على الإسلام قال سعيد بن جبير لا يتم نعمة على مسلم إلا أن يدخل الجنة ولعلكم تهتدون لكي تهتدوا من الضلالة و (لعل وعسى) من الله واجب 151 قوله تعالى (كما أرسلنا فيكم) هذه الكاف للتشبيه ويحتاج إلى شيء يرجع إليه فقال بعضهم يرجع إلى ما قبلها معناه ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا فيكم رسولا منكم قال محمد بن جرير دعا إبراهيم عليه السلام بدعوتين إحداهما قال (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) والثانية قوله (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) فبعث الله الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم ووعد إجابة الدعوة الثانية بأن يجعل في ذريته أمة مسلمة يعني كما أجيبت دعوته ببعث الرسول كذلك أجيبت دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وأتم نعمتي عليكم ببيان شرائع الملة الحنيفية وقال مجاهد وعطاء والكلبي هي متعلقة بما بعدها وهو قوله (فاذكروني أذكركم) معناه كما أرسلنا فيكم رسولا منكم فاذكروني وهذه الآية خطاب لأهل مكة والعرب يعني كما أرسلنا فيكم يا معشر العرب (رسولا منكم) يعني محمد صلى الله عليه وسلم (يتلو عليكم آياتنا) يعني القرآن (ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة) قيل الحكمة السنة وقيل مواعظ القرآن (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) من الأحكام وشرائع الإسلام 152 (فاذكروني أذكركم) قال ابن عباس اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي وقال سعيد بن جبير اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي وقيل اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء بيانه (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي
128

سورة البقرة 153 154 أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمر بن حفص أخبرنا أبي أخبرنا الأعمش قال سمعت أبا صالح عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم \ يقول الله تعالى انا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة \ أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد بن القاضي وثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني قال حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أخبرنا أبو عبد الملك الدمشقي أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن أخبرنا منذر بن زياد عن صخر بن جويرية عن الحسن عن أنس قال إني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد أناملي هذه العشر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إن الله تعالى يقول يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا وإن مشيت إلي هرولت إليك وإن هرولت إلي سعيت إليك وإن سألتني أعطيتك وإن لم تسألني غضبت عليك \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا يحيى بن عبد الله أخبرنا الأوزاعي أخبرنا إسماعيل بن عبد الله عن أبي الدرداء عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم \ يقول الله عز وجل أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا عبد الرحمن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا إسماعيل بن عباس أخبرنا عمرو بن قيس السكوني عن عبد الله بن بشير المازني قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال \ أن لا تفارق الدنيا إلا ولسانك رطب من ذكر الله تعالى \ قوله تعالى (واشكروا لي ولا تكفرون) يعني واشكروا لي بالطاعة ولا تكفرون بالمعصية فإن من أطاع الله فقد شكره ومن عصاه فقد كفره 153 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) بالعون والنصرة 154 (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) نزلت في قتلى بدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار كان الناس يقولون لمن يقتل في سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها فأنزل الله تعالى (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) (بل أحياء ولكن لا تشعرون) كما قال في شهداء أحد (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل
129

سورة البقرة 155 156 أحياء عند ربهم يرزقون) قال الحسن إن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية فيصل إليهم الوجع 155 قوله تعالى (ولنبلونكم) أي ولنختبرنكم يا أمة محمد واللام لجواب القسم المحذوف تقديره والله لنبلونكم والابتلاء من الله لإظهار المطيع من العاصي لا ليعلم شيئا لم يكن عالما به (بشيء من الخوف) قال ابن عباس يعني خوف العدو (والجوع) يعني القحط (ونقص من
الأموال) بالخسران والهلاك (والأنفس) يعني بالقتل والموت وقيل بالمرض والشيب (والثمرات) يعني الجوائح في الثمار وحكي عن الشافعي أنه قال الخوف خوف الله تعالى والجوع صيام رمضان ونقص من الأموال أداء الزكاة والصدقات والأنفس الأمراض والثمرات موت الأولاد لأن ولد الرجل ثمرة قلبه أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا الحسن بن موسى أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي سنان قال دفنت ابني سنانا وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرجني فقال ألا أبشرك حدثني الضحاك عن عروة عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي قالوا نعم قال أقبضتم ثمرة فؤاده قالوا نعم قال فماذا قال عبدي قالوا استرجع وحمدك قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد \ (وبشر الصابرين) على البلايا والرزايا ثم وصفهم فقال 156 (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله) عبيدا وملكا (وإنا إليه راجعون) في الآخرة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا محاضر بن الموزع أخبرنا سعيد عن عمرو بن كثير أنا أفلح أخبرنا مولى أم سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ ما من مصيبة تصيب عبدا فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهمأجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آخره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها \ قالت أم سلمة لما توفي أبو سلمة عزم الله لي فقلت اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال سعيد بن جبير ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطي هذه الأمة يعني الاسترجاع ولو أعطيها أحد لأعطيها ليعقوب عليه السلام ألا تسمع إلى قوله تعالى في قصة فقد يوسف عليه السلام (يا أسفي على يوسف)
130

سورة البقرة 157 157 (أولئك) أهل هذه الصفة (ليهم صلوات من ربهم ورحمة) صلوات أي رحمة فإن الصلاة من الله الرحمة والرحمة ذكرها الله تأكيدا وجميع الصلوات أي رحمة (وأولئك هم المهتدون) إلى الاسترجاع وقيل إلى الحق والصواب وقيل إلى الجنة والثواب قال عمر رضي الله عنه نعم العدلان ونعمت العلاوة فالعدلان الصلاة والرحمة والعلاوة الهداية وقد وردت أخبار في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين منها ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي أخبرنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه قال سمعت أبا الحبال سعد بن يسار يقول سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من يرد الله به خيرا يصب منه \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا ابن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن محمد أخبرنا عبد الملك بن عمر أخبرنا زهير بن محمد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أنا محمد بن عبيد أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ادع الله لي أن يشفيني قال \ إن شئت دعوت الله أن يشفيك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك \ قالت بل أصبر ولا حساب علي أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو سعيد خلف بن عبد الرحمن بن أبي نزار أخبرنا أبو منصور العباس بن الفضل النضروي أخبرنا أحمد بن نجدة أخبرنا يحيى بن عبد الحميد الحماني أخبرنا حماد بن زيد عن عاصم هو ابن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشد الناس بلاء قال \ الأنبياء والأمثل فالأمثل يبتلي الله الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا ابتلي على قدر ذلك وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يزال كذلك حتى يمشي على الأرض وما له ذنب \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال \ إن عظم الجزاء عند الله مع عظم البلاء فإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط \ أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن يحيى أخبرنا زيد بن هارون أخبرنا محمد بن عمرو وعن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة \ أخبرنا
131

سورة البقرة 158 أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أخبرنا أبو إسماعيل بن محمد الصفار أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتم حتى تستحصد \ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبي إسحق عن العيزار بن حريث عن عمرو بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ عجبا للمؤمن إن أصابه خير حمد الله وشكر وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر فالمؤمن يؤجر في كل أمره حتى يؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته \ 158 قوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الصفا جمع صفاة وهي الصخرة الصلبة الملساء يقال صفاة وصفا مثل حصاة وحصى ونواة ونوى والمروة الحجر الرخو وجمعها مروان وجمع الكثير مرو مثل تمرة وتمرات وتمر وإنما عنى بهما الجبلين المعروفين بمكة في طرفي المسعى ولذلك أدخل فيهما الألف واللام وشعائر الله أعلام دينه أصلها من الأشعار وهو الإعلام واحدتها شعيرة وكل ما كان معلما لقربات يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة ودعاء وذبيحة فهو شعيرة فالمطاف والموقف والنحر كلها شعائر لله ومثلها المشاعر والمراد بالمشاعر ههنا المناسك التي جعلها الله إعلاما لطاعته فالصفا والمروة منها حتى يطاف بهما جميعا
(فمن حج البيت أو اعتمر) فالحج في اللغة القصد والعمرة الزيارة وفي الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة (فلا جناح عليه) أي لا إثم عليه وأصله من جنح أي مال عن القصد (أن يطوف بهما) أي يدور بهما واصله يتطوف أدغمت التاء في الطاء وسبب نزول هذه الآية أنه كان على الصفا والمروة صنمان إساف على الصفا ونائلة على المروة وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيما للصنمين ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعي بين الصفا والمروة لأجل الصنمين فأذن الله فيه وأخبر أنه من شعائر الله واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية ووجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة فذهب جماعة إلى وجوبه وهو قول ابن عمرو وجابر وعائشة وبه قال الحسن وإليه ذهب مالك والشافعي وذهب قوم إلى أنه تطوع وهو قول ابن عباس وبه قال ابن سيرين ومجاهد وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وقال الثوري وأصحاب الرأي على من تركه دم واحتج من أوجبه بما أخبرنا
132

عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الله بن نوفل العائذي عن عمرو بن عبد الرحمن بن محيص عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة قالت أخبرتني بنت أبي تجزاة اسمها حبيبة إحدى نساء بني عبد الدار قالت دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لرى ركبته وسمعته يقول \ اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي \ أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت قول الله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر اللهه فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) فما أرى على أحد شيئا ألا يطوف بهما قالت عائشة كلا لو كانت كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى (إن السفا والمروة من شعائر الله) الآية وقال عاصم قلت لأنس بن مالك أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة فقال نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المسجد وهو يريد الصفا يقول \ نبدأ بما بدأ الله تعالى به فبدأ بالصفا وقال كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثا ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك وقال كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا نصبت قدماه في بطن الوادي يسعى حتى يخرج منه \ قال مجاهد رحمه الله حج موسى عليه السلام على جمل أحمر وعليه عباءتان قطوانيتان فطاف بالبيت ثم صعد الصفا ودعا ثم هبط إلى السعي وهو يلبي فيقول لبيك اللهم لبيك فقال الله تعالى لبيك عبدي أنا معك وسامع لك وناظر إليه فخر موسى عليه السلام ساجدا قوله تعالى (ومن تطوع خيرا) قرأ حمزة والكسائي بالياء وتشديد الطاء وجزم العين وكذلك الثانية (فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا) بمعنى يتطوع ووافق يعقوب في الأول وقرأ الباقون بالتاء وفتح العين في الماضي وقال مجاهد معناه فإن تطوع بالطواف بالصفا والمروة وقال مقاتل والكلبي فمن تطوع أي زاد في الطواف بعد الواجب وقيل من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحجة الواجبة عليه وقال الحسن وغيره أراد سائر الأعمال يعني فعل غير المفترض عليه من زكاة وصلاة وطواف وغيرها من أنواع الطاعات (فإن الله شاكر) مجاز لعبده بعمله (عليم) بنيته والشكر من الله تعالى أن يعطي لعبده فوق ما يستحق يشكر اليسير ويعطي الكثير
133

سورة البقرة 159 163 159 قوله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) نزلت في علماء اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغيرهما من الأحكام التي كانت في التوراة (أولئك يلعنهم الله) وأصل اللعن الطرد والبعد (ويلعنهم اللاعنون) أي يسألون الله أن يلعنهم ويقولون اللهم العنهم واختلفوا في هؤلاء اللاعنين قال ابن عباس جميع الخلائق إلا الجن والإنس وقال قتادة هم الملائكة وقال عطاء الجن والإنس وقال الحسن جميع عباد الله قال ابن مسعود ما تلا عن اثنان من المسلمين إلا رجعت تلك اللعنة عن اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وقال مجاهد اللاعنون البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وقالت هذا من شؤم ذنوب بني آدم ثم استثنى فقال 160 (إلا الذين آمنوا) من الكفر (وأصلحوا) أسلموا أو أصلحوا الأعمال فيما بينهم وبين ربهم (وبينوا) ما كتموا (فأولئك أتوب عليهم) أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم (وأنا التواب) الرجاع بقلوب عبادي المنصرفة عني إلي (الرحيم) بهم بعد إقبالهم علي 161 (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة) أي لعنة الملائكة (والناس أجمعين) قال أبو العالية هذايوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس فإن قيل فقد قال والناس أجمعين والمعلون هو من جملة الناس فكيف يلعن نفسه قيل يلعن نفسه في القيامة قال الله تعالى (ويلعن بعضكم بعضا) وقيل إنهم يلعنون الظالمين والكافرين ومن يلعن الظالمين والكافرين وهو منهم فقد لعن نفسه 162 (خالدين فيها) مقيمين في اللعنة وقيل في النار (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) لا يمهلون ولا يؤجلون وقال أبو العالية لا ينظرون فيعتذروا كقوله تعالى (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) 163 قوله تعالى (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش
134

سورة البقرة 164 قالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه فأنزل الله تعالى هذه الآية وسورة الإخلاص والواحد الذي لا نظير له ولا شريك له أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا بكر بن إبراهيم وأبو عاصم عن عبد الله بن أبي زياد عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أنها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) و (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) قال أبو الضحى لما نزلت هذه الآية قال المشركون إن محمدا يقول إن إلهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان من الصادقين فأنزل الله عز وجل 164 (
إن في خلق السماوات والأرض) ذكر السماوات بلفظ الجمع والأرض بلفظ الواحد لأن كل سماء من جنس آخر والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب فالآية في السماوات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم والآية في الأرض مدها وبسطها وسعتها وما يرى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات قوله تعالى (واختلاف الليل والنهار) أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر أي بعده نظيره قوله تعالى (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) قال عطاء أراد اختلافهما في النور والظلمة والزيادة والنقصان والليل جمع ليلة والليالي جمع الجمع والنهار جمع نهر وقدم الليل على النهار في الذكر لأنه أقدم منه قال الله تعالى (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) (والفلك التي تجري في البحر) يعني السفن واحده وجمعه سواء فإذا أريد به الجمع يؤنث وفي الواحد يذكر قال الله تعالى في الواحد والتذكير (إذ أبق إلى الفلك المشحون) وقال في الجمع والتأنيث (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) (والفلك التي تجري في البحر) الآية في الفلك تسخيرها وجريها على وجه الماء وهي موقرة لا ترسب تحت الماء (بما ينفع الناس) يعني ركوبها والحمل عليهما في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب (وما أنزل الله من السماء من ماء) يعني المطر قيل أراد بالسماء السحاب يخلق الله الماء في السحاب ثم من السحاب ينزل وقيل أراد به السماء المعروفة يخلق الله تعالى الماء في السماء ثم ينزل من السماء إلى السحاب ثم من السحاب ينزل إلى الأرض (فأحيا به) أي بالماء (الأرض بعد موتها) أي بعد يبسها وجدوبتها (وبث فيها) أي فرق فيها (من كل دابة وتصريف الرياح) قرأ حمزة
135

سورة البقرة 165 والكسائي (الريح) بغير ألف وقرأ الباقون بالألف وكل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولا لام اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا في الذاريات (الريح العقيم) اتفقوا على توحيدها وفي الحرف الأول من سورة الروم (الرياح مبشرات) اتفقوا على جمعها وقرأ أبو جعفر سائرها على الجمع والقراء مختلفون فيها والريح يذكر ويؤنث وتصريفها أنها يتصرف إلى الجنوب والشمال والقبول والدبور والنكباء وقيل تصريفها أنها تارة تكون لينا وتارة تكون عاصفا وتارة تكون حارة وتارة باردة قال ابن عباس أعظم جنود الله الريح والماء وسميت الريح ريحا لأنها تريح النفوس قال شريح القاضي ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح والبشارة في ثلاث من الرياح في الصبا والشمال والجنوب أما الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها وقيل الرياح ثمانية أربعة للرحمة وأربعة للعذاب فأما التي للرحمة المبشرات والباشرات والذاريات والمرسلات وأما التي للعذاب فالعقيم والصرصر في البر والعاصف والقاصف في البحر (والسحاب المسخر) أي الغيم المذلل سمي سحابا لأنه ينسحب أي يسير في سرعة كأنه يسحب أي يجر (بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقا وصانعا قال وهب بن منبه ثلاثة لا يدرى من أين تجيء الرعد والبرق والسحاب 165 قوله تعالى (ومن الناس) يعني المشركين (من يتخذ من دون الله أندادا) أي أصناما يعبدونها (يحبونهم كحب الله) أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله وقال الزجاج يحبون الأصنام كما يحبون الله لأنهم أشركوها مع الل فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة (والذين آمنوا أشد حبا لله) أي أثبت وأدوم على حبه من المشركين لأنهم لا يختارون على الله ما سواه والمشركون إذا اتخذوا صنما ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني قال قتادة إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله تعالى كما أخبر الله عز وجل عنهم فقال (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) والمؤمن لا يعرض عن الله في السراء والضراء والشدة والرخاء قال سعيد بن جبير إن الله عز وجل يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون لعلمهم أن عذاب جهنم على الدوام ثم يقول للمؤمنين وهم بين أيدي الكفار إن كنتم أحبائي فأدخلوا جهنم فيقتحمون فيها فينادي مناد من تحت العرش (والذين آمنوا أشد حبا لله) وقيل إنما قال (والذين آمنوا أشد حبا لله) لأن الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم قال الله تعالى (يحبهم ويحبونه) قوله
136

سورة البقرة 166 167 تعالى (ولو يرى الذين ظلموا) قرأ نافع وابن عامر ويعقوب (ولو ترى) بالتاء وقرأ الآخرون بالياء وجواب (لو) ههنا محذوف ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به) الآية يعني لكان هذا القرآن فمن قرأ بالتاء معناه ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم في شدة العذاب لرأيت أمرا عظيما قيل معناه قل يا محمد أيها الظالم لو ترى الذين ظلموا أي أشركوا في شدة العقاب لرأيت أمرا فظيعا ومن قرأ بالياء معناه ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب أي ولو رأوا شدة عذاب الله وعقوبته حين يرون العذاب لعرفوا مضرة الكفر وأن ما اتخذوا من الأصنام لا ينفعهم قوله تعالى (إذ يرون) قرأ ابن عامر بضم الياء والباقون بفتحها (العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب) أي بأن القوة لله جميعا معناه لرأوا وأيقنوا أن القوة لله جميعا وقرأ أبو جعفر ويعقوب (إن القوة) و (إن الله) بكسر الألف على الاستئناف والكلام تام عند قوله (إذ يرون العذاب) مع إضمار الجواب 166 (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب) هذا في يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض هذا قول أكثر المفسرين وقال السدي هم الشياطين يتبرأون من الإنس (وتقطعت بهم) أي عنهم (الأسباب) أي الصلات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصداقات وصارت مخالطتهم عداوة وقال ابن جريج الأرحام كما قال الله تعالى (فلا أنساب بينهم يومئذ) وقال السدي يعني الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا كما قال الله تعالى (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا) وأصل السبب ما يوصل به إلى الشيء من ذريعة أو قرابة أو مودة ومنة يقال للحبل سبب وللطريق سبب 167 (وقال الذين اتبعوا) يعني الأتباع (لو أن لنا كرة) أي رجعة إلى الدنيا (فتبرأ منهم) أي من المتبوعين (كما تبرأوا منا) اليوم (كذلك) أي كما أراهم العذاب كذلك (يريهم الله) وقيل كتبرئ بعضهم من بعض يريهم الله (أعمالهم حسرات) ندامات (عليهم) جمع حسرة قيل يريهم ما ارتكبوا من السيئات فيتحسرون لم عملوا وقيل يريهم ما تركوا من الحسنات فيندمون على تضييعها وقال ابن كيسان إنهم أشكروا بالله الأوثان وجاء أن تقربها إلى الله عز وجل فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسروا وندموا قال السدي ترفع لهم الجنة
137

سورة البقرة 168 170 فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون ويتحسرون (وما هم بخارجين من النار) 168 قوله تعالى (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموا على أنفسهم
من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فالحلال ما أحله الشرع طيبا قيل ما يستطاب ويستلذ والمسلم يستطيب الحلال ويخاف الحرام وقيل الطيب (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب بضم الطاء والباقون بسكونها (وخطوات الشيطان) آثاره وزلاته وقيل هي النذور في المعاصي وقال أبو عبيدة هي المحقرات من الذنوب وقال الزجاج طرقه (إنه لكم عدو مبين) بين العداوة وقد أظهر عداوته بإبائهه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة وأبان أن يكون لازما متعديا ثم ذكر عداوته فقال 169 (إنما يأمركم بالسوء) أي بالإثم وأصل السوء ما يسوء صاحبه وهو مصدر ساء يسوء سوأ ومساءة أي أحزنه وسوأته فساء أي حزنته فحزن (والفحشاء) المعاصي وما قبح من القول والفعل وهو مصدر كالسراء والضراء روي باذن عن ابن عباس قال الفحشاء من المعاصي ما يجب فيه الحد والسوء من الذنوب ما لا حد فيه وقال السدي هي الزنا وقيل هي البخل (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) من تحريم الحرث والأنعام 170 قوله تعالى (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) قيل هذه قصة مستأنفة والهاء والميم في (لهم) كناية عن غير مذكور وروي عن ابن عباس قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أي ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أفضل وأعلم منا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل الآية متصلة بما قبلها وهي نازلة في مشركي العرب وكفار قريش والهاء والميم عائدة إلى قوله (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) (قالوا بل نتبع ما ألفينا) أي ما وجدنا (عليه آباءنا) من عبادة الأصنام وقيل معناه وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرموا على أنفسهم من الحرث والانعام والبحيرة والسائبة والهاء والميم عائدتان إلى الناس في قوله تعالى (يا أيها الناس كلوا) (قالوا بل نتبع) قرأ الكسائي (بل نتبع) بإدغام اللام في
138

سورة البقرة 171 172 النون وكذلك يدغم لام هل وبل في التاء والثاء والزاء والسين والصاد والطاء والظاء ووافق حمزة في الثاء والسين و (ما ألفينا) ما وجدنا عليه آباءنا من التحريم والتحليل قال تعالى (أولو كان آباؤهم) أي كيف يتبعون آباءهم وآباؤهم (لا يعقلون شيئا) الواو في (أولو) واو العطف ويقال لها أيضا واو التعجب دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ والمعنى أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالا لا يعقلون شيئا لفظه عام ومعناه الخصوص أي لا يعقلون شيئا من أمور الدين لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا (ولا يهتدون) ثم ضرب لهم مثلا فقال جل ذكره 171 (ومثل الذين كفروا كمثل الذين ينعق بما لا يسمع) والنعيق والنعق صوت الراعي بالغنم معناه مثلك يا محمد ومثل الكفار في وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم وقيل مثل واعظ الكفار وداعيهم معهم كمثل الراعي ينعق بالغنم وهي لا تسمع (إلا دعاء) صوتا (ونداء) فأضاف المثل إلى الذين كفروا لدلالة الكلام عليه كما في قوله تعالى (واسأل القرية) معناه كما أن البهائم تسمع صوت الراعي ولا تفهم ولا تعقل ما يقال لها كذلك الكافر لا ينتفع بوعظك إنما يسمع صوتك وقيل معناه ومثل الذين كفروا في قلة عقلهم وفهمهم عن الله وعن رسوله كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي إلا الصوت فيكون المعنى للمنعوق به والكلام خارج عن الناعق وهو فاش في كلام العرب يفعلون ذلك يقبلون الكلام لإيضاح المعنى عندهم يقولون فلان يخافك كخوفه الأسد وقال تعالى (ما إن مفاتحع لتنوء بالعصبة) وإنما العصبة لتنوء بالمفاتيح وقيل معناه مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في غناء من الدعاء والنداء كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة وعبادتها إلا العناء والبلاء كما قال تعالى (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم) وقيل معنى الآية ومثل الذين كفروا في دعاء الأوثان كمثل الذي يصيح في جوف الجبال فيسمع صوتا يقال له الصداء لا يفهم منه شيئا فمعنى الآية كمثل الذي ينعق بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاء ونداء (صم) تقول العرب لمن لا يسمع ولا يعمل كأنه أصم (بكم) عن الخير لا يقولونه (عمي) عن الهدى لا يبصرونه (فهم لا يعقلون) 172 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات) حلالات (ما رزقناكم) أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو محمد وعبد الرحمن بن أبي شريح أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول
139

سورة البقرة 173 الله صلى الله عليه وسلم \ يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربهه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك \ (واشكروا لله) على نعمه (إن كنتم إياه تعبدون) ثم بين المحرمات فقال 173 (إنما حرم عليكم الميتة) قرأ أبو جعفر (الميتة) كل القرآن بالتشديد والباقون يشددون البعض والميتة كل ما لم تدرك ذكاته مما يذبح (والدم) أراد به الدم الجاري يدل عليه قوله تعالى (أو دما مسفوحا) واستثنى الشرع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال فأحلها أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أحلت لنا ميتتان ودمان الميتتان الحوت والجراد والدمان أحسبه قال الكبد والطحال \ (ولحم الخنزير) أراد به جميع أجزائه فعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه (وما أهل به لغير الله) أي ما ذبح للأصنام والطواغيت وأصل الإهلال رفع الصوت وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر بالتسمية مهل وقال الربيع بن أنس وغيره (وما أهل به لغير الله) قال ما ذكر عليه اسم غير الله (فمن اضطر) بكسر النون وأخواته عاصم وحمزة ووافق أبو عمرو إلا في اللام والواو مثل (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) ويعقوب إلا في الواو ووافق ابن عامر في التنوين والباقون كلهم بالضم فمن كسر قال لأن الجزم يحرك إلى الكسر ومن ضم فلضمه أول الفعل نقل حركتها إلى ما قبلها وأبو جعفر بكسر الطاء ومعناه فمن اضطر إلى أكل الميتة أي أحوج وألجئ إليه (غير) نصب على الحال وقيل على الاستثناء وإذا رأيت (غير) لا يصلح في موضعها إلا فهي حال وإذا صلح في موضعها إلا فهي استثناء (باغ ولا عاد) أصل البغي قصد الفساد يقال بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترامى إلى الفساد وأصل العدوان الظلم ومجاوزة الحد يقال عدا عليه عدوا وعدوانا إذا ظلم واختلفوا في معنى قوله (غير باغ ولا عاد) فقال بعضهم غير باغ أي
غير خارج على السلطان ولا عاد معتد عاص بسفره أن خرج لقطع الطريق أو لفساد في الأرض وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقالوا لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها ولا أن يترخص برخص المسافر حتى يتوب وبه قال الشافعي لأن إباحة الميتة لهه إعانة له على فساده وذهب جماعة إلى أن
140

سورة البقرة 174 175 البغي والعدوان راجعان إلى الأكل واختلفوا في تفصيله وقال الحسن وقتادة غير باغ بأكله من غير اضطرار ولا عاد أي لا يعدو لشبعه وقيل غير باغ أي غير طالبها وهو يجد غيرها ولا عاد أي غير متعد ما حد له فيأكل حتى يشبع ولكن يأكل منها قوتا مقدار ما يمسك رمقه وقال مقاتل بن حيان غير باغ أي مستحل لها ولا عاد أي متزود منها وقيل غير باغ أي غير مجاوز للقدر الذي أحل له ولا عاد أي لا يقصر فيما أبيح له فيدعه قال مسروق من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار واختلف العلماء في مقدار ما يحل للمضطر أكله من الميتة فقال بعضهم مقدار ما يسد رمقه وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وأحد قولي الشافعي رضي الله عنه والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك رحمه الله تعالى وقال سهل بن عبد الله غير باغ مفارق للجماعة ولا عاد مبتدع مخالف للسنة ولم يرخص للمبتدع في تناول المحرم عند الضرورة (فلا إثم عليه) فلا حرج عليه في أكلها (إن الله غفور) لمن أكل في حال الاضطرار (لحيم) حيث رخص للعباد في ذلك 174 قوله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم ولما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم فلما نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفا لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتبعوه فأنزل الله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته (ويشترون به) أي بالمكتوم (ثمنا قليلا) أي عوضا يسيرا يعني المآكل التي يصيبونها من سفلتهم (أولئك ما يأكلون في بطونهم إلى النار) يعني إلا ما يؤذيهم إلى النار وهو الرشوة والحرام وثمن الدين فلما كان يفضي ذلك بهم إلى النار فكأنهم أكلوا النار وقيل معناه أنه يصير نارا في بطونهم (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) أي لا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ وقيل أراد به أني كون عليهم غضبان كما يقال فلان لا يكلم فلانا إذا كان عليه غضبان (ولا يزكيهم) أي لا يطهرهم من دنس الذنوب (ولهم عذاب أليم) 175 (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار) قال عطاء والسدي هو ما الاستفهام معناه ما الذي صبرهم على النار وأي شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا
141

سورة البقرة 176 177 الباطل قال الحسن وقتادة والله ما لهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار وقال الكسائي فما أصبرهم على أهل النار أي ما أدومهم عليه 176 (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق) يعني ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق فأنكروه وكفروا به وحينئذ يكون (ذلك) في محل الرفع وقال بعضهم محله نصب معناه فعلنا ذلك بهم (بأن الله) أي لأن الله نزل الكتاب بالحق فاختلفوا فيه وقيل معناه ذلك أي فعلهم الذين يفعلون من الكفر والاختلاف والاجتراء على الله من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق وهو قوله تعالى (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أن لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم) (وإن الذين اختلفوا في الكتاب) فآمنوا ببعض وكفروا ببعض (لفي شقاق بعيد) أي في خلاف وضلال بعيد 177 قوله تعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) قرأ حمزة وحفص (ليس البر) بنصب الراء والباقون برفعها فمن رفعها جعل البراسم ليس وخبره في قوله (أن تولوا) تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم كقوله تعالى (ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا) والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية فقال قوم عنى بها اليهود والنصارى وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق وزعم كل فريق منهم أن البر في ذلك فأخبر الله تعالى أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية وعلى هذا القول قتادة ومقاتل بن حيان وقال الآخرون المراد بها المؤمنون وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا أتى بشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وحددت الحدود وصرفت القبلة إلى الكعبة أنزل الله هذه الآية فقال (ليس البر) أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك (ولكن البر) ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك (ولكن البر) قرأ نافع وابن عامر (ولكن) خفيف النون (البر) رفع وقرأ الباقون بتشديد
142

النون ونصب البر قوله تعالى (من آمن بالله) جعل (من) وهي اسم خبر للبر هو فعل ولا يقال البر زيد واختلفا في وجهه قيل لما وقع (من) في موقع المصدر جعله خبرا للبر كأنه قال ولكن البر الإيمان بالله والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل وأنشد الفراء (لعمرك ما الفتيان إن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كل فتى ندى) فجعل نبات اللحى خبرا للفتى وقيل فيه إضمار معناه ولكن البر من آمن بالله فاستغنى بذكر الأول عن الثاني كقولهم الجود حاتم أي الجود جود حاتم وقيل معناه ولكن ذا البر من آمن بالله كقوله تعالى (والعاقبة للتقوى) أي للمتقي والمراد من البر ههنا الإيمان والتقوى (واليوم الآخر والملائكة) كلهم (والكتاب) يعني الكتب المنزلة (والنبيين) أجمع (وآتى المال) أعطى المال (على حبه) اختلفوا في هذه الكناية فقال أكثر أهل التفسير إنها راجعة إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال قال ابن مسعود أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا عبد الواحد ثنا عمارة بن القعقاع أنا أبو زرعة أخبرنا أبو هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا قال \ أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان \ وقيل هي عائدة إلى الله عز وجل أي على حب الله تعالى (ذوي القربى) أهل القرابة أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا قتيبة أخبرنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سليمان بن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال \ الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة \ قوله تعالى (واليتامى والمساكين وابن السبيل
) قال مجاهد يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك ويقال للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق وقيل هو الضيف ينزل بالرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم \ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه \ (والسائلين) يعني الطالبين أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي نجيد الأنصاري وهو عبد الرحمن بن نجيد عن جدته وهي أم نجيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ردوا السائل ولو بظلف محرق \ وفي الرواية قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن لم تجدي شيئا إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه \ قوله تعالى (وفي الرقاب) يعني المكاتبين قاله أكثر المفسرين وقيل عتق النسمة وفك الرقبة وقيل فداء الأسارى (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) وأعطى الزكاة (والموفون بعهدهم) فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس (إذا عاهدوا) يعني إذا وعدوا أنجزوا وإذا حلفوا ونذروا أوفوا وإذا عاهدوا أوفوا
143

سورة البقرة 178 وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدوا واختلفوا في رفع قوله (والموفون) قيل هو عطف على خبر معناه ولكن ذا البر المؤمنون والموفون بعهدهم وقيل تقديرهم الموفون كأنه عد أصنافا ثم قال هم الموفون كذا وقيل رفع على الابتداء والخبر يعني وهم الموفون ثم قال (والصابرين) وفي نصبها أربعة أوجه قال أبو عبيدة نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام والنسق ومثله في سورة النساء (والمقيمين الصلاة) وفي سورة المائدة (والصابئون والنصارى) وقيل معناه أعني الصابرين وقيل نصبه نسقا على قوله (ذوي القربى) أي وأتى الصابرين وقال الخليل نصب على المدح والعرب تنصب الكلام على المدح والذم كأنهم يريدون أفراد الممدوح والمذموم فلا يتبعونه أول الكلام وينصبونه فالمدح كقوله تعالى (والمقيمين الصلاة) والذم كقوله تعالى (ملعونين أينما ثقفوا) قوله تعالى (في البأساء) أي الشدة والفقر (والضراء) المرض والزمانة (وحين البأس) أي القتال والحرب أخبرنا المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا زهير عن أبي إسحق عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه يعني إذا اشتد الحرب (أولئك الذين صدقوا) في إيمانهم (وأولئك هم المتقون) محارم الله 187 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص) قال الشعبي والكلبي وقتادة نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبيل الإسلام بقليل وكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام قال قتادة ومقاتل بن حيان كانت بين بني قريظة والنضير وقال سعيد بن جبير كانت بين الأوس والخزرج قالوا جمعا وكان لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور فأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم وبالرجلين منهم أربعة رجال منهم وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بالمساواة فرضوا وأسلموا قوله (كتب عليكم القصاص) أي فرض عليكم القصاص (في القتلى) والقصاص المساواة والمماثلة في الجراحات والديات وأصله من قص الأثر إذا اتبعه
144

فالمفعول بهه يتبع ما فعل به فيفعل مثله ثم بين المماثلة فقال (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) وجملة الحكم فيه أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم قتل من كل صنف منهم الذكر إذا قتل بالذكر وبالأنثى وتقتل الأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد ولا والد بولد ولا مسلم بذمي ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر والولد بالوالد هذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أنا الشافعي أخبرنا سفيان بن عيينة عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال سألت عليا رضي الله عنه هل عندك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت وما في هذه الصحيفة قال فكاك الأسير ولا يقتل مؤمن بكافر وروي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لا تقام الحدود في المساجد ولا يقاد بالولد الوالد \ وذهب الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل بالكافر الذمي وإلى أن الحر يقتل بالعبد والحديث حجة لمن لم يوجب القصاص على المسلم يقتل الذمي وتقتل الجماعة بالواحد روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة أو خمسة برجل قتلوه غيلة وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا ويجري القصاص في الأطراف كما يجري في النفوس إلا في شيء واحد وهو أن الصحيح السوي يقتل بالمريض والزمن وفي الأطراف لو قطع يدا شلاء أو ناقصة بالإصبع لا تقطع بها الصحيحة الكاملة وذهب أصحاب الرأي إلى أن القصاص في الأرطاف لا يجري إلا بين حرين أو حرتين ولا يجري بين الذكر والأنثى ولا العبد ولا بين الحر والعبد وعند الآخرين الطرف في القصاص مقيس عن النفس أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن منيرة أنه سمع عبد الله بن بكر السهمي أخبرنا حميد عن أنس بن النضر أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية فطلبوا إليها العفو فأبوا فعرضوا الأرش فأبوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص قال أنس بن النضر يا رسول الله أتكسر ثنية عمة الربيع لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يا أنس كتاب الله القصاص \ فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره \ قوله تعالى (فمن عفي له من أخيه شيء) أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ورضي بالدية هذا قول أكثر المفسرين قالوا العفو أن يقبل الدية في قتل العمد وقوله (من أخيه) أي من دم أخيه وأراد بالأخ المقتول والكنايتان في قوله (له) ومن (أخيه) ترجعان إلى (من) وهو القاتل وقوله (شيء) دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا يسقط القود لأن شيئا من الدم قد بطل قوله تعالى (فاتباع بالمعروف) أي على الطالب للدية أن يتبع بالمعروف فلا يطالب بأكثر من حقه (وأداء إليه بإحسان) أي على المطلوب منه أداء الدية بالإحسان من غير مماطلة أمر كل واحد منهما
145

سورة البقرة 179 180 بالإحسان فيما له وعليه ومذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص على الدية فله أخذ الدية وإن لم يرض به القاتل وقال قوم لا دية له إلا برضى القاتل وهو قول الحسن والنخعي وأصحاب الرأي وحجة المذهب الأول ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أبوا أخذوا العقل \ قوله تعالى (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) أي ذلك الذي ذكرت من العفو عن القصاص وأخذ الدية تخفيف من ربكم ورحمة وذلك أن القصاص في النفس والجراح كان حتما في التوراة على اليهود ولم يكن لهم أخذ الدية وكان في شرع النصارى الدية ولم يكن لهم القصاص فخير الله هذه الأمة بين القصاص وبين العفو عن الدية تخفيفا منه ورحمة (فمن اعتدى بعد ذلك) فقتل الجاني بعد العفو وقبول الدية (فله عذاب أليم) وهو أن يقتل قصاصا قال ابن جريج يتحتم قتله حتى لا يقبل بعد العفو وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافرا بالقتل لأن الله تعالى خاطبه بعد القتل بخطاب الإيمان فقال (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص) وقال في آخر الآية (فمن عفي له من أخيه شيء) وأراد به أخوة الإيمان فلم يقطع الأخوة بينهما بالقتل 179 قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) أي بقاء وذلك أن القاصد للقتل إذا علم أنه إذا قتل يقتل يمتنع عن القتل فيكون فيه بقاؤه وبقاء من هم بقتله وقيل في المثل القتل أنفى للقتل وقيل معنى الحياة سلامته من قصاص الآخرة فإنه إذا اقتص منه في الدنيا حيي في الآخرة وإذا لم يقتص منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة (يا أولي الألباب لعلكم تتقون) أي تنتهون عن القتل مخافة القود 180 قوله تعالى (كتب عليكم) أي فرض عليكم) (إذا حضر أحدكم الموت) أي جاء أسباب الموت وآثاره من العلل والأمراض (إن ترك خيرا) أي مالا نظيره قوله تعالى (وما تنفقوا من خير) (الوصية للوالدين والأقربين) كانت الوصية فريضة في ابتداء الإسلام للوالدين والأقربين
146

سورة البقرة 181 على من مات وله مال ثم نسخت بآية الميراث أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن مخمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أخبرنا محمد بن أحمد بن الوليد أخبرنا الهيثم بن جميل أخبرنا حماد بن سلمة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة قال كنت آخذا بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال \ إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث \ فذهب جماعة إلى أن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون وبقي وجوبها في حق الذي يرثون من الوالدين والأقارب وهو قول ابن عباس وطاوس وقتادة والحسن قال طاوس من أوصى لقوم سماهم وترك ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت إلى ذوي قرابته وذهب الأكثرون إلى أن الوجوب صار منسوخا في حق الكافة وهي مستحبة في حق الذين لا يرثون أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا طاهر بن أحمد أخبرنا إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه \ قوله تعالى (بالمعروف) يريد يوصي بالمعروف ولا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير قال ابن مسعود الوصية للأخل فالأخل أي الأحوج فالأحوج أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الخيري أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن رحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي عروة أخبرنا عبد الله بن موسى وأبو نعيم عن سفيان الثوري عن سعيد بن إبراهيم أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي عروة أخبرنا عبد الله بن موسى وأبو نعيم عن سفيان الثوري عن سعيد بن إبراهيم عن عامر بن سعيد عن سعد بن مالك قال جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت يا رسول الله أوصي بمالي كله قال لا قلت فالشطر قال لا قلت فالثلث قال الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس بأيديهم \ فقوله يتكففون الناس أي يسألون الناس الصدقة بأكفهم وعن ابن أبي مليكة أن رجلا قال لعائشة رضي الله عنها إني أريد أن أوصي قالت كم مالك قال ثلاثة آلاف قالت كم عيالك قال أربعة قالت إنما قال الله (إن ترك خيرا) وإن هذا شيء يسير فاتركه لعيالك وقال علي رضي الله عنه لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ولأن أوصي بالربع أحي إلي من أن أوصي بالثلث فمن أوصي بالثلث فلم يترك وقال الحسن البصري رضي الله عنه يوصي بالسدس أو الخمس أو الربع وقال الشعبي إنما كانوا يوصون بالخمس أو الربع قوله تعالى (حقا) نصب على المصدر وقيل على المفعول أي جعل الوصية حقا (على المتقين) المؤمنين 181 قوله تعالى (فمن بدله) أي غير الوصية عن الأوصياء أو الأولياء أو الشهود (بعد ما سمعه) أي بعد ما سمع قول الموصي ولذلك ذكر الكناية مع كون الوصية مؤنثة وقيل الكناية راجعة إلى الإيصاء كقوله تعالى (فمن جاءه موعظة من ربه) رد الكناية إلى الوعظ (فإنما إثمه على الذين
147

سورة البقرة 182 183 يبدلونه) والميت بريء منه (إن الله سميع) لما أوصى به الموصي (عليم) بتبديل المبدل أو سميع لوصيته عليم بنيته 182 قوله تعالى (فمن خاف) أي علم كقوله تعالى (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله) أي علمتم (من موص) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب بفتح الواو وتشديد الصاد كقوله تعالى (ما وصى به نوحا ووصينا الإنسان) وقرأ الآخرون بسكون الواو وتخفيف الصاد كقوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم من بعد وصية يوصي بها أو دين) (جنفا) أي جورا وعدولا عن الحق والجنف الميل (أو إثما) أي ظلما وقال السدي وعكرمة والربيع الجنف الخطأ والإثم العمد فأصلح بينهم (فلا إثم عليه) واختلفوا في معنى الآية قال مجاهد معناها أن الرجل إذا حضر مريضا وهو يوصي فرآه يميل إما بتقصير أو إسراف أو وضع الوصية في غير موضعها فلا حرج على من حضره أن يأمره بالعدل وينهاه عن الجنف فينظر للموصى له والورثة وقال الآخرون إنه أراد به أنه إذا أخطأ الميت في وصيته أو جار متعمدا فلا حرج على ولي أو وصيه أو والي أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصى لهم ويرد الوصية إلى العدل والحق (فلا إثم عليه) أي لا حرج عليه (إن الله غفور رحيم) وقال طاوس جنفه توجيهه وهو أن يوصي لبني بنيه يريد ابنه أو ولد ابنته ولزوج ابنته يريد بذلك ابنته وقال الكلبي كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى (فمن بدله بعد ما سمعه) الآية وإن استغرق المال كله ولم يبق للورثة شيء ثم نسخها قوله تعالى (فمن خاف من موص جنفا) الآية قال ابن زيد فعجز الموصي أن يوصي
للوالدين والأقربين كما أمر الله تعالى وعجز الوصي أن يصلح فانتزع الله تعالى ذلك منهم ففرض الفرائض روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار \ ثم قرأ أبو هريرة (من بعد وصية) إلى قوله (غير مضار) 183 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) أي فرض وأوجب الصوم والصيام في اللغة الإمساك يقال صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهير لأن الشمس إذا بلغت كبد السماء كأنها وقفت وأمسكت عن السير سريعة ومنه قوله تعالى (فقولي إني نذرت للرحمن صوما) أي صمتا لأنه إمساك عن الكلام وفي الشريعة الصوم وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع مع النية في وقت مخصوص (كما كتب على الذين من قبلكم) من الأنبياء والأمم واختلفوا في هذا التشبي فقال سعيد بن جبير كان صوم من قبلنا من العتمة إلى الليلة القابلة كما كان في ابتداء الإسلام وقال جماعة
148

سورة البقرة 184 من أهل العلم أراد أن صيام رمضان كان واجبا على النصارى كما فرض علينا فربما كان يقع في الحر الشديد والبرد الشديد وكان يشق عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم فاجتمع رأي علمائم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف فجعلوه في الربيع وزادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصار أربعين ثم إن ملكا لهم اشتكى فمه فجعل لله عليه إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعا فبرأ فزاد فيه أسبوعا ثم مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال أتموه خمسين يوما وقال مجاهد أصابهم موتان فقالوا زيدوا في صيامكم فزاد فيه عشرا قبل وعشرا بعد قال الشعبي لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيك فيقال من شعبان ويقال من رمضان وذلك أن النصارى فرض الله علييهم شهر رمضان فصاموا قبله يوما وبعده يوما ثم لم يزل الآخر يستن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله تعالى (كما كتب على الذين من قبلكم) (لعلكم تتقون) يعني بالصوم لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات وقيل (لعلكم تتقون) تحذرون عن الشهوات من الأكل والشرب والجماع 184 (أياما معدودات) قيل كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجبا وصوم يوم عاشوراء فصاموا كذلك من الربيع إلى شهر رمضان سبعة عشر شهرا ثم نسخ بصوم رمضان قال ابن عباس أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة والصوم ويقال نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام قال محمد بن إسحاق كانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشر ليلة خلت من شهر رمضان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة دثنا أبو الحسن الشيرازي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه وقيل المراد من قوله (أياما معدودات) شهر رمضان وهي غير منسوخة ونصب (أياما) على الظرف أي في أيام معدودات وقيل على التفسير وقيل على هو خير ما لم يسم فاعله (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة) أي فأفطر فعدة (من أيام أخر) أي فعليه عدة والعدد والعدة واحد من أيام أخر أي غير أيام مرضه وسفره و (أخر) في موضع خفض لكنها لا تنصرف فلذلك نصبت قوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه) اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها فذهب أكثرهم إلى أن الآية منسوخة وهو قول ابن عمرو سلمة بن الأكوع وغيرهما وذلك أنهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا أو يفتدوا خيرهم
149

الله تعالى لئلا يشق عليهم لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) قال قتادة هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم ولكن يشق عليه رخص له في أن يفطر ويفدي ثم نسخ وقال الحسن هذا في المريض الذي به ما يقع عليه اسم المرض وهو مستطيع للصوم خير بين أن يصوم وبين أن يفطر أو يفدي ثم نسخ بقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وثبتت الرخصة للذين يطيقون وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة غير منسوخة ومعناه وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب فعجزوا عنه في حال الكبر فعليهم الفدية بدل الصوم وقرأ ابن عباس (وعلى الذين يطيقونه) بضم الياء وفتح الطاء وتخفيفها وفتح الواو وتشديدها أي يكلفون الصوم وتأويله على الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصوم والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه فهم يكلفون الصوم ولا يطيقونه فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم مسكينا وهو قول سعيد بن جبير وجعل الآية محكمة قوله تعالى (فدية طعام مسكين) قرأ أهل المدينة والشام مضافا وكذلك في المائدة (كفارة طعام مسكين) أضاف الفدية إلى الطعام وإن كان واحدا لاختلاف اللفظين كقوله تعالى (وحب الحصيد) وقولهم مسجد الجامع وربيع الأول وقرأ الآخرون (فدية وكفارة) منونة (وطعام) رفع وقرأ (مساكين) بالجمع هنا أهل المدينة والشام وآخرون على التوحيد فمن جمع نصب النون ومن وحد خفض النون ونونها والفدية الجزاء ويجب أن يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من الطعام بمد النبي صلى الله عليه وسلم وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد هذا قول فقهاء الحجاز وقال بعض فقهاء أهل العراق عليه لكل مسكين نصف صاع لكل يوم يفطر وقال بعضهم نصف صاع من قمح أو صاع من غيره وقال بعض الفقهاء ما كان المفطر يتقوته يومه الذي أفطره وقال ابن عباس يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره (فمن تطوع خيرا فهو خير له) أي زاد على مسكين واحد فأطعم مكان كل يوم مسكينين فأكثر قاله مجاهد وعطاء وطاوس وقيل من زاد على القدر الواجب عليه فأعطى صاعا وعليه مد فهو خير له (وأن تصوموا خير لكم) فمن ذهب إلى النسخ قال معناه الصوم خير له من الفدية وقيل هذا في الشيخ الكبير لو تكلف الصوم وإن شق عليه فهو خير له من أن يفطر ويفدي (إن كنتم تعلمون) واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلف في إفطار رمضان إلا لثلاثة أحدهم يجب عليه القضاء والكفارة والثاني عليه القضاء دون الكفارة والثالث عليه الكفارة دون القضاء أما الذي عليه القضاء والكفارة فالحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما فإنهما تفطران وتقضيان وعليهما مع القضاء الفدية وهو قول ابن عمر وابن عباس وبه قال مجاهد وإليه ذهب الشافعي رحمه الل وقال قوم لا فدية عليهما وبه قال الحسن وعطاء وإبراهيم النخعي والزهري وإليه ذهب الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي وأما الذي عليه القضاء دون الكفارة فالمريض والمسافر والحائض والنفساء وأما الذي عليه الكفارة دون القضاء فالشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه ثم بين الله تعالى أيام الصيام
150

سورة البقرة 185 185 (شهر رمضان) رفعه على معنى هو شهر رمضان وقال الكسائي كتب عليكم شهر رمضان وسمي الشهر شهرا لشهرته وأما رمضان فقد قال مجاهد هو من أسماء الله تعالى يقال شهر رمضان كما يقال شهر الله والصحيح أنه اسم للشهر سمي به من الرمضاء وهي الحجارة المحماة وهم كانوا يصومونه في الحر الشديد وكانت ترمض فيه الحجارة من الحرارة قوله تعالى (الذي أنزل فيه القرآن) سمي القرآن قرآنا لأنه يجمع السور والآي والحروف وجمع فيه القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد وأصل القرء الجمع وقد يحذف الهمزة فيقال قريت الماء في الحوض إذا جمعته وقرأ ابن كثير القرآن بفتح الراء غير مهموز وكذلك كان يقرأ الشافعي ويقول ليس هو من القراءة ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتوراة والإنجيل روي عن مقسم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله عز وجل (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وقوله (إنا أنزلناه في ليلة القدر) وقوله (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) وقد نزل في سائر الشهور وقال عز وجل (وقرآنا فرقناه) فقال أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم نزل به جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة فذلك قوله تعالى (فلا أقسم بمواقع النجوم) قال داود بن أبي هند قلت للشعبي (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) أما كان ينزل في سائر الشهور قال بلى ولكن جبرائيل كان يعارض محمدا صلى الله عليه وسلم في رمضان ما أنزل الله إليه فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء وينسيه ما يشاء وروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ أنزل صحف إبراهيم في ثلاث ليال مضين من رمضان \ ويروى \ في أول ليلة من رمضان \ \ وأنزلت توراة موسى في ست ليال مضين من رمضان وأنزل الإنجيل على عيسى في ثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان وأنزل الزبور على داود في ثمان عشرة ليلة مضت من رمضان وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم في الرابعة والعشرين من شهر رمضان لست بقين بعدها \ قوله تعالى (هدى للناس) من الضلالة و (هدى) في محل النصب على القطع لأن القرآن معرفة وهدى نكرة (وبينات من الهدى) أي دلالات واضحات من الحلال والحرام والحدود والأحكام (والفرقان) أي الفارق بين الحق والباطل قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) أي فمن كان مقيما في الحضر فأدركه الشهر واختلف أهل العلم فيمن أدركه الشهر وهو مقيم ثم سافر روي عن علي رضي الله عنه أنه قال يجوز له الفطر وبه قال عبيدة السلماني لقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) أي الشهر كله وذهب أكثر الصحابة والفقهاء إلى أنه إذا أنشأ السفر في شهر رمضان جاز له أن يفطر ومعنى الآية فمن شهد منكم الشهر كله
151

فليصمه أي الشهر كله ومن لم يشهد منكم الشهر كله فليصم ما شهد منه والدليل عليه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو منصور عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه فكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) أباح الفطر لعذر المرض الذي يبيح الفطر فذهب أهل الظاهر إلى أن ما يطلق عليه اسم المرض يبيح الفطر وهو قول ابن سيرين قال طريق بن تمام العطاردي دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل فقال إنه وجعت أصبعي هذه وقال الحسن وإبراهيم النخعي هو المرض الذي يجوز به الصلاة قاعدا وذهب الأكثرون إلى أنه مرض يخاف معه من الصوم زيادة علة غير محتملة وفي الجملة أنه إذا أجهده الصوم فأفطر وإن لم يجهده فهو كالصحيح وأما السفر فالفطر فيه مباح والصوم جائز عند عامة أهل العلم إلا ما روي عن ابن عباس وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين أنهم قالوا لا يجوز الصوم في السفر ومن صام فعليه القضاء احتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم \ ليس من البر الصوم في السفر \ وذلك عند الآخرين في حق من يجهده الصوم فالأولى له أن يفطر والدليل ما أخبرنا به عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا آدم أخبرنا شعبة أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الأنصاري قال سمعت محمد بن عمرو بن الحسين بن علي بن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال ما هذا قالوا هذا صائم فقال \ ليس من البر الصوم في السفر \ والدليل على جواز الصوم ما حدثنا الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أخبرنا أبو نعيم الإسفرايني أخبرنا أبو عوانة أخبرنا أبو أمية أخبرنا عبد الله القواريري أخبرنا حماد بن زيد أخبرنا الحريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم واختلفوا في أفضل الأمرين فقالت طائفة الفطر في السفر أفضل من الصوم روي ذلك عن ابن عمر وإليه ذهب سعيد بن المسيب والشعبي وذهب قوم إلى أن الصوم أفضل وروي ذلك عن معاذ بن جبل وأنس وبه قال إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقالت طائفة أفضل الأمرين أيسرهما عليه لقوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وهو قول مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز ومن أصبح مقيما صائما ثم سافر في أثناء النهار لا يجوز له أن يفطر ذلك اليوم عند أكثر أهل العلم وقالت طائفة له أن يفطر وهو قول الشعبي وبه قال أحمد أما المسافر إذا أصبح صائما فيجوز له أن يفطر بالاتفاق والدليل عليه ما أخبر عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس
152

الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد العزيز بن محمد بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم صام الناس معه فقيل له يا رسول الله إن الناس قد شق عليهم الصيام فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأفطر بعض الناس وصام بعضهم فبلغه أن ناسا صاموا فقال \ أولئك العصاة \ واختلفوا في السفر الذي يبيح الفطر فقال قوم مسيرة يوم وذهب جماعة إلى مسيرة يومين وهو قول الشافعي رحمه الله وذهب جماعة إلى مسيرة ثلاثة أيام وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر) بإباحة الفطر في المرض والسفر (ولا يريد بكم العسر) قرأ أبو جعفر (العسر واليسر) ونحوهما بضم السين وقرأ الآخرون بالسكون وقال الشعبي ما خير رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله عز وجل (ولتكملوا العدة) قرأ أبو بكر بتشديد الميم وقرأ الآخرون بالتخفيف وهو الاختيار لقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) والواو في قوله تعالى (
ولتكملوا) واو النسق واللام لام كي تقديره ويريد لكي تكلموا العدة أي لتكملوا عدة أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في مرضكم وسفركم وقال (ولتكموا العدة) أي عدة أيام الشهر أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين \ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن يحيى أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لا تقدموا الشهر بصوم يوم ولا يومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا \ (ولتكبروا الله) ولتعظموا الله (على ما هداكم) أرشدكم إلى ما أرضى به من صوم شهر رمضان وخصكم به دون سائر أهل الملل قال ابن عباس هو تكبيرات ليلة الفطر وروى الشافعي عن ابن المسيب وعروة وأبي سلمة أنه كانوا يكبرون ليلة الفطر يجهرون بالتكبيرة وشبه ليلة النحر بها إلا من كان حاجا وذكره التلبية (ولعلكم تشكرون) الله على نعمه وقد وردت أخبار في فضل شهر رمضان وثواب الصائمين أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حسن المروزي أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام حدثني إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن نافع بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ إذا دخل رمضان صفدت الشياطين وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار \ أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد بن الجراح أخبرنا أبو عباس محمد بن أحمد المحوبي أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي أخبرنا أبو كريب محمد بن العلاء أخبرنا أبو بكر محمد بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إذا
153

كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة \ أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر بن أحمد الكوفاني الهروي بها أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد النحيبي المصري بها المعروف بأبي النجاش قيل له أخبركم أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد المقبري البصري بمكة المعروف بابن الأعرابي أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه \ أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو سعيد خلف بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي نزار حدثنا الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أسد الصفار أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي إسحاق العنزي أخبرنا علي بن حجر بن إياس السعدي أخبرنا يوسف بن زياد عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال \ يا أيها الناس إنه أظلكم شهر عظيم \ وفي رواية (قد أطلكم) بالطاء أطل اشرف شهر عظيم شهر مبارك شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر شهر جعل الله صيامه فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة أي المساهمة وشهر يزاد فيه الرزق ومن فطر فيه صائما كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبة من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قالوا يا رسول الله ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء ومن أشبع صائما سقاه الله عز وجل من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة ومن خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار حتى يدخل الجنة وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار فاستكثروا فيه من اربع خصال خصلتين ترضون بها ربكم وخصلتين لا غنى بكم عنهما أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار \ أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أخبرنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي أخبرنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع الصائم طعامه وشرابه وشهوته من أجلي للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك الصوم جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ
154

سورة البقرة 186 صائم \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن مطرف حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون \ أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمود أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أخبرنا عبد الله بن المبارك عن راشد بن سعد عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام أي رب إني منعته الطعام والشراب والشهوات بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن رب إني منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان \ 186 قوله تعالى (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال قال يهود أهل المدينة يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام وأن غلظ كل سماء مثل ذلك فنزلت هذه الآية وقال الضحاك سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) وفيه إضمار كأنه قال فقل لهم إني قريب منهم بالعلم لا يخفى علي شيء كما قال
(ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الواحد عن عاصم عن أبي عثمان عن أبي موسى الأشعري قال لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أو قال لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم \ قوله تعالى (أجيب دعوة الداع إذا دعان) قرأ أهل المدينة غير قالون وأبي عمرو بإثبات الياء فيهما في الوصل والباقون يحذفونها وصلا ووقفا واتفقوا على إثبات ما هو مثبت في الخط وصلا ووقفا (فليستجيبوا لي) قيل الاستجابة بمعنى الإجابة أي فليجيبوا إلي بالطاعة والإجابة في اللغة الطاعة وإعطاء ما سئل فالإجابة من الله تعالى العطاء ومن العبد الطاعة وقيل فليستجيبوا إلي أي ليستدعوا مني الإجابة وحقيقته فليطيعوني (وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) لكي يهتدوا فإن قيل فما وجه قوله تعالى (أجيب دعوة الداع) وقوله (ادعوني أستجب لكم) وقد ندعو كثيرا فلا
155

سورة البقرة 187 يجيب قلنا اختلفوا في معنى الآيتين قيل معنى الدعاء ههنا الطاعة ومعنى الإجابة الثواب وقيل معنى الآيتين خاص وإن كان لفظهما عاما تقديرهما أجيب دعوة الداعي إن شئت كما قال (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) وأجيب دعوة الداع إن وافق القضاء أو أجيبه إن كانت الإجابة خيرا له أو أجيبه إن لم يسأل محالا أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا عبد الله بن صالح حدثنا معاوية بن صالح أن ربيعة بن يزيد حدثه عن أبي إدريس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ يستجيب الله لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل قالوا وما الاستعجال يا رسول الله قال يقول قد دعوتك يا رب قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لي فيستحسر عند ذلك فيدع الدعاء \ وقيل هو عام ومعنى قوله أجيب أي أسمع ويقال ليس في الآية أكثر من استجابة الدعوة فأما إعطاء المنية فليس بمذكور فيها وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله فالإجابة كائنة لا محالة عند حصول الدعوة وقيل معنى الآية أنه يجيب دعاءه فإن قدر له ما سأل أعطاه وإن لم يقدر له ادخر له الثواب في الآخرة أو كف عنه به سوءا والدليل عليه ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا ابن ثوبان وهو محمد بن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن عبادة بن الصامت حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ ما على الأرض رجل مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم \ وقيل إن الله تعالى يجيب دعاء المؤمن في الوقت ويؤخر إعطاء من يجيب مراده ليدعوه فيسمع صوته ويعجل إعطاء من لا يحبه لأنه يبغض صوته وقيل إن للدعاء آدابا وشرائط وهي أسباب الإجابة فمن استكملها كان من أهل الإجابة ومن أخل بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الإجابة 187 قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) فالرفث كناية عن الجماع قال ابن عباس إن الله حيي كريم يكني كلما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول
156

والرفث فإنما عنى به الجماع وقال الزجاج الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء قال أهل التفسير كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قبلها فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة القابلة ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخطيئة إني رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ ما كنت جديرا بذلك يا عمر \ فقام رجال واعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه (أحل لكم ليلة الصيام) أي أبيح لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم (هن لباس لكم) أي سكن لكم (وأنتم لباس لهن) أي سكن لهن دليله قوله تعالى (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) وقيل لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر وقيل سمي كل واحد من الزوجين لباسا لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه وقال الربيع بن أنس هو فراش واجتماعهما لكم وأنتم لخاف لهن قال أبو عبيدة وغيره يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك وقيل اللباس اسم لما يواري الشيء فيجوز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل كما جاء في الحديث \ من تزوج فقدا حرز ثلثي دينه \ (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) أي تخونونها وتظلمونها بالمجامعة بعد العشاء قال البراء لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) (فتاب عليكم) تجاوز عنكم (وعفا عنكم) محا ذنوبكم (فالآن باشروهن) جامعوهن حلالا سميت المجامعة مباشرة لملاصقة بشرة كل واحد منهما صاحبه (وابتغوا ما كتب الله لكم) أي فاطلبوا ما قضى الله لكم وقيل ما كتب الله لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد قاله أكثر المفسرين قال مجاهد ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه وقال قتادة وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ وقال معاذ بن جبل وابتغوا ما كتب الله لكم يعني ليلة القدر قوله (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض) نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة وقال عكرمة أبو قيس بن صرمة وقال الكلبي أبو قيس صرمة بن أنس بن صرمة وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم فلما أمس رجع إلى أهله بتمر وقال لأهله قدمي الطعام فأرادت المرأة أن تطعمه شيئا سخينا فأخذت تعمل له سخينة وكان في الابتداء من صلى العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب فلما فرغت من طعامه إذ هو به قد نام وكان قد أعيا وكل فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسولهه فأبى أن يأكل
157

فأصبح صائما مجهودا فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ يا أبا قيس مالك أصبحت طليحا \ فذكر له حاله فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل (وكلوا واشربوا) يعني في ليالي الصوم (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) يعني بياض النهار من سواد الليل سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتدا كالخيط أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن
عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا أبو غسان محمد بن مطرف ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال أنزلت (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ولم ينزل قوله (من الفجر) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعده (من الفجر) فعلموا إنما يعني بهما الليل والنهار أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا حجاج بن منهال أخبرنا هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما نزلت (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما وإلى الليل فلا يستبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال \ إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار \ أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إن بلالا ينادي بالليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم \ قال وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت واعلم أن الفجر فجران كاذب وصادق فالكاذب يطلع أولا مستطيلا كذنب السرحان يصعد إلى السماء فبطلوعه لا يخرج الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم ثم يغيب فيطلع بعده الفجر الصادق مستطيرا ينتشر سريعا في الأفق فبطلوعه يدخل النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائم أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا هناك بن يوسف بن عيسى قال أخبرنا وكيع عن أبي هلال عن سواد بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لا يمنعكم من سحوركم آذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق \ قوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) فالصائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس وإذا غربت حصل الفطر أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحميدي أخبرنا سفيان الثوري أخبرنا هشام بن عروة قال سمعت أبي يقول سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم \ قوله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) العكوف هو الإقامة على
158

سورة البقرة 188 الشيء والاعتكاف في الشرع هو الإقامة في المسجد على عبادة الله وهو سنة ولا يجوز في غير المسجد ويجوز في جميع المساجد أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكفت أزواجه من بعده والآية نزلت في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلا ونهارا حتى يفرغوا من اعتكافهم فالجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به الاعتكاف أما ما دون الجماع من المباشرات كالقبلة واللمس بالشهوة فمكروه ولا يفسد به الاعتكاف عند أكثر أهل العلم وهو أظهر قولي الشافعي كما لا يبطل به الحج وقالت طائفة يبطل بها اعتكافه وهو قول مالك وقيل إن أنزل بطل اعتكافه لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الانسان قوله تعالى (تلك حدود الله) يعني تلك الأحكام التي ذكرها في الصيام والاعتكاف حدود أي ما منع الله عنها قال السدي شروط الله وقال شهر بن حوشب فرائض الله وأصل الحد في اللغة المنع ومنه يقال للبواب حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحدود الله ما يمنع الناس من مخالفتها (فلا تقربوها) فلا تأتوها (كذلك) هكذا (يبين الله آياته للناس لعلم يتقون) لكي يتقوها فينجوا من العذاب 188 قوله تعالى (يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) قيل نزلت هذه الآية في امرؤ القيس بن عابس الكندي ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إما أن يحلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض \ فأنزل الله هذه الآية (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) أي لا يأكل بعضهكم مال بعض بالباطل أي من غير الوجه الذي أباحه الله وأصل الباطل الشيء الذاهب والأكل الباطل أنواع قد يكون بطريق الغصب والنهب وقد يكون بطريق اللهو كالقمار وأجرة المغني وغيرهما وقد يكون بطريق الرشوة والخيانة (وتدلوا بها إلى الحكام) أي تلقوا أمور تلك الأموال بينكم وبين أربابها إلى الحكام وأصل الإدلاء إرسال الدلو وإلقاؤه في البئر يقال أدلى دلوه إذا أرسله ودلاه يدلوه إذا
159

سورة البقرة 189 أخرجه قال ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة فيجحد المال ويخاصم فيه الحاكم وهو يعرف أن الحق عليه وإنه أثم بمنعه قال مجاهد في هذه الآية لا تخاصم وأنت ظالم قال الكلبي هو أن يقيم شهادة الزور وقوله (وتدلوا) في محل الجزم بتكرير حرف النهي معناه ولا تدلوا بها إلى الحكام وقيل معناه ولا تأكلوا بالباطل وتنبسونه إلى الحكام قال قتادة لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم فإن قضاءه لا يحل حراما وكان شريح القاضي يقول إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالما ولكن لا يسعني إلا أن أقضي لك بما يحضرني من البينة وإن قضائي لا يحل لك حراما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار \ قوله تعالى (لتأكلوا فريقا) طائفة (من أموال الناس بالإثم) بالظلم وقال ابن
عباس باليمين الكاذبة يقتطع بها مال أخيه (وأنتم تعلمون) أنكم مبطلون 189 قوله تعالى (يسألونك عن الأهلة نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاريين قالا يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ نورا ثم يعود دقيقا كما بدأ ولا يكون على حالة فأنزل الله تعالى (يسألونك عن الأهلة) وهي جمع هلال مثل رداء وأردية سمي هلالا لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته من قولهم استهل الصبي إذا صرخ حين يولد وأهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية (قل هي مواقيت للناس والحج) جمع ميقات أي فعلنا ذلك ليعلم الناس أوقات الحج والعمرة والصوم والإفطار وآجال الديون وعدد النساء وغيرها فلذلك خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) قال أهل التفسير كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج والعمرة لم يدخل حائطا ولا بيتا ولا دارا من بابه فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته ليدخل منه ويخرج أو يتخ سلما فيصعد منه وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك برا إلا أن يكون من الحمس وهم قريش وكنلنة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نضر بن معاوية سموا أحمسا لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة والصلابة قالوا فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاع بن التابوت
160

سورة البقرة 190 على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لم دخلت من الباب وأنت محرم \ قال رأيتك دخلت فدخلت على أثرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إني أحمسي \ فقال الرجل إن كنت أحمسيا فإني أحمسي رضيت بهديك وسمتك ودينك فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال الزهري كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء وكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة فتبدو له الحاجة بعدما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فيفتح الجدار من ورائه ثم يقول في حجرته فيأمر بحاجته حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ لم فعلت ذلك \ قال لأني رأيتك دخلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إني أحمسي \ فقال الأنصاري وأنا أحمسي يقول وأنا على دينك فأنزل الله تعالى (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر (البيوت والغيوب والجيوب والعيوب وشيوخا) بكسر أوائلهن لمكان الياء وقرأ الباقون بالضم على الأصل وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (جيوب) بكسر الجيم وقرأ أبو بكر وحمزة (العيوب) بكسر العين (ولكن البر من اتقى) أي البر بر من اتقى (وأتوا البيوت من أبوابها) في حال الإحرام (واتقوا الله لعلكم تفلحون) 190 (وقاتلوا في سبيل الله) أي في طاعة الله (الذين يقاتلونكم) كان في ابتداء الإسلام أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتال المشركين ثم لما هاجر إلى المدينة أمره بقتال من قاتله منهم بهذه الآية وقال الربيع بن أنس هذه أول آية نزلت في القتال ثم أمره بقتال المشركين كافة قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله (اقتلوا المشركين) فصارت هذه الآية منسوخة بها وقيل نسخ بقوله (اقتلوا المشركين) قريب من سبعين آية وقوله (ولا تعتدوا) أي لا تبدؤهم بالقتال وقيل هذه الآية محكمة غير منسوخة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المقاتلين ومعنى قوله (ولا تعتدوا) أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير والرهبان ولا من ألقى إليكم السلام هذا قول ابن عباس ومجاهد أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو بكر بن محمد بن سهل القهستاني المعروف بأبي تراب أخبرنا محمد بن عيسى الطوسي أنا يحيى بن بكير أنا الليث بن سعد عن جرير بن حازم عن شعبة عن علقمة بن يزيد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا قال \ اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تعتدوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليدا ولا شيخا كبيرا \ وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
161

سورة البقرة 191 193 مع أصحابه للعمرة وكانوا ألفا وأربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فصالحهم على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلوا له مكة العام القابل ثلاثة أيام فيطوف بالبيت فلما كان العام القابل تجهز رسول الله وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي قريش بما قالوا وأن يصدوهم عن البيت الحرام وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم فأنزل الله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله) يعني محرمين (الذين يقاتلونكم) يعني قريشا (ولا تعتدوا) فتبدؤا بالقتال في الحرم محرمين (إن الله لا يحب المعتدين) 191 (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) قيل نسخت الآية الأولى بهذه الآية وأصل الثقافة الحذق والبصر بالأمر ومعناه واقتلوهم حيث أبصرتم مقاتلتهم وتمكنتم من قتلهم (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) وذلك أنهم أخرجوا المسلمين من مكة فقال أخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم من دياركم (والفتنة أشد من القتل) يعني شركهم بالله عز وجل أشد وأعظم من قتلكم إياهم في الحرم والإحرام (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم) قرأ حمزة والكسائي (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم) بغير ألف فيهن من القتل على معنى ولا تقتلوا بعضهم تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم وقرأ الباقون بالألف من القتال وكان هذا في ابتداء الإسلام كان لا يحل بدايتهم بالقتال في البلد الحرام ثم صار منسوخا بقوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) هذا قول قتادة وقال مقاتل بن حبان قوله (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي حيث أدركتموهم في الحل والحرم صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) ثم نسختها آية السيف في براءة فهي ناسخة منسوخة وقال مجاهد وجماعة هذه الآية محكمة ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم (كذلك جزاء الكافرين) 192 (فإن انتهوا) عن القتال والكفر (فإن الله غفور رحيم) أي غفور لما سلف رحيم بالعباد 193 (وقاتلوهم) يعني المشركين (حتى لا تكون فتنة) أي شرك يعني قاتلوهم حتى يسلموا فلا يقبل من الوثني إلا الإسلام فإن أبى قتل (ويكون الدين) أي الطاعة والعبادة (لله) وحده فلا
162

سورة البقرة 194 يعبد شيء دونه قال نافع جاء رجل إلى ابن عمر في فتنة ابن الزبير فقال ما يمنعك أن تخرج قال يمنعني أن الله حرم دم أخي قال ألا تسمع ما ذكره الله عز وجل (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) فقال يا ابن أخي ولإن أعتبر بهذه الآية ولا أقاتل أحب إلي من أن أعتبر بالآية التي يقول الله عز وجل فيها (ومن يقتل
مؤمنا متعمدا) قال ألم يقل الله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) قال فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه ما يقتلونه أو يعذبونه حتى كثر الإسلام فلم تكون فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوهم حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله وعن سعيد بن جبير قال قال رجل لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة فقال هل تدري ما الفتنة كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة وليس قتالكم كقتالهم على الملك (فإن انتهوا) عن الكفر وأسلموا (فلا عدوان) فلا سبيل (إلا على الظالمين) قاله ابن عباس يدل عليه قوله تعالى (أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي) أي فلا سبيل علي وقال أهل المعاني العدوان الظلم أي فإن أسلموا فلا نهب ولا أسر ولا قتل إلا على الظالمين الذين بقوا على الشرك وما يفعل بأهل الشرك من هذه الأشياء لا يكون ظلما وسماه عدوانا على طريق المجازات والمقابلة كما قال (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) وكقوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وسمي الكافر ظالما لأنه يضع العبادة في غير موضعها 194 (الشهر الحرام بالشهر الحرام) نزلت هذه الآية في عمرة القضاء وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا في ذي القعدة فصده المشركون عن البيت بالحديبية فصالح أهل مكة على أن ينصرف عامه ذلك ويرجع العام المقبل فيقضين عمرته فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك ورجع في العام القابل في ذي القعدة وقضى عمرته سنة سبع من الهجرة فذلك معنى قوله تعالى (الشهر الحرام) يعني ذي القعدة الذي دخلتم فيه مكة وقضيتم فيه عمرتكم سنة سبع بالشهر الحرام يعني ذا القعدة الذي صددتم فيه عن البيت سنة ست (والحرمات قصاص) جمع حرمة وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام والقصاص المساواة والمماثلة وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل وقيل هذا في أمر القتال معناه إن بدءوكم بالقتال في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه فإنه قصاص بما فعلوا فيه (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) وقاتلوه (بمثل ما اعتدى عليكم) سمي الجزاء باسم الابتداء على ازدواج الكلام كقوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين)
163

سورة البقرة 195 195 قوله تعالى (وأنفقوا في سبيل الله) أراد به الجهاد وكل خير هو في سبيل الله ولكن إطلاقه ينصرف إلى الجهاد (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) قيل الباء في قوله تعالى (بأيديكم) زائدة يريد ولا تلقوا أيديكم أي أنفسكم إلى التهلكة عبر عن الأنفس بالأيدي كقوله تعالى (بما كسبت أيديكم) أي بما كسبتم وقيل الباء في موضعها وفيه حذف أي ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة أي الهلاك وقيل التهلكة كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك أي ولا تأخذوا في ذلك وقيل التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه والهلاك ما لا يمكن الاحتراز عنه والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلا في الشر واختلفوا في تأويل هذه الآية فقال بعضهم هذا في البخل وترك الإنفاق يقول ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بترك الإنفاق في سبيل الله وهو قول حذيفة والحسن وقتادة وعكرمة وعطاء وقال ابن عباس في هذه الآية أنفق في سبيل الله وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص ولا يقولن أحدكم إني لا جد شيئا وقال السدي فيها أنفق في سبيل الله ولو عقالا ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا تقل ليس عندي شيء وقال سعيد بن المسيب ومقاتل بن حبان لما أمر الله تعالى بالإنفاق قال رجال أمرنا بالنفقة في سبيل الله ولو أنفقنا أموالنا بقينا فقراء فأنزل الله هذه الآية وقال مجاهد فيها لا يمنعكم من نفقة في حق خيفة العيلة أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أخبرنا أبو غسان أخبرنا خالد بن عبد الله الواسطي أخبرنا واصل مولى أبي عتبة عن بشار بن أبي سيف عن الوليد بن عبد الرحمن عن عياض بن غصيف قال أتينا أبا عبيدة نعوده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ومن أنفق نفقة على أهله فالحسنة بعشر أمثالها \ وقال زيد بن أسلم كان رجال يخرجون في البعوث بغير نفقة فإما أن يقطع بهم وإما أن يكونوا عيالا فأمرهم الله تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله ومن لم يكن عنده شيء ينفقه فلا يخرج بغير نفقه ولا قوت فيلقي بيده إلى التهلكة فالتهلكة أن يهلك من الجوع والعطش أو بالمشي وقيل نزلت الآية في ترك الجهاد قال أبو أيوب الأنصاري نزلت فينا معشر الأنصار وذلك أن الله تعالى لما أعز ونصر رسوله قلنا فيما بيننا إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتى فشا الإسلام ونصر الله نبيه فلو رجعنا إلى أهلنا وأموالنا فأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فالتهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية فتوفي هناك ودفن في أصل سور
164

سورة البقرة 196 القسطنطينية وهم يستسقون به وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق \ وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى قال أبو قلابة هو الرجل يصيب الذنب فيقول قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي فنهاهم الله تعالى عن ذلك قال الله تعالى (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين) (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) 196 قوله عز وجل (وأتموا الحج والعمرة لله) قرأ علقمة وإبراهيم النخعي (وأقيموا الحج والعمرة لله) واختلفوا في إتمامها فقال بعضهم هو أن يتممها بمناسكهما وحدودهما وسننهما وهو قول ابن عباس وعلقمة وإبراهيم النخعي ومجاهد وأركان الحج خمسة الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو التقصير وللحج تحللان وأسباب التحلل ثلاثة رمي جمرة العقبة يوم النحر وطواف الزيارة والحلق فإذا وجد شيئان من هذه الأشياء الثلاثة حصل التحلل الأول وبالثلاث حصل التحلل الثاني وبعد تحلل الأول تستبيح جميع محظورات الإحرام إلا النساء وبعد الثاني يستبيح الكل وأركان العمرة أربعة الإحرام والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق قال سعيد بن جبير وطاوس تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرية أهلك وسئل علي بن أبي طالب عن قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) قال أن تحرم بهما من دويرية أهلك ومثله عن ابن مسعود قال قتادة تمام العمرة أن تعمر في غير أشهر الحج فإن كانت في أشهر الحج ثم أقام حتى حج فهي تمتعه وعليه فيه الهدي إن وجده أو الصيام إن لم يجد الهدي وتمام الحج أن يؤتى بمناسكه كلها حتى لا يلزمه عما ترك دم بسبب قران ولا متعة وقال الضحاك إتمامهما أن تكون النفقة حلالا وينتهي عما نهى الله عنه وقال سفيان الثوري إتمامهما أن
165

تخرج من أهلك لهما ولا تخرج لتجارة ولا لحاجة أخرى قال عمر بن الخطاب الوفد كثير والحاج قليل واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلا واختلفوا في وجوب العمرة فذهب أكثر أهل العلم إلى وجوبها وهو قول عمر وعلي وابن عمر وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال والله إن العمرة لقرينة الحج في كتاب الله (وأتموا الحج والعمرة لله) وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وقتادة وسعيد بن جبير وإليه ذهب الثوري والشافعي في أصح قوليه وذهب قوم إلى أنها سنة وهو قول جابر وبه قال الشعبي وإليه ذهب مالك وأهل العراق وتأولوا قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) على معنى أتموهما إذا دخلتم فيها أما ابتداء الشروع فيها فتطوع واحتج من لم يوجبها بما روي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن العمرة أواجبة هي فقال \ لا وإن تعتمروا خير لكم \ والقول الأول أصح ومعنى قوله (وأتموا الحج والعمرة لله) أي ابتدؤهما فإذا دخلتم فيهما فأتموهما فهو أمر بالإبداء والإتمام أي أقيموهما كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) أي ابتدؤه وأتموه أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا ابن أبي شيبة أخبرنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عاصم عن شقيق عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة \ وقال ابن عمر ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجتبان إن استطاع إلى ذلك سبيلا كما قال اللهه تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) فمن زاد بعد ذلك فهو خير تطوع واتفقت الأمة على أن يجوز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أوجه الإفراد والتمتع والقران فصورة الإفراد أن يفرد الحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر وصورة التمتع أن يعتمر في أشهر الحج ثم بعد الفراغ من أعمال العمرة يحرم بالحج من مكة فيحج في هذا العام وصورة القران أن يحرم بالحج والعمرة معا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارنا واختلفوا في الأفضل من هذه الوجوه فذهب جماعة إلى أن الإفراد أفضل ثم التمتع ثم القران وهو قول مالك والشافعي لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فأما من أهل بالعمرة فحل وأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلن يحل حتى كان يوم النحر أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه عن
166

جابر وهو يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج ولا نعرف غيره ولا نعرف العمرة وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج وذهب قوم إلى أن القرآن أفضل وهو قول الثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا محمد بن هشام بن ملاس النميري أخبرنا مروان بن معاوية الفراري أخبرنا حميد قال أنس بن مالك أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال \ لبيك بحجة وعمرة \ وذهب قوم إلى أن التمتع أفضل وهو قول أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا يحيى بن بكير أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر وليتحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله فطاف حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أشواط ومشى أربعا فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط ثم لم يتحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى وساق الهدي من الناس وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال شيخنا الإمام رضي الله عنه قد اختلف الرواة في إحرام النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الأحاديث كلاما موجزا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم المفرد والقارن والمتمتع وكل كان يأخذ منه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر به وأذن دارا وأريد أنه أمر ببنائها وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا وإنما أمر برجمه واختار الشافعي الإفراد لرواية جابر وعائشة وابن عمر وقدمها على رواية غيرهم لتقدم صحبة جابر النبي صلى الله عليه وسلم وحسن سياقه لابتداء قصة حجة الوداع وآخرها ولفضل حفظ عائشة وقرب ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي في اختلاف الأحاديث إلى التمتع وقال ليس شيء من الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح لأن الكتاب ثم السنة ثم مالا أعلم فيه خلافا يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج وإفراد الحج والقران واسع كله أي التمتع والإفراد والقران وقال من قال إنه إفراد الحج يشبه أن يكون قاله على ما يعرف من أهل العلم الذين أدركوا دور رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدا لا يكون مقيما على الحج إلا وقد ابتدأ إحرامه بالحج قال شيخنا الإمام ومما يدل على أنه كان متمتعا أن الرواية عن ابن عمر وعائشة
167

متعارضة وقد روينا عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وقال ابن شهاب عن عروة إن عائشة أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم \ هذه عمرة استمتعنا بها \ وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه قال شيخنا الإمام وما روي عن جابر أنه قال خرجنا لا ننوي إلا الحج لا ينافي التمتع لأن خروجهم كان لقصد الحج ثم منهم من قدم العمرة ومنهم من أهل بالحج إلى أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله متعة قوله تعالى (فإن أحصرتم) اختلف العلماء في الإحصار الذي يبيح للمحرم التحلل من إحرامه فذهب جماعة إلى أن كل مانع يمنعه عن الوصول إلى البيت الحرام والمضي في إحرامه من عدو أو مرض أو جرح أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلة يبيح له التحلل وبه قال ابن مسعود وهو قول إبراهيم النخعي والحسن ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير وإليه ذهب سفيان الثوري وأهل العراق وقالوا إن الإحصار في كلام العرب هو حبس العلة أو المرض وقال الكسائي وأبو عبيدة ما كان من مرض أو ذهاب نفقة يقال منه أحصر فهو محصر وما كان من حبس عدو أو سجن يقال منه حصر فهو محصور إنما جعل ههنا حبس العدو إحصارا قياسا على المرض إذا كان في معناه واحتجوا بما روي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من كسر أو عرج فقد حل عليه الحج من قابل \ قال عكرمة فسألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا صدق وذهب جماعة إلا أنه لا يباح له التحلل إلا بحبس العدو وهو قولابن عباس وقلا لا حصر إلا حصر العدو وروي معناه عن ابن عمر وعبد الله بن الزبير وهو قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحق وقالوا الحصر والإحصار بمعنى واحد وقال ثعلب تقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور واحصره العدو إذا منعه عن السير هو محصر واحتجوا بأن نزول هذه الآية في قصة الحديبية كان ذلك حبسا من جهة العدو ويدل عليه قوله تعالى في سياق الآية (فإذا أمنتم) والأمن يكون من الخوف وضعفوا حديث الحجاج بن عمرو بما ثبت عن ابن عباس أنه قال لا حصر إلا حصر العدو وتأوله بعضهم على أنه إنما يحل بالكسر والعرج إذا كان قد شرط ذلك في عقد الإحرام كما روي أن ضباعة بنت الزبير كانت وجعة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم \ حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني \ ثم المحصر يتحلل بذبح الهدي وحلق الرأس والهدي بشاة وهو المراد من قوله تعالى (فما استيسر من الهدي) ومحل ذبحه حيث أحصر عند أكثر أهل العلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية بها وذهب قوم إلى أن المحصر يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك ثم يحل وهو قول أهل العراق واختلف القول في المحصر إذا لم يجد هديا ففي قول لا بدل له
168

فيتحلل والهدي في ذمته إلى أن يجده والقول الثاني له بدل فعلى هذا اختلف القول فيه ففي قول عليه صوم التمتع وفي قول تقوم الشاة بدراهم ويجعل الدراهم طعاما فيتصدق به فإن عجز عن الإطعام صام عن كل مد من الطعام يوما كما في فدية الطيب واللبس فإن المحرم إذا احتاج إلى ستر رأسه لحر أو برد أو إلى لبس قميص أو مرض فاحتاج إلى مداواته بدواء فيه طيب فعل وعليه الفدية وفديته على الترتيب والتعديل فعليه ذبح شاة فإن لم يجد يقوم الشاة بدراهم والدراهم يشتري بها طعاما فيتصدق به فإن عجز صام عن كل مد يوما ثم المحصر إن كان إحرامه بفرض قد استقر عليه فذلك الفرض في ذمته وإن كان بحج تطوع فهل عليه القضاء اختلفوا فيه فذهب جماعة إلى أنه لا قضاء عليه وهو قول مالك والشافعي وذهب قوم إلى أن عليه القضاء وهو قول مجاهد والشعبي والنخعي وأصحاب الرأي قوله تعالى (فما استيسر من الهدي) أي فعليه ما تيسر من الهدي ومحله رفع وقيل (ما) في محل النصب أي فاهد ما استيسر والهدي جمع عدية وهي اسم لكل ما يهدى إلى بيت الله تقربا إليه وما استيسر من الهدي شاة قاله علي بن أبي طالب وابن عباس لأنه أقرب إلى اليسر وقال الحسن وقتادة أعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة قوله تعالى (ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله) اختلفوا في المحل الذي يحل أو في الحرم ومعنى (محله) حيث يحل ذبحه فيه أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن محمد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه \ قوموا فانحروا ثم احلقوا \ فوالله ما قم رجل منهم حتى قال ذلك مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعوا حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا أي ازدحاما غما وقال بعضها محل هدي المحصر الحرم فإن كان حاجا فمحله يوم النحر وإن كان معتمرا فمحله يوم يبلغ هديه الحرم قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) معناه لا تحلقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لأذى في الرأس من هوام أو صداع (ففدية) فيه إضمار أي فحلق عليه فدية نزلت في كعب بن عجرة أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحسن بن خلف أخبرنا إسحق بن يوسف عن أبي بشر ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه فقال \ أيؤذيك هوامك \ قال نعم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق وهو بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة فأنزل الله الفدية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
169

يطعم فرقا بين ستة مساكين أوي هدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام قوله تعالى (ففدية من صيام) أي ثلاثة أيام (أو صدقة) أي ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع (أو نسك) واحدتها نسيكة أي ذبيحة أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة أيتها شاء ذبح فهذه الفدية على التخيير والتقدير ويتخير بين أن يذبح أو يصوم أو يتصدق وكل هدي أو طعام يلزم المحرم يكون بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم إلا هديا يلزم المحصر فإنه يذبحه حيث أحصر وأما الصوم فله أن يصوم حيث شاء قوله تعالى (فإذا أمنتم) أي من خوفكم وبرأتم من مرضكم (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) اختلفوا في هذه المتعة فذهب عبد الله بن الزبير إلى أن معناه فمن أحصر حتى فاته الحج ولم يتحلل فقدم مكة يخرج من إحرام بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك فتلك العمرة إلى السنة المقبلة ثم حج فيكون متمتعا بذلك الإحلال إلى إحرامه الثاني في العام القابل وقال بعضهم معناه فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ولم تقضوا عمرتكم وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في
أشهر الحج ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى الحج ثم أحرمتم بالحج فعليكم ما استيسر من الهدي وهو قول علقمة وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقال ابن عباس وعطاء وجماعة هو الرجل يقدم معتمرا من أفق الآفاق في أشهر الحج فقضى عمرته وأقام حلالا بمكة حتى أنشأ منها الحج فحج من عامه ذلك فيكون مستمتعا بالإحلال من العمرة إلى إحرامه بالحج فمعنى التمتع هو الاستمتاع بعد الخروج من العمرة بما كان محظورا عليه في الإحرام إلى إحرامه بالحج ولوجوب هدي التمتع أربع شرائط أحدها أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج والثاني أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة الثالث أن يحرم بالحج في مكة ولا يعود إلى الميقات لإحرامه الرابع أن يكون من حاضري المسجد الحرام فمتى وجدت هذه الشرائط فعليه ما استيسر من الهدي وهو دم شاة ويذبحها يوم النحر فلو ذبحها قبل يوم النحر كدم الأضحية قوله تعالى (فمن لم يجد) الهدي (فصيام ثلاثة أيام في الحج) أي صوموا ثلاثة أيام يصوم يوما قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة ولو صام قبلة بعدما أحرم بالحج جاز ولا يجوز يوم لنحر ولا أيام التشريق عند أكثر أهل العلم وذهب بعضهم إلى جواز صوم الثلاثة في أيام التشريق يروى ذلك عن عائشة وابن عمر وابن الزبير وهو قول مالك والأوزاعي وأحمد وإسحق قوله تعالى (وسبعة إذا رجعتم) أي صوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أهليكم وبلدكم فلو صام السبعة قبل الرجوع إلى أهله لا يجوز وهو قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وقيل يجوز أن يصومها بعد الفراغ من أعمال الحج وهو المراد من الرجوع المذكور في الآية قوله تعالى (تلك عشرة كاملة) ذكرها على وجه التأكيد وهذا لأن العرب ما كانوا يهتدون إلى الحساب فكانوا يحتاجون إلى فضل شرح وزيادة بيان وقيل فيه تقديم وتأخير يعني فصيام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم فهي عشرة كاملة وقيل كاملة في الثواب والأجر وقيل كاملة فيما أريد به من إقامة الصوم بدل الهدي وقيل كاملة شروطها
170

سورة البقرة 197 وحدودها وقيل لفظه خبر ومعناه أمر أي فأكملوها ولا تنقصوها (ذلك) أي هذا الحكم (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) واختلفوا في حاضري المسجد الحرام فذهب قوم إلى أنهم أهل مكة وهو قول مالك وقيل هم أهل الحرم وبه قال طاوس وقال ابن جريج أهل عرفة والرجيع وضجنان وقال الشافعي كل من كان وطئه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام وقال عكرمة هم من دون المقيات وقيل هم أهل الميقات فما دونه وهو قول أصحاب الرأي ودم القران كدم التمتع والمكي إذا قرن أو تمتع فلا هدي عليه قال عكرمة سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي \ فطفنا بالبيت بالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا فقد تم حجنا وعلينا الهدي فجمعوا بين نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزل في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس من غير أهل مكة قال الله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) ومن فاته الحج وفواته يكون بفوات الوقوف بعرفة حتى يطلع الفجر يوم النحر فإنه يتحلل بعمل العمرة وعليه القضاء من قابل والفدية وهي على الترتيب والتقدير كفدية التمتع والقران أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار أن هناك بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد كنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة فقال له عمر اذهب إلى مكة فطف أنت ومن معك بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة وانحروا هديا إن كان معكم ثم احلقوا فقصروا ثم ارجعوا فإذا كان العام القابل فحجوا وأهدوا فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع (واتفقوا الله) في أداء الأوامر (واعلموا أن الله شديد العقاب) على ارتكاب المناهي 197 قوله تعالى (الحج أشهر معلومات) أي وقت الحج أشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر ويروى عن ابن عمر شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وكل واحد من اللفظين صحيح غير مختلف فيه فمن قال عشر عبر به عن الليالي ومن قال تسع عبر به عن الأيام فإن آخر أيامها يوم عرفة وهو يوم التاسع وإنما قال (أشهر) بلفظ الجمع وهي شهران وبعض الثالث لأنها وقت والعرب تسمي الوقت تاما بقليله وكثيره فيقول أتيتك يوم الخميس
171

وإنما أتاه في ساعة منه ويقولون زرتك العام وإنما زاره في بعضه وقيل الاثنان فما فوقهما جماعة لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء فإذا جاز أن يسمي الاثنان جماعة جاز أن يسمي الاثنان وبعض الثالث جماعة وقد ذكر الله تعالى الاثنين بلفظ الجمع فقال (فقد صغت قلوبكما) أي قلباكما وقال عروة بن الزبير وغيره أراد بالأشهر شوالا وذا القعدة وذا الحجة كمالا لأنه يبقى على الحاج أمور بعد عرفة يجب عليه فعلها مثل الرمي والذبح والحلق وطواف الزيارة والبيتوتة بمنى فكانت في حكم الجمع (فمن فرض فيهن الحج) أي فمن أوجب على نفسه الحج بالإحرام والتلبية وفيه دليل على أن من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه بالحج وهو قول ابن عباس وجابر وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وقال سعيد ينعقد إحرامه بالعمرة لأن الله تعالى خص هذه الأشهر بفرض الحج فيها فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص فائدة كما أنه علق بالصلوات بالمواقيت ثم من أحرم بفرض الصلاة قبل دخول وقته لا ينعقد إحرامه عن العرض وذهب جماعة إلى أنه ينعقد إحرامه بالحج وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة وأما العمرة فجميع أيام السنة لها وقت إلا أن يكون متلبسا بالحج وروي عن أنس أنه كان بمكة فكان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر قوله تعالى (فلا رفث ولا فسوق) قرأ ابن كثير وأهل البصرة (فلا رفث ولا فسوق) بالرفع والتنوين فيهما وقرأ الآخرون بالنصب من غير تنوين كقوله تعالى (ولا جدال في الحج) وقرأ أبو جعفر كلها بالرفع والتنوين واختلفوا في الرفث قال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر هو الجماع وهو قول الحسن ومجاهد وعمرو بن دينار وقتادة وعكرمة والربيع وإبراهيم النخعي وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الرفث غشيان النساء والتقبيل والغمز وأن يعرض لها بالفحش من الكلام قال حصين بن قيس أخذ ابن عباس رضي الله عنهما بذنب بعيره فجعل يلويه وهو يحدو ويقول (وهن يمشين بنا هميسا أن يصدق الطير ننك لميسا) فقلت له أترفث وأنت محرم فقال إنماالرفث ما قيل عند النساء قال طاوس الرفث التعريض للنساء بالجماع وذكره بين أيديهن وقال عطاء الرفث قول الرجل للمرأة في حال الإحرام إذا حللت أصبتك وقيل الرفث الفحش والقول القبيح أما الفسوق فقد قال ابن عباس هو المعاصي كلها وهو قول طاوس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والزهري والربيع والقرظي
وقال ابن عمر هو ما نهي عنه المحرم في حال الإحرام من قتل الصيد وتقليم الأظفار وأخذ الأشعار وما أشبههما وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد هو السباب بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم \ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر \ وقال الضحاك هو التنابز بالألقاب بدليل قوله تعالى (ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) أخبرنا
172

سورة البقرة 198 عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا آدم أخبرنا شعبة أخبرنا يسار أبو الحكم قال سمعت أبا حازم يقول سمعت أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه \ قوله تعالى (ولا جدال في الحج) قال ابن مسعود وابن عباس الجدال أن يماري صاحبه ويخاصمه حتى يغضبه وهو قول عمرو بن دينار وسعيد بن جبير وعكرمة والزهري وعطاء وقتادة وقال القاسم بن محمد هو أن يقول بعضهم الحج اليوم ويقول بعضهم الحج غدا وقال القرظي كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء حجنا أتم من حجكم وقال هؤلاء حجنا أتم من حجكم وقال مقاتل هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في حجة الوداع وقد أحرموا بالحج \ اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي \ قالوا كيف نجعله عمرة وقد سمينا الحج فهذا جدالهم وقال ابن زيد كانوا يقفون مواقف مختلفة كلهم يزعم أن موقفه موقف إبراهيم فكانوا يجادلون فيه وقيل هو ما كان عليهه أهل الجاهلية كان بعضهم يقف بعرفة وبعضهم بالمزدلفة وكان بعضهم يحج في ذي القعدة وكان بعضهم يحج في ذي الحجة فكل يقول ما فعلته فهو الصواب فقال جل ذكره (ولا جدال في الحج) أي استقر أمر الحج على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اختلاف فيه من بعد ذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم \ ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض \ قال مجاهد معناه ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة فأبطل النسيء قال أهل المعاني ظاهر الآية نفي ومعناها نهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا كقوله تعالى (لا ريب فيه) أي لا ترتابوا (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) أي لا يخفى عليه فيجازيكم به قوله تعالى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون نحن متوكلون ويقولون نحن نحج بيت الله فلا يطعمنا فإذا قدموا مكة سألوا الناس وربما يفضي بهم الحال إلى النهب والغصب فقال الله جل ذكره (وتزودوا) أي ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم قال أهل التفسير الكعك والزبيب والسويق والتمر ونحوها (فإن خير الزاد التقوى) من السؤال والنهب (واتقون يا أولي الألباب) يا ذوي العقول 198 قوله تعالى (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا علي بن
173

عبد الله أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنه قال كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فأنزل الله تعالى (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) في مواسم الحج قرأ ابن عباس كذا وروي عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر إنا قوم نكري في هذا الوجه يعني إلى مكة فيزعمون أن لا حج لنا فقال ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما تطوفون وترمون كما يرمون قلت بلى قال أنت حاج جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه بشيء حتى نزل جبريل بهذه الآية (ليس عليكم جناح) أي حرج أن تبتغوا فضلا من ربكم يعني بالتجارة في مواسم الحج (فإذا أفضتم) دفعتم والإفاضة دفع بكثرة وأصله من قول العرب أفاض الرجل ماءه أي صبه (من عرفات) هي جمع عرفة جمعت عرفة بما حولها وإن كانت بقعة واحدة كقولهم ثوب أخلاق واختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف عرفات واليوم عرفة فقال عطاء كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم عليه السلام المناسك ويقول أعرفت فيقول عرفت فسمي ذلك المكان عرفات واليوم عرفة وقال الضحاك إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم يوم عرفة والموضع عرفات وقال السدي لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها له فخرج فلما بلغ الجمرة عند العقبة استقبله الشيطان ليرده فرماه بسبع حصيات فكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبر فطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه فكبر فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه ذهب فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمي ذا المجاز ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا أمسى ازدلف أي قرب إلى جمع فسمي المزدلفة وروي عن أبي صالح عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روى يومه أجمع أي فكر أمن الله تعالى هذه الرؤيا أم من الشيطان فسمي اليوم يوم التروية ثم رأى ذلك ليلة عرفات ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى فسمي اليوم يوم عرفة وقيل سمي بذلك لعلو الناس فيه على جباله والعرب تسمي ما علا عرفة ومنه سمي عرف الديك لعلوه وقيل سمي بذلك لأن الناس يعترفون في ذلك اليوم بذنوبهم وقيل سمي بذلك من العرف وهو الطيب وسمي منى لأنه يمنى فيه الدم أي يصب فيه فيكون فيه الفروث والدماء ولا يكون الموضع طيبا وعرفات طاهرة عنها فتكون طيبة قوله تعالى (فاذكروا الله) بالدعاء والتلبية (عند المشعر الحرام) وهو ما بين جبلي المزدلفة من مرمى عرفة إلى المحسر وليس المأزمان ولا المجسر من المشعر الحرام وسمي مشعرا من الشعار وهي العلامة لأنه من معالم الحج وأصل الحرام من المنع فهو ممنوع أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه وسمي المزدلفة جمعا لأنه يجمع فيه بين صلاة المغرب والعشاء والإفاضة من عرفات تكون بعد غروب الشمس ومن جمع قبل طلوعها من يوم النحر قال طاوس كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة
174

سورة البقرة 199 قبل أن تغيب الشمس ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما تغير فأخر الله هذه وقدم هذه أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء فقلت له الصلاة يا رسول الله قال فقال الصلاة أمامك فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا وقال جابر دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين
تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ودعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا زهير بن حرب أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي عن يونس الأيلي عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن أسامة بن زيد كان ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى قال فكلاهما قال لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة قوله تعالى (واذكروه كما هداكم) أي واذكروه بالتوحيد والتعظيم كما ذكركم بالهداية فهداكم لدينه ومناسك حجه (وإن كنتم من قبله لمن الضالين) أي وقد كنتم وقيل وما كنتم من قبله إلا من الضالين كقوله تعالى (وإن نظنك لمن الكاذبين) أي وما نظنك إلا من الكاذبين والهاء في قوله (من قبله) راجعة إلى الهدى وقيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كناية عن غير مذكور 199 قوله تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) قال أهل التفسير كانت قريش وحلفاؤها ومن دان بدينها وهم الحمس يقعون بالمزدلفة ويقولون نحن أهل الله وقطان حرمه فلا نخلف الحرم ولا نخرج منه ويتعظمون أن يقفوا مع سائر العرب بعرفات وسائر الناس كانوا يقفون بعرفات فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى جمع مع سائر الناس وأخبرهم أنه سنة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقال بعضهم خاطب به جميع المسلمين وقوله تعالى قال (من حيث أفاض الناس) من جمع أي ثم أفيضوا من جمع إلى منى وقالوا لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع فكيف يسوغ أن يقول فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله ثم أفيضوا من عرفات والأول قول أكثر أهل التفسير وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ثم أفيضوا من حيث أفاض
175

سورة البقرة 200 الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام وقيل ثم بمعنى الواو أي وأفيضوا كقوله تعالى (ثم كان من الذين آمنوا) وأما الناس فهم العرب كلهم غير الحمس وقال الكلبي هم أهل اليمن وربيعة وقال الضحاك الناس ههنا إبراهيم عليه السلام وحده كقوله تعالى (أم يحسدون الناس) وأراد به محمدا صلى الله عليه وسلم وحده ويقال هذا الذي يقتدى به ويكون لسان قومه وقال الزهري الناس ههنا آدم عليه السلام وحده دليله قراءة سعيد بن جبير (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) بالياء وقال هو آدم نسي عهد الله حين أكل من الشجرة أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال سئل أسامة وأنا جالس كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين دفع قال كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص قال هشام والنص فوق العنق أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا إبراهيم بن سويد حدثني عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب قال أخبرنا سعيد بن جبير مولى واثلة الكوفي حدثني ابن عباس أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال \ أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع \ (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) 200 قوله تعالى (فإذا قضيتم مناسككم) أي فرغتم من حجكم وذبحتم نسائككم أي ذبائحكم يقال نسك الرجل ينسك نسكا إذا ذبح نسيكته وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى (فاذكروا الله) بالتكبير والتحميد والثناء عليه (كذكركم آباءكم) وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت عند البيت فذكرت مفاخر آبائها فأمره الله بذكره وقال (فاذكروني) فإني الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم وإليهم قال ابن عباس وعطاء معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء وذلك أن الصبي أول ما يتكلم يلهج بذكر أبيه لا يذكر غيره فيقول الله فاذكروا الله لا غير كذكر الصبي أباه (أو أشد ذكرا) وسئل ابن عباس عن قوله (فاذكروا اللهه كذكركم آباءكم) فقيل قد يأتي على الرجل اليوم لا يذكر فيه أباه قال ابن عباس ليس كذلك ولكن إن تغضب لله إذا عصى أشد من غضبك لوالديك إذا شتما وقوله تعالى (أو أشد ذكرا) يعني بل أشد أي وأكبر ذكرا (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا) أراد به المشركين كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا يقولون اللهم أعطنا غنما وإبلا وبقرا وعبيدا وكان الرجل يقوم فيقول اللهم إن أبي كان عظيم القبة كبير الجفنة
176

سورة البقرة 201 كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته قال قتادة هذا عبد نيته الدنيا لها أنفق ولها عمل ونصب (وماله في الآخرة من خلاق) من حظ ونصيب 201 (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) يعني المؤمنين واختلفوا في معنى الحسنتين قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الدنيا حسنة امرأة صالحة وفي الآخرة حسنة الجنة والحور العين أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنفي أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الطوسي أخبرنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد أنا الحارث بن أسامة أنا أبو عبد الرحمن المقري أخبرنا حياة وابن لهيعة قالا أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الجبلي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة \ وقال الحسن في الدنيا حسنة العلم والعبادة وفي الآخرة حسنة الجنة والنظر وقال السدي وابن حبان في الدنيا حسنة رزقا حلالا وعملا صالحا وفي الآخرة حسنة المغفرة والثواب أخبرنا أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمود أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن يحيى بن أيوب حدثني عبيد الل بن زجر عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ حذو حظ من الصلاة أحسن عبادة ربه فأطاعه في السر وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك ثم نفر بيده فقال هكذا عجلت منية قلت بواكيه قل تراقه \ وقال قتادة في الدنيا عافية وفي الآخرة عافية وقال عوف في هذه الآية من آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلا مالا فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكرماني الكوسي أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو الفضل عبدوس بن الحسين بن منصور السمسار أخبرنا أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري أخبرنا حميد الطويل عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد صار مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه فقال يا رسول الله كنت أقول اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فحوله لي في الدنيا فقال \ سبحان الله لا تستطيعه ولا تطيقه هلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار \ أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي إسحاق الحجاجي أخبرنا أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الداغولي أخبرنا محمد بن مسكان أخبرنا أبو داود أخبرنا شعبة عن ثابت عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم
177

سورة البقرة 202 203 أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج عن يحيى بن عبيد مولى السائب عن أبيه عبد الله بن السائب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) 202 قوله تعالى (أولئك لهم نصيب) حظ (مما كسبوا) من الخير والدعاء والثواب والجزاء (والله سريع الحساب) يعني إذا حاسب عبده فحاسبه سريع لا يحتاج إلى عقد يد ولا وعي صدور ولا إلى رؤية ولا فكر قال الحسن أسرع من لمح البصر وقيل معناه إتيان القيامة قريب لأن ما هو آت لا محالة فهو قريب قال الله تعالى (وما يدريك لعل الساعة قريب) 203 قوله تعالى (واذكروا الله) يعني التكبيرات أدبار الصلاة وعند الجمرات يكبر مع كل حصاة وغيرها من الأوقات (في أيام معدودات) الأيام المعدودات هي أيام التشريق وهي أيام منى ورمي الجمار سميت معدودات لقلتهن كقوله (دراهم معدودة) والأيام المعلومات عشر ذي الحجة آخرهن يوم النحر هذا قول أكثر أهل العلم وروي عن ابن عباس المعلومات يوم النحر ويومان بعده والمعدودات أيام التشريق وعن علي قال المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده وقال عطاء عن ابن عباس المعلومات يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق وقال محمد بن كعب هما شيء واحد وهي أيام التشريق وروي عن نبيشة الهزلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله \ ومن الذكر في أيام التشريق التكبير واختلفوا فيه فروي عن عمرو عن عبد الله بن عمر أنهما كانا يكبرا بمنى تلك الأيام خلف الصلاة وفي المجلس وعلى الفراش والفسطاط وفي الطريق ويكبر الناس بتكبيرهما ويتلوان هذه الآية والتكبير أدبار الصلاة مشروع في هذه الأيام في حق الحاج وغير الحاج عند عامة العلماء واختلفوا في قدره فذهب قوم إلى أنه يبتدئ التكبير عقيب صلاة الصبح من يوم عرفة ويختم بعد العصر من آخر أيام التشريق يروى ذلك عن عمر وعن علي رضي الله عنهما وبه قال مكحول وإليه ذهب أبو يوسف رضي الله عنه وذهب قوم إلى أنه يبتدئ التكبير عقيب صلاة الصبح من يوم عرفة ويختم بعد العصر من يوم النحر يروى ذلك عن ابن مسعود وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه وقال قوم يبتدئ التكبير عقيب صلاة الظهر من يوم النحر ويختم بعد الصبح من آخر أيام التشريق يروى ذلك عن ابن عباس وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه قال الشافعي لأن الناس فيه تبع للحاج وذكر الحاج
178

سورة البقرة 204 قبل هذا الوقت التلبية ويأخذون في التكبير يوم النحر من بعد صلاة الظهر ولفظ التكبير كان سعيد بن جبير والحسن يقولان الله أكبر الله أكبر ثلاثا نسقا وهو قول أهل المدينة وإليه ذهب الشافعي وقال وما زاد من ذكر الله فهو حسن وعند أهل العراق يكبر اثنين يروى ذلك عن ابن مسعود قوله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) أارد من نفر الحاج في اليوم الثاني من أيام التشريق فلا إثم عليه وذلك أنه على الحاج أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق ويرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة عند كل جمرة بسبع حصيات ورخص في ترك البيتوتة لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج ثم كل من يرمي اليوم الثاني من أيام التشريق وأراد أن ينفر فيدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها فذلك له واسع لقوله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث ثم ينفر وقوله (ومن تأخر فلا إثم عليه) يعني لا إثم على من تعجل فنفر في اليوم الثاني في تعجيله ومن تأخر حتى ينفر في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخيره وقيل معناه فمن تعجل فقد ترخص فلا إثم عليه بالترخص ومن تأخر فلا إثم عليه بترك الترخص وقيل معناه رجع مغفورا له لا ذنب عليه تعجل أو تأخر كما روينا \ من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع أي خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه \ وهذا قول علي وابن مسعود قوله تعالى (لمن اتقى) أي لمن اتقى أن يصيب في حجه شيئا نهاه الله عنها كما قال \ من حج فلم يرفث ولم يفسق \ قال ابن مسعود إنما جعلت مغفرة الذنوب لمن اتقى الله تعالى في حجه وفي رواية الكلبي عن ابن عباس معناه لمن اتقى الصيد لا يحل له أن يقتل صيدا حتى تنقضي أيام التشريق وقال أبو العالية ذهب أئمة أن اتقى فيما بقي من عمره (واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) تجمعون في الآخرة يجزيكم بأعمالكم 204 قوله تعالى (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) قال الكلبي ومقاتل وعطاء نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة واسمه أبي وسمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة ردل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالس ويظهر الإسلام ويقول إني لأحبك ويحلف بالله على ذلك وكان منافقا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنى مجلسه فنزل قوله تعالى (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) أي تستحسنه ويعظم في قلبك ويقال في الاستحسان أعجبني كذا وفي الكراهية والإنكار عجبت من كذا (ويشهد الله على ما في قلبه) يعني قول الأخنس المنافق والله إني بك مؤمن ولك محب (وهو ألد الخصام) أي شديد الخصومة يقال لددت يا هذا وأنت تلد لددا ولدادة فإذا أردت أنه غلب
179

سورة البقرة 205 207 على خصمه قلت لده يلده لدا يقال رجل ألد وامرأة لداء وقوم لد قال الله تعالى (وتنذر به قوما لدا) قال الزجاج اشتقاقه من لد يدي العنق وهما صفحتان وتأويله أنه في أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الخصومة غلب والخصام مصدر خاصمه خصاما ومخاصمة قاله أبو عبيدة وقال الزجاج وهو جمع خصم يقال خصم وخصام وخصوم مثل بحر وبحار وبحور قال الحسن ألد الخصام أي كاذب القول قال قتادة شديد القسوة في المغصية جدل بالباطل يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن
أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم \ 205 (وإذا تولى) أي أدبر وأعرض عنك (سعى في الأرض) أي عمل فيها وقيل سار فيها ومشى (ليفسد فيها) قال ابن جريج قطع الرحم وسفك دماء المسلمين (ويهلك الحرث والنسل) وذلك أن الأخنس كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلة فأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم قال مقاتل خرج إلى الطائف مقتضيا مالا له على غريم فأحرق له كدسا وعقر له أتانا والنسل نسل كل دابة والناس منهم وقال الضحاك وإذا تولى أي ملك الأمر وصار واليا سعى في الأرض قال مجاهد في قوله عز وجل (وإذا تولى سعى في الأرض) قال إذا ولي يعمل بالعدوان والظلم فأمسك الله المدر وأهلك الحرث والنسل (والله لا يحب الفساد) أي لا يرضى بالفساد وقال سعيد بن المسيب قطع الدراهم من الفساد في الأرض 206 قوله (وإذا قيل له اتق الله) أي خف الله (أخذته العزة بالإثم) أي حملته العزة حمية الجاهلية على الفعل بالإثم أي بالظلم والعزة والتكبر والمنعة وقيل معناه أخذته العزة للإثم الذي في قلبه فأقام الباء مقام اللام قوله (فحسبه جهنم) أي كافيه (ولبئس المهاد) أي الفراش قال عبد الله بن مسعود إن من أكبر الذنب عند الله أن يقال للعبد اتق الله فيقول عليك بنفسك وروي أنه قيل لعمر بن الخطاب اتق الله فوضع خده على الأرض تواضعا لله عز وجل 207 قوله تعالى (ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله) أي لطلب رضا الله تعالى (والله رؤوف بالعباد) روي عن ابن عباس والضحاك أن هذه الآية نزلت في سرية الرجيع وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك يعلموننا
180

دينك وكان ذلك مكرا منهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكير وعبد الله بن طارق بن شهاب البلوي وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري قال أبو هريرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري فساروا فنزلوا ببطن الرجيع بين مكة والمدينة ومعهم تمر عجوة فأكلوا فمرت عجوز فأبصرت النوى فرجعت إلى قومها بمكة وقالت قد سلك هذا الطريق أهل يثرب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فركب سبعون رجلا منهم معهم الرماح حتى أحاطوا بهم وقال أبو هريرة رضي الله عنه ذكروا الحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رجل رام فاقتفوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا تمر يثرب فاتبعوا آثارهم فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد فأحاط بهم القوم فقتلوا مرثدا وخالدا وعبد الله بن طارق ونثر عاصم بن ثابت كنانته وفيها سبعم أسهم فقتل بكل سهم رجلا من عظماء المشركين ثم قال اللهم إني قد حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخر النهار ثم أحاط المشركون فقتلوه فلما قتلوه أراجوا جز رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر فأرسل الله رحلا من الدبر وهي الزنابير فحمت عاصما فلم يقدروا عليه فسمي حمي الدبر فقالوا دعوه حتى نسمي فتذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة سوداء وأمطرت مطرا كالعزالي فبعث الله الوادي غديرا فاحتما عاصما به فذهب به إلى الجنة وحمل خمسين من المشركين إلى النار وكان عاصم قد أعطى الله تعالى عهدا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه أن الدبر منعته عجيبا لحفظ الله العبد المؤمن كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع عاصم في حياته وأسر المشركون خبيب بن عدي الأنصاري وزيد بن الدثنة فذهبوا بهما إلى مكة فأما خبيب فابتاعه بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ليقتلوه بأبيهم وكان خبيب هو الذي قتل الحرث يوم بدر فلبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله فاستعار من بعث بنات الحارث موسى ليستحدبها فأعارته فدرج بني لها وهي غافلة فما راع المرأة إلا خبيب قد أجلس الصبي على فخذه والموسى بيده فصاحت فقال خبيب أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن الغدر ليس من شأننا فقالت المرأة بعد والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة إن كان إلا رزقا رزقه الله خبيبا ثم إنهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه فقال لهم خبيب دعوني أصلي ركعتين فتركوه فكان خبيب هو أول من سن لكل مسلم قتل صبرا الصلاة فركع ركعتين ثم قال لولا أن يحسبوا أن ما بي جزع لزدت اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ثم أنشأ يقول (فلست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان في الله مصرعي) (وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع)
181

فصلبوه حيا فقال اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي ثم قام أبو سرعة عقبة بن الحارث فقتله ويقال كان رجل من المشركين يقال له سلامان أبو ميسرة معه رمح فوضعه بين ثدي خبيب فقال له خبيب اتق الله فما زاده ذلك إلا عتوا فطعنه فأنفذه وذلك قوله عز وجل (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) يعني سلامان وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية لقتله بأبيه أمية بن خلف فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله بأبيه واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن بمكانك ونضرب عنقه وإنك في أهلك فقال والله ما أحب أن محمدا صلى الله عليه وسلم الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي فقال أبو سفيان ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ثم قتله نسطاس فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه \ أيكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة \ فقال الزبير أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود فخرجا يمشيان بالليل ويكمنان بالنهار حتى أتيا التنعيم ليلا وإذا حول الخشبة أربعون رجلا من المشركين نائمون نشاوى فأنزلاه فإذا هو رطب ينثني لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوما ويده على جراحته وهي تبط دما اللون لون الدم والريح ريح المسك فحمله لزبير على فرسه فساروا فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيبا فأخبروا قريشا فركب منهم سبعون فلما لحقوهم قذف الزبير خبيبا فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض فقال الزبير ما جراكم علينا يا معشر قريش ثم رفع العمامة عن رأسه وقال أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يدافعان عن شبليهما فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم فانصرفوا إلى مكة وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده فقال يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك فنزل في الزبير والمقداد بن الأسود (ومن الناس من يشري
نفسه ابتغاء مرضات الله) حين شريا أنفسهما بإنزال خبيب عن خشبته وقال أكثر المفسرين نزلت في صهيب بن سنان الرومي حين أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوهم فقال لهم صهيب إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ففعلوا وكان شرط عليهم راحلة ونفقة فأقام بمكة ما شاء الله ثم خرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال فقال له أبو بكر ربح بيعك يا أبا يحيى فقال له صهيب وبيعتك فلا تتحسر قال صهيب ماذا لي فقد أنزل الله فيك وقرأ هذه الآية وقال سعيد بن المسيب وعطاء أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته ثم قال يا معشر قريش لقد علمتم إني لمن أرماكم رجلا والله لا أضع سهما مما في كنانتي إلا في قلب رجل منكم وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي قالوا نعم ففعل ذلك فأنزل الله هذه الآية وقال الحسن أتدرون فيمن نزلت هذه الآية نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول له قل لا إله إلا الله فيأبى أني قولها فقال المسلم والله لاشرين نفسي لله فتقدم فقاتل وحده حتى قتل وقيل نزلت الآية في الأمر
182

سورة البقرة 208 209 بالمعروف والنهي عن المنكر قال ابن عباس أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله يقوم فيأمر هذا بتقوى الله فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم قال وأن أشري نفسي لله فقاتله فاقتتل الرجلان لذلك وكان علي إذا قرأ هذه الآية يقول اقتتلا ورب الكعبة وقال أبو الخليل سمع عمر بن الخطاب إنسانا يقرأ هذه الآية (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) فقال عمر إنا لله وإنا إليه راجعون قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا عبد الرحمن بن شريح أخبرنا أبو القاسم البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي غالب عن أبي أمامة أن رجلا قال يا رسول الله أي الجهاد أفضل قال \ أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر \ 208 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) قرأ أهل الحجاز والكسائي (السلم) ههنا بفتح السين وقرأ الباقون بكسرها وفي سورة الأنفال بالكسر وقرأ أبو بكر والباقون بالفتح وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم بالكسر حمزة وأبو بكر نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام النضيري وأصحابه وذلك أنهم كانوا يعظمون السبت ويكرهون لحوم الإبل وألبانها بعد ما أسلموا وقالوا يا رسول الله إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها في صلاتنا بالليل فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) أي في الإسلام قال مجاهد في أحكام أهل الإسلام وأعمالهم كافة أي جميعا وقيل ادخلوا في الإسلام إلى منتهى شرائعه كافين عن المجاوزة إلى غيره وأصل السلم من الاستلام والانقياد ولذلك قيل للصلح سلم قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية الإسلام ثمانية أسهم فعد الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال قد خاب من لا سهم له (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) أي آثاره فيما زين لكم من تحريم السبت ولحوم الإبل وغيره (إنه لكم عدو مبين) أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو العباس الطحان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام أخبرنا هاشم أخبرنا مخلد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا أفترى أن نكتب بعضها فقال \ أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي \ 209 (فإن زللتم) ضللتم وقيل ملتم يقال زلت قدمه تزل زلا وزللا إذا دحضت قال ابن عباس يعني الشرك قال قتادة قد علم الله أنه سيزل زالون من الناس فتقدم في ذلك وأوعد فيه ليكون لديه الحجة عليهم (من بعد ما جاءتكم البينات) أي الدلالات الواضحات (فاعلموا أن الله
183

سورة البقرة 210 211 عزيز) في نقمته (حكيم) في أمره فالعزيز هو الغالب الذي لا يفوته شيء والحكيم ذو الإصابة في الأمر 210 قوله تعالى (هل ينظرون) أي هل ينتظرون التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان يقال نظرته وانتظرته بمعنى واحد فإذا كان النظر مقرونا بذكر الوجه أو إلى لم يكن إلا بمعنى الرؤية (إلا أن يأتيهم الله في ظلل) جمع ظلة (من الغمام) وهو السحاب الأبيض الرقيق سمي غماما لأنه يغم أي يستر وقال مجاهد هو غير السحاب ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم وقال مقاتل كهيئة الضبابة أبيض قال الحسن في سترة من الغمام فلا ينظر إليهم أهل الأرض (والملائكة) قرأ أبو جعفر بالخفض عطفا على الغمام تقديره مع الملائكة تقول العرب أقبل الأمير في العسكر أي مع العسكر وقرأ الباقون الرفع على معنى إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام والأولى في هذه الآية وفيما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلى الله تعالى أو يعتقد أن الله عز اسمه منزه عن سمات الحدث على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة قال الكلبي هذا من المكتوم الذي لا يفسر وكان مكحول والزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وسفيان الثوري والليث بن سعد وأحمد وإسحق يقولون فيه وفي أمثاله أمرها كما جاءت بلا كيف قال سفيان بن عيينة كلما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عليه ليس لأحد أن يفسره إلا الله تعالى ورسولهه قوله تعالى (وقضي الأمر) أي وجب العذاب وفرغ من الحساب وذلك فصل الله القضاء بالحق بين الخلق يوم القيامة (وإلى الله ترجع الأمور) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الجيم 211 قوله تعالى (سل بني إسرائيل) أي سل يا محمد يهود المدينة (كم آتيناهم) أعطينا آباءهم وأسلافهم (من آية بينة) قرأ أهل الحجاز وقتيبة بتشديد الياء والباء والباقون بتشديد الياء دلالة واضحة على نبوة موسى عليه السلام مثل العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها وقيل معناه الدلالات التي آتاهم الله في التوراة والإنجيل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (ومن يبدل) يعني يغير (نعمة الله) كتاب الله وقيل عهد الله وقيل من ينكر الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب)
184

سورة البقرة 212 212 (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) الأكثرون على أن المزين هو الله تعالى والتزيين من الله تعالى هو أنه خلق الأشياء الحسنة والمناظر العجيبة فنظر الخلق بأكثر من قدرها فأعجبهم حسنها ففتنوا بها وقال الزجاج زين لهم الشيطان قيل نزلت هذه الآية في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد (ويسخرون من الذين آمنوا) أي يستهزؤن بالفقراء من المؤمنين قال ابن عباس أراد بالذين آمنوا عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيبا وبلالا وخبابا وأمثالهم وقال مقاتل نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتنعمون في الدنيا ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين
ويقولون انظروا إلى هؤلاء الذي يزعم محمد أنه يغلب بهم وقال عطاء نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وبني قينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال ويسخرون من الذين آمنوا لفقرهم (والذين اتقوا) يعني هؤلاء الفقراء (فوقهم يوم القيامة) لأنهم في أعلى عليين وهم في أسفل السافلين أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار أخبرنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري أخبرنا إسحق الديري أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ وقفت على باب الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين ووقفت على باب النار فرأيت أكثر أهلها النساء وإذا أهل الجد محبوسون إلا من كان منهم من أهل النار فقد أمر به إلى النار \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل ثنا إسحق بن إبراهيم حدثني عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فلرجل عنده جالس \ ما رأيك في هذا \ فقال رجل من أشراف الناس هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل آخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ما رأيك في هذا فقال \ يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع لقوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ هذا خير من ملء الأرض مثل هذا \ (والله يرزق من يشاء بغير حساب) يعني كثيرا بغير مقدار لأن كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل يريد يوسع على من يشاء ويبسط لمن يشاء من عباده وقال الضحاك يعني من غير تبعة يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه في الآخرة وقيل هذا يرجع إلى اللهه معناه يقتر على من يشاء ويبسط لمن يشاء ولا يعطي لكل أحد بقدر حاجته بل يعطي الكثير من لا يحتاج إليه ولا يعطي القليل من يحتاج إليه فلا يعترض عليه ولا يحاسب فيما يرزق ولأي قال لم أعطيت هذا وحرمت هذا ولم أعطيت هذا أكثر
185

سورة البقرة 213 مما أعطيت ذاك وقيل معناه لا يخاف نفاذ خزائنه فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها لأن الحساب من المعطي إنما يكون بما يخاف من نفاذ خزائنه 213 قوله تعالى (كان الناس أمة واحدة) على دين واحد قال مجاهد أراد آدم وحده كان أمة واحدة قال سمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل وأبو البشر ثم خلق الله تعالى منه حواء ونشر منهما الناس فانتشروا وكانوا مسلمين إلى أن قتل هابيل فاختلفوا (فبعث الله النبيين) قال الحسن وعطاء كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة الكفر أمثال البهائم فبعث الله نوحا وغيره من النبيين وقال قتادة وعكرمة كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث الله إليهم نوحا فكان أول نبي بعث ثم بعث بعده النبيين وقال الكلبي هم أهل سفينة نوح كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح وروي عن ابن عباس قال كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة كفارا كلهم فبعث الله إبراهيم وغيره من النبيين وقيل كان العرب على دين إبراهيم إلى أن غيرهه عمرو بن لحي لعنة الله عليه وروي عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال كان الناس حين عرضوا على آدم وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية لله تعالى أمة واحدة مسلمين كلهم ولم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم ثم اختلفوا بعد آدم نظيره في سورة يونس (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين) وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكورون في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون نبيا (مبشرين) بالثواب من آمن وأطاع (ومنذرين) محذرين بالعقاب من كفر وعصى (وأنزل معهم الكتاب) أي الكتب تقديره وأنزل مع كل واحد منهم الكتاب (بالحق) بالعدل والصدق (ليحكم بين الناس) قرأ أبو جعفر (ليحكم) بضم الياء وفتح الكاف ههنا وفي أول آل عمران وفي النور موضعين لأن الكتاب لا يحكم في الحقيقة إنما يحكم به وقراءة العامة بفتح الياء وضم الكاف أي ليحكم الكتاب ذكره على سعة الكلام كقوله تعالى (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) وقيل معناه ليحكم كل نبي بكتابه (فيما اختلفوا فيهه وما اختلف فيه) أي في الكتاب (إلا الذين أوتوه) أي أعطوا الكتاب (من بعد ما جاءتهم البينات)
186

سورة البقرة 214 يعني أحكام التوراة والإنجيل قال الفراء ولاختلافهم معنيان أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض قال الله تعالى (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) والآخر تحريفهم كتاب الله قال الله (يحرفون الكلم عن مواضعه) وقيل الآية راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه اختلف فيه أهل الكتاب (من بعد ما جاءتهم البينات) صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم (بغيا) ظلما وحسدا (بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه) أي إلى ما اختلفوا فيه (من الحق بإذنه) بعلمه وإرادته فيهم قال ابن زيد في هذه الآية اختلفوا في القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس فهدانا الله إلى الكعبة واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان واختلفوا في الأيام فأخذت اليهود السبت والنصارى الأحد فهدانا الله للجمعة واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى كان نصرانيا فهدانا الله للحق من ذلك واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود الفرية وجعلته النصارى إلها وهدانا الله للحق فيه (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) 214 قوله تعالى (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) قال قتادة والسدي نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى كما قال الله تعالى (وبلغت القلوب الحناجر) وقيل نزلت في حرب أحد وقال عطاء لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد عليهم الضر لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين وآثروا رضا الله ورسولهه وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر قوم النفاق فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم (أم حسبتم) معناه حسبتم والميم صلة قاله الفراء وقال الزجاج بل حسبتم ومعنى الآية أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة (ولما يأتكم) أي ولم يأتكم و (ما) صلة (مثل الذين خلوا) شبه الذين مضوا (من قبلكم) من النبيين والمؤمنين (مستهم البأساء) الفقر والشدة والبلاء (والضراء) المرض والزمانة (وزلزلوا) أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا وخوفوا (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) ما زال البلاء بهم حتى استبطأوا النصر قال الله تعالى (ألا إن نصر الله قريب) قرأ نافع (حتى يقول الرسول) بالرفع معناه حتى قال الرسول وإذا كان الفعل الذي يلي حتى في
معنى الماضي ولفظه لفظ المستقبل فلك فيه الوجهان الرفع والنصب فالنصب على ظاهر الكلام لأن (حتى) تنصب الفعل المستقبل والرفع معناه الماضي و (حتى) لا تعمل في الماضي
187

سورة البقرة 215 216 215 قوله تعالى (يسألونك ماذا ينفقون) نزلت في عمرو بن الجموح وكان شيخا كبيرا ذا مال فقال يا رسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق فأنزل الله تعالى (يسألونك ماذا ينفقون) وفي قوله (ماذا) وجهان من الإعراب أحدهما أن يكون محله نصبا بقوله (ينفقون) تقديره أي شيء ينفقون والآخر أن يكون رفعا ب (ما) ومعناه ما الذي ينفقون (قل ما أنفقتم من خير) أي من مال (فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) يجازيكم به قال أهل التفسير كان هذا قبل فرض الزكاة فنسخت بالزكاة 216 قوله تعالى (كتب عليكم القتال) أي فرض عليكم الجهاد واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال عطاء الجهاد تطوع والمراد من الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهم وإليه ذهب الثوري واحتج من ذهب إلى هذا بقوله تعالى (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى) ولو كان القاعد تاركا فرضا لم يكن يعده الحسنى وجرى بعضهم على ظاهر الآية وقال الجهاد فرض على كافة المسلمين إلى قيام الساعة أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشربجي الخوارزمي أخبرنا أبو إسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي القرالي أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أخبرنا سعيد بن عثمان العبدي عن عمرو بن محمد بن المنكدر عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق \ وقال قوم وعليه الجمهور إن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين مثل صلاة الجنازة ورد السلام قال الزهري والأوزاعي كتب الله الجهاد على الناس غزوا أو قعودا فمن غزا فيها ونعمت ومن قعد فهو عدة إن استعين به أعان وإن استنفر نفر وإن استغني عنه قعد قوله تعالى (وهو كره لكم) أي شاق عليكم قال بعض أهل المعاني هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح لا أنهم كرهوا ثم أحبوه فقالوا سمعنا وأطعنا قال الله تعالى (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) لأن في الغزو إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة (وعسى أن تحبوا شيئا) يعني القعود عن الغزو (وهو شر لكم) لما فيه من فوات الغنيمة والأجر (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) 217 قوله تعالى (يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه) سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم أخت أبيه في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر
188

شهرا من مقدمه إلى المدينة وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين سعد بن أبي وقاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكير وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتابا وقال فيه \ سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين فإذا نزلت فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ولا تستكرهن أحدا من أصحابك على السير معك \ فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فسر على بركة الله ممن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن مكة فترصد بها عير قريش لعلك تأتينا منه بخير فلما نظر في الكتاب قال سمعا وطاعة ثم قال لأصحابه ذلك وقال إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطق ومن كره فليرجع ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى كان بمعدن فوق الفرع بموضع من الحجاز يقال له نجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف فبينما هم كذلك إذ مرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميات فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم فقال عبد الله بن جحش إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم وليتعرض لهم فحلقوا رأس عكاشة فوق ثم أشرفوا عليهم فقالوا قوم عمار لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرون أنه من جمادى وهو من رجب فتشاور القوم وقالوا إن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم فأجمعوا أمرهم في موافقة القوم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي فقتله فكان أول قتيل من المشركين وهو أول قتيل في الهجرة وأدى النبي صلى الله عليه وسلم دية ابن الحضرمي إلى ورثته من قريش قال مجاهد وغيره لأنه كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش عهد وادع أهل مكة سنتين أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه واستأسر الحكم وعثمان فكانا أول أسيرين في الإسلام وأفلت نوفل فأعجزهم واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام فسفك فيه الدماء وأخذ الحرائب وعير بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين وقالوا يا معشر الصبأة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لابن جحش وأصحابه ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أن قد هلكوا وسقط في أيديهم وقالوا يا رسول الله إنا قد قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى وأكثر الناس في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس فكان أول خمس في الإسلام وقسم الباقي بين أصحاب السرية فكان أول غنيمة في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء
189

سورة البقرة 217 218 أسيريهم فقال بل نبقيهما حتى يقدم سعد وعقبة وإن لم يقدما قتلناهما بهما فلما قدما فأداهما فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدا وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافرا وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية فهذا سبب نزول هذه الآية 217 قوله تعالى (يسألونك عن الشهر الحرام) يعني رجبا سمي بذلك لتحريم القتال فيه قوله تعالى (قتال فيه) أي عن قتال فيه (قل) يا محمد (قتال فيه كبير) عظيم
تم الكلام ههنا ثم ابتدأ فقال (وصد عن سبيل الله) وصدكم المسلمين عن الإسلام (وكفر به) أي كفركم بالله (والمسجد الحرام) أي بالمسجد الحرام وقيل وصدكم عن المسجد الحرام (وإخراج أهله) أي إخراج أهل المسجد (منه أكبر) أعظم وزرا (عند الله والفتنة) أي الشرك الذي أنتم عليه (أكبر من القتل) أي أعظم من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركين بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ومنعهم المسلمين عن البيت الحرام ثم قال (ولا يزالون) يعني مشركي مكة وهو فعل لا مصدر له مثل عسى (يقاتلونكم) يا معشر المؤمنين (حتى يردوكم) يصرفوكم (عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت) جزم بالنسق (وهو كافر فأولئك حبطت) بطلت (أعمالهم) حسناتهم (في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) قال أصحاب السرية يا رسول الله هل نؤجر على وجهنا هذا وهل نطمع أن يكون سفرنا هذا غزوا 218 فأنزل الله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هاجروا) فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم (وجاهدوا) المشركين (في سبيل الله) طاعة الله فجعلها جهادا (أولئك يرجون رحمة الله) أخبر أنهم على رجاء الرحمة (والله غفور رحيم)
190

سورة البقرة 219 219 قوله تعالى (يسألونك عن الخمر والميسر) الآية نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال فأنزل الله هذه الآية وجملة القول في تحريم الخمر على ما قاله المفسرون إن الله أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة وهي (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا) فكان المسلمون يشربونها وهي لحم حلال يومئذ ثم نزلت هذه الآية في مسئلة عمر ومعاذ بن جبل (يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن الله تقدم في تحريم الخمر \ فتركها قوم لقول (إثم كبير) وشربها أقوام لقوله (ومنافع للناس) إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب فقدموا بعضهم ليصلي بهم فقرا قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون هكذا إلى آخر السورة بحذف لا فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) فحرم السكر في أوقات الصلاة فلما نزلت هذه الآية تركها قوم وقالوا لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة وتركها قوم في أوقات الصلاة وشربوها في غير حين الصلاة حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحوا إذا جاء وقت الظهر واتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ثم أنهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار فأنشد سعد قصيدوا فيها هجاء للأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحى بعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فقال عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فأنزل اللهه تعالى تحريم الخمر في سورة المائدة إلى قوله (فهل أنتم منتهون) وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي الله عنه انتهينا يا رب قال أنس حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها وما حرم عليهم شيء أشد من الخمر وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال لما نزلت الآية التي في سورة المائدة حرمت الخمر فخرجنا بالحباب إلى الطريف فمنا من كسر حبه ومنا من غسله بالماء والطين ولعله غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حينا فلما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت منها ريحها وعن أنس رضي الله عنه سميت الخمر خمرا لأنهم كانوا يدعونها في الدندان حتى تتخمر وتتغير وعن ابن المسيب لأنها تركت حتى صفا لونها ورسب كدرها أخبرنا عبد الواحد بن
191

أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا يعقوب بن إبراهيم أخبرنا ابن علية أخبرنا عبد العزيز بن سهب قال قال لي أنس بن مالك ما كان لنا خمر غير فضيخكم وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا إذ جاء رجل فقال حرمت الخمر فقالوا أهرق هذه القلال يا أنس قال فما سألوها عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل واختلف العلماء في ماهية الخمر فقال قوم هي عصير العنب أو الرطب الذي اشتد وغلا من غير عمل النار فيه واتفقت الأئمة على أن هذه الخمر نجس يحد شاربها ويفسق ويكفر مستحلها وذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة وجماعة إلى أن التحريم لا يتعدى هذا ولا يحرم ما يتخذ من غيرها كالمتخذ من الحنطة والشعير والذرة والعسل والفانيذ إلا أن يسكر منه ليحرم وقالوا إذا طبخ عصير العنب أو الرطب حتى ذهب نصفه فهو حلال ولكنه يكره وإن طبخ حتى ذهب ثلثاه قالوا هو حلال مباح شربه إلا أن السكر منه حرام ويحتجون بما روي أن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عمال إن أرزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ورأى أبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث وقال قوم إذا طبخ العصير أدنى طبخ صار حلالا وهو قول إسماعيل بن علية وذهب أكثر أهل العلم إلى أن كل شراب أسكر كثيرا فهو خمر وقليله حرام يحد شاربه واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال \ كل شراب أسكر فهو حرام \ أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أخبرنا أحمد بن علي الكشمهيني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ما أسكر كثيره فقليله حرام \ أخبرنا إسماعيل بن عبد القادر الجرجاني أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن أبي سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو الربيع العتكي أخبرنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ كل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها ولم يتب لم يشربها في الآخرة \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أحمد بن أبي رجاء أنا يحيى بن أبي حيان التيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أحمد بن أبي رجاء أنا يحيى عن أبي حيان التيمي عن الشعبي عن ابن عمر قال خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء من العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقل
وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن من العنب خمرا وإن من التمر خمرا وإن من العسل خمرا وإن من البر خمرا وإن من الشعير خمرا \ فثبت أن الخمر لا يختص بما يتخذ من العبن أو الرطب أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال إني وجدت من فلان ريح خمر أو شراب وزعم أنه شرب الطلاء وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته فجلده عمر
192

الحد تاما وما روي عن عمر وأبي عبيدة ومعاذ في الطلاء فهو فيما طبخ حتى خرج عن أن يكون مسكرا سئل ابن عباس عن الباذق فقال سبق محمد الباذق فما أسكر فهو حرام قوله تعالى (والميسر) يعني القمار قال ابن عباس كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله فأنزل الله تعالى هذه الآية والميسر مفعل من قولهم يسر لي الشيء إذا وجب ييسر يسرا وميسرا ثم قيل للقمار ميسر وللمقامر ياسر ويسر وكان أصل الميسر في الجزور وذلك أن أهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزورا فينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها الأزلام والأقلام السبعة منها أنصباء وهي الفذ وله نصيب واحد والتوأم وله نصيبان والرقيب وله ثلاثة أسهم والحلس وله أربعة والنافس وله خمسة والمسبل وله ستة والمعلى وله سبعة وثلاثة منها لا أنصباء لها وهي المنيح والسفيح والوغد ثم يجعلون القداح في خريطة تسمى الريابة ويضعونها على يدي رجل عدل عندهم يسمى المحيل والمفيض ثم يحيلها ويخرج قدحا منها باسم رجل منهم فأيهم خرج اسمه أخذ نصيبه على قدر ما خرج فإن خرج له واحد من هذه الثلاثة التي لا أنصباء لها كان لا يأخذ شيئا ويغرم ثمن الجزور كله وقال بعضهم كان لا يأخذ شيئا ولا يغرم ويكون ذلك القدح لغوا ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئا وكانوا يفتخرون بذاك ويذمون من لم يفعل ذلك ويسمونه البرم وهو أصل القمار الذي كانت تفعله العرب والمراد من الآية أنواع القمار كلها قال طاوس وعطاء ومجاهد كل شيء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب وروي عن علي رضي الله عنه في النرد والشطرنج أنهما من الميسر (قل فيهما إثم كبير) وزر عظيم من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش قرأ حمزة والكسائي (إثم كبير) بالثاء المثلثة وقرأ الباقون بالباء فالإثم في الخمر والميسر ما ذكره الله في سورة المائدة (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الل وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) (ومنافع للناس) فمنفعة الخمر اللذة عند شربها والفرح واستمراء الطعام وما يصيبون من الربح بالتجارة فيها ومنفعة الميسر إصابة المال من غير كد ولا تعب وارتفاق الفقراء به والإثم فيه أنه إذا ذهب ماله من غير عوض ساءهه ذلك فعادى صاحبه فقصده بالسوء (وإثمهما أكبر من نفعهما) قال الضحاك وغيره إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم هو ما يحصل به من العداوة والبغضاء قوله تعالى (ويسألونك ماذا ينفقون) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثهم على الصدقة فقالوا ماذا ننفق فقال (قل العفو) قرأ أبو عمرو والحسن وقتادة وابن أبي إسحق (العفو) بالرفع معناه أي الذي ينفقون هو العفو وقرأ الآخرون بالنصب على معنى قل أنفقوا العفو واختلفوا في معنى العفو فقال قتادة وعطاء والسدي هو ما فضل عن الحاجة وكانت الصحابة يكتسبون المال ويمسكون قدر النفقة ويتصدقون بالفضل بحكم هذه الآية ثم نسخ بآية الزكاة وقال مجاهد معناه التصدق عن ظهر غنى حتى لا يبقى كلا على الناس أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن مخمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر
193

سورة البقرة 220 أنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر الكوفي أنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول \ وقال عمرو بن دينار الوسط من غير إسراف ولا إقتار قال الله تعالى (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) وقال طاوس ما يسر والعفو اليسر من كل شيء ومنه قوله تعالى (خذ العفو) أي الميسور من أخلاق الناس أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أنا سفيان عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعد عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله عندي دينار قال صلى الله عليه وسلم \ أنفقه على نفسك \ قال عندي آخر قال صلى الله عليه وسلم \ أنفقه على ولدك \ قال عندي آخر قال صلى الله عليه وسلم \ أنفقه على أهلك \ قال عندي آخر قال صلى الله عليه وسلم \ أنفقه على خادمك قال عندي آخر قال صلى الله عليه وسلم \ أنت أعلم \ قوله تعالى (كذلك يبين الله لكم الآيات) قال الزجاج إنما قال كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة لأن الجماعة معناها القبيل كأنه قال كذلك أيها القبيل وقيل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه خطاب يشتمل على خطاب الأمة كقوله تعالى (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) قوله تعالى (لعلكم تتفكرون) 220 (في الدنيا والآخرة) قيل معناه يبين الله لكم الآيات في أمر النفقة لعلكم تتفكرون في الدنيا في الدنيا والآخرة فتحسبون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى وقال أكثر المفسرين معناها هكذا يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون وقيل معناه يبين الله لكم الآيات في أمر النفقة لعلكم تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا فيها وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها قوله تعالى (ويسألونك عن اليتامى) قال ابن عباس وقتادة لما نزل قوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) وقوله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) الآية تحرج المسلمون من أموال اليتامى تحرجا شديدا حتى عزلوا أموال اليتامى عن أموالهم حتى كان يصنع لليتيم طعام منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد فاشتد ذلك عليهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية (قل إصلاح لهم خير) أي الإصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عوض خير وأعظم أجرا لمالكم في ذلك من الثواب وخير لهم لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم قال مجاهد أي إن تشاركوهم في أموالهم وتخلطوا بأموالكم في نفقاتكم ومساكنكم وخدمكم ودوابكم فتصيبوا من أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم أو تكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم
194

سورة البقرة 221 (فإخوانكم) أي فهو إخوانكم والإخوان يعين بعضهم بعضا ويصيب بعضهم من أموال بعض على وجه الإصلاح والرضا (والله يعلم المفسد) لأموالهم (من المصلح) لها يعني الذي يقصد بالمخالطة الخيانة وإفساد مال اليتيم وأكله بغير حق من الذي يقصد الإصلاح (ولو شاء الله لأعنتكم) أي لضيق عليكم وما أباح لكم
مخالطتهم وقال ابن عباس ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا لكم وأصل العنت الشدة والمشقة ومعناه كلفكم في كل شيء ما يشق عليكم (إن الله عزيز) في سلطانه وقدرته على الإعنات وقيل العزيز الذي يأمر بعزه سهل على العباد أو شق عليهم (حكيم) فيما صنع من تدبيره وترك الإعنات 221 قوله تعالى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) سبب نزول هذه الآية أن أبا مرثد بن أبي مرثد الغنوي وقال مقاتل هو أبو مرثد الغنوي وقال عطاء أبو مرثد كناز بن الحصين وكان شجاعا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرا فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق وكانت خليلته في الجاهلية فأتته وقالت يا أبا مرثد ألا تخلوا فقال لها ويحك يا عناق إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك قالت فهل لك أن تتزوج بي قال نعم ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره فقالت أبي تتبرم ثم استعانت عليه فضربوه ضربا شديدا ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بالذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها وقال يا رسول الله أتحل لي أن أتزوجها فأنزل الله تعالى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) وقيل الآية منسوخة في حق الكتابيات لقوله تعالى (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) وبخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع الأمة روى الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا \ فإن قيل كيف أطلقتم اسم الشرك على من لم ينكر إلا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال أبو الحسن بن فارس لأن من يقول القرآن كلام غير الله فقد أشرك مع الله غيره وقال قتادة وسعيد بن جبير أراد بالمشركات الوثنيات فإن عثمان تزوج نائلة بنت فراقصة وكانت نصرانية فأسلمت تحته وتزوج طلحة بن عبد الله نصرانية وتزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر رضي الله عنه خل سبيلها فكتب إليه أتزعم أنها حرام فقال لا أزعم أنها حرام ولكني أخاف أن تتعاطوا المؤمنات منهن (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) بجمالها ومالها نزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان قال حذيفة يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك فأعتقها وتزوجها وقال السدي نزلت
195

سورة البقرة 222 في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فغصب عليها ولطمها ثم خرج فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال له صلى الله عليه وسلم \ وما هي با عبد الله \ فقال هي تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وتصوم رمضان وتحسن الوضوء وتصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ هذه مؤمنة \ قال عبد الله فوالذي بعثك بالحق نبيا لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل ذلك فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا أتنكح أمة وعرضوا عليه حرة مشركة فأنزل الله تعالى هذه الآية (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) هذا إجماع لا يجوز للمسلمة أن تنكح المشرك (ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك) يعني المشركين (يدعون إلى النار) أي إلى الأعمال الموجبة للنار (والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه) أي بقضائه وقدره وإرادته (ويبين آياته للناس) أي أوامره ونواهيه (لعلهم يتذكرون) يتعظون 222 قوله تعالى (ويسألونك عن المحيض) أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزي القاشاني أنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللولوي أنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني أنا موسى بن إسماعيل أنا حماد هو ابن سلمة أنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن اليهود كانوا إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح \ فقالت اليهود ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا ننكحهن في المحيض فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهما فسقاهما فعرفنا أنه لم يجد عليهما قوله تعالى (ويسألونك عن المحيض) أي عن الحيض وهو مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا كالسير والمسير وأصل الحيض الانفجار والسيلان وقوله (قل هو أذى) أي قذر والأذى كل ما يكره من كل شيء (فاعتزلوا النساء في المحيض) أراد بالاعتزال ترك الوطء (ولا تقربوهن) أي لا تجامعوهن أما الملامسة والمضاجعة معها فجائزة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل بن قبيصة أنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واد كلانا جنب وكان يأمرني أن أتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا سعد بن حفص أنا شيبان
196

عن يحيى عن أبي سلمة عن زينب بنت أبي سلمة حدثته أن أم سلمة قالت حضت وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة فانسللت فخرجت منه فأخذت ثياب حيضتي فلبستها فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أنفست \ قلت نعم فدعاني فأدخلني معه الخميلة أخبرنا أبو القاسم بن عبد الله بن محمد الحنفي أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الظاهري أنا محمد بن الحسن بن محمد بن حكيم أنا أبو الموجة محمد بن عمرو أنا صدقة أنا وكيع أنا مسعر وسفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت كنت أشرب وأنا حائض فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في وأتعرق العرق فيتناوله فيضع فاه في موضع في فوطء الحائض حرام ومن فعله يعصي الله عز وجل ويعززه الإمام إن علم منه ذلك واختلف أهل العلم في وجوب الكفارة عليه فذهب أكثرهم إلى أنه لا كفارة عليه فيستغفر الله ويتوب إليه وذهب قوم إلى وجوب الكفارة عليه منهم قتادة والأوزاعي وأحمد وإسحق لما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا أبو جعفر الرازي عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رجل جامع امرأته وهي حائض قال \ إن كان الدم عبيطا فليتصدق بدينار وإن كان صفرة فنصف دينار \ ويروى هذا موقوفا على ابن عباس ويمنع الحيض جواز الصلاة ووجوبها ويمنع جواز الصوم ولا يمنع وجوبه حتى إذا طهرت يجب عليها قضاء الصوم ولا يجب قضاء الصلاة وكذلك النفساء أخبرنا أبو عثمان سعيد عن عبيدة بن أبي محمد عبد الجبار بن
محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا علي بن حجر أنا علي بن مسهر بن إسماعيل الضبي أنا معقب الضبي عن عبد الكريم عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة قالت كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نطهر فيأمرنا بقضاء الصيام ولا يأمرنا بقضاء الصلاة ولا يجوز للزوج غشيانها أخبرنا عمر بن عبد العزيز أنا القاسم بن جعفر أنا أبو علي اللولوي أنا أبو داود أنا مسدد أنا عبد الواحد بن زياد أنا أفلت بن خليفة قال حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة تقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال \ وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب \ قوله تعالى (حتى يطهرن) قرأ عاصم برواية أبي بكر وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء حتى يغتسلن وقرأ الآخرون بسكون الطاء وضم الهاء مخفف ومعناه حتى يطهرن من الحيض وينقطع دمهن (فإذا تطهرن) يعني اغتسلن (فأتوهن) أي فجامعوهن (من حيث أمركم الله) أي من حيث أمركن أن تعتزلوهن منه وهو الفرج قال مجاهد وقتادة وعكرمة وقال ابن عباس طؤهن في الفرج ولا تعدوه إلى غيره أي اتقوا الأدبار وقيل من حيث بمعنى في حيث أمركم الله تعالى وهو الفرج كقوله عز وجل (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) أي في يوم الجمعة وقيل فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله أن تأتوهن وهو الطهر وقال ابن الحنفية من قبل الحلال دون الفجور وقيل لا تأتوهن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات واتوهن وغشيانه لكم حلال واعلم أنه لا يرتفع تحريم شيء مما منعه
197

سورة البقرة 223 الحيض بانقطاع الدم ما لم تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء إلا تحريم الصوم فإن الحائض إذا انقطع دمها بالليل ونوت الصوم فوقع غسلها بالنهار صح صومها والطلاق في حال حيض يكون بدعيا وإذا طلقها بعد انقطاع الدم قبل الغسل لا يكون بدعيا وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أنه إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهي عنده عشرة أيام يجوز للزوج غشيانها قبل الغسل وقال مجاهد وعطاء وطاوس إذا غسلت فرجها يجوز للزوج غشيانها قبل الغسل وأكثر أهل العلم على التحريم مالم تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء لأن الله تعالى علق جواز وطئها بشرطين بانقطاع الدم والغسل فقال (حتى يطهرن) يعني من الحيض (فإذا تطهرن) يعني اغتسلن فأتوهن ومن قرأ يطهرن بالتشديد فالمراد منه الغسل كقوله تعالى (وإن كنتم جنبا فاطهروا) أي فاغتسلوا فدل على أن قبل الغسل لا يحل الوطء قوله تعالى (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) قال عطاء ومقاتل بن سليمان والكلبي يحب التوابين من الذنوب ويحب المتطهرين بالماء من الأحداث والنجاسات وقال مقاتل بن حيان يحب التوابين من الذنوب والمتطهرين من الشرك وقال سعيد بن جبير التوابين من الشرك والمتطهرين من الذنوب وقال مجاهد التوابين من الذنوب لا يعودون فيها والمتطهرين منها لم يصيبوها والتواب الذي كلما أذنب تاب نظيره قوله تعالى (فإنه كان للأوابين غفورا) 223 قوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحق الثعلبي أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني أخبرنا محمد بن يعقوب أنا ابن المنادي أنا يونس أنا يعقوب القمي عن جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هلكت قال \ وما الذي أهلكك \ قال حولت رحلي البارحة فلم يرد عليه شيئا وأوحى الله إليه (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) يقول \ أدبر وأقبل واتق الدبر والحيضة \ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أحمد بن الحسين الحيري أنا صاحب ابن أحمد الطوسي أنا عبد الرحيم بن منيب أنا ابن عيينة عن ابن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها أن الولد يكون أحول فنزلت (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) وروى مجاهد عن ابن عباس قال كان من شأن أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم وكان هذا الحي من قريش يتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرت عليهه وقالت إنا كنا نؤتى على حرف فإن شئت فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى سرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله
198

تعالى (نساؤكم حرث لكم) الآية يعني موضع الولد (فأتوا حرثكم أنى شئتم) مقبلات ومدبرات ومستلقيات و (أنى) حرف استفهام يكون سؤالا عن الحال والمحل معناه كيف شئتم وحيث شئتم بعد أن يكون في صمام واحد وقال عكرمة أنى شئتم إنما هو الفرج ومثله لكم أي مزرع لكم ومنبت الولد بمنزلة الأرض التي تزرع وفيه دليل على تحريم الأدبار لأن محل الحرث والزرع هو القبل لا الدبر وقال سعيد بن المسيب هذا في العزل يعني إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا وسئل ابن عباس عن العزل فقال حرثك إن شئت فاعطش وإن شئت فأرو وروي عنه أنه قال تستأمر الجارية وبه قال أحمد وكره جماعة العزل وقال هو الوأد الخفي وروي عن مالك عن نافع قال كنت أمسك على ابن عمر المصحف فقرأ هذه الآية (نساؤكم حرث لكم) فقال أتدري فيكم نزلت هذه الآية قلت لا قال نزلت في رجل أتى امرأته في دبرها فشق ذلك عليه فنزلت هذه الآية ويحكى عن مالك إباحة ذلك وأنكر ذلك أصحابه وروى عن عبد الله بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد الله فقال له يا أبا عمر ما حدثت بحديث نافع عن عبد الله أنه لم يكن يرى بأسا بإتيان النساء في أدبارهن فقال كذب العبد وأخطأ إنما قال عبد الله يؤتون في فروجهن من أدبارهن والدليل على تحريم الأدبار ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أخبرنا الشافعي أنا عمر محمد بن علي بن شافع أخبرنا عبد الله بن علي بن السائب عن عمرو بن أحيحة بن الحلاج عن خزيمة بن ثابت أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ في أي الخرمتين أو في أي الخرزتين أو في الخصفتين أمن دبرها في قبلها فنعم أم من دبرها في دبرها فلا فإن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن \ أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحق الثعلبي أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الحافظ أنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي أخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي أنا عبد الله بن أبان أنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن مسلم بن خالد عن العلاء عن أبي عن أبي هريره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ملعون من أتى امرأة في دبرها \ قوله تعالى (وقدموا لأنفسكم) قال عطاء التسمية عند الجماع قال مجاهد وقدموا لأنفسكم يعني إذا أتى أهله فليدع أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن إسماعيل أنا عثمان بن أبي شيبة أنا جرير عن منصور عن سالم عن
199

سورة البقرة 224 كريب عن ابن عباس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم \ لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا \ وقيل قدموا لأنفسكم يعني طلب الولد أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسين علي بن عبد الله الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشمهيني أنا علي بن حجر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له \ وقيل هو التزوج بالعفاف ليكون الولد صالحا أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا مسدد أنا يحيى عن عبد الله حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك \ وقيل معنى الآية تقديم الإفراط أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتسمه النار إلا تحلة القسم \ وقال الكلبي والسدي وقدموا لأنفسكم يعني الخير والعمل الصالح بدليل سياق الآية (واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه) صائرون إليه فيجزيكم بأعمالكم (وبشر المؤمنين) 224 قوله تعالى (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) نزلت في عبد الله بن رواحة كان بينه وبين ختنه على أخيه بشير بن النعمان الأنصاري شيء فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين خصمه وإذا قيل له فيه قال قد حلفت بالله أن لا أفعل فلا يحل لي إلا أن تبر بيميني فأنزل الله هذه الآية وقال ابن جريج نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك والعرضة أصلها الشدة والقوة ومنه قيل للدابة التي تتخذ للسفر عرضة لقوتها عليه ثم قيل لكل ما يصلح لشيء هو عرضة له حتى قالوا للمرأة هي عرضة النكاح إذا صلحت له والعرضة كل ما يعترض فيمنع عن الشيء ومعنى الآية لا تجعلوا الحلف بالله سببا مانعا لكم من البر والتقوى يدعى أحدكم إلى صلة رحم أو بر فيقول حلفت بالله أن لا أفعله فيعتل بيمينه في ترك البر (أن تبروا) معناه أن لا تبروا كقوله تعالى (يبين الله لكم أن تضلوا) أي لئلا تضلوا (وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم) أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أبو إسحق الهاشمي أنا أبو
200

سورة البقرة 225 مصعب عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ من حلف بيمين فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير \ 225 قوله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) اللغو كل ساقط مطرح من الكلام لا يعتد به واختلف أهل العلم في لغو اليمين المذكورة في الآية فقال قوم هو ما يسبق إلى اللسان على عجلة لصلة الكلام من غير عقد وقصد كقول القائل لا والله وبلى والله وكلا والله أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت لغو اليمين قول الإنسان لا والله وبلى والله ورفعه بعضهم وإلى هذا ذهب الشعبي وعكرمة وبه قال الشافعي ويروى عن عائشة أيمان اللغو ما كانت في الهزل والمراء والخصومة والحديث الذي لا يعقد عليه القلب وقال قوم هو أن يحلف عن شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك وهو قول الحسن والزهري وإبراهيم النخعي وقتادة ومكحول وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه وقالوا لا كفارة فيه ولا إثم وقال علي الغضب وبه قال طاوس وقال سعيد بن جبير هو اليمين في المعصية لا يؤاخذه الله بالحنث فيها بل يحنث ويكفر وقال مسروق ليس عليه كفارة أنكفر خطوات الشيطان وقال الشعبي في الرجل يحلف على المعصية كفارته أن يتوب منها وكل يمين لا يحل لك أن تفي بها فليس فيها كفارة ولو أمرته بالكفارة لأمرته أن يتم ويستمر على قوله وقال زيد بن أسلم هو دعاء الرجل على نفسه كقول الإنسان أعمى الله بصري أن أفعل كذا فهذا كله لغو لا يؤاخذه الله به ولو آخذهم به لعجل لهم العقوبة (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم) وقال (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير) قوله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) أي عزمتم وقصدتم إلى اليمين وكسب القلب العقد والنية (والله غفور رحيم) واعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بالله أو باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته فاليمين بالله أن يقول والذي أعبده والذي أصلي له والذي نفسي بيده ونحو ذلك واليمين بأسمائه كقوله والله والرحمن ونحوه واليمين بصفاته كقوله وعزة الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله ونحوهما فإذا حلف بشيء منها على أمر في المستقبل فحنث يجب عليه الكفارة وإذا حلف على أمر ماض أنه كان ولم يكن أو على أنه لم يكن وقد كان إن كان عالما به حالة ما حلف فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر ويجب فيه الكفارة عند بعض أهل العلم عالما كان أو جاهلا وبه قال الشافعي ولا يجب عند بعضهم وهو قول أصحاب الرأي وقالوا إن كان عالما فهو كبيرة ولا كفارة لها كما في سائر
201

سورة البقرة 226 الكبائر وإن كان جاهلا فهو يمين اللغو عندهم ومن حلف بغير الله مثلا مثل إن قال والكعبة وبيت الله ونبي الله أو حلف بأبيه ونحو ذلك فلا يكون يمينا فلا يجب به الكفارة إذا حلف وهو يمين مكروهة قال الشافعي وأخشى أن يكون معصية أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الشافعي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت \ 226 قوله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) يؤلون أي يحلفون والألية اليمين والمراد من الآية اليمين على ترك وطء المرأة قال قتادة كان الإيلاء طلاقا لأهل الجاهلية وقال سعيد بن المسيب كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية وكان الرجل لا يحب امرأته ولا يريد أن يتزوج بها غيره فيحلف أن لا يقربها أبدا فيتركها لا أيما ولا ذات بعل وكانا عليه في ابتداء الإسلام فضرب الله له أجلا في الإسلام واختلف أهل العلم فيه فذهب أكثرهم إلى أنه إن حلف أن لا يقرب زوجته أبدا أو سمى مدة أكثر من أربعة أشهر يكون موليا فلا يتعرض قبل مضي أربعة أشهر وبعد مضيها يوقف ويؤمر بالفيء أو بالإطلاق بعد مطالبة المرأة والفيء هو الرجوع عما قاله بالوطء إن قدر عليه وإن لم يقدر فبالقول فإن لم يف ولم يطلق طلق عليه السلطان واحدة وذهب إلأى الوقوف بعد مضي المدة عمر وعثمان وعلي وأبو الدرداء وابن عمر قال سليمان بن يسار أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يقولون
يوقف المولي وإليه ذهب سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحق وقال بعض أهل العلم إذا مضت أربعة أشهر تقع عليها طلقة بائنة وهو قول ابن عباس وابن مسعود وبه قال سفيان الثوري وأصحاب الرأي وقال سعيد بن المسيب والزهري تقع طلقة رجعية ولو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر لا يكون موليا بل هو حالف فإذا وطئها قبل مضي تلك المدة تجب عليه كفارة اليمين ولو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر لا يكون موليا عند من يقول بالوقف بعد مضي المدة لأن بقاء المدة شرط للوقف وثبوت المطالبة بالفيء أو الطلاق وقد مضت المدة وعند من يقول بالوقف يكون موليا ويقع الطلاق بمضي المدة ودمة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحر والعبد جميعا عند الشافعي رحمه الله لأنها ضربت لمعنى يرجع إلى الطبع وهو قلة صبر المرأة عن الزوج فيستوي فيه الحر والعبد جميعا عند الشافعي رحمه الله لأنها ضربت لمعنى يرجع إلى الطبع وهو قلة صبر المرأة عن الزوج فيستوي فيه الحر والعبد كمدة العنة وعند مالك رحمه الله وأبي حنيفة رحمه الله تتصف مدة العنة بالرق غير أن عند أبي حنيفة تتنصف برق المرأة وعند مالك برق الزوج كما قالا في الطلاق قوله تعالى (تربص أربعة أشهر) أي انتظار أربعة أشهر والتربص التثبت والتوقف
202

سورة البقرة 227 228 فإن فاؤا) رجعوا عن اليمين بالوطئ (فإن الله غفور رحيم) وإذا وطئ في الفرج عن الإيلاء وتجب عليه كفارة اليمين عند أكثر أهل العلم وقال الحسن وإبراهيم النخعي وقتادة لا كفارة عليه لأن الله تعالى وعد بالمغفرة فقال (فإن الله غفور رحيم) وذلك عند الأكثرين في سقوط العقوبة لا في الكفارة ولو قال لزوجته إن قربتك فعبدي حر أو ضربتك فأنت طالق أو لله علي عتق عبد أو صوم أو صلاة فهو مول لأن المولي من يلزمه أمر بالوطء ويوقف بعد مضي المدة فإن فاء يقع الطلاق أو العتق المعلق بهه وإن التزم في الذمة تلزمه كفارة اليمين في قول وفي قول يلزمه ما التزم في ذمته من الإعتاق أو الصلاة أو الصوم 227 (وإن عزموا الطلاق) أي حققوه بالإيقاع (فإن الله سميع) لقولهم (عليم) بنياتهم وفيه دليل على أنها لا تطلق بعد مضي المدة مالم يطلقها زوجها لأنه شرط فيه العزم وقال (فإن الله سميع عليم) فدل على أنه يقضي مسموعا والقول هو الذي يسمع 228 قوله تعالى (والمطلقات) أي المخليات من حبال أزواجهن (يتربصن) ينتظرن (بأنفسهن ثلاثة قروء) فلا يتزوجن والقروء جمع قرء مثل قرع وجمعه القليل أقرؤ والجمع الكثير أقراء واختلف أهل العلم في القرء فذهب جماعة إلى أنها الحيض وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد وإليه ذهب الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة \ دعي الصلاة أيام أقرائك \ وإنما تدع المرأة الصلاة أيام حيضها وذهب جماعة إلى أنها الأطهار وهو قول زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة وهو قول الفقهاء السبعة والزهري وبه قال ربيعة ومالك والشافعي واحتجوا بأن ابن عمر رضي الله عنه لما طلق امرأته وهي حائض قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر \ مره فليراجعها حتى تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قيل أن يمس \ فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء فأخبر أن زمان العدة هو الطهر ومن جهة اللغة قول الشاعر (ففي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عرائكا) (مورثة مالا وفي الحي رفعة لما رضاع فيها من قروء نسائكا)
203

وأراد به أنه كان يخرج إلى الغزو ولم يغش نساءه فتضيع أقراؤهن وإنما تضيع بالسفر زمان الطهر لا زمان الحيض وفائدة الخلاف تظهر في أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة تنقضي عدتها على قول من يجعلها أطهارا وتحسب بقية الطهر الذي وقع فيه الطلاق قرءا قالت عائشة رضي الله عنها إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ومن ذهب إلى أن الاقراء هي الحيض يقول لا تنقضي عدتها مالم تطهر من الحيضية الثالثة وهذا الخلاف من حيث إن اسم القرء يقع على الطهر والحيض جميعا يقال أقرأت المرأة إذا حاضت وأقرأت إذا طهرت فهي مقرئ واختلفوا في أصله فقال أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة هو الوقت لمجيء الشيء وذهابه يقال رجع فلان لقرئه ولقارئه أي لوقته الذي يرجع فيه وهذا قارئ الرياح أي وقت هبوبها قال مالك بن الحرث الهذلي (كرهت العقر عقر بني سليل إذا هبت لقارئها الرياح) أي لوقتها والقرء يصلح للوجهين لأن الحيض يأتي لوقت والطهر مثله وقيل هو من القرء وهو الحبس والجمع تقول العرب ما قرأت الناقة سلا قط أي لم تضم رحمها على ولد ومنه قريت الماء في المقرأة وهي الحوض أي جمعته بترك همزها فالقرء ههنا احتباس الدم واجتماعه فعلى هذا يكون الترجيح فيه للطهر لأنه يحبس الدم ويجمعه والحيض يرخيه ويرسله وجملة الحكم في العدد أن المرأة إذا كانت حاملا فعدتها بوضع الحمل سواء وقعت الفرقة بينها وبين الزوج بالطلاق أو بالموت لقوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) فإن لم تكن حاملا نظر إن وقعت الفرقة بينهما بموت الزوج فعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر سواء مات الزوج قبل الدخول أو بعده وسواء كانت المرأة ممن تحيض أو لا تحيض لقول الله عز وجل (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسه أربعة أشهر وعشرا) وإن وقعت الفرقة بينهما بالطلاق في الحياة نظر أكان قبل الدخول بها فلا عدة عليها لقول الله تعالى (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) وإن كان بعد الدخول نظر إن كانت المرأة لم تحض قط أو بلغت في الكبر سن الآيسات فعدتها ثلاثة أشهر لقول الله تعالى (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) وإن كانت ممن تحيض فعدتها ثلاثة أقرؤ لقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وقوله (يتربصن بأنفسهن) لفظه خبر ومعناه أمر وعدة الأمة إن كانت حاملا بوضع الحمل كالحرة وإن كانت حائلا ففي الوفاة عدتها شهران وخمس ليال وفي الطلاق إن كانت تحيض فعدتها قرآن وإن كانت ممن لا تحيض فشهر ونصف وقيل شهران كالقرءين في حق ممن تحيض قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينكح العبد امرأتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين فإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهرا ونصفا قوله عز وجل (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) قال عكرمة يعني الحيض وهو أن يريد الرجل مراجعتها فتقول قد حضت الثلاثة وقال ابن عباس وقتادة يعني الحمل ومعنى الآية لا يحل للمرأة كتمان ما خلق الله في رحمها
204

من الحيض والحمل لتبطل حق الزوج من الرجعة والولد (إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) معناه أن هذا من فعل المؤمنات وإن كانت المؤمنة والكافرة في هذا الحكم سواء كما تقول أد حقي إن كنت مؤمنا يعني أداء الحقوق من فعل المؤمنين (وبعولتهن) يعني أزواجهن جمع بعل كالفحولة جمع فحل سمي الزوج بعلا لقيامه بأمور
زوجته وأصل البعل السيد والمالك (أحق بردهن) أولى برجعتهن إليهم (في ذلك) أي في حال العدة (إن أرادوا إصلاحا) أي إن أرادوا بالرجعة الصلاح وحسن العشرة لا الإضرار كما كانوا يفعلونه في الجاهلية كالرجل يطلق امرأته فإذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم تركها مدة ثم طلقها فإذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم بعد مدة طلقها يقصد بذلك تطويل العدة عليها (ولهن) أي للنساء على الأزواج (مثل الذين عليهن) للأزواج (بالمعروف) قال ابن عباس في معناه إني أحب أن أتزين لامرأتي كما تحب امرأتي أن تتزين لي لأن الله تعالى قال (ولهن مثل الذين عليهن بالمعروف) أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر بن طرفة الشجري أنا أبو سليمان الخطابي أخبرنا أبو بكر بن داسة أنا أبو داود السجستاني أنا موسى بن إسماعيل أنا حماد أنا أبو قزعة سويد بن حجر الباهلي عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال \ أن تطعمها إذا طعمت وأن تكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت \ أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا محمد بن الحجاج أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه قال دخلنا على جابر بن عبد الله فقلت أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرد قصة حجة الوداع إلى أن ذكر خطبته يوم عرفة قال \ فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلت ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلين قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ينكتها إلى الناس اللهم اشهد ثلاث مرات \ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن يحيى أنا يعلى بن عبيدة أنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائكم \ قوله تعالى (وللرجال عليهن درجة) قال ابن عباس بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال وقال قتادة بالجهاد وقيل بالعقل وقيل بالشهادة وقيل بالميراث وقيل بالدية وقيل بالطلاق لأن الطلاق بيد الرجال وقيل بالرجعة وقال سفيان وزيد بن أسلم بالإمارة وقال القتيبي (وللرجال عليهن درجة) معناه فضيلة في الحق (والله عزيز حكيم) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله
205

229 الصفار أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى البرني أنا حذيفة أنا سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل خرج في غزاة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثم رجع فرأى رجالا يسجد بعضهم لبعض فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها \ 229 قوله تعالى (الطلاق مرتان) روي عن عروة بن الزبير قال كان الناس في الابتداء يطلقون من غير حصر ولا عدد وكان الرجل يطلق امرأته فإذا قاربت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها كذلك ثم راجعها يقصد مضارتها فنزلت هذه الآية (الطلاق مرتان) يعني الطلاق الذي يملك الرجعة عقيبه مرتان فإذا طلق ثلاثا فلا تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر قوله تعالى (فإمساك بمعروف) قيل أراد بالإمساك الرجعة بعد الثانية والصحيح أن المراد منه الإمساك بعد الرجعة يعني إذا راجعها بعد الطلقة الثانية فعليه أن يمسكها بالمعروف والمعروف كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة (أو تسريح بإحسان) هو أن يتركها بعد الطلاق حتى تنقضي عدتها وقيل الطلقة الثالثة قوله تعالى (أو تسريح بإحسان) وصريح اللفظ الذي يقع به الطلاق من غير نية ثلاثة الطلاق والفراق والسراح وعند أبي حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق فحسب وجملة الحكم فيه أن الحر إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها يجوز له مراجعتها بغير رضاها ما دامت في العدة وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها أو طلقها قبل الدخول بها أو خالعها فلا تحل له إلا بنكاح جديد بإذنها وإذن وليها فإن طلقها ثلاثا فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وأما العبد إذا كانت تحته امرأة فطلقها طلقتين فإنها لا تحل إلا بعد نكاح زوج آخر واختلف أهل العلم فيما إذا كان أحد الزوجين رقيقا فذهب أكثرهم إلى أنه يعتبر عدد الطلاق بالزوج فالحر يملك على زوجته الأمة ثلاث طلقات والعبد لا يملك على زوجته الحرة إلا طلقتين قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الطلاق بالرجال والعدة بالنساء يعني يعتبر في عدد الطلاق في حال الرجل وفي قدر العدة حال المرأة وهو قول عثمان وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحق وذهب قوم إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطلاق فيملك العبد على زوجته الحرة ثلاث طلقات ولا يملك الحر على زوجته الأمة إلا طلقتين وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي قوله تعالى (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) أعطيتموهن شيئا من المهور وغيرها ثم استثنى الخلع فقال (إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله) نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي
206

أوفى ويقال في حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها فكان بينهما كلام فأتت أباها فشكت إليه زوجها وقالت إنه يسيء إلي ويضربني فقال ارجعي إلى زوجك فإني أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها قال فرجعت إليه الثانية وبها أثر الضرب فقال ارجعي إلى زوجك فلما رأت أن أباها لا يشكيها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه زوجها وأرته آثارا بها من ضربه وقالت يا رسول الله لا أنا ولا هو فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت بن قيس فقال مالك ولأهلك فقال والذي بعثك بالحق نبيا ما على وجه الأرض أحب إلي منها غيرك فقال لها ما تقولين فكرهن أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألها فقالت صدق يا رسول الله ولكن قد خشيت أن يهلكني فأخرجني منه وقالت يا رسول الله ما كنت لأحدثك حديثا ينزل الله عليك خلافه فهو من أكرم الناس محبة لزوجته ولكني أبغضه فلا أنا ولا هو قال ثابت يا رسول الله قد أعطيتها حديقة فقل لها تردها علي وأخلي سبيلها فقال لها تردين عليه حديقته وتملكين أمرك قالت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا زاهر بن جميل أخبرنا عبد الوهاب الثقفي أنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا
رسلو الله ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أتردين عليه حديثته \ قالت نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ اقبل الحديثة وطلقها تطليقة \ قوله تعالى (إلا أن يخافا) أي يعلما أن لا يقيما حدود الله قرأ أبو جعفر وحمزة ويعقوب (إلا أن يخافا) بضم الياء أي يعلم ذلك منهما يعني يعلم القاضي والوالي ذلك من الزوجين بدليل قوله تعالى (فإن خفتم) فجعل الخوف لغير الزوجين ولم يقل فإن خافا وقرأ الآخرون (يخافا) بفتح الياء أي يعلم الزوجان من أنفسهما أن لا يقيما حدود الله تخاف المرأة أن تعصي الله في أمر زوجها ويخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها فنهى الله الرجل أن يأخذ من امرأته شيئا مما آتاها إلا أن يكون النشوز من قبلها فقالت لا أطيع لك أمرا ولا أطالك مضجعا ونحو ذلك قال الله تعالى (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) أي فيما افتدت به المرأة نفسها منه قال الفراء أراد بقوله (عليهما) الزوج دون المرأة فذكرهما جميعا لاقترانهما كقوله تعالى (نسيا حوتهما) وإنما الناسي فتى موسى دون موسى وقيل أراد أنه لا جناح عليهما جميعا لا جناح على المرأة في النشوز إذا خشيت الهلاك والمعصية ولا فيما افتدت به وأعطت به المال لأنها ممنوعة من إتلاف المال بغير حق وعلى الزوج فيما أخذ منها من المال إذا أعطته طائعة وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الخلع جائز على أكثر مما أعطاها وقال الزهري لا يجوز بأكثر مما أعطاها من المهر وقال سعيد بن المسيب لا يأخذ منها جميع ما أعطاها بل يترك شيئا ويجوز الخلع على غير حال النشوز غير أنه يكره لما فيه من قطع الوصلة بلا سبب أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحق الثعلبي أنا أبو عبد الله بن زنجوي الدينوري أنا عبد الله بن محمد بن شيبة أنا أحمد بن جعفر المستملي أنا أبو محمد يحيى بن إسحاق بن شاكر بن
207

سورة البقرة 230 أحمد بن خباب أنا عيسى بن يونس أنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق ولا أحب إليه من العتق \ أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحق الثعلبي أخبرني ابن زنجويه أنا ابن أبي شيبة أنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة أنا أبي أنا أسامة عن حماد بن زيد عن أبي أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال \ أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة \ وقال طاوس الخلع يختص بحالة خوف النشوز لظاهر الآية والآية خرجت على وفق العادة في أن الخلع لا يكون إلا في حال خوف النشوز غالبا وإذا طلق الرجل امرأته بلفظ الطلاق على مال فقلبت وقعت البينونة وانتقص به العدد واختلف أهل العلم في الخلع فذهب أكثرهم إلى أن تطليقة بائنة ينقص بها عدد الطلاق وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي والنخعي وإليه ذهب مالك والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو أظهر قولي الشافعي وذهب قوم إلى أنه فسخ لا ينتقص به عدد الطلاق وهو قول عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وبه قال عكرمة وطاوس وإليه ذهب أحمد وإسحق واحتجوا بأن الله تعالى ذكر الطلاق مرتين ثم ذكر بعد الخلع ثم ذكر بعده الطلقة الثالثة فقال (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) ولو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا ومن قال بالقول الأول جعل الطلقة الثالثة (أو تسريح بإحسان) قوله تعالى (تلك حدود الله) أي هذه أوامر الله ونواهيه وحدود الله ما منع الشرع من المجاوزة عنه (فلا تعتدوها) فلا تجاوزوها (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) 230 قوله تعالى (فإن طلقها) يعني الطلقة الثالثة (فلا تحل له من بعد) أي من بعد الطلقة الثالثة (حتى تنكح زوجا غيره) أي غير المطلق فيجامعها والنكاح يتناول الوطء والعقد جميعا نزلت في تميمة وقيل في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرظي كانت تحت ابن عمها رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي فطلقها ثلاثا أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنه سمعها تقول جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إني كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة قالت نعم قال \ لا حتى يذوق عسيلتك
208

سورة البقرة 231 وتذوقي عسيلته \ وروي أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجي قد مسني فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم \ كذبت بقولك الأول فلن نصدقك في الآخر \ فلبثت حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر رضي الله عنه فقالت يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجع إلى زوجي الأول فإن زوجي الآخر قد مسني وطلقني فقال لها أبو بكر قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته وقال لك ما قال فلا ترجعي إليه فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه أتت عمر رضي الله عنه وقالت له مثل ذلك فقال لها عمر رضي الله عنه لا ترجعي إليه لئن رجعت إليه لأرجمنك قوله تعالى (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) يعني فإن طلقها الزوج الثاني بعدما جامعها فلا جناح عليهما يعني على المرأة وعلى الزوج الأول أن يتراجعا يعني بنكاح جديد (إن ظنا) أي علما وقيل رجوا لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلا الله عز وجل (أن يقيما حدود الله) أي يكون بينهما الصلاح وحسن الصحبة وقال مجاهد معناه إن علما أن نكاحهما على غير دلسة وأراد بالدلسة التحليل وهو مذهب سفيان الثوري والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحق قالوا إذا تزوجت المطلقة ثلاثة زوجا آخر ليحلها للزوج الأول فإن النكاح فاسد وذهب جماعة إلى أنه إذا لم يشترط في النكاح مع الثاني أنه يفارقها فالنكاح صحيح ويحصل به التحليل ولها صداق مثلها غير أنه يكره إذا كان في عزمها ذلك أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي أنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ أنا الحسن بن الفرج أخبرنا عمرو بن خالد الحراني أنا عبيد الله بن عبد الكريم هو الجوزي عن أبي واصل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال \ لعن الله المحلل والمحلل له \ وقال نافع أتى رجل ابن عمر فقال له إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فانطلق أخ له من غير مؤامرة فتزوجها ليحللها للأول فقال لا إلا نكاح رغبة كما نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لعن الله المحلل والمحلل له \ (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) يعني يعلمون ما أمرهم الله تعالى به 231 قوله تعالى (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) الآية نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى قاربت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها يقصد بذلك
مضارتها قوله تعالى (فبلغن أجلهن) أي أشرفن على أن تبين بانقضاء العدة ولم يرد حقيقة انقضاء العدة لأن العدة إذا انقضت
209

سورة البقرة 232 لم يكن للزوج إمساكها فالبلوغ ههنا بلوغ مقاربة وفي قوله تعالى بعد هذا (فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) حقيقة انقضاء العدة والبلوغ يتناول المعنيين يقال بلغت المدينة إذا قربت منها إذا دخلتها (فأمسكوهن) أي راجعوهن (بمعروف) قيل المراجعة بالمعروف أن يشهد على رجعتها وأن يراجعها بالقول لا بالوطء (أو سرحوهن بمعروف) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيكن أملك لأنفسهن (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) أي لا تقصدوا بالرجعة المضارة بتطويل الحبس (ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه) أي أضر بنفسه بمخالفة أمر الله تعالى (ولا تتخذوا آيات الله هزوا) قال الكلبي يعني قوله تعالى (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وكل من خالف أمر الشرع فهو متخذ آيات الله هزوا وقال أبو الدرداء هو أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول كنت لاعبا ويعتق ويقول مثل ذلك وينكح ويقول مثل ذلك أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري أخبرنا أحمد بن علي الكشمهيني أخبرنا علي بن حجر أخبرنا إسماعيل بن جعفر عن أبي حبيب بن أدرك هو عبد الرحمن بن حبيب وابن ماهك هو يوسف بن ماهك عن عطاء بن أبي رباح عن أبي ماهك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة \ (واذكروا نعمت الله عليكم) بالإيمان (وما أنزل عليكم من الكتاب) يعني القرآن (والحكمة) يعني السنة وقيل مواعظ القرآن (يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم) 232 (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) نزلت في جميلة بنت يسار أخت معقل بن يسار المزني كانت تحت أبي القداح بن عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أحمد بن أبي عمرو حدثني أبي حدثني أبو هاشم عن يونس عن الحسن قال حدثني معقل بن يسار قال زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها ألا والله لا تعود إليك أبدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله تعالى (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) فقلت الآن أفعل يا رسول الله قال فزوجها إياه قوله تعالى (فبلغن أجلهن) أي انقضت عدتهن (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) أي لا تمنعوهن عن النكاح والعضل المنع وأصلهه الضيق والشدة يقال عضلت المرأة إذا نشب ولدها في بطنها
210

سورة البقرة 233 فضاق عليه الخروج والداء العضال الذي لا يطاق علاجه وفي الآية دليل على أن المرأة لا تلي عقد النكاح إذ لو كانت تملك ذلك لم يكن هناك عضل ولا لنهي الولي عن العضل معنى وقيل الآية خطاب مع الأزواج لمنعهم من الإضرار لأن ابتداء الآية خطاب معهم والأول أصح (إذا تراضوا بينهم بالمعروف) بعقد حلال ومهر جائز (ذلك) أي الذي ذكر من النهي (يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر) وإنما قال ذلك موحدا والخطاب للأولياء لأن الأصل في مخاطبة الجمع ذلكم ثم كثر حتى توهموا أن الكاف من نفس الحرف وليس بكاف خطاب فقالوا ذلك فإذا قالوا هذا كانت الكاف موحدة مستوية في الاثنين والجمع والمؤنث والمذكر قيل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلذلك وحد ثم رجع إلى خطاب المؤمنين فقال (ذلكم أزكى لكم) أي خير لكم (وأطهر) لقلوبكم من الريبة وذلك أنه كان في نفس كل واحد منهما علاقة حيث لم يؤمن أن يتجاوز ذلك إلى غير ما أحل الله لهما ولم يؤمن من الأولياء أن يسبق إلى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا بريئين من ذلك فيأثمون (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) أي يعلم من حب كل واحد منهما لصاحبه مالا تعلمون أنتم 233 قوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن) أي المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن (يرضعن) خبر بمعنى الأمر وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب لأنه لا يجب عليهن الإرضاع إذا كان يوجد من يرضع الولد لقوله تعالى في سورة الطلاق (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فإن رغبت الأم في الإرضاع فهي أولى من غيرها (حولين كاملين) أي سنتين وذكر الكمال للتأكيد كقوله تعالى (تلك عشرة كاملة) وقيل إنما قال كاملين لأن العرب قد تسمي بعض الحول حولا وبعض الشهر شهرا كما قال الله تعالى (الحج أشهر معلومات) وإنما هي شهران وبعض الثالث وقال (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) وإنما يتعجل في يوم وبعض يوم ويقال أقام فلان بموضع كذا حولين وإنما أقام به حولا وبعض آخر فبين الله تعالى أنهما حولان كاملان أربعة وعشرون شهرا
211

واختلف أهل العلم في هذا الحد فمنهم من قال هو حد لبعض المولودين فروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها إذا وضعت لستة أشهر فإنها ترضعه حولين كاملين وإن وضعت لسبعة أشهر فإنها ترضعه ثلاثة وعشرين شهرا وإن وضعت لتسعة اشهر فإنها ترضعه أحدا وعشرين شهرا وإن وضعت لعشرة اشهر فإنها ترضعه عشرين شهرا كل ثلك تمام ثلاثين شهرا لقوله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وقال قوم مو لكل مولود بأي وقت ولد لا ينقص رضاعه عن حولين إلا باتفاق الأبوين فأيهما أراد الفطام قبل تمام الحولين ليس له ذلك إلا أن يجتمعا عليه لقوله تعالى (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور) وهذا قول ابن جريج والثوري ورواية الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما وقيل المراد من الآية بيان أن الرضاع الذي يثبت الحرمة ما يكون في الحولين فلا يحرم ما يكون بعد الحولين قال قتادة فرض الله على الوالدات إرضاع حولين كاملين ثم أنزل التخفيف فقال (لمن أراد أن يتم الرضاعة) أي هذا منتهى الرضاعة وليس فيها دون ذلك حد محدود وإنما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به (وعلى المولود له) يعني الأب (رزقهن) طعامهن (وكسوتهن) لباسهن (بالمعروف) أي على قدر الميسرة (لا تكلف نفس إلا وسعها) أي طاقتها (لا تضار والدة بولدها) قرأ ابن كثير وأهل البصرة برفع الراء نسقا على قوله (لا تكلف) وأصله تضار فأدغمت الراء في الراء وقرأ الآخرون (تضار) بنصب الراء وقالوا لما أدغمت الراء في الراء حركت إلى أخف الحركات وهو النصب ومعنى الآية لا تضار والدة بولدها فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه (ولا مولود له بولده) أي لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها تضاره بذلك وقيل معناه لا تضار والدة فتكره على إرضاعه إذا كرهت إرضاعه وقبل الصبي من غيرها لأن ذلك ليس بواجب عليها ولا مولود له بولده فيحتمل أن يعطي الأم أكثر مما يجب لها إذا لم يرتضع الولد من غيرها فعلى هذين القولين أصل الكلمة لا تضارر بفتح الراء الأولى على الفعل المجهول والوالدة والمولود مفعولان ويحتمل أن يكون الفعل لهما وتكون تضار بمعنى تضارر بكسر الأولى على تسمية الفاعل
والمعنى لا تضار والدة فتأبى أن ترضع ولدها ليشق على أبيه ولا مولود له أي لا يضار الأب أم الصبي فينزعه منها ويمنعها من إرضاعه وعلى هذه الأقوال يرجع الضرار إلى الوالدين يضار كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد يوجوز أن يكون الضرار راجعا إلى الصبي أي لا يضار كل واحد منهما الصبي ولا ترضعه الأم حتى يموت أو لا ينفق الأب أو ينتزعه من الأم حتى يضر بالصبي فعلى هذا تكون الباء زائدة ومعناه لا تضار والدة ولدها ولا أب ولده وكل هذه الأقاويل مروية عن المفسرين قوله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) اختلفوا في هذا الوارث فقال قوم هو وارث الصبي معناه وعلى وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله مال وزنه مثل الذي كانعلى أبيه في حال حياته ثم اختلفوا في أنه أي وارث هو من ورثته فقال بعضهم هو عصبة الصبي من الرجال مثل الجد والأخ وابن الخ والعم وابن العم وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وبه قال إبراهيم والحسن ومجاهد وعطاء وهو مذهب سفيان قالوا إذا لم يكن للصبي مال
212

سورة البقرة 234 ينفق عليه أجبرت عصبته الذين يرثونه على أن يسترضعوه وقيل هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء وهو قول قتادة وابن أبي ليلى ومذهب أحمد وإسحق وقالوا يجبر على نفقته كل وارث على قدر ميراثه عصبته كانوا أو غيرهم وقال بعضهم هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود فمن ليس بمحرم مثل ابن العم والمولى فغير مراده بالآية وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وذهب جماعة إلى أن المراد بالوارث هو الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى يكون أجرى رضاعه ونفقته في ماله فإن لم يكن له مال فعلى الأم ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان وهو قول مالك والشافعي رحمهما اللهه وقيل هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر عليه مثل ما كان على الأب من أجرة الرضاع والنفقة والكسوة وقيل ليس المراد منه النفقة بل معناه وعلى الوارث ترك المضارة وبه قال الشعبي والزهري (فإن أرادا) يعني الوالدين (فصالا) فطاما قيل الحولين (عن تراض منهما) أي اتفاق الوالدين (وتشاور) أي يشاورون أهل العلم به حتى يخبروا أن الفطام في ذلك الوقت لا يضر بالولد والمشاورة استخراج الرأي (فلا جناح عليهما) أي لا حرج عليهما في الفطام قبل الحولين (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) أي لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم إرضاعهم (ما آتيتم) ما سميتم لهن من أجرة الرضاع بقدر ما أرضعن وقيل إذا سلمتم أجور المراضع إليهن (بالمعروف) قرأ ابن كثير (ما آتيتم) وفي الروم (وما آتيتم من ربا) بقصر الألف ومعناه ما فعلتم يقال أتيت جميلا إذا فعلته فعلى هذه القراءة يكون التسليم بمعنى الطاعة والانقياد لا بمعنى تسليم الأجرة يعني إذا سلمتم لأمره وانقدتم لحكمه وقيل إذا سلمتم للاسترضاع عن تراض وإنفاق دون الضرار (واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) 234 قوله تعالى (والذين يتوفون منكم) أي يموتون ويتوفى آجالهم وتوفى واستوفى بمعنى واحد ومعنى التوفي أخذ الشيء وافيا (ويذرون أزواجا) يتركون أزواجا (يتربصن) ينتظرن (بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) أي يعتدون بترك الزينة والطيب والنقلة على فراق أزواجهن هذه المدة إلا أن يكن حوامل فعدتهن بوضع الحمل وكانت عدة الوفاة في الابتداء حولا كاملا لقوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج) ثم نسخت بأربعة أشهر وعشرا وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد كانت هذه العدة يعني أربعة أشهر وعشرا واجبة عند أهل زوجها فأنزل الله تعالى متاعا إلى الحول فجعل لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت
213

سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت وهو قول الله عز وجل (غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن) كالعدة كما هي واجبة عليها وقال عطاء قال ابن عباس رضي الله عنهما نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها وسكنت في وصيتها وإن شاء خرجت قال عطاء ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ويجب عليها الاحداد في عدة الوفاة وهي أن تمنع من الزينة والطيب فلا يجوز لها تدهين رأسها بأي دهن سواء كان فيه طيب أو لم يكن ولها تدهين جسدها بدهن لا طيب فيه فإن كان فيه طيب فلا يجوز ولا يجوز لها أن تكتحل بكحل فيه طيب أو فيه زينة كالكحل الأسود ولا بأس بالكحل الفارسي الذي لا زينة فيه فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة فقد رخص فيه كثير من أهل العلم منهم سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وعطاء النخعي وبه قال مالك وأصحاب الرأي وقال الشافعي رحمه الله تكتحل به ليلا وتمسحه بالنهار قالت أم سلمة دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على وجهي صبرا فقال \ إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار \ ولا يجوز لها الخضاب ولا لبس الوشي والديباج والحلي ويجوز لها ليس البيض من الثياب ولبس الثوب والوبر ولا تلبس الصوف المصبوغ للزينة كالأحمر والأخضر الناضر والأصفر ويجوز ما صبغ لغير زينة كالسواد الكحلي وقال سفيان لا تلبس المصبوغ بحال أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر محمد بن عمر بن حزم عن حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت زينب دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت به جارية ثم مست به بطنها ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر \ لا يحل لامرأة أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا \ وقالت زينبت ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها عبد الله فدعت بطيب فمست به ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر \ لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة اشهر وعشرا \ قالت زينب وسمعت أمي أم سلمة تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لا \ ثم قال \ إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول \ قال حميد فقلت لزينب وما ترمي بالبعرة على رأس الحول فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت خفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى يمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمارا أو شاة أو طيرا فتفض به فقلنا تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطي بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ذلك ما شاءت من طيب أو غيره وقال مالك تفتض أي تنسلخ جلدها وقال سعيد بن المسيب الحكمة في هذه
214

سورة البقرة 235 المدة أن فيها ينفخ الروح في الولد ويقال إن الولد يرتكض أي يتحرك في البطن لنصف مدة الحمل أربعة أشهر وعشرا قريبا من نصف مدة الحمل وإنما قال عشرا بلفظ المؤنث لأنه أراد الليالي لأن العرب إذا أبهمت العدد بين الليالي والأيام غلبت عليها الليالي فيقولون صمنا عشرا والصوم لا يكون إلا بالنهار وقال المبرد إنما أنث العشر لأنه أراد المدة أي عشر مدد كل مدة يوم وليلة وإذا كان المتوفى عنها زوجها حاملا فعدتها بوضع الحمل عند أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم أنها تنتظر آخر الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشرة وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى أراد بالقصرى سورة الطلاق (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) نزلت بعد قوله تعالى (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) في سورة البقرة فحمل على النسخ وعامة الفقهاء خصوا الآية بحديث سبيعة وهو ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة أن شبيعة نفست بعد وفاة زوجها بليال فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح فأذن لها فنكحت قوله تعالى (فإذا بلغن أجلهن) أي انقضت عدتهن (فلا جناح عليكم) خطاب للأولياء (فيما فعلن في أنفسهن) أي من اختيار الأزواج دون العقد إلى الولي وقيل فيما فعلن من التزين للرجال زينة لا يشكرها الشرع (بالمعروف والله بما تعملون خبير) والإحداد واجب على المرأة في عدة الوفاة أما المعتدة عن الطلاف ففيها نظر فإن كانت رجعية لا إحداد عليها في العدة لأن لها أن تضع ما يشوق قلب الزوج إليها ليراجعها وفي البائنة بالخلع والطلقات الثلاث قولان أحدهما الإحداد كالمتوفى عنا زوجها وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال أبو حنيفة والثاني لا إحداد عليها وهو قول عطاء وبه قال مالك 235 قوله تعالى (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) أي النساء المعتدات وأصل التعريض هو التلويح بالشيء والتعريض في الكلام بما يفهم به السامع مراده من غير تصريح والتعريض بالخطبة مباح في العدة وهو أن يقول رب راغب فيك من يجد مثلك إنك لجميلة
215

وإنك لصالحة وإنك علي لكريمة وإني فيك لراغب وإني من غرضي أن أتزوج بك وأن جمع الله بيني وبينك بالحلال أعجبتني ولئن تزوجتك لأحسن إليك ونحو ذلك من الكلام من غير أن يقول أنكحيني والمرأة تجيبه بمثله إن رغبت فيه وقال إبراهيم لا بأس أن يهدي إليها ويقوم بشغلها في العدة إذا كانت غير شابة روي أن سكينة بنت حنظلة بانت من زوجها فدخل عليها أبو جعفر محمد بن علي الباقر في عدتها وقال يا بنت حنظلة أنا من قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي علي وقدمي في الإسلام فقالت سكينة أتخطبني وأنا في العدة وأنت يؤخذ عنك فقال إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي في عدة زوجها أبي سلمة فذكر لها منزلته من الله عز وجل وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله على يده والتعريض بالخطبة جائز في عدة الوفاة أما المعتدة عن فرقة الحياة ينظر إن كانت ممن لا يحل لمن بانت من نكاحها كالمطلقة ثلاثا والمبانة باللعان والرضاع فإنه يجوز خطبتها تعريضا وإن كانت ممن يحل للزوج نكاحها كالمختلعة والمفسوخ نكاحها يجوز لزوجها خطبتها تعريضا وتصريحا وهل يجوز للغير تعريضا فيه قولان أحدهما يجوز كالمطلقة ثلاثا والثاني لا يجوز لأن المعاودة ثابتة لصاحب العدة كالرجعية لا يجوز للغير تعريضا بالخطبة وهو قوله تعالى (من خطبة النساء) التماس النكاح وهي مصدر خطب الرجل المرأة يخطب خطبة وقال الأخفش الخطبة الذكر والخطبة التشهد فيكون معناه فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهن (أو أكننتم) أضمرتم (في أنفسكم) من نكاحهن يقال أكننت الشيء وكننته لغتان وقال ثعلب أكننت الشيء أي أخفيته في نفسي وكننته سترته قال السدي هو أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء ولا يتكلم بشيء (علم الله أنكم ستذكرونهن) بقلوبكم (ولكن لا تواعدوهن سرا) اختلفوا في السر المنهي عنه فقال قوم هو الزنا كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزينة وهو يعرض بالنكاح ويقال لها دعيني فإذا وفيت عدتك أظهرت نكاحك هذا قول الحسن وقتادة وإبراهيم وعطاء ورواية عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال زيد بن أسلم أي لا ينكحها سرا فيمسكها فإذا حلت أظهر ذلك وقال مجاهد هو قول الرجل لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك وقال الشعبي والسدي لا يؤخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره وقال عكرمة لا ينكحها ولا يخطبها في العدة قال الشافعي السر هو الجماع وقال الكلبي أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع فيقول آتيتك الأربعة والخمسة وأشباه ذلك ويذكر السر ويراد به الجماع قال امرؤ القيس (ألا زعمت بسباسة القوم أنني كبرت وألا يحسن السر أمثالي) وإنما قيل للزنا والجماع سرا لأنه يكون في خفاء بين الرجل والمرأة قوله تعالى (إلا أن تقولوا قولا معروفا) هو ما ذكرنا من التعريض بالخطبة قوله تعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) أي لا تحققوا العزم على عقد النكاح في العدة حتى يبلغ الكتاب أجله أي حتى تنقضي
216

سورة البقرة 236 العدة وسماها الله كتابا لأنها فرض من الله كقوله تعالى (كتب عليكم) أي فرض عليكم (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) أي فخافوا الله (واعلموا أن الله غفور حليم) لا يعجل بالعقوبة 236 وقوله تعالى (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) أي ولم تمسوهن ولم تفرضوا نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت هذه الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم \ متعها ولو بقلنسوتك \ قرأ حمزة والكسائي (ما لم تماسوهن) بالألف ههنا وفي الأحزاب على المفاعلة لأن بدن كل واحد منهما يلاقي بدن صاحبه كما قال الله تعالى (من قبل أن يتماسا) وقرأ الباقون (تمسوهن) بلا ألف لأن الغشيان يكون من فعل الرجل دليله قوله تعالى (ولم يمسسني بشر) أو تفرضوا لهن فريضة أي توجبوا لهن صداقا فإن قيل فما الوجه في نفي الجناح عن المطلق قيل الطلاق قطع سبب الوصلة وجاء في الحديث \ أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق \ فنفي الجناح عنه إذا كان الفراق أروح من الإمساك وقيل معناه لا سبيل للنساء عليكم إن طلقتموهن من قبل المسيس والفرض بصداق ولا نفقة وقيل لا جناح عليكم في تطليقهن قبل المسيس في أي وقت شئتم حائضا كانت المرأة أو طاهرا لأنه لا سنة ولا بدعة في طلاقهن قبل الدخول بها بخلاف المدخول بها فإنه لا يجوز تطليقها في حال الحيض (ومتعوهن) أي أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به والمتعة والمتاع ما يتبلغ به من الزاد (على الموسع) أي على الغني (قدرة وعلى المقتر) أي الفقير (قدره) أي إمكانه وطاقته قرأ أبو جعفر وابن
عامر وحمزة والكسائي وحفص (قدره) بفتح الدال فيهما وقرأ الآخرون بسكونهما وهما لغتان وقيل القدر بسكون الدال المصدر وبالفتح الاسم (متاعا) نصب على المصدر أي متعون (متاعا بالمعروف) أي بما أمركم الله به من غير ظلم (حقا على المحسنين) وبيان حكم الآية أن من تزوج امرأة ولم يفرض لها مهرا ثم طلقها قبل المسيس يجب عليه المتعة بالاتفاق وإن طلقها بعد الفرض قبل المسيس فلا متعة لها على قول الأكثرين ولها نصف المهر المفروض واختلفوا في المطلقة بعد الدخول بها فذهبت جماعة إلى أنها لا متعة لها لأنها تستحق المهر وهو قول أصحاب الرأي وذهب جماعة إلى أنها تستحق المتعة لقوله تعالى (وللمطلقات متاع بالمعروف) وهو قول عبد الله بن عمر وبه قال عطاء ومجاهد والقاسم بن محمد وإليه ذهب الشافعي لأن استحقاقها المهر بمقابلة ما أتلف عليها من منفعة البضع فلها المتعة
217

على وحشة الفراق فعلى هذا القول لا متعة إلا لواحدة وهي المطلقة قبل الفرض والمسيس وعلى القول الثاني لكل مطلقة متعة إلا لواحدة وهي المطلقة بعد الفرض قبل المسيس قال عبد الله بن عمر لكل مطلقة متعى إلا التي فرض لها ولم يمسها زوجها فحسبها نصف المهر قال الزهري متعتان يقضي بإحداهما السلطان ولا يقضي بالأخرى بل يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى فأما التي يقضي بها السلطان فهي المطلقة قبل الفرض والمسيس وهو قوله تعالى (حقا على المحسنين) والتي تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى ولا يقضي بها السلطان فهي المطلقة بعد المسيس وهو قوله تعالى (حقا على المتقين) وذهب الحسن وسعيد بن جبير إلى أن لكل مطلقة متعة سواء كان قبل الفرض والمسيس أو بعد الفرض قبل المسيس لقوله تعالى (وللمطلقات متاع بالمعروف) ولقوله تعالى في سورة الأحزاب (فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا) وقالا معنى قوله تعالى (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة) أي أولم تفرضوا لهن فريضة وقال بعضهم المتعة غير واجبة والأمر بها أمر ندب واستحباب روي أن رجلا طلق امرأته وقد دخل بها فخاصمته إلى شريح في المتعة فقال شريح لا تأب أن تكون من المحسنين ولا تأب أن تكون من المتقين ولم يجبره على ذلك واختلفوا في قدر المتعة فروي عن ابن عباس أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار ودون ذلك وقاية أو شيء من الورق وبه قال الشعبي والزهري وهذا مذهب الشافعي قال أعلاها على الموسع خادم وأوسطها ثوب وأقلها ماله ثمن حسن ثلاثون درهما وطلق عبد الرحمن بن عوف امرأته وجمعها جارية سوداء أي متعها ومتع الحسن بن علي رضي الله عنه امرأة له بعشرة آلاف درهم فقالت متاع قليل من حبيب مفارق وقال أبو حنيفة رحمه الله مبلغها إذا اختلف الزوجان قدر نصف مهر مثلها لا يجاوز والآية تدل على أنه يعتبر حال الزوج في العسر واليسر ومن حكم الآية أن من تزوج امرأة بالغة برضاها على غير مهر يصح النكاح وللمرأة مطالبته بأن يفرض لها صداقا فإن دخل بها قبل الفرض فلها عليه مهر مثلها وإن طلقها قبل الفرض والدخول فلها المتعة وإن مات أحدهما قبل الفرض والدخول فاختلف أهل العلم في أنها لا تستحق المهر أم لا فذهب جماعة إلى أنه لا مهر لها وهو قول علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس كما لو طلقها قبل الفرض والدخول وذهب قوم إلى أن لها المهر لأن الموت كالدخول في تقرير المسمى كذلك في إيجاب مهر المثل إذا لم يكن في العقد مسمى وهو قول الثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بما روي عن علقمة عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود لها صداق نسائها ولا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بردع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت ففرح بها ابن مسعود رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله فإن ثبت حديث بردع بنت واشق فلا حجة في قول أحد دون قول النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يثبت فلا مهر لها ولها الميراث وكان علي يقول في حديث بردع لا تقبل قول أعرابي من أشجع على
218

سورة البقرة 237 237 وقوله تعالى (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) هذا في المطلقة بعد الفرض قبل المسيس فلها نصف المفروض وإن مات أحدهما قبل المسيس فلها كمال المهر المفروض والمراد بالمس المذكور في الآية الجماع واختلف أهل العلم فيما لو خلا الرجل بامرأته ثم طلقها قبل أن يدخل بها فذهب قوم إلى أنه لا يجب لها إلا نصف الصداق ولا عدة عليها لأن الله تعالى أوجب في الطلاق قبل المسيس نصف الصداق ولم يوجب العدة وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وابن مسعود وبه قال الشافعي رحمه الله وقال قوم يجب لها كمال المهر وعليها العدة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق ومثله عن زيد بن ثابت وحمل بعضهم قول عمر على وجوب تسليم الصداق إليها إذا سلمت نفسها لا على تقدير الصداق وقيل هذه الآية ناسخة للآية التي في الأحزاب (فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن) فقد كان للمطلقة قبل المسيس متاع فنسخت بهذه الآية وأوجب للمطلقة المفروض لها قبل المسيس نصف المفروض ولا متاع لها وقوله تعالى (وقد فرضتم لهن فريضة) أي سميتم لهن مهرا فنصف ما فرضتم أي لها نصف المهر المسمى (إلا أن يعفون) يعني النساء أي إلا أن تترك المرأة نصيبها فيعود جميع الصداق إلى الزوج قوله تعالى (أوي عفو الذي بيده عقد النكاح) اختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي وبه قال ابن عباس رضي اللهه عنه معناه أن لا تعفوا المرأة بترك نصيبها إلى الزوج إن كانت ثيبا من أهل العفو أو يعفو وليها فيترك نصيبها إن كانت المرأة بكرا أو غير جائزة العفو فيجوز عفو وليها وهو قول علقمة وعطاء والحسن والزهري وربيعة وذهب بعضهم الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج وهو قول علي وبه قال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والشعبي والشريحي ومجاهد وقتادة وقالوا لا يجوز لوليها ترك الشيء من الصداق بكرا كانت أو ثيبا كما لا يجوز له ذلك قبل الطلاق بالاتفاق كما لا يجوز له أن يهب شيئا من مالها وقالوا معنى الآية أن لا تعفو المرأة بترك نصيبها فيعود جميع الصداق إلى الزوج أو يعفو الزوج بترك نصيبهه فيكون لها جميع الصداق فعلى هذا التأويل وجه الآية الذي بيده عقدة النكاح نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق أو بعده (وأن تعفوا أقرب للتقوى) موضعه رفع الابتداء أي والعفو أقرب للتقوى أي إلى التقوى والخطاب للرجال والنساء جميعا لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا كانت الغلبة للمذكر معناه وعفو بعضكم
219

سورة البقرة 238 عن بعض أقرب للتقوى (ولا تنسوا الفضل بينكم) أي إفضال بعضكم على بعض بإعطاء الرجل تمام الصداق أو ترك المرأة نصيبها حثهما جميعا على الإحسان (إن الله بما تعملون بصير) 238 قوله تعالى (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) أي واظبوا وداوموا على الصلوات المكتوبات بمواقيتها وحدودها
وإتمام أركانها ثم خص من بينها الصلاة الوسطى بالمحافظة عليها دلالة على فضلها ووسطى تأنيث الأوسط ووسط الشيء خيره وأعدله واختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم في الصلاة الوسطى فقال قوم هي صلاة الفجر وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس ومعاذ وجابر وبه قال عطاء وعكرمة ومجاهد وإليه مال مالك والشافعي لأن الله تعالى قال (وقوموا لله قانتين) فالقنوت طول القيام وصلاة الصبح مخصوصة بطول القيام وبالقنوت لأن الله تعالى خصها في آية أخرى من بين الصلاة فقال الله تعالى (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) يعني تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار فهي مكتوبة في ديوان الليل وديوان النهار ولأنها بين صلاتي جمع وهي لا تقصر ولا تجمع إلى غيرها وذهب قوم إلى أنها صلاة الظهر وهو قول زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد لأنها في وسط النهار وهي أوسط صلاة النهار في الطول أخبرنا عمر بن عبد العزيز أخبرنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي أنا أبو علي اللولوي أنا أبو داود أنا محمد بن المثنى أنا محمد بن جعفر أنا شعبة حدثني عمرو بن أبي حكيم قال سمعت الزبير يحدث عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منها فنزلت (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) وذهب الأكثرون إلى أنها صلاة العصر رواه جماعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول علي وعبد الله بن مسعود وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة رضوان الله عليهم وبه قال إبراهيم النخعي وقتادة والحسن أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أنه قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فأذني (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فلما بلغتها أذنتها فأملت علي (حافظوا على الصلوات الوسطى صلاة العصر وقوموا لله قانتين) قالت عائشة رضي الله عنها سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن حفصة مثل ذلك أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أنا أبو جعفر الزياتي أنا حميد بن زنجويه أخبرنا أبو نعيم أنا سفيان عن عاصم بن أبي النجود عن ذر بن حبيش قال قلنا لعبيدة سل عليا عن الصلاة الوسطى فسأله قال كنا نرى أنها صلاة الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق \ شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا \ ولأنها بين صلاتي نهار وصلاتي ليل وقد خصها النبي صلى الله عليه وسلم
220

سورة البقرة 239 بالتغليظ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسلم بن إبراهيم أنا هشام يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي المليح قال كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال بكروا بصلاة العصر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله \ وقال قبيصة بن ذؤيب هي صلاة المغرب لأنها وسط ليس بأقلها ولا أكثرها وقال بعضهم إنها صلاة العشاء ولم ينقل عن السلف فيها شيء وإنما ذكرها بعض المتأخرين لأنها بين صلاتين لا تقصران وقال بعضهم هي إحدى الصلوات الخمس لا بعينها أبهمها اللهه تعالى تحريضا للعباد على المحافظة على أداء جميعها كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان وساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة وأخفى الاسم الأعظم في الأسماء ليحافظوا على جميعها قوله تعالى (وقوموا لله قانتين) أي مطيعين قال الشعبي وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وطاوس القنوت الطاعة قال الله تعالى (أمة قانتا لله) أي مطيعا وقال الكلبي ومقاتل لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين وقيل القنوت السكوت عما لا يجوز التكلم به في الصلاة أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا أحمد بن منيع أنا هشيم أنا إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن سقيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلة يكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه حتى نزلت (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقال مجاهد خاشعين وقال من القنوت طول الركوع وغض البصر والركود وخفض الجناح كان العلماء إذا كان أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا وقيل المراد من القنوت طول القيام أخبرنا أبو عثمان الضبي أنا أبو محمد الجراحي أنا أبو العباس المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا ابن أبي عمر أنا سفيان بن عيينة عن ابن الزبير عن جابر قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل قال \ طول القنوت \ وقيل قانتين أي داعين دليله ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا يدعو على أحياء من بني سليم على رعل وذكوان وعصية وقيل معناه مصلين لقوله تعالى (أمن هو قانت آناء الليل) أي مصل 239 قوله تعالى (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) فرجالا أي رجالة يقال راجل ورجال مثل صاحب وصحاب وقائم وقيام ونائم ونيام أو ركبانا على دوابهم وهو جمع راكب معناه إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين للصلاة حقها لخوف فصلوا مشاة على أرجلكم أو ركبانا على ظهور دوابكم وهذا في حال المقاتلة والمسايفة يصلى حيث كان وجهه راجلا أو راكبا مستقبل القبلة وغير مستقبلها
221

سورة البقرة 240 ويومئ بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع وكذلك إذا قصده سبع أو غشيه سيل يخاف منه على نفسه فعدا أمامه مصليا بالإيماء يجوز والصلاة في حال الخوف على أقسام فهذه أحد أقسام شدة صلاة الخوف وسائر الأقسام سيأتي بيانها في سورة النساء إن شاء اللهه تعالى ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعة وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وهو قول عطاء وطاوس والحسن ومجاهد وقتادة أنه يصلي في حال شدة الخوف ركعة وقال سعيد بن جبير إذا كانت في القتال وضرب الناس بعضهم بعضا فقل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر واذكر الله فإذا ذكرت الله فتلك صلاتك (فإذا أمنتم فاذكروا الله) أي فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها (كما علمكم مالم تكونوا تعلمون) 240 قوله تعالى (والذين يتوفون منكم) يا معشر الرجال (ويذرون) أي يتركون (أزواجا) أي زوجات (وصية لأزواجهم) قرأ أهل البصرة وابن عامر وحمزة وحفص (وصية) بالنصب على معنى فليوصوا وصية وقرأ الباقون بالرفع أي كتب عليكم الوصية (متاعا إلى الحول) متاعا نصب على المصدر أي متعوهن متاعا وقيل جعل الله ذلك لهن متاعا والمتاع نفقة سنة لطعامها وكسوتها وسكنها وما تحتاج إليه (غير إخراج) نصب على الحال وقيل
بنزع حرف على الصفة أي من غير إخراج نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحرث هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته فمات فأنزل الله هذه الأية فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يؤت امرأته شيئا وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زواجها حولا كاملا وكانت عدة الوفاة في ابتداء الإسلام حولا كاملا وكان يحرم على الوارث إخراجها من الميت قبل تمام الحول وكانت نفقتها وسكنها واجبة في مال زوجها تلك السنة ما لم تخرج ولم يكن لها الميراث فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها وكان على الرجل أن يوصي بها فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالربع والثمن ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشرا قوله تعالى (فإن خرجن) يعني من قبل أنفسهن قبل الحول من غير إخراج الورثة (فلا جناح عليكم) يا أولياء الميت (فيما فعلن في أنفسهن من معروف) يعني التزين للنكاح ولرفع الجناح عن الرجال وجهان أحدهما لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول والآخر لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها في بيت زوجها حولا غير واجب عليها خيرها الله تعالى بين أن تقيم حولا ولها
222

سورة البقرة 241 243 النفقة والسكنى وبين أن تخرج فلا نفقة ولا سكنى إلى أن نسخه بأربعة اشهر وعشرا (والله عزيز حكيم) 241 (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) إنما أعاد ذكر المتعة ههنا لزيادة معنى وذلك أن في غيرها بيان حكم غير الممسوسة وفي هذه الآية بيان حكم جميع المطلقات في المتعة وقيل إنه لما نزل قوله تعالى (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) إلى قوله (حقا على المحسنين) قال رجل من المسلمين إن أحسنت فعلت وإن لم أر ذلك لم أفعل فقال الله تعالى (وللمطلقات متاع) جعل المتعة لهن بلام التمليك وقال (حقا على المتقين) يعني المؤمنين المتقين الشرك 242 (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) 243 قوله تعالى (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) قال أكثر أهل التفسير كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط بها وقع الطاعون فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي بالقرية وسلم الذين خرجوا فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها وخرجوا حتى نزلوا واديا أفيح فلما نزلوا المكان الذي يبتغون في النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعا أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه \ فرجع عمر من سرغ قال الكلبي ومقاتل والضحاك إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم إن الأرض التي نأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فرارا من الموت فلما رأى الملك ذلك قال اللهم رب يعقوب وإله موسى وهارون قد
223

ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك فلما خرجوا قال لهم الله تعالى (موتوا) عقوبة لهم فماتوا وماتت دوابهم كموت رجل واحد فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم واختلفوا في مبلغ عددهم قال عطاء الخراساني كانوا ثلاثة آلاف وقال وهب أربعة آلاف مقاتل وقال الكلبي ثمانية آلاف وقال أبة رواق عشرة آلاف وقال السدي بضعة وثلاثون ألفا وقال ابن جريج أربعون ألفا وقال عطاء بن أبي رباح سبعون ألفا وأولى الأقاويل قول من قال كانوا زيادة على عشرة آلاف لأن الله تعالى قال (وهم ألوف) والألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف والألوف لا يقال لما دون عشرة آلاف قالوا فأتت على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبي يقال له حزقيل ابن يوذى ثالث خلفاء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام وذلك أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل يوشع بن نون ثم كالب بن يوقنا ثم حزقيل كان يقال له ابن العجوز لأن أمه كانت عجوز فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها قال الحسن ومقاتل هو ذو الكفر وسمي حزقيل ذا الكفل لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجبا فأوحى الله تعالى إليه تريد أن أريك آية قال نعم فأحياهم الله وقيل دعا حزقيل ربه أن يحييهم فأحياهم وقال مقاتل والكلبي هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله بعد ثمانية أيام وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال يا رب كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك فبقيت وحيدا لا قوم لي فأوحى الله تعالى إليه إني جعلت حياتهم إليك قال حزقيل أحيوا بإذن الله فعاشوا قال مجاهد إنهم قالوا حين أحيوا سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا إلا عاد دنسا مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم قال ابن عباس رضي الله عنهما وإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح قال قتادة مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثوا ليستوفوا مدة آجالهم ولو جاءت آجالهم ما بعثوا فذلك قوله تعالى (ألم تر) أي ألم تعلم بإعلامي إياك وهو من رؤية القلب وقال أهل المعاني هو تعجيب يقول هل رأيت مثلهم كما تقول ألم تر إلى ما يصنع فلان وكل ما في القرآن ألم تر ولم يعانيه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا وجهه ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم (وهم ألوف) جمع ألف وقيل مؤتلفة قلوبهم جمع ألف مثل قاعد وقعود والصحيح أن المراد منه العدد (حذر الموت) أي خوف الموت (فقال لهم الله موتوا) أمر تحويل كقوله تعالى (كونوا قردة خاسئين) (ثم أحياهم) بعد موتهم (إن الله لذو فضل على الناس) قيل هو على العموم في حق الكافة وقيل على الخصوص في حق المؤمنين (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) أما الكفار فلم يشكروا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية الشكر
224

سورة البقرة 244 (وقاتلوا في سبيل الله) أي في طاعة أعداء الله (واعلموا أن الله سميع عليم) قال أكثر أهل التفسير هذا خطاب للذين أحيوا أمروا بالقتال في سبيل الله فخرجوا من ديارهم فرارا من الجهاد فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا وقيل الخطاب لهذه الأمة أمرهم بالجهاد 245 قوله تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) القرض اسم لكل ما يعطيه الانسان ليجازى عليه فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما عد لهم من الثواب قرضا لأنهم يعملونه لطلب ثوابه قال الكسائي
القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ وأصل القرض في اللغة القطع سمي به القرض لأنه يقطع به من ماله شيئا يعطيه ليرجع إليه مثله وقيل في الآية اختصار مجازه من ذا الذي يقرض عباد الله والمحتاجين من خلقه كقوله تعالى (إن الذين يؤذون الله ورسوله) أي يؤذون عباد الله كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن الله تعالى يقول يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي وقوله عز وجل (يقرض الله) أي ينفق في طاعة الله قرضا حسنا قال الحسين بن علي الواقدي يعني محتسبا طيبة به نفسه قال ابن المبارك من مال حلال وقال لا يمن به ولا يؤذي (فيضاعفه له) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب (فيضعفه) وبابه بالتشديد ووافق أبو عمرو في سورة الأحزاب وقرأ الآخرون (فيضاعفه) بالألف مخففا وهما لغتان ودليل التشديد قوله (أضعافا كثيرة) لأن التشديد للتكثير وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب الفاء نسقا على قوله يقرض (أضعافا كثيرة) قال السدي هذا التضعيف لا يعلمه إلا الله عز وجل وقيل سبعمائة ضعف (والله يقبض ويبسط) قرأ أهل البصرة وحمزة (يبسط) هنا وفي الأعراف (بسطة) بالسين كنظائرهما وقرأهما الآخرون بالصاد وقيل يقبض بإمساك الرزق والنفس والتقتير ويبسط بالتوسيع وقيل يقبض بقبول التوبة والصدقة ويبسط بالخلف والثواب وقيل هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ومن مد له في عمره فقد بسط له وقيل هذا في القلوب لما أمرهم الله تعالى بالصدقة أخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه قال يقبض بعض القلوب فلا ينشط بالخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيرا كما جاء في الحديث \ القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها الله كيف يشاء \ الحديث (وإليه ترجعون)
225

سورة البقرة 246 أي إلى الله تعودون فيجزيكم بأعمالكم وقال قتادة الهاء راجعة إلى التراب كناية من غير مذكور أي من التراب خلقهم وإليه يعودون 246 قوله تعالى (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل) والملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وأصل الملأ الجماعة من الناس ولا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والإبل والخيل والجيش وجمعه أملاء (من بعد موسى) أي من بعد موت موسى (إذ قالوا لنبي لهم) واختلفوا في ذلك النبي فقال قتادة هو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليه السلام وقال السدي اسمه شمعون وإنما سمي شمعون لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما فاستجاب الله دعاءها فولدت غلاما فسمته شمعون تقول سمع الله تعالى دعائي والسين تصير شيئا بالعبرانية وهو شمعون بن صفية بنت علقمة من ولد لاوي بن يعقوب وقال سائر المفسرين هو اشمويل وهو بالعبرانية إسماعيل بن يال بن علقمة وقال مقاتل هو من نسل هارون وقال مجاهد هو أشمويل وهو بالعبرانية إسماعيل بن هلقايا وقال وهب وابن إسحق والكلبي وغيرهم كان سبب مسألتهم إياه ذلك أنه لما مات موسى عليه السلام خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التوراة وأمر الله تعالى حتى قبضه الله تعالى ثم خلف فيهم كالب بن يوقنا كذلك حتى قبضه الله تعالى ثم خلف حزقيل حتى قبضه الله ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد لله حتى عبدوا الأوثان فبعث الله إليهم إلياس نبيا فدعاهم إلى الله تعالى وكانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة ثم خلف من بعد إلياس اليسع فكان فيهم ما شاء الله ثم قبضه الله وخلف فيهم الخلوف وعظمت الخطايا فظهر لهم عدو يقال له البلثاثا وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيرا من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاما فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولقي بنوا إسرائيل منهم بلاء وشدة ولم يكن لهم من يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها وجعلت المرأة تدعوا الله أن يرزقها غلاما فولدت غلاما فسمته أشمويل تقول سمع الله تعالى دعائي فكبر الغلام فأسلمته ليعلم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم وتبناه فلما بلغ الغلام أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يأتمن عليه
226

سورة البقرة 247 أحدا فدعاه جبريل بلحن الشيخ يا أشمويل فقام الغلام فزعا إلى الشيخ فقال يا أبتاه دعوتني فكره الشيخ أن يقول لئلا يفزع الغلام وقال يا بني ارجع فنم فرجع الغلام فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام يا أبت دعوتني فقال ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك فيهم نبيا فلما أتاهم كذبوه وقالوا استعجلت بالنبوة ولم تنلك وقالوا له إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك لأنبيائهم فكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي يقيم له أمره ويشير عليه برشده ويأتيه بالخبر من ربه قال وهب بن منبه بعث الله تعالى أشمويل نبيا فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فقالوا لاشمويل (ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله) جزم على جواب الأمر فلما قالوا له ذلك (قال هل عسيتم) استفهام شك يقول لعلكم قرأ نافع (عسيتم) بكسر السين كل القرآن وقرأ الباقون بالفتح وهي اللغة الفصيحة بدليل قوله تعالى (عسى ربكم) (إن كتب) فرض (عليكم القتال) من ذلك الملك (أن لا تقاتلوا) أن لا تفوا بما تقولون ولا تقاتلوا معه (قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله) فإن قيل فما وجه دخول أن في هذا الموضع والعرب لا تقول مالك أن لا تفعل وإنما يقال ما لك لا تفعل قيل دخول أن وحذفها لغتان صحيحتان فالاثبات كقوله تعالى (ما لك أن لا تكون مع الساجدين) والحذف كقوله تعالى (ما لكم لا تؤمنون بالله) وقال الكسائي معناه وما لنا في أن لا نقاتل فحذف في وقال الفراء أي وما يمنعنا أن لا نقاتل في سبيل الله كقوله تعالى (ما منعك أن لا تسجد) وقال الأخفش أن ههنا زائدة معناه وما لنا لا نقاتل في سبيل الله (وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) أي أخرج من غلب عليهم من ديارهم ظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص لأن الذين قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله كانوا في ديارهم وأوطانهم وإنما أخرج من أسر منهم ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيهم إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا فأما إذا بلغ ذلك منا فنطيع ربنا في الجهاد ونمنع نساءنا وأولادنا قال الله تعالى (فلما كتب عليهم القتال تولوا) أعرضوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله (إلا قليلا منهم) وهم الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى (والله عليم بالظالمين) 247 (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) وذلك أن أشمويل سأل الله تعالى أن يبعث لهم
227

سورة البقرة 248 ملكا فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل له إن صاحبكم الذي يكون طوله طول هذه العصا وانظر هذا القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن به رأسه وملكه عليهم وكان طالوت اسمه بالعبرانية ساول بن قيس من أولاد بنيامين بن يعقوب سمي طالوت لطوله وكان أطول من كل أحد برأسه ومنكبيه وكان رجلا دباغا يعمل الأديم قاله وهب وقال السدي كان رجلا سقاء يسقي على حمار له من النيل فضل حماره فخرج في طلبه وقال وهب بل ضلت حمر لأبي طالوت فأرسله وغلاما له في طلبها فمرا ببيت أشمويل عليه السلام فقال الغلام لطالوت لو دخلنا على هذا النبي فسألناه عن أمر الحمر ليرشدنا ويدعو لنا فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له حاجتهما إذ نش الدهن الذي في القرن فقام اشمويل عليه السلام فقاس طالوت بالعصا فكانت طوله فقال لطالوت قرب رأسك فقربه فدهنه بدهن القدس ثم قال له أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملكه عليهم فقال طالوت أما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل قال بلى قال فبأي آية قال بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره فكان كذلك ثم قال لبني إسرائيل إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا (قالوا أنى يكون له الملك علينا) أي من أين يكون له الملك علينا (ونحن أحق) أولى (بالملك منه) وإنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان سبط النبوة وسبط المملكة فكان سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب ومنه كان موسى وهارون وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان ولم يكن طالوت من أحدهما إنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب وكانوا عملوا ذنبا عظيما كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق نهارا فغضب الله تعالى عليهم ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمونه سبط الإثم فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا عليه لأنه لم يكن من سبط المملكة ومع ذلك قالوا هو فقير (ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه) اختاره (عليكم وزاده بسطة) فضيلة وسعة (في العلم والجسم) وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل في وقته وقيل إنه أتاه الوحي حين أوتي الملك وقال الكلبي (وزاده بسطة) فضيلة وسعة في العلم بالحرب وفي الجسم بالطول وقيل الجسم بالجمال وكان طالوت أجمل رجل في بني إسرائيل وأعلمهم (والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) قيل الواسع ذو السعة وهو الذي يعطي عن غنى والعليم العالم وقيل العالم بما كان والعليم بما يكون فقالوا له فما آية ملكه فقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت 248 فذلك قوله تعالى (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت) وكانت قصة التابوت أن الله تعالى أنزل تابوتا على آدم فيه صورة الأنبياء عليهم السلام وكان من عود الشمشاد نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين فكان
228

عند آدم إلى أن مات ثم بعد ذلك عند شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم ثم كان عند إسماعيل لأنه كان أكبر ولده ثم عند يعقوب ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه فكان عنده إلى أن مات موسى عليه السلام ثم تداولته أنبياء بني إسرائيل إلى وقت اشمويل وكان فيه ذكر الله تعالى (فيه سكينة من ربكم) اختلفوا في السكينة ما هي قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ريح خجوج هفافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان وعن مجاهد شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرة وذنب كذنب الهرة وله جناحان وقيل له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد فكانوا إذا سمعوا صوته تيقنوا بالنصرة وكانوا إذا خرجوا وضعوا التابوت قدامهم فإذا سار ساروا وإذا وقف وقفوا وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال هي طشت من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء وعن وهب بن منبه قال هي روح من الله يتكلم إذا اختلفوا في شيء يخبرهم ببيان ما يريدون وقال عطاء بن أبي رباح هي ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها وقال قتادة والكلبي السكينة فعيلة من السكون أي طمأنينة من ربكم ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) يعني موسى وهارون نفسهما كان فيه لوحان من التوراة ورضاض الألواح التي تكسرت وكان فيه عصا موسى ونعلاه وعمامة هارون وعصاه وقفير من المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل فكان التابوت عند بني إسرائيل وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم فيستفتحون به على عدوهم فلما عصوا وأفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبهم على التابوت وكان السبب في ذلك أنه كان لعيلى العالم الذي ربى اشمويل عليه السلام ابنان شابان وكان عيلى حبرهم وصاحب قربانهم فأحدث ابناه في القربان شيئا لم يكن فيه وذلك أنه كان لعيلى منوط القربان الذي كانوا ينوطونه به كلابين فما أخرجا كان للكاهن الذي ينوطه فجعل ابناه كلاليب وكان النساء يصلين في بيت المقدس فيتشبثان بهن فأوحى الله تعالى إلى اشمويل عليه السلام انطلق إلى عيلى فقل له منعك حب الولد من أن تزجر ابنيك عن أن يحدثا في قرباني وقدسي شيئا وأن يعصياني فلأنزعن الكهانة منك ومن ولدك ولأهلكنك وإياهم فأخبر اشمويل عيلى بذلك ففزع فزعا شديدا فصار إليهم عدو ممن حولهم فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو فخرجا وأخرجا معهما التابوت فلما تهيؤا للقتال جعل عيلى يتوقع الخبر ماذا صنعوا فجاءه رجل وهو قاعد على كرسيه فقال إن الناس قد انهزموا وإن ابنيك قد قتلا قال فما فعل التابوت قال ذهب به العدو فشهق ووقع على قفاه من كرسيه ومات فخرج أمر بني إسرائيل وتفرقوا إلى أن بعث الله طالوت ملكا فسألوه البينة فقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت وكانت قصة التابوت أن الذين سبوا التابوت أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها ازدود وجعلوه في بيت صنم لهم ووضعوه تحت الصنم الأعظم فأصبحوا من الغد والصنم تحته فأخذوه ووضعوه فوقه وشمروا قدمي الصنم على التابوت فأصبحوا وقد قطعت يد الصنم ورجلاه وأصبح ملقى تحت التابوت وأصبحت أصنامهم منكسة فأخرجوه من بيت الصنم ووضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهل تلك الناحية وجع في أعناقهم حتى هلك أكثرهم فقال بعضهم لبعض
229

سورة البقرة 249 أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء فأخرجوه إلى قرية كذا فبعث الله على أهل تلك القرية فأرا فكانت الفأرة تبيت مع الرجل فيصبح ميتا قد أكلت ما في جوفه فأخرجوه إلى الصحراء فدفنوه في مخرأة لهم فكان كل من تبرز هناك أخذه الباسور والقولنج فتحيروا فقالت لهم امرأة كانت عندهم من سبى بني إسرائيل من أولاد الأنبياء لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت ثم علقوها على ثورين وضربوا جنوبهما فأقبل الثوران يسيران ووكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونها فأقبلا حتى وقفا على أرض بني إسرائيل فكسرا نيريهما وقطعا حبالهما ووضعا التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل ورجعا إلى أرضهما فلم يرع بني إسرائيل إلا بالتابوت فكبروا وحمدوا الله فذلك قوله تعالى (تحمله الملائكة) أي تسوقه وقال
ابن عباس رضي الله عنهما جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت وقال الحسن كان التابوت مع الملائكة في السماء فلما ولي طالوت الملك حملته الملائكة ووضعته بينهم وقال قتادة بل كان التابوت في التيه خلفه موسى عبد يوشع بن نون فبقي هناك فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت فأقروا بملكه (إن في ذلك لآية) لعبرة (لكم إن كنتم مؤمنين) قال ابن عباس رضي الله عنهما إن التابوت وعصى موسى في بحيرة طبرية وإنهما يخرجان قبل يوم القيامة 249 قوله تعالى (فلما فصل طالوت بالجنود) أي خرج بهم وأصل الفصل القطع يعني قطع مستقره شاخصا إلى غيره فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل وقيل ثمانون ألف لم يتخلف عنه إلا كبير لهرمه أو مريض لمرضه أو معذور لعذره وذلك أنهم لما رأوا التابوت لم يشكوا في النصر فتسارعوا إلى الجهاد فقال طالوت لا حاجة لي في كل ما رأى لا يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه ولا صاحب تجارة يشتغل بها ولا رجل عليهه دين ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ولا يتبعني إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع له ثمانون ألف من شرطه وكان في حر شديد فشكوا قلة الماء بينهم وبين عدوهم فقالوا إن المياه قليلة لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا (قال)
230

سورة البقرة 250 طالوت (إن الله مبتليكم بنهر) مختبركم ليرى طاعتكم وهو أعلم (بنهر) قال ابن عباس والسدي هو نهر فلسطين وقال قتادة نهر بين أردن وفلسطين عذب (فمن شرب منه فليس مني) أي من أهل ديني وطاعتي (ومن لم يطعمه) لم يشربه (فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده) قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو (غرفة) بفتح الغين وقرأ الآخرون بالضم وهما لغتان قال الكسائي الغرفة بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف والغرفة بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر (فشربوا منه إلا قليلا منهم) نصب على الاستثناء واختلفوا في القليل الذين لم يشربوا فقال السدي كانوا أربعة آلاف وقال غيره ثلاثمائة وبضعة عشر وهو الصحيح لما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن رجاء أنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا مؤمن وهم بضعة عشر وثلاثمائة وروي ثلاثمائة وثلاثة عشر فلما وصلوا إلى النهر وقد ألقى الله عليهم العطش فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل فمن اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وحمله ودوابه والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح وقيل كلهم جاوزوا ولكن لم يحضر القتال إلا الذين لم يشربوا (فلما جاوزه) يعني النهر (هو) يعني طالوت (والذين آمنوا معه) يعني القليل (قالوا) يعني الذين شربوا وخالفوا أمر الله وكانوا أهل شك ونفاق (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي فانحرفوا ولم يجاوزوا (قال الذين يظنون) يستيقنون (أنهم ملاقوا الله) وهم الذين ثبتوا مع طالوت (كم من فئة) جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه وجمعها فئات وفؤن في الرفع وفئين في الخفض والنصب (قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) بقضائه وقدره وإرادته (والله مع الصابرين) بالنصر والمعونة 250 (ولما برزوا) يعني طالوت وجنوده يعني المؤمنين (لجالوت وجنوده) المشركين ومعنى برزوا صاروا بالبراز من الأرض وهو ما ظهر واستوى منها (قالوا ربنا أفرغ علينا) أنزل واصبب (صبرا وثبت أقدامنا) قو قلوبنا (وانصرنا على القوم الكافرين)
231

سورة البقرة 251 (فهزموهم بإذن الله) أي بعلم الله تعالى (وقتل داود جالوت) وصفة قتله قال أهل التفسير عبر النهر مع طالوت فيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابنا له وكان داود أصغرهم وكان يرمي بالقذافة فقال لأبيه يوما يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته فقال له أبشر يا بني فإن الله جعل رزقك في قذافتك ثم أتاه مرة أخرى فقال يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبته فأخذت بأذنيه فلم يهجني فقال أبشر يا بني فإن هذا خير يريده الله بك ثم أتاه يوما آخر فقال يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فما يبقى جبل إلا سبح معي فقال أبشر يا بني فإن هذا خير أعطاكه الله تعالى فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز لي أو أبرز إلي من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فشق ذلك على طالوت فنادى في عسكره من قتل جالوت زوجته ابنتي وناصفته ملكي فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعوا الله تعالى فدعاه الله في ذلك فأتى بقرن في دهن القدس وتنور في حديد فقيل إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن حتى يدهن منه رأسه ولا يسيل على وجهه بل يكون على رأسه كهيئة الإكليل ويدخل في هذا التنور فيملؤه ولا يتقلقل فيه فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم فلم يوافقه منهم أحد فأوحى الله إلى نبيهم أن في ولد إيشا من يقتل الله به جالوت فدعا طالوت إيشا فقال أعرض علي بنيك فأخرج الله اثني عشر رجلا أمثال السواري فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا فقال لإيشا هل بقي لك ولد غيرهم فقال لا فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا رب إنه زعم أن لا ولد له غيرهم فقال كذب فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن ربي كذبك فقال صدق الله يا نبي الله إن لي ابنا صغيرا يقال له داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته فخلفته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا وكذا وكان داود درجلا قصيرا مسقاما مصفارا أزرق أمعر فدعاه طالوت ويقال بل خرج طالوت إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزريبة التي كان يريح إليها فوجده يحمل شاتين يجيز بهما السيل ولا يخوض بهما الماء فلما رآه قال هذا هو لا شك فيه هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض فقال طالوت هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي قال نعم قال وهل انست من نفسك شيئا تتقوى به على قتله قال نعم أنا أرعى الغنم فيجيء الأسد أو النمر أو الذئب فيأخذ شاة فأقوم إليه فأفتح لحييه عنها وأخرجها من قفاه فأخذ طالوت داود ورده إلى عسكره فمر داود عليه السلام في طريقه بحجر فناداه الحجر يا داود احملني فإني حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا وكذا فحمله في مخلاته ثم مر بحجر آخر فقال احملني فإني حجر موسى الذي قتل بي مالك كذا وكذا فحمله في مخلاته ثم مر بحجر آخر فقال احملني فإني حجرك الذي تقتل بي جالوت فوضعها في مخلاته فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت
232

وسأل المبارزة انتدب له داود فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا فلبس السلاح وركب الفرس وسار قريبا ثم انصرف إلى الملك فقال من حوله جبن الغلام فجاء فوقف
على الملك فقال ما شأنك فقال له داود إن الله إن لم ينصرني لم يغن عني هذا السلاح شيئا فدعني أقاتل جالوت كما أريد قال فافعل ما شئت قال نعم فأخذ داود مخلاته فتقلدها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت وكان جالوت من أشد الرجال وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد فلما نظر إلى داود ألقى الله في قلبه الرعب فقال له أنت تبرز إلي قال نعم وكان جالوت على فرس أبلق وعليه السلاح التام قال فأتيتني بالمقلاع والحجر كما تأتي الكلب قال داود عليه السلام نعم أنت شر من الكلب قال جالوت لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء فقال داود أو يقسم الله لحمك فقال داود باسم إله إبراهيم وأخرج حجرا ثم أخرج الآخر وقال باسم إله إسحق ووضعه في مقلاعه ثم أخرج الثالث وقال باسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصارت كلها حجرا واحدا ودور داود عليه السلام المقلاع ورمى به فسخر الله له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة فخلط دماغه وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلا وهزم الله تعالى الجيش وخر جالوت قتيلا فأخذ يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت ففرح المسلمون فرحا شديدا وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين والناس يذكرون داود فجاء داود طالوت وقال أنجز لي ما وعدتني فقال تريد ابنة الملك بغير صداق فقال داود ما شرطت علي صداقا وليس لي شيء فقال لا أكلفك إلا ما تطيق أنت رجل جريء وفي حيالنا أعداء لنا غلف فإذا قتلت منه مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوجتك ابنتي فأتاهم فجعل كلما قتل واحدا منهم نظم غلفته في خيط حتى نظم مائتي غلفة فجاء بها إلى طالوت وألقاها إليه وقال ادفع إلي امرأتي فزوجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه وأكثروا ذكره فحسده طالوت وأراد قتله فأخبر ذلك ابنة طالوت رجل يقال له ذو العينين فقالت ابنة طالوت لداود إنك مقتول في هذه الليلة قال ومن يقتلني قالت أبي قال فهل أجرمت جرما فقالت حدثني من لا يكذب ولا عليك أن تغيب هذه الليلة حتى تنظر مصداق ذلك قال لئن كان أراد ذلك ما أستطيع خروجا ولكن ائتيني بزق خمر فأتت به فوضعه في مضجعه على السرير وسجاه ودخل تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل فقال لها أين بعلك قالت هو نائم على السرير فضربه بالسيف ضربة فسال الخمر فلما وجد ريح الخمر قال يرحم الله داود ما كان أكثر شربه للخمر وخرج فلما أصبح علم أنه لم يفعل شيئا فقال إن رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتى يدرك مني ثأره فاشتد حجابه وحراسه وأغلق دونه أبوابه ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون فأعمى الله سبحانه الحجبة وفتح له الأبواب فدخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن شماله ثم خرج فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال يرحم الله تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكف عني ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي وما أنا بالذي آمنه فلما كانت القابلة أتاه ثانيا وأعمى الله الحجاب فدخل عليه وهو نائم فأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوضأ منه وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيا من هدب ثيابه ثم خرج
233

وهرب وتوارى فلما أصبح طالوت ورأى ذلك سلط على داود العيون وطلبه أشد الطلب فلم يقدر عليه ثم إن طالوت ركب يوما فوجد داود يمشي في البرية فقال اليوم أقتله فركض على أثره واشتد داود وكان إذا فزع لم يدرك فدخل غارا فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسج عليه بيتا فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال لو كان دخل ههنا لخرق بناء العنكبوت فتركه ومضى وانطلق داود وأتى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه فطعن العلماء والعباد على طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلا قتله وأغرى على قتل العلماء فلم يكن يقدر على عالم في بني إسرائيل يطيق قتله إلا قتله حتى أتى بامرأة تعلم اسم الله الأعظم فأمر خبازه بقتلها فرحمها الخباز وقال لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها فوقع في قلب طالوت التوبة وندم على ما فعل وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي وينادي أنشد الله عبدا يعلم أن لي توبة إلا أخبرني بها فلما أكثر عليهم ناداه مناد من القبور يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتى تؤذينا أمواتا فازداد بكاء وحزنا فرحمه الخباز فقال ما لك أيها الملك قال هل تعلم لي في الأرض عالما أسأله هل لي من توبة فقال للخباز إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك فتطير منه فقال لا تتركوا في القرية ديكا إلا ذبحتموه فلما أراد أن ينام قال لأصحابه إذا صاح الديك فأيقظونا حتى ندلج فقالوا له وهل تركت ديكا نسمع صوته ولكن هل تركت عالما في الأرض فازداد حزنا وبكاء فلما رأى الخباز ذلك قال له أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله قال لا فتوثق عليه الخباز فأخبره أن المرأة العالمة عنده قال انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة وكانت من أهل بيت يعلم الاسم الأعظم فإذا فنيت رجالهم علمت نساؤهم فلما بلغ طالوت الباب قال الخباز إنها إذا رأتك فزعت ولكن ائت خلفي ثم دخلا عليها فقال لها ألست أعظم الناس منة عليك أنجيتك من القتل وآويتك قالت بلى قال فإن لي إليك حاجة هذا طالوت يسأل هل لي من توبة فغشي عليها من الفرق فقال لها إنه لا يريد قتلك ولكن يسألك هل له من توبة قالت لا والله لا أعلم لطالوت توبة ولكن أعلم مكان قبر نبي فانطلقت بهما إلى قبر اشمويل فصلت ودعت ثم نادت يا صاحب القبر فخرج اشمويل من القبر ينفض رأسه من التراب فما نظر إليهم ثلاثتهم قال ما لكم أقامت القيامة قالت لا ولكن طالوت يسألك هل له من توبة قال اشمويل يا طالوت ما فعلت بعدي قال لم أدع من الشر شيئا إلا أتيته وجئت لطلب التوبة قال له كم لك عيال يعني كم لك من الولد قال عشرة رجال قال ما أعلم لك من توبة إلا أن تتخلى من ملكك وتخرج أنت وولدك تقاتل في سبيل الله ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم ثم رجع اشمويل إلى القبر وسقط وخر ميتا ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة أن لا يتابعه ولده وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه فدخل عليه أولاده فقال لهم أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تفدونني قالوا بلى نفديك بما قدرنا عليه قال فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول لكم قالوا فاعرض علينا فذكر لهم القصة قالوا وإنك لمقتول قال نعم قالوا فلا خير لنا في الحياة بعدك قد طابت أنفسنا بالذي سألت فتجهز بماله وولده فتقدم ولده وكانوا عشرة فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا ثم شد هو
234

بعدهم للقتال حتى قتل فجاء قاتله إلى داود ليبشره وقال قتلت عدوك فقال داود ما أنت بالذي تحيا بعده فضرب عنقه وكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة وأتى بنو إسرائيل إلى داود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم قال الكلبي والضحاك ملك داود بعد قتل طالوت سبع سنين ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود فذلك قوله تعالى (وآتاه الله الملك والحكمة) يعني النبوة جمع الله لداود بين الملك والنبوة ولم يكن كذلك من قبل كان الملك في سبط النبوة في سبط وقيل الملك
والحكمة هو العلم مع العمل قوله تعالى (وعلمه مما يشاء) قال الكلبي وغيره يعني صنعة الدروع وكان يصنعها ويبيعها وكان لا يأكل إلا من عمل يده وقيل منطق الطير وكلام الجعل والنمل والذر والخنفساء وحمار قبان وما أشبههما مما لا صوت لها وقيل هو الزبور وقيل هو الصوت الطيب والألحان فلم يعط الله أحدا من خلقه مثل صوته وكان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها وتظله الطير مصيخة له ويركد الماء الجاري ويسكن الريح وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما هو أن الله تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة ورأسها عند صومعته قوتها قوة الحديد ولونها لون النار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر مدسرة بقضبان اللؤلؤ الرطب فلا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فعلم داود ذلك الحدث ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ وكانوا لا يتحاكمون إلا إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت فمن تعدى على صاحبه وأنكر له حقا أتى السلسلة فمن كان صادقا مد يده إلى السلسلة فتناولها ومن كان كاذبا لم ينلها فكانت كذلك إلى أن ظهر بهم المكر والخديعة فبلغنا أن بعض ملوكها أودع رجلا جوهرة ثمينة فلما استردها أنكرها فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكازة فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر السلسلة فقال صاحب الجوهرة رد علي الوديعة فقال صاحبه ما أعرف لك عندي من وديعة قال فإن كنت صادقا فتناول السلسلة فتناولها بيده فقيل للمنكر قم أنت فتناولها فقال لصاحب الجوهرة خذ عكازتي هذه فاحفظها حتى أتناول السلسلة فأخذها المالك عنده ثم قام المنكر نحو السلسلة فأخذها فقال الرجل اللهم إن كنت تعلم أن هذه الوديعة التي يدعيها علي قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة فمد يده فتناولها فتعجب القوم وشكوا فيها فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة قوله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) قرأ أهل المدينة ويعقوب (دفاع الله) بالألف ههنا وفي سورة الحج قرأ الآخرون بغير الألف لأن الله تعالى لا يغالبه أحد وهو الدافع وحده ومن قرأ بالألف قال قد يكون الدفاع من واحد مثل قول العرب أحسن الله عنك الدفاع قال ابن مجاهد ولولا دفع الله الناس بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد وقال سائر المفسرين لولا دفع الله بالمؤمنين والإبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ولكن
235

سورة البقرة 252 253 الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحق الثعلبي أنا أبو عبد الله بن زنجويه أنا أبو بكر بن خرجة أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل أنا أبو حميد الحمصي أنا يحيى بن سعيد العطار أنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة عن عبد الرحمن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن الله عز وجل ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء \ ثم قرأ ابن عمر رضي الله عنهما (لو دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) 252 (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) 253 (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله) أي كلمه الله تعالى يعني موسى عليه السلام (ورفع بعضهم درجات) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم قال الشيخ الإمام وما أوتي نبي آية إلا أوتي نبينا مثل تلك الآية وفضل على غيره بآيات مثل انشقاق القمر بإشارته وحنين الجذع على مفارقته وتسليم الحجر والشجر عليه وكلام البهائم والشهادة برسالته ونبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء والأرض عن الإتيان بمثله أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي أنا أبو الحسن محمد بن أحمد المخلدي أخبرنا أبو العباس بن محمد بن إسحاق الثقفي أنا قتيبة بن سعيد أنا الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن سنان أخبرنا هشيم أناسيا أنا يزيد الفقير أنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة \
236

سورة البقرة 254 255 أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشمهيني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ فضلت على الأنبياء بست أوتيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون \ قوله تعالى (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم) أي من بعد الرسل (من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن) ثبت على إيمانه بفضل الله (ومنهم من كفر) يخذلانه (ولو شاء الله ما اقتتلوا) أعاده تأكيدا (ولكن الله يفعل ما يريد) يوفق من يشاء فضلا ويخذل من يشاء عدلا سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر فقال هو طريق مظلم فلا تسلكه فأعاد السؤال فقال بحر عميق فلا تلجه فأعاد السؤال فقال سر الله في الأرض قد خفي عليك فلا فتشه 254 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم) قال السدي أراد به الزكاة المفروضة وقال غيره أراد به صدقة التطوع والنفقة في الخير (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه) أي لا فداء فيه سمي بيعا لأن الفداء شراء نفسه (ولا خلة) ولا صداقة (ولا شفاعة) إلا بإذن الله قرأ ابن كثير وأهل البصرة كلها بالنصب وكذلك في سورة إبراهيم (لا بيع فيه ولا خلال) وفي سورة الطور (لا لغو فيها ولا تأثيم) وقرأ الآخرون كلها بالرفع والتنوين (والكافرون هم الظالمون) لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها 255 قوله عز وجل (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الزياتي أنا حميد بن زنجويه أنا ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن الجريري عن أبي السبيل عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي بن
237

كعب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يا أبا المنذر أي آية من كتاب الله أعظم \ قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم قال فضرب في صدري ثم قال
\ ليهنك العلم يا أبا المنذر ثم قال والذي نفس محمد بيده إن لهذه الآية لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني محتاج ولي عيال ولي حاجة شديدة قال فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة \ قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال \ أما إنه قد كذبك وسيعود \ فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دعني فإني محتاج ولي عيال ولا أعود فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة \ قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال \ أما إنه قد كذبك وسيعود \ فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود قال دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت ما هي قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ما فعل أسيرك البارحة \ قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال وما هي قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وقال لن يزال عليه من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص الناس على الخير فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة قلت لا قال ذاك الشيطان \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا يحيى أخبرنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر هو المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) حفظ في يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح \ قوله عز وجل (الله) رفع بالابتداء وخبره في (لا إله إلا هو الحي) الباقي الدائم على الأبد وهو من له الحياة والحياة صفة الله تعالى القيوم قرأ عمرو بن مسعود (القيام) وقرأ علقمة (القيم) وكلها لغات بمعنى واحد قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء قال الكلبي القائم على كل نفس وقيل هو القائم بالأمور وقال أبو عبيدة الذي لا يزول (لا تأخذه سنة ولا نوم له) السنة النعاس وهو النوم الخفيف والوسنان بين النائم واليقظان يقال منه وسن يسن وسنا وسنة والنوم هو الثقل المزيل للقوة والعقل قال المفضل الضبي السنة في الرأس والنوم في القلب فالسنة أول النوم وهو النعاس وقيل السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فهو غشية ثقيلة
238

تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء نفى الله تعالى عن نفسه النوم لأنه آفة وهو منزه عن الآفات ولأنه تغير ولا يجوز عليه التغير أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا علي بن حرب أخبرنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ولكنه يخفض القسط ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه \ ورواه المسعودي عن عمرو بن مرة وقال \ حجابه النار \ (له ما في السماوات وما في الأرض) ملكا وخلقا (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) بأمره (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) قال مجاهد وعطاء والسدي ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة وقال الكلبي ما بين أيديهم يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها وما خلفهم من الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم وقال ابن جريج ما بين أيديهم ما مضى أمامهم وما خلفهم ما يكون بعدهم وقال مقاتل ما بين أيديهم ما كان قبل الملائكة وما خلفهم أي ما كان بعد خلقهم وقيل ما بين أيديهم أي ما قدموه من خير وشر وما خلفهم ما هم فاعلوه (ولا يحيطون بشيء من علمه) أي من علم الله (إلا بما شاء) أن يطلعهم عليه يعني لا يحيطون بشيء من علم الغيب إلا بما شاء مما أخبر به الرسل كما قال الله تعالى (فلا يظهر على غيبة أحدا إلا من ارتضى من رسول) قوله تعالى (وسع كرسيه السماوات والأرض) أي ملأ وأحاط به واختلفوا في الكرسي فقال الحسن هو العرش نفسه وقال أبو هريرة رضي الله عنه الكرسي موضوع أمام العرش ومعنى قوله (وسع كرسيه السماوات والأرض) أي سعته مثل سعة السماوات والأرض وفي الأخبار \ إن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة \ ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس وقال علي ومقاتل كل قائمة من الكرسي طولها مثل السماوات السبع والأرضين السبع وهو بين يدي العرش ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيري خمسمائة عام ملك على صورة سيد البشر آدم عليه السلام وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور وهو يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسأل للسباع الرزق من السنة إلى السنة وملك على صورة سيد الطير وهو النسر يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة وفي بعض الأخبار أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام لولا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نورحملة العرش وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أراد بالكرسي عمله وهو قول
239

سورة البقرة 256 مجاهد ومنه قيل لصحيفة العلم كراسة وقيل كرسيه ملكه وسلطانه والعرب تسمي الملك القديم كرسيا (ولا يؤده) أي لا يثقله ولا يشق عليه يقال آدني الشيء أي أثقلني (حفظهما) أي حفظ السماوات والأرض (وهو العلي) الرفيع فوق خلقه والمتعالي عن الأشياء والأنداد قيل العلي بالملك والسلطنة (العظيم) الكبير الذي لا شيء أعظم منه 256 قوله تعالى (لا إكراه في الدين) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما كانت المرأة من النصار تكون مقلاة والمقلاة من النساء
التي لا يعيش لها ولد وكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهود فجاء الإسلام وفيهم منهم فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت هذه الآية (لا إكراه في الدين) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختارهم فأجلوهم معهم \ وقال مجاهد كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم لنذهبن معهم ولندينن بدينهم فمنعهم أهلوهم فنزلت (لا إكراه في الدين) وقال مسروق كان لرجل من الأنصار من بني سليم بن عوف ابنان متنصران قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال لا أدعكما حتى تسلما فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فأنزل الله تعالى (لا إكراه في الدين) فخلى سبيلهما وقال قتادة وعطاء نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام فلما أسلموا طوعا أو كرها أنزل اللهه تعالى (لا إكراه في الدين) فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام وقيل كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه (قد تبين الرشد من الغي) أي الإيمان من الكفر والحق من الباطل (فمن يكفر بالطاغوت) يعني بالشيطان وقيل كل ما عبد من دون الله تعالى فهو طاغوت وقيل ما يطغي الإنسان فاعول من الطغيان زيدت التاء فيه بدلا من لام الفعل كقولهم حانوت وتابوت فالتاء فيها مبدل من هاء التأنيث (ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين والوثقى تأنيث الأوثق وقيل العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى (لا انفصام لها) لا انقطاع لها (والله سميع) لدعائك إياهم إلى الإسلام (عليم) بحرصك على إيمانهم
240

سورة البقرة 256 258 257 قوله تعالى (الله ولي الذين آمنوا) ناصرهم ومعينهم وقيل محبهم وقيل متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره وقال الحسن ولي هدايتهم (يخرجهم من الظلمات إلى النور) أي من الكفر إلى الإيمان قال الواقدي كل ما في القرآن من الظلمات والنور فالمراد منه الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام (وجعل الظلمات والنور) فالمراد منه الليل والنهار سمي الكفر ظلمة لالتباس طريقه وسمي الإسلام نورا لوضوح طريقه (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) قال مقاتل يعني كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وسائر رؤوس الضلالة (يخرجونهم من النور إلى الظلمات) يدعونهم من النور إلى الظلمات والطاغوت يكون مذكرا ومؤنثا وواحدا وجمعا قال تعالى في المذكر والواحد (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) وقال في المؤنث (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) وقال في الجمع (يخرجونهم من النور إلى الظلمات) فإن قيل كيف يخرجونهم من النور إلى الظلمات وهم كفار لم يكونوا في نور قط قيل هم اليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لما يجدون في كتبهم من نعمته فلما بعث كفروا به وقيل هو على العموم في حق جميع الكفار قالوا منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج كما يقول الرجل لأبيه أخرجتني من مالك ولم يكن فيه كما قال الله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) ولم يكن قط في ملتهم (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) 258 قوله تعالى (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) معناه هل انتهى إليك يا محمد خبر الذي حاج إبراهيم أي خاصم وجادل وهو نمرود وهو أول من وضع التاج على رأسه وتجبر في الأرض وادعى الربوبية (أن آتاه الله الملك) أي لأن آتاه الله الملك فطغى أي كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه قال مجاهد ملك الأرض أربعة مؤمنان وكافران فأما المؤمنان فسليمان وذو القرنين وأما الكافران فنمرود وبختنصر واختلفوا في وقت هذه المناظرة قال مقاتل لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه بالنار فقال له من ربك الذي تدعونا إليه فقال (ربي الذي يحيي ويميت) وقال آخرون كان هذا بعد إلقائه في النار وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمرود وكان
241

سورة البقرة 259 الناس يمتارون من عنده الطعام فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله من ربك فإن قال أنت باع منه الطعام فأتاه إبراهيم فيمن أتاه فقال له نمرود من ربك قال (ربي الذي يحيي ويميت) فاشتغل بالمحاجة ولم يعطه شيئا فرجع إبراهيم فمر على كثيب من رمل أعفر فأخذ منه تطييبا لقلوب أهله إذا دخل عليهم فلما أتى أهله ووضع متاعه نام فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام رأته فصنعت له منه فقربته فقال من أين هذا قالت من الطعام الذي جئت ب فعرف أن الله رزقه فحمد الله قال الله تعالى (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت) وهذا جواب سؤال غير مذكور تقديره قال له من ربك قال إبراهيم (ربي الذي يحيي ويميت) قرأ حمزة (ربي الذي يحيي ويميت) بإسكان الياء وكذلك (حرم ربي الفواحش) و (عن آياتي الذين يتكبرون) و (قل لعبادي الذين) و (آتاني الكتاب) و (مسني بضر) و (عبادي الصالحون) و (عبادي الشكور) و (مسني الشيطان) و (إن أرادني الله) و (إن أهلكني الله) أسكن الياء فيهن حمزة ووافق ابن عامر والكسائي في (لعبادي الذين آمنوا) وابن عامر (آياتي) وفتحها الآخرون (قال) رجلا نمرود (أنا أحيي وأميت) قرأ أهل المدينة (أنا) بإثبات الألف والمد في الوصل إذا تلتها ألف مفتوحة أو مضمومة والباقون بحذف الألف ووقفوا جميعا بالألف قال أكثر المفسرين دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل القتل إماتة وترك القتل إحياء فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى ليعجزه فإن حجته كانت لازمة لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت فكان له أن يقول فأحيي من أمت إن كنت صادقا فانتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فإت بها من المغرب فبهت الذي كفر) أي تحير ودهش وانقطعت حجته فإن قيل كيف بهت وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب قيل إنما لم يقله لأنه خاف أن لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكان زيادة في فضيحته وانقطاعه والصحيح أن الله صرفه عن تلك المعارضة إظهارا للحجة عليه أو معجزة لإبراهيم علي السلام (والله لا يهدي القوم الظالمين) 259 قوله تعالى (أو كالذي مر على قرية) وهذه الآية مسوقة على الآية الأولى وتقديره ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه وهل رأيت كالذي مر على قرية وقيل تقديره هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في
242

ربه وهل رأيت كالذي مر على قرية واختلفوا في ذلك المار فقال قتادة وعكرمة والضحاك هو عزيز بن شرخيا وقال وهب بن منبه هو أرميا بن سلقيا وكان من سبط
هارون وهو الخضر وقال مجاهد هو كافر شك في البعث واختلفوا في تلك القرية فقال وهب وعكرمة وقتادة هي بيت المقدس وقال الضحاك هي الأرض المقدسة وقال الكلبي هي دير سابر أباد وقال السدي مسلم أباد وقيل دير هرقل وقيل هي الأرض التي أهلك اللهه فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وقيل هي قرية العنب وهي على فرسخين من بيت المقدس (وهي خاوية) ساقطة يقال خوي البيت بكسر الواو يخوي خوى مقصورا إذا سقط وخوى البيت بالفتح خواء ممدودا إذا خلا (على عروشها) سقوفها واحدها عرش وقيل كل بناء عرش ومعناه أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها (قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها) وكان السبب في ذلك على ما روي محمد بن إسحاق عن وهب بن منب أن الله تعالى بعث أرمياء إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل ليسدده في ملكه ويأتيه بالخير من الله عز وجل فعظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي فأوحى الله تعالى إلى أرمياء أن ذكر قومك نعمي وعرفهم أحداثهم وادعهم إلي فقال أرمياء إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني فقال الله عز وجل أنا ألهمك فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله في الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية وقال في آخرها عن الله تعالى وإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحكيم ولأسلطن عليهم جبارا فارسيا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ثم أوحى الله إلى أرمياء إني مهلك بني إسرائيل ويافث من أهل بابيل وهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام فلما سمع أرمياء ذلك صاح وبكى وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما سمع الله تضرعه وبكاءه ناداه يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك قال نعم يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به فقال الله تعالى وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك ففرح أرمياء بذلك وطابت نفسه فقال لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكا صالحا فاستبشر وفرح فقال إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة وإن عفا عنا فبرحمته ثم إنهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم فقل الوحي ودعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس فلما فصل سائرا أتى الملك الخبر فقال لأرمياء أين ما زعمت أن الله أوحي إليك فقال أرمياء إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق فلما قرب الأجل بعث الله إلى أرمياء ملكا قد تمثل له رجلا من بني إسرائيل فقال له أرمياء من أنت قال أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك استفتيك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم آت إليهم إلا حسنا ولا يزيدهم إكرامي إياهم إلا إسخاطا لي فأفتني فيهم قال أحسن فيما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه فقال له أرمياء من أنت قال أنا الرجل الذي أتيتك
243

استفتيك في شأن أهلي فقال له أرمياء أما طهرت أخلاقهم لك بعد قال يا نبي الله والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيهم أحد من الناس إلا رحمة إلا قدمتها إليهم وأفضل فقال له النبي أرمياء عليه السلام ارجع فأحسن إليهم واسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم فانصرف الملك فمكث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد ففزع منهم بنو إسرائيل فقال ملكهم لأرمياء يا نبي الله أين ما وعدك الل قال إني بربي واثق ثم أقبل الملك إلى أرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده فقعد بين يديه فقال له أرمياء من أنت فقال أنا الذي أتيتك في شأن أهلي مرتين فقال النبي ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم في فقال الملك يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله فقال النبي على أي عمل رأيتهم قال على عمل عظيم من سخط الله فغضبت لله وأتيتك لأخبرك وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق نبيا إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم فقال أرمياء يا مالك السماوات والأرض إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم فلما خرجت الكلمة من في أرمياء أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها فلما رأى ذلك أرمياء صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال يا مالك السماوات والأرض أين ميعادك الذي وعدتني به فنودي أنه لم يصيبهم ما أصابهم إلا بفتياك ودعائك فاستيقن النبي عليه السلام أنها فتياه وأن ذلك السائل كان رسول ربه فطار أرمياء حتى خالط الوحوش ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا فيقذفه في بيت المقدس ففعلوا حتى ملؤوه ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عندهم صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق فثلثا قتلهم وثلثا سباهم وثلثا أقرهم بالشام وكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها الله في بني إسرائيل بظلمهم فلما ولى عنهم بختنصر راجعا إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل أرمياء على حماره ومعه عصير عنب في ركوة وسلة تين حتى غشي إيلياء فلما وقف عليها ورأى خرابها قال (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) وقال الذي قال إن المار كان عزيرا وإن بختنصر لما خرب بيت المقدس وقدم بسبي بني إسرائيل ببابل كان فيهم عزير ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة فطاف في القرية فلم ير فيها أحدا وعامة شجرها حاصل فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) قالها تعجبا لا شكا في البعث رجعنا إلى حديث وهب قال ثم ربط أرمياء حماره بحبل جديد فألقى الله تعالى عليه النوم فلما نام وع الله منه الروح مائة عام وأمات حمار وعصيره وتين عنده فأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد وذلك ضحى ومنع الله السباع والطير
244

لحمه فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس يقال له نوشك فقال إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء حتى يعود أعمر ما كان فانتدب الملك بألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل وجعلوا يعمرونه فأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجا الله من بقي من بني إسرائيل ولم يمت ببابل أحد وردهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيه وعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى عادوا على أحسن ما كانوا عليهه فلما مضت المائة أحيا الله منه عينيه وسائر جسده ميت ثم أحيا جسده وهو ينظر إليه ثم نظر إلى حماره فإذا عطامه متفرقة بيض تلوح فسمع صوتا من السماء أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع
بعضها إلى بعض واتصل بعضها ببعض ثم نودي أن الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا فكانت كذلك ثم نودي أن الله يأمرك أن تحيا فقام بإذن الله ونهق وعمر الله أرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله تعالى (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) أي أحياه (قال كم لبثت) أي كم مكثت يقال لما أحياه الله بعث إليه ملكا فسأله كم لبثت (قال لبثت يوما) وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس فقال كم لبثت قال لبثت يوما وهو يرى أن الشمس قد غربت ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال (أو بعض يوم) بل بعض يوم (قال) له الملك (بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك) يعني التين (وشرابك) يعني العصير (لم يتسنه) أي لم يتغير فكان التين كأنه قطف في ساعته والعصير كأنه عصر في ساعته قال الكسائي كأنه لم تأت عليه السنون وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب (لم يتسن) بحذف الهاء في الوصل وكذلك (فبهداهم اقتده) وقرأ الآخرون بالهاء فيهما وصلا ووقفا فمن أسقط الهاء في الوصل جعل الهاء صلة زائدة وقال أصله يتسنى فحذف الياء بالجزم وأبدل منه هاء في الوقف وقال أبو عمرو وهو من التسنن بنونين وهو التغير كقوله تعالى (من حمأ مسنون) أي متغير فعوضت من أحد النون ياء كقوله تعالى (ثم ذهب إلى أهله يتمطى) أي يتمطط وقوله (وقد خاب من دساها) وأصله دسسها ومن أثبت الهاء في الحالية جعل الهاء أصلية لام الفعل وهذا على قول من جعل أصل السنة السنة وتصغيرها سنيهة والفعل من المسانهة وإنما قال (لم يتسنه) ولم يثنه مع أنه أخبر عن شيئين ردا للمتغير إلى أقرب اللفظين به وهو الشراب واكتفى بذكر أحد المذكورين لأنه في معنى الآخر (وانظر إلى حمارك) فنظر فإذا هو عظام بيض فركب الله تعالى العظام بعضها على بعض فكساه اللحم والجلد وأحياه وهو ينظر (ولنجعله آية للناس) قيل الواد زائدة مقحمة وقال الفراء أدخلت الواو فيه دلالة على أنها شرط لفعل بعدها معناه ولنجعلك آية عبرة ودلالة على البعث بعد الموت قاله أكثر المفسرين وقال الضحاك وغيره إنه عاد إلى قريته شابا وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية قوله تعالى (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) قرأ أهل الحجاز والبصرة (ننشرها) بالراء معناه نحييها يقال أنشر الله الميت إنشارا وأنشره نشورا قال الله تعالى (ثم إذا شاء أنشره) وقال في اللازم (وإليه النشور) وقال الآخرون بالزاي أي نرفعها
245

من الأرض ونركب بعضها على بعض وإنشاز الشيء رفعه وإزعاجه قال أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع واختلفوا في معنى الآية فقال الأكثرون أراد به عظام حماره وقال السدي إن الله تعالى أحيا عزيرا ثم قال له انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه فبعث الله تعالى ريحا فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل وقد ذهبت بها الطير والسباع فاجتمعت فركب بعضها في بعض وهو ينظر فصار حمارا من عظام ليس فيه لحم ولا دم (ثم نكسوها لحما) ثم كسى العظام لحما فصار حمارا لا روح فيه ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله وقال قوم أراد به عظام هذا الرجل ذلك أن الله تعالى لم يمت حماره بل أماته هو فأحيا الله عينيه ورأسه وسائر جسده ميت ثم قال انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائما واقفا كهيئة يوم ربطه حيا لم يطعم ولم يشرب مائة ونظر إلى الرمة في عنقه جديدة لم تتغير وتقدير لآية وانظر إلى حمارك وانظر إلى عظامك كيف ننشزها وهذا قول قتادة عن كعب والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما والسدي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما لما أحيا الله تعالى عزيرا بعدما أماته مائة سنة ركب حماره حتى أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت عرفته وعلقته فقال لها عزير يا هذه هذا منزل عزير قالت نعم هذا منزل عزير وبكيت وقالت ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة تذكر عزيرا قال فإني أنا عزير قالت سبحان الله فإن عزيرا قد فقدناه من مائة سنة لم نسمع له بذكر قال فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت فإن عزيرا كان رجلا مستجاب الدعوة ويدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية فادع الله أن يرد لي بصري حت أراك فإن كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتها وأخذ بيدها وقال قومي بإذن الله تعالى فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة فنظرت إليه فقالت أشهد أنك عزير فانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ كبير ابن مائة سنة وثمانية عشرة سنة وبو بنيه شيوخ في المجلس فناديت هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله كان أماته مائة سنة ثم بعثه فنهض الناس فأقبلوا إليه فقال ولده كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير وقال السدي والكلبي لما رجع عزير إلى قومه وقد أحرق بختنصر التوراة ولم يكن من الله عهد بين الخلق فبكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله التوراة وبعثه نبيا فقال أنا عزير فلم يصدقوه فقال إني عزير قد بعثني الله إليكم لأجدد لكم توراتكم قالوا أملها علينا فأملاها عليهم عن ظهر قلبه فقالوا ما جعل الله التوراة في صدر رجل بعدما ذهبت إلا أنه ابنه فقالوا عزير ابن الله وستأتي القصة في سورة براءة إن شاء الله تعالى (فلما تبين له) ذلك عيانا (قال أعلم) قرأ حمزة والكسائي مجزوما موصولا على الأمر على معنى قال الله تعالى له اعلم وقرأ الآخرون (أعلم) بقطع الألف ورفع الميم على الخبر عن عزير أنه قال لما رأى ذلك أعلم (أن الله على كل شيء قدير)
246

سورة البقرة 260 260 قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى) قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والضحاك وابن جريج كان سبب هذا السؤال من إبراهيم عليه السلام أنه مر على دابة ميتة قال ابن جريج كانت جيفة حمار بساحل البحر قال عطاء في بحيرة طبرية قالوا فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبر فكان إذا مد البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها فما وقع منها يصير في البحر فإذا جزر البحر ورجع جاءت السباع فأكلن منها فما سقط منها يصير ترابا فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها فما سقط منها قطعته الريح في الهواء فلما رأى ذلك إبراهيم عليه السلام تعجب منها وقال يا رب قد علمت أنك لتجمعنها من بطون السباع وحواصل الطير وأجواف دواب البحر فأرني كيف تحييها لأعاين فازداد يقينا فعاتبه الله تعالى (قال أولم تؤمن قال بلى) يا رب علمت وآمنت (ولكن ليطمئن قلبي) أي ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة أراد أن يصير له علم اليقين عين اليقين لأن الخبر ليس كالمعاينة وقيل كان سبب هذا السؤال من إبراهيم أنه لما احتج على نمرود فقال ربي الذي يحيي ويميت قال نمرود أنا أحيي وأميت فقتل أحد الرجلين وأطلق الآخر فقال إبراهيم إن الله تبارك وتعالى يقصد إلى جسد ميت فيحييه فقال له نمرود أنت عاينته فلم يقدر أن يقول نعم فانتقل إلى حجة أخرى ثم سأله ربه أن يريه إحياء الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي بقوة حجتي فإذا قيل أنت عاينته فأقول نعم
قد عاينته وقال سعيد بن جبير لما اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن لهه فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له فأتى إبراهيم ولم يكن في الدار فدخل داره وكان إبراهيم عليه السلام أغير الناس إذا خرج أغلق بابه فلما جاء وجد في داره رجلا فثار عليه ليأخذه وقال له من اذن لك أن تدخل داري فقال أذن لي رب هذه الدار فقال إبراهيم صدقت وعرف أنه ملك فقال من أنت قال أنا ملك الموت جئت أبشرك بأن الله تعالى قد اتخذك خليلا فحمد الله عز وجل قال فما علامة ذلك قال أن يجيب الله دعاءك ويحيي الله الموتى بسؤالك فحينئذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي إنك اتخذتني خليلا وتجيبني إذا دعوتك أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا محمد بن صالح أنا ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي
247

الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ورحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبث في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي \ وأخرج مسلم بن الحجاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن وهب بهذا الإسناد مثله وقال \ نحن أحق بالشك من إبراهيم (إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى) \ حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم في أن الله قادر على أن يحيي الموتى وإنما شكا في أنه هل يجيبهما إلى ما سالا وقال أبو سليمان الخطابي ليس في قوله \ نحن أحق بالشك من إبراهيم \ اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيك ولكن فيه نفي الشك عنهما بقول إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بأن لا يشك وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس وكذلك قوله \ لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي \ وفيه الإعلام أن المسئلة من إبراهيم عليه لم تعرض من جهة الشك ولكن من قبل زيادة العلم بالعيان فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة مالا يفيده الاستدلال وقيل لما نزلت هذه الآية قال قوم شك إبراهيم ولم يشك نبينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول تواضعا منه وتقديما لإبراهيم على نفسه قوله أولم تؤمن معناه قد آمنت فلم تسال شهد له بالإيمان كقول جرير (ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطول راح) يعني أنتم كذلك ولكن ليطمئن قلبي بزيادة اليقين (قال فخذ أربعة من الطير) قال مجاهد وعطاء وابن جريج أخذ طاوسا وديكا وحمامة وغرابا وحكي عن ابن عباس رضي الله عنه ونسرا بدل الحمامة وقال عطاء الخراساني أوحى إليه أن خذ بطة خضراء وغرابا أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمر (فصرهن إليك) قرأ أبو جعفر وحمزة (فصرهن إليك) بكسر الصاد أي قطعهن ومزقهن يقال صار تصير صيرا إذا قطع وأنصار الشيء انصيارا إذا انقطع قال الفراء هو مقلوب من صريت أصري صريا إذا قطعت وقرأ الآخرون (فصرهن) بضم الصاد ومعناه أملهن إليك ووجههن يقال صرت الشيء أصوره إذا أملته ورجل أصور إذا كان مائل العنق وقال عطاء معناه اجمعهن واضممهن إليك يقال صار يصور صورا إذا اجتمع ومنه قيل لجماعة النحل صور من فسره بالإمالة والضم قال فيه إضمار معناه فصرهن إليك ثم قطعهن فحذفه اكتفاء بقوله ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا لأنه يدل عليه وقال أبو عبيدة فصرهن معناه قطعهن أيضا والصور القطع قوله تعالى (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) قرأ عاصم برواية أبي بكر (جزءا) مثقلا مهموزا والآخرون بالتخفيف والهمزة وقرأ أبو جعفر مشددا الزاي بلا همز وأراد بعض الجبال قال المفسرون أمر الله إبراهيم أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها ويقطعها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها بعضها ببعض ففعل ثم أمره أن يجعل أجزاءها على الجبال واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال فقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة أمر أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء ويجعلها على أربعة أجبل على كل جبل ربعا من كل طائر وقيل جبل على جانب الشرق وجبل على جانب الغرب وجبل على الشمال وجبل
248

سورة البقرة 261 262 على الجنوب وقال ابن جريج والسدي جزأها سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبل وأمسك رؤوسهن ثم دعاهن فقال تعالين بإذن الله فجعلت كل قطرة من دم طائر تطير إلى القطرة الأخرى وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى وكل عظم يصير إلى العظم الآخر وكل بضعة تصير إلى الأخرى وإبراهيم ينظر حتى لقيت كل جثة بعضها بعضا في الهواء بغير رأس ثم أقبلن إلى رؤوسهن سعيا فكلما جاء طائر مال برأسه فإن كان رأسه دنا منه وإن لم يكن تأخر حتى التقى كل طائر برأسه فذلك قوله تعالى (ثم أدعهن يأتينك سعيا) قيل المراد بالسعي الإسراع والعدو وقيل المراد به المشي دون الطير كما قال الله تعالى (فاسعوا إلى ذكر الله) أي فامضوا والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبعد من الشبهة لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطير وإن أرجلها غير سليمة والله أعلم وقيل السعي بمعنى الطيران (واعلم أن الله عزيز حكيم) 261 قوله تعالى (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) فيه إضمار تقديره مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم (كمثل) زارع (حبة) وأراد بسبيل الله الجهاد وقيل جميع أبواب الخير (أنبتت) أخرجت (سبع سنابل) جمع سنبلة (في كل سنبلة مائة حبة) فإن قيل فما رأينا سنبلة فيها مائة حبة فكيف ضرب المثل به قيل ذلك متصور غير مستحيل وما لا يكون مستحيلا جاز ضرب المثل به وإن لم يوجد معناه في كل سنبلة مائة حبة فما حدث من البذر الذي كان فيها كان مضاعفا إليها وكذلك تأوله الضحاك فقال كل سنبلة أنبتت مائة حبة (والله يضاعف لمن يشاء) قيل معناه هذه المضاعفة لمن يشاء وقيل معناه يضاعف على هذا ويزيد لمن يشاء ما بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف مما لا يعلمه إلا الله (والله واسع) غني يعطي عن سعة (عليم) بنية من ينفق ماله 262 قوله تعالى (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) قال الكلبي نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كان عندي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم وأربعة آلاف أقرضتها ربي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم \ بارك الله فيما أمسكت لك وفيما أعطيت \ وأما عثمان
249

سورة البقرة 263 264 فجهز جيش المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقابها وأحلاسها فنزلت فيهما هذه الآية وقال عبد الرحمن بن سمرة جاء عثمان رضي الله عنه
بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها يده ويقلبها ويقول \ ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم \ فأنزل الله تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الل في طاعة الله (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا) وهو أن يمن علي بعطائه فيقول أعطيتك كذا ويعد نعمه عليه فيكدرها علي (ولا أذى) هو أن يعيره فيقول إلى كم تسأل وكم تؤذيني وقيل من الأذى وهو أن يذكر انفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه وقال سفيان منا ولا أذى هو أن يقول قد أعطيتك فما شكرت قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه فحظر الله على عباده المن بالصنيعة واختص به صفة لنفسه لأنه من العباد تعيير وتكدير ومن الله إفضال وتذكير (لهم أجرهم) أي ثوابهم (عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) 263 (قول معروف) أي كلام حسن ورد على السائل جميل وقيل عدة حسنة وقال الكلبي دعاء صالح يدعو لأخيه بظهر الغيب وقال الضحاك نزلت في إصلاح ذات البين (ومغفرة) أي تستر علي خلته ولا تهتك عليه ستره وقال الكلبي والضحاك بتجاوز عن ظالمه وقيل يتجاوز عن الفقير إذا استطال عليه عند رده (خير من صدقة) يدفعها إلي (يتبعها أذى) أي من وتعيير للسائل أو قول يؤذيه (والله غني) أي مستغن عن صدقة العباد (حليم) لا يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بالصدقة 264 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم) أي أجور صدقاتكم (بالمن) على السائل وقال ابن عباس رضي الله عنهما بالمن على الله تعالى (والأذى) لصاحبها ثم ضرب لذلك مثلا فقال (كالذي ينفق ماله) أي كإبطال الذي ينفق ماله (رئاء الناس) أي مراآة وسمعة ليروا نفقته ويقولوا إنه كريم سخي (ولا يؤمن بالله واليوم الخر) يريد أن الرياء يبطل الصدقة ولا تكون النفقة مع الرياء من فعل المؤمنين وهذا للمنافقين لأن الكافر معلن بكفره غير
250

مرائي (فمثله) أي مثل هذا المرائي (كمثل صفوان) وهو الحجر الأملس وهو واحد وجمع فمن جعله جمعا فواحده صفوانة ومن جعله واحدا فجمعه صفي (عليه) أي على الصفوان (تراب فأصابه وابل) وهو المطر الشديد العظيم القطر (فتركه صلدا) أي أملس والصلد الحجر الصلب الأملس الذي لا شيء عليه فهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن الذي يمن بصدقته ويؤذي ويري الناس في الظاهر أن لهؤلاء أعمالا كما يري التراب على هذا الصفوان فإذا كان يوم القيامة بطل كله واضمحل لأنه لم يكن لله كما أذهب الوابل ما على الصفوان من التراب فتركه صلدا (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) أي على ثواب شيء مما كسبوا وعملوا في الدنيا (والله لا يهدي القوم الكافرين) أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري أخبرنا أحمد بن علي الكشمهيني أخبرنا علي بن حجر أخبرنا إسماعيل بن جعفر أخبرنا عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر \ قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال \ الرياء يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء \ أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد الحارثي أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمد بن محمود أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أخبرنا عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح أخبرني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان المدائني أن عقبة بن مسلم حدثه أن أبا سفيان الأصبحي حدثه أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال من هذا قالوا أبو هريرة فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت له أنشدك اللهه بحقي لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعونه رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي فقال بلى يا رب فماذا عملت قال كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله تعالى بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد قال بلى يا رب قال فما عملت فيما آتيتك قال كنت أصل الرحم وأتصدق فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله ل فيماذا قتلت فيقول يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول الله تعالى بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة \
251

سورة البقرة 265 266 265 قوله تعالى (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله) أي طلب رضا الله تعالى (وتثبيتا من أنفسهم) قال قتادة احتسابا وقال الشعبي والكلبي تصديقا من أنفسهم أي يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله ويعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا وقيل على يقين باخلاف الله عليهم وقال عطاء ومجاهد يثبتون أي يضعون أموالهم قال الحسن كان الرجل إذا هم بصدقة يثبت فإن كان لله أمضى وإن كان يخالطه شك أمسك وعلى هذا القول يكون التثبيت بمعنى التثبت كقوله تعالى (وتبتل إليه تبتيلا) أي تبتلا (كمثل جنة) أي بستان قال المبرد والفراء إذا كان في البستان نخل فهو جنة وإن كان فيه كرم فهو فردوس (بربوة) قرأ ابن عامر وعاصم (بربوة) و (إلى ربوة) في سورة المؤمنين بفتح الراء وقرأ الآخرون بضمها وهي المكان المرتفع المستوي الذي تجري فيه الأنهار فلا يعلوه الماء ولا يعلو عن الماء وإنما جعلها بربوة لأن النبات عليها أحسن وأزكى (أصابها وابل) مطر شديد كثير (فآتت أكلها) ثمرها قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف وقرأ الباقون بالتثقيل وزاد نافع وابن كثير تخفيف (أكله) و (الأكل) وخفف أبو عمرو (رسلنا ورسلكم ورسلهم وسبلنا) (ضعفين) أي أضعفت في الحمل قال عطاء حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين وقال عكرمة حملت في السنة مرتين (فإن لم يصبها وابل فطل) أي فطش وهو المطر الضعيف الخفيف ويكون دائما قال السدي هو الندى وهذا مثل ضربهه الله تعالى لعمل المؤمن المخلص فيقول كما أن هذه الجنة تربع في كل حال ولا تخلف سواء قل المطر أو كثر كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت وذلك أن الطل إذا كان يدوم يعمل عمل الوابل الشديد (والله بما تعملون بصير) 266 (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار) هذه الآية متصلة بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى أيود) يعني
أيحب أحدكم أن تكون له جنة أي بستان من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار (له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء) أولاد صغار ضعاف عجزة (فأصابها إعصار) وهو الريح العاصف التي ترتفع
252

سورة البقرة 267 إلى السماء كأنها عمود وجمعه أعاصير (فيه نار فاحترقت) هذا مثل ضربه الله لعمل المنافق والمرائي يقول عمله في حسنه كحسن الجنة ينتفع به كما ينتفع صاحب الجنة بالجنة فإذا كبر أو ضعف وصار له أولاد ضعاف وأصاب جنته إعصار فيه نار فاحترقت فصار أحوج ما يكون إليها وضعف عن إصلاحها الكبر وضعف أولاده عن إصلاحها لصغرهم ولم يجد هو ما يعود به على أولاده ولا أولاده ما يعودون به عليه فبقوا جميعا متحيرين عجزة لا حيلة بأيديهم كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق والمرائي حين لا مغيث لهما ولا توبة ولا إقالة قال عبيد بن عمير قال عمر رضي الله عنه يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ترون هذه الآية نزلت (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب) قالوا الله أعلم فغضب عمر رضي الله عنه فقال قولوا نعلم أولا نعلم فقال ابن عباس رضي الله عنهما في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر رضي الله عنه ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس رضي الله عنهما ضربت مثلا لعمل فقال عمر رضي الله عنه أي عمل فقال ابن عباس رضي الله عنهما لعمل منافق ومراء قال عمر رضي الله عنه لأي رجل قال لرجل غني يعمل بطاعة الله بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعمالهه (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) 267 (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات) من خيار قال ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد من حلالات (ما كسبتم) بالتجارة والصناعة وفيه دلالة على إباحة الكسب وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا يعلى بن عبيد أخبرنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا عبد الله بن صالح أخبرنا أبو معاوية بن صالح عن بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب أنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال \ ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وكان داود لا يأكل إلا من عمل يده \ أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد الكشمهيني أخبرنا نجاح بن يزيد المحاربي بالكوفة أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم أخبرنا يحيى بن عبيد أخبرنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد بن مرة الهمذاني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لا يكتسب عبد مالا حراما فيتصدق منه فيقبل الله منه ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيئ
253

بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث \ والزكاة واجبة في مال التجارة عند أكثر أهل العلم فبعد الحول يقوم العروض فيخرج من قيمتها ربع العشر إذا كان قيمتها عشرون دينارا أو مائتي درهم قاله سمرة بن جندب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع وعن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عنقي أدمة أحملها فقال عمر ألا تؤدي زكاتك يا حماس فقلت ما لي غير هذا وأهب في القرظ فقال ذاك مال فضع فوضعتها فحسبها فأخذ منها الزكاة قوله تعالى (ومما أخرجنا لكم من الأرض) قيل هذا أمر بإخراج العشور من الثمار والحبوب واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقيا بماء السماء أو من هر يجري الماء إليه من غير مؤنة وإن كان مسقيا بساقية أو بنضح ففيه نصف العشر أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن زيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم \ فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا والعشر وفيما سيق بالنضح نصف العشر \ أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عثمان بن أسيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم \ يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا كما يؤدي زكاة النخل ثمرا \ واختلف أهل العلم فيما سوى النخل والكروم وفيما سوى ما يقتات به من الحبوب فذهب قوم إلى أنه لا عشر في شيء منها وهو قول ابن أبي ليلى والشافعي رضي الله عنه وقال الزهري والأوزاعي ومالك رضي الله عنهم يجب في الزيتون وقال أبو حنيفة جميع البقول والخضراوات كالثمار
254

إلا الحشيش والحطب وكل ثمرة أوجبنا فيها الزكاة فإنما يجب ببدو الصلاح ووقت الإخراج بعد الاجتناء والجفاف وكل حب أو جبن فيه العشر فوقت وجوبه اشتداد الحب ووقت الإخراج بعد الدياسة والتنقية ولا يجب العشر في شيء منها حتى تبلغ خمسة أوسق عند أكثر أهل العلم وعند أبي حنيفة رحمه الله يحب في كل قليل وكثير منها واحتج من شرط النصاب بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمسة ذود من الإبل صدقة \ وروى يحيى بن عبادة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق \ وقال قوم الآية في صدقات التطوع أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا يحيى أخبرنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ما من مؤمن يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له صدقة \ قوله تعالى (ولا تيمموا) قرأ ابن عامر برواية البزي بتشديد التاء في الوصل فيها وفي أخواتها وهي إحدى وثلاثون موضعا في القرآن لأنه في الأصل تاءان أسقطت إحداهما فرد هو الساقطة وأدغم وقرأ الآخرون بالتخفيف ومعناه لا تقصدوه (الخبيث منه تنفقون) روي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازي قال كانت الأنصار تخرج إذا كان جذاذ النخل أقناء من التمر والبسر فيعلقونه على حبل بين
الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل منه فقراء المهاجرين فكان الرجل منهم يعلم فيدخل قنو الحشف وهو يظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء فنزل فيمن فعل ذلك ولا تيمموا الخبيث أي الحشف والرديء وقال الحسن ومجاهد والضحاك كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورزالة أموالهم ويعملون الجيد ناحية لأنفسهم فأنزل الله تعالى (ولا تيمموا الخبيث) الرديء منه تنفقون (ولستم بآخذيه) يعني الخبيث (إلا أن تغمضوا فيه) الإغماض غض البصر وأراد ههنا التجويز والمساهلة معناه لو كان لأحدكم على رجل حق فجاءه بهذا لم يأخذه إلا وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقه وتركه قال الحسن وقتادة لو وجدتموه يباع في السوق ما أخذتموه بسعر الجيد وروي عن البراء قال لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلا على استحياء
255

سورة البقرة 268 269 من صاحبه وغيظ فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم هذا إذا كان المال كله جيدا فليس له إعطاء الرديء لأن أهل السهمان شركاؤه فيما عنده فإن كان كل ماله رديئا فلا بأس بإعطاء الرديء (واعلموا أن الله غني) عن صدقاتكم (حميد) محمود في أفعاله 268 (الشيطان يعدكم الفقر) أي يخوفكم بالفقر ويقال وعدته خيرا ووعدته شرا قال الله تعالى في الخير (وعدكم الله مغانم كثيرة) وقال في الشر (النار وعدها الله الذين كفروا) فإذا لم يذكر الخير والشر قلت في الخير وعدته وفي الشر أوعدته والفقر سوء الحال وقلة ذات اليد وأصله من كسر الفقار ومعنى الآية أن الشيطان يخوفكم بالفقر ويقول للرجل أمسك عليك مالك فإنك إذا تصدقت به افتقرت (ويأمركم بالفحشاء) أي بالبخل ومنع الزكاة وقال الكلبي كل الفحشاء في القرآن فهو الزنا إلا هذا (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) أي لذنوبكم (والله واسع) غني (عليم) أخبرنا حسان بن سعيد المنبعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا محمد بن الحسين القطان أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن هشام عن همام بن منبه قال حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن الله تعالى يقول ابن آدم أنفق أنفق عليك \ وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه قال وعرشه على الماء وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن سعيد أخبرنا عبد الله بن نمير أخبرنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها \ أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك \ 269 قوله تعالى (يؤتي الحكمة من يشاء) قال السدي هي النبوة وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة علم القرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثال وقال الضحاك القرآن والفهم فيه وقال في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام لا يسع المؤمنين تركهن حتى يتعلموهن ولا يكونوا كأهل نهروان تأولوا آيات من القرآن في أهل القبلة
256

سورة البقرة 270 271 وإنما أنزلت في أهل الكتاب جهلوا علمها فسفكوا بها الدماء وانتهبوا الأموال وشهدوا علينا بالضلالة فعليكم بعلم القرآن فإنه من علم فيم أنزل لم يختلف في شيء منه وقال مجاهد هي القرآن والعلم والفقه وروى ابن أبي نجيح عنه الإصابة في القول والفعل وقال إبراهيم النخعي معرفة معاني الأشياء وفهمها (ومن يؤت الحكمة) (من) في محل الرفع على ما لم يسم فاعل و (الحكمة) خبره وقرأ يعقوب يؤتي الحكمة بكسر التاء أي من يؤته الله الحكمة دليل قراءة الأعمش (ومن يؤته الله) حكي عن الحسن (ومن يؤت الحكمة) قال الورع في دين الله (فقد أوتي خيرا كثيرا) قال الحسن من أعطي القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبي إلا أنه لم يوح إليه (وما يذكر) يتعظ (إلا أولوا الألباب) ذوو العقول 270 قوله تعالى (وما أنفقتم من نفقة) فيما فرض الله عليكم (أو نذرتم من نذر) أي ما أوجبتموه أنتم على أنفسكم في طاعة الله فوفيتم ب (فإن الله يعلمه) يحفظه حتى يجازيكم به وإنما قال (يعلمه) ولم يقل يعلمها لأنه رده إلى الآخر منها كقوله تعالى (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) وإن شئت حملته على (ما) كقوله (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) ولم يقل بها (وما للظالمين) الواضعين الصدقة في غير موضعها بالرياء ويتصدقون من الحرام (من أنصار) من أعوان أن يدفعون عذاب الله عنهم وهي جمع نصير مثل شريف وأشراف 271 قوله تعالى (إن تبدوا الصدقات) أي تظهروها (فنعما هي) أي نعمت الخصلة هي و (ما) في محل الرفع) وهي في محل النصب كما تقول نعم الرجل رجلا فإذا عرفت رفعت فقلت نعم الرجل زيد وأصله نعم ما وصلت قرأ أهل المدينة غير ورش وأبو عمر وأبو بكر (فنعما) بكسر النون وسكون العين وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين وقرأ ابن كثير ونافع برواية ورش ويعقوب وحفص بكسرهما وكلها لغات صحيحة وكذلك في سورة النساء و (إن تخفوها) تسروها (وتؤتوها الفقراء) أي تؤتوها الفقراء في السر (فهو خير لكم) وأفضل وكل مقبول إذا كانت النية صادقة ولكن صدقة السر أفضل وفي الحديث \ صدقة السر تطفئ غضب
257

سورة البقرة 272 الرب \ أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد الخدري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله تعالى ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه \ وقيل الآية في صدقة التطوع أما الزكاة المفروضة فالإظهار فيها أفضل حتى يقتدي به الناس كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل والنافلة في البيت أفضل وقيل الآية في الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أما في زماننا فالإظهار أفضل حتى لا يساء به الظن قوله تعالى (ويكفر عنكم من سيئاتكم) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالنون ورفع الراء أي ونحن نكفر وقرأ ابن عامر وحفص بالياء ورفع الراء أي ويكفر الله وقرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي بالنون والجزم نسقا على الفاء التي في قوله (فهو خير لكم) لأن موضعها جزم الجزاء وقوله (ومن سيئاتكم) قيل (من) صلة تقديره نكفر عنكم سيئاتكم) وقيل هو للتحقيق والتبعيض يعني نكفر الصغائر من الذنوب (والله بما تعملون خبير) 272 (ليس عليك هداهم) قال الكلبي سبب نزول هذه الآية أن ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار في اليهود وكانوا ينفقون
عليهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم وأرادوهم على أن يسلموا وقال سعيد بن جبير كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزل قوله (ليس عليك هداهم) فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها (ولكن الله يهدي من يشاء) وأراد به هداية التوفيق أما هدي البيان والدعوة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطوهم بعد نزول الآية (وما تنفقوا من خير) أي مال (فلأنفسكم) أي تنفقونه لأنفسكم (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) لفظة جحد ومعناه نهي أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله (وما تنفقوا من خير) شرط كالأول ولذلك حذف النون منهما (يوف إليكم) أي يوفر لكم جزاؤه ومعناه
258

سورة البقرة 273 يؤدي إليكم ولذلك دخل فيه إلى (وأنتم لا تظلمون) لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا وهذا في صدقة التطوع أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة فأما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين وهم أهل السهمان المذكورون في سورة التوبة 273 قوله تعالى (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) اختلفوا في موضع هذه اللام قيل هي مردودة على موضع اللام من قوله (فلأنفسكم) كأنه قال وما تنفقوا من خير فللفقراء وإنما تنفقون لأنفسكم وقيل معناها الصدقات التي سبق ذكرها وقيل خبر محذوف تقديره للفقراء الذين صفتهم كذا حق واجب وهم للفقراء المهاجرين كانوا نحوا من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر وكانوا في المسجد يتعلمون القرآن ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أصحاب الصفة فحث الله تعالى عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى (الذين أحصروا في سبيل الله) فيه أقاويل قال قتادة هم هؤلاء حسبوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله (لا يستطيعون ضربا في الأرض) لا يتفرغون للتجارة وطلب المعاش وهم أهل الصفة الذين ذكرناهم وقيل حبسوا أنفسهم على طاعة الله وقيل معناه حبهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله وقيل هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله فصاروا زمنى أحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل الله للجهاد وقيل معناه من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض كلها حربا لهم فلا يستطيعون ضربا في الأرض من كثرة أعدائهم (يحسبهم) قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة (يحسبهم) وبابه بفتح السين وقرأ الآخرون بالكسر (الجاهل) بحالهم (أغنياء من التعفف) أي من تعففهم عن السؤال وقناعتهم يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء والتعفف التفعل من العفة وهي الترك يقال عف عن الشيء إذا كف عنه وتعفف إذا تكلف في الإمساك (تعرفهم بسيماهم) السيماء والسيمياء والسمة العلامة التي يعرف بها الشيء واختلفوا في معناها ههنا فقال مجاهد هي التخشع والتواضع وقال السدي أثر الجهد من الحاجة والفقر وقال الضحاك صفرة ألوانهم من الجوع والضر وقيل رثاثة ثيابهم (لا يسألون الناس الحافا) قال عطاء إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء وقيل معناه لا يسألون الناس إلحافا أصلا لأنه قال (من التعفف) والتعفف ترك السؤال ولأنه قال تعرفهم بسيماهم ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت إلى معرفتهم بالعلامة حاجة فمعنى الآية ليس لهم سؤال فيقع فيه إلحاف والإلحاف الإلحاح واللجاج أخبرنا الأستاذ
259

سورة البقرة 274 الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا محمد بن يعقوب أخبرنا محمد بن عبد الله بن الحكم أخبرنا أنس بن عياض عن عشام بن عروة عن أبيه عن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه \ أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان \ قالوا فمن المسكين يا رسول الله قال \ الذي لا يجد غنى فيغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس \ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال \ من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا \ أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الظاهري أخبرنا جدي سهل بن عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار أخبرنا محمد بن زكريا بن غدافر أخبرنا إسحق بن إبراهيم بن عباد الديري أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر بن هارون بن زياد عن كنانة العدوي عن قبيصة بن مخارق قال إني تحملت بحمالة في قومي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني تحملت بحمالة قومي وأتيتك لتعينني فيها قال \ بل نتحملها عنك يا قبيصة ونؤديها إليهم من الصدقة \ ثم قال \ يا قبيصة إن المسئلة قد حرمت إلا في إحدى ثلاث رجل أصابته حاجة فاجتاحت ماله فيسأل حتى يصيب قواما من عيشه ثم يمسك ورجل أصابته حاجة حتى يشهد له ثلاثة نفر من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة أن المسألة قد حلت له فيسأل حتى يصيب القوام من العيش ثم يمسك ورجل تحمل بحمالة فيسأل حتى إذا بلغ أمسك وما كان غير ذلك فإنه سحت يأكله صاحبه سحتا \ أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي أخبرنا قتيبة أخبرنا شريك عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح \ قيل يا رسول الله وما يغنيه قال \ خمسون درهما أو قيمتها ذهبا \ قوله تعالى (وما تنفقوا من خير) من مال (فإن الله به عليم) وعليه مجازي 274 (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية) روي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله
260

سورة البقرة 275 عنهم قال لما نزلت (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جوف الليل بوسف من تمر فأنزل اللهه تعالى فيهما (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار) الآية عني بالنهار علانية صدقة عبد الرحمن بن عوف وبالليل سر صدقة علي رضي الله عنه وقال أبو أمامة وأبو الدرداء ومكحول والأوزاعي نزلت في الذين يرتبطون الخيل للجهاد فإنها تعتلف ليلا ونهارا وسرا وعلانية أخبرنا عبد
الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا علي بن جعفر أخبرنا ابن المبارك أخبرنا طلحة بن أبي سعيد قال سمعت سعيد المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم \ من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة \ وقوله تعالى (فلهم أجرهم عند ربهم) قال الأخفش جعل جواب الخبر بالفاء لأن الذين بمعنى (من) وجوابها بالفاء في الخبر أو معنى الآية من أنفق كذا فله أجره عند ربه (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) 275 قوله تعالى (الذين يأكلون الربا) أي الذين يعاملون به وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال (لا يقومون) يعني يوم القيامة من قبورهم (إلا كما يقوم الذي يتخبطه) أي يصرعه (الشيطان) أصل الخبط الضرب والوطء وهو ضرب على غير استواء يقال ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائهما (من المس) أي الجنون يقال مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنون ومعناه أن آكل الربا يبعث يوم القيامة كمثل المصروع أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحق الثعلبي أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف أخبرنا عبد الله بن يحيى أخبرنا يعقوب بن سفيان أخبرنا إسماعيل بن سالم أخبرنا عباد بن عباد عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال \ فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا قال فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجرة لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون
261

فيردوهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة قال وآل فرعون يقولون اللهم لا تقم الساعة أبدا قال يوم القيامة يقال ادخلوا آل فرعون أشد العذاب قلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) قوله تعالى (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه فيقول الغريم لصاحب الحق زدني في الأجل حتى أزيدك في المال فيفعلان ذلك ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى وقال (وأحل الله البيع وحرم الربا) واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى (وما آتيتم من الربا ليربو في أموال الناس) أي ليكثر فلا يربو عند الله فطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل آخر عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورث ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد ولكن بيعوا الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر والتمر يدا بيد كيف شئتم نقص أحدهما الملح أو التمر أو زاد أحدهما ومن زاد أو استزاد فقد أربى \ وروى هذا الحديث مطرف عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عتيك عن عبادة فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على ستة أشياء وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف ثم اختلفوا في تلك الأوصاف فذهب قوم إلى أن المعنى في جميعها واحد وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم ثبت في الدراهم والدنانير بوصف النقدية وهو قول مالك والشافعي وقال قوم ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل وهو قول أصحاب الرأي وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوما كان أو غير مطعوم كالجص والنورة ونحوهما وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون وهو قول سعيد بن المسيب وقاله الشافعي رحمه الله في القديم وقال في الجديد يثبت فيها الربا بوصف الطعم وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة كانت أو موزونة لما روي عن معمر بن عبد الله قال كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ الطعام بالطعام مثلا بمثل \ فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمارا أو مطعوما والربا نوعان الفضل وربا النساء فإذا باع مال الربا بجنسه مثلا بمثل بأن باع أحد النقدين
262

سورة البقرة 276 بجنسه أو باع مطعوما بجنسه كالحنطة بالحنطة ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع فإن كان موزونا كالدراهم والدنانير فيشترط المساواة في الوزن وإن كان مكيلا كالحنطة والشعير بيع بجنسه فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظرا إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل إن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيه كما لو باعه بغير مال الربا وإن باعه بما يوافقه في الوصف مثل إن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوما بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلا أو جزافا وثبت فيه ربا النسأ حتى يشترط التقابض في المجلس وقول النبي صلى الله عليه وسلم \ لا تبيعوا الذهب بالذهب \ إلى أن قال \ إلا سواء بسواء \ فيه إيجاب المماثلة وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس وقوله \ عينا بعين \ فيه تحريم النسأ وقوله \ يدا بيد كيف شئتم \ فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقايض في المجلس هذا في ربا المبايعة ومن أقرض شيئا بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا قوله تعالى (فمن جاءه موعظة من ربه) تذكير وتخويف وإنما ذكر الفعل ردا إلى الوعظ (فانتهى) عن أكل الربا (6 فله ما سلف) أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له (وأمره إلى الله) بعد النهي إن شاء عصمه حيث يثبت على الانتهاء وإن شاء خذله حتى يعود وقيل أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء (ومن عاد) بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلا له (فأولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر أخبرنا شعبة عن عوف بن أبي جحيفة عن أبيه أنه قال \ إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا ومؤكله والواشمة والمستوشمة والمصور \ أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني أخبرنا الغافر بن محمد الفارسي أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أخبرنا مسلم بن الحجاج أخبرنا زاهر بن حرب أخبرنا هشيم أخبرنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال \ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء \ أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحق الثعلبي أنا أبو محمد المخلدي أنا أبو حامد بن الشرقي أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي أخبرنا النضر بن محمد أخبرنا عكرمة بن عمار أخبرنا يحيى هو ابن كثير قال حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ الربا سبعون بابا أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمه \ 276 قوله تعالى (يمحق الله الربا) أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما يمحق الله الربا يعني لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجة ولا صلة (ويربي
263

سورة البقرة 277 278 الصدقات) أي يثمرها ويبارك فيها في الدنيا ويضاعف بها الأجر والثواب في العقبى (والله لا يحب كل كفار) بتحريم الربا (أثيم) فاجر بأكله 277 (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) قال عطاء وعكرمة نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا قد أسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر إن أنتما أخذتما حقكما لا يبقى لي ما يكفي عيالي فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما ففعلا فلما حل الأجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما فأنزل الله تعالى هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهم وقال السدي نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس من ثقيف فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يوم عرفة \ ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتله هزيل وربا الجاهلية كلها وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنها كلها موضوعة \ وقال مقاتل نزلت في أربعة أخوة من ثقيف مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم وكانوا يرابون فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف أسلم هؤلاء الأخوة فطلبوا رباهم من بني المغيرة فقال بنو المغيرة والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة فكتب عتاب بن أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقصة الفريقين وكان ذلك مالا عظيما فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) 279 (فإن لم تفعلوا) أي إذا لم تذروا ما بقي من الربا (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) قرأ حمزة
264

سورة البقرة 279 280 وعامص برواية أبي بكر (فآذنوا) بالمد على وزن آمنوا أي فأعلموا غيركم أنكم حرب لله ورسوله وأصله من الأذن أي وقعوا في الأذان وقرأ الآخرون (فأذنوا) مقصورا بفتح الذال أي فاعلموا أنتم وأيقنموا بحرب من الله ورسولهه وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب قال أهل المعاني حرب الله النار وحرب رسول الله السيف (وإن تبتم) أي تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون) بطلب الزيادة (ولا تظلمون) بالنقصان عن رأس المال فلما نزلت الآية قال بنو عمرو الثقفي ومن كان يعامل بالربا من غيرهم بل نتوب إلى الله فإنه لا يدان لنا بحرب الله ورسوله فرضوا برأس المال فشكا بنو المغيرة العسرة وقالوا أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله تعالى 280 (وإن كان ذو عسرة) يعني وإن كان الذي عليه الدين معسرا رفع الكلام باسم كان ولم يأت لها بخير وذلك جائز في النكرة تقول إن كان رجلا صالحا فأكرمه وقيل كان بمعنى وقع وحينئذ لا يحتاج إلى خبر قرأ أبو جعفر عسرة بضم السين (فنظرة) أمر في صيغة الخبر تقديره فعليه نظرة (إلى ميسرة) قرأ نافع (ميسرة) بضم السين وقرأ الآخرون بفتحها وقرأ مجاهد (ميسرة) بضم السين مضافا ومعناه اليسار والسعة (وأن تصدقوا) أي تتركوا رؤوس أموالكم إلى المعسر (خير لكم إن كنتم تعلمون) قرأ عاصم تصدقوا بتخفيف الصاد والآخرون بتشديدها أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو الطيب سخل بن محمد بن سليمان أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد الله الميكالي أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى بن عيدان الحافظ أخبرنا أبو طاهر أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب عن جرير بن حازم عن أيوب عن يحيى بن كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه كان يطلب رجلا بحق فاختبى منه فقال ما حملك على ذلك قال العسرة فاستحلفه على ذلك فحلف فدعا بصكه فأعطاه إياه وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ من أنظر معسرا ووضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن منصور عن ربعي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم \ إن الملائكة لتعلقت بروح رجل كان قبلكم فقالوا له هل علمت خيرا قط قال لا قالوا تذكر قال لا إلا أني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجاوزوا عن المعسر قال الله تبارك وتعالى تجاوزوا عنه أخبرنا عبد الواحد بن المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويهه أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا أحمد بن عبد الله
265

سورة البقرة 281 أخبرنا زائدة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن أبي اليسر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول \ من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله \ فصل فصل في الدين وحسن قضائه وتشديد أمره أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا أحمد بن يوسف أخبرنا
محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو الوليد أخبرنا شعبة أخبرنا سلمة بن كهيل قال سمعت أبا سلمة بمنى يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له فهم به أصحابه فقال \ دعوه فإن لصاحب الحق مقالا واشتروا له بعيرا فأعطوه آياه \ قالوا لا نجد إلا أفضل من سنه قال \ اشتروه فأعطوه إياه فإن خياركم أحسنكم قضاء \ أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ مطل الغني ظلم فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع \ أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا إبراهيم بن سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ نفس المؤم معلقة بدينه حتى يقضى عنه \ أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري عن أبيه أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر يكفر الله عن خطاياي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فلما أدبر ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فنودي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ كيف قلت \ فأعاد عليه قوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ نعم إلا الدين كذلك قال جبريل \ 281 قوله تعالى (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) قرأ أهل البصرة بفتح التاء أي تصيرون إلى الله وقرأ الآخرون بضم التاء وفتح الجيم أي تردون إلى الله تعالى (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) قال ابن عباس رضي الله عنهما هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل عليه السلام ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا وعشرين يوما وقال ابن جريج تسع ليال وقال سعيد بن جبير سبع ليال ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول حين زاغت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة قال الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما آخر آية ننزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى
266

سورة البقرة 282 أجل مسمى) قال ابن عباس رضي الله عنهما لما حرم الله الربا أباح السلم وقال أشهد أن السلم المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله تعالى في كتابه وأذن فيه ثم قرأ 282 (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) (فاكتبوه) قوله (إذا تداينتم) أي تعاملتم بالدين يقال داينته إذا عاملته بالدين وإنما قال بدين بعد قوله (إذا تداينتم) لأن المداينة قد تكون مجازاة وقد تكون معاطاة فقيده بالدين ليعرف المراد من اللفظ وقيل ذكره تأكيدا (إلى أجل مسمى) الأجلمدة معلومة الأول والآخر والأجل يلزم في الثمن والمبيع في السلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محله وفي القرض لا يلزم الأجل عند أكثر أهل العلم (فاكتبوه) أي اكتبوا الذي تداينتم به بيعا كان أو سلما أو قرضا واختلفوا في هذه الكتابة فقال بعضهم هي واجبة والأكثرون على أنه أمر استجاب فإن ترك فلا بأس كقوله تعالى (فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض) وقال بعضهم كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضا ثم نسخ الكل بقوله (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته) وهو قول الشعبي ثم بين كيفية الكتابة فقال جل ذكره (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) أي ليكتب كتاب الدين بين الطالب والمطلوب كاتب بالعدل أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخير (ولا يأب) أي لا يمتنع (كاتب أن يكتب) واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشهادة فذهب قوم إلى وجوبها
267

إذا طولب وهو قول مجاهد وقال الحسن يجب إذا لم يكن كاتب غيره وقال قوم هو على الندب والاستحباب وقال الضحاك كانت غريمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) (كما علمه الله) أي كما شرعه الله وأمره (فليكتب وليملل الذي عليه الحق) يعني المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واجد جاء بهما القرآن فالإملال هنا والإملاء قوله تعالى (فهي تملي عليه بكرة وأصيلا) (وليتق الله ربه) يعني المملي (ولا يبخس منه شيئا) أي ولا ينقص منه أي من الحق الذي عليه شيئا (فإن كان الذي عليه الحق سفيها) أي جاهلا بالإملاء قاله مجاهد وقال الضحاك والسدي طفلا صغيرا وقال الشافعي السفيه المبذر المفسد لماله أو في دينه قوله (أو ضعيفا) أي شيخا كبيرا وقيل هو ضعيف العقل لعته أو جنون (أو لا يستطيع أن يمل هو) لخرس أو عمى أو عجمة أو حبس أو غيبة لا يمكنه حصول الكتابة أو جهل بماله وعليه (فليملل وليه) أي قيمه (بالعدل) أي بالصدق والحق وقال ابن عباس رضي الل عنه ومقاتل أراد بالولي صاحب الحق يعني إن عجز من عليه الحق من الإملال فيملل ولي الحق وصاحب الدين بالعدل لأنه أعلم بالحق (واستشهدوا) أي وأشهدوا (شهيدين) أي شاهدين (من رجالكم) يعني الأحرار المسلمين دون العبيد والصبيان وهو قول أكثر أهل العلم وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد (فإن لم يكونا رجلين) أي لم يكن الشاهدان رجلين (فرجل وامرأتان) أي فليشهد رجل وامرأتان وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى يثبت برجل وامرأتين واختلفوا في غير الأموال فذهب جماعة إلى أنه يجوز شهادتهن مع الرجال في غير العقوبات وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن ما يطلع عليه النساء غالبا كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها يثبت بشهادة رجل وامرأتين وبشهادة أربع نسوة واتفقوا على أن شهادة النساء جائزة في العقوبات قوله تعالى (ممن ترضون من الشهداء) يعني من كان مرضيا في ديانته وأمانته وشرائط قبول الشهادة سبعة الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة فشهادة الكافر مردودة لأن المعروفين بالكذب عند الناس لا تجوز شهادتهم فالذي يكذب على الله تعالى أولى أن يكون مردود الشهادة وجوز أصحاب الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ولا تقبل شهادة العبيد وأجازها شريح وابن سيرين وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه ولا قول للمجنون حتى يكون له شهادة ولا يجوز شهادة الصبيان سئل ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك فقال لا يجوز لأن الله تعالى يقول (من ترضون من الشهداء) والعدالة شرط وهي أن يكون الشاهد مجتنبا للكبائر غير مصر على الصغائر والمروءة شرط وهي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء وهي حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة فإن كان الرجل يظهر من نفسه شيئا مما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته وانتفاء التهمة شرط حتى لا
تقبل شهادة العدو على العدو وإن كان
268

مقبول الشهادة على غيره لأنه متهم في حق عدوه ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وإن كان مقبول الشهادة عليهما ولا يقبل شهادة من يجر إلى نفسه بشهادته نفعا كالوارث يشهد على رجل يقتل مورثه أو يدفع عن نفسه بشهادته ضررا كالمشهود عليه يشهد بجرح من شهد عليه لتمكن التهمة في شهادته أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين المروزي أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج القطان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أخبرنا علي بن عبد العزيز الملكي أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام أخبرنا مروان الفزاري عن شيخ من أهل الحيرة يقال له يزيد بن زياد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ترفعه \ لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع مع أهل البيت \ قوله تعالى (أن تضل إحداهما) قرأ حمزة (أن تضل) بكسر الألف (فتذكر) برفع الراء ومعناه الجزاء والابتداء وموضع (تضل) جزم بالجزاء إلا أنه لا نسق بالتضعيف (فتذكر) رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ وقراءة العامة بفتح الألف ونصب الراء على الاتصال بالكلام الأول و (تضل) محله نصب بأن (فتذكر) منسوق عليه ومعنى الآية فرجل وامرأتان كي تذكر (إحداهما الأخرى) ومعنى تضل أي تنسى يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها فتذكرها الأخرى فتقول ألسنا حضرنا مجلس كذا وسمعنا كذا قرأ ابن كثير وأهل البصرة (فتذكر) مخففا وقرأ الباقون مشددا (وذكر) و (اذكر) بمعنى واحد وهما متعديان من الذكر الذي هو ضد النسيان وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال هو من الذكر أي تجعل إحداهما الأخرى ذكر أي تصير شهادتهما كشهادة ذكر والأصل أصح لأنه معطوف على النسيان قوله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) قيل أراد به إذا ما دعوا لتحمل الشهادة سماهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء وهو أمر إيجاب عند بعضهم وقال قوم تجب الإجابة إذا لم يكن غيرهم فإن وجد غيرهم فهم مخيرون وهو قول الحسن وقال قوم هو أمر ندب وهو مخير في جميع الأحوال وقال بعضهم هذا في إقامة الشهادة وأدائها فمعنى الآية ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لأداء الشهادة التي تحملوها وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وقال الشعبي الشاهد بالخيار مالم يشهد وقال الحسن الآية في الأمر جميعا في التحمل والإقامة إذا كان فازعا (ولا تسأموا) أي ولا تملوا (أن تكتبوه) الهاء راجعة إلى الحق (صغيرا) كان الحق (أو كبيرا) قليلا كان أو كثيرا (إلى أجله) إلى محل الحق (ذلكم) أي الكتاب (أقسط) أعدل (عند الله) لأنه أمر به واتباع أمره أعدل من تركه (وأقوم للشهادة) لأن الكتابة تذكر الشهود (وأدنى) وأحرى وأقرب إلى (ألا ترتابوا) تشكوا في الشهادة (إلا أن تكون تجارة حاضرة) قرأها عاصم بالنصب على خبر كان واضمر الاسم مجازا إلا أن تكون التجارة تجارة أو المبايعة تجارة وقرأهما الباقون بالرفع وله وجهان أحدهما أن يجعل (الكون) بمعنى الوقوع معناه إلا أن تقع تجارة والثاني أن يجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل وهو قوله (تديرونها بينكم) تقديره إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم ومعنى الآية إلا أن تكون تجارة حاضرة يدا بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل (فليس عليكم جناح أن
269

سورة البقرة 283 لا تكتبوها) يعني التجارة (وأشهدوا إذا تبايعتم) قال الضحاك هو عزم من الله تعالى والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره ونقده ونسئه وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه الأمر فيه إلى الأمانة كقوله تعالى (فإن أمن بعضكم بعضا) الآية وقال الآخرون هو أمر ندب قوله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) هذا نهي للغائب وأصله يضارر فأدغمت إحدى الرائين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لالتقاء الساكنين واختلفوا فيه فمنهم من قال أصله يضارر بكسر الراء الأولى وجعل الفعل للكاتب والشهيد معناه لا يضارر الكاتب فيأبى أن يكتب ولا الشهيد فيأبى أن يشهد ولا يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه ولا الشهيد فيشهد بما لم يستشهد عليه وهذا قول طاوس والحسن وقتادة وقال قوم أصله يضار بفتح الراء على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب أو الشاهد وهما على شغل مهم فيقولان نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا فيقول الداعي إن الل أمركما أن تجيبا ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما فنهى عن ذلك وأمر بطلب غيرهما (وإن تفعلوا) ما نهيتكم عنه من الضرار (فإنه فسوق بكم) أي معصية وخروج عن الأمر (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) 283 (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (فرهان) بضم الهاء والراء وقرأ الباقون (فرهان) وهو جمع رهن مثل بغل وبغال وجبل وجبال والرهن جمع الرهان جمع الجمع قاله الفراء والكسائي وقال أبو عبيدة وغيره هو جمع الرهن أيضا مثل سقف وسقف وقال أبو عمرو وإنما قرأنا (فرهن) ليكون فرقا بينهما وبين رهان الخيل وقال عكرمة رهن بضم الراء وسكون الهاء والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتب وكتب ورسل ورسل ومعنى الآية وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا الآن فارتهنوا ممن تداينونه رهونا لتكون وثيقة بأموالكم واتفقوا على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض وقوله فرهن مقبوضة أي ارتهنوا واقبضوا حتى لو رهن ولم يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم فغذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقيا ويجوز في الحضر الرهن مع وجود الكاتب وقال مجاهد لا يجوز الرهن إلا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية وعند الآخرين خرج الكلام في الآية على الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي ولم يكن ذلك في الفر ولا عند عدم كاتب (فإن أمن بعضكم بعضا) وفي حرف أبي (فإن ائتمن) يعني فإن كان
270

سورة البقرة 284 الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لحسن ظنه به (فليؤد الذي ائتمن أمانته) أي فليقضه على الأمانة (وليتق الله ربه) في أداء الحق ثم رجع إلى خطاب الشهود فقال (ولا تكتموا الشهادة) إذا دعيتم إلى إقامتها نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه فقال (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) أي فاجر قلبه قيل ما وعد على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة قال (فإنه آثم قلبه) وأراد به مسخ القلب نعوذ بالله من ذلك (والله بما تعملون) من بيان الشهادة وكتمانها (عليم) 284 (لله ما في السماوات وما في الأرض) ملكا وأهلها له عبيد وهو مالكهم (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) اختلف العلماء في هذه الآية فقال قوم هي خاصة ثم اختلفوا في وجه خصوصها فقال بعضهم هي متصلة بالآية الأولى نزلت في كتمان الشهادة معناه وإن
تبدوا ما في أنفسكم أيها الشهود من كتمان الشهادة أو تخفوا الكتمان يحاسبكم به الله وهو قول الشعبي وعكرمة وقال بعضهم نزلت فيمن يتولى الكافرين من دون المؤمنين يعني وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفار أو تسروه يحاسبكم به الله وهو قول مقاتل كما ذكر في سورة آل عمران (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) إلى أن قال (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) وذهب الأكثرون إلى أن الآية عامة ثم اختلفوا فيها فقال قوم هي منسوخة بالآية التي بعدها والدليل عليه ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني أخبرنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحاج حدثني محمد بن المنهال الضرير وأمية بن بسطام العيشي اللفظ له قال أخبرنا يزيد بن زريع أنا روح وهو ابن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم (لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) الآية قال اشتد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلفنا من الأعمال ما نطيف الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما قرأها القوم وذلك بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال نعم (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما
271

حملته على الذين من قبلنا) أقل نعم (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) قال نعم (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) قال نعم \ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه وقال في كل ذلك قد فعلت بدل قوله تعم وهذا قول ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وابن عمر وإليه ذهب محمد بن سيرين ومحمد بن كعب وقتادة الكلبي أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا يعقوب بن يوسف القزويني أخبرنا أبو القاسم بن الحكم المغربي أخبرنا مسعد بن كدام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به \ وقال بعضهم الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد على الأخبار إنما يرد على الأمر والنهي وقوله (يحاسبكم به الله) خبر لا يرد عليه النسخ ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم قد أثبت الله تعالى للقلب كسبا فقال (بما كسبت قلوبكم) فليس لله عبد أسر عملا أو أعلنه من حركة من جوارحه أو همة في قلبه إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه ثم يغفر ما يشاء ويعذب بما يشاء وهذا معنى قول الحسن يدل عليه قوله تعالى (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) وقال الآخرون معنى الآية إن الله عز وجل يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه ويعاقبهم علي غير أن معاقبته على ما أخفوه مما لم يعلموه بما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال \ يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيروع لها حتى إن المؤمن يخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا عبد الله بن الصالح حدثني الليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال \ إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عليه بذنب حتى يوافيه به يوم القيامة \ وقال بعضهم وإن تبدوا ما في أنفسكم يعني ما في قلوبكم مما عزمتم عليه أو تخفوه يحاسبكم به الله ولا تبدوه وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به الله فأما ما حدثت به أنفسكم مما لم تعزموا فإن ذلك مما لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يؤاخذكم به دليله قوله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) قال عبد الله بن المبارك قلت لسفيان أيؤاخذ الله العبد بالهمة قال إذا كان عزما أخذ بها وقيل معنى المحاسبة الإخبار والتعريف ومعنى الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه مما أضمرتم ونويتم يحاسبكم به الله ويخبركم به ويعرفكم إياه ثم يغفر للمؤمنين إظهارا لفضله ويعذب الكافرين إظهارا لعدله وهذا معنى قول الضحاك ويروى ذلك عن ابن عباس
272

285 رضي الله عنهما يدل عليه أنه قال يحاسبكم به الله ولم يقل يؤاخذكم به والمحاسبة غير المؤاخذة والدليل عليه ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب أنا عيسى بن أحمد العسقلاني أنا يزيد بن هارون أنا همام بن يحيى عن قتادة عن صفوان بن محرز قال كنت آخذا بيد عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فأتاه رجل فقال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه يستره من الناس فيقول أي عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا فيقول نعم أي رب ثم يقول أي عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم ثم يعطي كتاب حسناته وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة على الظالمين \ قوله تعالى (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) رفع الراء والباء أبو جعفر وابن عامر وعاصم ويعقوب وجزمهما الآخرون فالرفع على الابتداء والجزم على النسق روى طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير لا يسأل عما يفعل وهم يسألون والله على كل شيء قدير 285 قوله تعالى (آمن الرسول) أي صدق (بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله) يعني كل واحد منهم ولذلك وحد الفعل (وملائكته وكتبه ورسله) قرأ حمزة والكسائي (وكتابه) على الواحد يعني القرآن وقيل معناه الجمع وإن ذكر بلفظ التوحيد كقوله تعالى (فبعث) الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب وقرأ الآخرون (وكتبه) بالجمع كقوله تعالى (وملائكته وكتبه ورسله) (لا نفرق بين أحد من رسله) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى وفيه إضمار تقديره يقولون لا نفرق وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء فيكون خبرا عن الرسول أو معناه لا يفرق
الكل وإنما قال (بين أحد) ولم يقل بين آحاد لأن الأحد يكون للواحد والجمع قال الله تعالى (فما منكم من أحد عنه حاجزين) (وقالوا سمعنا) قولك (وأطعنا) أمرك روي عن حكيم عن جابر رضي الله عنهما أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية إن الله قد أثنى عليك وعلى أمتك فسل تعطه فسأل بتلقين الله تعالى فقال (غفرانك) وهو نصب على المصدر أي اغفر غفرانك أو على المفعول به أي نسألك غفرانك (ربنا وإليك المصير)
273

سورة البقرة 286 286 (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ظاهر الآية قضاء لحاجته وفيها إضمار السؤال كأنه قال وقالوا لا تكلفنا إلا وسعنا وأجاب أي لا يكلف الله نفسا إلا وسعها أي طاقتها والوسع اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه واختلفوا في تأويله فذهب ابن عباس رضي الله عنه وعطاء وأكثر المفسرين إلى أنه أراد به حديث النفس الذي ذكر في قوله (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) كما ذكرنا وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هم المؤمنون خاصة وسع عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم فيه إلا ما يستطيعون كما قال الله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال الله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) قال إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها وهذا قوله حسن لأن الوسع ما دون الطاقة قوله تعالى (لها ما كسبت) أي للنفس ما عملت من الخير لها أجره وثوابه (وعليها ما اكتسبت) من الشر وعليها وزره (ربنا لا تؤاخذنا) أي لا تعاقبنا (إن نسينا) جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو قال الكلبي كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطؤوا عجلت لهم العقوبة فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك وقيل هو من النسيان الذي هو الترك كقوله تعالى (نسوا الله فنسيهم) قوله تعالى (أو أخطأنا) قيل معناه القصد والعمد يقال أخطأ فلان إذا تعمد قال الله تعالى (إن قتلهم كان خطئا كبيرا) قال عطاء إن نسينا أو أخطأنا يعني إن جهلنا أو تعمدنا وجعله الأكثرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو لأن ما كان عمدا من الذنب فغير معفو عنه بل هو في مشيئة الله والخطأ معفو عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم \ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه \ قوله تعالى (ربنا ولا تحمل علينا إصرا) أي عهدا ثقيلا لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه (كما حملته على الذين من قبلنا) يعني اليهود فلم يقوموا به فعذبتهم هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والسدي والكلبي وجماعة يدل عليه قوله تعالى (وأخذتم على ذلك إصري) أي عهدي وقيل معناه لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم من الزكاة ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنبا أصبح ذنبه مكتوبا على بابه ونحوها من الأثقال والأغلال وهذا معنى قول عثمان وعطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة وجماعة يدل
274

عليه قوله تعالى (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) وقيل الإصر ذنب لا توبة له معناه اعصمنا من مثل والأصل فيه العقل والأحكام قوله تعالى (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) أي لا تكلفنا من الأعمال مالا نطيقه وقيل هو حديث النفس والوسوسة حكي عن مكحول أنه قال هو الغلمة قيل الغلمة شدة الشهود وعن إبراهيم قال هو الحب وعن محمد بن عبد الوهاب قال العشق وقال ابن جريج وهو مسخ القردة والخنازير وقيل هو شماتة الأعداء وقيل هو الفرقة والقطيعة نعوذ بالله منها قوله تعالى (واعف عنا) أي تجاوز وامح عنا ذنوبنا (واغفر لنا) أي استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا (وارحمنا) فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك ولا نترك معصيتك إلا برحمتك (أنت مولانا) ناصرنا وحافظنا وولينا (فانصرنا على القوم الكافرين) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل (غفرانك ربنا) قال الله تعالى قد غفرت لكم وفي قوله (لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال لا أؤاخذكم (ربنا ولا تحمل علينا إصرا) قال لا أحمل عليكم إصرا (ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) قال لا أحملكم (واعف عنا) إلى آخره قال عفوت عنكم وغفرت لكم ورحممتكم ونصرتكم على القوم الكافرين وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال آمين أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا أبو أمامة حدثني مالك بن مسعود عن الزبير بن عدي عن طلحة بن علي بن مصرف عن مرة عن عبد الله قال \ لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط فوقها فيقبض منها قال (إذ يغشى السدرة ما يغشى) قال فراش من ذهب قال وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا من المقحمات أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفرايني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ أنا يونس وأحمد بن ثنان قال ثنا سفيان بن عيينة عن منصور عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ الآيتان في آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه أي عن قيام الليل \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور السمعاني أنا أبو جعفر الزيات أخبرنا حميد بن زنجويه أنا العلاء بن عبد الجبار أنا حماد بن سلمة أخبرنا الأشعث بن عبد الرحمن الجرمي عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا تقرآن في ثلاث ليال فيقربها الشيطان \
275

سورة آل عمران بسم الله الرحمن الرحيم سورة آل عمران 1 2 1 و 2 قوله تعالى (ألم الله) قال الكلبي والربيع بن أنس وغيرهما نزلت هذه الآية في وفد نجران وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أربعة عشر رجلا من أشرافهم وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة وهو أسقفهم وحبرهم دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال وإذا بالحارث بن كعب يقول ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ دعوهم \ فصلوا إلى المشرق فتكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما قالا قد أسلمنا قبلك قال \ كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا وعبادتكما للصليب وأكلكما الخنزير \ قالا إن لم يكن ولدا لله فمن أبوه
وخاصموه جميعا في عيسى فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم \ ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه \ قالوا بلى قال \ ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء \ قالوا بلى قال \ ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه \ قالوا بلى قال \ فهل يملك عيسى من ذلك شيئا \ قالوا لا قال \ ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء \ قالوا بلى قال فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم \ قالوا لا قال \ فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب \ قالوا بلى قال \ ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث \ قالوا بلى قال \ فكيف يكون هذا كما زعمتم \ فسكتوا فأنزل الله تعالى صدر سورة آل عمران وإلى بضع وثمانين آية منها فقال عز من قائل (ألم الله) مفتوح الميم موصول عند العامة وإنما فتح الميم لالتقاء الساكنين حرك إلى أخف الحركات وقرأ أبو يوسف ويعقوب بن خليفة الأعمش عن أبي بكر (ألم الله) مقطوعا مسكن الميم على نية الوقف ثم قطع الهمزة للابتداء وأجراه على لغة من يقطع ألف الوصل (لا إله إلا هو الحي القيوم) قوله تعالى (الله) ابتداء وما بعده خبره و (الحي القيول) نعت له
276

سورة آل عمران 3 6 3 (نزل عليك الكتاب) أي القرآن (بالحق) بالصدق (مصدقا لما بين يديه) لما قبله من الكتب في التوحيد والنبوة والأخبار وبعض الشرائع (وأنزل التوراة والإنجيل) 4 (من قبل) وإنما قال (وأنزل التوراة والإنجيل) لأن التوراة والإنجيل أنزلا جملة واحدة وقال في القرآن (نزل) لأنه نزل مفصلا والتنزيل للتكثير والتوراة قال البصريون أصلها وورية على وزن فوعلة مثل دوخلة وحوقلة فحولت الواو الأولى تاء وجعلت الياء المفتوحة ألفا فصارت توراة ثم كتبت بالياء على أصل الكلمة وقال الكوفيون أصلها تفعلة مثل توصية وتوفية فقلبت ألفا على لغة طيء فإنهم يقولون للجارية جاراة وللناصية ناصاة وأصلها من قولهم ورى الزند إذا خرجت ناره وأوريته أنا قال الله تعالى (أفرأيتم النار التي تورون) فسمى التوراة لأنها نور وضياء قال الله تعالى (وضياء وذكرى للمتقين) وقيل هي من التورية وهي كتمان السر والتعريض بغيره وكان في التوراة معاريض من غير تصريح والإنجيل أفعيل من النجل وهو الخروج ومنه سمي الولد نجلا لخروجه فسمي الإنجيل به لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا ويقال هو من النجل وهو سعة العين سمي به لأنه أنزل سعة لهم ونورا وقيل التوراة بالعبرانية توروتور معناه الشريعة والإنجيل بالسريانية انقليون ومعناه الإكليل قوله تعالى (هدى للناس) هاديا لمن تبعه ولم يثنه لأنه مصدر (وأنزل الفرقان) المفرق بين الحق والباطل وقال السدي في الآية تقديم وتأخير تقديرها وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للناس قوله تعالى (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) 5 (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) 6 (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) من الصور المختلفة ذكرا أو أنثى أبيض أو أسود حسنا أو قبيحا تاما أو ناقصا (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) وهذا رد على وفد نجران من النصارى حيث قالوا عيسى ولد الله وكأنه يقول كيف يكون ولدا وقد صوره الله تعالى في الرحم أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو محمد عبد الرحيم بن أحمد بن محمد الأنصاري أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي أنا علي بن الجعد أنا أبو خيثمة زهير بن معاوية عن الأعمش عن زين بن وهب
277

سورة آل عمران 7 قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق \ أن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك أو قال يبعث إليه الملك بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد قال وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى يكون بينها وبينه غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها \ أخبرنا إسماعيل بن عبد القادر الجرجاني أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا أبو أحمد محمد بن عيسى الجلودي أنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال \ يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول يا رب اشقي أم سعيد فيكتب ذلك فيقول يا رب أذكر أم أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص \ 7 قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) مبينات مفصلات سميت محكمات من الإحكام كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها (هن أم الكتاب) أي أصله الذي يعول عليه في الأحكام وإنما قال هن أم الكتاب ولم يقل أمهات الكتاب لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة وكلام الله تعالى واحد وقيل معناه كل آية منهن أم الكتاب كما قال (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) أي كل واحد منهما آية (وأخر) جمع أخرى ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر مثل عمر وزفر (متشابهات) فإن قيل كيف فرق ههنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل الله كل القرآن محكما في مواضع أخر فقال (الر كتاب أحكمت آياته) وجعل كله متشابها فقال (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها) قيل حيث جعل الكل محكما أراد أن الكل حق ليس فيه بعث ولا هزل وحيث جعل الكل متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضا في الحق والصدق وفي الحسن وجعل ههنا بعضه محكما وبعضه متشابها واختلف العلماء فيهما فقال ابن عباس رضي الله عنهما المحكمات هن الآيات الثلاث في سورة الأنعام (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) ونظيرها في بني إسرائيل (وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه) الآيات وعنه أنه قال المتشابهات حروف التهجي في أوائل السور وقال مجاهد وعكرمة المحكم ما فيه من الحلال
278

والحرام وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضا في الحق ويصدق بعضه بعضا كقوله تعالى (وما يضلل به إلا الفاسقين) (ويجعل الرجس على الذين لا يؤمنون) وقال قتادة والضحاك والسدي المحكم الناسخ الذي يعمل به والمشتابه المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به وقيل المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه ولا سبيل لأحد إلى علمه نحو الخبر عن أشراط الساعة وخروج الدجال ونزول عيسى عليه
السلام وطلوع الشمس من مغربها وقيام الساعة وفناء الدنيا قال أحمد بن جعفر بن الزبير المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد والمتشابه ما يحتمل أوجها وقيل المحكم ما يعرف معناه وتكون حجته واضحة ودلائله لائحة لا يشتبه والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل وقال بعضهم المحكم ما يستقل بنفسه في المعنى والمتشابه مالا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية باذان المتشابه حروف التهجي في أوائل السور وذلك أن رهطا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له حيي بلغنا أنه أنزل عليك (ألم) ننشدك الله أأنزلت عليك قال نعم قال فإن كان ذلك حقا فإني أعلم مدة ملك أمتك هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرها قال نعم (المص) قال فهذه أكثر هي إحدى وسبعون ومائة سنة قال فهل غيرها قال نعم (الر) قال هذه أكثر هي مائتان وإحدى وسبعون سنة فهل غيرها قال نعم (المر) قال هذه أكثر هي مائتان وإحدى وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا فأنزل الله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي ميل عن الحق وقيل شك (فيتبعون ما تشابه منه) واختلفوا في المعنى بهذه الآية قال الربيع هم وفد نجران إن خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام وقالوا له ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه قال بلى قالوا حسبنا ذلك فأنزل الله هذه الآية وقال الكلبي هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجه بحساب الجمل وقال ابن جريج هم المنافقون وقال الحسن هم الخوارج وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية (فأما الذين في قلوبهم زيغ) قال إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم وقيل هم جميع المبتدعة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن مسلمة أنا يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) إلى قوله (أولوا الألباب) قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم \ قوله تعالى (ابتغاء الفتنة) طلب الشرك قاله الربيع والسدي وقال مجاهد ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم (وابتغاء تأويله) تفسيره وعلمه دليله قوله
279

تعالى (سأنبئك بتأويل ما لم تسطع عليه صبرا) وقيل ابتغاء عاقبته وطلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل دليله قوله تعالى (ذلك خير وأحسن تأويلا) أي عاقبة قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم الواو في قوله (والراسخون) واو العطف يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم (يقولون آمنا به) وهذا قول مجاهد والربيع وعلى هذا يكون قوله (يقولون) حالا معناه والراسخون في العلم مع علمهم قائلين آمنا به هذا كقوله تعالى (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى) ثم قال (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) إلى أن قال (والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم) ثم قال (والذين جاءوا من بعدهم) وهذا عطف على ما سبق ثم قال (يقولون ربنا اغفر لنا) يعني هم مع استحقاقهم للفيء يقولون ربنا اغفر لنا أي قائلين على الحال وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول في هذه الآية إنا من الراسخين في العلم وقال مجاهد إنا ممن يعلم تأويله وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله (والراسخون) واو الاستئناف وتم الكلام عند قوله (وما يعلم تأويله إلا الله) وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم ورواية طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال الحسن وأكثر التابعين واختاره الكسائي والفراء والأخفش وقالوا لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون في القرآن تأويل استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها وخروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به وفي المحكم بالإيمان به والعمل ومما يصدق ذلك قراءة عبد الله (إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا) وفي حرف أبي (ويقول الراسخون في العلم آمنا به) وقال عمر بن عبد العزيز في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا وهذا القول أقيس في العربية وأشبه بظاهر الآية قوله تعالى (والراسخون في العلم) أي الداخلون في العلم هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شك وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته يقال رسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسخا ورسوخا وقيل الراسخون في العلم مؤمنوا أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى (لكن الراسخون في العلم منهم) يعني الدارسون علم التوراة والإنجيل وسئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم قال العالم العامل بما علم المتبع لما علم وقيل الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء التقوى بينه وبين الله والتواضع بينه وبين الخلق والزهد بينه وبين الدنيا والمجاهدة بينه وبين نفسه وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والسدي بقولهم آمنا به سماهم الله تعالى راسخين في العلم فرسوخهم في العلم قولهم آمنا به أي بالمتشابه (كل من عند ربنا) المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا وما لم نعلم (وما يذكر) ما يتعظ بما في القرآن (إلا أولوا الألباب) ذوو العقول
280

سورة آل عمران 8 11 8 قوله تعالى (ربنا لا تزغ قلوبنا) أي ويقول الراسخون ربنا لا تزغ قلوبنا أي لاتملها عن الحق والهدى كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ (بعد إذ هديتنا) وفقتنا لدينك والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك (وهب لنا من لدنك) أعطنا من عندك (رحمة) توثيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الإيمان والهدى وقال الضحاك تجاوزا ومغفرة (إنك أنت الوهاب) أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي أنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي أنا أبو القاسم أحمد بن عدي الحافظ أنا أبو بكر بن عبد الرحمن بن القاسم القرشي يعرف بابن الرواس الكبير بدمشق أنا أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني أنا صدقة أنا ابن عبد الرحمن بن جابر حدثني بشر بن عبيد الله قال سمعت أبا إدريس الخولاني يقول حدثني النواس بن سمعان الكلابي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يزيغه أزاغه وإن شاء أن يقيمه أقامه \ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك \ والميزان بيد الرحمن يرفع قوما ويضع آخرين إلى يوم القيامة أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحيم بن
منيب أنا يزيد بن هارون أنا سعيد بن أياس الحميري عن غنيم بن قيس عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن \ 9 قوله تعالى (ربنا إنك جامع الناس ليوم) أي لانقضاء يوم وقيل اللام بمعنى في يوم (لا ريب فيه) أي لا شك فيه وهو يوم القيامة (إن الله لا يخلف الميعاد) وهو مفعال من الوعد 10 قوله تعالى (إن الذين كفروا لن تغني) لن تنفع ولن تدفع (عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله) قال الكلبي من عذاب الله وقال أبو عبيدة من بمعنى عند أي عند الله (شيئا وأولئك هم وقود النار) 11 (كدأب آل فرعون) قال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومجاهد كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر والتكذيب وقال عطاء والكسائي وأبو عبيدة كسنة آل فرعون وقال الأخفش كأمر آل فرعون وشأنهم وقال النضر بن شميل كعادة آل فرعون يريد عادة هؤلاء الكفار في تكذيب الرسل وجحود الحق كعادة آل فرعون (والذين من قبلهم) كفار الأمم الماضية مثل عاد وثمود وغيرهم (كذبوا
281

سورة آل عمران 12 13 بآياتنا فأخذهم الله) فعاقبهم الله (بذنوبهم) وقيل نظم الآية إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الأمم الخالية أخذناهم فلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا (والله شديد العقاب) 12 قوله تعالى (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم) قرأ حمزة والكسائي بالياء فيهماأي أنهم يغلبون ويحشرون وقرأ الآخرون بالتاء فيهما على الخطاب أي قل لهم إنكم ستغلبون وتحشرون قال مقاتل أراد مشركي مكة معناه قل لكفار مكة ستغلبون يوم بدر وتحشرون إلى جهنم في الآخرة فلما نزلت هذه الآية قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر \ إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم \ وقال بعضهم المراد بهذه الآية اليهود وقال الكلبي عن ابن صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا لما هزم رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر هذا والله النبي الذي بشرنا به وسمي لا ترد له راية وأرادوا اتباعه ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى مكة يستفزهم فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية وقال محمد بن إسحاق عن رجاله ورواه سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا أنه لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال \ يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلموا قبل أن ينزل بكم مثل ما نزل بهم فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم \ فقالوا يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب أصبت منهم فرصة إنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله تعالى (قل للذين كفروا) يعني اليهود (ستغلبون) تهزمون في الدنيا في قتالكم محمدا (وتحشرون) في الآخرة (إلى جهنم) (وبئس المهاد) أي الفراش أي بئس ما مهد لهم يعني النار 13 قوله تعالى (قد كان لكم آية) ولم يقل كانت والآية مؤنثة لأنه ردها إلى البيان أي قد كان بيان فذهب إلى المعنى وقال الفراء إنما ذكر لأنه حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث فذكر الفعل وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه فمعنى الآية (قد كان لكم آية) أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون (في فئتين) فرقتين وأصلها أفيء الحرب لأن بعضهم يفيء
282

سورة آل عمران 14 إلى بعض (التقتا) يوم بدر (فئة تقاتل في سبيل الله) طاعة الله وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون رجلا من الأنصار وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان فرس للمقداد بن عمرو وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجالة وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف قوله تعالى (وأخرى كافرة) أي فرقة أخرى كافرة وهم مشركوا مكة وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا من المقاتلة يرأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وفيهم مائة فرس وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم (يرونهم مثليهم) قرأ أهل المدينة ويعقوب بالتاء يعني ترون يا معشر اليهود أهل مكة مثل عدد المسلمين وذلك أن جماعة من اليهود كانوا حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين ورأوا النصر مع ذلك للمسلمين فكان ذلك معجزة وآية وقرأ الآخرون بالياء واختلفوا في وجهه فجعل بعضهم الرؤية للمسلمين ثم له تأويلان أحدهما يرى المسلمون المشركين مثليهم كما هم فإن قيل كيف قال (مثليهم) وهم كانوا هم ثلاثة أمثال قيل هذا مثل قول الرجل وعنده درهم أنا أحتاج إلى مثلي هذا الدرهم يعني إلى مثليه سواء فيكون ثلاثة دراهم والتأويل الثاني وهو الأصح كان المسلمون يرون المشركين مثلي عدد أنفسهم قللهم الله تعالى في أعينهم حتى رأوهم ستمائة وستة وعشرين ثم قللهم الله في أعينهم في حالة أخرى حتى رأوهم مثل عدد أنفسهم قال ابن مسعود رضي الله عنه نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم قال ابن مسعود رضي الله عنه حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين قال أراهم مائة وقال بعضهم الرؤية راجعة إلى المشركين يعني يرى المشركون المسلمين مثليهم قللهم الله قبل القتال في أعين المشركين ليجترئ المشركون عليهم ولا ينصرفوا فلما أخذوا في القتال كثرهم في أعين المشركين ليجبنوا وقللهم في أعين المؤمنين ليجترؤوا فذلك قوله تعالى (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم) قوله تعالى (رأي العين) أي في رأي العين نصب بنزع حرف الصفة (والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك) الذي ذكرت (لعبرة لأولي الأبصار) لذوي العقول وقيل لمن أبصر الجمعين 14 قوله تعالى (زين للناس حب الشهوات) جمع شهوة وهي ما تدعو النفس إليه (من النساء) بدأ بهن لأنهن حبائل الشيطان (والنبين والقناطير) جمع قنطار واختلفوا فيه فقال
283

سورة آل عمران 15 الربيع بن أنس القنطار المال الكثير بعضه على بعض وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه القنطار ألف ومائتا أوقية لكل أوقية أربعون درهما وقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ألف ومائتا مثقال وعنهما رواية أخرى اثنا عشر ألف درهم وألف دينار ودية أحدكم وعن الحسن قال القنطار دية أحدكم وقال سعيد بن جبير وعكرمة هو مائة ألف ومائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم ولقد جاء الإسلام وبمكة مائة رجل قد قنطروا وقال سعيد بن المسيب وقتادة ثمانون ألفا وقال
مجاهد سبعون ألفا وعن السدي قال أربعة آلاف مثقال وقال الحكم القنطار ما بين السماء والأرض من مال وقال أبو نصرة ملء مسك ثور ذهبا أو فضة وسمي قنطارا من الإحكام يقال قنطرت الشيء إذا أحكمته ومنه سميت القنطرة قوله تعالى (المقنطرة) قال الضحاك المحصنة المحكمة وقال قتادة هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض وقال يمان هي المدفونة وقال السدي هي المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير وقال الفراء المضعفة فالقناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة (من الذهب والفضة) قيل سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى والفضة فضة لأنها تنفض أي تتفرق (والخيل المسومة) الخيل جمع لا واحد له من لفظه واحدها فرس كالقوم والنساء ونحوهما و (المسومة) قال مجاهد هي المطهمة الحسان وقال عكرمة تسويمها حسنها وقال سعيد بن جبير هي الراعية يقال أسام الخيل وسومها وقال الحسن وأبو عبدة هل المعلمة من السيماء العلامة ثم منهم من قال سيماها الشبه واللون وهو قول قتادة وقيل الكي (والأنعام) جمع النعم وهي الإبل والبقر والغنم جمع لا واحد له من لفظه (والخرب) يعني الزرع (ذلك) الذي ذكرت (متاع الحياة الدنيا) يشير إلى أنها متاع يفنى (والله عنده حسن المآب) أي المرجع فيه إشارة إلى التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة 15 قوله تعالى (قل أؤنبئكم) أي أخبركم (بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله) قرأ العامة بكسر الراء وروى أبو بكر عن عاصم بضم الراء وهما لغتان كالعدوان والعدوان أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب حدثني مالك عن زين بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم \ إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك يا ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون يا رب وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا مالم تعط أحدا من خلقك
284

سورة آل عمران 16 18 فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا رب واي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا \ قوله تعالى (والله بصير بالعباد) 16 (الذين يقولون) إن شئت جعلت محل (الذين) خفضا ردا على قوله (للذين اتقوا) وإن شئت جعلته رفعا على الابتداء ويحتمل أن يكون نصبا تقديره أعني الذين يقولون (ربنا إننا آمنا) صدقنا (فاغفر لنا ذنوبنا) استرها علينا وتجاوز عنا (وقنا عذاب النار) 17 (الصابرين والصادقين) إن شئت نصبتها على المدح وإن شئت خفضتها على النعت يعني الصابرين في أداء الأوامر وعن ارتكاب النهي وعن البأساء والضراء وحين البأس والصادقين في إيمانهم قال قتادة هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية (والقانتين) المطيعين المصلين (والمنفقين) أموالهم في طاعة الله (والمستغفرين بالأسحار) قال مجاهد وقتادة والكلبي يعني المصلين بالأسحار وعن زيد بن أسلم أنه قال هم الذين يصلون الصبح في الجماعة وقيل بالسحر لقربه من الصبح وقال الحسن مدوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا وقال نافع كان ابن عمر رضي الله عنهما يحيي الليل ثم يقول يا نافع أسحرنا فأقول لا فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد وأخذ يستغفر الله ويدعوا حتى يصبح أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو محمد بن الحسن بن أحمد المخلدي حدثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج أنا قتيبة أنا يعقوب بن عبد الله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى الثلث الأخير فيقول أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له \ وحكي عن الحسن أن لقمان قال لابنه يا بني لا تكن أعجز من هذا الديك يصوت بالأسحار وأنت نائم على فراشك 18 قوله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو) قيل نزلت هذه الآية في نصارى نجران وقال الكلبي قدم حبران من أحبار الشام على النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصر المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة فقالا له أنت محمد قال نعم قالا له وأنت أحمد قال أنا محمد وأحمد قالا له فإنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك فقال نعم قالا فأخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل فأنزل الله تعالى هذه
285

سورة آل عمران 19 الآية فأسلم الرجلان قوله (شهد الله) أي بين الله لأن الشهادة تبيين وقال مجاهد حكم الله وقيل علم الله أنه لا إله إلا هو قال ابن عباس رضي الله عنهما خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة وخلق الأزواج قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة فشهد بنفسه قبل أني خلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر فقال (شهد الله أنه لا إله إلا هو) وقوله (والملائكة) أي وشهدت الملائكة قيل معنى شهادة الله الإخبار والإعلام ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار (وأولوا العلم) يعني الأنبياء عليهم السلام وقال ابن كيسان يعني المهاجرين والأنصار وقال مقاتل علماء مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه قال السدي والكلبي يعني جميع علماء المؤمنين (قائما بالقسط) أي بالعدل ونظم الآية شهد الله قائما بالقسط نصب على الحال وقيل نصب على القطع ومعنى قوله (قائما بالقسط) أي قائما بتدبير الخلق كما يقال فلان قائم بأمر فلان أي مدبر له ومتعهد لأسبابه وفلان قائم بحق فلان أي مجاز له فالله تعالى مدبر ورازق ومجاز بالأعمال (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) 19 (إن الدين عند الله الإسلام) يعني الدين المرضي الصحيح كما قال (ورضيت لكم الإسلام دينا) قال (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) وفتح الكسائي الألف من (أن الدين) ردا على أن الأولى تقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو وشهد أن الدين عند الله الإسلام أو شهد الله أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو وكسر الباقون الألف على الابتداء والإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة يقال أسلم أي دخل في السلم واستسلم قال قتادة في قوله تعالى (إن الدين عند الله الإسلام) قال شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه فلا يقبل غيره ولأي جزي إلا به أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحق الثعلبي أنا أبو عمر الفراوي أنا أبو موسى عمران بن موسى أنا الحسن بن سفيان أنا عمار بن عمرو بن المختار حدثني أبي عن غالب القطان قال أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش وكنت أختلف إليه فلما كانت ذات ليلة أردت أن أتحدر إلى البصرة فإذا الأعمش قائم من الليل يتهجد فمر بهذه الآية (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ثم قال الأعمش وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع
الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة إن الدين عند الله الإسلام قالها مرارا قلت لقد سمع فيها شيئا فصليت الصبح معه وودعته ثم قال قلت إني سمعتك تقرأ آية ترددها فما بلغك فيها قال لي أوما بلغك ما فيها قلت أنا عندك منذ سنتين لم تحدثني قال والله لا أحدثك بها إلى سنة فكتبت على بابه ذلك اليوم
286

سورة آل عمران 20 وأقمت سنة فلما مضت السنة قلت يا أبا محمد مضت السنة قال حدثني أبو وائل عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله إن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة \ قوله تعالى (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب) قال الكلبي نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام أي وما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (إلا من بعد ما جاءهم العلم) يعني بيان نعته في كتبهم وقال الربيع بن أنس إن موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين حتى أهرقوا بينهم الدماء ووقع الشر والاختلاف وذلك من بعد ما جاءهم العلم يعني بيان ما في التوراة (بغيا بينهم) أي طلبا للملك والرياسة فسلط الله عليهم الجبابرة وقال محمد بن جعفر بن الزبير نزلت في نصارى نجران ومعناها وما اختلف الذين أوتوا الكتاب يعني الإنجيل في أمر عيسى عليه السلام وفرقوا القول فيه إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله واحد وأن عيسى عبده ورسوله بغيا بينهما أي للمعاداة والمخالفة (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) 20 قوله تعالى (فإن حاجوك) أي خاصموك يا محمد في الدين وذلك أن اليهود والنصار قالوا ألسنا ما سميتنا به يا محمد إنما اليهودية والنصرانية نسب والدين هو الإسلام ونحن عليه فقال الله تعالى (فقل أسلمت وجهي لله) أي انقدت لله وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي وإنما خص الوجه لأنه أكرم الجوارح للإنسان وفيه بهاؤه فإذا خضع وجهه للشيء فقد خضع له جميع جوارحه وقال الراء معناه أخصلت عملي لله (ومن تبعن) أي ومن اتبعني فأسلم كما أسلمت وأثبت نافع وأبو عمرو الياء في قوله تعالى (اتبعني) على الأصل وحذفه الآخرون على الخطأ لأنهما في المصحف بغير ياء وقوله (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين) يعني العرب (أأسلمتم) لفظه استفهام ومعناه أمر أي وأسلموا كما قال (فهل أنتم منتهون) أي انتهوا (فإن أسلموا فقد اهتدوا) فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال أهل الكتاب أسلمنا فقال لليهود أتشهدون أن عزيرا عبده ورسوله فقالوا معاذ الله أن يكون عزيرا عليه السلام عبدا وقال للنصارى أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله قالوا معاذ الله أن يكون عيسى عبدا فقال الله عز وجل (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ) أي تبليغ الرسالة وليس عليك الهداية (والله بصير بالعباد) عالم بمن يؤمن وبمن لا يؤمن
287

سورة آل عمران 21 23 21 قوله تعالى (إن الذين يكفرون بآيات الله) يجحدون بآيات الله يعني القرآن وهم اليهود والنصارى (ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) قرأ حمزة (ويقاتلون الذين يأمرون) بألف قال ابن جريج كان الوحي يأتي على أنبياء بني إسرائيل ولم يكن يأتيهم كتاب الله فيذكرون قومهم فيقتلون أنبياءهم فيقوم رجال ممن تبعهم وصدقهم فيذكرون قومهم فيقتلون أيضا فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحق الثعلبي أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد فنجويه الدينوري أنا أبو نصر منصور بن جعفر النهاوندي أنا أحمد بن يحيى بن الجارود أنا محمد بن عمرو بن حيان أنا محمد بن حمير أنا أبو الحسن مولى بني أسد عن مكحول عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجلا مر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) إلى أن انتهى إلى قوله (وما لهم من ناصرين) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا في أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلوهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا في آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم (فبشرهم) أخبرهم (بعذاب أليم) وجيع وإنما أدخل الفاء على الباء في خبر (إن) لتضمن الدين معنى الشرط والجزاء لأن تقديره الذين يكفرون ويقتلون فبشرهم لأنه لا يقال إن زيد فقائم 22 (أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين) وبطلان العمل في الدنيا أن لا يقبل وفي الآخرة أن لا يجازى عليه 23 قوله تعالى (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) يعني اليهود (يدعون إلى كتاب الله) اختلفوا في هذا الكتاب فقال قتادة هم اليهود دعوا إلى حكم القرآن فأعرضوا عنه وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية إن الله تعالى جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهدى فأعرضوا عنه وقال الآخرون هو التوراة وروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت
288

سورة آل عمران 24 26 المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زياد على أي دين أنت يا محمد فقال على ملة إبراهيم فقالا إن إبراهيم كان يهوديا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوا أن يكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم فقال له النعمان بن أوفى بحري بن عمرو جرت عليهما يا محمد ليس عليهما الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينكما التوراة فقالوا قد أنصفتنا قال فمن أعلمكم بالتوراة قالوا رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا فأرسلوا إليه فقدم المدينة وكان جبريل قد وصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت ابن صوريا قال نعم قال أنت أعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من التوراة فقال له اقرأ فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن سلام يا رسول الله قد جاوزها فقام فرفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود بأن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما وإن كانت امرأة حبلى
تربص حتى تضع ما في بطنها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين فرجما فغضب اليهود لذلك وانصرفوا فأنزل الله تعالى (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) التوراة (حظا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله) (ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) 24 (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم) والغرور هو الأطماع فيما لا يحصل منه شيء (ما كانوا يفترون) والافتراء اختلاق الكذب 25 قوله تعالى (فكيف إذا جمعناهم) أي فكيف حالهم أو كيف يصنعون إذا جمعناهم (ليوم لا ريب فيه) وهو يوم القيامة (ووفيت) وفرت (كل نفس ما كسبت) أي جزاء ما كسبت من خير أو شر (وهم لا يظلمون) أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم 26 قوله تعالى (قل اللهم مالك الملك) قال قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال ابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك رضي الله عنه
289

سورة آل عمران 27 لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود هيهات هيهات من أين لمحمد صلى الله عليه وسلم ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم فأنزل الله تعالى هذه الآية (قل اللهم) قيل معناه يا الله فلما حذف حرف النداء زيد الميم في آخره وقال قوم للميم فيه معنى ومعناها اللهم أمنا بخير أي أقصدنا حذف منه حرف النداء كقولهم هلم إلينا كان أصله هل أم إلينا ثم كثرت في الكلام فحذفت الهمزة استخفافا وربما خففوا أيضا فقالوا لا هم قوله (مالك الملك) يعني يا مالك الملك أي مالك العباد وما ملكوا وقيل يا ملك السماوات والأرض وقال الله تعالى في بعض الكتب أنا الله ملك الملوك ومالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة وإن عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم قوله تعالى (تؤتي الملك من تشاء) قال مجاهد وسعيد بن جبير يعني ملك النبوة وقال الكلبي تؤتي الملك من تشاء محمدا وأصحابه (وتنزع الملك ممن تشاء) أبي جهل وصناديد قريش وقيل تؤتي الملك من تشاء العرب وتنزع الملك ممن تشاء فارس والروم وقال السدي تؤتي الملك من تشاء آتى الله الأنبياء عليهم السلام الملك وأمر العباد بطاعتهم وتنزع الملك ممن تشاء نزعه من الجبارين وأمر العباد بخلافهم وقيل تؤتي الملك من تشاء آدم وولده وتنزع الملك ممن تشاء إبليس وجنوده وقوله تعالى (وتعز من تشاء وتذل من تشاء) قال عطاء تعز من تشاء من المهاجرين والأنصار وتذل من تشاء فارس والروم وقيل تعز من تشاء محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليهم وتذل من تشاء أبا جهل وأصحابه حتى جزت رؤوسهم وألقوا في القليب وقيل تعز من تشاء بالإيمان والهداية وتذل من تشاء بالكفر والضلالة وقيل تعز من تشاء بالطاعة وتذل من تشاء بالمعصية وقيل تعز من تشاء بالنصر وتذل من تشاء بالقهر وقيل تعز من تشاء بالغنى وتذل من تشاء بالفقر وقيل تعز من تشاء بالقناعة والرضى وتذل من تشاء بالحرص والطمع (بيدك الخير) أي بيدك الخير والشر فاكتفى بذكر أحدهما قال تعالى (سرابيل تقيكم الحر) أي الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما (إنك على كل شيء قدير) 27 قوله تعالى (تولج الليل في النهار) أي تدخل الليل في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات (وتولج النهار في الليل) حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة والنهار تسع ساعات فما نقص من أحدهما زاد في الآخر (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) قرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم (الميت) بتشديد الياء ههنا وفي الأنعام
290

سورة آل عمران 28 ويونس والروم وفي الأعراف (لبلد ميت) وفي فاطر (إلى بلد ميت) زاد نافع (أو من كان ميتا فأحييناه) و (لحم أخيه ميتا) و (الأرض الميتة أحييناها) فشددها والآخرون يخففونها وشدد يعقوب (يخرج الحي من الميت) و (لحم أخيه ميتا) قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة معنى الآية يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة ويخرج النطفة من الحيوان وقال عكرمة والكلبي تخرج الحي من الميت أي الفرخ من البيضة وتخرج البيضة من الطير وقال الحسن وعطاء يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن والمؤمن حي الفؤاد والكافر ميت الفؤاد قال الله تعالى (أو من كان ميتا فأحييناه) وقال الزجاج يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي (وترزق من تشاء بغير حساب) من غير تضييق ولا تقتير أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنفي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي أنا محمد بن علي بن زيد الصائغ أنا محمد بن أزهر أنا الحارث بن عمير أنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران (شهد الله) إلى قوله (إن الدين عند الله الإسلام) (وقل اللهم مالك الملك) إلى قوله (بغير حساب) مشفعات معلقات بالعرش ما بينهن وبين الله عز وجل حجاب قلن يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك قال الله عز وجل بي حلفت لا يقرأكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان فيه وأسكنته في حظيرة القدس ونظرت إليه بعيني المكنونة وقضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة وأعذته من كل عدو وحاسد ونصرته عليهم \ رواه الحارث بن عمر وهو ضعيف 28 قوله عز وجل (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) قال ابن عباس رضي الله عنه كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد يبطنون بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنكونكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال مقاتل نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره وكانوا يظهرون المودة لكفار مكة وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم قوله تعالى (ومن يفعل ذلك) أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم وإظهارهم على عورة المسلمين (فليس من الله في شيء) أي ليس من دين الله في شيء ثم استثنى فقال (إلا أن تتقوا منهم تقاة)
291

سورة آل عمران 29 30 يعني إلا أن تخافوا منهم مخافة قرأ مجاهد ويعقوب (تقية) على وزن بقية لأنهم كتبوها بالياء ولم يكتبوها بالألف مصل حصاة ونواة وهي مصدر يقال تقيت تقاة وتقى تقية وتقوى فإذا قلت اتقيت كان المصدر الاتقاء وإنما قال تتقوا من الاتقاء ثم قال تقاة ولم يقل اتقاء لأن معنى اللفظين إذا كان واحدا يجوز
إخراج مصدر أحدهما على لفظ الآخر كقوله تعالى (وتبتل إليه تبتيلا) ومعنى الآية أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دما حراما أو مالا حراما أو يظهر الكفار على عورة المسلمين والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية قال الله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ثم هذا رخصة فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم وأنكر قوم التقية اليوم وقال معاذ بن جبل ومجاهد كان في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم وقال يحيى البكاء قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج إن الحسن كان يقول لكم تقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان فقال سعيد ليس في الإسلام تقية إنما التقية في أهل الحرب (ويحذركم الله نفسه) أي يخوفكم الله عقوبته على موالاة الكفار وارتكاب المنهي ومخالفة المأمور (وإلى الله المصير) 29 (قل إن تخفوا ما في صدوركم) قلوبكم من مودة الكفار (أو تبدوه) من موالاتهم قولا وفعلا (يعلمه الله) قال الكلبي إن تسروا ما في قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب أو تظهروه بحربهه وقتاله يعلمه الله ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به ثم قال (ويعلم ما في السماوات وما في الأرض) يعني إذا كان لا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض فكيف يخفى عليه موالاتكم الكفار وميلكم إليهم بالقلب (والله على كل شيء قدير) 30 قوله تعالى (يوم تجد كل نفس) نصب (يوم) بنزع حرف الصفة أي في يوم وقيل بإضمار فعل أي اذكروا واتقوا يوم تجد كل نفس (ما عملت من خير محضرا) لم يبخس منه شيء كما قال الله تعالى (ووجدوا ما عملوا حاضرا) (وما عملت من سوء) جعل بعضهم خيرا في موضع النصب أي تجد محضرا ما عملت من الخير والشر فتسر بما عملت من الخير وجعل بعضهم خيرا مستأنفا ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود رضي الله عنهما (وما عملت من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا
292

سورة آل عمران 31 32 بعيدا) قوله تعالى (تود لو أن بينها) أي بين النفس (وبينه) يعني وبين السوء (أمدا بعيدا) قال السدي مكانا بعيدا وقال مقاتل كما بين المشرق والمغرب والأمد الأجل والغاية التي ينتهي إليها وقال الحسن يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبدا وقيل يود أنه لم يعلمه (ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) 31 (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال والله يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل فقالت له قريش إنما نعبدها حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى فقال الله تعالى قل لهم يا محمد إن كنتم تحبون الله وتعبدون الأصنام ليقربوكم إليه فاتبعوني يحببكم الله فإنا رسوله إليكم وحجته عليكم اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله فحب المؤمنين لله اتباعهم أمره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته وحب الله للمؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فذلك قوله تعالى (ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) قيل لما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي لأصحابه إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم فنزل قوله تعالى 32 (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا) أعرضوا عن طاعتهما (فإن الله لا يحب الكافرين) لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن سنان أنا فليح أنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ كل من أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى \ قالوا ومن يأبى قال \ من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن عبادة أنا يزيد أنا سليمان بن حيان وأثنى عليه أنا سعيد بن ميناء قال حدثنا أو سمعت جابر بن عبد الله يقول جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولوها يفقها فقال بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا أما الدار الجنة
293

سورة آل عمران 33 35 وأما الداعي محمد صلى الله عليه وسلم فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس 33 قوله تعالى (إن الله اصطفى آدم ونوحا) الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما قالت اليهود نحن من أبناء إبراهيم وإسحق ويعقوب ونحن على دينهم فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني إن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم على غير دين الإسلام اصطفى اختار افتعل من الصفوة وهي الخالص من كل شيء آدم أبا البشر ونوحا (وآل إبراهيم وآل عمران) قيل أراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم عليه السلام وعمران أنفسهما كقوله تعالى (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) يعني موسى وهارون وقال آخرون آل إبراهيم إسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وكان محمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم عليه السلام وأما آل عمران فقد قال مقاتل هو عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوى بن يعقوب عليه السلام وآله موسى وهارون وقال الحسن ووهب هو عرمان بن أشهم بن عمون من ولد سليمان بن داود عليهما السلام وآله مريم وعيسى وقيل عمران بن ماثان وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل كلهم من نسلهم (على العالمين) 34 (ذرية) اشتقاقها من ذرا بمعنى خلق وقيل من الذر لأنه استخراجهم من صلب آدم كالذي ويسمى الأولاد والآباء ذرية فالأولاد ذرية لأنه ذراهم والآباء ذرية لأنه ذرا الأبناء منهم قال الله تعالى (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم) أي آباءهم (ذرية) نصب على معنى واصطفى ذرية (بعضها من بعض) أي بعضها من ولد بعض وقيل بعضها من بعض في التناصر وقيل بعضها على دين بعض (والله سميع عليم) 35 (إذ قالت امرأة عمران) وهي حنة بنت فاقوذا أم مريم وعمران هو عمران بن ماثان وليس بعمران أبي موسى عليه السلام لأن بينهما ألفا وثمانمائة سنة وقيل كان بين إبراهيم وموسى عليهما السلام ألف سنة وبين موسى وعيسى عليهما السلام ألفا سنة وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم وقيل عمران بن اشهم قوله تعالى (رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) أي جعلت لك الذي في بطني محررا نذرا مني لك (فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) والنذر ما
يوجبه الإنسان على نفسه محررا أي عتيقا خالصا لله مفرغا لعبادة الله ولخدمة الكنيسة لا أشغله بشيء من الدنيا وكل ما أخلص فهو محرر يقال حررت العبد إذا أعتقته وخلصته من الرق قال الكلبي
294

سورة آل عمران 36 ومحمد بن إسحاق وغيرهما كان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة يقوم عليها ويكتنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم ثم يخير إن أحب أقام فيه وإن أحب ذهب حيث شاء وإن أراد أن يخرج بعد التخيير لم يكن له ذلك ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلا من نسله محرر لبيت المقدس ولم يكن محررا إلا الغلماء ولا تصلح له الجارية لما يصيبها من الحيض والأذى فحررت أم مريم ما في بطنها وكانت القصة في ذلك أن زكريا وعمران تزوجا أختين وكانت إيشاع بنت فاقوذا أم يحيى عند زكريا وكانت حنة بنت فاقوذا أم مريم عند عمران وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أسنت وكانوا أهل بيت من الله بمكان فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت بذلك نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولدا وقالت اللهم لك علي إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه فحملت بمريم فحررت ما في بطنها ولم تعلم ما هو فقال لها زوجها ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى تصلح لذلك فوقعا جميعا في هم من ذلك فهلك عمران وحنة حامل بمريم 36 (فلما وضعتها) أي ولدتها إذا هي جارية والهاء في قوله (وضعتها) راجعة إلى النذيرة لا إلى (ما) ولذلك أنث (وقالت) حنى وكانت ترجو أن يكون غلاما (رب إني وضعتها أنثى) اعتذارا إلى الله عز وجل (وأنت أعلم بما وضعت) بجزم التاء إخبارا عن الله تعالى عز وجل وهي قراءة العامة وقرأ ابن عامر وأبو بكر ويعقوب (وضعت) برفع التاء جعلوها من كلام أم مريم (وليس الذكر كالأنثى) في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها للينها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس (وإني سميتها مريم) وهي بلغتهم العابدة والخادمة وكانت مريم من أجمل النساء في وقتها وأفضلهن (وإني أعيذها) أمنعها وأجيرها (بك وذريتها) أولادها (من الشيطان الرجيم) والشيطان الطريد اللعين والرجيم المرمي بالشهب أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري حدثني سعيد بن المسيب قال قال أبو هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ ما من بني آدم من مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل الصبي صارخا من الشيطان غير مريم وابنها \ ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ كل بني آدم يطعن الشيطان جنبه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب \
295

سورة آل عمران 37 37 قوله (فتقبلها ربها بقبول حسن) أي قبل الله مريم من حنة مكان المحرر وتقبل بمعنى قبل ورضي والقبول مصدر قبل يقبل قبولا مثل الولوغ والوزوغ ولم يأت غير هذه الثلاثة وقيل معنى التقبل التكفل في الريبة والقيام بشأنها (وأنبتها نباتا حسنا) معناه وأنبتها فنبتت نباتا حسنا وقيل هذا مصدر على غير الصدر أي المصدر وكذلك قوله (فتقبلها ربها بقبول حسن) ومثله سائغ كقوله تكلمت كلاما وقال جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما فتقبلها ربها بقبول حسن أي سلك بها طريق السعداء وأنبتها نباتا حسنا يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في العام (وكفلها زكريا) قال أهل الأخبار أخذت حنة مريم حين ولدتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة فقالت لهم دونكم هذه النذيرة فتنافس فيها الأحبار لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم فقال لهم زكريا أنا أحقكم بها عندي خالتها فقالت له الأحبار لا تفعل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس لها لتركت لأمها التي ولدتها لكنا نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلا إلى نهر جار قال السدي هو نهر الأردن فألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها وقيل كان على كل قلم اسم واحد منهم وقيل كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء فارتد قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر قاله محمد بن إسحاق وجماعة وقيل جرى قلم زكريا مصعدا إلى أعلى الماء وجرت أقلامهم بجري الماء وقال السدي وجماعة بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طيب وجرت أقلامهم في جرية الماء فسهمهم وقرعهم زكريا وكان رأس الحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى (وكفلها زكريا) قرأ حمزة وعاصم والكسائي (كفلها) بتشديد الفاء فيكون زكريا في محل النصب أي ضمنها الله وضمها إليه بالقرعة وقرأ الآخرون بتخفيف فيكون زكريا في محل الرفع أي ضمها زكريا إلى نفسه وقام بأمرها وهو زكريا بن اذن بن مسلم بن صدوق من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (زكريا) مقصورا والآخرون يمدونه فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها بيتا واسترضع لها وقال محمد بن إسحاق ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا في المسجد وجعل بابه في وسطها لا يرقى إليها إلا بالسلم مثل باب الكعبة لا يصعد إليها غيره وكان يأتيها
296

سورة آل عمران 38 بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم (كلما دخل عليها زكريا المحراب) وأراد بالمحراب الغرفة والمحراب أشرف المجالس ومقدمها وكذلك هو من المسجد ويقال للمسجد أيضا محراب وقال المبرد لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرجة وقال الربيع بن أنس كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها فتحها (وجد عندها رزقا) أي فاكهة في غير حينها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف (قال يا مريم أنى لك هذا) قال أبو عبيدة معناه من أين لك هذا وأنكر بعضهم عليه وقال معناه من أي جهة لك هذا لأن (أنى) للسؤال عن الجهة (وأين) للسؤال عن المكان (قالت هو من عند الله) أي من قطف الجنة وقال أبو الحسن إن مريم من حين ولدت لم تلقم ثديها قط بل كان يأتيها رزقها من الجنة فيقول لها زكريا أنى لك هذا فتقول (هو من عند الله) تكلمت وهي صغيرة (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) قال محمد بن إسحاق ثم أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها فخرج على بني إسرائيل فقال يا بني إسرائيل تعلمون والله لقد كبرت سني وضعفت عن حمل مريم بنت عمران فأيكم يكلفها بعدي فقالوا والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بدا فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له يوسف بن يعقوب وكان ابن عم مريم فحملها فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة
ذلك عليه فقالت له يا يوسف أحسن بالله الظن فإن الله سيرزقنا فجعل يوسف يرزق بمكانها منه فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها فإذا أدخله عليها في الكنيسة أنماه الله فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق ليس بقدر ما يأتيها به يوسف فيقول (يا مريم أنى لك هذا) (قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) قال أهل الأخبار فلما رأى ذلك زكريا قال إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي ولدا في غير حينه من الكبر فطمع في الولد وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد 38 قال الله تعالى (هنالك) أي عند ذلك (دعا زكريا ربه) فدخل المحراب وغلق الأبواب وناجى ربه (قال رب) أي يا رب (هب لي) أعطني (من لدنك) أي من عندك (ذرية طيبة) أي ولدا مباركا تقيا صالحا رضيا والذرية تكون واحدا أو جمعا ذكرا أو أنثى وهو ههنا واحد بدليل قوله عز وجل (فهب لي من لدنك وليا) وإنما قال طيبة لتأنيث لفظ الذرية (إنك سميع الدعاء) أي سامعه وقيل مجيبه كقوله تعالى (إني آمنت بربكم فاسمعون) أي فأجيبوني
297

سورة آل عمران 39 39 (فنادته الملائكة) قرأ حمزة والكسائي فناداه بالياء والآخرون بالتاء لتأنيث لفظ الملائكة وللجمع مع أن الذكور إذا تقدم فعلهم وهم جماعة كان التأنيث فيهم أحسن كقوله تعالى (قالت الأعراب) وعن إبراهيم قال كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يذكر الملائكة في القرآن قال أبو عبيدة إنما نرى عبد الله اختار ذلك خلافا للمشركين في قولهم الملائكة بنات الله تعالى وروى الشعبي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال إذا اختلفتم في التاء والياء فاجعلوها ياء وذكروا القرآن وأراد بالملائكة ههنا جبريل عليه السلام وحده كقوله تعالى في سورة النحل (ينزل الملائكة) يعني جبريل بالروح والوحي ويجوز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم سمعت هذا الخبر من الناس وإنما سمع من واحد نظيره قوله تعالى (الذين قال لهم الناس) يعني نعيم بن مسعود (إن الناس) يعني أبا سفيان بن حرب وقال المفضل بن سلمة إذا كان القائل رئيسا يجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه وكان جبريل عليه السلام رئيس الملائكة وقل ما يبعث إلا ومعه جمع فجرى على ذلك قوله تعالى (وهو قائم يصلي في المحراب) أي في المسجد وذلك أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان فيفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول فبينما هو قائم يصلي في المحراب يعني في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرون أن يأذن لهم في الدخول فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض تلمع ففزع منه فناداه وهو جبريل عليه السلام يا زكريا (أن الله يبشرك) قرأ ابن عامر وحمزة (إن الله) بكسر الألف على إضمار القول تقديره فنادته الملائكة فقالت إن الله وقرأ الآخرون بالفتح بإيقاع النداء عليه كأنه قال فنادته الملائكة بأن الله يبشرك قرأ حمزة (يبشرك) وبابه بالتخفيف كل القرآن إلا قوله (فبم تبشرون) فإنهم اتفقوا على تشديدها ووافقه الكسائي ههنا في الموضعين وفي (سبحان) و (الكهف) و (حمعسق) ووافق ابن كثير وأبو عمرو في (حمعسق) والباقون بالتشديد فمن قرأ بالتشديد فهو من بشر يبشر تبشيرا وهو أعرب اللغات وأفصحها دليل التشديد قوله تعالى (فبشر عبادي) و (بشرناه بإسحاق) قالوا (بشرناك بالحق) وغيرها من الآيات ومن خفف فهو من بشر يبشر وهي لغة تهامة وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه (بيحيى) هو الاسم لا يجر لمعرفته وللزائد في أوله ومثل يزيد ويعمر وجمعه يحيون مثل موسون وعيسون واختلفوا فيأنه لم سمي يحيى فقال ابن عباس رضي الله عنهما لأن الله أحيا به عقر أمه قال قتادة لأن الله تعالى أحيا به قلبه بالإيمان وقيل سمي يحيى لأنه استشهد والشهداء أحياء وقيل معناه يموت وقيل لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية (مصدقا) نصب على الحال (بكلمة من الله) يعني عيسى عليه السلام سمي عيسى كلمة الله
298

سورة آل عمران 40 لأن الله تعالى قال له كن من غير أب فكان فوقع عليه اسم الكلمة وقيل سمي كلمة لأنه يهتدى به كما يهتدى بكلام الله تعالى وقيل هي بشارة الله تعالى لمريم بعيسى عليه السلام بكلامه على لسان جبريل عليه السلام وقيل لأن الله تعالى أخبر الأنبياء بكلامه في كتبه أنه يخلق نبيا بلا أب فسماه كلمة لحصوله بذلك الوعد وكان يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدقه وكان يحيى عليه السلام أكبر من عيسى بستة أشهر وكانا ابني خالة ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليه السلام وقال أبو عبيدة بكلمة من الله أي بكتاب من الله وآياته تقول العرب أنشدني كلمة فلان أي قصيدته قوله تعالى (وسيدا) هو فعيل من ساد يسود وهو الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله قال المفضل أراد سيدا في الدين قال الضحاك السيد الحسن الخلق قال سعيد بن جبير السيد الذي يطيع ربه عز وجل وقال سعيد بن المسيب السيد الفقيه العالم وقال قتادة سيد في العلم والعبادة والورع وقيل الحليم الذي لا يغضبهه شيء قال مجاهد الكريم على الله تعالى وقيل السيد التقي قاله الضحاك قال سفيان الثوري الذي لا يحسد وقيل الذي يفوق قومه في جميع خصال الخير وقيل هو القانع بما قسم الله له وقيل هو السخي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من سيدكم يا بني سلمة \ قالوا جد بن قيس على أنا نبخله قال \ وأي داء أدوأ من البخل لكن سيدكم عمرو بن الجموح \ قوله تعالى (وحصورا ونبيا من الصالحين) والحصور أصله من الحصر وهو الحبس والحصور في قول ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة رضي الله عنهم وعطاء والحسن الذي لا يأتي النساء ولا قربهن وهو على هذا القول فعول بمعنى فاعل يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات وقال سعيد بن المسيب هو العنين الذي لا ماء له فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء قال سعيد بن المسيب كان له مثل هدبة الثوب وقد تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره وفيه قول آخر أن الحصور الممتنع من الوطء مع القدرة عليه واختار قوم هذا القول لوجهين أحدهما لأن الكلام خرج مخرج الثناء وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء والثاني أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء 40 قوله تعالى (قال رب) أي يا سيدي قال لجبريل عليه السلام هذا قول الكلبي وجماعة وقيل قاله لله عز وجل (أنى يكون) يعني أين يكون (لي غلام) أي أين (وقد بلغني الكبر) هذا من المقلوب أي وقد بلغت الكبر وشخت كما تقول بلغني الجهد أي أنا في الجهد وقيل معناه وقد نالني الكبر وأدركني وأضعفني قال الكلبي كان زكريا يوم بشر بالولد ابن ثنتين وتسعين سنة وقيل ابن تسع وتسعين سنة وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما كان ابن عشرون ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة فذلك قوله تعالى (وامرأتي عاقر) أي عقيم لا تلد ويقال رجل عاقر وامرأة عاقر وقد عقر بضم القاف يعقر عقرا وعقارة (قال كذلك الله يفعل ما يشاء) فإن قيل لم قال زكريا بعدما وعده الله تعالى (أنى يكون لي غلام)
أكان شاكا في وعد الله وفي
299

سورة آل عمران 41 42 قدرته قيل إن زكريا لما سمع النداء من الملائكة جاءه الشيطان فقال يا زكريا إن الصوت الذي كنت تسمعه ليس من الله إنما هو من الشيطان ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحى إليك في سائر الأحوال فقال ذلك دفعا للوسوسة قال عكرمة والسدي وجواب آخر وهو أنه لم يشك في وعد الله إنما شك في كيفيته أي كيف ذلك أتجعلني وامرأتي شابين أم ترزقنا ولدا على الكبر منا أم ترزقني من امرأة أخرى قاله مستفهما لا شاكا هذا قول الحسن 41 قوله تعالى (قال رب اجعل لي آية) أي علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكرا لك (قال آيتك أن لا تكلم الناس) أي تكف عن الكلام (ثلاثة أيام) وتقبل بكليتك على عبادتي لا أنه يحبس لسانه عن الكلام ولكنه نهي عن الكلام وهو صحيح سوي كما قال في سورة مريم (ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) يدل على قوله تعالى (وسبح بالعشي والإبكار) فأمره بالذكر ونهاه عن كلام الناس وقال أكثر المفسرين عقل لسانه عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام وقال قتادة أمسك لسانه عن الكلام عقوبة لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام وقوله (إلا رمزا) أي إشارة والإشارة قد تكون باللسان وبالعين واليد وكانت إشارته بالأصبع المسبحة قال الفراء قد يكون الرمز باللسان من غير أن يبين وهو الصوت الخفي شبه الهمس وقال عطاء أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزا (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار) قيل المراد بالتسبيح الصلاة والعشي ما بين زوال الشمس إلى غروب الشمس ومنه سميت صلاة الظهر والعصر صلاتي العشي والإبكار ما بين صلاة الفجر إلى الضحى 42 قوله تعالى (وإذ قالت الملائكة) يعني جبريل (يا مريم إن الله اصطفاك) اختارك (وطهرك) قيل من مسيس الرجال وقيل من الحيض والنفاس قال السدي كانت مريم لا تحيض وقيل من الذنوب (واصطفاك على نساء العالمين) قيل على عالمي زمانها وقيل على جميع نساء العالمين في أنها ولدت بلا أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء وقيل بالتحرير في المسجد ولم تحرر أنثى أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أحمد بن رجاء أخبرنا النضر بن هشام أخبرني أبي قال سمعت عبد الله بن جعفر قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول \ خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة \ رضي الله عنهما ورواه وكيع وأبو معاوية عن هشام بن عروة وأشار
300

سورة آل عمران 43 45 وكيع إلى السماء والأرض أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا آدم أنا شعبة عن عروة بن مرة عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام \ أخبرنا أبو بكر سعيد بن عبد الله بن أحمد الطاهري أخبرنا جدي عبد الرحمن بن عبد الصمد البزار أخبرنا محمد بن زكريا العذافري أخبرنا إسحق الديري أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وآسية امرأة فرعون \ 43 قوله تعالى (يا مريم اقنتي لربك) قالت لها الملائكة شفاها أي أطيعي ربك وقال مجاهد أطيلي القيام في الصلاة لربك والقنوت الطاعة وقيل القنوت طول القيام قال الأوزاعي لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا (واسجدي واركعي) قيل إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان ذلك في شريعتهم وقيل بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها وليس الواو للترتيب بل للجمع يجوز أن يقول الرجل رأيت زيدا وعمرا وإن كان قد رأى عمرا قبل زيد (مع الراكعين) ولم يقل مع الراكعات ليكون أعم وأشمل فإنه يدخل فيه الرجال والنساء وقيل معناه مع المصلين في الجماعة 44 قوله تعالى (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك الذي ذكرت من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى على نبينا وعليهم السلام من أنباء الغيب أي من أخبار الغيب نوحيه إلأيه رد الكناية إلى ذلك فلذلك ذكره (وما كنت) يا محمد (لديهم إذ يلقون أقلامهم) سهامهم في الماء للاقتراع (أيهم يكفل مريم) يحضنها ويربيها (وما كنت لديهم إذ يختصمون) في كفالتها 45 قوله تعالى (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم) إنما قال اسمه ورد الكناية إلى عيسى واختلفوا في أنه لم سمي مسيحا فمنهم من قال هو فعيل بمعنى المفعول يعني أنه مسح من الأقذار وطهر من الذنوب وقيل لأنه مسح بالبركة وقيل لأنه خرج من
301

سورة آل عمران 46 48 بطن أمه ممسوحا بالدهن وقيل مسحه جبريل بجناحه حتى لم يكن للشيطان عليه سبيل وقيل لأنه كان مسيح القدم لا أخمص له وسمي الدجال مسيحا لأنه كان ممسوح إحدى العينين وقال بعضهم هو فعيل بمعنى الفاعل مثل عليم وعالم قال ابن عباس رضي الله عنهما سمي عيسى عليه السلام مسيحا لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برأ وقيل سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان وعلى هذا القول تكون الميم فيه زائدة وقال إبراهيم النخعي المسيح الصديق ويكون المسيح بمعنى الكذاب وبه سمي الدجال والحرف من الأضداد (وجيها) أي شريفا رفيعا ذا جاه وقدر (في الدنيا والآخرة من المقربين) عند الله 46 (ويكلم الناس في المهد) صغيرا قبل أوان الكلام كما ذكره في سورة مريم (قال إني عبد الله آتاني الكتاب) الآية حكي عن مجاهد قال قالت مريم كنت إذا خلوت أنا وعيسى عليه السلام حدثني وحدثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع قوله (وكهلا) قال مقاتل يعني إذا اجتمعت قوته قبل أن يرفع إلى السماء وقال الحسين بن الفضل وكهلا بعد نزوله من السماء وقيل أخبرها أنه يبقى حتى يكتهل وكلامه بعد الكهولة إخبار عن الأشياء المعجزة وقيل وكهلا نبيا بشرها بنبوة عيسى عليه السلام وكلامه في المهد معجزة وفي الكهولة دعوة وقال مجاهد وكهلا أي حليما والعرب تمدح الكهولة لأنها الحالة الوسطى في احتناك السن واستحكام العقل وجودة الرأي والتجربة (ومن الصالحين) أي هو من العباد الصالحين 47 (قالت رب) يا سيدي تقوله لجبريل وقيل تقول لله عز وجل (أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) ولم يصبني رجل قالت ذلك تعجبا إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد ولد لا أب له (قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا) أراد كون الشيء (فإنما يقول له كن فيكون) كما يريد قوله تعالى (ويعلمه الكتاب) قرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب بالياء لقوله تعالى (كذلك الله يخلق ما يشاء) وقيل رده على قوله (إن الله يبشرك) 48 (ويعلمه) وقرأ الآخرون
بالنون على التعظيم كقوله تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك قوله (الكتاب) أي الكتابة والخط (والحكمة) العلم والفقه (والتوراة والإنجيل) علمه الله التوراة والإنجيل
302

سورة آل عمران 49 49 (ورسولا) أي ونجعله رسولا (إلى بني إسرائيل) قيل كان رسولا في حال الصبا وقيل إنما كان رسولا بعد البلوغ وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى عليهما السلام فلما بعث قال (أني) قال الكسائي إنما فتح لأنه أوقع الرسالة عليه وقيل معناه بأني (قد جئتكم بآية) علامة (من ربكم) تصدق قولي وإنما قال بآية وقد أتي بآيات لأن الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة فلما قال ذلك عيسى عليه السلام لبني إسرائيل قالوا وما هي قال (إني) قرأ نافع بكسر الألف على الاستئناف وقرأ الباقون بالفتح على معنى إني (أخلق) أي أصور وأقدر (لكم من الطين كهيئة الطير) قرأ أبو جعفر (كهيئة الطائر) ههنا وفي المائدة والهيئة الصورة المهيأة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وأصلحته (فأنفخ فيه) أي في الطير (فيكون طيرا بإذن الله) قراءة الأكثرين بالجمع لأنه خلق طيرا كثيرا وقرأ أهل المدينة ويعقوب (فيكون طائرا) على الواحد ههنا وفي سورة المائدة ذهبوا إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يخلق غير الخفاش وإنما خص الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا لأن له ثديا وأسنانا وهي تحيض قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق وليعلم أن الكمال لله عز وجل قوله تعالى (وأبرئ الأكمة والأبرص) أي أشفيهما وأصححهما واختلفوا في الأكمه قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة هو الذي ولد أعمى وقال الحسن والسدي هو الأعمى وقال عكرمة هو الأعمش وقال مجاهد هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل والأبرص هو الذي به وضح وإنما خص هذين لأنهما داءان عياءان وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام الطب فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك قال وهب ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ومن لم يطق مشى إليه عيسى وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان قوله تعالى (وأحيي الموتى بإذن الله) قال ابن عباس قد أحيا أربعة أنفس عازر وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح فأما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام أن أخاك عازي يموت وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله تعالى فقام عازر ودكه بقطر فخرج من قبره وبقي وولد له وأما ابن العجوز فإنه مر به ميتا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد
303

سورة آل عمران 50 51 له وأما ابنة العاشر فكان والدها رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله عز وجل فأحياها وبقيت وولدت وأما سام بن نوح عليه السلام فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعا باسم الله الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال قد قامت القيامة قال لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم ثم قال له مت قال بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل قوله تعالى (وأنبئكم) أخبركم (بما تأكلون) مما لم أعاينه (وما تدخرون) ترفعونه (في بيوتكم) حتى تأكلوه وقيل كان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما يكل اليوم وبما ادخره للعشاء وقال السدي كان عيسى عليه السلام في الكتاب يحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم ويقول للغلام انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا وكذا فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون من أخبرك بهذا فيقول عيسى عليه السلام فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا ليسوا ههنا فقال فما في هذا البيت قالوا خنازير قال عيسى كذلك يكونون ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير ففشا ذلك في بني إسرائيل فهمت به بنو إسرائيل فلما خافت عليه أمه حملته على حمار لها وخرجت هاربة إلى مصر وقال قتادة إنما كان هذا في المائدة وكانت خوانا ينزل عليهم أينما كانوا كالمن والسلوى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا للغد فخانوا وخبؤوا للغد فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادخروا منها فمسخهم الله خنازير قوله تعالى (إن في ذلك) الذي ذكرت (لآية لكم إن كنتم مؤمنين) 50 (مصدقا) عطف على قوله (ورسولا) (لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) من اللحوم والشحوم وقال أبو عبيدة أراد بالبعض الكل يعني كل الذي حرم عليكم وقد ذكر البعض ويراد به الكل كقول لبيد (ترك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها) يعني كل النفوس قوله تعالى (وجئتكم بآية من ربكم) يعني ما ذكر من الآيات وإنما وحدها لأنها كلها جنس واحد في الدلالة على رسالته (فاتقوا الله وأطيعون) 51 (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)
304

سورة آل عمران 52 52 (فلما أحس عيسى) أي وجد قاله الفراء وقال أبو عبيدة عرف وقال مقاتل رأى (منهم الكفر) وأرادوا قتله استنصر عليهم (قال من أنصاري إلى الله) وقال السدي (كان سبب ذلك أن عيسى عليه السلام لما بعثه الله تعالى إلى بني إسرائيل وأمره بالدعوة نفته بنو إسرائيل وأخرجوه فخرج هو وأمه يسبحان في الأرض فنزل في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما وكان لتلك المدينة جبار متعد فجاء ذلك الرجل يوما مهتما حزينا فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لها مريم ما شأن زوجك أراه كئيبا قالت لا تسأليني قالت أخبريني لعل الله يفرج كربته قالت إن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يوما أن يطعمه وجنوده ويسقيهم الخمر فإن لم يفعل عاقبه واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة قالت فقولي له لا تهم فإني آمر ابني فيدعو له فيكفي ذلك فقالت مريم لعيسى عليه السلام في ذلك فقال عيسى إن فعلت ذلك وقع شر قالت فلا نبالي فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا فقال عيسى عليه السلام فقولي له إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ففعل ذلك فدعا الله تعالى عيسى عليه السلام فتحول ماء القدر مرقا ولحما وماء الخوابي خمرا لم ير الناس مثله قط فلما جاء الملك أكل فلما شرب الخمر قال من أين هذا الخمر قال من أرض كذل قال الملك فإن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال هي من أرض أخرى فلما خلط على الملك شدد عليه قال فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأنه دعا الله فجعل الماء خمرا ومرقا ولحما وكان للملك ابن يريد أن يستخلف فمات قبل ذلك بأيام وكان أحب الخلق إليه فقال إن رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرا ليجاء به إلي حتى يحيي ابني فدعا عيسى فكلمه في ذلك فقال عيسى لا تفعل فإنه إن عاش وقع شر قال الملك لا أبالي أليس أراه حيا فقال عيسى إن أحييته تتركوني وأمي نذهب حيث
نشاء قال نعم فدعا الله فعاش الغلام فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا إلى السلاح وقالوا أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكل أبوه فاقتتلوا فذهب عيسى وأمه فمر بالحواريين وهم يصطادون السمك فقال ما تصنعون فقالوا نصطاد السمك قال أفلا تمشون حتى نصطاد الناس قالوا من أنت قال عيسى بن مريم عبد الله ورسوله (من أنصاري إلى الله) فآمنوا به وانطلقوا معه قوله تعالى (من أنصاري إلى الله) قال السدي وابن جريج مع الله تعالى تقول العرب الذود إلى الذود أبل أي مع الذود كما قال الله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالك) أي مع أموالكم وقال الحسن وأبو عبيدة (إلى) بمعنى في أي من أعواني في الله أي في ذات الله وسبيل وقيل (إلى) في موضعها معناه من يضم نصرته إلى نصرة الله لي واختلفوا في الحواريين قال مجاهد والسدي كانوا صيادين يصطادون السمك سموا حواريين لبياض ثيابهم
305

سورة آل عمران 53 54 وقيل كانوا ملاحين وقال الحسن كانوا قصارين سموا بذلك لأنهم كانوا يحورون الثياب أي يبيضونها وقال عطاء سلمت مريم عيسى عليه السلام إلى أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر فقال لعيسى إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر لا أرجع إلى عشرة أيام وهذه ثياب مختلفة الألوان وقد علمت كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فأحب أن تكون فارغا منها وقت قدومي وخرج فطبخ عيسى حبا واحدا على لون واحد وأدخل جميع الثياب وقال لها كوني بإذن الله على ما أريد منك فقدم الحواري والثياب كلها في الحب فقال ما فعلت فقال فرغت قال أين هي قال في الحب قال كلها قال نعم قال لقد أفسدت تلك الثياب قال قم فانظر فأخرج عيسى ثوبا أحمر وثوبا أصفر وثوبا أخضر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها فجعل الحواري يتعجب ويعلم أن ذلك من الله فقال الناس تعالوا فانظروا فآمن به هو وأصحابه فهم الحواريون وقال الضحاك سموا حواريين لصفاء قلوبهم وقال ابن المبارك سموا به لما عليهم من أثر العبادة ونورها وأصل الحور عند العرب شدة البياض يقال رجل أحور وامرأة حوراء أي شديدة بياض العين وقال الكلبي عكرمة الحواريون هم الأصفياء وهم كانوا أصفياء عيسى عليه السلام وكانوا اثني عشر رجلا قال روح بن أبي القاسم سألت قتادة عن الحواريين قال هم الذين تصلح لهم الخلافة وعنه أيضا أنه قال الحواريون هم الوزراء وقال الحسن الحواريون الأنصار والحواري ناصر والحوارث في كلام العرب خاصة الرجل الذي يستعين به فيما ينويه أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحميدي أخبرنا سفيان أخبرنا محمد بن المنكدر قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير \ قال سفيان الحواري الناصر قال معمر قال قتادة إن الحواريين كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهم أجمعين (قال الحواريون نحن أنصار الله) أعوان دين الله ورسوله (آمنا بالله واشهد) يا عيسى (بأنا مسلمون) 53 (ربنا آمنا بما أنزلت) من كتابك (واتبعنا الرسول) عيسى (فاكتبنا مع الشاهدين) الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق وقال عطاء مع النبيين لأن كل نبي شاهد أمته وقال ابن عباس رضي الله عنهما مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالبلاغ 54 قوله تعالى (ومكروا) يعني كفار بني إسرائيل الذي أحس عيسى منهم الكفر دبروا في قتل عيسى
306

عليه السلام بعد إخراج قومه إياه وأمه عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطئوا على الفتك به فذلك مكرهم قال الله تعالى (ومكر الله والله خير الماكرين) فالمكر من المخلوقين الخبث والخديعة والحيلة والمكر من الله استدراج العبد وأخذه بغتة من حيث لا يعلم كما قال (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) وقال الزجاج مكر الله عز وجل مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته كقوله تعالى (الله يستهزئ بهم) (وهم خادعهم) ومكر الله تعالى خاصة بهم في هذه الآية وهو إلقاؤه الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى عليه السلام حتى قتل قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عيسى استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة وقذفوه وأمه فلما سمع ذلك عيسى عليه السلام منهم دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله خنازير فلما رأة ذلك يهوذا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السلام وساروا ليقتلوه فبعث الله جبريل فأدخله في خوخة في سقفها روزنة فرفعه إلى السماء من تلك الروزنة فأمر يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له ططيانوس أن يدخل الخوخة ليقتله فلما دخل غرفته لم ير عيسى فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيها فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام فلما خرج ظنوا أنه عيسى عليه السلام فقتلوه وصلبوه قال وب طرقوا عيسى في بعض الليل ونصبوا خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض فأرسل الله الملائكة فحالت بينهم وبينه فجمع عيسى الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكلفت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال لهم ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه ولما دخل البيت ألقى الله عليه شبه عيسى ورفع عيسى وأخذ الذي دلهم علي فقال أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى فلما صلب شبه عيسى جاءت مريم وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى عليه السلام فقال اهبط لهما فقال علام تبكيان إن الله قد رفعني ولم يصبني إلا خير وإن هذا شيء مشبه لهم فلما كان بعد سبعة أيام قال الله عز وجل لعيسى عليه السلام اهبط على مريم المجدلانية اسم موضع في جبلها فإنه لم يبك أحد عليك بكاءها ولم يحزن عليك أحد حزنها وليجتمع لك الحواريون فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل فأهبطه الله عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريون فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله عز وجل إليه وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله تعالى (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) وقال السدي إن اليهود حبسوا عيسى في بيت وعشرة من الحواريين فدخل عليهم رجل منهم ليقتله فألقى الله عليه شبهه وقال قتادة ذكر لنا أن نبي الله عيسى عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول فقال رجل من القوم أنا يا نبي الله فقتل ذلك
الرجل ومنع الله عيسى عليه السلام ورفعه إليه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة
307

سورة آل عمران 55 فهو معهم حول العرش وصار إنسيا ملكيا سمائيا أرضيا قال أهل التاريخ حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة وولدت عيسى ببيت لحم من أرض أورى شلم لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل فأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين وعاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين فتوفيت مريم عليها السلام وهي بنت اثنين وخمسين سنة 55 (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) اختلفوا في بعض التوفي ههنا قال الحسن والكلبي وابن جريج إني قابضك ورافعك في الدنيا إلي من غير موت يدل عليه قوله تعالى (فلما توفيتني) أي قبضتني إلى السماء وأنا حي لأن قومه إنما تنصروا بعد رفعه لا بعد موته فعلى هذا للتوفي تأويلان أحدهما إني رافعك إلي وافيا لم ينالوا منك شيئا من قولهم توفيت من كذا وكذا واستوفيته إذا أخذته تاما والآخر إني مستلمك من قولهم توفيت منه كذا أي تسلمته وقال الربيع بن أنس المراد بالتوفي النوم وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائما إلى السماء معناه إني منيمك ورافعك إلي كما قال الله تعالى (وهو الذي يتوفاكم بالليل) أي ينيمكم بالليل وقال بعضهم المراد بالتوفي الموت وروى علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه إني مميتك يدل عليه قوله تعالى (قل يتوفاكم ملك الموت) فعلى هذا له تأويلان أحدهما ما قاله وهب توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه الله إليه وقال محمد بن إسحاق إن النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه إليه والآخر ما قاله الضحاك وجماعة أن في هذه الآية تقديما وتأخيرا معناه إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك من السماء أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ والذي نفس محمد بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضح الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله \ وما أقول ويرى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه السلام قال \ وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ويهلك الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون \ وقيل للحسين بن الفضل هل تجدون نزول عيسى في القرآن قال نعم قوله (وكهلا) وهو لم يكتهل في الدنيا وإنما معناه (وكهلا) بعد نزوله من السماء قوله تعالى (ومطهرك من الذين كفروا) أي مخرجك من بينهم ومنجيك منهم (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم
308

سورة آل عمران 56 59 القيامة) قال قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي هم أهل الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينه في التوحيد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهو فوق الذين كفروا ظاهرين قاهرين بالعزة والمنعة والحجة وقال الضحاك يعني الحواريين فوق الذين كفروا وقيل هم أهل الروم وقيل أراد بهم النصارى أي فهم فوق اليهود إلى يوم القيامة فإن اليهود قد ذهب ملكهم وملك النصارى دائم إلى قريب من قيام الساعة فعلى هذا يكون الاتباع بمعنى الادعاء يكون الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين (ثم إلي مرجعكم) في الآخرة (فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) من الدين وأمر عيسى 56 (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا) بالقتل والسبي والجزية والذلة (والآخرة) أي وفي الآخرة بالنار (وما لهم من ناصرين) 57 (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم) قرأ ورش والحسن وحفص بالياء والباقون بالنون أي يوفيهم أجور أعمالهم (والله لا يحب الظالمين) أي لا يرحم الكافرين ولا يثني عليهم بالجميل 58 (ذلك) أي هذا الذي ذكرته لك من الخبر عن عيسى ومريم والحواريين (نتلوه عليك) يعني نخبرك به بتلاوة جبريل عليك (من الآيات والذكر الحكيم) يعني القرآن والذكر ذي الحكمة وقال مقاتل الذكر الحكيم أي المحكم الممنوع من الباطل وقيل الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ وهو معلق بالعرش من درة بيضاء وقيل من الآيات أي من العلامات الدالة على نبوتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ كتاب الله أو من يوحى إليه وأنت أمي لا تقرأ 59 (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) الآية نزلت في وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالك تشتم صاحبنا قال وما أقول قالوا تقول إنه عبد الله قال \ أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول \ فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا قط من غير أب فأنزل الله تعالى هذه الآية (إن مثل عيسى عند الله) في كونه خلقه من غير أب كمثل آدم لأنه خلق من غير أب وأم (خلقه من تراب ثم قال له) يعني لعيسى عليه السلام (كن فيكون) يعني فكان فإن قيل ما معنى قوله (خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) خلقا ولا تكوين بعد الخلق قيل معناه ثم أخبركم أني قلت له كن فكان من غير ترتيب في الخلق كما يكون في الولادة وهو مثل قول الرجل أعطيتك اليوم
309

سورة آل عمران 60 61 درهما ثم أعطيتك أمس درهما أي ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهما وفيما سبق من التمثيل دليل على جواز القياس لأن القياس هو رد فرع إلى أصل بنوع شبه وقد رد الله تعالى خلق عيسى إلى آدم عليهم السلام بنوع شبه 60 قوله تعالى (الحق من ربك) أي هو الحق وقيل جاءك الحق من ربك (فلا تكن من الممترين) أي الشاكين الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته قوله عز وجل (فمن حاجك فيه) أي جادلك في أمر عيسى وفي الحق (من بعد ما جاءك من العلم) بأن عيسى عبد الله ورسوله (فقل تعالوا) أصله تعاليوا تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت قال الفراء بمعنى تعال كأنه يقول ارتفع (ندع) جزم لجواب الأمر وعلامة الجزم سقوط الواو (أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) قيل أبناءنا الحسن والحسين ونساءنا فاطمة وأنفسنا عنى نفسه وعليا رضي الله عنه والعرب تسمي ابن عم الرجل نفسه كما قال الله تعالى (ولا تلمزوا أنفسكم) يريد إخوانكم وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين (ثم نبتهل) قال ابن عباس رضي الله عنهما أي نتضرع في الدعاء وقال الكلبي نجتهد ونبالغ في الدعاء وقال الكسائي وأبو عبيدة نبتهل والابتهال الإلتعان يقال عليه بهلة الله أي لعنته (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) منا ومنكم في أمر عيسى فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غدا فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى قال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل والله ما لاعن قوم نبيا قط
فعاش كبيرهم ونبت صغيرهم ولئن فعلتم ذلك لتهلكن فإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضنا للحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول لهم إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا فقال فإني أنابذكم فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا أن نؤدي إليك كل عام
310

سورة آل عمران 62 64 ألفي حلة ألفا في صفر وألفا في رجب فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا \ 62 قال الله تعالى (إن هذا لهو القصص الحق) النبأ الحق (وما من إله إلا الله) و (من) صلة تقديره وما إله إلا الله (وإن الله لهو العزيز الحكيم) 63 (فإن تولوا) أعرضوا عن الإيمان (فإن الله عليم بالمفسدين) الذين يعبدون غير الله ويدعون الناس إلى عبادة غير الله 64 (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) الآية قال المفسرون قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم عليه السلام فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وهم على دينه وأولى الناس به وقالت اليهود بل كان يهوديا وهم على دينه وأولى الناس به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا الفريفين بريء من إبراهيم ودينه بل كان حنيفا مسلما وأنا على دينه وأولى الناس به فاتبعوا دينه الإسلام فقالت اليهود يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا وقالت النصارى يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير فأنزل الله تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة) والعرب تسمي كل قصة لها شرح (كلمة) ومنه سميت القصيدة (كلمة) سواء عدل بيننا وبينكم مستوية أي أمر مستو يقال دعا فلان إلى السواء أي إلى النصفة وسواء كل شيء وسطه ومنه قوله تعالى (فرآه في سواء الجحيم) وإنما قيل (للنصفة سواء) لأن أعدل الأمور أفضلها وأوسطها سواء نعت لكلمة إلا أنه مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث فإذا فتحت السين مددت وإذا كسرت أو ضمت قصرت كقوله تعالى (مكانا سوى) ثم فسر الكلمة فقال (أن لا نعبد إلا الله) ومحل (أن) رفع على إضمار (هي) وقال الزجاج رفع بالابتداء وقيل محله نصب بنزع حرف الصلة معناه بأن لا نعبد إلا الله وقيل محله خفض بدلا من
311

سورة آل عمران 65 66 الكلمة أي تعالوا إلى كلمة أن لا نعبد إلا الله (ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) كما فعلت اليهود والنصارى قال الله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) وقال عكرمة هو سجود بعضهم لبعض أي لا نسجد لغير الله وقيل معناه لا نطيع أحدا في معصية الله (فإن تولوا فقولوا اشهدوا) أي فقولوا أنتم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم لهم اشهدوا (بأنا مسلمون) مخلصون بالتوحيد أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو اليمان الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهو بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية بن خليفة الكلبي وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و (يا أهل الكتاب تعالى إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) 65 قوله تعالى (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم) تزعمون أنه كان على دينكم وإنما دينكم اليهودية والنصرانية وقد حدثت اليهودية بعد نزول التوراة والنصرانية بعد نزول الإنجيل (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) أي بعد إبراهيم بزمان طويل وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة (أفلا تعقلون) بطلان قولكم 66 قوله تعالى (ها أنتم) بتليين الهمزة حيث كان مدني وأبو عمرو والباقون بالهمزة واختلفوا في أصله فقال بعضهم أصله أنتم وهاء تنبيه وقال الأخفش أصله أأنتم فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم هرقت الماء وأرقت (هؤلاء) أصله أولاء دخلت عليه هاء التنبيه وهو موضع النداء يعني يا هؤلاء أنتم (حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) يعني في أمر موسى وعيسى وادعيتم أنكم على دينهما وقد أنزلت التوراة والإنجيل عليكم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وليس في كتابكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا وقيل حاججتم فيما لكم به علم يعني في أمر محمد
312

سورة آل عمران 67 68 صلى الله عليه وسلم لأنهم وجدوا نعته في كتابهم فجادلوا فيه بالباطل فلم تحاجون في إبراهيم وليس في كتابكم ولا علم لكم به (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) ثم برأ الله تعالى إبراهيم عما قالوا فقال 67 (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) والحنيف المائل عن الأديان إلى الدين المستقيم وقيل الحنيف الذي يوحد ويحج ويضحي ويختتن ويستقبل الكعبة وهو أسهل الأديان وأحبها إلى الله عز وجل 68 قوله تعالى (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) أي من اتبعه في زمانه وملته بعده (وهذا النبي) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم (والذين آمنوا) يعني من هذه الأمة (والله ولي المؤمنين) روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة وقالوا إن لنا في الذين هم عند النجاشي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثأرا ممن قتل منكم ببدر فاجمعوا مالا واهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب
لذلك رجلان من ذوي رأيكم فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد أو عمارة بن أبي معيط مع الهدايا الأدم وغيره فركبا البحر وأتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له إن قومنا لك ناصحون شاكرون ولأصحابك محبون وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء وإنا كنا قد ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد ولا يخرج منهم أحد فقتلهم الجوع والعطش فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم وقالا وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك قال فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله فقال النجاشي مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر فقال النجاشي نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك فقال لهم النجاشي ما منعكم أن تسجدوا إلي وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق قالوا نسجد لله الذي خلقك وملكك وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان فبعث الله فينا نبيا صادقا وأمرنا
313

بالتحية التي رضيها الله وهي السلام تحية أهل الجنة فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل قال أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله قال جعفر أنا قال فتكلم قال إنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا فقال عمرو لجعفر تكلم فقال جعفر للنجاشي سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار كرام فإن كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم فقال النجاشي أعبيد هم أم أحرار فقال عمرو بل أحرار كرام فقال النجاشي نجوا من العبودية ثم قال جعفر سل هل أهرقنا دما بغير حق فيقتص منا فقال عمرو لا ولا قطرة فقال جعفر سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها قال النجاشي إن كان قنطارا فعلي قضاؤه فقال عمرو لا ولا قيراطا قال النجاشي فما تطلبون منهم قال عمرو كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا فتركوا ذلك واتبعوا غيره فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا فقال النجاشي ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه أصدقني فقال جعفر أما الدين الذين كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة وأما الذي تحولنا إليه فدين الله الإسلام جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب عيسى بن مريم موافقا له فقال النجاشي يا جعفر لقد تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك ثم أمر النجاشي فضرب بالناقوس فاجتمع عليه كل قسيس وراهب فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبي مرسل فقالوا اللهم نعم قد بشرنا به عيسى وقال من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي فقال النجاشي لجعفر ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه فقال يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ويأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له فقال اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع وقالوا زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال إنهم يشتمون عيسى وأمه فقال النجاشي ما تقولون في عيسى وأمه فقرأ جعفر عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر مريم وعيسى عليهما السلام رفع النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين فقال والله ما زاد المسيح على ما تقولون مثل هذا ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو آذاكم غرم ثم قال أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم قال عمرو يا نجاشي ومن حزب إبراهيم قال هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤوا من عنده ومن تبعهم فأنكر ذلك المشركون وادعوا دين إبراهيم ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال إنما هديتكم إلي رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة قال جعفر فانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار وأنزل الله تعالى في ذلك اليوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومتهم في إبراهيم وهو بالمدينة (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)
314

سورة آل عمران 69 72 69 قوله عز وجل (ودت طائفة من أهل الكتاب) نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم فنزلت (ودت طائفة) أي تمنت جماعة من أهل الكتاب يعني اليهود (لو يضلونكم) يستزيلونكم عن دينكم ويردونكم إلى الكفر (وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) 70 (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله) يعني القرآن وبيان نعت محمد صلى الله عليه وسلم (وأنتم تشهدون) أن نعته في التوراة والإنجيل مذكور 71 (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل) تخلطون الإسلام باليهودية والنصرانية وقيل لم تخلطون الإيمان بعيسى عليه السلام وهو الحق بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الباطل وقيل لم تخلطون التوراة التي أنزلت على موسى بالباطل الذي حرفتموه وكتبتموه بأيديكم (وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) أن محمدا صلى الله عليه وسلم ودينه حق 72 (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا) الآية قال الحسن وقتادة والسدي تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة وقال بعضهم لبعض ادخلوا في دين محمد صلى الله عليه وسلم أول النهار باللسان دون الاعتقاد ثم اكفروا آخر النهار وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ليس هو بذلك المنعوت وظهر لنا كذبه فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم واتهموه فقالوا إنهم أهل كتاب وهم أعلم منا به فيرجعون عن دينهم وقال مجاهد ومقاتل والكلبي هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا فأطلع الله تعالى رسوله على سرهم وأنزل (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا) (بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) أوله سمي وجها لأنه أحسنه وأول ما يواجه الناظر فيراه (واكفروا آخره لعلهم يرجعون) فيشكون ويرجعون عن دينهم
315

سورة آل عمران 73 73 (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) هذا متصل بالأول من قول اليهود بعضهم لبعض ولا تؤمنوا أي ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم أي وافق ملتكم واللام في (من) صلة أي لا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم اليهودية كقوله تعالى (قل عسى أن يكون ردف لكم) أي ردفكم (قل إن الهدى هدى الله) هذا خبر من الله تعالى
أن البيان بيانه ثم اختلفوا فيه فمنهم من قال هذا كلام معترض بين كلامين وما بعده متصل بالكلام الأول إخبار عن قول اليهود لبعض ومعناه ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والكتاب والحكمة والآيات من المن والسلوى وفلق البحر وغيرها من الكرامات ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنكم أصح دينا منهم وهذا معنى قول مجاهد وقيل إناليهود قالت لسفلتهم ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) من العلم أي لئلا يؤتى أحد و (لا) فيه مضمرة كقوله تعالى (يبين الله لكم أن تضلوا) أي لئلا تضلوا يقولون لا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فيكون لكم الفضل عليهم في العلم أو لئلا يحاجوكم عند ربكم فيقولوا عرفتم أن ديننا حق وهذا معنى قول ابن جريج وقرأ الحسن والأعمش (أن يؤتى) بكسر الألف فيكون قول اليهود تاما عند قوله إلا لمن تبع دينكم وما بعده من قول الله تعالى يقول قل يا محمد (إن الهدى هدى الله) أن يؤتي (أن) بمعنى الجحد أي ما يؤتي أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم (أو يحاجوكم عند ربكم) يعني إلا ن يجادلوكم اليهود بالباطل فيقولوا نحن أفضل منكم فقوله عز وجل (عند ربكم) أي عند فعل ربكم بكم وهذا معنى قول سعيد بن جبير والحسن والكلبي ومقاتل وقال الفراء ويجوز أن يكون (أو) بمعنى حتى كما يقال تعلق به أو يعطيك حقك ومعنى الآية ما أعطي أحد مثل ما أعطيتم يا أمة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم وقرأ ابن كثير (آن يؤتى) بالمد على الاستفهام وحينئذ يكون فيه اختصار تقديره أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونه ولا تؤمنون به هذا قول قتادة والربيع قالا هذا من قول الله تعالى يقول قل لهم يا محمد إن الهدى هدى الله بأن أنزل كتابا مثل كتابكم وبعث نبيا حسدتموه وكفرتم به (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) قوله (أو يحاجوكم) على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين وتكون (أو) بمعنى (أن) لأنهما حرفا شرط وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر أي وإن يحاجوكم يا معشر المؤمنين حسدوكم فقل إن الفضل بيد الله وإن حاجوكم فقل (إن الهدى هدى الله) ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله (لعلهم يرجعون) وقوله
316

سورة آل عمران 74 75 تعالى (ولا تؤمنوا) من كلام الله يثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم ويقول لا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا لمن اتبع دينكم ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والدين والفضل ولا تصدقوا أن يحاجوكم في دينكم عند ربكم أي يقدروا على ذلك فإن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم فتكون الآية كلها خطاب الله للمؤمنين عند تلبيس اليهود لئلا يرتابوا 74 قوله (يختص برحمته) أي بنبوته (من يشاء والله ذو الفضل العظيم) 75 قوله تعالى (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) الآية نزلت في اليهود أخبر الله تعالى أن فيهم أمانة وخيانة والقنطار عبارة عن المال الكثير والدينار عبارة عن المال القليل يقول منهم من يؤدي الأمانة وإن كثرت ومنهم من لا يؤديها وإن قلت قال مقاتل (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليه) هم مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليه) يعني كفار اليهود ككعب بن الأشرف وأصحابه وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله عز وجل (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) يعني عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداها إليه (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) يعني فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش دينارا فخانه قوله (يؤده إليك) قرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة (يؤده) و (لا يؤده) و (نصله) و (نؤته) و (نوله) ساكنة الهاء وقرأ أبو جعفر وقالون ويعقوب بالاختلاس كسرا والباقون بالاشباع كسرا فمن سكن الهاء قال لأنها وضعت في موضع الجزم وهو الياء الذاهبة ومن اختلس فاكتفى بالكسرة عن الياء ومن أشبع فعلى الأصل لأن الأصل في الهاء الإشباع (إلا ما دمت عليه قائما) قال ابن عباس ملحا يريد يقوم عليه يطالبه بالإلحاح وقال الضحاك مواظبا أي تواظب عليه بالاقتضاء وقيل أراد أودعته ثم استرجعته وأنت قائم على رأسه ولم تفارقه رده إليك فإن فارقته وأخرته أنكره ولم يؤده (ذلك) أي ذلك الاستحلال والخيانة (بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) أي في مال العرب إثم وحرج كقوله تعالى (ما على المحسنين من سبيل) وذلك بأن اليهود قالوا أموال العرب حلال لنا لأنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم وقال الكلبي قالت اليهود إن الأموال كلها كانت لنا
317

سورة آل عمران 76 77 فيما في يد العرب منها فهو لنا وإنما ظلمونا وغصبونا فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم وقال الحسن وابن جريج ومقاتل بايع اليهود رجالا من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا ليس لكم علينا حق ولا عندنا قضاء لأنكم تركتم دينكم وانقطع العهد بيننا وبينكم وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتبهم فكذبهم الله عز وجل وقال عز من قائل (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) ثم قال ردا عليهم 76 (بلى) أي ليس كما قالوا بل عليهم سبيل ثم ابتدأ فقال (من أوفى) أي ولكن من أوفى (بعهده) أي بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأداء الأمانة وقيل الهاء في عهده راجعة إلى الموفي (واتقى) الكفر الخيانة ونقض العهد (فإن الله يحب المتقين) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا قبيصة بن عقبة أنا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر \ 77 قوله تعالى (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) قال عكرمة نزلت في رؤوس اليهود كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا أنه من عند الله لئلا يفوتهم المآكل والرشا التي كانت لهم من أتباعهم أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا موسى بن إسماعيل أنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من حلف علي يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان \ فأنزل الله تعالى تصديق ذلك (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) إلى آخر الآية فدخل الأشعث بن قيس فقال ما يحدثكم أبو عبد الرحمن فقالوا كذا وكذا فقال في أنزلت كانت لي بئر في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال \ هات بينتك أو يمينه \ قلت إذا
يحلف عليها يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان \ أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا قتيبة بن سعيد أنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب
318

عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي فقال الكندي هي أرض في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي ألك بينة قال لا قال فلك يمينه قال يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما يحلف عليه قال ليس لك منه إلا ذلك فانطلق ليحلف له فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أمالئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض \ ورواه عبد الملك بن عمير عن علقمة وقال هو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان وروى لما هم أن يحلف نزلت هذه الآية فامتنع امرؤ القيس أن يحلف وأقر لخصمه بحقه ودفعه إليه أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي أنا أبو مصعب عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن سعيد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار \ قالوا وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال \ وإن كان قضيبا من أراك \ قالها ثلاث مرات أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمرو بن محمد أنا هشيم بن محمد أنا العوام بن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها مالم يعط ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) قوله تعالى (إن الذين يشترون) أي يستبدلون بعهد الله وأراد الأمانة وأيمانهم الكاذبو ثمنا قليلا أي شيئا قليلا من حطام الدنيا (أولئك لا خلاق لهم) لا نصيب لهم (في الآخرة) ونعيمها (ولا يكلمهم الله) كلاما ينفعهم ويسرهم وقيل هو بمعنى الغضب كما يقول الرجل إني لا أكلم فلانا إذا كان غضب عليه (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) أي لا يرحمهم ولا يحسن إليهم ولا ينيلهم خيرا (ولا يزكيهم) أي لا يثني عليهم بالجميل ولا يطهرهم من الذنوب (ولهم عذاب أليم) أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغفار بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد أنا سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا محمد بن جعفر عن شعبة عن علي بن مدرك عن أبي زرعة عن خرشة بن الحر عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم \ قال قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال \ المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب \ في رواية المسبل إزاره أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أسيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي أنا أبو نصر محمد بن حمدويه المروزي أنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل حلف يمينا على مال مسلم فاقتطعه ورجل حلف على يمين كاذبة بعد صلاة العصر أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهوكاذب ورجل منع فضل ماله فإن الله تعالى يقول اليوم أمنعك فضل ما لم تعمل يداك \
319

سورة آل عمران 78 79 78 قوله تعالى (وإن منهم لفريقا) يعني من أهل الكتاب لفريقا أي طائفة وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وأبو ياسر وشعبة بن عمرو الشاعر (يلوون ألسنتهم بالكتاب) أي يعطفون ألسنتهم بالتحريف والتغيير وهو ما غيروا من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك يقال لوى لسانه عن كذا أي غيره (لتحسبوه) أي لتظنوا ما حرفوا (من الكتاب) الذي أنزله الله تعالى (وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب) عمدا (وهم يعلمون) أنهم كاذبون وقال الضحاك عن ابن عباس إن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه 79 قوله تعالى (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب) الآية قال مقاتل والضحاك ما كان لبشر يعني عيسى عليه السلام وذلك أن نصارى نجران كانوا يقولون إن عيسى أمرهم أن يتخذوه ربا فقال تعالى (ما كان لبشر) يعني عيسى (أن يؤتيه الله الكتاب) أي الإنجيل وقال ابن عباس وعطاء (ما كان لبشر) يعني محمدا (أن يؤتيه الله الكتاب) أي القرآن وذلك أن أبا رافع القرظي من اليهود والرئيس من نصارى أهل نجران قالا يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك ربا فقال معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله وما بذلك أمرني الله وما بذلك بعثني فأنزل الله تعالى هذه الآية (ما كان لبشر) أي ما ينبغي لبشر كقوله تعالى (ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) أي ما ينبغي لنا والبشر جميع بني آدم لا واحد له من لفظه كالقوم والجيش ويوضع موضع الواحد والجمع (أن يؤتيه الله الكتاب والحكم) الفهم والعلم وقيل إمضاء الحكم عن الله عز وجل (والنبوة) المنزلة الرفيعة بالإنباء (ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا) أي ولكن يقول كونوا (ربانيين) اختلفوا فيه قال علي وابن عباس والحسن كونوا فقهاء علماء وقال قتادة حكماء وعلماء وقال سعيد بن جبير العالم الذي يعمل بعلمه وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس فقهاء معلمين وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره وقال عطاء حكماء وعلماء ونصحاء لله في خلقه قال أبو عبيدة سمعت رجلا عالما يقول الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي العارف بأنباء الأمة ما كان وما يكون وقيل الربانيون فوق الأحبار والأحبار فوق العلماء والربانيون
320

سورة آل عمران 80 81 الذين جمعوا مع العلم البصائر بسياسة الناس قال المؤرخ كونوا ربانيين تدينون لربكم من الربوبية كان في الأصل ربي فأدخلت الألف للتفخيم ثم أدخلت النون لسكون الألف كما قيل صنعاني وبهراني وقال المبرد هم أرباب العلم سموا به لأنهم يربون العلم ويقومون به ويربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها وكل من قام بإصلاح الشيء وإتمامه فقد ربه يربه واحدها ربان كما قالوا ريان وعطشان وشبعان وغرثان ثم ضمت إليه ياء النسبة كما يقال الحياني ورقباني وحكي عن علي رضي الله عنه أنه قال هو الذي يربي علمه بعمله قال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس اليوم مات رباني هذه الأمة (بما كنتم) أي بما أنتم كقوله تعالى (من كان في
المهد صبيا) أي من هو في المهد (تعلمون الكتاب) قرأ ابن عامر وعاصم والكسائي (تعلمون) بالتشديد من التعليم وقرأ الآخرون (تعلمون) بالتخفيف من العلم كقوله (وبما كنتم تدرسون) أي تقرؤون 80 قوله (ولا يأمركم) قرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب بنصب الراء عطفا على قوله ثم يقول فيكون مردودا على البشر أي ولا يأمر ذلك البشر وقيل على إضمار (أن) أي ولا أن يأمركم ذلك البشر وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف معناه ولا يأمركم الله وقال ابن جريج وجماعة ولا يأمركم محمد (أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا) كفعل قريش والصابئين حيث قالوا الملائكة بنات الله واليهود والنصارى حيث قالوا في المسيح وعزير ما قالوا (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) قالوا له على طريق التعجب والإنكار يعني لا يقوله هذا 81 قوله عز وجل (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) قرأ حمزة (لما) بكسر اللام وقرأ الآخرون بفتحها فمن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما الموصولة ومعناه أن الذي يريد للذي آتيتكم أي أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي آتاهم من الكتاب والحكمة وأنهم أصحاب الشرائع ومن فتح اللام فمعناه للذي آتيتكم بمعنى الخبر وقيل بمعنى الجزاء أي لئن آتيتكم ومهما آتيتكم وجواب الجزاء قوله (لتؤمنن به) قوله (لما آتيتكم) قرأ نافع وأهل المدينة (آتيناكم) على التعظيم كما قال (وآتينا داوود زبورا) (وآتيناه الحكم صبيا) وقرأ الآخرون بالتاء لموافقة الخط ولقوله (وإنا معكم) واختلفوا في المعنى بهذه الآية فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ
321

سورة آل عمران 82 83 الميثاق على النبيين خاصة أن يبلغوا كتاب الله ورسالته إلى عباده وأن يصدق بعضهم بعضا وأخذ العهود على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه فإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركه فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال الآخرون بما أخذ الله الميثاق منهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فعلى هذا اختلفوا فمنهم من قال إنما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل منهم النبيين وهذا قول مجاهد والربيع ألا ترى إلى قوله (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين يدل عليه أن في قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) وإنما القراءة المعروفة (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين) فأراد أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق إلى أممهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه وينصروه إن أدركوه وقال بعضهم أراد أخذ الله المياث على النبيين وأممهم جميعا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد على المتبوع عهد على الاتباع وهذا معنى قول ابن عباس وقال علي بن أبي طالب لم يبعث الله نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه الميثاق والعهد في أمر محمد وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه قوله (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم (لتؤمنن به ولتنصرنه قال) يقول الله تعالى للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم عليه السلام والأنبياء فيهم كالمصابيح والسرج وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم (أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري) أي قبلتم على ذلكم عهدي والإصر العهد الثقيل (قالوا أقررنا قال) الله تعالى (فاشهدوا) أي فاشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم (وأنا معكم من الشاهدين) عليكم وعليهم وقال ابن عباس فاشهدوا أي فاعلموا وقال سعيد بن المسيب قال الله تعالى للملائكة فاشهدوا عليهم كناية عن غير مذكور 82 (فمن تولى بعد ذلك) الإقرار (فأولئك هم الفاسقون) العاصون الخارجون عن الإيمان 83 قوله عز وجل (أفغير دين الله يبغون) وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فادعى كل واحد أنه على دين إبراهيم عليه السلام واختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم عليه السلام \ فغضبوا وقالوا لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فأنزل الله تعالى (أفغير دين الله يبغون) قرأ أهل البصرة وحفص عن عاصم (يبغون) بالياء لقوله تعالى (وأولئك هم الفاسقون) وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى (لما آتيتكم) (وله أسلم) خضع وانقاد (من في السماوات
322

سورة آل عمران 84 86 والأرض طوعا وكرها) فالطوع الانقياد والاتباع بسهولة والكره ما كان بمشقة وإباء من النفس واختلفوا في قوله (طوعا وكرها) قال الحسن أسلم أهل السماوات طوعا وأسلم من في الأرض بعضهم طوعا وبعضهم كرها خوفا من السيف والسبي وقال مجاهد طوعا المؤمن وكرها ذلك الكافر بدليل (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) وقيل هذا يوم الميثاق حين قال لهم (ألست بربكم قالوا بلى) فقال بعضهم طوعا وبعضهم كرها وقال قتادة المؤمن من أسلم طوعا فنفعه الإيمان والكافر أسلم كرها في وقت اليأس فلم ينفعه الإسلام قال الله تعالى (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) وقال الشعبي هو استعاذتهم به عند اضطرارهم كما قال الله تعالى (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) وقال الكلبي طوعا الذي ولد في الإسلام وكرها الذين أجبروا على الإسلام ممن يسبى منهم فيجاء بهم في السلاسل فيهما إلا أبو عمرو فإنه قرأ (يبغون) بالياء و (ترجعون) بالتاء قال لأن الأولى خاص والثاني عام لأن مرجع جميع الخلق إلى الله عز وجل 84 قوله تعالى (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحث ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) ذكر الملل والأديان واضطراب الناس فيها ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول آمنا بالله الآية 85 قوله (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) نزلت في اثني عشر رجلا ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا منهم الحارث بن سويد الأنصاري فنزلت فيهم (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) 86 (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) لفظة استفهام ومعناه جحد أي لا يهدي الله وقيل معناه كيف يهديهم الله في الآخرة إلى الجنة والثواب (وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين)
323

سورة آل عمران 87 90 87 (أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) 88 (خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) وذلك أن الحارث بن سويد لما لحق بالكفار ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ففعلوا فأنزل الله تعالى 89 (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) لما كان منه فحملها إليه رجل من قومه وقرأها عليه فقال الحارث إنك والله فيما علمت لصدوق وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله عز وجل لأصدق الثلاثة فرجع الحارث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه 90 قوله عز وجل (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا) قال قتادة والحسن
نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقال أبو العالية نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم ثم ازدادوا كفرا يعني ذنوبا في حال كفرهم قال مجاهد نزلت في جميع الكفار أشركوا بعد إقرارهم بأن الله خالقهم ثم ازدادوا كفرا أي أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه قال الحسن ثم ازدادوا كفرا كلما نزلت آية كفروا بها فازدادوا كفرا وقيل ثم ازدادوا كفرا بقولهم نتربص بمحمد ريب المنون قال الكلبي نزلت في أحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد لما رجع الحارث إلى الإسلام أقاموا هم على الكفر بمكة وقالوا نقيم على الكفر ما بدا لنا فمتى أردنا الرجعة نزل فينا ما نزل في الحارث فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فمن دخل منهم في الإسلام قبلت توبته ونزل فيمن مات منهم كافرا (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) الآية فإن قيل قد وعد الله قبول توبة من تاب فما معنى قوله (لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) قيل لن لن تقبل توبتهم إذا رجعوا في حال المعاينة كما قال (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) وقيل هذا في أصحاب الحارث بن سويد حيث أعرضوا عن الإسلام وقالوا نتربص بمحمد ريب المنون فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه لن تقبل توبتهم لن يقبل ذلك لأنهم متربصون غير محققين وأولئك هم الضالون
324

سورة آل عمران 91 92 91 قوله عز وجل (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض) أي قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها (ذهبا) نصب على التفسير كقولهم عشرون درهما (ولو افتدى به) قيل معناه لو افتدى به والواو زائدة مقحمة (أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن بشار أخبرنا شعبة عن أبي عمران قال سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ يقول الله لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة أرأيت لو أن لك ما في الأرض جميعا من شيء أكنت تفدي به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من ذلك وأنت صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي \ 92 قوله تعالى (لن تنالوا البر) يعني الجنة قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقال مقاتل بن حيان التقوى وقيل الطاعة وقيل الخير وقال الحسن لن تكونوا أبرارا أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن حماد الصالحي قال أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإنالبر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا \ قوله تعالى (حتى تنفقوا مما تحبون) أي من أحب أموالكم إليكم روى الضحاك عن ابن عباس أن المراد منه أداء الزكاة وقال مجاهد والكلبي هذه الآية نسختها آية الزكاة وقال الحسن كل إنفاق يبتغي به المسلم وجه الله حتى الثمرة ينال به هذا البر وقال عطاء لن تنالوا البر أي شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول كان أبو طلحة الأنصاري أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب ماله إليه بيرحا وكان مستقبلة المسجد وكان رسو لالله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس فلما نزلت هذه الآية (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتاب (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وإن أحب أموالي إلي بيرحا وإنها صدقة لله أرجوا برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث
325

سورة آل عمران 93 شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بخ بخ ذلك مال رابح أو قال ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت فيها وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه وروي عن مجاهد قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت فدعا بها فأعجبته فقال عمر إن الله عز وجل يقول (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) فأعتقها عمر وعن حمزة بن عبد الله بن عمر قال خطرت على قلب عبد الله بن عمر هذه الآية (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قال ابن عمر فذكرت ما أعطاني الله عز وجل فما كان شيء أعجب إلي من فلانة هي حرة لوجه الله تعالى قال ولولا أنني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها (وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) أي يعلمه ويجازي به 93 قوله تعالى (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة) سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها فلست على ملته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ كان ذلك حلالا لإبراهيم عليه السلام \ فقالوا كل ما نحرمه اليوم كان ذلك حراما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) يريد سوى الميتة والدم فإنه لم يكن حلالا قط إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وهو يعقوب عليه السلام من قبل أن تنزل التوراة يعني ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإبل وألبانها على إبراهيم بل كان الكل حلالا له ولبني إسرائيل وإنما حرمها إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة يعني ليست في التوراة حرمتها واختلفوا في الطعام الذي حرمه يعقوب على نفسه وفي سببه قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبي كان ذلك الطعام لحمان الإبل وألبانها وروي أن يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه فندر لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها فحرمهما وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك هي العروق وكان السبب في ذلك أنه اشتكى عرق النسا وكان أصل وجعه فيما روى جويبر عن الضحاك أن يعقوب كان نذر إن وهبه الله اثنى عشر ولدا أتى من بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة فقال يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع فصارعه فلم يصرع واحد منهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ثم قال له الملك أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولدك فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجا فلما قدمها يعقوب أراد ذبح ولده ونسي ما قال له الملك فأتاه الملك وقال إنما غمزتك للمخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل
326

سورة آل عمران 94 96 لك إلى ولدك وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو وكانر جلا بطشا قويا فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب ثم صعد إلى السماء ويعقوب عليه السلام ينظر إليه فهاج به عرق النسا ولقي من ذلك بلاء وشدة وكان لا ينام بالليل من الوجع ويبيت وله زقاء أي صياح فحلف يعقوب لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقا ولا طعاما فيه عرق فحرمه على نفسه فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق ويخرجونها من اللحم وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس لما أصاب يعقوب عرق النس وصف له الأطباء أن يجتنب لحم الإبل فحرمها يعقوب على نفسه وقال الحسن حرم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبدا لله تعالى فسأل ربه أن يجيز له ذلك فحرمها الله على ولده ثم اختلفوا في هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة فقال السدي حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا يحرمونه قبل نزولها وقال عطية إنما كان محرما عليهم بتحريم إسرائيل فإنه قد قال إن عافاني الله لا آكله ولا يأكله ولد لي ولم يكن محرما عليهم في التوراة وقال الكلبي لم يحرمه الله عليهم في التوراة وإنما حرم عليهم بعد التوراة بظلمهم كما قال الله تعالى (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) وقال الله تعالى (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) إلى أن قال (ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله عليهم طعاما طيبا أو صب عليهم رجزا وهو الموت وقال الضحاك لم يكن شيء من ذلك حراما عليهم ولا حرمه الله في التوراة وإنما حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم ثم أضافوا تحريمه إلى الله فكذبهم الله عز وجل فقال (قل) يا محمد (فأتوا بالتوراة فاتلوها) حتى يتبين لكم أنه كما قلت (إن كنتم صادقين) فلم يأتوا فقال الله عز وجل 94 (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون) 95 (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) وإنما دعاهم إلى اتباع ملة إبراهيم لأن في اتباع ملة إبراهيم اتباعه صلى الله عليه وسلم 96 قوله تعالى (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للمسلمين بيت المقدس قبلتنا وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء وقال المسلمون في
327

سورة آل عمران 97 الكعبة أفضل فأنزل الله تعالى هذه الآية (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) 97 (فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا) وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس واختلف العلماء في قوله تعالى (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) فقال بعضهم هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض خلقه قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي وقال بعضهم هو أول بيت بني في الأرض روي عن علي بن الحسين أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور فأمر الملائكة أن يطوفوا به ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتا على مثاله وقدره فبنوه واسمه الضراح وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام فكانوا يحجونه فلما حجه آدم قالت الملائكة بر حجك يا آدم حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام ويروى عن ابن عباس أنه قال أراد به أنه أول بيت بناه آدم في الأرض وقيل هو ألو بيت مبارك وضع هدى للناس يعبد الله فيه ويحج إليه وقيل هو أول بيت جعل قبلة للناس وقال الحسن والكلبي معناه أن أول مسجد ومتعبد وضع للناس يروى ذلك عن علي بن أبي طالب قال الضحاك أول بيت وضع فيه البركة وقيل أول بيت وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى (في بيوت أذن الله أن ترفع) يعني المساجد أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الواحد أنا الأعمش أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال سمعت أبا ذر يقول قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولا قال المسجد الحرام قلت ثم أي قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما قال أربعون سنة ثم قال أينما أدركتك الصلاة بعد فصل فإن الفضل فيه قوله تعالى (للذي ببكة) قال جماعة هي مكة نفسها وهو قول الضحاك والعرب تعاقبت بين الباء والميم فتقول سبد رأسه وسمده وضربة لازب ولازم وقال الآخرون بكة موضع البيت في مكة ومكة اسم البلد كله وقيل بكة موضع البيت والمطاف سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون يبك بعضها بعضا ويمر بعضهم بين يدي بعض وقال عبد الله بن الزبير سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها من قول العرب مك الفصيل ضرع أمه وأمتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بها (مباركا) نصب على الحال أي ذا بركة وهدى للعالمين لأنه قبلة للمؤمنين فيه آيات بينات قرأ ابن عباس (آية بينة) على الواحد
328

وأراد مقام إبراهيم وحده وقرأ الآخرون آيات بينات بالجمع فذكر منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ومن تلك الآيات في البيت الحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها وقيل مقام إبراهيم جميع الحرم ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه وأن الجارحة إذا قصدت صيدا فإذا دخل الصيد الحرم كفت عنه وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار وإن الطاعة والصدقة فيها تضاعف بمائة ألف أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو محمد بن الحسن بن أحمد المخلدي أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج أخبرنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري أنا مالك بن أنس عن زيد بن رباح أخبرنا عبد الله بن عبد الله الأعز عن أبي عبد الله الأعمش عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ صلاة في مسجدي هذا أفضل من الف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام \ قوله عز وجل (ومن دخله كان آمنا) من أن يهاج فيه وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال رب اجعل هذا البلد آمنا وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض ومن دخل الحرم أمن من القتل والغارة وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) وقيل المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمنا كما قال تعالى (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) وقيل هو خبر بمعنى الأمر تقديره ومن دخله فأمنوه كقوله تعالى (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصا أو حدا فالتجأ إلى الحرم فلا يستوفى منه فيه ولكنه لا يطعم ولا يبايع ولا يشاري حتى يخرج منه فيقتل قاله ابن عباس وبه قال أبو حنيفة وذهب قوم إلى أن القتل الواجب بالشرع يستوفى فيه أما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفى فيه
عقوبته بالاتفاق وقيل معناه ومن دخله معظما له متقربا إلى الله عز وجل كان آمنا يوم القيامة من العذاب قوله عز وجل (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) أي ولله فرض واجب على الناس حج البيت قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص (حج البيت) بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة وقرأ الآخرون بفتح الحاء وهي لغة أهل الحجاز وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد والحج أحد أركان الإسلام أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن موسى أنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج \ قال أهل العلم ولوجوب الحج خمس شرائط الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة فلا يجب على الكافر ولا على المجنون ولو حجا بأنفسهما لا يصح لأن الكافر ليس من أهل القربة ولا حكم لفعل المجنون ولا يجب على الصبي ولا على العبد ولو حج صبي يعقل أو عبد يصح حجهما تطوعا ولكن لا يسقط به فرض الإسلام عنهما فلو بلغ الصبي أو أعتق العبد بعدما حج واجتمع في حقه شرائط وجوب الحج عليه
329

أن يحج ثانيا ولا يجب على غير المستطيع لقوله تعالى (من استطاع إليه سبيلا) غير أنه لو تكلف فحج يسقط عنه فرض الإسلام والاستطاعة نوعان أحدهما أن يكون قادرا مستطيعا بنفسه والآخر أن يكون مستطيعا بغيره أما الاستطاعة بنفسه فأن يكون قادرا بنفسه على الذهاب ووجد الزاد والراحلة أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا سعيد بن سالم عن إبراهيم بن يزيد عن محمد عباد ابن جعفر قال قعدنا إلى عبد الله بن عمر فسمعته يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما الحاج قال الشعث الثفل فقام رجل آخر فقال يا رسول الله أي الحج أفضل قال العج والثج فقام رجل آخر فقال يا رسول الله ما السبيل قال زاد وراحلة وتفصيله أن يجد راحلة تصلح لمثله ووجد الزاد للذهاب والرجوع فاضلا عن نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم وكسوتهم لذهابه ورجوعه وعن دين يكون عليه ووجد رفقة يخرجون في وقت جرت عادت أهل بلده بالخروج في ذلك الوقت فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلا أن يقطعوا كل يوم أكثر من مرحلة لا يلزمهم الخروج في ذلك الوقت ويشترط أن يكون الطريق آمنا فإن كان فيه خوف من عدو مسلم أو كافر أو رصدي يطلب شيئا لا يلزمه ويشترط أن تكون المنازل معمورة يجد الزاد والماء فإن كان زمان جدوبة تفرق أهلها أو غارت مياهها فلا يلزمه الحج ولو لم يجد الراحلة لكنه قادر على المشي أو لم يجد الزاد ولكن يمكنه أن يكتسب في الطريق لا يلزمه الحج ويستحب لو فعل وعند مالك يلزمه أما الاستطاعة بالغير فهي أن يكون الرجل عاجزا بنفسه بأن كان زمنا أو به مرض غير مرجو الزوال لكن له مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه يجب عليه أن يستأجر أو لم يكن له مال بل بذل له ولده أو أجنبي الطاعة في أن يحج عنه يلزمه أن يأمره إذا كان يعتمد صدقه لأن وجوب الحج يتعلق بالاستطاعة ويقال في العرف فلان مستطيع لبناء دار وإن كان لا يفعله بنفسه وإنما يفعله بماله وبأعوانه وعند أبي حنيفة لا يجب الحج ببذل الطاعة وعند مالك لا يجب على المغصوب في المال وحجة من أوجبه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت يا رسول الله إن فريضة الله على عبادة في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم قوله تعالى (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) قال ابن عباس والحسن وعطاء جحد فرض الحج وقال مجاهد من كفر بالله واليوم الآخر وقال سعيد بن المسيب نزلت في اليهود حيث قالوا الحج إلى مكة غير واجب وقال السدي هو من وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفر به أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنأ أبو إسحق الثعلبي أخبرنا أبو الحسن الكلماني أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو أخبرنا سهيل بن عمارة أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا شريك عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة أن
330

سورة آل عمران 98 100 النبي صلى الله عليه وسلم قال \ من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء الله يهوديا وإن شاء نصرانيا \ 98 قوله تعالى (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون) 99 (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله) أي لم تصرفون عن دين الله (من آمن تبغونها) تطلبونها (عوجا) زيغا وميلا يعني لم تصدون عن سبيل الله باغين لها عوجا قال أبو عبيدة العوج بالكسر في الدين والقول والعمل والعوج بالفتح في الجدار وكل شخص قائم (وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون) أن في التوراة مكتوبا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وإن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام 100 (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب) قال زيد بن أسلم إن مرشاس بن قيس اليهودي وكان شيخا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين فمر على نفر من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار فأمر شابا من اليهود كان معه فقال اعمد إليهم واجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل وتكلم فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قبطي أحد بني حارثة من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه إن شئتم والله رددتها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالا قد فعلنا السلام السلاح موعدكم الظاهرة وهي الحرة فخرجوا جميعا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضهم إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال صلى الله عليه وسلم يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم
331

سورة آل عمران 101 102 عليه كفارا الله الله فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله تعالى هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب) يعني مرشاسا وأصحابه (يردوكم بعد إيمانكم كافرين) قال جابر فما رأيت قط يوما أقبح أو لا أحسن آخرا من ذلك اليوم ثم قال الله تعالى على وجه التعجب 101 (وكيف تكفرون) يعني ولم تكفرون (وأنتم تتلى عليكم آيات الله) القرآن (وفيكم رسوله) محمد صلى الله عليه وسلم قال قتادة في هذه الآية علمان بينان كتاب الله ونبي الله أما نبي الله فقد مضى وأما كتاب الله فقد أبقاه بين أظهركم رحمة من الله ونعمة أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عبد الله الحافظ أنا أبو الفضل الحسن بن يعقوب بن يوسف العدل أخبرنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب العبدي أنا أبو جعفر بن عوف أخبرنا أبو حيان يحيى بن سعيد بن حبان عن يزيد بن حيان قال سمعت زيد بن أرقم قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه وأنا تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي \ قوله تعالى (ومن يعتصم بالله) أي يمتنع بالله ويستمسك بدينه وطاعته (فقد هدي إلى صراط مستقيم) طريقا واضح وقال ابن جريج ومن يعتصم بالله أي يؤمن بالله وأصل العصمة المنع فكل مانع شيئا فهو عاصم له 102 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) قال مقاتل بن حيان كان بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهلية وقتال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأصلح بينهم فافتخر بعده منهم رجلان ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج فقال الأوسي منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ومنا حنظلة غسيل الملائكة ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدبر ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن له ورضي الله بحكمه في بني قريظة وقال الخزرجي منا أربعة أحكموا القرآن أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الحديث بينهما فغضبا وأنشدا الأشعار وتفاخرا فجاء الأوس والخزرج ومعهم السلاح فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) وقال عبد الله بن مسعود وابن
332

سورة آل عمران 103 عباس هو أن يطاع فلا يعصى وقال مجاهد أن تجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم وعن أنس أنه قال لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه قال أهل التفسير لما نزلت هذه الآية شق ذلك عليهم فقالوا يا رسول الله ومن يقوى على هذا فأنزل الله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) فنسخت هذه الآية وقال مقاتل ليس في آل عمران من المنسوخ إلا هذه الآية (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) أي مؤمنون وقيل مخلصون مفوضون أموركم إلى الله عز وجل وقال الفضيل محسنون الظن بالله أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو بكر العبدوسي أخبرنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن خالد بن يزيد أخبرنا سليمان بن يوسف أخبرنا وهب بن جرير أنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامه وليس له طعام غيره \ 103 قوله عز وجل (واعتصموا بحبل الله جميعا) الحبل السبب الذي يتوصل به إلأى البغية وسمي الإيمان حبلا لأنه سبب يتوصل به إلى زوال الخوف واختلفوا في معناه ههنا قال ابن عباس معناه تمسكوا بدين الله وقال ابن مسعود هو الجماعة وقال عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة وقال مجاهد وعطاء بعهد الله وقال قتادة والسدي هو القرآن وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة الله لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه \ وقال مقاتل بن حيان بحبل الله أي بأمر الله وطاعته (ولا تفرقوا) كما افترقت اليهود والنصارى أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولى الله أمركم ويسخط لكم ثلاثا ثيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال \ قوله تعالى (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار
333

كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب قتيل قتل بينهم فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم عشرين ومائة سنة إلى أن أطفأ الله عز وجل ذلك بالإسلام وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكان سبب ألفتهم أن سويد بن الصامت أخا بني عمرو بن عوف وكان شريفا يسميه قومه الكامل لجلده ونسبه وقدم مكة حاجا أو معتمرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث وأمر بالدعوة فتصدى له حين سمع به ودعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد فلعل ذلك معك مثل الذي معي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الذي معك فقال مجلد لقمان يعني حكمته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرضها علي فعرضها فقال إن هذا كلام حسن ومعي أفضل من هذا قرآن أنزله الله علي نورا وهدى فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه ولم ينفر وسر بذلك وقال إن هذا القول حسن ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج قبل يوم بعاث فإن قومه ليقولون إنه قد قتل وهو مسلم ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع ومعه فئة من بني الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم وقال هل لكم إلى خير مما جئتم له قالوا وما ذلك قال أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن لا يشركوا بالله شيئا وأنزل الله علي الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا أي قوم هذا والله خير مما جئتم له فأخذ أبو الجيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار ويعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم فلقي عند
العقبة رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وهم ستة نفر أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة وعقبة بن عامر بن باني وجابر بن عبد الله فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنتم قالوا نفر من الخزرج قال أمن موالي يهود قالوا نعم قال أفلا تجلسون حتى أكلمكم قالوا بلى فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن قال وا وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهود كان معهم ببلادهم وكانوا أهل أوثان وشرك وكانوا إذا كان منهم شيء قالوا إن نبيا الآن مبعوث قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض يا قوم تعلمون واللع إنه النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه فأجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك فإن جمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا به صلى الله عليه وسلم فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيهم ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل أتى الموسى من الأنصار اثنا عشر رجلا وهم أسعد بن زرارة
334

وعوف ومعاذ ورافع بن مالك العجلاني وذكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة وعباس بن عبادة وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر وهؤلاء خزرجيون وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة من الأوس فلقوه بالعقبة وهي بيعة العقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء على أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا إلى آخر الآية فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم شيئا من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم قال وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب قال فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ وكان منزله على أسعد بن زرارة ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي ولولا ذلك لكفيتكه وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب هذا والله سيد قومك قد جاءك فاصدق الله فيه قال مصعب إن يجلس أكلمه قال فوقف عليهما متشتما فقال ما جاء بكم إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة فقال له مصعب أوتجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره قال أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراق وجهه وتسهله ثم قال ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين قالا له تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد شهادة الحق ثم قام وركع ركعتين ثم قال لهما إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه سأرسله إليكما الآن هو سعد بن معاذ ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقمبلا قال احلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم فلما وقف على النادي قال قال له سعد ما فعله قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا فافعل ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك فقام سعد مغضبا مبادرا للذي ذكره له من بني حارثة فأخذ الحربة ثم قال والله ما أراك أغنيت شيئا فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال لأسعد بن زرارة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني تغشانا في دارنا بما نكره فقال أسعد لمصعب جاءك والله سيد قومه وإن اتبعك لم يخالفك منهم أحد فقال مصعب أوتقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره قال سعد أنصفت ثم ركز الحربة فجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن قالا فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في
335

إشراقه وتسهيله ثم قال لهما كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين قالا له تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبه ثم تشهد شهادة الحق وركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فلما وقف عليهم قال يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة قال فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال فما أمسى في الدار لبني عبد الأشهل رجلا ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعوا الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائلا وواقف وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق ثم قال ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية قال كعب بن مالك وكان قد شهد ذلك فلما فرغنا من الحج وكانت تلك الليلة التي واعدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه وقلنا له يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ودعوناه إلى الإسلام فأسلم وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة وكان نقيبا فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب بن عمارة إحدى نساء بني النجار وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع إحدى نساء بني سلمة فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه
ويتوثق له فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال يا معشر الخزرج وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار خزرجها وأوسها أن محمدا صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده وأنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة قال فقلنا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت قال فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلك القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونسائكم وأبناءكم قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر قال فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان
336

فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الناس خبالا يعني العهود وإنا قاطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال \ لا بل الأبد الأبد الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحارث من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم \ فأخرجوا اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس قال عاصم بن عمرو بن قتادة إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري يا معشر الخزرج هل تدرون علام ما تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكن أموالكم مصيبة واشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي في الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه من نهك الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير في الدنيا والآخرة قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف قالوا فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال الجنة قال ابسط يدك فبسط يده فبايعوه وأول من ضرب على يده البراء بن معرور ثم تتابع القوم فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة صوتا ما سمعته قط يا أهل الحباحب أهل لكم في مذمم والصباة قد اجتمعوا على حربكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عدو الله هذا أزب العقبة اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغن لك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفضوا إلى رحالكم فقال العباس بن عبادة بن نضلة والذي بعثك بالحق لئن شئت ليملك غدا على أهل منى بأسيافنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا فإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن ينشب بالحرب بيننا وبينهم منكم قال فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا لم يعلموا وبعضنا ينظر إلى بعض وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان قال فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي فقال والله لتنتعلهما قال يقول أبو جابر رضي الله عنه مه والله لقد احفظت الفتى فاردد إليه نعله قال لا أردهما قال والله يا أبا صالح والله لئن صدق الفال لأسلبنه قال ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شددوا العقد فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه \ إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها \ وأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار فأول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا إلى المدينة
337

سورة آل عمران 104 فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (واذكروا نعمة الله عليكم) يا معشر الأنصار (إذ كنتم أعداء) قبل الإسلام (فألف بين قلوبكم) بالإسلام (فأصبحتم) أي فصرتم (بنعمته) برحمته وبدينه الإسلام (إخوانا) في الدين والولاية بينكم (وكنتم) يا معشر الأوس والخزرج (على شفا حفرة من النار) أي على طرف حفرة مثل شفا البئر معناه وكنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم (فأنقذكم) الله (منها) بالإيمان (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) 104 (ولتكن منكم أمة) أي ولتكونوا أمة (من) صلة ليست للتبعيض كقوله تعالى (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) لم يرد اجتناب بعض الأوثان بل أراد فاجتنبوا الأوثان واللام في قوله (ولتكن) لام الأمر (يدعون إلى الخير) إلى الإسلام (ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر قال أنا عبد الغافر بن محمد قال أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج حدثنا أبو بكر محمد بن أبي شيبة أخبرنا وكيع عن سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال قال أبو سعيد رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان \ أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي قال أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمرو الجوهري أخبرنا أحمد بن علي الكشمهيني أخبرنا علي بن حجر أخبرنا إسماعيل بن جعفر أنا عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهل عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الل أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم \ أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا علي بن الحسين الداروردي أخبرنا أبو النعمان أخبرنا عبد العزيز بن مسلم المقسميلي أنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمرو بن حفص بن غياث أخبرنا أبي أنا الأعمش حدثني الشعبي أنه سمع النعمان بن بشير رضي
الله عنه يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم \ مثل المداهن في حدود الله تعالى والواقع فيها كمل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها
338

سورة آل عمران 105 106 فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا مالك قال تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم \ 105 قوله تعالى (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) قال أكثر المفسرين هم اليهود والنصارى وقال بعضهم المبتدعة من هذه الأمة وقال أبو أمامة رضي الله عنه هم الحرورية بالشام قال عبد الله بن شداد وقف أبو أمامة وأنا معه على رأس الحرورية بالشام فقال هم كلاب النار كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم ثم قرأ (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) إلى قوله تعالى (أكفرتم بعد إيمانكم) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسن بن بشران أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الزبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين الأبعد \ قوله تعالى (وأولئك لهم عذاب عظيم) 106 (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) (يوم) نصب على الظرف أي في يوم وانتصاب الظرف على التشبيه بالمفعول يريد تبيض وجوه المؤمنين وتسود وجوه الكافرين وقيل تبيض وجوه المخلصين وتسود وجوه المنافقين وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ هذه الآية قال تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس إذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم ما كانوا يعبدونه فيسعى كل قوم إلى ما كانوا يعبدونه وهو قوله تعالى (نوله ما تولى) فإذا انتهوا إليه حزنوا فتسود وجوههم من الحزن وبقي أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئا مما رفع لهم فيأتيهم الله فيسجد له من كان يسجد في الدنيا مطيعا مؤمنا ويبقى أهل الكتاب والمنافقون لا يستطيعون السجود ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضا والمنافقون وأهل الكتاب إذا نظروا إلى وجوه المؤمنين حزنوا حزنا شديدا فاسودت وجوههم فيقولون ربنا مالنا مسودة وجوهنا فوالله ما كنا مشركين فيقول الله للملائكة انظروا كيف كذبوا على أنفسهم قال أهل المعاني بياض الوجوه إشراقها واستبشارها وسرورها بعلمها وبثواب الله واسودادها حزنها وكآبتها
339

سورة آل عمران 107 108 وكسوفها بعملها وبعذاب الله يدل عليه قوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) وقال تعالى (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة) وقال (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة) وقال (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة) (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) معناه يقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) فإن قيل كيف قال أكفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين قيل حكي عن أبي بن كعب أنه قال أراد به الإيمان يوم الميثاق حين قال لهم ربهم ألست بربكم قالوا بلى يقول أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق وقال الحسن هم المنافقون تكلموا بالإيمان بألسنتهم وأنكروا بقلوبهم وقال عكرمة إنهم أهل الكتاب آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به وقال قوم هم من أهل قبلتنا وقال أبو أمامة هم الخوارج وقال قتادة هم أهل البدع أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا سعيد بن أبي مريم عن نافع بن عمر حدثني ابن أبي مليكة عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم وسيؤخذ ناس دوني فأقول يا رب مني ومن أمتي فقال هل شعرت بما عملوا بعدك فوالله ما برحوا يرجعون على أعقابهم \ وقال الحارث الأعور سمعت عليا رضي الله عنه على المنبر يقول إن الرجل ليخرج إلى أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة وإن الرجل ليخرج من أهله فما يؤب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة وإن الرجل ليخرج من أهله فما يؤب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به النار ثم قرأ (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) الآية ثم نادى هم الذين كفروا بعد الإيمان ورب الكعبة أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا \ 107 قوله تعالى (وأما الذين ابيضت وجوههم) هؤلاء أهل الطاعة (ففي رحمة الله) ففي جنة الله (هم فيها خالدون) 108 (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين)
340

سورة آل عمران 109 110 109 (ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور) 110 (كنتم خير أمة أخرجت للناس) قال عكرمة ومقاتل نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم وذلك أن مالك بن الصيف ووهب بن يهود اليهوديين قالا لهم نحن أفضل منكم وديننا خير مما تدعوننا إليه فأنزل الله تعالى هذه الآية وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما (كنتم خير أمة أخرجت للناس) هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقال جويبر عن الضحاك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة الرواة والدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم وروى عمر بن الخطاب قال كنتم خير أمة أخرجت للناس تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أخبرنا شعبة عن أبي حمزة قال سمعت زهدم بن مضرب بن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم \ قال عمران لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثا ثم إن بعدهم قوما يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن وبهذا الإسناد عن علي بن الجعد أجبرنا شعبة وأبو معاوية عن الأعمش عن ذكوان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه \ وقال آخرون جميع المؤمنين من هذه الأمة وقوله (كنتم) أي أنتم كقوله
تعالى (واذكروا إذ كنتم قليلا) وقال في موضع آخر (واذكروا إذ أنتم قليل) وقيل معناه كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ وقال قوم قوله (للناس) صلة قوله خير أمة أي أنتم خير أمة للناس قال أبو هريرة معناه كنتم خير الناس للناس تجيئون بهم في السلاسل فتدخلونهم في الإسلام قال قتادة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمر نبي بعده بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في دينهم فهم خير أمة للناس وقيل للناص صلة قوله أخرجت معناه ما أخرج الله للناس أمة خيرا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحق الثعلبي أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الحافظ أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن حبيش المقري أنا علي بن زنجويه أخبرنا سلمة بن شبيب أنا عبد الرزاق أنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيقوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) قال \ إنكم تنمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا معشر بن إبراهيم بن محمد الفيركي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن يحيى أخبرنا أبو الصلت أخبرنا حماد بن زيد أخبرنا علي بن زيد عن أبا نضرة عن أبي سعيد
341

سورة آل عمران 111 112 الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل \ أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحق الثعلبي أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد أنا الفضل بن الفضل أخبرنا خليفة الفضل بن الحباب قال عبد الرحمن يعني ابن المبارك أخبرنا حماد بن يحيى الأشج أنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره \ أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحق الثعلبي أنا أبو محمد المخلدي أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي أخبرنا محمد بن عيسى التنيسي أخبرنا عمر بن أبي سلمة أخبرنا صدقة بن عبد الله عن زهير محمد بن عبد الله بن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم كلهم حتى تدخلها أمتي \ أخبرنا أبو سعيد الشريحي قال أخبرنا أبو إسحق الثعلبي أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن عبد الله بن حاتم الترمذي أخبرنا جدي لأبي محمد بن عبد الله بن مرزوق أنا عقاب بن مسلم أنا عبد العزيز بن مسلم أخبرنا أبو سنان يعني ضرار بن مرة عن محارب بن دثار عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون من هذه الأمة \ قوله تعالى (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) أي الكافرون 111 قوله تعالى (لن يضروكم إلا أذى) قال مقاتل إن رؤوس اليهود عمدوا إلى من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلا أذى باللسان وعيدا وطغيانا وقيل كلمة كفر تتأذون بها (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار) منهزمين (ثم لا تنصرون) بل يكون لكم النصر 112 (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا) حيث ما وجدوا (إلا بحبل من الله) يعني أينما وجدوا استضعفوا وقتلوا أو سبوا فلا يأمنون إلا بحبل عهد من الله تعالى بأن يسلموا (وحبل من الناس) من المؤمنين ببذل جزية أو أمان يعني إلا أن يعصموا بحبل الله فيأمنوا قوله تعالى (وباؤا بغضب من الله) رجعوا به (وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)
342

سورة آل عمران 113 114 113 قوله تعالى (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل لما آمن عبد الله بن سلام وأصحابه قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا شرارنا ولولا ذلك لما تركوا دين آبائهم فأنزل الله تعالى هذه الآية واختلفوا في وجهها فقال قوم فيه اختصار تقديره ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة فترك الأخرى اكتفاء بذكر أحد الفريقين وقال الآخرون تمام الكلام عند قوله (ليسوا سواء) وهو وقف لأنه قد جرى ذكر الفريقين من أهل الكتاب في قوله تعالى (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) ثم قال (ليسوا سواء) يعني المؤمنين والفاسقين ثم وصف الفاسقين فقال (لن يضروكم إلا أذى) ووصف المؤمنين بقوله (أمة قائمة) وقيل قوله (من أهل الكتاب) ابتداء كلام آخر لأن ذكر الفريقين قد جرى ثم قال ليس هذان الفريقان سواء ثم ابتداء فقال من أهل الكتاب قال ابن مسعود رضي الله عنه لا يستوي اليهود وأمة محمد صلى الله عليه وسلم القائمة بأمر الله الثابتة على الحق المستقيمة وقوله تعالى (أمة قائمة) قال ابن عباس أي مهتدية قائمة على أمر الله لم يضيعوه ولم يتركوه وقال مجاهد عادلة وقال السدي مطيعة قائمة على كتاب الله وحده وقيل قائمة في الصلاة وقيل الأمر الطريقة ومعنى الآية أي ذووا أمة أي ذووا طريقة مستقيمة (يتلون آيات الله) يقرؤون كتاب الله وقال مجاهد يتبعون (آناء الليل) ساعاته واحدها أنى وآناء مثل نحى وأنحاء وأنى وآناء مثل معي وأمعاء وأنى مثل منا وأمناء (وهم يسجدون أي يصلون لأن التلاوة لا تكون في السجود واختلفوا في معناها فقال بعضهم هي قيام الليل وقال ابن مسعود صلاة العتمة يصلونها ولا يصليها من سواهم من أهل الكتاب وقال عطاء (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) الآية يريد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم وكان من الأنصار منهم عدة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم منهم أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن سلمة وأبو قيس بن صرمة بن أنس كانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله تعالى بالنبي فصدقوه ونصروه 114 قوله تعالى (يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)
343

سورة آل عمران 115 118 115 (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) قرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء فيهما إخبار عن الأمة القائمة وقرأ الآخرون بالتاء فيهما لقوله (كنتم خير أمة) وأبو عمرو يرى القراءتين جميعا ومعنى هذه الآية وما تفعلوا من خير فلن تعدموا ثوابه بل يشكر لكم وتجازون عليه (والله عليم بالمتقين) بالمؤمنين 116 (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) أي لا تدفع أموالهم بالفدية وأولادهم بالنصرة من الله شيئا أي من عذاب الله وخصهما بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وإنما جعلهم من أصحابهم لأنهم أهلها لا يخرجون منها ولا يفارقونها
كصاحب الرجل لا يفارقه 117 (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا) قيل أراد نفقات أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مقاتل أراد نفقة اليهود على علمائهم قال مجاهد يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم وقيل أراد إنفاق المرائي الذي لا يبتغي به وجه الله تعالى (كمثل ريح فيها صر) حكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها السموم الحارة التي تقتل وقيل فيها صر أي صوت وأكثر المفسرين قالوا فيها برد شديد (أصابت حرث قوم) زرع قوم (ظلموا أنفسهم) بالكفر والمعصية ومنع حق الله تعالى (فأهلكته) فمعنى الآية مثل نفقات الكفار وذهابها وقت الحاجة إليها كمثل زرع أصابته ريح باردة فأهلكته أو نار فأحرقته فلم ينتفع أصحابه منه بشيء (وما ظلمهم الله) بذلك (ولكن أنفسهم يظلمون) بالكفر والمعصية 118 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما كان رجال من المسلمين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم وقال مجاهد نزلت في قوم من المؤمنين
344

سورة آل عمران 119 120 كانوا يصافون المنافقين فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) أي أولياء أصفياء من غير أهل ملتكم وبطانة الرجل خاصته تشبيها ببطانة الثوب التي تلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون منه على ما لا يطلع عليه غيرهم ثم بين العلة في النهي عن مباطنتهم فقال جل ذكره (لا يألونكم خبالا) أي لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد والخبال الشر والفساد ونصب (خبالا) على المفعول الثاني لأن (يألو) يتعدى إلى مفعولين وقيل بنزع الخافض أي بالخبال كما يقال أوجعته ضربا (ودوا ما عنتم) أي يودون ما يشق عليكم من الضر والشر والهلاك والعنت المشقة (قد بدت البغضاء) أي البغض معناه ظهرت أمارة العداوة (من أفواههم) بالشتيمة والوقيعة في المسلمين وقيل باطلاع المشركين على أسرار المسلمين (وماتخفي صدورهم) من العداوة والغيظ (أكبر) أعظم (قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) 119 (ها أنتم) ها تنبيه وأنتم كناية للمخاطبين من الذكور (أولاء) اسم للمشار إليه يريد أنتم أيها المؤمنون (تحبونهم) أي تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من القرابة والرضاع والمصاهرة (ولا يحبونكم) لما بينكم من مخالفة الدين وقال مقاتل هم المنافقون يحبهم المؤمنون لما أظهروا من الإيمان ولا يعلمون ما في قلوبهم (وتؤمنون بالكتاب كله) يعني بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بكتابكم (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا) وكان بعضهم مع بعض (عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) يعني أطراف الأصابع واحدتها أنملة بضم الميم وفتحها من الغيظ لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وعض الأنامل عبارة عن شدة الغيظ وهذا من مجاز الأمثال وإن لم يكن ثم عض (قل موتوا بغيظكم) أي ابقوا إلى الممات بغيظكم (إن الله عليم بذات الصدور) أي بما في القلوب من خير وشر 120 قوله تعالى (إن تمسسكم) أي تصبكم أيها المؤمنون (حسنة) بظهوركم على عدوكم وغنيمة تنالونها وتتابع الناس في الدخول في دينكم وخصب في معايشكم (تسؤهم) تحزنهم (وإن تصبكم سيئة) مساءة بإخفاق سرية لكم أو إصابة عدو منكم واختلاف يكون بينكم أو جدب أو
345

سورة آل عمران 121 نكبة (يفرحوا بها وإن تصبروا) على أذاهم (وتتقوا) تخافوا ربكم (لا يضركم) أي لا ينقصكم (كيدهم شيئا) قرأ ابن عامر وابن كثير ونافع وأهل البصرة (لا يضركم) بكسر الضاد خفيفة يقال ضار يضير ضيرا وهو جزم على جواب الجزاء وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء من ضر يضر ضرا مثل رد يرد ردا وفي رفعه وجهان أحدهما أنه أراد الجزم وأصله يضرركم فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى الضاد وضمت الثانية اتباعا والثاني أن لا يكون لا بمعنى ليس ويضمر فيه الفاء تقديره وإن تصبروا وتتقوا فليس يضركم كيدهم شيئا (إن الله بما يعملون محيط) أي عالم 121 قوله تعالى (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) قال الحسن هو يوم بدر وقال مقاتل يوم الأحزاب وقال سائر المفسرين هو يوم أحد وقال مجاهد والكلبي والواقدي غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة رضي الله عنها يمشي على رجليه إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح قال محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما إن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي ابن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار يا رسو الله أقم بالمدينة لا تخرج إليها فوالله ما خرجنا إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوق وإن رجعوا رجعوا خائبين فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وقال بعض أصحابه يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إني رأيت في منامي بقرا مذبوحة فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة \ وكان يعجبه أن يدخلوا عليهم بالمدينة فيقاتلوا في الأزقة فقال رجل من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد اخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا وقالوا بئس ما صنعنا نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه فقاموا واعتذروا إليه وقالوا اصنع ما رأيت فقال صلى الله عليه وسلم \ لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل \ وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعدما صلى بأصحابه الجمعة وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم فأصبح باشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة فكان من حرب أحد ما كان فذلك قوله تعالى (وإذ غدوت من أهلك تبوئ) تنزل المؤمنين (مقاعد للقتال) أي مواطن ومواضع للقتال يقال بوأت القوم إذا وطنتهم وتبوؤا إذا توطؤوا قال الله تعالى (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) وقال (أن تبوأ لقومكما بمصر بيوتا) وقيل تتخذ معسكرا (والله سميع عليم)
346

سورة آل عمران 122 125 122 (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) أي تجبنا وتضعفا وتتخلفا والطائفتان بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد في ألف رجل وقيل في تسعمائة وخمسين رجلا فلما بلغوا الشوط اتخذ عبد الله بن أبي بثلث الناس ورجع
في ثلاث مائة وقال علام نقتل أنفسنا وأولادنا فتبعهم أبو جابر السلمي فقال أنشدكم بالله في نبيكم وفي أنفسكم فقال عبد الله بن أبي لو نعلم قتالا لاتبعناكم وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا فذكرهم الله عظيم نعمته فقال عز وجل (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) ناصرهما وحافظهما (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن يوسف عن ابن عيينة عن عمر عن جابر قال نزلت هذه الآية فينا (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) بنو سلمة وبنو حارثة وما أحب أنها لم تنزل والله يقول (والله وليهما) 123 قوله تعالى (ولقد نصركم الله ببدر) وبدر موضع بين مكة والمدينة وهو اسم لموضع وعليه الأكثرون وقيل اسم لبئر هناك وقيل كانت بدر بئرا لرجل يقال له بدر قاله الشعبي وأنكر الآخرون عليه يذكر الله تعالى في هذه الآية منته عليهم بالنصرة يوم بدر (وأنتم أذلة) جمع ذليل وأراد به قلة العدد فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فنصرهم الله مع قلة عددهم وعددهم (فاتقوا الله لعلكم تشكرون) 124 (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم) اختلفوا في هذه الآية فقال قتادة كان يوم بدر أمدهم الله تعالى بألف من الملائكة كما قال (فاستجاب ربكم أني ممدكم بألف من الملائكة) ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر ههنا (بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين) 125 (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) فصبروا يوم بدر واتقوا فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة كما وعد قال الحسن وهؤلاء الخمسة آلاف ردء المؤمنين إلى يوم القيامة قال ابن عباس ومجاهد لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر
347

فيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون وإنما يكون عددا ومددا قال محمد بن إسحاق لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فني النبل أتاه به فنثره فقال إرم يا أبا إسحق مرتين فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرفه أحد أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد العزيز بن عبد الله أنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده عن سعد بن أبي وقاص قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة قال أخبرنا محمد بن بشر وأبو أسامة عن مسعر عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن سعد يعني ابن أبي وقاص قال رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل وقال الشعبي بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى (ألن يكفيكم أن يمدكم) إلى قوله (مسومين) فبلغ كرزا الهزيمة فرجع فلم يأتهم ولم يمدهم فلم يمدهم الله أيضا بالخمسة آلاف وكانوا قدموا بألف وقال الآخرون إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته واتقوا محارمه أن يمدهم أيضا في حروبهم كلها فلم يصبروا إلا يوم الأحزاب فأمدهم حين حاصروا قريظة والنضير قال عبد الله بن أبي أوفى كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله فلم يفتح علينا فرجعنا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل فهو يغسل رأسه إذا جاءه جبريل عليه السلام فقال وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثم نادى فينا فقمنا حتى أتينا قريظة والنضير فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ففتح لنا فتحا يسيرا وقال الضحاك وعكرمة كان هذا يوم أحد وعدهم الله المدد إن صبروا فلم يصبروا فلم يمدوا قوله تعالى (أن يمدكم ربكم) الإمداد إعانة الجيش وقيل ما كان على جهة القوة والإعانة يقال فيه أمده إمدادا وما كان على جهة الزيادة ويقال فيه مده مددا منه قوله تعالى (والبحر يمده) وقيل المد في الشر والإمداد في الخير يدل عليه قوله تعالى (ويمدهم في طغيانهم) (ونمد له من العذاب مدا) وقال في الخير (إني ممدكم بألف من الملائكة منزلين) وقال (وأمددناكم بأموال وبنين) قوله تعالى (بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين) قرأ ابن عامر تشديد الزاي على التكثير لقوله تعالى (ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة) وقرأ الآخرون بالتخفيف دليله قوله تعالى (لولا أنزل علينا الملائكة) وقوله (وأنزل جنودا لم تروها) ثم قال (بلى) نمدكم (إن تصبروا) لعدوكم (وتتقوا) مخالفة نبيكم (ويأتوكم) يعني المشركين (من فورهم هذا) قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والحسن وأكثر المفسرين من ودههم هذا وقال مجاهد والضحاك من غضبهم هذا لأنهم إنما رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر (يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة) لم يرد خمسة آلاف سوى ما ذكر من
348

سورة آل عمران 126 128 ثلاثة آلاف بل أراد معهم وقوله (مسومين) أي معلمين قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو وقرأ الآخرون بفتحها فمن كسر الواو فأراد أنهم سوموا خيلهم ومن فتحها أراد به أنفسهم والتسويم الإعلام من السومة وهي العلامة واختلفوا في تلك العلامة فقال عروة بن الزبير كانت الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم صفر وقال علي وابن عباس رضي الله عنهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم وقال هشام بن عروة والكلبي عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم وقال الضحاك وقتادة كانوا قد أعلموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر \ تسوموا فإن الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم \ 126 قوله تعالى (وما جعله الله) يعني هذا الوعد والمدد (إلا بشرى لكم) أي بشارة لتستبشروا به (ولتطمئن) ولتسكن (قلوبكم به) فلا تجزعوا من كثرة عدوكم وقلة عددكم (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) يعني لا تحيلوا بالنصر على الملائكة والجند فإن النصر من الله تعالى فاستعينوا به وتوكلوا عليه لأن العز والحكم له 127 قوله تعالى (ليقطع طرفا من الذين كفروا) يقول لقد نصركم اللهل يقطع طرفا أي لكي يهلك طائفة من الذين كفروا وقال السدي معناه ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر فقتل من قادتهم وسادتهم يوم بدر سبعون وأسر سبعون ومن حمل الآية على حرب أحد فقد قتل منهم يومئذ ستة عشر وكان النصر للمسلمين حين خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فانقلب عليهم (أو يكبتهم) قال الكلبي يهزمهم وقال يمان يصرعهم لوجوههم قال السدي يلعنهم وقال أبو عبيدة يهلكهم وقيل يحزنهم والمكبوت الحزين وقيل يكبدهم أي يصيب الحزن والغيظ أكبادهم والتاء والدال يتعاقبان كما يقال سبت رأسه وسبده إذا حلقه وقيل يكبتهم بالخيبة (فينقلبوا خائبين) لم ينالوا شيئا مما كانوا يرجون من الظفر بكم 128 قوله تعالى (ليس لك من الأمر شيء) الآية اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال قوم
نزلت في أهل بئر معونة وهم سبعون رجلا من القراء بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم أميرهم المنذر بن عمرو فقتلهم
349

سورة آل عمران 129 130 عامر بن الطفيل فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدا شديدا وقنت شهرا في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين فنزلت (ليس لك من الأمر شيء) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا حبان بن موسى أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك أخبرنا معمر عن الزهري قال حدثني سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول \ اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد \ فأنزل الله تعالى (ليس لك من الأمر شيء) (أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) وقال قوم نزلت يوم أحد أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أخبرنا مسلم بن الحجاج أخبرنا عبد الله بن مسلم بن قعنب أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول \ كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله عز وجل \ فأنزل الله تعالى (ليس لك من الأمر شيء) وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد \ اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن صفوان بن أمية \ فنزلت (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم) فأسلموا وحسن إسلامهم وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يوم أحد ما أصابهم من جدع الآذان والأنوف وقطع المذاكير قالوا لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن مثل ما فعلوا ولنمثلن مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم بالاستئصال فنزلت هذه الآية وذلك لعلمه فيهم بأن كثيرا منهم يسلمون قوله تعالى (ليس لك من الأمر شيء) أي ليس إليك فاللام بمعنى (إلى) كقوله تعالى (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان) أي إلى الإيمان وقوله تعالى (أو يتوب عليهم) قال بعضهم معناه حتى يتوب عليهم أو إلا أن يتوب عليهم وقيل هو نسق على قوله (ليقطع طرفا) وقوله (ليس لك من الأمر شيء) اعتراض بين الكلامين ونظم الآية ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكتبهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ليس لك من الأمر شيء بل الأمر أمري في ذلك كله 129 ثم قال (ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم) 130 (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) أراد به ما كانوا يفعلونه عند طول أجل الدين من زيادة المال وتأخير الطلب (واتقوا الله) في أمر الربا فلا تأكلوه (لعلكم تفلحون)
350

سورة آل عمران 131 134 131 ثم خوفهم فقال (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) 132 (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) لكي ترحموا 133 (وسارعوا) قرأ أهل المدينة والشام سارعوا بلا واو (إلى مغفرة من ربكم) بادروا وسابقوا إلى الأعمال التي توجب المغفرة قال ابن عباس رضي الله عنهما إلى الإسلام وروي عنه إلى التوبة وبه قال عكرمة وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أداء الفرائض وقال أبو العالية إلى الهجرة وقال الضحاك إلى الجهاد وقال مقاتل إلى الأعمال الصالحة وروي عن أنس بن مالك أنها التكبيرة الأولى (وجنة) أي وإلى جنة (عرضها السماوات والأرض) أي عرضها كعرض السماوات والأرض كما قال في سورة الحديد (وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض) أي سعتها وإنما ذكر العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأكثر والأغلب أكثر من عرضه يقول هذه صفة عرضها فكيف طولها قال الزهري إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله وهذا على التمثيل لا أنها كالسماوات والأرض لا غير معناه كعرض السماوات السبع والأرضين السبع عند ظنكم كقوله تعالى (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) يعني عند ظنكم وإلأا فهما زائلتان وروي عن طارق عن ابن شهاب أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب وعنده أصحابه رضي الله عنهم قالوا أرأيتم قوله (وجنة عرضها السماوات والأرض) فأين النار فقال عمر أفرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار وإذا جاء النهار أين يكون الليل فقالوا إنها لمثلها في التوراة ومعناه أنه حيث يشاء الله فإن قيل قد قال الله تعالى (وفي السماء رزقكم وما توعدون) وأراد بالذي وعدنا الجنة فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضها السماوات والأرض قيل إن باب الجنة في السماء وعرضها السماوات والأرض كما أخبر وسئل أنس بن مالك رضي الله عنه عن الجنة أفي السماء أم في الأرض فقال أي أرض وسماء تسع الجنة فقيل فأين هي قال فوق السماوات السبع تحت العرش قال قتادة كانوا يرون الجنة فوق السماوات السبع تحت العرش وأن جهنم تحت الأرضين السبع (أعدت للمتقين) 134 (الذين ينفقون في السراء والضراء) أي في اليسر والعسر فأول ما ذكر من أخلاقهم الموجبة للجنة ذكر السخاوة أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحق الثعلبي أخبرنا أبو عمر الفراتي أخبرنا أبو العباس أحمد بن إسماعيل العنبري أخبرنا أبو عبد الله بن حازم البغوي بمكة أخبرنا أبو صالح بن أيوب الهاشمي
351

سورة آل عمران 135 أخبرنا إبراهيم بن سعد أخبرنا سعيد بن محمد عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار والجاهي سخي أحب إلى الله من عابد بخيل \ (والكاظمين الغيظ) أي الجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه والكظم حبس الشيء عند امتلائه وكظم الغيظ أن يمتلئ غيظا فيرده في جوفه ولا يظهره ومنه قوله تعالى (إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين) أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحق الثعلبي أخبرنا أبو عمرو الفراتي أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الإسفرايني أخبرنا أبو عبد الله بن محمد زكريا العلاني أخبرنا روح بن عبد المؤمن أخبرنا أبو عبد الرحمن المقري أخبرنا سعيد بن أبي أيوب قال حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء \ (والعافين عن الناس) قال الكلبي عن المملوكين سوء الأدب وقال زيد بن أسلم ومقاتل عمن ظلمهم وأساء إليهم (والله يحب المحسنين) عن الثوري
الإحسان أن تحسن إلى المسئ فإن الإحسان إلى المحسن تجارة 135 قوله تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشة) قال ابن مسعود قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب وكفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك أو أذنك افعل كذا وكذا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال عطاء نزلت في تيهان التمار وكنيته أبو معبد أتته امرأة حسناء تبتاه منه تمرا فقال لها إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له اتق الله فتركها وندم على ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية وقال مقاتل والكلبي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف فخرج الثقفي في غزاة فاستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على إثرها وقبل يدها ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله فقالت لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال والأنصاري يسيح في الجبال تائبا مستغفرا فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجا فقال الأنصاري هلكت وذكر القصة فقال أبو بكر ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي مالا يغار للمقيم ثم أتيا عمر رضي الله عنه فقال مثل ذلك فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما فأنزل الله تعالى هذه الآية (والذين إذا فعلوا فاحشة) يعني قبيحة خارجة عما أذن الله تعالى فيه وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد قال جابر الفاحشة الزنا (أو ظلموا
352

سورة آل عمران 136 أنفسهم) ما دون الزنا من القبلة والمعانقة والنظر واللمس وقال مقاتل والكلبي الفاحشة ما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل أو ظلموا أنفسهم بالمعصية وقيل فعلوا فاحشة الكبائر أو ظلموا أنفسهم بالصغائر وقيل فعلوا فاحشة فعلا أو ظلموا أنفسهم قولا (ذكروا الله) أي ذكروا وعيد الله والله سائلهم وقال مقاتل بن حيان ذكروا الله باللسان عند الذنوب (فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله) أي وهل يغفر الذنوب إلا الله (ولم يصروا على ما فعلوا) أي لم يقيموا ولم يثبتوا عليه ولكن تابوا وأنابوا واستغفروا وأصل الإصرار الثبات على الشيء قال الحسن إتيان العبد ذنبا عمدا إصرار حتى يتوب وقال السدي الإصرار السكوت وترك الاستغفار أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزياتي أخبرنا حميد بن زنجويه أنا يحيى بن يحيى أنا عبد الحميد بن عبد الرحمن عن عثمان بن واقد العمري عن أبي نصرة قال لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له أسمعت من أبي بكر شيئا قال نعم سمعته يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة \ (وهم يعلمون) قال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي وهم يعلمون أنها معصية وقيل وهم يعلمون أن الإصرار ضار وقال الضحاك وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنوب وقال الحسن بن الفضل أن لهم ربا يغفر الذنوب وقيل وهم يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت وقيل وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم 136 (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) ثواب المطيعين أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الزيات أنا حميد بن زنجويه أنا عفان بن مسلم أنا أبو عوانة أنا عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة الأسدي عن أسماء بن الحكم الفزاري قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ ما من عبد مؤمن يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له \ ورواه أبو عيسى عن قتيبة عن أبي عوانة وزاد ثم قرأ (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) الآية أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور السمعاني أنا أبو جعفر الزياتي أنا حميد بن زنجويه أنا هشام بن عبد الملك أخبرنا همام عن إسحاق عن عبد الله بن أبي طلحة قال كان قاض بالمدينة يقال له عبد الرحمن بن أبي عمرة وسمعته
353

سورة آل عمران 137 138 يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ إن عبدا أذنب ذنبا فقال أي رب أذنبت ذنبا فاغفره لي قال فقال له ربه عز وجل علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فقال رب أذنبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه عز وجل علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور السمعاني أنا أبو جعفر الزياتي أنا حميد بن زنجويه أخبرنا النعمان السدوسي أخبرنا المهدي بن ميمون أخبرنا غيلان بن جرير عن شهر بن حوشب عن معدي كرب عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى \ قال يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ابن آدم إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئا ابن آدم إنك إن تذنب حتى تبلغ ذنوبك عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين الحسيني أنا عبد الله بن محمود بن محمود بن حسن الشرقي أنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر أخبرنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثني أبي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى \ من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب مالم يشرك بي شيئا \ قال ثابت البناني بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية (والذين إذا فعلوا فاحشة) إلى آخرها 137 قوله تعالى (قد خلت من قبلكم سنن) قال عطاء شرائع وقال الكلبي مضت لكل أمة سنة ومنهاج إذا اتبعوها رضي الله عنهم وقال مجاهد قد خلت من قبلكم سنن بالهلاك فيمن كذب قبلكم وقيل سنن أي أمم والسنة الأمة قال الشاعر (ما عاين الناس من فضل كفضلكم ولا رأوا مثلكم في سالف السنن) وقيل معناه أهل السنن والسنة الطريقة المتبعة في الخير والشر يقال سن فلان سنة حسنة وسنة سيئة إذا عمل عملا اقتدي به فيه من خير وشر ومعنى الآية قد مضت وسلفت مني سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بإمهالي واستدراجي إياهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلته لإهلاكهم وإدالة أنبيائي عليهم (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) أي آخرنا من المكذبين وهذا في حرب أحد يقول الله عز وجل فأنا أمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلته في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وأوليائه وإهلاك أعدائه 138 (هذا) أي هذا القرآن (بيان للناس) عامة (وهدى) من الضلالة (وموعظة للمتقين) خاصة
354

سورة آل عمران 139 140 139 قوله تعالى (ولا تهنوا ولا تحزنوا) هذا حق لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد والصبر على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد يقول الله تعالى ولا تهنوا أي لا تضعفوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح وكان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وقتل من الأنصار سبعون رجلا (ولا تحزنوا) أي على ما فاتكم (وأنتم الأعلون) بأن يكون لكم العاقبة بالنصر والظفر على أعدائكم (إن كنتم مؤمنين) يعني إذ كنتم أي لأنكم مؤمنون قال ابن عباس رضي الله عنهما انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب فأقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم لا يعلوه علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموها فذلك قوله تعالى (وأنتم الأعلون) وقال الكلبي نزلت هذه الآية بعد يوم أحد حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم بعدما أصابهم من الحرج فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية دليله قوله تعالى (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) 140 (إن يمسسكم قرح) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر (قرح) بضم القاف حيث جاء وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان معناهما واحد كالجهد والجهد وقال الفراء بالفتح اسم للجراحة وبالضم اسم لألم الجراحة هذا خطاب مع المسلمين حيث انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن يقول الله تعالى (إن يمسسكم قرح) يوم أحد (فقد مس القوم قرح مثله) يوم بدر (وتلك الأيام نداولها بين الناس) فيوم لهم ويوم عليهم أديل المسلمون من المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منه سبعين وقتلوا خمسا وسبعين أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا محمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمرو بن خالد أنا زهير أخبرنا أبو إسحق قال سمعت البراء بن عازي يحدث قال جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير فقال \ إن رأيتمونا تخطفلنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال فإنا والله رأيت النساء يتشددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرن فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم
355

سورة آل عمران 141 143 صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك قوله (والرسول يدعوكم في أخراكم) فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين سبعين أسيرا وسبعين قتيلا فقال أبو سفيان أفي القوم محمد ثلاث مرات فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات ثم قال أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوه فما ملك عمر نفسه فقال كذبت والله يا عدو اللهه إن الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك فقال يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز أعل هبل أهل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ ألا تجيبوه \ قالوا يا رسول الله ما نقول قال \ قولوا الله أعلى وأجل \ قال إن لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديثه قال أبو سفيان يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال فقال عمر رضي الله عنه لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار قال الزجاج الدولة تكون للمسلمين على الكفر لقوله تعالى (وإن جندنا لهم الغالبون) وكانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (وإن جندنا لهم الغالبون) يعني إنما كانت هذه المداولة ليعلم أي ليرى الله الذين آمنوا فيميز المؤمن من المنافق (ويتخذ منكم شهداء) يكرم أقواما بالشهادة (والله لا يحب الظالمين) 141 (وليمحص الله الذين آمنوا) أي يطهركم من الذنوب (ويمحق الكافرين) يفنيهم ويهلكهم معناه أنهم إن قتلوكم فهو تطهير لكم وإن قتلتموهم فهو محقهم واستئصالهم 142 (أم حسبتم) أي أحسبتم (أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله) أي ولم يعلم الله (الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) 143 (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه) وذلك أن قوما من المسلمين تمنوا يوما كيوم بدر ليقاتلوا ويستشهدوا فأراهم الله يوم أحد وقوله (تمنون الموت) أي سبب الموت وهو الجهاد من قبل أن تلقوه (فقد رأيتموه) يعني أسبابه (وأنتم تنظرون) فإن قيل ما معنى قوله (وأنتم تنظرون) بعد قوله (فقد رأيتموه) قيل ذكره تأكيدا وقيل الرؤية قد تكون بمعنى العلم فقال (وأنت تنظرون) ليعلم أن المراد بالرؤية النظر وقيل معناه وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم
356

سورة آل عمران 144 144 قوله عز وجل (وما محمد إلا سول قد خلت من قبله الرسل) قال أصحاب المغازي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحد في سبعمائة رجل وجعل عبد الله بن جبير وهو أخو خوات بن جبير على الرجالة وكانوا خمسين رجلا وقال أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا فإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم وإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا فقال من يأخذ السيف بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إنها لمشيتة يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع \ ففلق به هام المشركين وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم وروينا عن البراء بن عازب قال فأنا والله رأيت النساء يتشددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة والله لنأتين الناس ولنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم قال الزبير بن العوام فرأيت هندا وصواحبا هاربات مصعدات في الجبل باديات خدامهن ما دون أخذهن شيء فلما نظرت الرمات قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزموهم وقتلوهم ورمى عبد الله بن قميئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة يعلوها وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع
فجلس تحته طلحة حتى استوى عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أوجب طلحة \ ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيا وبقرت عن كبدة حمزة ولاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قميئة يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى المشركين وقال إني قتلت محمدا وصاح صارخ إلا إن محمدا قد قتل ويقال إن ذلك الصارخ إبليس لعنة الله عليه فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس \ إلي عباد الله إلي عباد الله \ فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوه عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وقال له إرم فداك أبي وأمي وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ
357

قوسين أو ثلاثا وكان الرجل يمر بجعبة من النبل فيقول انثرها لأبي طلحة وكان إذا رمى استشرف النبي صلى الله عليه وسلم لينظر إلى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست حين وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حين وقعت على وجنته فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها فعادت كأحسن ما كانت فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول لا نجوت إن نجا فقال القوم يا رسول الله لا يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه حتى إذا دنى منه وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنا أقتلك إن شاء الله فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه فخدشه خدشة فتدهدأ عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول قتلمي محمد فحمله أصحابه وقالوا ليس عليك بأس قال بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي أقتلك فلو بزق علي بعد تلك المقالة لقتلني فلم يلبث إلا يوما حتى مات بموضع يقال له سرف أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن إسماعيل أنا عمرو بن علي أنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال اشتد غضب الله على من قتله نبي واشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا وفشا في الناس أن محمدا قتل فقال بعض السلمين ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وبعض الصحابة جلسوا وألقوا ما بأيديهم من الأسلحة وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم الأول فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك يا قوم إن كان قد قتل محمد فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك قال عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلي أن اسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفرار فقالوا يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتل فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) ومحمد هو المستغرق على الأمر في الكمال وأكرم الله نبيه وصفيه باسمين مشتقين من اسمه جل جلاله محمد وأحمد وفيه يقول حسان بن ثابت (ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه والله أعلى وأمجد) (وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد) قوله تعالى (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) أي رجعتم إلى دينكم الأول (ومن ينقلب على عقبيه) ويرتد عن دينه (فلن يضر الله شيئا) بارتداده وإنما ضر نفسه (وسيجزي الله الشاكرين)
358

سورة آل عمران 145 146 145 (وما كان لنفس أن تموت) قال الأخفش اللام في (لنفس) منقولة من تموت تقديره وما كان نفس لتموت (إلا بإذن الله) بقضائه وقدره وقيل بعلمه وقيل بأمره (كتابا مؤجلا) أي كتب لكل نفس أجلا لا يقدر أحد على تغييره وتأخيره ونصب (كتابا) على المصدر أي كتب كتابا (ومن يرد ثواب الدنيا نوته منها) يعني من يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله يريد نؤته منها ما يشاء مما قدرناه له كما قال (كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد طلبا للغنيمة (ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) أي أراد بعمله الآخرة قيل أراد الذين ثبوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا (وسنجزي الشاكرين) أي المؤمنين المطيعين أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداوردي أخبرنا أبو الحسن أحمد بن موسى بن الصلت أنا أبو إسحق إبراهيم عبد الصمد الهاشمي أنا أبو يحيى محمد بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن المقرئ أنا أبي أنا الربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيهه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب الله له \ أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن أبي توبة الزراد أخبرنا أبو بكر محمد بن إدريس بن محمد الجرجاني وأبو أحمد محمد بن أحمد بن علي المعلم الهروي قالا أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني أخبرنا أبو العباس الحسن بن سفيان النسوي أخبرنا حسان بن موسى وعبد الله بن أسماء ابن أخي جويرية بن أسماء قال أخبرنا عبد الله بن المبارك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه \ 146 قوله تعالى (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير) قرأ ابن كثير (وكائن) بالمد والهمزة على وزن كاعن وبتليين الهمزة أبو جعفر وقرأ الآخرون (وكأين) بالهمزة والتشديد على وزن كعين ومعناه وكم وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهامية ولم يقع التنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف
359

سورة آل عمران 147 149 خاصة ويقف بعض القراء على (وكأين) بلا نون والأكثرون على الوقف بالنون قوله (قاتل) قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة بضم القاف
وقرأ الآخرون (قاتل) فمن قرأ (قاتل) فلقوله (فما وهنوا) ويستحيل وصفهم بأنهم لم يهنوا بعدما قتلوا لقول سعيد بن جبير ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال ولأن (قاتل) أعم قال أبو عبيدة إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم فكان (قاتل) أعم ومن قرأ (قتل) فله ثلاثة أوجه أحدها أن يكون القتل راجعا إلى النبي وحده فيكون تمام الكلام عند قوله (قتل) ويكون في الآية إضمار معناه ومعه ربيون كثير كما يقال قتل فلان معه جيش كثير أي ومعه والوجه الثاني أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين ويكون المراد بعض من معه تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله (فما وهنوا) راجعا إلى الباقين والوجه الثالث أن يكون القتل للربيين لا غير وقوله (ربيون كثير) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة جموع كثيرة وقال ابن مسعود الربيون الألوف وقال الكلبي الربية الواحدة عشرة آلاف وقال الضحاك الربية الواحدة ألف وقال الحسن فقهاء علماء وقيل هم الأتباع والربانيون والربيون الولاة والرعية وقيل منسوب إلى الرب وهم الذين يعبدون الرب (فما وهنوا) أي فما جبنوا (لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا) عن الجهاد بما نالهم من ألم الجراح وقتل الأصحاب (وما استكانوا) قال مقاتل وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم وقال السدي وما ذلوا وقال عطاء وما تضرعوا وقال أبو العالية وما جبنوا ولكن صبروا على أمر ربهم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم (والله يحب الصابرين) 147 قوله تعالى (وما كان قولهم) نصب على خبر كان والاسم في أن قالوا ومعناه وما كان قولهم عند قتل نبيهم (إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) أي الصغائر (وإسرافنا في أمرنا) أي الكبائر (وثبت أقدامنا) كي لا تزول (وانصرنا على القوم الكافرين) فيقول فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم 148 (فآتاهم الله ثواب الدنيا) النصرة والغنيمة (وحسن ثواب الآخرة) أي الأجر والجنة (والله يحب المحسنين) 149 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) يعني اليهود والنصارى وقال علي رضي الله عنه يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم
360

سورة آل عمران 150 152 (يردوكم على أعقابكم) يرجعوكم إلى أول أمركم من الشرك بالله (فتنقلبوا خاسرين) مغبونين 150 (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) وذلك أن أبا سفيان والمشركين لما ارتحلوا يوم أحد متوجهين نحو مكة انطلقوا حتى إذا بلغوا بعض الطريق ندموا وقالوا بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا فاستئاصلوهم فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به فذلك قوله تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب الخوف قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب (الرعب) بضم العين وقرأ الآخرون بسكونها (بما أشركوا باله مالم ينزل به سلطانا) حجة وبرهانا (ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) مقام الكافرين 152 قوله تعالى (ولقد صدقكم الله وعده) قال محمد بن كعب القرظي لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد قد أصابهم ما أصابهم قال ناس من أصحابه من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فأنزل الله تعالى (ولقد صدقكم الله وعده) بالنصر والظفر وذلك أن الظفر كان للمسلمين في الابتداء (إذ تحسونهم بإذنه) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين وهو جبل عن يساره وأقام عليه الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وأقبل المشركون فأخذوا في القتال فجعل الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل والمسلمون يضربونهم بالسيوف حتى ولوا هاربين فذلك قوله تعالى (إذ تحسونهم بإذنه) أي تقتلونهم قتلا ذريعا بقضاء الله قال أبو عبيدة الحس الاستئصال بالقتل (حتى إذا فشلتم) أي إن جبنتم وقيل معناه فلما فشلتم (وتنازعتم في الأمر وعصيتم) فالواو زائدة في (وتنازعتم) يعني إذا فشلتم تنازعتم وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم
361

سورة آل عمران 153 فشلتم ومعنى التنازع الاختلاف وكان اختلافهم أن الرماة اختلفوا حين انهزم المشركون فقال بعضهم انهزم القوم فما مقامنا وأقبلوا على الغنيمة وقال بعضهم لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ذلك حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين وجاءت الريح فصارت دبورا بعد ما كانت صبا وانقضت صفوف المسلمين واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا ما يشعرون من الدهش ونادى إبليس أن محمدا قد قتل فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين قوله تعالى (وعصيتم) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفتم أمره (من بعد ما أراكم) الله (ما تحبون) يا معشر المسلمين من الظفر والغنيمة (منكم من يريد الدنيا) يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب (ومنكم من يريد الآخرة) يعني الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا قال عبد الله بن مسعود ما شعرت أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ونزلت هذه الآية (ثم صرفكم عنهم) أي ردكم عنهم بالهزيمة (ليبتليكم) ليمتحنكم وقيل لينزل البلاء عليكم (ولقد عفا عنكم) فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة منكم لأمر نبيكم (والله ذو فضل على المؤمنين) 153 (إذ تصعدون) يعني ولقد عفا عنكم إذ تصعدون هاربين وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة (تصعدون) بفتح التاء والعين والقراءة المعروفة بضم التاء وكسر العين والاصعاد السير في مستوى الأرض والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح قال أبو حاتم يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره وقال المبرد أصعد إذا أبعد في الذهاب وكلتا القراءتين صواب فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد وقال المفضل صعد وأصعد بمعنى واحد (ولا تلوون على أحد) أي لا تعرجون ولا تقيمون على أحد لا يلتفت بعضكم إلى بعض (والرسول يدعوكم في أخراكم) أي في آخركم ومن ورائكم إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة (فأثابكم) فجازاكم جعل الإثابة بمعنى العقاب وأصلها في الحسنات لأنه وضعها موضع الثواب كقوله تعالى (فبشرهم بعذاب أليم) جعل البشارة في العذاب ومعناه جعل مكان الثواب الذين كنتم ترجون (غما بغم) وقيل الباء بمعنى على أي غما على غم وقيل غما متصلا بغم فالغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة والغم الثاني ما نالوا من القتل والهزيمة وقيل الغم الأول ما أصابهم من القتل والجراح والغم الثاني أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل فأنساهم الغم الأول وقيل الغم الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم بخيل المشركين والغم الثاني حين أشرف عليهم أبو
362

سورة آل عمران 154 سفيان وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه
فأراد أن يرميه فقال أنا رسول الله ففرحوا حين وجدوا رسول الله وفرح النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى أن أصحابه من يمتنع به فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لهم أن يعلونا اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم وقيل إنهم غموا الرسول بمخالفة أمره فجازاهم الله بذلك الغم غم القتل والهزيمة قوله تعالى (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) من الفتح والغنيمة (ولا ما أصابكم) أي ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة (والله خبير بما تعملون) 154 (ثم أنزل عليكم) يا معشر المسلمين (من بعد الغم أمنة) يعني أمنا والأمن الأمنة بمعنى واحد وقيل الأمن يكون مع زوال سبب الخوف والأمنة مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف هنا قائما (نعاسا) بدل من الأمنة (يغشى طائفة منكم) قرأ حمزة والكسائي (تغشى) بالتاء ردا إلى الأمنة وقرأ الآخرون بالياء ردا على النعاس قال ابن عباس رضي الله عنهما أمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا إسماعيل أخبرنا إسحق بن إبراهيم بن عبد الرحمن أنا حسن بن محمد أخبرنا شيبان عن قتادة أخبرنا أنس أن أبا طلحة قال غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد قال فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه وقال ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النعاس وقال عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الحرب أرسل الله علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم يقول لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فذلك قوله تعالى (يغشى طائفة منكم) يعني المؤمنين (وطائفة
363

سورة آل عمران 155 156 قد أهمتهم أنفسهم) يعني المنافقين قيل أراد تمييز المنافقين من المؤمنين فأوقع النعاس على المؤمنين حتى أمنوا ولم يوقع على المنافقين فبقوا في الخوف قد أهمتهم أنفسهم أي حملتهم على الهم يقال أمر مهم (يظنون بالله غير الحق) أي لا ينصر محمدا وقيل ظنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل (ظن الجاهلية) أي كظن أهل الجاهلية والشرك (يقولون هل لنا) (مالنا) لفظة استفهام ومعناه حجد (من الأمر من شيء) يعني النصر (قل إن الأمر كله لله) قرأ أ ل البصرة برفع اللام على الابتداء وخبره في (لله) وقرأ الآخرون بالنصب على البدل وقيل على النعت (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا) وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولم يقتل رؤساؤنا وقيل لو كان على الحق ما قتلنا ههنا قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يعني التكذيب بالقدر وهو قولهم (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا) (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب) قضي (عليهم القتل إلى مضاجعهم) مصارعهم (وليبتلي الله) وليمتحن الله (ما في صدوركم وليمحص) يخرج ويظهر (ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور) بما في القلوب من خير وشر 155 (إن الذين تولوا) انهزموا (منكم) يا معشر المسلمين (يوم التقى الجمعان) جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلا ستة من المهاجرين وهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم قوله تعالى (إنما استزلهم الشيطان) أي طلب زلتهم كما يقال استعجلت فلانا إذا طلبت عجلته وقل حملهم الزلة وهي الخطيئة وقيل أزل واستزل بمعنى واحد (ببعض ما كسبوا) أي بشؤم ذنوبهم قال بعضهم بتركهم المركز وقال الحسن ما كسبوا هو قبولهم من الشيطان ما وسوس إليهم من الهزيمة (ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم) 156 (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا) يعني المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه (وقالوا لإخوانهم) في النفاق والكفر وقيل في النسب (إذ ضربوا في الأرض) أي سافروا فيها
364

سورة آل عمران 157 159 لتجارة أو غيرها (أو كانوا غزي) أي غزاة جمع غاز فقتلوا (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك) يعني قولهم وظنهم (حسرة في قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (يعملون) بالياء وقرأ الآخرون بالتاء 157 (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم) قرأ نافع وحمزة والكسائي (متم) بكسر الميم وقرأ الآخرون بالضم فمن ضمه فهو من مات يموت كقولك من قال يقول قلت بضم القاف ومن سكره فهو من مات يمات كقوله من خاف يخاف خفت (لمغفرة من الله) في العاقبة (ورحمة خير مما يجمعون) من الغنائم قراءة العامة (تجمعون) بالتاء لقوله (ولئن قتلتم) وقرأ حفص عن عاصم (يجمعون) بالياء يعني خير مما يجمع الناس 158 (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) في العاقبة 159 قوله تعالى (فبما رحمة من الله) أي فبرحمة من الله و (ما) صلة كقوله (فبما نقضهم) (لنت لهم) أي سهلت لهم أخلاقك وكثرة احتمالك ولم تسرع إليهم بالغضب فيما كان منهم يوم أحد (ولو كنت فظا) يعني جافيا سئ الخلق قليل الاحتمال (غليظ القلب) قال الكلبي فظا في القول غليظ القلب في الفعل (لانفضوا من حولك) أي نفروا وتفرقوا عنك يقال فضضتهم فانفضوا أي فرقتهم فتفرقوا (فاعف عنهم) تجاوز عنهم ما أتوا يوم أحد (واستغفر لهم) حتى أشفعك فيهم (وشاورهم في الأمر) أي استخرج آراءهم واعلم ما عندهم من قول العرب شرت الدابة وشورتها إذا استخرجت جريها وشرت العسل وأشرته إذا أخذته من موضعه واستخرجته واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ووجوب طاعته على الخلق فيما أحبوا أو كرهوا فقال بعضهم هو خاص في المعنى أي وشاروهم فيما ليس عندك فيه من الله تعالى عهد وقال الكلبي يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكايد الحرب عند الغزو وقا مقاتل وقتادة أمر الله تعالى بمشاورتهم تطييبا لقلوبهم فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاروا في الأمر شق ذلك عليهم وقال الحسن قد علم الله عز وجل أنه ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي قال أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر
365

سورة آل عمران 160 161 أخبرنا علي بن العباس المقانعي أخبرنا أحمد بن ماهان أخبرني أبي أخبرنا طاهر بن زيد عن عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي
الله عنها قالت ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإذا عزمت فتوكل على الله) لا على مشاروتهم أي قم بأمر الله وثق به واستعنه (إن الله يحب المتوكلين) 160 (إن ينصركم الله) يعينكم الله ويمنعكم من عدوكم (فلا غالب لكم) مثل يوم بدر (وإن يخذلكم) يترككم فلم ينصركم كما كان بأحد والخذلان القعود عن النصرة والإسلام للهلكة (فمن ذا الذي ينصركم من بعده) أي من بعد خذلانه (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) قيل التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك وقيل أن لا تطلب لنفسك ناصرا غير الله ولا لرزقك خازنا غير ولا لعملك شاهدا غيرا أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن شجاع البزار ببغداد أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد الهيثم الأنباري أخبرنا محمد بن أبي العوام أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يدخل سبعون ألفا من أمتي الجنة بغير حساب \ قيل يا رسول الله من هم قال \ هم الذين لا يكثرون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون \ فقال عكاشة بن محصن يا رسول الله أدع الله لي أن يجعلني منهم قال أنت منهم ثم قام رجل آخر فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة قال أخبر محمد بن أحمد بن الحارث أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمود أخبرنا إبراهيم بن محمد الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن حياة بن شريح حدثني بكر بن عمرو عن عبد الله بن إبراهيم بن محمد الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن حياة بن شريح حدثني بكر بن عمرو عن عبد الله بن إبراهيم بن محمد الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن حياة بن شريح حدثني بكر بن عمرو عن عبد الله بن هبيرة أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ لو أنمت تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا \ 161 قوله عز وجل (وما كان لنبي أن يغل) الآية قال عكرمة ومقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما إن هذه الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الكلبي ومقاتل نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ لم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري \ قالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال
366

النبي صلى الله عليه وسلم \ بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم \ فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال قتادة ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه وقيل إن الأقوياء ألحوا عليه يسألونه من المغنم فأنزل الله تعالى (وما كان لنبي أن يغل) فيعطي قوما ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بينهم بالسوية وقال محمد بن إسحاق هذا في الوحي يقول ما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة قوله تعالى (وما كان لنبي أن يغل) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وعاصم (يغل) بفتح الياء وضم الغين معناه أن يخون والمراد منه الأمة وقيل اللام فيه منقولة معناه ما كان النبي ليغل وقيل معناه ما كان يظن به ذلك ولا يأتي به وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الغين وله وجهان أحدهما أن تكون من الغلول أيضا أي ما كان لنبي أن يخان يعني أن تخونه أمته والوجه الآخر أن يكون من الإغلال معناه ما كان لنبي أن يغل أن يخون أي ينسب إلى الخيانة (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) قال الكلبي يمثل له ذلك الشيء في النار ثم يقال له انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع إلى النار ثم يكلف أن ينزل إليه فيخرجه فيفعل ذلك به أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه أخبرنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث مولى بن مطيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع قال فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى وكان رفاعة بن زيد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا أسود يقال له مدعم قال فخرجنا حتى إذا كنا بوادي القرى فبينا مدعم يحط رحلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر فجاء فأصابه فقتله فقال الناس هنيئا له الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم تشتعل نارا \ فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ شراك من نار أو شراكان من نار \ أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى عن سعيد عن محمد بن يحيى بن حيان عن أبي عمرة الأنصاري عن زيد بن خالد الجهني قال إن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ صلوا على صاحبكم \ فتغيرت وجوه الناس لذلك فزعم زيد أن سول الله صلى الله عليه وسلم قال إن صاحبكم قد غل في سبيل الله قال ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب المروزي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي قال استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتيبة على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي لي فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال \ ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي فهلا جلس في بيت أمه أو في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمل على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها تبعر \ ثم رفع يده حتى رأينا عفرة أبطية ثم قال \ اللهم هل بلغت \ ثلاثا وروى قيس بن أبي حازم عن
367

سورة آل عمران 162 165 معاذ بن جبل رضي الله عنه قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال \ لا تصيبن شيئا إلا بإذني فإنه غلول ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة \ وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه \ وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمرا حرقوا متاع الغال وضربوه قوله تعالى (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) 162 (أفمن اتبع رضوان الله) فترك الغلول (كمن باء بسخط من الله) فعل (ومأواه جهنم وبئس المصير) 163 (هم درجات عند الله) يعني ذو درجات
عند الله قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله مختلفوا المنازل عند الله فلمن اتبع رضواه الله الثواب العظيم ولمن باء بسخط من الله العذاب الأليم (والله بصير بما يعملون) 164 (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) قيل أراد به العرب لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وله فيهم من نسب إلا بني تغلب دليله قوله تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم) وقال الآخرون أراد به جميع المؤمنين ومعنى قوله تعالى (من أنفسهم) أي بالإيمان والشفقة لا بالنسب دليله قوله تعالى (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) (يتلو عليكم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا) وقد كانوا (من قبل) أي من قبله بعثه (لفي ضلال مبين) 165 (أولما) أي حين (أصابتكم مصيبة) بأحد (قد أصبتم مثليها) ببدر وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين وقتل المسلمون منهم ببدر سبعين وأسروا سبعين (قلتم أنى
368

سورة آل عمران 166 169 هذا) من أين لنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا (قل هو من عند أنفسكم) روى عبيدة السلماني عن علي رضي الله عنه قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله قد كره ما صنع فومك في أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا لا بل تأخذ منهم فداءهم فنقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر فهذا معنى قوله تعالى (قل هو من عند أنفسكم) أي بأخذكم الفداء واختياركم القتل (إن الله على كل شيء قدير) 166 (وما أصابكم يوم التقى الجمعان) بأحذ من القتل والجرح والهزيمة (فبإذن الله) أي بقضاء الله وقدره (وليعلم المؤمنين) أي وليميز وقيل ليرى 167 (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالى قاتلوا في سبيل الله) أي لأجل دين الله وطاعته (أو ادفعوا) عن أهلك وحريمكم وقال السدي أي كثروا سواد المسلمين واربطوا إن لم تقاتلوا يكون ذلك دفعا وقمعا للعدو (قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم) وهو عبد الله بن سلام وأصحابه الذين انصرفوا عن أحد وكانوا ثلاثمائة قال الله تعالى (هم للكفر يومئذ أقرب) أي إلى الكفر يومئذ أقرب (منهم للإيمان) أي إلى الإيمان (يقولون بأفواههم) يعني كلمة الإيمان (ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون) 168 (الذين قالوا لإخوانهم) في النسب لا في الدين وهم شهداء أحد (وقعدوا) يعني قعد هؤلاء القائلون عن الجهاد (لو أطاعونا) وانصرفوا عن محمد صلى الله عليه وسلم وقعدوا في بيوتهم (ما قتلوا قل) لهم يا محمد (فادرأوا) فادفعوا (عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) أن الحذر يغني عن القدر 169 قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) الآية قيل نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين وقال الآخرون نزلت في شهداء أحد وكانوا
369

سبعين رجلا أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار أخبرنا أحمد بن عبد الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن حماد أنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال سألنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما عن هذه الآية (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) الآية قال إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال \ أرواحهم كطير خضر \ ويروى \ في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا \ أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحق الثعلبي أنا عبد الله بن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان أنا جسعويه أنا صالح بن محمد أنا سليمان بن عمرو عن إسماعيل بن أمية عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه \ إنه لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قنادي من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا لهيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم ورأوا ما أعد الله لهم من الكرامة قالوا يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما يصنع الله بنا كي يرغبوا في الجهاد ولا يتكلوا عنه فقال الله عز وجل أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) إلى قوله (لا يضيع أجر المؤمنين) \ وسمعت عبد الواحد بن أحمد المليحي قال سمعت الحسن بن أحمد القتيبي قال سمعت محمد بن عبد الله بن يوسف قال سمعت محمد بن إسماعيل البكري قال سمعت يحيى بن حبيب بن عرين قال سمعت موسى بن إبراهيم قال سمعت طلحة بن خراش قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي \ يا جابر مالي أراك منكسرا \ قلت يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا قال \ أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك \ قلت بلى يا رسول الله قال \ ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب وإنه أحيا أباك فكلمه كفاحا قال يا عبدي تمن علي أعطك قال يا رب أحيني فأقتل فيك الثانية قال الرب تبارك وتعالى إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون فأنزلت فيهم (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) \ أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشمهيني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا حميد عن أنس رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ما من عبد يموت له عند الله خير يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة
370

فإنه يحب أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى \ وقال قوم نزلت هذه الآية في شهداء بئر معونة وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق عن أبيه إسحق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قال قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة وكان سيد بني عامر بن صعصعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأهدى إليه هدية فأبى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يقبلها وقال لا أقبل هدية مشرك فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما له فيه وما أعد الله للمؤمنين وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد وقال يا محمد إن الذي تدعو إليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إني أخشى عليهم أهل نجد \ فقال أبو البراء أنا لهم جار فابعثم فليدعوا الناس إلى أمرك فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمر وأخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن يزيد بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فلما نزلوها قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء فقال حرام بن ملحان أنا فخرج بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء فلما أتاهم حرام بن ملحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرام بن ملحان يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا إلى أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقال لن نخفر أ [ا براء قد عقد لهم عقدا وجوارا ثم استصرخ عليهم قبائل من بني سلمة عصية ورعلا وذكوان فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتث بين القتلى فضلوه فيهم فعاش حتى قتل يوم الخندق وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلمم ينبههما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على المعسكر فقالا والله إن لهذا الطير لشأنا فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذ الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية ماذا ترى قال أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره فقال الأنصاري الله أكبر لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطت قتل فيه المنذر بن عمرو ثم قاتل القوم حتى قتل وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا \ فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره وكان فيما أصيب عامر بن فهيرة فروى محمد بن إسحاق عن هشام بن
371

سورة آل عمران 170 عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه قالوا هو عامر بن فهيرة ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الأعلى بن حماد أنا يزيد بن زريع أنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدوهم فأمدهم بسبعين من النصار كنا نسميهم القراء في زمانهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان قال أنس رضي الله عنه فقرأنا فيهم قرآنا ثم إن ذلك رفع بلغوا عنا قومنا إنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخت فرفع بعدما قرأناه زمانا وأنزل الله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) الآية وقيل إن أولياء الشهداء كانوا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء وقالوا نحن في النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور فأنزل الله تعالى تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم (ولا تحسبن) ولا تظنن (الذين قتلوا في سبيل الله) قرأ ابن عامر (قتلوا) بالتشديد والآخرون بالتخفيف (أمواتا) كأموات من لم يقتل في سبيل الله (بل أحياء عند ربهم) قيل أحياء في الدين وقيل في الذكر وقيل لأنهم يرزقون ويأكلون ويتمتعون كالأحياء وقيل لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة وقيل لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض وقال عبيدة بن عمير مر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ألا فأتوهم وزروهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه \ (رزقون) من ثمار الجنة وتحفها 170 (فرحين بما آتاهم الله من فضله) رزقه وثوابه (ويستبشرون) ويفرحون (بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا ولحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا فهم لذلك مستبشرون (أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
372

سورة آل عمران 171 172 171 (يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله) أي وبأن الله وقرأ الكسائي بكسر الألف على الاستئناف (لا يضيع أجر المؤمنين) أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة \ وقال \ والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثغب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك \ أخبرنا الإمام أبو علي الحسن بن محمد القاضي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا علي بن الحسن الداربجردي أنا عبد الله بن يزيد المقري أنا سعيد حدثني محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة \ 172 قوله تعالى (الذين استجابوا لله والرسول) الآية وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا وقالوا لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموه ارجعوا فاستأصلوهم فبلغ ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهب العدو ويربهم من نفسه وأصحابه قوة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجرح والقرح الذي أصابهم يوم أحد ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم الا لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله فقال يا رسول الله إن أبي كان قد خلفني على أخوات لي سبع وقال لي يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن تترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك على نفسي في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهم فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا أن بهم قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم فينصرفوا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا رضي الله عنهم حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال فروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعبد الله بن الزبير يا ابن أختي أما والله إن أباك وجدك تعني أبا بكر والزبير لمن الذين قال الله عز وجل فيهم (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا وكان معبد يومئذ مشركا فقال يا محمد والله لقد عز علينا ما
373

أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى كان أعفاك منهم ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ق أصبنا جلة أصحابه وقادتهم لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال له ما وراءك يا معبك قال محمد قد خرج مع أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط قال ويلك ما تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط قال ويلك ما تقول قال والله ما أراد ترحل حتى ترى نواصي الخيل قال فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال فإني والله أنهاك عن ذلك فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا (كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجراد الأبابيل) فذكر أبياتا فرد ذلك أنا سفيان ومن معه ومر به ركب من عبد القيس فقال أين تريدون قالوا نريد المدينة قال ولم يقولوا نريد الميرة قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة وأحمل لكم إبلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتمونا قالوا نعم قال فإذا جئتموه فأخبروه نا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم وانصرف أبو سفيان إلى مكة ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قاله أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه \ حسبنا الله ونعم الوكيل \ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بعد الثالثة هذا قول أكثر المفسرين وقال مجاهد وعكرمة نزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرى وذلك أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال يا محمد بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ذلك بيننا وبينك إن شاء الله \ فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران ثم ألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان يا نعيم إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا لا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أني في جمع كثير لا طاقة لهم بنا ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها قال فجاء سهيل فقال له نعيم يا أبا يزيد اتضمن لي هذه القلائص من أبي سفيان وأنطلق إلى محمد وأثبطه قال نعم فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال أين تريدون فقالوا اعدنا أبا سفيان أن نلتقي بموسم بدر الصغرى قال بئس الرأي رأيكم أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا الشريد أفتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ والذي نفس محمد بيده لأخرجن ولو وحدي فأما الجبان فإنه رجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقال حسبنا الله ونعم
374

سورة آل عمران 173 174 الوكيل \ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى وافوا بدرا الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون أن يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون حسبنا الله ونعم الوكيل حتى بلغوا بدرا وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان م مجنة إلى مكة فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين ووافقوا السوق وكانت معهم تجارات ونفقات فباعوا وأصابوا بالدرهم درهمين فانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين فذلك قوله تعالى (الذين استجابوا لله والرسول) أي أجابوا ومحل (الذين) خفض على صفة المؤمنين تقديره إن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين الذين استجابوا لله والرسول (من بعد ما أصابهم القرح) أي نالهم الجرح وتم الكلام ههنا ثم ابتداء فقال (للذين أحسنوا منهم) بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته إلى الغزو (واتقوا) معصيته (وأجر عظيم) 173 (الذين قال لهم الناس) ومحل (الذين) خفض أيضا مردود على الذين الأول وأراد بالناس نعيم بن مسعود في قوله مجاهد وعكرمة فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله تعالى (أم يحسدون الناس) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وحده وقال محمد بن إسحاق وجماعة أراد بالناس الركب من عبد القيس (إن الناس قد جمعوا لكم) يعني أبا سفيان وأصحابه (فاخشوهم) فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم (فزادهم إيمانا) تصديقا ويقينا وقوله (وقالوا حسبنا الله) أي كافينا الله (ونعم الوكيل) أي الموكل إليه الأمور فعيل بمعنى مفعول أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا محمد بن يونس أخبرنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (حسبنا الله ونعم الوكيل) كلمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) 174 (فانقلبوا) فانصرفوا (
بنعمة من الله) بعافية لم يلقوا عدوا (وفضل) تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق (لم يمسسهم سوء) لم يصبهم أذى ولا مكروه (واتبعوا رضوان الله) في طاعة الله وطاعة رسوله وذلك أنهم قالوا هل يكون هذا غزو فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم (والله ذو فضل عظيم)
375

سورة آل عمران 175 178 175 قوله تعالى (إنما ذلكم الشيطان) يعني ذلك الذي قال لكم (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) من فعل الشيطان ألقي في أفواههم لترهبوهم وتجبنوا عنهم (يخوف أولياءه) أي يخوفكم بأوليائه وكذلك هو في قراءة أبي بن كعب يعني يخوف المؤمنين بالكافرين قال السدي يعظم أولياءه في صدورهم ليخافوهم يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود (يخوفكم أولياءه) (فلا تخافوهم وخافون) في ترك أمري (إن كنتم مؤمنين) مصدقين بوعدي لأني متكفل لكم بالنصر والظفر 176 قوله عز وجل (ولا يحزنك) قرأ نافع (يحزنك) بضم الياء وكسر الزاي وكذلك في جميع القرآن إلا قوله (لا يحزنهم الفزع الأكبر) ضده أبو جعفر وهما لغتان حزن يحزن وأحزن يحزن إلا أن اللغة الغالبة حزن يحزن (الذين يسارعون في الكفر) قال الضحاك هم كفار قريش وقال غيره المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار (إنهم لن يضروا الله شيئا) بمسارعتهم في الكفر (يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة) نصيبا في ثواب الآخرة فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر (ولهم عذاب عظيم) 177 (إن الذين اشتروا) استبدلوا (الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا) بمسارعتهم في الكفر وإنما يضرون أنفسهم (ولهم عذاب أليم) 178 (ولا يحسبن الذين كفروا) قرأ حمزة هذا والذي بعده بالتاء فيهما وقرأ الآخرون بالياء فمن قرأ بالياء (فالذين) في محل الرفع على الفاعل وتقديره لا يحسب الكفار إملاءنا لهم خيرا ومن قرأ بالتاء يعني ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا وإنما نصب على البدل من الذين (إنما نملي لهم خير لأنفسهم) والإملاء الامهال والتأخير يقال عشت طويلا وتمليت حينا ومنه قوله تعالى (واهجرني مليا) أي حينا طويلا ثم ابتدأ فقال (إنما نملي لهم) نمهلهم (ليزدادوا إئما ولهم عذاب مهين) قال مقاتل نزلت في مشركي مكة وقال عطاء في قريظة والنضير أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله القفال أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي أنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي
376

سورة آل عمران 179 أنا محمد بن يونس أنا أبو داود الطيالسي أنا شعبة عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبي قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير قال \ من طال عمره وحسن عمله \ قيل فأي الناس شر قال \ من طال عمره وساء عمله \ 179 قوله تعالى (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) اختلفوا فيها فقال الكلبي قالت قريش يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان وأن من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك وبمن لا يؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال السدي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ عرضت علي أمتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر بي \ فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه وما يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال \ ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا أنبأتكم به \ فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال من أبي يا رسول الله قال حذافة فقام عمر فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيا فاعف عنا عفا الله عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ فهل أنتم منتهون \ ثم نزل عن المنبر فأنزل الله تعالى هذه الآية واختلفوا في حكم الآية ونظمها فقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين يعني (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه) يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق (حتى يميز الخبيث من الطيب) وقال قوم الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم معناه ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق فرجع من الخبر إلى الخطاب (حتى يميز الخبيث من الطيب) وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بضم الياء وتشديدها وكذلك التي في الأنفال وقرأ الباقون بالتخفيف يقال ماز الشيء يميزه ميزا وميزه تمييزا إذا فرقه فامتاز وإنما هو بنفسه قال أبو معاذ إذا فرقت بين شيئين قلت مزت ميزا فإذا كانت أشياء قلت ميزتها تمييزا وكذلك إذا جعلت الشيء الواحد شيئين قلت فرقت بالتخفيف ومنه فرقت الشعر فإن جعلته أشياء قلت فرقته تفريقا ومعنى الآية حتى يميز المنافق من المخلص فميز الله المؤمنين
377

سورة آل عمران 180 من المنافقين يوم أحد حيث أظهروا النفاق فتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قتادة حتى يميز الكافر من المؤمن بالهجرة والجهاد وقال الضحاك (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه) في أصلاب الرجال وأرحام النساء يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين وقيل (حتى يميز الخبيث) وهو المذنب (من الطيب) وهو المؤمن يعني حتى تحط الأوزار عن المؤمن بما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) لأنه لا يعلم الغيب أحد غير الله (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) فيطلعه على بعض علم الغيب نظيره قوله تعالى (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول) وقال السدي معناه وما كان الله ليطلع محمدا صلى الله عليه وسلم على الغيب ولكن الله اجتباه (فآمنوا بالله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) 180 (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم) أي ولا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم (بل هو) يعني البخل (شر لهم سيطوقون) أي سوق يطوقون (ما بخلوا به يوم القيامة) يعني يجعل ما منعه من الزكاة حية تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فوقه إلى قدمه هذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا علي بن عبد الله المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا علي بن عبد الله المديني أنا هاشم بن قاسم أخبرنا عبد الرحمن بن دينار عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه يني شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا (ولا يحسبن الذين يبخلون) الآية \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمرو بن حفص بن غياث انا أبي أنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال انتهيت إليه يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال \ والذي نفسي بيده
أو والذي لا إله غيره أو كما حلف ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جاوزت أخراها ردت عليه أولادها حتى يقضى بين الناس \ قال إبراهيم النخعي معنى الآية يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقا من النار قال مجاهد يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم وروى عطية عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم كما قال في سورة النساء (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) ومعنى قوله (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) أي يحملون وزره وإثمه كقوله
378

سورة آل عمران 181 182 تعالى (يحملون أوزارهم على ظهورهم) (ولله ميراث السماوات والأرض) يعني أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم نظيره قوله تعالى (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها) (والله بما تعملون خبير) قرأ أهل البصرة ومكة بالياء وقرأ الآخرون بالتاء 181 قوله تعالى (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) قال الحسن ومجاهد لما نزلت (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) قالت اليهود إن الله فقير يستقرض منا ونحن أغنياء وذكر الحسن أن قائل هذا الكلام حيي بن أخطب وقال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام أو إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل أبو بكر رضي الله عنه ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاس بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أسبيع فقال أ [و بكر لفنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة فآمن وصدق وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب فقال فنحاص يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني فإن كان ما تقول حقا فإن الله إذا الفقير ونحن أغنياء وأنه ينهاكم عن الرب ويعطينا ولو كان غنيا ما أعطانا الرب فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه \ ما حملت على ما صنعت \ فقال يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبت لله فضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص فأنزل الله تعالى تكذيبا وردا على فنحاص وتصديقا لأبي بكر رضي الله عنه (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) (سنكتب ما قالوا) من الإفك والفرية على الله فنجازيهم به وقال مقاتل سنحفظ عليهم وقال الواقدي سنأمر الحفظة بالكتابة نظيره قوله تعالى (وإنا له كاتبون) (وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) قرأ حمزة (سيكتب) بضم الياء (وقتلهم) برفع اللام (ويقول) بالياء و (ذوقوا عذاب الحريق) أي النار وهو بمعنى المحرق كما يقال (لهم عذاب أليم) أي مؤلم 182 (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) فيعذب بغير ذنب
379

سورة آل عمران 183 185 183 قوله تعالى (الذين قالوا إن الله عهد إلينا) الآية قال الكلبي نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد تزعم أن الله تعالى بعثك إلينا رسولا وأنزل عليك الكتاب وأن الله تعالى قد عهد إلينا في التوراة (أن لا نؤمن لرسول) يزعم أنه من عند الله (حتى يأتينا بقربان تأكله النار) فإن جئتنا به صدقناك فأنزل الله تعالى (الذين قالوا) أي سمع الله قول الذين قالوا ومحل (الذين) خفض ردا على (الذين) الأول (إن الله عهد إلينا) أي أمرنا وأوصانا في كتبه أن لا نؤمن برسول أي لا نصدق رسولا يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فيكون دليلا على صدقه والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من نسيكة وصدقة وعمل صالح وهو فعلان من القربة وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل وكانوا إذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف فتأكله وتحرق ذلك القربان وتلك الغنيمة فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يقبل بقيت على حالها وقال السدي إن الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم (قل) يا محمد (قد جاءكم) يا معشر اليهود (رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم) من القربان (فلم قتلتموهم) يعني زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء وأراد بذلك أسلافهم فخاطبهم بذلك لأنهم رضوا بفعل أسلافهم (إن كنتم صادقين) معناه تعذيبهم إياك مع علمهم بصدقك كقتل آبائهم الأنبياء مع الإتيان بالقربان والمعجزات ثم قال معزيا لنبيه صلى الله عليه وسلم 184 (فإن كذبوك فقد كذبت رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر) قرأ ابن عامر (وبالزبر) أي بالكتب المزبورة يعني المكتوبة واحدها مثل رسول ورسل (والكتاب المنير) الواضح المضيء 185 قوله عز وجل (كل نفس) منفوسة (ذائقة الموت) وفي الحديث \ لما خلق الله تعالى آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدها أن يرد فيها ما أخذ منها فما من أحد إلا ويدفن في التربة
380

سورة آل عمران 186 التي خلق منها \ (وإنما توفون أجوركم) توفون جزاء أعمالكم (يوم القيامة) إن خيرا فخير وإن شرا فشر (فمن زحزح) نحي وأزيل (عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) يعني منفعة ومتعة كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى وقال الحسن كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل له قال قتادة هي متاع متروكة يوشك أن تضمحل بأهلها فخذا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم والغرور الباطل أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن إسماعيل بن يحيى أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر \ واقرؤوا إن شئتم (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) وإن في الجنة بشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم (وظل ممدود
) ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما عليها واقرؤوا إن شئتم (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) 186 (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) الآية قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج نزلت الآية في أبي بكر وفنحاص بن عازوراء وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص بن عازوراء سيد بني قينقاع ليستمده وكتب إليه كتابا وقال لأبي بكر رضي الله عنه \ لا تفتأتن علي بشيء حتى ترجع \ فجاء أبو بكر رضي الله عنه وهو متوشح السيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال قد احتاج ربك إلى أن نمده فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم \ لا تفتأتن علي بشيء حتى ترجع \ فكف فنزلت هذه الآية وقال الزهري نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسب المسلمين ويحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ويسب نساء المسلمين فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ من لي بابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله \ فقال محمد بن مسلمة الأنصاري أنا لك يا رسول الله أنا أقتله قال فافعل إن قدرت على ذلك فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يطعم ولا يشرب إلا ما تعلق به نفسه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه وقال له لم تركت الطعام والشراب قال يا رسول الله قلت قولا ولا أدري هل أفي به أم لا فقال إنما عليك الجهاد فقال يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول فيه قال قولوا ما بدا لكم وأنتم في حل من ذلك فاجتمع في قتله محمد بن سلمة وسلكان بن
381

سلام وأبو نائلة وكان أخا كعب من الرضاعة وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبو عيسى بن جبير فمشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال \ انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم \ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في ليلة مقمرة فأقبلوا حتى أنهوا إلى حصنه فقدموا أبا نائلة فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشد الشعر وكان أبو نائلة يقول الشعر ثم قال ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم علي قال أفعل قال كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاء عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس فقال كعب أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرتك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا فقال أبو نائلة إن معي أصحابا أردنا أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك قال أترهنوني أبناءكم قال إنا نستحي إن يعير أبناؤنا فيقال هذا رهينة وسوق وهذا رهينة وسقين قال ترهنوني نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك وأية امرأة تمنع من جمالك ولكنا نرهنك الحلقة يعني السلاح وقد علمت حاجتنا إلى السلاح قال نعم وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا رآه فوعده أن يأتيه فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ليلا فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب من ملحفته فقالت امرأته أسمع صوتا يقطر منه الدم وإنك رجل محارب وإن صاحب المحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة فكلمهم من فوق الحصن فقال إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة وإن هؤلاء لو وجدوني نائما لأيقظوني وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب فنزل إليهم فتحدثوا معه ساعة ثم قالوا يا ابن الأشرف هل لك إلى أن تتماشى إلى شعب العجود نتحدث فيه بقية ليلتنا هذه قال إن شئتم فخرجوا يتماشون وكان أبو نائلة قال لأصحابه إني نائل شعره فأشمه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه ثم إنه شام يده في فود رأسه ثم شم يده فقال ما رأيت كالليلة طيب عروس قط قال إنه طيب أم فلان يعني امرأته ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة فعاد لمثلها ثم أخذ بفود رأسه حتى استمكن ثم قال اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه النار قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا قال فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس بجرح في رأسه ونزفه الدم ثم وقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه وتفل على جرح صاحبنا فرجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت اليهود وقعتنا بعدو الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من ظفرتم به من رجال اليهود فاقتلوه \ فوثب محيصة بن مسعود على سفينة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتله جعل حريصة يضربه ويقول أي عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله قال محيصة والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك قال لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني قال نعم والله إن
382

سورة آل عمران 187 188 دينا بلغ بك هذا العجب فأسلم حويصة فأنزل الله تعالى في شأن كعب (لتبلون) لتختبرن اللام للتأكيد وفيه معنى القسم والنون لتأكيد القسم (في أموالكم) بالجوائح والعاهات والخسران (وأنفسكم) بالأمرضا وقيل بمصائب الأقارب والعشائر قال عطار هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم ورباعهم وعذبوهم وقال الحسن هو ما فرض عليهم من أموالهم وأنفسهم من الحقوق كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) يعني اليهود والنصارى (ومن الذين أشركوا) يعني مشركي العرب (أذى كثيرا وإن تصبروا) على أذاهم (وتتقوا) الله (فإن ذلك من عزم الأمور) من حق الأمور وخيرها وقال عطاء من حقيقة الإيمان 187 (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالياء فيهما لقوله تعالى (فنبذوه وراء ظهورهم) وقرأ الآخرون بالتاء فيها على إضمار القول (فنبذوه وراء ظهورهم) أي طرحوه وضيعوه وتركوا العمل به (واشتروا به ثمنا قليلا) يعني المآكل والرشا (فبئس ما يشترون) قال قتادة هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي أخبرنا أبو معاذ الشاه بن عبد الرحمن أخبرنا أبو بكر عمر بن سهل وإسماعيل الدينوري أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى البرني أخبرنا أبو حذيفة موسى بن مسعود أخبرنا إبراهيم بن طهمان عن سماك بن حرب عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من سئل عن علم علمه وكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار \ وقال الحسن بن عمارة أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت أورأيت أن تحدثني فقال أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت إما أن تحدثني وإما
أن أحدثك فقال حدثني فقلت حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى يأخذ على أهل العلم أن يعلموا قال فحدثني أربعين حديثا 188 (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) الآية قرأ عاصم وحمزة والكسائي (لا تحسبن) بالتاء أي لا تحسبن يا محمد الفارجين وقرأ الآخرون بالياء (لا يحسبن) الفارحون في فرحهم منجيا لهم من
383

سورة آل عمران 189 190 العذاب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (فلا يحسبهم) بالياء وضم بالياء خبرا عن الفارحين أي فلا يحسبن أنفسهم وقرأ الآخرون بالتاء وفتح الباء أي فلا تحسبنهم يا محمد وأعاد قوله (فلا تحسبنهم) تأكيدا وفي حرف عبد الله بن مسعود (ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب) من غير تكرار واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا سعيد بن أبي مريم أنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن ياسر عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزل (لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا) الآية وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إبراهيم بن موسى أنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني ابن أبي مليكة أن علقمة بن وقاص أخبره أن مروان قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقل له لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمده بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس ما لكم ولهذه إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه فأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عباس رضي الله عنهما (وإذ أخذ الله ميثاق الذين آوتوا الكتاب) كذلك إلى قوله (يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) قال عكرمة نزلت في فنحاص وأسيبع وغيرهما من الأحبار يفرحون بإضلالهم الناس بنسبة الناس إياهم إلى العلم وليسوا بأهل العلم وقال مجاهد هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه وقال سعيد بن جبير هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه وقال سعيد بن جبير هم اليهود فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم وهم برآء من ذلك وقال قتادة ومقاتل أتت يهود خيبر نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا نحن نعرفك ونصدقك وإنا على رأيك ونحن لك ردء ولي ذلك في قلوبهم فلما خرجوا قال لهم المسلمون ما صنعتم قالوا عرفناه وصدقناه فقال لهم المسلمون أحسنتم هكذا فافعلوا فحمدوهم ودعوا لهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال (يفرحون بما أتوا) قال الفراء بما فعلوا كما قال الله تعالى (لقد جئت شيئا فريا) أي فعلت (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة) بمنجاة (من العذاب ولهم عذاب أليم) 189 (ولله ملك السماوات والأرض) يصرفها كيف يشاء (والله على كل شيء قدير) 190 (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) أخبرنا الإمام أبو علي
384

سورة آل عمران 191 192 الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفرايني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ أنا أحمد بن عبد الجبار أنا أبو فضيل عن حصين بن عبد الرحمن عن حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه استيقظ فتسوك ثم توضأ وهو يقول (إن في خلق السماوات والأرض) حتى ختم السورة ثم قام فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام والركوع والسجود ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ثم يتوضأ ثم يقرأ هؤلاء الآيات ثم أوتر بثلاث ركعات ثم أتاه المؤذن فخرج إلى الصلاة وهو يقول \ اللهم اجعل في بصري نورا وفي سمعي نورا وفي لساني نورا واجعل من خلفي نورا ومن أمامي نورا واجعل من فوقي نورا ومن تحتي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن يساري نورا \ قوله تعالى (لآيات لأولي الألباب) ذوي العقول ثم وصفهم فقال 191 (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي وقتادة هذا في الصلاة يصلي قائما فإن لم يستطع قاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي أنا هناد أنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم عن عبد الله بن زيدة عن عمران بن حصين قال سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال \ صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب \ وقال سائر المفسرين أراد به المداومة على الذكر في عموم الأحوال لأن الإنسان قل ما يخلوا من إحدى هذه الحالات الثلاث نظيره في سورة النساء (فإذا قضيتم لا صلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله ويعرفوا أن لها صانعا قادرا مدبرا حكيما قال ابن عوان الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النماء وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة (ربنا) أي ويقولون ربنا (ما خلقت هذا) رده إلى الخلق فلذلك لم يقل هذه (باطلا) أي عبثا وهزلا بل خلقته لأمر عظيم وانتصب (باطلا) بنزع الخافض أي الباطل (سبحانك فقنا عذاب النار) 192 (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) أي أهنته وقيل أهلكته وقيل فضحته لقوله تعالى
385

سورة آل عمران 193 195 (ولا تخزون في ضيفي) فإن قيل قد قال الله تعالى (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) ومن أهل الإيمان من يدخل النار وقد قال (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) فكيف الجمع قيل قال أنس وقتادة معناه إنك من تدخله في النار فقد أخزيته وقال سعيد بن المسيب هذه خاصة لمن لا يخرج منها فقد روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم \ إن الله يدخل قوما النار ثم يخرجون منها \ (وما للظالمين من أنصار) 193 (ربنا إننا سمعنا مناديا) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وأكثر الناس وقال القرظي يعني القرآن فليس كل واحد يلقى النبي صلى الله عليه وسلم (ينادي للإيمان)
إلى الإيمان (أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) أي في جملة الأبرار 194 (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) أي على ألسنة رسلك (ولا تخزنا) ولا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنا (يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) فإن قيل ما وجه قولهم (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) وقد علموا أن الله لا يخلف الميعاد قيل لفظه دعاء ومعناه خبر أي لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك تقديره (فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا) (ولا تخزنا يوم القيامة) لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك من الفضل والرحمة وقيل معناه ربنا واجلعنا ممن يستحقون ثوابك وتؤتيهم ما وعدتهم على ألسنة رسلك لأنهم لا يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها وقيل إنما سألوه تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء وقالوا قد علمنا أنك لا تخلف وعدك من النصر ولكن لا صبر لنا على حلمك فعجل خزيهم وانصرنا عليهم 195 قوله تعالى (فاستجاب لهم ربي أني) أي بأني (لا أضيع) لا أحبط (عمل عامل منكم) أيها المؤمنون (من ذكر أو أنثى) قال مجاهد قالت أم سلمة يا رسول الله إني أسمع الله يذكر
386

سورة آل عمران 196 198 كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فأنزل الله تعالى هذه الآية (بعضكم من بعض) قال الكلبي في الدين والنصرة والموالاة وقيل كلكم من آدم وحواء وقال الضحاك رجالكم شكل نسائكم ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة كما قال (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي) أي في طاعتي وديني وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة (وقاتلوا وقتلوا) قرأ ابن عامر وابن كثير (قتلوا) بالتشديد وقال الحسن يعني أنهم قطعوا في المعركة والآخرون بالتخفيف وقرأ أكثر القراء (وقاتلوا وقتلوا) يريد أنهم قاتلوا العدو ثم أنهم قتلوا وقرأ حمزة والكسائي (قتلوا وقاتلوا) وله وجهان أحدهما معناه وقاتل من بقي منهم ومعنى قوله (وقتلوا) أي قتل بعضهم تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم والوجه الآخر (وقتلوا) وقد قاتلوا (لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله) نصب على القطع قاله الكسائي وقال المبرد مصدر أي لأثيبنهم ثوابا (والله عنده حسن الثواب) 196 قوله عز وجل (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) نزلت في المشركين وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير ونحن في الجهد فأنزل الله تعالى هذه الآية (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) وضربهم في الأرض وتصرفهم في البلاد للتجارات وأنواع المكاسب فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره 197 (متاع قليل) أي هو متاع قليل بلغة فانية ومتعة زائلة (ثم مأواهم) مصيرهم (جهنم وبئس المهاد) الفراش 198 (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا) جزاء وثوابا (من عند الله) نصب على التفسير وقيل جعل ذلك نزلا (وما عند الله خير للأبرار) من متاع الدنيا أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد العزيز بن عبد الله أنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن عبيد بن جبير أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وإن عند رجليه قرظا مصبورا وعند رأسه أهب
387

سورة آل عمران 199 200 معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال ما يبكيك فقلت يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله فقال \ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة \ 199 قوله عز وجل (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) الآية قال ابن عباس وجابر وأنس وقتادة نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصمحة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أخرجوا فصلوا عل أخ لكم مات بغير أرضكم النجاشي فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال عطاء نزلت في أهل نجران أربعين رجلا اثنان وثلاثون من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريج نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه وقال مجاهد نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) (وما أنزل إليكم) يعني القرآن (وما أنزل إليهم) يعني التوراة والإنجيل (خاشعين لله) خاضعين متواضعين لله (لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا) يعني لا يحرفون كتبهم ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمآكلة كفعل غيرهم من رؤساء اليهود (أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) 200 (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) قال الحسن اصبروا على دينكم ولا تدعوه لشدة ولا رخاء وقال قتادة اصبروا على طاعة الله وقال الضحاك ومقاتل بن سليمان على مر الله وقال مقاتل بن حيان على أداء فرائض الله تعالى وقال زيد بن أسلم على الجهاد وقال الكلبي على البلاء وصابروا يعني على قتال الكفار ورابطوا يعني المشركين قال أبو عبيدة أي دافعوا وأثبتوا والربط الشد وأصل الرباط أن يربط خيولهم وهؤلاء خيولهم ثم قيل ذلك لكم مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه وإن لم يكن له مركب أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن بشير أنه سمع أبا النصر أنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها ولروحة يروحها العبد في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها \ أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني أخبرنا أبو
388

محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي أنا يونس بن عبد الأعلى أنا ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن الحارث أنا أبو عبيدة بن عقبة أنا شرحبيل بن السمط أنا سلمان الخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان له أجر صيام شهر مقيم ومن مات مرابطا جرى له مثل ذلك الأجر وأجري عليه من الرزق وأمن من الفتان \ وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزوا يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة ودليل هذا
التأويل ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنا زاهر بن أحمد الفقيه أنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب أنا مالك أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ألا أخبركم بما يمحو الله الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط \ (واتقوا الله لعلكم تفلحون) قال بعض أرباب اللسان اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء سورة النساء بسم الله الرحمن الرحيم سورة النساء 1 1 قوله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) يعني آدم عليه السلام (وخلق منها زوجها) يعني حواء (وبث منهما) نشر وأظهر (رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به) أي تتساءلون به قرأ أهل الكوفة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين كقوله تعالى (ولا تعاونوا) (والأرحام) قراءة العامة بالنصب أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها وقرأ حمزة بالخفض أي به وبالأرحام كما يقال سألتك بالله والأرحام والقراءة الأولى أفصح لأن العرب لا تكاد تنسق بظاهر على مكنى إلا بعد أن تعيد الخافض فتقول مررت به وبزيد إلا أنه جائز مع قلته (إن الله كان عليكم رقيبا) أي حافظا
389

سورة النساء 2 3 2 قوله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم) قال مقاتل والكلبي نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ يتيم فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فلما سمع العم قال أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره \ يعني جنته فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ ثبت الأجر وبقي الوزر \ فقالوا كيف بقي الوزر فقال \ ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده \ وقوله (وآتوا) خطاب لأولياء الأوصياء واليتامى جمع يتيم واليتيم اسم لصغير لا أب له ولا جد وإنما يدفع المال إليهم بعد البلوغ وسماهم يتامى ههنا على معنى أنهم كانوا يتامى (ولا تتبدلوا) لا تستبدلوا (الخبيث بالطب) أي مالهم الذي هو حرام عليكم بالحلال من أموالكم واختلفوا في هذا التبديل قال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي كان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلونه مكان الرديء فربما كان أحد يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها المهزولة ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف ويقول درهم بدرهم فنهوا عن ذلك وقيل كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث فنصيبه من الميراث طيب وهذا الذي يأخذه من نصيب غيره خبيث وقال مجاهد لا تتعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) أي مع أموالكم كقوله تعالى (من أنصاري إلى الله) أي مع الله (إنه كان حوبا كبيرا) إثما عظيما 3 وقوله تعالى (وإن خفتم إلا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) اختلفوا في تأويلهم فقال بعضهم معناه إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب مثنى وثلاث ورباع أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري قال كان عروة بن الزبير يحدث أنه سأل عائشة رضي الله عنها (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) قالت هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن من النساء قالت عائشة رضي الله عنها ثم استفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) إلى قوله تعالى (وترغبون أن تنكحوهن) فبين الله تعالى في هذه الآية أن اليتيمة
390

إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها بإكمال الصداق وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء قال فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها الأوفى من الصداق ويعطوها حقها قال الحسن كان الرجل من أهل الجاهلية تكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخل غريب فيشاركه في مالها ثم يسيء صحبتها ويتربص أن تموت ويرثها فعاب الله تعالى ذلك وأنزل الله هذه الآية وقال عكرمة كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر فإذا صار معدما من مؤمن نسائه مال إلى مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم لا تزيدوا على أربع حتى لا يحوجكم إلى أخذ أموال اليتامى وهذه رواية طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال بعضهم كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء فيتزوجون ما شاؤوا وربما عدلوا وربما لم يعلدوا فلما أنزل الله تعالى في أموال اليتامة (وآتوا أموالهم) أنزل هذه الآية (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) يقول كما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن فلا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم القيام بحقوقهن لأن النساء في الضعف كاليتامى وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي ثم رخص في نكاح أربع فقال (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) وقال مجاهد معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى وأموالهم إيمانا فكذلك تحرجوا من الزنا فانكحوا النساء الحلال نكاحا طيبا ثم بين لهم عددا وكانوا يتزوجون ما شاؤوا من غير عدد فتزل قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) أي من طاب كقوله تعالى (والسماء وما بناها) وقوله تعالى (قال فرعون وما رب العالمين) والعرب تضع (من) و (ما) كل واحدة موضع الأخرى كقوله تعالى (فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين) وطاب أي حل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع معدولات عن اثنين وثلاث وأربع ولذلك لا يصرفن وإن الواو بمعنى أو للتخيير كقوله تعالى (أن تقوموا لله مثنى وفرادى) وقوله تعالى (أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع) وهذا إجماع أن أحدا من الأمة لا يجوز له أن يزيد على أربع نسوة وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لا مشاركة معه لأحد من الأمة فيها وروي أن قيس بن الحارث كان تحته ثمان نسوة فلما نزلت هذه الآية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم \ طلق أربعا وأمسك أربعا \ فجعل يقول للمرأة التي لم تلد يا فلانة أدبري والتي قد ولدت يا فلانة أقبلي وروي أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم \ أمسك أربعا وفارق سائرهن \ وإذا جمع الحر بين أربع نسوة حرائر فإنه يجوز فأما العبد فلا يجوز له أن ينكح أكثر من امرأتين عند أكثر أهل العلم لما أخبرنا عبد الوهاب بن أحمد الخطيب
أنا عبد العزيز أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة عن
391

سورة النساء 4 عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ينكح العبد امرأتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة حيضتين فإن لم تكن تحيض فبشهرين أو شهر ونصف وقال ربيعة يجوز للعبد أن ينكح أربع نسوة كالحر (فإن خفتم) خشيتم وقيل علمتم (ألا تعدلوا) بي الأزواج الأربع (فواحدة) أي فانكحوا واحدة وقرأ أبو جعفر (فواحدة) بالرفع (أو ما ملكت أيمانكم) يعني السراري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق ما يلزم في الحرائر ولا قسم لهن ولا وقف في عددهن وذكر الأيمان بيان تقديره أوما ملكتم وقال بعض أهل المعاني أو ما ملكت أيمانكم أي ما ينفذ فيه أقسامكم جعله من يمين الحلف لا يمين الجارحة (ذلك أدنى) أقرب (أن لا تعولوا) أي لا تجوروا ولا تميلوا يقال ميزان عائل أي جائر مائل هذا قول أكثر المفسرين وقال مجاهد أن لا تضلوا وقال الفراء أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم وأصل العول المجاوزة ومنه عول الفرائض وقال الشافعي رحمه الله أن لا تكثر عيالكم وما قاله أحد إنما يقال أعال يعيل إعالة إذا كثر عياله وقال أبو حاتم كان الشافعي رضي الله عنه أعلم بلسان العرب منا فله بلغة ويقال هي لغة حمير وقرأ طلحة بن مصرف (أن لا تعيلوا) وهي حجة لقول الشافعي رضوان الله عليه 4 (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) قال الكلبي ومجاهد هذا الخطاب للأولياء وذلك أن ولي المرأة كان إذا تزوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرا وإن كان زوجها غريبا حملوها إليه على بعير ولم يعطوها من مهرها غير ذلك فنهاهم عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله قال الحضرمي وكان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته ولا مهر بينهما فنهوا عن ذلك وأمروا بتسمية المهر في العقد أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك بن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق وقال الآخرون الخطاب للأزواج أمروا بإيتاء نسائهم الصداق وهذا أصح لأن الخطاب فيما قبل مع الناكحين والصدقات المهور واحدها صدقة نحلة قال قتادة فريضة وقال ابن جريج فريضة مسماة قال أبو عبيدة ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة وقال الكلبي عطية وهبة وقال أبو عبيدة عن طيب نفس وقال الزجاج تدينا أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة عن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج \ (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا) يعني فإن طابت نفوسهن بشيء من ذلك فوهبن منكم فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها فخرجت النفس مفسرة فلذلك وحد النفس كما قال الله
392

سورة النساء 5 تعالى (وضاق بهم ذرعا) وقرئ (عينا) وقيل لفظها واحد ومعناها جمع (فكلوه هنيئا مريئا) سائغا طيبا يقال عنأني الطعام يهنئني بفتح النون في الماضي وكسرها في الغابر وقيل الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء والمريء المحمود العاقبة التام الهضم الذي لا يضر قرأ أبو جعفر (هنيئا مريا) بتشديد الياء فيهما من غير همزة وكذلك (بري) (وبريون) (وبريا) (وكهية) والآخرون يهمزونها 5 قوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) اختلفوا في هؤلاء السفهاء فقال قوم هم النساء وقال الضحاك النساء من أسفه السفهاء وقال مجاهد نهى الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم وهن سفهاء سواء كن أزواجا أو بنات أو أمهات وقال الآخرون هم الأولاد قال الزهري يقول لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قيامك بعد الله تعالى فيفسده وقال بعضهم هم النساء والصبيان وقال الحسن هي امرأتك السفيهة وابنتك السفيهة وقال ابن عباس لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ولكن أمفسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم ومؤنتهم قال الكلبي إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده وقال سعيد بن جبير وعكرمة هو مال اليتيم يكون عندك يقول لا تؤته إياه وأنفقه عليه حتى يبلغ وإنما أضاف إلى الأولياء فقال (أموالكم) لأنهم قوامها ومدبروها والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله هو المستحق الحجر عليه وهو أن يكون مبذرا في ماله أو مفسدا في دينه فقال جل ذكره (ولا تؤتوا السفهاء) أي الجهال بموضع الحق أموالكم التي جعل الله لكم قياما قرأ نافع وابن عامر (قيما) بلا ألف وقرأ الآخرون (قياما) وأصله قواما فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وهو ملاك الأمر وما يقوم به الأمر وأراد ههنا قوام عيشكم الذي تعشيون به قال الضحاك به يقام الحج والجهاد وأعمال البر وبه فكاك الرقاب من النار (وارزقوهم فيها) أي أطعموهم (واكسوهم) لمن يجب عليكم رزقه ومؤنته وإنما قال (6 فيها) ولم يقل منها لأنه أراد أنهم جعلوا لهم فيها رزقا فإن الرزق من الله العطية من غير حد ومن العباد أجر موقت محدود (وقولوا لهم قولا معروفا) عدة جميلة وقال عطاء إذا ربحت أعطيتك وإن غنمت فلك فيه حظ وقيل هو الدعاء وقال ابن زيد إن لم يكن ممن يجب عليك نفقته فقل له عافانا الله وإياك بارك الله فيك وقيل قولا تطيب به أنفسهم
393

سورة النساء 6 6 قوله تعالى (وابتلوا اليتامى) الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتا وهو صغير فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله فأنزل الله تعالى هذه الآية (وابتلوا اليتامى) أي اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم أموالهم (حتى إذا بلغوا النكاح) أي مبلغ الرجال والنساء (فإن أنستم) أبصرتم (منهم رشدا) فقال المفسرون يعني عقلا وصلاحا في الدين وحفظا للمال وعلما بما يصلحه وقال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي لا يدفع إليه ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده والابتلاء يختلف باختلاف أحوالهم فإن كان ممن يتصرف في السوف فيدفع الولي إليه شيئا يسيرا من المال وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في السوق فيتخبره في نفقة داره والانفاق على عبيده وأجرائه وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذا رأى حسن تدبير وتصرفه في الأمور مرارا يغلب على القلب رشده دفع المال إليه واعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن الصغير وجواز دفع المال إليه بشيئين بالبلوغ والرشد والبلوغ يكون بأحد أشياء أربعة اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء واثنان مختصان بالنساء أحدهما السن والثاني الاحتلام أما السن فقد استكمل المولود خمس عشرة سنة حكم ببلوغه غلاما كان أو جارية لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو
العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أخبرنا سفيان عن عيينة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربعة عشر سنة فردني ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني قال نافع فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال هذا فرق ما بين المقاتلة والذرية وكتب أن يفرض لابن خمس عشرة سنة المقاتلة ومن لم يبلغها في الذرية وهذا قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة وبلوغ الغلام باستكمال ثمان عشرة سنة وأما الاحتلام فنعني به نزول المني سواء كان بالاحتلام أو بالجماع أو غيرهما فإذا وجدت ذلك بعد استكمال تسع سنين من أيهما كان حكم ببلوغه لقوله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الجزية حين بعثه إلى اليمن \ خذ من كل حالم دينارا \ وإما الإنبات وهو نبات الشعر الخشن حول الفرج فهو بلوغ أولاد المشركين لما روي عن عطية القرظي قال كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت ممن لم ينبت وهل يكون لذلك بلوغا في أولاد المسلمين فيه قولان أحدهما يكون بلوغا كما في أولاد الكفار والثاني لا
394

يكون بلوغا لأنه يمكن الوقوف على مواليد المسلمين بالرجوع إلى آبائهم وفي الكفار لا يوقف على مواليدهم ولا يقبل قول آبائهم فيه لكفرهم فجعل الإنبات فيه لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغا في حقهم أما ما يختص بالنساء فالحيض والحبل فإذا حاضت المرأة بعد استكمال تسع سنين يحكم ببلوغها وكذلك إذا ولدت يحكم ببلوغها قبل الوضع بستة اشهر لأنها أقل مدة الحمل وأما الرشد فهو أن يكون مصلحا في دينه وماله والصلاح في الدين هو أن يكون مجتنبا عن الفواحش والمعاصي التي تسقط العدالة والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذرا والتبذير هو أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية أو لا يحسن التصرف فيها فيغبن في البيوع فإذا بلغ الصبي وهو مفسد في دينه وغير مصلح لماله دام الحجر عليه ولا يدفع إليه المال ولا ينفذ تصرفه وعند أبي حنيفة رضي الله عنه إذا كان مصلحا لماله زال الحجر عنه وإن كان مفسدا في دنيه وإذا كان مفسدا لماله قال لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة غير أن تصرفه يكون نافذا قبله والقرآن حجة لمن استدام الحجر عليه لأن الله تعالى قال (حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد والفاسق لا يكون رشيدا وبعد بلوغه خمسا وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالاتفاق غير رشيد فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه قبل بلوغ هذا السن وإذا بلغ وأونس منه الرشد زال الحجر عنه ودفع إليه المال رجلا كان أو امرأة تزوج أو لم يتزوج وعند مالك رحمه الله تعالى إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها مالم تتزوج فإذا تزوجت دفع إليها ولكن لا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج مالم تكبر وتجرب وإذا بلغ الصبي رشيدا وزال الحجر عنه ثم عاد سفيها نظر فإن عاد مبذرا لماله حجر عليه وإن عاد مفسدا في دينه فعلى وجهين أحدهما يعاد الحجر عليه كما يستدام الحجر عليه إذا بلغ بهذه الصفة والثاني لا يعاد لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة رضي الله عنهم ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم فقال علي لآتين عثمان فلأحجرن عليك فاتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير أنا شريكه فقال عثمان كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير فكان ذلك اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير في دفعه قوله تعالى (ولا تأكلوها) يا معشر الأولياء (إسرافا) بغير حق (وبدارا) أي مبادرة (أن يكبروا) و (أن) في محل النصب يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذرا من أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم ثم بين ما يحل لهم ومن مالهم فقال (ومن كان غنيا فليستعفف) أي ليمتنع من مال اليتيم فلا يرزؤه قليلا ولا كثيرا والعفة الامتناع مما لا يحل (ومن كان فقيرا) محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده (فليأكل بالمعروف) أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر السنجري أخبرنا الإمام أبو سليمان الخطابي أخبرنا أبو بكر داسة التمار أخبرنا أبو داود السجستاني أخبرنا حميد بن مسعدة أن خالد بن الحارث حدثهم أخبرنا حسين يعني المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي
395

سورة النساء 7 الله عنهم أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم فقال \ كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل \ واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء فذهب بعضهم إلى أن يقضي إذا أيسر وهو المراد من قوله (فليأكل بالمعروف) فالمعروف القرض أي يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه فإذا أيسر قضاخ وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت وقال الشعبي لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة وقال قوم لا قضاء عليه ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف فقال عطاء وعكرمة يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف ولا يكتسي منه وقال النخعي لا يلبس الكتان ولا الحلل ولكن ما يسد الجوعة ووارى العورة وقال الحسن وجماعة يأكل من تمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه فأما الذهب والفضة فلا فإن أخذ شيئا منه فعليه رده وقال الكلبي المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم وليس له أن يأكل من ماله شيئا أخبرنا أبو إسحق السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال إن لي يتيما وإن له إبلا أفأشرب من لبن إبله فقال إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنا جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب وقال بعضهم والمعروف أن يأخذ ماله بقدر قيامه وأجرة عمله ولا قضاء عليه وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) هذا أمر وإرشاد وليس بواجب أمر الولي بالاشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعدما بلغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة (وكفى بالله حسيبا) محاسبا ومجازيا وشاهدا 7 قوله تعالى (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) الآية نزلت في أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كجة وثلاث بنات له منها فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان الصغير ذكرا وإنما كانوا يورثون الرجال ويقولون لا نعطي إلا من قاتل وحاز الغنيمة فجاءت
396

سورة النساء 8 أم كجة فقالت يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك علي ثلاث بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد
وعرفجة ولم يعطياني ولا بناتي شيئا وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا فأنزل الله عز وجل (للرجال) يعني للذكور من أولاد الميت وأقربائه (نصيب) حظ (مما ترك الوالدان والأقربون) من الميراث (وللنساء) وللإناث منهم (نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه) أي من المال (أو كثر) منه (نصيبا مفروضا) نصب على القطع وقيل جعل ذلك نصيب فأثبت لهن الميراث ولم يبين كم هو فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة لا تفرقا من مال أوس بن ثابت شيئا فإن الله تعالى جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل فيهن فأنزل الله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم) فلما نزلت أرسل رسول الله إلى سويد وعرفجة \ أن ادفعا إلى أم كجة الثمن وإلى بناته الثلثين ولكما باقي المال \ 8 قوله تعالى (وإذا حضر القسمة) يعني قسمة المواريث (أولوا القربى) الذين لا يرثون (واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) أي فارضخوا لهم من المال قبل القسمة (وقولوا لهم قولا معروفا) اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هي منسوخة وقال سعيد بن جبير والضحاك كانت هذه قبل آية الميراث فجعلت المواريث لأهلها ونسخت هذه الآية وقال الآخرون هي محكمة وهو قول ابن عباس والشعبي والنخعي والزهري وقال مجاهد هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم وقال الحسن كانوا يعطون التابوت والأواني ورث الثياب والمتاع والشيء الذي يستحيا من قسمته وإن كان بعض الورثة طفلا فقد اختلفوا فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره إن كانت الورثة كبارا رضخوا لهم وإن كانت صغارا اعتذروا إليهم فيقول الولي والوصي إني لا أملك هذا المال إنما هو للصغار ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم وإن يكبروا فسيعرفون حقوقكم هذا هو القول بالمعروف وقال بعضهم ذلك حق واجب في أموال الصغار والكبار فإن كانوا كبارا تولوا إعطاءهم وإن كانوا صغارا أعطى وليهم روى محمد بن سيرين أن عبيدة السلمياني قسم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت فصنع طعاما لأجل هذه الآية وقال لولا هذه الآية لكان هذا من مالي وقال قتادة عن يحيى بن معمر ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس هذه الآية وآية الاستئذان
397

سورة النساء 9 10 (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذي ملكت أيمانكم) الآية وقوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) الآية وقال بعضهم وهو أولى الأقاويل إن هذا على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب 9 قوله تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) أولاد أصغارا (خافوا عليهم) الفقر هذا في الرجل يحضره الموت فيقول من بحضرته انظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئا قدم لنفسك اعتق وتصدق وأعط فلانا كذا وفلانا كذا حتى يأتي على عامة ماله فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأمرهم أن يأمروه أن ينظر لولده ولا يزيد في وصيته على الثلث ولا يجحف بورثته كما أنه لو كان هذا القائل هو الموصي لسره أن يحثه من بحضرته على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالة مع ضعفهم وعجزهم وقال الكلبي هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول من كان في حجرة يتيم فليحسن إليه وليأت في حقه ما يجب أن يفعل بذريته من بعده قوله تعالى (فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) أي عدلا والسديد العدل والصواب من القول وهو أن يأمره بأن يتصدق بما دون الثلث ويخلف الباقي لورثته 10 قوله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) قال مقاتل بن حيان نزلت في رجل من بني غطفان يقال له مرثد بن زيد ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله فأنزل الله تعالى فيه (إن الذين يأكلون أموالي اليتامى ظلما) أي حراما بغير حق (إنما يأكلون في بطونهم نارا) أخبر عن ماله أي عاقبته تكون كذلك (وسيصلون سعيرا) قراءة العامة بفتح الياء أي يدخلونه يقال صلى النار يصلوها صليا وصلاء قال الله تعالى (إلا من هو صال الجحيم) وقرأ ابن عامر وأبو بكر بضم الياء أي يدخلون النار ويحرقون نظيره قوله تعالى (فسوف نصليه نارا) (سأصليه سقر) وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم \ رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل إحداهما قالصة على منخريه والأخرى على بطنه وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها فقلت يا جبريل من هؤلاء قال الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما \
398

سورة النساء 11 11 قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) الآية اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالذكورة والقوة فكانوا يورثون الرجال دون النساء والصبيان فأبطل الله ذلك بقوله (للرجل نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) الآية وكانت أيضا في الجاهلية وابتداء الإسلام بالمحالفة قال الله تعالى (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) ثم صارت الوراثة بالهجرة قال الله تعالى (والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) فنسخ ذلك كله وصارت الوراثة بأحد الأمور الثلاثة بالنسب والنكاح أو الولاء والمعني بالنسب أن القرابة يرث بعضهم من بعض لقوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) والمعني بالنكاح أن أحد الزوجين يرث صاحبه وبالولاء أن المعتق وعصابته يرثون المعتق فنذكر بعون الله تعالى فصلا وجيزا في بيان من يرث من الأقارب وكيفية توريث الورثة فنقول إذا مات ميت وله مال فيبدأ بتجهيزه ثم بقضاء ديونه ثم بإنفاذ وصاياه فما فضل يقسم بين الورثة على ثلاثة أقسام منهم من يرث بالفرض من يرث بالتعصيب ومنهم من يرث بهما جميعا فمن يرث بالنكاح لا يرث إلا بالفرض ومن يرث بالولاء لا يرث إلا بالتعصيب فأما من يرث بالقرابة فمنهم من يرث بالفرض كالبنات والأخوات والأمهات والجدات وأولاد الأم ومنهم من يرث بالتعصيب كالبنين والإخوة وبني الأعمام وبنيهم ومن يرث بهما كالأب يرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد فإن كان للميت ولد ابن فيرث الأب بالفرض السدس وإن كان للميت بنت فيرث الأب السدس بالفرض ويأخذ الباقي بعد نصيب البنت بالتعصيب وكذلك الجد وصاحب التعصيب من يأخذ جميع المال عن الانفراد ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض وجملة الورثة سبعة عشر عشرة من الرجال وسبع من النساء فمن الرجال الابن وابن الابن وإن سفل والأب والجد أبو الأب وإن علا والأخ سواء كان لأب وأم أو لأب أو لأم وابن الأخ للأم أو للأب وإن سفل والعم للأب والأم أو للأب وأبناؤهما وإن سفلوا والزوج ومولى العتاق ومن النساء البنت وبنت الابن وإن سفلت والجدة أم الأم وأم الأب والأخت سواء كانت لأب وأم أو لأب أو لأم والزوجة ومولاة العتاق وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمان بالغير الأبوان والولدان والزوجان لأنه ليس بينهم وبين الميت واسطة
399

والأسباب التي توجب حرمان الميراث أربعة اختلاف الدين والرق والقتل وعمي الموت ونعني باختلاف الدين أن الكافر لا يرث المسلم والمسلم لا يرث الكافر لما أخبرنا
عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أخبرنا الشافعي أنا ابن عيينة عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم \ فأما الكافر فيرث بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم لأن الكفر كله ملة واحدة لقوله تعالى (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) وذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل في الكفر يمنع التوارث حتى لا يرث اليهودي النصراني ولا النصراني المجوسي وإليه ذهب الزهري والأوزاعي وأحمد وإسحق لقول النبي صلى الله عليه وسلم \ لا يتوارث أهل ملتين شتى \ وتأوله الآخرون على الإسلام مع الكفر وأما الكفر فكله ملة واحدة فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوارث بين أهل ملتين شتى والرقيق لا يرث أحدا ولا يرثه أحد لأنه لا ملك له لا فرق فيه بين القن والمدبر والمكاتب وأم الولد والقتل يمنع الميراث عمدا كان أو خطأ لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال \ القاتل لا يرث \ ونعني بعمى الموت أن المتوارثين إذا عمى موتهما كل واحد منهما لمن كان حياته يقينا بعد موته من ورثته والسهام المحدودة في الفرائض ستة النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدي فالنصف فرض ثلاثة فرض الزوج عند عدم الولد وفرض البنت الواحدة للصلب أو لبنت الابن عند عدم ولد الصلب وفرض الأخت الواحدة للأب والأم أو للأب إذا لم يكن لولد لأب وأم والربع فرض اثنين فرض الزوج إذا كان للميت ولد وفرض الزوجة إذا لم يكن للميت ولد والثمن فرض الزوجة إذا كان للميت ولد والثلثان فرض البنتين للصلب فصاعدا ولبنتي الابن فصاعدا عند عدم ولد الصلب وفرض الأختين لأب وأم أو للأب فصاعدا والثلث فرض ثلاثة فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد والاثنان من الأخوة والأخوات إلا في مسئلتين أحدهما زوج وأبوان والثانية زوجة وأبوان فإن للأم فيهما ثلث ما بقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة وفرض الاثنين فصاعدا من أولاد الأم ذكرهم وأنثام فيه سواء وفرض الجد مع الأخوة إذ لم يكن في المسألة صاحب فرض وكان الثلث خيرا للجد من المقاسمة مع الإخوة وأما السدس ففرض سبعة فرض الأب إذا كان للميت ولد وفرض الأم إذا كان للميت ولد واثنان من الإخوة والأخوات وفرض الجد إذا كان للميت ولد ومع الإخوة والأخوات إذا كان في المسئلة صاحب فرض وكان السدس خيرا للجد من المقاسمة مع الإخوة وفرض الجدة والجدات وفرض الواحد من أولاد الأم ذكرا كان أو أنثى وفرض بنات الابن إذا كان للميت بنت واحدة للصلب تكملة للثلثين وفرض الأخوات للأب إذا كان للميت أخت واحدة لأب وأم تكملة للثلثين أخبرنا
400

عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا مسلم بن إبراهيم أنا وهيب بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر \ وفي الحديث دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض والحجب نوعان حجب نقصان وحجب حرمان فأما حجب النقصان فهو أن الولد أو ولد الابن يحجب الزوج من النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن والأم من الثلث إلى السدس وكذلك الاثنان فصاعدا من الإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس وحجب الحرمان هو أن الأم تسقط الجدات كلهن وأولاد الأم وهم الأخوة والأخوات للأم يسقطون بأربعة بالأب والجد وإن علا وبالولد وولد الابن وإن سفل وأولاد الأب والأم يسقطون بثلاثة بالأب والابن وابن الابن وإن سفلوا ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحق رحمهم الله وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة وبالأخ للأب والأم وذهب قوم إلى أن الأخوة جميعا يسقطون بالجد كما يسقطون بالأب وهو قول أبي بكر الصديق وابن عابس ومعاذ وأبي الدرداء وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الحسن وعطاء وطاوس وأبو حنيفة رحمهم الله وأقرب العصبات يسقط الأبعد من العصوبة وأقربهم الابن ثم ابن الابن وإن سفل ثم الأب ثم الجد أبو الأب وإن علا فإن كان مع الجد أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب فيشتركان في الميراث فإن لم يكن جد فالأخ للأب والأم ثم الأخ للأب ثم بنو الإخوة يقدم أقربهم سواء كان لأب وأم أو لأب فإن استويا في الدرجة فالذي هو لأب وأم أولى ثم العم لأب والأم ثم العم لأب ثم بنوهم على ترتيب بني ألإخوة ثم عم الأب ثم عم الجد على هذا الترتيب فإن لم يكن أحد من عصبات النسب وعلى الميت ولاء فالميراث للمعتق فإن لم يكن حيا فلعصبات المعتق وأربعة من الذكور يعصبون الإناث الابن وابن الابن والأخ للأب والأم والأخ للأب حتى لو ماتت عن ابن وبنت أو عن أخ وأخت لأب وأم أو لأب فإنه يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولا يفرض للبنت والأخت وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته من الإناث ومن فوقه إذا لم تأخذ من الثلثين شيئا حتى لو ماتت عن بنتين وبنت ابن فللبنتين الثلثان ولا شيء لبنت الابن فإن كان في درجتها ابن ابن أو أسفل منها ابن ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين والأخت للأب والأم أو للأب تكون عصبة مع البنت حتى لو مات عن بنت وأخت كان النصف للبنت والباقي للأخت فلو مات عن بنتين وأخت فللبنتين الثلثان والباقي للأخت والدليل عليه ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا آدم أنا شعبة أنا أبو قيس قال سمعت هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى عن ابنة وبنت ابن وأختب فقال للبنت النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود فسيتابعني فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأتينا أبو موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود رضي الله عنه فقال لا تسئلوني ما دام هذا الحبر فيكم رجعنا إلى تفسير الآية واختلفوا في سبب
401

نزولها أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو الوليد أنا شعبة عن محمد بن المنكدر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت فقلت يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني كلالة فنزلت آية الفرائض وقال مقاتل والكلبي نزلت في أم كجة امرأة أوس بن ثابت وبناته وقال عطاء استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أحد وترك امرأة وبنتين وأخا فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتي سعد فقالت يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد وإن سعدا قتل يوم أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما ولا تنكحان إلا ولهما مال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك \ فنزل (يوصيكم الله) إلى آخرها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما فقال له \ أعط
ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك \ فهو أول ميراث قسم في الإسلام قوله عز وجل (يوصيكم الله في أولادكم) أي يعهد إليكم ويفرض عليكم في أولادكم أي في أمر أولادكم إذا متم للذكر مثل حظ الأنثيين (6 فإن كن) يعني المتروكات من الأولاد (نساء فوق اثنتين) أي اثنتين فصاعدا (فوق) صلة كقوله تعالى (فاضربوا فوق الأعناق) (فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت) يعني البنت (واحدة) قراءة العامة على خبر كان رفعها أهل المدينة على معنى إن وقعت واحدة (فلها النصف ولأبويه) يعني لأبوي الميت كناية عن غير مذكور (لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) أراد أن الأب والأم يكون لكل واحد منهما سدس الميراث عند وجود الولد أو ولد الابن والأب يكون صاحب فرض (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) قرأ حمزة والكسائي (فلأمه) بكسر الهمزة استقلالا للضمة بعد الكسرة وقرأ الآخرون بالضم على الأصل (فإن كان له إخوة) اثنان أو أكثر ذكورا وإناثا (فلأمه السدس) والباقي يكون للأب إن كان معها أب والإخوة لا ميراث لهم مع الأب ولكنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس وقال ابن عباس رضي الله عنهما لا يحجي الإخوة الأم من الثلث إلى السدس إلا أن يكونوا ثلاثة لأن الله تعالى قال (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) ولا يقال للاثنين إخوة فنقول اسم الجمع قد يقع على التثنية لأن الجمع ضم شيء إلى شيء فهو موجود في الاثنين كما قال الله تعالى (فقد صغت قلوبكما) ذكر القلب بلفظ الجمع وأضافه إلى اثنين قوله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين) قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر (يوصي) بفتح الصاد على مالم يسم فاعله وكذلك الثانية ووافق حفص في الثانية وقرأ الآخرون بكسر الصاد لأنه جرى ذكر الميت من قبل بدليل قوله تعالى (يوصين) و (توصون) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية وهذا إجماع أن الدين مقدم على الوصية ومعنى الآية الجمع لا الترتيب وبيان أن الميراث مؤخر عن الدين والوصية جميعا من بعد وصية إن كانت أو دين إن كان والإرث مؤخر عن كل واحد منهما (آباؤكم وأبناؤكم)
402

سورة النساء 12 يعني الذين يرثونكم آباؤكم وأبناؤكم (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) أي لا تعلمون أنهم أنفع لكم في الدين والدنيا فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع له ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له وأنا العالم بمن هو أنفع لكم وقد دبر أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أطوعكم لله عز وجل من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة والله تعالى يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فإن كان الوالد أرفع درجة يوم القيامة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم (فريضة من الله) أي ما قدر الله من المواريث (إن الله كان عليما) بأمور العباد (حكيما) بنصب الأحكام 12 قوله تعالى (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين) هذا ميراث الأزواج (ولهن الربع) يعني الزوجات الربع (مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين) هذا ميراث الزوجات وإذا كان للرجل أربع نسوة فهن يشتركن في الربع والثمن قوله تعالى (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة) تورث كلالة ونظم الآية وإن كان رجل أو امرأة يورث ماله كلالة واختلفوا في الكلالة فذهب أكثر الصحابة إلى أن الكلالة من لا ولد له ولا والد له وروي عن الشعبي قال سئل أبو بكر رضي الله عنه عن الكلالة فقال إني سأقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد فلما استخلف عمر رضي الله عنهما قال إني لأستحي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر رضي الله عنه وذهب طاوس إلى أن الكلالة من لا ولد له وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما وآخر القولين عن عمر رضي الله عنه واحتج من ذهب إلى هذا بقول الله تعالى (قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد) وبيانه عند العامة مأخوذ من حديث جابر بن عبد الله لأن الآية نزلت فيه ولم يكن له يوم نزولها أب ولا ابن لأن أباه عبد الله بن حزام قتل يوم أحد وآية الكلالة نزلت في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم فصار شأن جابر بيانا لمراد الآية لنزولها فيه واختلفوا في
403

سورة النساء 13 أن الكلالة اسم لمن فمنهم من قال اسم للميت وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما لأنه مات عن ذهاب طرفيه فكل عمود نسبه ومنه من قال اسم للورثة وهو قول سعيد بن جبير لأنهم يتكللون الميت من جوانبه وليس في عمود نسبه أحد كالإكليل يحيط بالرأس ووسط الرأس منه خال وعليه يدل حديث جابر رضي الله عنه حيث قال إنا يرثني كلالة ألي يرثني ورثة ليسوا بولد ولا والد وقال النضر بن شميل الكلالة اسم للمال وقال أبو الخير سأل رجل عقبة عن الكلالة فقال ألا تعجبون من هذا يسألني عن الكلالة وما أعضل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما أعضلت بهم الكلالة وقال عمر رضي الله عنه ثلاث لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهن لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة وأبواب الزنا وقال معد بن طلحة خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ في شيء ما أغلظ لي في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري فقال يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء وإني إن أعش أقض بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ وقوله ألا تكفيك آية الصيف أراد أن الله عز وجل أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء والأخرى في الصيف وهي التي في آخرها وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء فلذلك أحاله عليها قوله تعالى (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) أراد به الأخ والأخت من الأم بالاتفاق قرأ سعد بن أبي وقاص (وله أخ أو أخت من أم) ولم يقل لهما مع ذكر الرجل والمرأة من قبل على عادة العرب إذا ذكرت اسميت ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواء ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما كقوله تعالى (وستعينوا بالصبر والصلاة وإنا لكبيرة) (فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) فيه إجماع أن الأم إذا كانوا اثنين فصاعدا يشتركون في الثلث ذكرهم وأناهم قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته ألا إن الآية التي أنزل الله تعالى في أول سورة النساء في بيان الفرائض أنزلها في الولد والوالد والأم والآية الثانية في الزوج والزوجة والإخوة والأخوات من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء في الإخوة والأخوات من الأب والأم والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله (من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار) أي غير مدخل الضرر على الورثة بمجاوزة الثلث في الوصية فإن الحسن هو أن
يوصي بدين ليس عليه (وصية من الله والله عليم حليم) قال قتادة كره الله لاضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدم فيه 13 (تلك حدود الله) يعني ما ذكر من الفرائض المحدودة (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم)
404

سورة النساء 14 15 14 (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) قرأ أهل المدينة وابن عامر (ندخله جنات وندخله نارا) وفي سورة الفتح (ندخله) و (نعذبه) وفي سورة التغابن (نكفر) و (ندخله) وفي سورة الطلاق (ندخله) بالنون فيهن وقرأ الآخرون بالياء 15 قوله عز وجل (واللاتي يأتين الفاحشة) يعني الزنا (من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) يعني من المسلمين وهذا خطاب للحكام أي فاطلبوا عليهن أربعة من الشهود فيه بيان أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة من الشهود (فإن شهدوا فأمسكوهن) فاحبسوهن (في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) وهذا كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود وكانت المرأة إذا زنت حبست في البيوت حتى تموت ثم نسخ ذلك في حق البكر بالجلد والتغريب وفي حق الثيب بالجلد والرجم أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أخبرنا الشافعي رضي الله عنه أخبرنا عبد الوهاب عن يونس عن الحسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ خذوا عني خذوا عني قد جهل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم \ قال الشافعي رضي الله عنه وقد حدثني الثقة أن الحسن كان يدخل بينه وبين عبادة حطان الرقاشي فلا أدري أدخله عبد الوهاب فنزل عن كتابي أم لا قال شيخنا الإمام الحديث صحيح رواه مسلم بن الحجاج عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله عن عبادة ثم نسخ الجلد في حق الثيب وبقي الرجم عند أكثر أهل العلم وذهب طائفة إلى أنه يجمع بينهما روي عن علي رضي الله عنه أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس مائة ثم رجمها يوم الجمعة وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة العلماء على أن الثيب لا يجلد مع الرجم لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما وعند أبي حنيفة رضي الله عنه التغريب أيضا منسوخ في حق البكر وأكثر أهل العلم على أنه ثابت روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وأن أبا بكر رضي الله عنه ضرب وغرب وأن عمر رضي الله عنه ضرب وغرب واختلفوا في أن الإمساك في البيت كان حدا فنسخ أم كان حبسا ليظهر الحد على قولين
405

سورة النساء 16 16 قوله تعالى (واللذان يأتيانها منكم) يعني الرجل والمرأة والهاء راجعة إلى الفاحشة قرأ ابن كثير (اللذان واللذين وهاتان وهذان) مشددة النون التأكيد ووافقه أهل البصرة في فذانك والآخرون بالتخفيف قال أبو عبيدة خص أبو عمرو فذانك بالتشديد لقلة الحروف في الاسم (فآذوهما) قال عطاء وقتادة يعني فعيروهما باللسان أما خفت الله أما استحيت من الله حيث زنيت قال ابن عباس رضي الله عنهما سبوهما واشتموهما قال ابن عباس هو باللسان واليد يؤذي بالتعيير وضرب النعال فإن قيل ذكر الحبس في الآية الأولى وذكر في هذه الآية الإيذاء فكيف وجه الجمع قيل الآية الأولى في النساء وهذه في الرجال وهو قول مجاهد وقيل الآية الأولى في الثيب وهذه في البكر (فإن تابا) من الفاحشة (وأصلحا) العمل فيما بعد (فأعرضوا عنهما) فلا تؤذوهما (إن الله كان توابا رحيما) وهذا كله كان قبل نزول الحدود فنسخت بالجلد والرجم والجلد في القرآن قال الله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) والرجم في السنة أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي أنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما أخبراه أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما اقض يا رسول الله بيننا بكتاب الله وقال الآخر وكان أفقههما أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم قالتكلم قال إن ابني كان عسيفا أي أجيرا على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وإنما الرجم على امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فرد عليك وأما ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا أي أمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت فارجمها \ فغدا عليها فاعترفت فرجمها أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال قال عمر رضي الله عنه أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى في كتابه والرجم في كتاب الله تعالى حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف وجملة حد الزنا أن الزاني إذا كان محصنا وهو الذي اجتمعت فيه أربعة أوصاف العقل والبلوغ والحرية والإصابة بالنكاح الصحيح فحده الرجم مسلما كان أو ذميا وهو المراد من الثيب المذكور
406

سورة النساء 17 في الحديث وذهب أصحال الرأي إلى أن الإسلام من شرائط الإحصان ولا يرجم الذمي وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نظر إن كان غير بالغ أو كان مجنونا فلا حد عليه وإن كان حرا عاقلا بالغا غير أنه لم يحصن بنكاح صحيح فعليه جلد مائة وتغريب عام وإن كان عبدا فعليه جلد خمسين وفي تغريبه قولان إن قلنا يغرب فيه قولان أصحهما نصف سنة كما يجلد خمسين على نصف حد الحر 17 قوله تعالى (إنما التوبة على الله) قال الحسن يعني التوبة التي يقبلها فيكون على بمعنى عند وقيل من الله (للذين يعملون السوء بجهالة) قال قتادة أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي به الله فهو جهالة عمدا كان أو لم يكن وكل من عصى الله فهو جاهل وقال مجاهد المراد من الآية العمد قال الكلبي لم يدهل أنه ذنب لكنه جهل عقوبته وقيل معنى الجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية (ثم يتوبون من قريب) قيل معناه قبل أن يحيط السوء
بحسناته فيحبطها وقال السدي والكلبي القريب أن يتوب في صحته قبل مرض موته وقال عكرمة قبل الموت وقال الضحاك قبل معاينة ملك الموت أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي أنا علي بن الجعد أنا ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نغير عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ إن الله تعالى يقبل توبة العبد مالم يغرغر \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أنا أبو جعفر بن محمد بن أحمد بن عبد الجبار الزياتي أنا حميد بن زنجويه أنا أبو الأسود أنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني \ قوله تعالى (فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما)
407

سورة النساء 18 19 18 (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) يعني المعاصي (حتى إذا حضر أحدهم الموت) ووقع في النزع (قال إني تبت الآن) وهي حالة السوق حتى يساق بروحه لا يقبل من كافر إيمان ولا من عاص توبة قال الله تعالى (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) ولذلك لم ينفع إيمان فرعون حين أدركه الغرق (ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا) أي هيأنا وأعددنا (لهم عذابا أليما) 19 (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) نزلت في أهل المدينة كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من ذوي عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها فصار أحق بها من نفسها ومن غيره فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت هي فيرثها فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها فكانوا على هذا حتى توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية فقام ابن له من غيرها يقال له حصن وقال مقاتل بن حيان اسمه قيس بن أبي قيس فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفتدي منه فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه فلا ينفق علي ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي فقال \ اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله \ فأنزل الله تعالى هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) قرأ حمزة والكسائي بالضم لغتان قال الفراء الكره بالفتح ما أكره عليه وبالضم ما كان من قبل نفسه من المشقة (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) أي لا تمنعوهن من الأزواج ليضجرن فيفتدين ببعض مالهن قيل هذا خطاب لأولياء الميت والصحيح أنه خطاب للأزواج قال ابن عباس رضي الله عنهما هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كاهر لصحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وترد إليه ما ساق إليها من المهر فنهى الله تعالى عن ذلك ثم قال (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين
408

سورة النساء 20 22 منكم واختلفوا في الفاحشة قال ابن مسعود وقتادة هي النشوز وقال بعضهم وهو قول الحسن هي الزنا يعني المرأة إذا نشزت أو زنت حل للزوج أن يسألها الخلع وقال عطاء كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ في ذلك الحدود وقرأ ابن كثير وأبو بكر (مبينة ومبينات) بفتح الياء ووافق أهل المدينة والبصرة في (مبينات) والباقون بكسرها (وعاشروهن بالمعروف) قال الحسن راجع إلى أول الكلام يعني (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) (وعاشروهن بالمعروف) والمعاشرة بالمعروف هي الإجمال في القول والمبيت والنفقة وقيل هي أن يصنع لها كما تصنع له (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) قيل هو ولد صالح أو يعطفه الله عليها 20 (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) أراد بالزوج الزوجة إذا لم يكن من قبلها نشوز ولا فاحشة (وآتيتم إحداهن قنطارا) وهو المال الكثير صداقا (فلا تأخذوا منه) من القنطار (شيئا أتأخذونه) استفهام بمعنى التوبيخ (بهتانا وإثما مبينا) انتصابهما من وجهين أحدهما بنزع الخافض والثاني بالاضمار تقديره تصيبون في أخذه بهتانا وإثما ثم قال 21 (وكيف تأخذونه) على طريق الاستعظام (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) أراد به المجامعة ولكن الله حيي يكني وأصل الأفضاء الوصول إلى الشيء من غير واسطة (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة وهو قول الولي عند العق زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقال الشعبي وعكرمة هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال \ اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله تعالى واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى \ قوله عز وجل (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) كان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم قال الأشعث بن سوار توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت إني اتخذتك ولدا وأنت من صالحي قومك ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره فأتته فأخبرته فأنزل الله تعالى 22 (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) قيل بعد ما سلف وقيل معناه لكن ما سلف أي ما مضى في الجاهلية فهو معفو عنه
409

سورة النساء 23 إنه كان فاحشة) أي إنه فاحشة (وكان) فيه صلة و (الفاحشة) أقبح المعاصي (ومقتا) أي يورث مقت الله والمقت أشد البغض (وساء سبيلا) وبئس ذلك طريقا وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقيت وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو سهل محمد بن عمرو السجزي أنا الإمام أبو سليمان الخطابي أنا أحمد بن هشام الحضرمي أنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن حفص بن غياث عن أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازي قال مر بي خالي ومعه لواء فقلت أين تذهب قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه 23 قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم) الآية بين الله تعالى في هذه الآية المحرمات بسبب الوصلة وجملة المحرمات في كتاب الله تعالى أربعة عشرة سبع بالنسب وسبع بالسبب فأما السبع بالسبب فمنها اثنتان بالرضاع وأربع بالصهرية والسابعة المحصنات وهن ذوات الأزواج وأما السبع بالنسب فقوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم) وهي جمع أم ويدخل فيه الجدات وإن علون من قبلل الأم ومن قبل الأب (وبناتكم) وهي جمع البنت ويدخل فيهن بنات الأولاد وإن سفلن (وأخواتكم) جمع الأخت سواء كانت
من قبل الأب والأم أو من قبل أحدهما (وعماتكم) جمع العمة ويدخل فيهن جميع أخوات آبائك وأجدادك وإن علوا (وخالاتكم) جمع خالة ويدخل فيهن أخوات أمهاتك وجداتك (وبنات الأخ وبنات الأخت) ويدخل فيهن بنات أولاد الأخ والأخت وإن سفلن وجملته أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله أول أصوله وأول فصل من كل أصل بعده والأصول هي الأمهات والجدات والفصول البنات وبنات الأولاد وفصول أول أصوله هي الأخوات وبنات الإخوة والأخوات وأول فصل من كل أصل بعده هن العمات والخالات وإن علون وأما المحرمات بالرضاع فقوله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخوانكم من الرضاعة) وجملته أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة \ أخبرنا أبو الحسن
410

السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي قال أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة فقالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله هذا رجل يستأذن فيبيتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أراه فلانا لعم حفصة من الرضاعة فقلت يا رسول الله لو كان فلانا حيا لعمها من الرضاعة أيدخل علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ نعم إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة \ وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين أحدهما أن يكون قبل استكمال المولود حولين لقوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين \ وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء \ وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم \ وإنما يكون هذا في حال الصغر وعند أبي حنيفة رضي الله عنه مدة الرضاع ثلاثون شهرا لقوله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وهو عند الأكثرين لأقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع وأقل مدة الحمل ستة أشهر والشرط الثاني أن يوجد خمس رضعات متفرقات يروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها وبه قال عبد الله بن الزبير وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى وذهب أكثر أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب وإليه ذهب سفيان الثوري ومالك والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأصحاب الرأي واحتج من ذهب إلى أن القليل لا يحرم بما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو العباس الأصم أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ لا تحرم المصة من الرضاع والمصتان \ هكذا روى بعضهم هذا الحديث ورواه عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصحيح أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر محمد بن عمر بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن وأما المحرمات بالصهرية فقوله (وأمهات نسائكم) وجملته أن كل من عقد النكاح على امرأة فتحرم على الناكح أمهات المنكوحة وجداتها وإن علون من الرضاعة والنسب بنفس العقد (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) الربائب جمع ربيبة وهي بنت المرأة سميت ربيبة لتربيته إياها وقوله (في حجوركم) أي في تربيتكم يقال فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته (دخلتم
411

بهن) أي جامعتموهن ويحرم عليه أيضا بنات المنكوحة وبنات أولادها وإن سفلن من الرضاع والنسب بعد الدخول بالمنكوحة حتى لو فارق المنكوحة قبل الدخول بها أو ماتت جاز له أن ينكح ابنتها ولا يجوز له أن ينكح أمها لأن الله تعالى أطلق تحريم الأمهات وقال في تحريم الربائب (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) يعني في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن أو متن وقال علي رضي الله عنه أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول بالبنت كالربيبة (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) يعني أزواج أبنائكم واحدتها حليلة والذكر حليل سميا بذلك لأن كل واحد منها حلال لصاحبه وقيل سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل حيث يحل صاحبه من الحلول وهو النزول وقيل إن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه من الحل وهو ضد العقل وجملته أنه يحرم على الرجل حلائل أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا من الرضاع والنسب بنفس العقد وإنما قال (من أصلابكم) ليعلم أن حليلة المتبني لا تحرم على الرجل الذي تبناه فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة زيد بن حارثة وكان زيد قد تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم والرابع من المحرمات بالصهرية حليلة الأب والجد وإن علا فيحرم على الولد وولد الولد بنفس العقد سواء كان الأب من الرضاع أو من النسب لقوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) وقد سبق ذكره وكل امرأة تحرم عليك بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين والوطء بشبهة النكاح حتى لو وطئ امرأة بالشبهة أو جارية بملك اليمين فتحرم على الواطئ أم الموطوءة وابنتها وتحرم الموطوءة على أب الواطئ وعلى ابنه ولو زنى بامرأة فقد اختلف فيه أهل العلم فذهبت جماعة إلى أنه لا تحرم على الزاني أم المزني بها وابنتها وتحرم الزانية على أب الزاني وابنه وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وبه قال سعيد بن المسيب وعروة والزهري وإليه ذهب مالك والشافعي رحمهم الله تعالى وذهب قوم إلى التحريم يروى ذلك عن عمران بن حصين وأبي هريرة رضي الله عنهما وبه قال جابر بن زيد والحسن وهو قول أصحاب الرأي ولو مس امرأة بشهوة أو قبلها فهل يجعل ذلك كالدخول في إثبات حرمة المصاهرة وكذلك لو مس امرأة بشهوة فهل يجعل كالوطء في تحريم الربيبة فيه قولان أصحهما وهو قول أكثر أهل العلم أنه تثبت به الحرمة والثاني لا تثبت كما لا تثبت بالنظر بالشهوة قوله تعالى (وإن تجمعوا بين الأختين) لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح سواء كانت الإخوة بينهما بالنسب أو بالرضاع فإذا نكح امرأة ثم طلقها بائنا جاز له بنكاح أختها وكذلك لو ملك أختين بملك اليمين لم يجز له أن يجمع بينهما في الوطء فإذا وطئ إحداهما لم يحل له وطء الأخرى حتى يحرم الأولى على نفسه وكذلك لا يجوز أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله
عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها \ قوله تعالى (إلا ما قد سلف) يعني لكن ما مضى فهو معفو عنه لأنهم كانوا يفعلونه قبل الإسلام وقال عطاء والسدي إلا ما كان من يعقوب عليه السلام فإنه يجمع بين ليا أم يهوذا وراحيل أم يوسف وكانتا أختين (إن الله كان غفورا رحيما)
412

سورة النساء 24 24 قوله تعالى (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) يعني ذوات الأزواج لا يحل للغير نكاحهن قبل مفارقة الأزواج وهذه السابعة من النساء اللاتي حرمن بالسبب قال أبو سعيد الخدري نزلت في نساءكن هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج فتزوجهن بعض المسلمين ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهى الله المسلمين عن نكاحهن ثم استثنى فقال (إلا ما ملكت أيمانكم) يعني السبايا اللواتي سبين ولهن أزواج في دار الحرب فيحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء لأن بالسبي يرتفع النكاح بينهما وبين زوجها قال أبو سعيد الخدري بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين جيشا إلى أوطاس فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين فكرهوا غشيانهن فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال عطاء أراد بقوله (إلا ما ملكت أيمانكم) أن تكون أمة في نكاح عبده فيجوز أن ينزعها منه وقال ابن مسعود أراد أن يبيع الجارية المتزوجة فتقع الفرقة بينهما وبني زوجها ويكون بيعها طلاقا فيحل للمشتري وطؤها وقيل أراد بالمحصنات الحرائر ومعناه أن ما فوق الأربع حرام منهن إلا ما ملكت أيمانكم فإنه لا عدد عليكم في الجواري قوله تعالى (كتاب الله عليكم) نصب على المصدر أي كتب الله عليكم وقيل نصب على الإغراء أي الزموا ما كتب الله عليكم أي فرض الله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم) قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص (أحل) بضم الأول وكسر الحاء لقوله (حرمت عليكم) وقرأ الآخرون بالنصب أي أحل الله لكم ما وراء ذلكم أي ما سوى ذلكم الذي ذكرت من المحرمات (أن تبتغوا) تطلبوا (بأموالكم) أن تنكحوا بصداق أو تشتروا بثمن (محصنين) أي متزوجين أو متعففين (غير مسافحين) أي غير زانين مأخوذ من سفح الماء وصبه وهو المني (فما استمتعتم به منهن) اختلفوا في معناه فقال الحسن ومجاهد أراد ما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح (فآتوهن أجورهن) أي مهورهن وقال آخرون هو نكاح المتعة وهو أن تنكح امرأة إلى مدة فإذا انقضت تلك المدة بانت منه بلا طلاق ويستبرئ رحمها وليس بينهما ميراث وكان ذلك مباحا في ابتداء الإسلام ثم نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا محمد بن عبد الله بن نمير أنا أبي أنا عبد العزيز بن عمر حدثني الربي بن سبرة الجهني أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال \ يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله تعالى قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا \ أخبرنا أبو
413

الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم أن نكاح المتعة حرام والآية منسوخة وكان ابن عباس رضي الله عنهما يذهب إلى أن الآية محكمة وترخص في نكاح المتعة روي عن أبي نضرة قال سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن المتعة فقال أما تقرأ في سورة النساء (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) قلت لا أقرأها هكذا قال ابن عباس هكذا أنزل الله ثلاث مرات وقيل إن ابن عباس رضي الله عنهما رجع عن ذلك وروى سالم عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها لا أجد رجلا نكحها إلا رجمته بالحجارة وقال هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث قال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول لا أعلم في الإسلام شيئا أحل ثم حرم ثم أحل ثم حرم غير المتعة قوله تعالى (فآتوهن أجورهن) أي مهورهن (فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) فمن حل ما قبله على نكاح المتعة أرادوا أنهما إذا عقد إلى أجل بمال فإذا تم الأجل فإن شاءت المرأة زادت في الأجل وزاد الرجل في المال وإن لم يتراضيا فارقها ومن حمل الآية على الاستمتاع بالنكاح الصحيح قال المراد بقوله (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به) من الإبراء عن المهر والافتداء والاعتياض (إن الله كان عليما حكيما) فصل في قدر الصداق وفيما يستحب منه اعلم أنه لا تقدير لأكثر الصداق لقوله تعالى (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) والمستحب أن لا يغالى فيه قال عمر بن الخطاب ألا لا تغالوا في صدقة النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا جعفر بن محمد المفلس أنا هارون بن إسحاق أنا يحيى بن محمد الحارثي أنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن عبد الله بن الهادي عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة قال سألت عائشة رضي الله عنها كم كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه قالت كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونش قالت أتدري ما النش قلت لا قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم هذا صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه أما أقل الصداق فقد اختلفوا فيه فذهب جماعة إلى أنه لا تقدير لأقله بل ما جاز أن يكون مبيعا أو ثمنا جاز أن يكون صداقا وهو قول ربيعة وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق قال عمر بن الخطاب ثلاث قبضات زبيب مهر وقال سعبد بن المسيب لو أصدقها سوطا جاز وقال قوم يتقدر بنصاب السرقة وهو قول مالك وأبي حنيفة غير أن نصاب السرقة عند مالك ثلاثة دراهم وعند أبي حنيفة عشرة دراهم والدليل على أنه لا يتقدر ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي قال أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد
414

سورة النساء 25 الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت يا رسول الله إني وهبت نفسي لك فقامت طويلا فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم تكن لك فيها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ هل عندك من شيء تصدقها \ قال ما عندي إلا إزاري هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئا \ فقال ما أجده فقال \ فالتمس ولو خاتما من حديد \ فالتمس فلم يجد شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ هل معك من القرآن شيء \ قال نعم سورة كذا وسورة كذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ قد زوجتها بما معك من القرآن \ وفيه دليل على أن لا تقدير لأقل الصداق لأنه قال التمس شيئا \ وهذا يدل على جواز أي شيء كان من المال وقال \ ولو خاتما من حديد \ ولا قيمة لخاتم الحديد إلا القليل التافه وفي الحديث دليل على أنه يجوز تعليم القرآن صداقا وهو قول الشافعي رحمه الله وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز وهو قول أصحاب الرأي وكل عمل جاز الاستئجار عليه من البناء والخياطة وغير ذلك من الأعمال جاز أن يجعل صداقا ولم يجوز أبو حنيفة رضي الله عنه أن يجعل منفعة الحر صداقا والحديث حجة لمن جوزه بعدما أخبر الله تعالى عن شعيب عليه السلام حيث زوج ابنته من موسى عليه السلام على العمل فقال (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) 25 قوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا) أي فضلا وسعة (أن ينكح المحصنات) الحرائر (المؤمنات) قرأ الكسائي (المحصنات) بكسر الصاد حيث كان إلا قوله في هذه السورة والمحصنات من النساء وقرأ الآخرون بفتح جميعها (فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم) إمائكم (المؤمنات) أي من لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة فليتزوج الأمة المؤمنة وفيه دليل على أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين أحدهما أن لا يجد مهر حرة والثاني أن يكون خائفا على نفسه من العنت وهو الزنا لقوله تعالى في آخر الآية (ذلك لمن خشي العنت منكم) وهو قول جابر رضي الله عنه وبه قال طاوس وعمرو بن دينار وإليه ذهب مالك والشافعي وجوز أصحاب الرأي للحر نكاح الأمة إلا أن تكون في نكاحه حرة أما العبد فيجوز له نكاح الأمة وإن كان في نكاحه حرة
415

أو أمة وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز إذا كانت تحته حرة كما يقول في الحر وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية لأنه قال (فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) جوز نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة وقال في موضع آخر (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) أي الحرائر جوز نكاح الكتابية بشرط أن تكون حرة وجوز أصحاب الرأي للمسلم نكاح الأمة الكتابية وبالاتفاق يجوز وطؤها بملك اليمين (والله أعلم بأيمانكم) أي لا تتعرضوا للباطن في الإيمان وخذوا بالظاهر فإن الله أعلم بإيمانكم (بعضكم من بعض) قيل بعضكم أخوة لبعض وقيل كلكم من نفس واحدة فلا تستنكفوا من نكاح الإماء (فانكحوهن) يعني الإماء (بإذن أهلهن) أي مواليهن (وآتوهن أجورهن) مهورهن (بالمعروف) من غير مطل وضرار (محصنات) عفائف بالنكاح (غير مسافحات) أي زانيات (ولا متخذات أخدان) أي أحباب تزنون بهن في السر قال الحسن المسافحة هي أن كل من دعاها تتبعه وذات خدن أي تختص بواحد لا تزني إلا معه والعرب كانت تحرم الأولى وتجوز الثانية (فإذن أحصن) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بفتح الألف والصاد أي حفظن فروجهن وقال ابن مسعود أسلمن وقرأ الآخرون (أحصن) بضك الألف وكسر الصاد أي تزويجهن (فإن أتين بفاحشة) يعني الزنا (فعلين نصف ما على المحصنات) أي ما على الحرائر الأبكار إذا زنين (من العذاب) يعني الحد فيجلد الرقيق إذا زنى خمسين جلدة وهل يغرب فيه قولان فإن قلنا يغرب فيغرب نصف سنة على القول الأصح ولا رجم على العبد روي عن عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة قال أمرني عمر بن الخطاب رض الله عنه في فئة من قريش فجلدنا ولائد الإماء خمسين في الزنا ولا فرق في حد المملوك بين من تزوج أو لم يتزوج عند أكثر أهل العلم وذهب بعضهم إلى أنه لا حد على من يتزوج من المماليك إذا زنى لأن الله تعالى قال (فإذا أحصن فإن آتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال طاوس ومعنى الإحصان عند الآخرين الإسلام وإن كان المراد منه التزويج فليس المراد منه أن التزويج شرط لوجوب الحد عليه بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصنا بالتزويج فلا رجم عليه إنما حده الجلد بخلاف الحر فحد الأمة ثابت بهذه الأية وبيان أنها تجلد في الحد هو ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني الليث عن سعيد يعني المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول \ إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فيجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر \ قوله تعالى (ذلك) يعني نكاح الأمة عند عدم الطول (لمن خشي العنت منكم) يعني الزنا يريد المشقة بغلبة الشهوة (وإن تصبروا) عن نكاح الإماء متعففين (خير لكم) لئلا يخلق الولد رقيقا (والله غفور رحيم)
416

سورة النساء 26 29 26 قوله تعالى (يريد الله ليبين لكم) أي أن يبين لكم كقوله تعالى (وأمرت لأعدل بينكم) أي أن أعدل وقوله (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) وقال في موضع آخر (وأمرت أن أسلم) ومعنى الآية يريد الله أن يبين لكم أي يوضح لكم شرائع دينكم ومصالح أموركم قال عطاء يبين لكم ما يقربكم منه قال الكلبي يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير لكم (ويهديكم) ويرشدكم (سنن) شرائع (الذين من قبلكم) في تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنها كانت محرمة على من قبلكم وقيل ويهديكم الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام (ويتوب عليكم) ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم وقيل يرجع بكم من المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته وقيل يوفقكم التوبة (والله عليم) بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم (حكيم) فيما دبر من أمورهم 27 (والله يريد أن يتوب عليكم) إن وقع منكم تقصير في أمر دينكم (وريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا) عن الحق (ميلا عظيما) بإتيانكم ما حرم عليكم واختلفوا في الموصوفين باتباع الشهوات فقال السدي هم اليهود والنصارى وقال بعضهم هم المجوس لأنهم يحلون نكاح الأخوات وبنات الأخ والأخت وقال مجاهد هم الزناة يريدون أن تميلوا عن الحق فتزنون كما يزنون وقيل هم كما يزنون وقيل هم جميع أهل الباطل 28 (يريد الله أن يخفف عنكم) يسهل عليكم في أحكام الشرع وقد سهل كما قال جل ذكره (ويضع عنهم إصرهم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم \ بعثت بالدين الحنيفية السمحة السهلة \ (وخلق الإنسان ضعيفا) قال طاووس والكلبي وغيرهما في أمر النساء لا يصبر عنهن وقال ابن كيسان (خلق الإنسان ضعيفا) يستمليه هواه وشوته وقال الحسن هو أنه خلق من ماء مهين بيانه قوله تعالى (الله الذي خلقكم من ضعف) 29 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) بالحرام يعني بالربا ولاقمار والغصب والسرقة والخيانة ونحوها وقيل هو العقود الفاسدة (إلا أن تكون تجارة) قرأ أهل الكوفة (تجارة) نصب على خبر كان أي إلا أن تكون الأموال تجارة وقرأ الآخرون بالرفع أي إلا أن تقع تجارة (عن تراض منكم) أي بطيبة نفس كل واحد منكم وقيل هو أن يجيز كل واحد من
417

سورة النساء 30 31 المتبايعين صاحبه بعد البيع فيلزم وإلا فلهما الخيار مالم يتفرقا لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه مالم يتفرقا إلا بيع الخيار \ (ولا تقتلوا أنفسكم) قال أبو عبيدة أي لا تهلكوها كما قال (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وقيل لا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل وقيل أراد به قتل المسلم نفسه أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا ابن عيينة عن أيوب عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة \ حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي أخبرنا أبو معاذ عبد الرحمن المزني أنا أبو إسحق إبراهيم بن حماد القاضي أنا أبو موسى الزمن أنا وهب بن جرير أخبرنا أبي قال سمعت الحسن أخبرنا جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ جرح رجل فيمن كان قبلكم فألم ألما شديدا ولم يبرأ فجزع منه فأخذ سكينا فخز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله عز وجل بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة \ وقال الحسن (لا تقتلوا أنفسكم) يعني إخوانكم أي لا يقتل بعضكم بعضا (إن الله كان بكم رحيما) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا سليمان بن حرب أنا شعبة عن علي بن مدرك قال سمعت أبا زرعة بن عمر بن جرير عن جده قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع \ استنصب الناس \ ثم قال \ لا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض \ 30 (ومن يفعل ذلك) يعني ما سبق ذكره من المحرمات (عدوانا وظلما) فالعدوان مجاوزة الحد و الظلم وضع الشيء في غير موضعه (فسوف نصليه) ندخله في الآخرة (نارا) يصلى فيها (وكان ذلك على الله يسيرا) هينا 31 قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) اختلفوا في الكبائر التي جعل الله اجتنابها تكفيرا للصغائر أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن مقاتل أنا النضر أخبرنا شعبة أنا فراس قال سمعت الشعبي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا بشر بن الفضل أنا الجريري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر \ قالوا بلى يا رسول الله قال \ الإشراك بالله عز وجل وعقوق الوالدين
418

وجلس وكان متكئا فقال ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت \ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار أنا أحمد بن عيسى البرني أنا محمد بن كثير أنا سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور وواصل الأحدب عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله رضي الله عنهما قال قلت يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله قال \ أن تدعوا لله ندا وهو خلقت قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزني بحليلة جارك \ فأنزل الله تعالى تصديقها (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) الآية أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني سليمان عن ثور بن زيد عن أبي الغيث أنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ اجتنبوا السبع الوبقات \ قالوا يا رسول الله وما هن قال \ الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم ولاتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات \ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي أنا علي بن الجعد أنا شعبة عن سعيد بن إبراهيم قال سمعت حميد بن عبد الرحمن يحدث عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من الكبائر أن يسب الرجل والديه قالوا يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه قال نعم يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه \ وعن سعيد بن جبير أن رجلا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعمائة أقرب إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار وقال كل شيء عصب الله به فهو كبيرة فمن عمل شيئا منها فليستغفر فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو مكذبا بقدر وقال عبد الله بن مسعود ما نهى الله تعالى عنه في هذه السورة إلى قوله (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) فهو كبيرة وقال علي بن أبي طالب هي كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وقال الضحاك ما أوعد الله عليه حدا في الدنيا أو عذابا في الآخرة وقال الحسن بن الفضل ما سماه الله في القرآن كبيرا أو عظيما نحو قوله تعالى (إنه كان حوبا كبيرا) (إن قتلهم كان خطئا كبيرا) (إن الشرك لظلم عظيم) (إن كيدكن عظيم) (سبحانك هذا بهتان عظيم) (إن ذلكم كان عند الله عظيما) قال سفيان الثوري الكبائر ما كان فيه المظالم بينك وبين عباد الله تعالى والصغائر ما كان بينك وبين الله تعالى لأن الله كريم يعفو واحتج بما أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكرماني أنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي أنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعيد أنا الحسن بن داود البلخي أنا يزيد بن هارون أنا حميد الطويل عن أنس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ينادي منادي من بطنان العرش يوم القيامة يا أمة محمد إن الله عز وجل قد عفا عنكم جميعا المؤمنين والمؤمنات تواهبوا المظالم وادخلوا الجنة برحمتي \ وقال مالك بن مغول الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل
419

سورة النساء 32 السنة وقيل الكبائر ذنوب العمد والسيئات الخطأ والنسيان وما أكره عليه وحديث النفس المرفوع عن هذه الأمة وقيل الكبائر ذنوب المستحلين مثل ذنب إبليس والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم عليه السلام وقال السدي الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبائر والسيئات مقدماتها وتوابعها مما يجمع فيه الصالح والفاسق مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها قال النبي صلى الله عليه وسلم \ العينان تزينان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه \ وقيل الكبائر ما يستحقره العباد والصغائر ما يستعظمونه فيخافون مواقعته كما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا الوليد
أنا مهدي بن ميمون بن غيلان عن أنس قال إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا نعدهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات وقيل الكبائر الشرك وما يؤدي إليه وما دون الشرك فهو من السيئات قال الله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (نكفر عنكم سيئاتكم) أي من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج حدثني هارون بن سعيد الابلي أنا ابن وهب عن أبي صخر أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدثه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهم ما اجتنب الكبائر \ قوله تعالى (وندخلكم مدخلا كريما) أي حسنا وهو الجنة قرأ أهل المدينة (مدخلا) بفتح الميم ههنا وفي الحج وهو موضع الدخول وقرأ الباقون بالضم على المصدر بمعنى الادخال 32 قوله تعالى (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) الآية قال مجاهد قالت أم سلمة يا رسول الله إن الرجال يغزون ولا نغزوا ولهم ضعف مالنا من الميراث فلو كنا رجالا غزونا كما غزوا وأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا فنزلت هذه الآية وقيل لما جعل الله عز وجل للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث قالت النساء نحن أحق وأحوج إلى الزيادة من الآجال لأنا ضعيفات وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش فأنزل الله تعالى (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) وقال قتادة والسدي لما أنزل الله قوله (للذكر مثل حظ الأنثيين) قال الرجل إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كما فضلنا عليهن في الميراث فقال الله تعالى (للرجال نصيب مما اكتسبوا) من الأجر (وللنساء نصيب مما اكتسبن) معناه أن الرجال والنساء في
420

سورة النساء 33 الأجر في الآخرة سواء وذلك أن الحسنة تكون بعشرة أمثالها يستوي فيها الرجال والنساء وإن فضل الرجال في الدنيا على النساء وقيل معناه للرجال نصيب مما اكتسبوا من أمر الجهاد وللنساء نصيب مما اكتسبن من طاعة الأزواج وحفظ الفروج قوله تعالى (واسألوا الله من فضله) قرأ ابن كثير والكسائي (وسلوا وسل وفسل) إذا كان قبل السين واو أو فاء بغير همز ونقل حركة الهمزة إلى السين والباقون بسكون السين مهموزا فنهى الله تعالى عن التمني لما فيه من دواعي الحسد والحسد أن يتمنى الرجل زوال النعمة عن صاحبه سواء تمناها لنفسه أم لا وهو حرام والغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه وهو جائز قال الكلبي لا يتمنى الرجل مال أجيه ولا امرأته ولا خادمه ولكن ليقل اللهم ارزقني مثله وهو كذلك في التوراة وذلك في القرآن وقوله (واسألوا الله من فضله) أي من رزقه قال سعيد بن جبير من عبادته فهو سؤال التوفيق للعبادة قال سفيان بن عيينة لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي (إن الله كان بكل شيء عليما) 33 (ولكل جعلنا موالي) أي ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا موالي أي عصبة يعطون (مما ترك الوالدان والأقربون) الوالدان والأقربون هم المرثون وقيل معناه ولكل جعلنا موالي أي ورثة مما ترك أي من الذين تركوهم ويكون (ما) بمعنى من ثم فسر (الموالي) فقال الوالدان والأقربون أي هم الوالدان والأقربون فعلى هذا القول الوالدان والأقربون هم الوارثون (والذين عقدت أيمانكم) قرأ أهل الكوفة (عقدت) بلا ألف أي عقدت لهم أيمانكم وقرأ الآخرون (عاقدت أيمانكم) والمعاقدة المحالفة والمعاهدة والأيمان جمع يمين من اليد والقسم وذلك أنهم كانوا عند المخالفة يأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد ومحالفتهم أن الرجل كان في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمي دمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون للحليف السدس من مال الحليف وكان ذلك في ابتداء الإسلام فذلك قوله تعالى (فآتوهم نصيبهم) أي أعطوهم حظهم من الميراث ثم نسخ ذلك بقوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقال إبراهيم ومجاهد أراد فآتوهم نصيبهم من النصر والرفد ولا ميراث لهم وعلى هذا تكون هذه الآية غير منسوخة لقوله تعالى (أوفوا بالعقود) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم فتح مكة \ لا تحدثون حلفا في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا فيه فإنه لم يزده الإسلام إلا شدة \ وقال ابن عباس رضي الله عنهما أنزلت هذه
421

سورة النساء 34 الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار حين قدموا المدينة وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة دون الرحم فلما نزلت (ولكل جعلنا موالي) نسخت ثم قال (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث فيوصي له وقال سعيد بن المسيب كانوا يتوارثون بالتبني وهذه الآية فيه ثم نسخ (إن الله كان على كل شيء شهيدا) 34 (الرجال قوامون على النساء) الآية نزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير قاله مقاتل وقال الكلبي امرأته حبيبة بنت محمد بن مسلمة وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ لتقتص من زوجها \ فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فجاء جبريل عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ ارجعوا هذا جبريل أتاني بشيء \ فأنزل الله هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير \ ورفع القصاص قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء) أي مسلطون على تأديبهن والقوام والقيم بمعنى واحد والقوام أبلغ وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب (بما فضل الله بعضهم على بعض) يعني فضل الرجال على النساء بزيادة العقل والدين والولاية وقيل بالشهادة لقوله تعالى (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) وقيل بالجهاد وقيل بالعبادات من الجمعة والجماعة وقيل هو أن الرجل ينكح أربعا ولا يحل للمرأة إلا زوج واحد وقيل بأن الطلاق بيده وقيل بالميراث وقيل بالدية وقيل بالبنوة (وبما أنفقوا من أموالهم) يعني إعطاء المهر والنفقة أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرني أنا أبو حذيفة أنا سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لو أمرت أحدا أن يسجدد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها \ قوله تعالى (فالصالحات قانتات) أي مطيعات (حافظات للغيب) أي حافظات للفروج في غيبة الأزواج وقيل حافظات لسرهم (بما حفظ الله) قرأ أبو جعفر (بما حفظ الله) بالنصب أي يحفظن الله في الطاعة وقراءة العامة بالرفع أي بما حفظهن الله بإيصاء الأزواج بحقهن وأمرهم بأداء المهر والنفقة وقيل حافظات للغيب بحفظ الله أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحق الثعلبي أنا أبو عبد الله بن فنجوية أخبرنا عمر بن الخطاب أنا محمد بن إسحاق
422

سورة النساء 35 المسوحي أنا الحارث بن عبد الله أنا أبو معشر عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها \ ثم تلا (الرجال قوامون على النساء) الآية (واللاتي تخافون نشوزهن) عصيانهن وأصل النشوز التكبر والارتفاع ومنه النشز للموضع المرتفع (فعظوهن) بالتخويف من الله والوعظ بالقول (واهجروهن) يعني إن لم ينزعن عن ذلك بالقول فاهجروهن (في المضاجع) قال ابن عباس يوليها ظهره في الفراس ولا يكلمها وقال غيره يعتزل عنها إلى فراش آخر (واضربوهن) يعني إن لم ينزعن من الهجران فاضربوهن ضربا غير مبرح ولا شائن وقال عطاء ضربا بالسواك وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال \ حق المرأة أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت \ (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) أي لا تجنوا عليهن الذنوب وقال ابن عيينة لا تكلفوهن محبتكم فإن القلب ليس بأيديهن (إن الله كان عليا كبيرا) متعاليا من أن يكلف العباد مالا يطيقونه وظاهر الآية يدل على أن الزوج يجمع عليها بين الوعظ والهجران والضرب فذهب بعضهم إلى ظاهرها وقال إذا ظهر النشوز جمع بين هذه الأفعال وحمل الخوف في قوله (واللاتي تخافون نشوزهن) على العلم كقوله تعالى (فمن خاف من موص جنفا) أي علم ومنهم من حمل الخوف على الخشية لا على حقيقة العلم كقوله تعالى (وأما تخافن من قوم خيانة) وقال هذه الأفعال على ترتيب الجرائم فإن خاف نشوزها بان ظهرت أمارته منها من المخاشنة وسوء الخلق وعظها فإن أبدت النشوز هجرها فإن أصرت على ذلك ضربها 35 قوله تعالى (وإن خفتم شقاق بينهما) يعني خلافا بين الزوجين والخوف بمعنى اليقين وقيل هو بمعنى الظن يعني إن ظننتم شقاق بينهما وجملته أنه إذا ظهر بين الزوجين شقاق واشتبه حالهما فلم يفعل الزوج الصفح ولا الفرقة ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية وخرجا إلى ما لا يحل قولا وفعلا بعث الإمام حكما من أهله إليه وحكما من أهلها إليها رجلين حرين عدلين ليستطلع كل واحد من الحكمين رأي من بعث إليه إن كانت رغبته في الصلح أو في الفرقة ثم يجتمع الحكمان فينفذان ما يجتمع عليه رأيهما من الصلاح فذلك قوله عز وجل (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا) يعني الحكمين (يوفق الله بينهما) يعني بين الزوجين وقيل بين الحكمين (إن الله كان عليما
423

سورة النساء 36 خبيرا) أخبرنا عبد الوهاب محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا الثقفي عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة أنه قال في هذه الآية (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) قال جاء رجل وامرأة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع كل واحد منهما قوم من الناس فأمرهم علي رضي الله عنه فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين تدريان ما عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتم أن تفرقا فرقتما قالت المرأة رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي فقال الرجل أما الفرقة فلا فقال علي رضي الله عنه كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به واختلف القول في جواز بعث الحكمين من غير رضا الزوجين وأصح القولين أنه لا يجوز إلا برضاهما وليس لحكم الزوج أن يطلق إلا بإذنه ولا لحكم المرأة أن يخلع على مالها إلا بإذنها وهو قول أصحاب الرأي لأن عليا رضي الله عنه حين قال الرجل أما الفرقة فلا قال كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به فثبت أن تنفيذ الأمر موقوف على إقراره ورضاها والقول الثاني يجوز بعث الحكمين دون رضاهما ويجوز لحكم الزوج أن يطلق دون رضاه ولحكم المرأة أن يختلع دون رضاها إذا رأيا الصلاح كالحاكم يحكم بين الخصمين وإن لم يكن على وفق مرادهما وبه قال مالك ومن قال بهذا قال ليس المراد من قول علي رضي الله عنه للرجل حتى تقر أن رضاه شرط بل معناه أن المرأة لما رضيت بما في كتاب الله فقال الرجل أما الفرقة فلا يعني الفرقة ليست في كتاب الله فقال علي كذبت حيث أنكرت أن الفرقة في كتاب الله بل هي في كتاب فإن قوله تعالى (يوفق الله بينهما) يشتمل على الفراق وغيره لأن التوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الوزر وذلك تارة يكون بالفراق وتارة بصلاح حالهما في الوصلة 36 قوله تعالى (واعبدوا الله) أي وحدوه وأطيعوه (ولا تشركوا به شيئا) أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا علي أبو إسماعيل محمد بن محمد الصفار أنا أحمد بن منصور الرمادي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون الأزدي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال \ هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس قال قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال فإن حق الناس على الله أن لا يعذبهم قال قلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال دعهم يعملون \ قوله تعالى (وبالوالدين إحسانا) برا
424

بهما وعطفا عليهما (وبذي القربى) أي أحسنوا بذي القربى (واليتامى والمساكين) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمرو بن زرارة أنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا \ أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن مبارك عن يحيى بن أيوب عن عبد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة تمر عليها يده حسنات ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين أصبعيه \ قوله تعالى (والجار ذي القربى) أي ذي القرابة (والجار الجنب) أي البعيد الذي ليس بينك وبينه قاربة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي أنا عبد الله بن الجعد أنا شعبة عن أبي عمران الجوني قال سمعت طلحة قال قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال \ إلى أقربهما منك بابا \ أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق أنا يزيد بن سنان أخبرنا عثمان بن عمر أخبرنا أبو عامر الخراز عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق وإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها واغرف لجيرانك منها \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا
أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن المنهال أنا يزيد بن زريع أنا عمرو بن محمد عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه \ قوله تعالى (والصاحب بالجنب) يعني الرفيق في السفر قال ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة وعكرمة وقتادة وقال علي وعبد الله والنخعي هو المرأة تكون معه إلى جنبه وقال ابن جريج وابن زيد هو الذي يصحبك رجاء نفعك (وابن السبيل) قيل هو المسافر لأنه ملازم السبيل والأكثرون على أنه الضيف أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الأسفرايني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق أنا شعيب عمرو الدمشقي أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع نافع بن جبير عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا مصعب عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام وما كان بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل ان يثوي أي أن يقيم عنده
425

سورة النساء 37 حتى يخرجه \ قوله تعالى (وما ملكت أيمانكم) أي المماليك أحسنوا إليهم أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو العباس الطحان أنا أبو أحمد محمد بن قريش أنا علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيدة القاسم بن سلام أنا يزيد عن همام عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن سفينة عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في مرض موته \ الصلاة وما ملكت أيمانكم \ فجعل يتكلم وما يفيض بها لسانه أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمرو بن حفص أنا أبي أنا الأعمش عن المعرور عن أبي ذر رضي الله عنه قال رأيت أبا ذر وعليه برد وعلى غلامه برد فقلت لو أخذت هذا فلبسته كانا حلة وأعطيته ثوبا آخر فقال كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنلت منها فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي سايبت فلانا قلت نعم قال اقتلت أمه قلت نعم قال إنك امرؤ فيك جاهلية قلت على ساعتي هذه من كبر السن قال نعم هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو بن حفص التاجر أنا سهل بن عمار أنا يزيد بن هارون أخبرنا صدقة بن موسى عن فرقد السنجي عن مرة الطيب عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ لا يدخل الجنة سيئ الملكة \ (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) المختال المتكبر والفخور الذي يفخر على الناس بغير الحق تكبرا ذكر هذا بعدما ذكر من الحقوق لأن المتكبر يمنع الحق تكبرا أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر الزيادي أنا محمد بن الحسن القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة \ أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة \ 37 (الذين يبخلون) البخل في كلام العرب منع السائل من فضل ما لديه وفي الشرع منع الواجب (ويأمرون الناس بالبخل) قرأ حمزة والكسائي (بالبخل) بفتح الباء والخاء وكذلك في سورة الحديد وقرأ الآخرون بضم الباء وسكون الخاء نزلت في اليهود بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها وقال سعيد بن جبير هذا في كتمان العلم وقال ابن عباس رضي الله عنهما وابن زيد نزلت في
426

سورة النساء 38 40 كردم بن زيد وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحر بن عمرو كانوا يأتون رجالا من الأنصار ويخالطونهم فيقولون لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون فأنزل الله تعالى هذه الآية (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) يعني المال وقيل يبخلون بالصدقة (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) 38 (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) محل (الذين) نصب على عطف على الذي الأول وقيل خفض عطف على قوله و (اعتدنا للكافرين) نزلت في اليهود وقال السدي في المنافقين وقيل مشركي مكة المنفقين على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم (ومن يكن الشيطان له قرينا) صاحبا وخليلا (فساء قرينا) أي فبئس الشيطان قرينا وهو نصب على التفسير وقيل على القطع بإلغاء الألف واللام كما تقول نعم رجلا عبد الله وكما قال تعالى (بئس للظالمين بدلا) (وساء مثلا) 39 (وماذا عليهم) أي ما الذي عليهم وأي شيء عليهم (لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما) 40 (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) ونظمه وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا فإن الله لا يظلم أي لا يبخس ولا ينقص أحدا من ثواب عمله مثقال ذرة والذرة هي النملة الحمراء الصغيرة وقيل الذر أجزاء الهباء في الكون وكل جزء منها ذرة ولا يكون لها وزن وهذا مثل يريد أن الله لا يظلم شيئا كما قاله في آية أخرى إن الله لا يظلم الناس شيئا أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو عمرو بكر بن محمد المزني أنا أبو بكر محمد بن عبد الله الحفيد أنا الحسين بن الفضل البجلي أنا عفان أنا همام أنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة \ قال \ وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو الطيب الربيع بن محمد بن أحمد بن حاتم البزار الطوسي أنا أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن يحيى حدثهم أخبرنا عبد الرزاق وأخبرنا أبو سعيد
427

عبد الله بن أحمد الطاهري أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافيري أخبرنا إسحق بن إبراهيم الدبري أنا عبد الرزاق أنا معمر عن يزيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا فما
مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلو النار قال يقولون ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويحجون معنا فأدخلتهم النار قال فيقول الله لهم اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى كعبيه فيخرجونهم فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا قال ثم يقول ثم أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار حتى يقول من كان في قلبه مثقال ذرة من خير \ قال أبو سعيد رضي الله عنه من لم يصدق هذا فليقرأ هذه الآية (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) قال فيقولون ربنا أخرجنا من أمرتنا فلم يبق في النار أحد فيه خير ثم يقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين قال فيقبض قبضة من النار أو قال قبضتين من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا لله خيرا قط قد احترقوا حتى صاروا حمما فيؤتى بهم إلى ماء الحياة فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل قال فتخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم مكتوب فيه هؤلاء عتقاء الله فيقال لهم ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم قال فيقولون ربنا أعطيتنا مالم تعط أحدا من العالمين قال فيقول فإن عندي لكم أفضل منه فيقولون ربنا وما أفضل من ذلك فيقول رضاي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا محمد بن أحمد بن الحرث أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن ليث بن سعد حدثني عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن المعافري ثم الجيلي قال سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول الله أتنكر من هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر أو حسنة فبهت الرجل قال لا يا رب فيقول بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة قال فلا يثقل مع اسم الله شيء \ وقال قوم هذا في الخصوم وروي عن عبد الله بن
428

سورة النساء 41 42 مسعود رضي الله عنه قال إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد ألا من كان يطلب مظلمة فليجيء إلى حقه فليأخذه فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فليأخذ منه وإن كان صغيرا ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) ويؤتى بالعبد فينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان فمن كان له عليه حق فليأت إلى حقه فيأخذه ويقال آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا ربنا بقي له مثقال ذرة من حسنة فيقول ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقي طالبون فيقول الله عز وجل خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيآته ثم صكوا له صكا إلى النار فمعنى الآية على هذا التأويل أن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم بل أخذ له منه ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له فذاك قوله تعالى (وإن تك حسنة يضاعفها) قرأ أهل الحجاز (حسنة) بالرفع أي وإن توجد حسنة وقرأ الآخرون بالنصب على معنى وإن تك زنة الذرة حسنة يضاعفها أي يجعلها أضعافا كثيرة (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) قال أبو هريرة رضي الله عنه إذا قال الله تعالى أجرا عظيما فمن يقدر قدره 41 قوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) أي فكيف الحال وكيف يصنعون إذا جئنا من كل أمة بشهيد يعني بنبيها يشهد عليهم بما عملوا (وجئنا بك) يا محمد (على هؤلاء شهيدا) شاهدا يشهد على جميع الأمة على من رآه ومن لم يره أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن يوسف أنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إقرأ علي \ قلت يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أنزل قال نعم فقرأت سورة النساء حتى إذا أتيت هذه الآية (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) قال \ حسبك الآن \ فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان 42 قوله عز وجل (يومئذ) يوم القيامة (يود الذين كفورا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض) قرأ أهل المدينة وابن عامر (تسوى) بفتح التاء وتشديد السين على معنى تتسوى فأدغمت التاء الثانية
429

في السين وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وتخفيف السين على حذف تاء التفعل كقوله تعالى (لا تكلم نفس إلا بإذنه) وقرأ الآخرون بضم التاء وتخفيف السين على المجهول أي لو سويت بهم الأرض وصاروا هم والأرض شيئا واحدا قال قتادة وأبو عبيدة يعني لو تحرقت الأرض فساخوا فيها وعادوا إليها كما خرجوا عنها ثم تسوى بهم أي عليهم الأرض وقيل ودوا لو أنهم لم يبعثوا لأنهم إنما نقلوا من التراب وكانت الأرض مستوية عليهم وقال الكلبي يقول الله عز وجل للبهائم والوحوش والطيور والسباع كونوا ترابا فتسوى بهم الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو كان ترابا كما قال الله تعالى (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) (ولا يكتمون الله حديثا) قال عطاء ودوا لو تسوى بهم الأرض وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا نعته وقال الآخرون بل هو كلام مستأنف يعني ولا يكتمون الله حديثا لأن ما عملوه لا يخفى على الله ولا يقدرون على كتمانه وقال الكلبي وجماعة (ولا يكتمون الله حديثا) لأن جوارحهم تشهد عليهم وقال سعيد بن جبير قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال هات ما اختلف عليك قال (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) (ولا يكتمون الله حديثا) وقال (والله ربنا ما كنا مشركين) فقد كتموا وقال (أم السماء بناها) إلى قوله تعالى (والأرض بعد ذلك دحاها) وذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال (إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) إلى قوله (طائعين) فذكر في هذه خلق الأرض قبل السماء وقال (وكان الله غفورا رحيما) (وكان الله عزيزا حكيما) فكأنه كان ثم مضى فقال ابن عباس رضي الله عنهما فلا أنساب في النفخة الأولى قال الله تعالى (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون وأما قوله (ما كنا مشركين ولا يكتمون الله حديثا) فإن الله يغفر لأهل
الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركين تعالوا نقل لم نكن مشركين فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا وعنده (يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض) و (خلق الأرض في يومين) ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين (وكان الله غفورا رحيما) أي لم يزل كذلك فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله وقال الحسن إنها مواطن ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسا وفي موضع يتكلمون ويكذبون ويقولون ما كنا مشركين وما كنا نعمل في سوء وفي موطن يعترفون على أنفسهم وهو قوله (فاعترفوا بذنبهم) وفي موطن لا يتساءلون وفي موطن يتساءلون الرجعة وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم وهو قوله تعالى (ولا يكتمون الله حديثا)
430

سورة النساء 43 43 قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) الآية والمراد من السكر السكر من الخمر عند الأكثرين وذلك أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صنع طعاما ودعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوها قبل تحريم الخمر وسكروا فحضرت صلاة المغرب فقدموا رجلا ليصلي بهم فقرأ (قل يا أيها الكافرون) أعبد ما تعبدون بحذف (لا) هكذا إلى آخر السورة فأنزل الله تعالى هذه الآية وكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصلاة حتى نزل تحريم الخمر وقال الضحاك بن مزاحم أراد به سكر النوم نهى عن الصلاة عند غلبة النوم أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن المفلس أنا هارون بن إسحاق الهمذاني أخبرنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه \ قوله تعالى (حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا) نصب على الحال يعني ولا تقربوا الصلاة جنب يقال رجل جنب وامرأة جنب ورجال جنب ونساء جنب وأصل الجنب البعد وسمي جنبا لأنه يتجنب موضع الصلاة أو لمجانبته الناس وبعده منهم حتى يغتسل قوله تعالى (إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) اختلفوا في معناه فقالوا إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون الماء فتيمموا منع الجنب من الصلاة حتى يغتسل إلا أن يكون في سفر ولا يجد ماء فيصلي بالتيمم وهذا قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد رضي الله عنهم وقال الآخرون بل المراد من الصلاة موضع الصلاة كقوله تعالى (وبيع وصلوات) ومعناه لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه مثل أن ينام في المسجد فيجنب أو يصيبه جنابة والماء في المسجد أو يكون طريقه عليه فيمر به ولا يقيم وهذا قول عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والضحاك والحسن وعكرمة والنخعي والزهري وذلك أن قوما من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ولا ممر لهم إلا في المسجد فرخص لهم في العبور واختلف أهل العلم فيه فأباح بعضهم المرور فيهه على الإطلاق وهو قول الحسن وبه قال مالك والشافعي رحمهم الله ومنع بعضهم على الاطلاق وهو قول أصحاب الرأي وقال بعضهم يتيمم للمرور فيه أما المكث فلا يجوز عند أكثر أهل العلم لما روينا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد
431

لحائض ولا جنب \ وجوز أحمد المكث فيه وضعف الحديث لأن راويه مجهول وبه قال المزني ولا يجوز للجنب الطواف كما لا يجوز له الصلاة ولا يجوز له قراءة القرآن أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا شعبة أخبرني عمر بن مرة قال سمعت عبد الله بن سلمة يقول دخلت على علي رضي الله عنه فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الحاجة ويأكل معنا اللحم ويقرأ القرآن وكان لا يحجبه أو لا يحجزه عن القرآن شيء إلا الجنابة وغسل الجنابة يجب بأحد الأمرين إما بنزول المني أو بالتقاء الختانين وهو تغييب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل وكان حكم في الابتداء أن من جامع امرأته فأكسل لا يجب عليه الغسل ثم صار منسوخا أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أنا أبو موسى الأشعري سأل عائشة رضي الله عنها عن التقاء الخاتنين فقالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إذا التقى الختانان أو مس الختان الختان فقد وجب الغسل \ قوله تعالى (وإن كنتم مرضى) جمع مريض وأراد به مرضا يضره إمساس الماء مثل الجدري ونحوه أو كان على موضع الطهارة جراحة يخاف من استعمال الماء فيها التلف أو زيادة الوجع فإنه يصلي بالتيمم وإن كان الماء موجودا وإن كان بعض أعضاء طهارته صحيحا والبعض جريحا غسل الصحيح منها وتيمم للجريح لما أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز الغاشاني أنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر واللؤلؤي أنا داود سليمان بن الأشعث السجستاني أنا سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه فاحتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم قالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك قال \ قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء الغي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب شك الراوي على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده \ ولم يجوز أصحاب الرأي الجمع بين التيمم والغسل وقالوا إن كان أكثر أعضائه صحيحا غسل الصحيح ولا يتيمم عليه وإن كان الأكثر جريحا اقتصر على التيمم والحديث حجة لمن أوجب الجمع بينهما قوله تعالى (أو على سفر) أراد أنه إذا كان في سفر طويلا كان أو قصيرا وعدم الماء فإنه يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه لما روي عن أبي ذر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم \ إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشر فإن ذلك خير \ أما إذا لم يكن الرجل مريض ولا في سفر لكنه عدم الماء في موضع لا يعدم فيه الماء غالبا بأن كان في قرية انقطع ماؤها فإنه يصلي بالتيمم ثم يعيد إذا قدر على الماء
432

عند الشافعي وعند مالك والأوزاعي لا إعادة عليه وعند أبي حنيفة رضي الله عنهما يؤخر الصلاة حتى يجد الماء قوله تعالى (أو جاء أحد منكم من الغائط) أراد به إذا أحدث والغائط اسم للمطمئن من الأرض وكانت عادة العرب اتيان الغائط للحدث فكني عن الحدث بالغائط (أو لامستم النساء) قرأ حمزة والكسائي (لمستم) ههنا وفي
المائدة وقرأ الباقون (لامستم النساء) واختلفوا في معنى اللمس والملامسة فقال قوم هو المجامعة وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وكني باللمس عن الجماع لأن الجماع لا يحصل إلا باللمس وقال قوم هما التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي واختلف الفقهاء في حكم هذه الآية فذهب جماعة إلى أنه إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء ن بدن المرأة ولا حائل بينهما ينتقض وضوءهما وهو قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي رضي الله عنهم وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحق إن كان اللمس بشهوة نقض الطهر وإن لم يكن بشهوة فلا ينتقض وقال قوم لا ينتقض الوضوء باللمس بحال وهو قول ابن عباس وبه قال الحسن والثوري وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا ينتقض إلا إذا حدث الانتشار واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد عمزني فقبضت رجلي وإذا قام بسطتهما قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن مسعود عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من اليل فلمسته بيدي فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد وهو يقول \ أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك \ واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما لو لمس امرأة من محارمه كالأم والبنت والأخت أو لمس أجنبية صغيرة أصح القولين أنه لا ينتقض الوضوء لأنها ليست بمحل الشهوة كما لو لمس رجلا واختلف قوله في انتقاض وضوء الملموس على قولين أحدهما ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ كما يجب الغسل عليهما بالجماع والثاني لا ينتقض لحديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد ولو لمس شعر امرأة أو سنها أو ظفرها لم ينتقض وضوءه عنده واعلم أن المحدث لا تصح صلاته مالم يتوضأ إذا وجد الماء أو يتيمم إذا لم يجد الماء أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ \ والحدث هو خروج الخارج من أحد الفرجين عينا كان أو أثرا أو الغلبة على العقل بجنون أو إغماء على أي حال كان وأما النوم فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يوجب الوضوء إلا أن ينام قاعدا متمكنا فلا وضوء عليه لما
433

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز الخلال أنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أنا الشافعي أنا الثقة عن حميد الطويل عن أنس رضي الله عنهما قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون أحسبه قال قعودا حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ويا يتوضئون وذهب قوم إلى أن النوم يوجب الوضوء بكل حال وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها وبه قال الحسن وإسحق والمزني وذهب قوم إلى أنه لو نام قائما أو قاعدا أو ساجدا فلا وضوء عليه حتى ينام مضطجعا وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي واختلفوا في مس الفرج من نفسه أو من غيره فذهب جماعة إلى أنه يوجب الوضوء وهو قول عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنها وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحق وكذلك المرأة تمس فرجها غير أن الشافعي رضي الله عنه يقول لا ينتقض إلا أن تلمس ببطن الكف أو بطون الأصابع واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء فقال مروان من مس الذكر الوضوء فقال عروة ما علمت ذلك فقال مروان أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ \ وذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء روي ذلك عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة وبه قال الحسن وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي واحتجوا بما روي عن طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الرجل ذكره فقال \ هل هو إلا بضعة منك \ ويروى \ هل هو إلا بضعة أو مضغة منه \ ومن أوجب الوضوء منه قال هذا منسوخ بحديث بسرة لأن أبا هريرة يروي أيضا أن الوضوء من مس الذكر وهو متأخر الإسلام وكان قدوم طلق بن علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمن الهجرة حين كان يبني المسجد واختلفوا في خروج النجاسة من غير الفرجين بالفصد والحجامة وغيرهما من القيء ونحوه فذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء روي ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وبه قال عطاء وطاوس والحسن وسعيد بن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي وذهبت جماعة إلى إيجاب الوضوء بالقيء والرعاف والفصد والحجامة منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحق واتفقوا على أن القليل منه وخروج الريح من غير السبيلين لا يوجب الوضوء ولو أوجب الوضوء كثيره لأوجب قليل الوضوء كالفرج (فلم تجدوا ماء فتيمموا) اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة روى حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا
434

طهورا إذا لم نجد الماء \ وكان بدء التيمم ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي أخبرنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبا بكر رضي الله عنه فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال أحبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء
وليس معهم ماء قالت فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله تعالى آية التيمم (فتيمموا) فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء ما هي بأول بركتكم يا آل أبا بكر قالت عائشة رضي الله عنها فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبيد بن إسماعيل أنا أبو اسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة (فتيمموا) أي اقصدوا (صعيدا طيبا) أي ترابا طاهرا نظيفا قال ابن عباس رضي الله عنهما الصعيد هو التراب واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنه يختص بما يقع عليه اسم التراب مما يعلق باليد منه غبار لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ وجعلت تربتها لنا طهورا \ وجوز أصحاب الرأي التيمم بالزرنيخ والجص والنورة وغيرها من طبقات الأرض حتى قالوا لو ضرب يديه على صخرة لا غبار عليها أو على التراب ثم نفخ فيه حتى زال التراب كله فمسح به وجهه ويديه صح تيممه وقالوا الصعيد وجه الأرض لما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا \ وهذا مجمل وحديث حذيفة في تخصيص التراب مفسر والمفسر من الحديث يقضي على المجمل وجوز بعضهم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ونبات ونحوهما وقال إن الصعيد اسم لما تصاعد على وجه الأرض والقصد إلى التراب شرط لصحة التيمم لأن الله تعالى قال (فتيمموا) والتيمم القصد حتى لو وقف في مهب الريح فأصاب الغبار وجهه ونوى لم يصح قوله
435

تعالى (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) اعلم أن مسح الوجه واليدين واجب في التيمم واختلفوا في كيفيته فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يمسح الوجه واليدين مع المرفقين بضربتين يضرب كفيه على التراب فيمسح بهما جميع وجهه ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور ثم يضرب ضربة أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن أبي الصة قال مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد علي حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد علي السلام ففيه دليل على وجوب مسح اليدين إلى المرفقين كما يجب غسلهما في الوضوء إلى المرفقين ودليل على أن التيمم لا يصح مالم يعلق باليد غبار التراب لأن النبي صلى الله عليه وسلم حت الجدار بالعصا ولو كان مجرد الضارب لما كان حته وذهب الزهري إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين لما روي عن عمار أنه قال تيممنا إلى المناكب وذلك حكاية فعله لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روي أنه قال أجنبت فتمعكت في التراب فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوجه والكفين وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين وهو قول علي وابن عباس رضي الله عنهم وبه قال الشعبي وعطاء بن أبي رباح ومكحول وإليه ذب الأوزاعي وأحمد وإسحق واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا آدم أنا شعبة أخبرنا الحكم عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال إني أجنبت فلم أصب الماء فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت فصليت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح وجهه وكفيه \ وقال محمد بن إسماعيل أنا محمد بن كثير عن شعبة بإسناده فقال عمار لعمر رضي الله عنه تمعكت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال \ يكفيك الوجه والكفان \ وفي الحديث دليل على أن الجنب إذا لم يجد الماء يصلي بالتيمم وكذا الحائض النفساء إذا طهرتا وعدمتا الماء وذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى أن الجنب لا يصلي بالتيمم بل يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء فيغتسل وحملا قوله تعالى (أو لمستم النساء) على اللمس باليد دون الجماع وحديث عمار رضي الله عنه حجة وكان عمر نسي ما ذكر له عمار فلم يقنع بقوله وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه رجع عن قوله وجوز التيمم للجنب والدليل عليه أيضا ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد بن عياد بن منصور عن أبي رجاء العطاردي عن عمران بن حصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
436

سورة النساء 44 رجلا كان جنبا أن يتيمم ثم يصلي فإذا وجد الماء اغتسل وأخبرنا عمر بن عبد العزيز أنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي أنا أبو علي اللؤلؤي أنا أبو داود السجستاني أنا مسدد أنا خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي عمرو عن بجدان عن أبي ذر رضي الله عنهم قال اجتمعت غنيمة من الصدقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا ذر ابدأ فيها فبدوت إلى الربذة وكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبا ذر فسكت فقال \ ثكلتك أمك يا أبا ذر لأمك الويل \ فدعا بجارية سوداء فجاءت بعس فيه ماء فسترتني بثوب واستترت بالراحلة فاغتسلت فكأني ألقيت عني جبلا فقال \ الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير \ ومسح الوجه واليدين في التيمم تارة يكون بدلا عن غسل بعض أعضاء الطهارة بأن يكون على بعض أعضاء طهارته جراحة لا يمكنه غسل محلها فعليه أن يتيمم بدلا عن غسله ولا يصح التييم لصلاة الوقت إلا بعد دخول الوقت ولا يجوز أن يجمع بين فريضتين بتيمم واحد لأن الله تعالى قال (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) إلى أن قال (فلم تجدوا ماء فتيمموا) ظاهر الآية يدل على وجوب الوضوء أو التيمم إذا لم يجد الماء عند كل صلاة إلا أن الدليل قد قام في الوضوء فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد فبقي التيمم على ظاهره وهذا قول علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحق وذهب جماعة إلى أن التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض مالم يحدث وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي واتفقوا على أنه يجوز أن
يصلي بتيمم واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل قبل الفريضة وبعدها وأن يقرأ القرآن إن كان جنبا وإن كان تيممه واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل قبل الفريضة وبعدها وأن يقرأ القرآن إن كان جنبا وإن كان تيممه بعذر السفر وعدم الماء فيشترط طلب الماء وهو أن يطلبه في رحله ومن رفقائه وإن كان في صحراء ولا حائل دون نظر ينظر حواليه وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار عدل عنه لأن الله تعالى قال (فلم تجدوا ماء فتيمموا) ولا يقال لم يجد إلا لمن طلب وعند أبي حنيفة رضي الله عنه طلب الماء ليس بشرط فإن رأى الماء ولكنه بينه وبين الماء حائل ن عدة أو سبع يمنعه من الذهاب إليه أو كان الماء في البئر وليست معه آلة الاستقاء فهو كالمعدوم يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه 44 قوله عز وجل (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) يعني يهود المدينة قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لويا لسانهما وعاباه فأنزل الله تعالى هذه الآية (يشترون) يستبدلون (الضلالة) يعني بالهدى (ويريدون أن تضلوا السبيل) أي عن السبيل يا معشر المؤمنين
437

سورة النساء 45 47 45 (والله أعلم بأعدائكم) منكم فلا تستنصحوهم فإنهم أعداؤكم (وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) قال الزجاج اكتفوا بالله وليا واكتفوا بالله نصيرا 46 (من الذين هادوا) قيل هي متصلة بقوله (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) (من الذين هادوا) وقيل هي مستأنفة معناه من الذين هادوا من يحرفون كقوله تعالى (وما منا إلا له مقام معلوم) أي من له منزلة معلومة يريد فريق (يحرفون الكلم) يغيرون الكلم (عن مواضعه) يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن الأمر فيخبرهم فيرى أنهم يأخذون بقوله فإذا انصرفوا من عنده حرفوا كلامه (ويقولون سمعنا) قولك (وعصينا) أمرك (واسمع غير مسمع) أي اسمع منا ولا نسمع منك (غير مسمع) أي غير مقبول منك وقيل كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم اسمع ثم يقولون في أنفسهم لا سمعت (وراعنا) أي ويقولون راعنا يريدون به النسبة إلى الرعونة (ليا بألسنتهم) تحريفا (وطعنا) قدحا (في الدين) لأن قولهم راعنا من المراعاة وهم يحرفونه يريدون به الرعونة (ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا) أي انظر إلينا مكان قولهم راعنا (لكان خيرا لهم وأقوم) أي أعدل وأصوب (ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) إلا نفرا قليلا منهم وهو عبد الله بن سلام ومن أسلم معه منهم 47 قوله عز وجل (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) يخاطب اليهود (آمنوا بما نزلنا) يعني القرآن (مصدقا لما معكم) يعني التوراة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود عبد الله بن صوريا وكعب بن الأشرف فقال \ يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أني الذي جئتكم به لحق \ قالوا ما نعرف ذلك وأصروا على الكفر وأنزلت هذه الآية (من قبل أن نطمس وجوها) قال ابن عباس نجعلها كخف البعير وقال قتادة والضحاك نعميها والمراد بالوجه العين (فنردها على أدبارها) أي نطمس الوجوه فنردها على القفا وقيل نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة لأن منابت شعور الآدميين في أدبارهم دون وجوههم وقيل معناه نمحو آثارها وما
438

سورة النساء 48 فيها من أنف وعين وفم وحاجب ونجعلها كالاقفاء وقيل نجعل عينيه على القفاء فيمشى قهقرى روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه وأسلم وقال يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله عنه فقال يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية فإن قيل قد أوعدهم الله بالطمش إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك قيل هذا الوعيد باق ويكون طمس ومسخ في اليهودية قبل قيام الساعة وقيل هذا كان وعيد بشرط فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه دفع ذلك عن الباقين وقيل أراد به في القيامة وقال مجاهد أراد بقوله (نطمس وجوها) أي نتركهم في الصلالة فيكون المراد طمس وجه القلب والرد عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة وأصل الطمش المحو والإفساد والتحويل وقال ابن زيد نمحو آثارهم من وجوههم ونواصيعم التي هم بها فنردها على أدبارها حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا منه وهو الشام وقال قد مضى ذلك وتأوله في إجلاء بني النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) فنجعلهم قردة وخنازير (وكان أمر الله مفعولا) 48 (إن الله لا يغفر أن يشرك به) قال الكلبي نزلت في وحشي بن حرب وأصحابه وذلك أنه لما قتل حمزة كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو وأصحابه فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قد ندمنا على الذي صنعنا وأنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) الآيات وقد دعونا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله وزنينا فلولا هذه الآيات لاتبعناك فنزلت (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) الآيتين فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما قرؤوا كتبوا إليه إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل صالحا فنزل (إن الله لا يغفر أن يشرك به) (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فبعث بها إليهم فبعثوا إليه إنا نخاف أن لا نكون من أهل المشيئة فنزلت (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) فبعث بها إليهم فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل منهم ثم قال لوحشي أخبرني كيف قتلت حمزة فلما أخبره قال \ ويحك غيب وجهك عني \ فلحق وحشي بالشام فكان بها إلى أن مات وقال أبو مجلز عن ابن عمر رضي الله عنه لما نزل (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) الآية قام رجل فقال والشرك يا رسول الله فسكت ثم قام إليه مرتين أو ثلاثا فنزلت (إن الله لا يغفر أن يشرك به) وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير قال ابن عمر رضي الله عنه كنا على عهد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية (إن الله
439

سورة النساء 49 50 لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فأمسكنا عن الشهادات حكي عن علي رضي الله عنه أن أرجى آية في القرآن قوله (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (ومن يشرك بالله فقد افترى) اختلق (إثما عظيما) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن حماد أنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله ما الموجبتان قال \ من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار \ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو
معمر أنا عبد الوارث عن حسين يعني المعلم عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر حدثه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال \ ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة \ قلت وإن زنى وإن سرق قال \ وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر \ وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال وإن رغم أنف أبي ذر 49 قوله تعالى (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) الآية قال الكلبي نزلت في رجال من اليهود منهم بحري بن عمر والنعمان بن أوفى ومرحب بن زيد أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد هل على هؤلاء من ذنب فقال لا قالوا وما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار يكفر عنا بالليل وما عملنا بالليل يكفر عنا بالنهار فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال مجاهد وعكرمة كانوا يقدمون أطفالهم في الصلاة يزعمون أنهم لا ذنوب لهم فتلك التزكية وقال الحسن والضحاك وقتادة ومقاتل نزلت في اليهود والنصارى حين قالوا نحن أنصار الله وأحباؤه (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو تزكية بعضهم لبعض روي عن طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال إن الرجل ليغدو من بيته ومعه دينه فيأتي الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفعا فيقول والله إنك كيت وكيت ويرجع إلى بيته وما معه من دينه شيء ثم قرأ (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) الآية قوله تعالى (بل الله يزكي) أي يطهر ويبرئ من الذنوب ويصلح (من يشاء ولا يظلمون فتيلا) وهو اسم لما في شق النواة والقطمير اسم للقشرة التي على النواة والنقير اسم للنقرة التي على ظهر النواة وقيل الفتيل من الفتل وهو ما يجعل بين الأصبعين من الوسخ عند الفتل 50 قوله تعالى (انظر) يا محمد (كيف يفترون على الله) يختلقون على الله (الكذب) في تغييرهم كتابه (وكفى به) بالكذب (إثما مبينا)
440

سورة النساء 51 51 قوله تعالى (ألم تر إلأى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) اختلفوا فيهما فقال عكرمة هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله وقال أبو عبيدة هما كل معبود يعبد من دون الله قال الله تعالى (أن عبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وقال عمر الجبت السحر والطاغوت الشيطان وهو قول الشعبي ومجاهد وقيل الجبت الأوثان والطاغوت شياطين الأوثان ولكل صنم شيطان يعبر عنه فيغتر به الناس وقال محمد بن سيرين ومكحول الجبت الكاهن والطاغوت الساحر وقال سعيد بن جبير وأبو العالية الجبت الساحر بلسان الحبشة والطاغوت الكاهن وروي عن عكرمة الجبت بلسان الحبشة شيطان وقال الضحاك الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف دليله قوله تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسن بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد بن منصور الرمادي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن عوف العبدي عن حيان عن قطن بن قبيصة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ العيافة والطرق والطيرة من الجبت \ وقيل الجبت كل ما حرم الله والطاغوت كل ما يطغي الإنسان (ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) قال المفسرون خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما ففعلوا ذلك فذلك قوله (يؤمنون بالجبت والطاغوت) ثم قال كعب لأهل مكة ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب هذا البي لنجهدن على قتال محمد ففعلوا ثم قال أبو سفيان لكعب إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقة نحن أم محمد قال كعب اعرضوا علي دينكم فقال أبو سفيان نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث فقال كعب أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد وأصحابه فأنزل الله تعالى (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) يعني كعبا وأصحابه (يؤمنون بالجبت والطاغوت) يعني الصنمين (ويقولون للذين كفروا) أي أبي سفيان وأصحابه (هؤلاء أهدى من الذين آمنوا) بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم سبيلا
441

سورة النساء 52 56 52 (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) 53 (أم لهم) يعني ألهم والميم صلة (نصيب) حظ (من الملك) وهذا على جهة الإنكار يعني ليس لهم من الملك شيء ولو كان لهم من الملك شيء (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) لحسدهم وبخلهم النقير النقطة التي تكون في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة وقال أبو العالية هو نقر الرجل الشيء بطرف أصبعه كما ينقر الدرهم 54 (أم يحسدون الناس) يعني اليهود ويحسدون الناس قال قتادة المراد بالناس العرب حسدهم اليهود على النبوة وما أكرمهم الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل أراد محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وجماعة المراد بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده حسدوه على ما أحل الله له من النساء وقالوا ما له هم إلا النكاح وهو المراد من قوله (على ما آتاهم الله من فضله) وقيل حسدوه على النبوة وهو المراد من الفضل المذكور في الآية (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة) أراد بآل إبراهيم داود وسليمان وبالكتاب ما أنزل الله إليهم وبالحكمة النبوة (وآتيناهم ملكا عظيما) فمن فسر الفضل بكثرة النساء فسر الملك العظيم في حق داود وسليمان عليهما السلام بكثرة النساء فإنه كان لسليمان ألف امرأة ثلاثمائة حرة وسبعمائة سرية وكان لداود مائة امرأة ولم يكن يومئذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسع نسوة فلما قال لهم ذلك سكتوا 55 قال الله تعالى (فمنهم من آمن به) يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم عبد الله بن سلام وأصحابه (ومنهم من صد عنه) أعرض عنه ولم يؤمن به (وكفى بجهنم سعيرا) وقودا وقيل الملك العظيم ملك سليمان وقال السدي الهاء في قوله (من آمن به وصد عنه) راجعة إلى إبراهيم وذلك أن إبراهيم زرع ذات سنة وزرع الناس فهلك زرع الناس وزكا زرع إبراهيم عليه السلام فاحتاج إليه الناس فكان يقول من آمن بي أعطيته فمن آمن به أعطاه ومن لم يؤمن به منعه 56 قوله تعالى (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا) ندخلهم نارا) كلما نضجت) احترقت (جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) غير الجلود المحترقة قال ابن عباس رضي الله عنهما
442

سورة النساء 57 58 يبدلون جلودا بيضا كأمثال القراطيس وروي أن هذه الآية قرئت عند عمر رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه للقارئ أعدها فأعادها وكان عنده
معاذ بن جبل فقال معاذ عندي تفسيرها تبدل في كل ساعة مائة مرة فقال عمر رضي الله عنه هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحسن تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا معاذ بن أسيد أنا الفضل بن موسى أنا الفضيل عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرعأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا شريح بن يونس أنا حميد بن عبد الرحمن عن الحسن بن صالح عن عرون بن سعد عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام \ فإن قيل كيف تعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعصه قيل يعاد الجلد الأول في كل مرة وإنما قال (جلودا غيرها) لتبديل صفتها كما تقول صنعت من خاتمي خاتما غيره فالخاتم الثاني هو الأول إلا أن الصناعة والصفة تبدلت وكمن يترك أخاه صحيحا ثم بعد مرة يراه مريضا دنفا فيقول أنا غير الذي عهدت وهو عين الأول إلا أن صفته تغيرت وقال السدي يبدل الجلد جلدا غيره من لحم الكافر ثم يساد الجلد لحما ثم يخرج من اللحم جلدا آخر وقيل يعذب الشخص في الجلد لا الجلد بدليل أنه قال (ليذوقوا العذاب) ولم يقل لتذوق وقال عبد العزيز بن يحيى إن الله عز وجل يلبس أهل النار جلودا لا تألم فيكون زيادة عذاب عليهم كلما اخترق جلد بدلهم جلدا غيره كما قال (سرابيلهم من قطران) فالسرابيل تؤلمهم وهي لا تألم قوله تعالى (ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما) 57 (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا) كنينا لا تنسخه الشمس ولا يؤذيهم حر ولا برد 58 قوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيل إنه مع عثمان فطلبه منه رسول الله فأبى وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنع المفتاح فلوى علي رضي الله عنه يده فأخذ منه المفتاح وفتح الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
443

سورة النساء 59 البيت وصلى فيه ركعتين فلما خرج سأله العباس المفتاح أن يعطيه ويجمع له بين السقاية والسدانة فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ففعل ذلك علي رضي الله عنه فقال له عثمان أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال علي لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنا وقرأ عليه الآية فقال عثمان أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وكان المفتاح معه فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة وقيل المراد من الآية جميع الأمانات أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزاد أنا أبو بكر محمد بن إدريس الجرجاني وأبو أحمد بن محمد بن أحمد المعلم الهروي قال أنا أبو الحسن علي بن عيسى المساليني أنا الحسن بن سفيان النسوي أنا شيبان بن أبي شيبة أخبرنا أبو هلال عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال فلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له \ قوله تعالى (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) أي بالقسط (إن الله نعما) أي نعم الشيء الذي (يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الزياتي أنا حميد بن زنجويه أنا ابن عباد بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال \ المقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي أنا علي بن الجعد أنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر \ 59 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) اختلفوا في (أولي الأمر) قال ابن عباس وجابر رضي الله عنهم هم الفقهاء والعلماء الذين يعلمون الناس معالم دينهم وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد ودليله قوله تعالى (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) قال أبو هريرة هم الأمراء والولاة وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا أخبرنا أبو علي حسان بن سعد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة
444

رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره مالم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة \ أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن محمد الراودي أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت أنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد أخبرنا عبادة بن الوليد بن عبادة أن أباه أخبره عن عبادة بن الصامت قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم أخبرنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبيد الله بن أحمد القفال أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي أنا أبو بكر بن محمد بن همدان الصيرفي أنا محمد بن يوسف الكديمي قال أخبرنا أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي التياح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر \ اسمع وأطع ولو لعبد حبشي كان رأسه زبيبة \ أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس أنا محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا موسى بن عبد الرحمن الكندي أنا زيد بن
الحباب أنا معاوية بن صالح حدثني سليم بن عامر قال سمعت أبا أمامة رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال \ اتقوا الله وصلوا رحمكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم \ وقيل المراد أمراء السرايا أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا صدقة بن الفضل أنا حجاج بن محمد عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى (أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) قال نزلت في عبيد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية وقال عكرمة أراد بألوي الأمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التهمي أنا أبو محمد عبد الرحمن عثمان بن القاسم أخبرنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي أنا عمرو بن أبي عرزة بالكوفة أخبرنا ثابت بن موسى العابد عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر \ رضي الله عنهما وقال عطاء هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان بدليل قوله تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) الآية أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا محمد بن يعقوب الكسائي قال أخبرنا عبد الله بن محمود أنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن إسماعيل المكي عن الحسن عن أنس بن مالك رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ مثل أصحابي في أمتي
445

سورة النساء 60 كالملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح \ قال الحسن قد ذهب ملحنا فكيف نصلح قوله عز وجل (فإن تنازعتم) أي اختلفتم (في شيء) من أمر دينكم والتنازع اختلاف الآراء وأصله من النزع فكان المتنازعان يتجاذبان ويتمانعان (فردون إلى الله ورسوله) أي إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حيا وبعد وفاته إلى سنته والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد وقيل الرد إلى الله تعالى والرسول أن يقول لما لا يعلم الله ورسوله أعلم (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك) أي الرد إلى الله والرسول (خير وأحسن تأويلا) أي أحسن مآلا وعاقبة 60 قوله تعالى (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) الآية قال الشعبي كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة ولا يميل في الحكم وقال المنافق نتحاكم إلى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ويميلون في الحكم فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه فنزلت هذه الآية قال جابر كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها واحدا في جهينة وواحدا في أسلم وفي كل حي واحد كهان وقال الكلبي عن أبي صالح وابن عباس نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي ننطلق إلى محمد وقال المنافق بل إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله الطاغوت فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر رضي الله عنه فأتيا عمر فقال اليهودي اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك فقال عمر رضي الله عنه للمنافق أكذلك قال نعم قال لهما رويدكما حتى أخرج غليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد وقال هكذا أقضي بين لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزلت هذه الآية وقال جبريل إن عمر رضي الله عنه فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق وقال السدي كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير قتل به أو
446

سورة النساء 61 62 أخذ ديته مائة وسق من تمر وإذا قتل رجل من بني النضير رجلا من قريظة لم يقتل به وأعطي ديته ستين وسقا وكانت النضير وهم حلفاء الأوس اشرف وأكثر من قريظة وهم حلفاء الخزرج فلما جاء الله بالإسلام وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فاختصموا في ذلك فقالت بنو النضير كنا وأنتم قد اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلون منا وديتكم ستون وسقا وديتنا مائة وسق فنحن نعطيكم ذلك فقالت الخزرج هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهلية لكثرتكم وقلتنا فقهرتمونا ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد فلا فضل لكم علينا فقال المنافقون منهم انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي وقال المسلمون من الفريقين لا بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم فقال أعظموا اللقمة يعني الخطر فقالوا لك عشرة أوسق قال لا بل مائة وسق ديتي فأبوا إلا أن يعطوه عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم فأنزل الله تعالى آيتي القصاص وهذه الآية (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) يعني إلى أبي بردة الكاهن أو كعب بن الأشرف (وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) 61 (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) أي يعرضون عنك إعراضا 62 (فكيف إذا أصابتهم مصيبة) هذا وعيد أي فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة (بما قدمت أيديهم) يعني عقوبة صدودهم وقيل هي كل مصيبة تصيب جميع المنافقين في الدنيا والآخرة وتم الكلام ههنا ثم عاد الكلام إلى ما سبق يخبر عن فعلهم فقال (ثم جاؤزك) يعني يتحاكمون إلى الطاغوت (ثم جاؤوك) أي يجيئونك يحلفون وقيل أراد بالمصيبة قتل عمر رضي الله عنه المنافق ثم جاؤوا يطلبون ديته (يحلفون بالله إن أردنا) ما أردنا بالعدول عنه في المحاكمة أو بالترافع إلى عمر (إلا إحسانا وتوفيقا) قال الكلبي إلا إحسانا في القول وتوفيقا صوابا وقال ابن كيسان حقا وعدلا نظيره (ليحلفن إن أردنا إلا الحسنى) وقيل هو إحسان بعضهم إلى بعض وقيل هو تقريب الأمر من الحق لا القضاء على أمر الحكم والتوفيق هو موافقة الحق وقيل هو التأليف والجمع بين الخصمين
447

سورة النساء 63 65 63 (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) من النفاق أي علم أن ما في قلوبهم خلاف ما في ألسنتهم (فأعرض عنهم) أي عن عقوبتهم وقيل هو التخويف بالله وقيل أن يوعدهم بالقتل إن لم يتوبوا قال الحسن القول البليغ أن يقول لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قتلتم لأنه يبلغ من نفوسكم كل مبلغ وقال الضحاك (فأعرض عنهم وعظهم) في الملأ (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) في السر والخلاء وقال قيل هذا منسوخ بآية القتال 64 قوله عز وجل (وما أرسلنا من رسول إلا
ليطاع بإذن الله) أي بأمر الله لأن طاعة الرسول وجبت بأمر الله قال الزجاج ليطاع الله لأن الله قد أذن فيه وأمر به وقيل إلا ليطاع كلام تام كاف بإذن الله تعالى أي بعلم الله وقضائه أي وقوع طاعته يكون بإذن الله (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) لتحاكمهم إلى الطاغوت (جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) 65 قوله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك) الآية أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير رضي الله عنه كان يحدث أنه يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاري ثم قال يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار على الزبير رأيا أي أراد سعة له وللأنصار فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم قال عروة قال الزبير والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) الآية وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة فلما خرجا مر على المقداد فقال لمن كان القضاء فقال الأنصاري قضى لابن عمته ولوى شدقيه ففطن له يهودي كان مع المقداد فقال قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم وأيم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعاني
448

سورة النساء 66 68 موسى إلى التوبى منه فقال اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا فقال ثابت بن قيس بن شماس أما والله إن الله ليعلم مني الصدق ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك) وقال مجاهد والشعبي نزلت في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه قوله تعالى (فلا) أي ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ثم استأنف القسم (وربك لا يؤمنون) ويجوز أن يكون (لا) في قوله (فلا) صلة كما في قوله (فلا أقسم) حتى يحكموك أي يجعلوك حكما (فيما شجر بينهم) أي اختلف واختلط من أمورهم والتبس عليهم حكمه ومنه شجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا) قال مجاهد شكا وقال غيره ضيقا (مما قضيت) قال الضحاك إنما أي يأثمون بإنكارهم ما قضيت (ويسلموا تسليما) أي ينقادوا لأمرك انقيادا 66 قوله تعالى (ولو أنا كتبنا) أي فرضنا وأوجبنا (عليهم أن اقتلوا أنفسكم) كما أمرنا بني إسرائيل (أو أخرجوا من دياركم) كما أمرنا بني إسرائيل بالخروج من مصر (ما فعلوه) معناه ما كتبنا عليهم إلا طاعة الرسول والرضى بحكمه ولو كتبنا عليهم القتل والخروج عن الدور ما كان يفعله (إلا قليل منهم) نزلت في ثابت بن قيس وهو من القليل الذي استثنى الله قال الحسن ومقاتل لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليل والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال \ إن من أمتي لرجلالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي \ قرأ ابن عامر وأهل الشام (إلا قليلا) بالنصب على الاستثناء وكذلك هو في مصحف أهل الشام وقيل فيه إضمار تقديره إلا أن يكون منهم وقرأ الآخرون قليل بالرفع على الضمير الفاعل في قوله (فعلوه) تقديره إلا نفر قليل فعلوه (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) يؤمرون به من طاعة الرسول والرضى بحكمه (لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) تحقيقا أو تصديقا لإيمانهم 67 (وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما) ثوابا وافرا 68 (ولهديناهم صراطا مستقيما) أي إلى الصراط المستقيم
449

سورة النساء 69 70 69 قوله تعالى (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) الآية نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم قد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ما غير لونك \ فقال يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إن لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيين وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا فنزلت هذه الآية وقال قتادة قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون الحال في الجنة وأنت في الدرجات العلى ونحن أسفل منك وكيف نراك فأنزل الله تعالى هذه الآية (ومن يطع الله) في أداء الفرائض (والرسول) في السنن (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم لأنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء (والصديقين) وهم أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والصديق المبالغ في الصدق (والشهداء) قيل هم الذين استشهدوا في يوم أحد وقل الذين استشهدوا في سبيل الله وقال عكرمة النبيون ههنا محمد صلى الله عليه وسلم والصديق أبو بكر والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم (والصالحين) سائر الصحابة رضي الله عنهم (وحسن أولئك رفيقا) يعني رفقاء الجنة والعرب تضع الواحد موضع الجمع كقوله تعالى (ثم نخرجكم طفلا) أي أطفالا (ويولون الدبر) أي الأدبار أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي أنا أبو العباس السراج أنا قتيبة بن سعد أنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله الرجل يحب قوما ولم يلحق بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ المرء مع من أحب \ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحاني وأبو عمرو ومحمد بن عبد الرحمن النسوي قالا أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري أنا أبو عباس الأصم أنا أبو يحيى زكريا بن يحيى المروزي أنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رجل يا رسول الله متى الساعة قال \ وما أعددت لها \ قال لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله قال \ فأنت مع من أحببت \ 70 (ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما) أي بثواب الآخرة وقيل من أطاع رسول الله وأحبه وفيه بيان أنهم لن ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم وإنما نالوها بفضل الله عز وجل أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحيم بن منيب أنا يعلى بن عبيد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ قاربوا وسددوا واعلموا أنه لا ينجوا أحد منكم بعمله \ قالوا ولا أنت يا رسول الله قال \ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة \
450

سورة النساء 71 74 71 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) من عدوكم أي من عدتكم وآلتكم من السلاح والحذر والحذر واحد كالمثل والمثل والشبه والشبه (فانفروا) اخرجوا (ثبات) أي سرايا متفرقين سرية بعد سرية والثبات جماعات في تفرقة واحدتها ثبة (أو انفروا جميعا) أي مجتمعين كلكم مع النبي صلى الله عليه وسلم 72 قوله تعالى (وإن منكم لمن ليبطئن) نزلت في المنافقين وإنما قال (منكم) لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسب وإظهار الإسلام لا في حقيقة الإيمان (ليبطئن) أي ليتأخرن وليتثاقلن عن الجهاد وهو عبد الله بن أبي المنافق واللام يف (ليثبطن) لام القسم والتبطئة التأخر عن الأمر يقال ما أبطأ بك أي ما أخرك عنا ويقال أبطأ وبطأ يبطئ تبطئة (فإن أصابتكم مصيبة) أي قتل وهزيمة (قال قد أنعم الله علي) بالقعود (إذ لم أكن معهم شهيدا) أي حاضرا في تلك الغزاة فيصيبني ما أصابهم 73 (ولئن أصابكم فضل من الله) فتح وغنيمة (ليقولن) هذا المنافق وفيه تقديم وتأخير وقوله (كأن لم يكن بينكم وبينه مودة) متصل بقوله (فإن أصابتكم مصيبة) تقديره فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) أي معرفة قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب (تكن) بالتاء والباقون بالياء أي ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن (يا ليتني كنت معهم) في تلك الغزاة (فأفوز فوزا عظيما) أي آخذ نصيبا وافرا من الغنيمة وقوله (فأفوز) نصب على جواب التمني بالفاء كما تقول وددت أن أقوم فيتبعني الناس 74 قوله تعالى (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) قيل نزلت في المنافقين ومعنى يشرون أي يشترون يعني الذين يختارون الدنيا على الآخرة معناه آمنوا ثم قاتلوا وقيل نزلت في المؤمنين المخلصين معناه فليقاتل في سبيل الله الذي يشرون أي يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة ويختارون الآخرة (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل) يعني يستشهد (أو يغلب) يظفر
451

سورة النساء 75 76 (فسوف نؤتيه) في كلا الوجهين (أجرا عظيما) ويدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء حيث كان أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ تكفل الله لمن جاهد في سبيل الله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيل وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة \ أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشمهيني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجعه الله إلى أهله بما يرجعه من غنيمة وأجر أو يتوفاه فيدخله الجنة \ 75 قوله تعالى (وما لكم لا تقاتلون) لا تجاهدون (في سبيل الله) في طاعة الله يعاتبهم على ترك الجهاد (والمستضعفين) أي عن المستضعفين وقال ابن شهاب في سبيل المستضعفين لتخليصهم وقيل في تخليص المستضعفين من أيدي المشركين وكان بمكة جماعة (من الرجال والنساء والولدان) يلقون من المشركين أذى كثيرا (الذين) يدعون و (يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) يعني مكة الظالم أي المشرك أهلها يعني القرية التي من صفتها أن أهلها مشركين وإنما خفض (الظالم) لأنه نعت للأهل فلما عاد الأهل إلى القرية صار الفعل لها كما يقال مررت برل حسنه عينه (واجعل لنا من لدنك وليا) أي من يلي أمرنا لدنك (واجعل لنا من لدنك نصيرا) أي من يمنع العدو عنا فاستجاب الله دعوتهم فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ولى عليهم عتاب بن أسيد وجعله الله لهم نصيرا ينصف المؤمنين المظلومين من المظلومين 76 قوله تعالى (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله) أي في طاعته (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) أي في طاعة الشيطان (فقاتلوا) أيها المؤمنون (أولياء الشيطان) أي حزبه وجنوده الكفار (إن كيد الشيطان) مكره (كان ضعيفا) كما فعل يوم بدر لما رأى الملائكة خاف أن يأخذوه فهرب وخذلهم
452

سورة النساء 77 78 77 قوله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) الآية قال الكلبي نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص وجماعة كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيرا قبل أن يهاجروا ويقولون يا رسول الله إئذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (كفوا أيديكم) فإني لم أؤمر بقتالهم (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم قال الله تعالى (فلما كتب) فرض (عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس) يعني يخشون مشركي مكة (كخشية الله) أي كخشيتهم من الله (أو أشد) أكبر (خشية) وقيل معناه وأشد خشية (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال) الجهاد (لولا) هلا (أخرتنا إلى أجل قريب) يعني الموت أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا واختلفوا في هؤلاء الذين قالوا ذلك فقيل قاله قوم من المنافقين لأن قوله (لم كتبت علينا القتال) لا يليق بالمؤمنين وقيل قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم قالوه خوفا وجبنا لا اعتقادا ثم تابوا وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان وقيل هم قوم كانوا مؤمنين فلما فرض عليهم القتال نافقوا من الجبن وتخلفوا عن الجهاد (قل) يا محمد (متاع الدنيا) أي منفعتها والاستمتاع بها (قليل والآخرة) أفضل (لمن اتقى) الشرك ومعصية الرسول (ولا تظلمون فتيلا) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وحمزة والكسائي بالياء والباقون تظلمون بالتاء أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن أخبرنا أبو إسحق إبراهيم بن معاوية الصيدلاني أخبرنا الأصم أنا عبد الله بن محمد بن شاكر أنا محمد بن بشر العبدي أنا مسعر بن كدام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم حدثني المستورد بن شداد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع \ 78 قوله عز وجل (أينما تكونوا يدرككم الموت) أي ينزل بكم الموت نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فرد الله عليهم بقوله (أينما تكونوا يدرككم الموت)
453

سورة النساء 79 (ولو كنتم في بروج مشيدة) والبروج الحصون والقلاع والمشيدة المرفوعة المطولة قال قتادة معناه في قصور محصنة وقال عكرمة مجصصة والشيد الجص (وإن تصبهم حسنة) نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه قال الله تعالى (وإن تصبهم) يعني اليهود حسنة أي خصب ورخص في السعر (يقولوا هذه من عند الله) لنا (وإن تصبهم سيئة) يعني
الجدب وغلاء الأسعار (يقولوا هذه من عندك) أي من شؤم محمد وأصحابه وقيل المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أحد يقولوا هذه من عندك أي أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا يكون هذا من قول المنافقين (قل) لهم يا محمد (كل من عند الله) أي الحسنة والسيئة كلها من عند الله ثم عيرهم بالجهل فقال (فمال هؤلاء القوم) يعني المنافقين واليهود (لا يكادون يففقهون حديثا) أي لا يفقهون قولا وقيل الحديث ههنا هو القرآن أي لا يفقهون معاني القرآن قوله (فمال هؤلاء) قال الفراء كثرت في الكلام هذه الكلمة حتى توهموا أن اللام متصلة بها وأنهما حرف واحد ففصلوا اللام بما بعدها في بعضه ووصلوها في بعضه والقراءة الاتصال ولا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة 79 قوله عز وجل (ما أصابك من حسنة) خير ونعمة (فمن الله وما أصابك من سيئة) بلية أو أمر تكرهه (فمن نفسك) أي بذنوبك والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره نظيره قوله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) وتعلق أهل القدر بظاهر هذه الآية فقالوا نفى الله تعالى السيئة عن نفسه ونسبها إلى العبد فقال (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) ولا متعلق لهم فيه لأنه ليس المراد من الآية حسنات الكسب ولا سيآته من الطاعات والمعاصي بل المراد منهم ما يصيبهم من النعم والمحن وذلك ليس من فعلهم بدليل أنه نسبها إلى غيرهم ولم ينسبها إليهم فقال (ما أصابك) ولا يقال في الطاعة والمعصية أصابني إنما يقال أصبتها ويقال في المحن أصابني بدليل أنه لم يذكر عليه ثوابا ولا عقابا فهو كقوله تعالى (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة تطيروا بموسى ومن معه) فلما ذكر حسنات الكسب وسيئاته نسبها إليه ووعد عليها الثواب والعقاب فقال (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها) وقيل معنى الآية ما أصابك من حسنة من النصر والظفر يوم بدر فمن الله أي من فضل الله وما أصابك من سيئة من القتل والهزيمة يوم أحد فمن نفسك أي يعني فبذنوب أصحابك وهو مخالفتهم لك فإن قيل كيف وجه الجمع بين قوله (قل كل من عند الله) وبين قوله (فمن نفسك) قيل قوله (قل كل من
454

سورة النساء 80 81 عند الله) أي الخصب والجدب والنصر والهزيمة كلها من عند الله وقوله (فمن نفسك) أي وما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك كما قال الله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) يدل عليهما ما روى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وأنا كتبتها عليك وقال بعضهم هذه الآية متصلة بما قبلها والقول فيه مضمر تقديره فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا يقولون (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (قل كل من عند الله) (وأرسلناك) يا محمد (للناس رسولا وكفى بالله شهيدا) على إرسالك وصدقك وقيل كفى بالله شهيدا على أن الحسنة والسيئة كلها من الله تعالى 80 قوله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول \ من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله \ فقال بعض المنافقين ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ربا فأنزل الله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله) أي من يطع الرسول فيما أمر به فقد أطاع الله (ومن تولى) عن طاعته (فما أرسلناك) يا محمد (عليهم حفيظا) أي حافظا ورقيبا على كل أمورهم وقيل نسخ الله عز وجل هذا بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله 81 (ويقولون طاعة) يعني المنافقين يقول باللسان للرسول صلى الله عليه وسلم إنا آمنا بك فمرنا فأمرك طاعة قال النحويون أي أمرنا وشأننا أن نطيعك (فإذا برزوا) خرجوا (من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول) قال قتادة والكلبي بيت أي غير وبدل الذي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ويكون التبيين بمعنى التبديل وقال أبو عبيدة والقتيبي معناه قالوا وقدروا ليلا غير ما أعطوك نهارا وكل ما قدر بليل فهو مبيت وقال أبو الحسن الأخفش تقول العرب للشيء إذا قدر بيت يشبهونه بتقدير بيوت الشعر (والله يكتب) أي يثبت ويحفظ (ما يبيتون) ما يزورون ويغيرون ويقدرون وقال الضحاك عن ابن عباس يعني ما يسرون من النفاق (فأعرض عنهم) يا محمد ولا تعاقبهم وقيل لا تخبر بأسمائهم منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الإخبار بأسماء المنافقين (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) أي اتخذوه وكيلا وكفى بالله وكيلا وناصرا
455

سورة النساء 82 83 82 قوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن) يعني أفلا يتفكرون في القرآن والتدبر هو النظر في آخر الأمر ودبر كل شيء آخره (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) أي تفاوتا وتناقضا كثيرا قاله ابن عباس وقيل لو وجدوا فيه أي في الإخبار عن الغيب بما كان وبما يكون اختلافا كثيرا أفلا يتفكرون فيه فيعرفوا بعدم التناقض فيه وصدق ما يخبر أنه كلام الله تعالى لأن مالا يكون من عند الله لا يخلو عن تناقض واختلاف 83 قوله تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم فيفشون ويحدثون به قيل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضعفون به قلوب المؤمنين فأنزل الله تعالى (وإذا جاءهم) يعني المنافقين (أمر من الأمن) أي الفتح والغنيمة أو الخوف والقتل والهزيمة (أذاعوا به) أشاعوه وأفشوه (ولو ردوه إلى الرسول) إلى رأيه ولم يحدثوا به حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به (وإلى أولي الأمر منهم) أي ذوي الرأي من الصحابة مثل أبي بكر وعمرو وعثمان وعلي رضي الله عنهم (لعلمه الذي يستنبطونه منهم) أي يستخرجونه وهم العلماء أي علموا ما ينبغي أن يكتم وما ينبغي أن يفشى والاستنباط الاستخراج يقال استنبط الماء إذا استخرجه وقال عكرمة يستنبطونه أي يحرصون عليه ويسألون عنه وقال الضحاك يتبعونه يريد الذين سمعوا تلك الأخبار من المؤمنين والمنافقين لو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى ذوي الرأي والعلم لعلمه الذين يستنبطونه منهم أي يحبون أن يعلموه على حقيقته كما هو (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان) كلكم (إلا قليلا) فإن قيل كيف استثنى القليل ولولا فضله لاتبع الكل الشيطان قيل هو راجع إلى ما قبله قيل معناه أذاعوا به إلا قليلا لم يفشه وعني بالقليل المؤمنين وهذا قول الكلبي واختيار الفراء وقال لأن علم السر إذا ظهر علمه المستنبط وغيره والإذاعة قد تكون في بعض دون بعض وقيل لعلمه الذي يستنبطونه منهم إلا قليلا ثم قوله (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان) كلام تام وقيل فضل الله الإسلام ورحمته القرآن يقول لولا ذلك لابتعتم الشيطان إلا قليلا وهم قوم اهتدوا قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن مثل زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وجماعة سواهما وفي الآية دليل على جواز القياس فإن من العلم ما يدرك بالتلاوة والرواية وهو النص ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس على المعاني المودعة في النصوص
456

سورة النساء 84 85 84 قوله تعالى (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فأنزل الله عز وجل (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) أي لا تدع جهاد العدو والاستنصار للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك فإن الله قد وعدك النصرة وعاقبهم على ترك القتال والفاء في قوله تعالى (فقاتل) جواب عن قوله (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) فقاتل (وحرض المؤمنين) على القتال أي حضهم على الجهاد ورغبهم في الثواب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا فكفاهم الله القتال فقال جل ذكره (عسى الله) أي لعل الله (أن يكف بأس الذين كفروا) أي قتال المشركين و (عسى) من الله واجب (والله أشد بأسا) أي أشد صولة وأعظم سلطانا (وأشد تنكيلا) أي عقوبة 85 قوله عز وجل (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) أي نصيب منها قال ابن عباس رضي الله عنهما الشفاعة الحسنة هي الإصلاح بين الناس والشفاعة السيئة هي المشي بالنميمة بين الناس وقيل الشفاعة الحسنة هي حسن القول في الناس ينال به الثواب والخير والسيئة هي الغيبة وإساءة القول في الناس ينال به الشر وقوله (كفل منها) أي من وزرها وقال مجاهد على شفاعة الناس بعضهم لبعض ويؤجر الشفيع على شفاعته وإن لم يشفع أخبرنا أحمد بن عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا سفيان الثوري عن أبي بردة أخبرني جدي أبو بردة عن أبيه أبي موسى رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل يسأل أو طالب حاجة أقبل علينا بوجهه فقال \ اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء \ قوله تعالى (وكان الله على كل شيء مقيتا) قال ابن عباس رضي الله عنهما مقتدرا أو مجازيا قال الشاعر (وذي ظعن كففت النفس عنه وكنت على إسائته مقيتا) وقال مجاهد شاهدا وقال قتادة حافظا وقيل معناه على كل حيوان مقيتا أي يوصل القوت إليه وجاء في الحديث \ كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ويقيت \
457

سورة النساء 86 87 86 قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) التحية دعاء بطول الحياة والمراد بالتحية هنا السلام يقول إذا سلم عليكم فسلم فأجيبوا بأحسن منها أو ردوها كما سلم فإذا قال السلام عليكم فقل وعليكم السلام ورحمة الله وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله فقل وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد مثله روي أن رجلا سلم على ابن عباس رضي الله عنهما قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد شيئا فقال ابن عباس إن السلام ينتهي إلى البركة وروي عن عمران بن حصين أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ عشر \ ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال \ عشرون \ ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبكراته فرد عليه فجلس فقال \ ثلاثون \ واعلم أن السلام سنة ورد السلام فريضة وهو فرض على الكفاية فإذا سلم واحد من جماعة كان كافيا في السنة وإذا سلم واحد على جماعة ورد واحد سقط الغرض عن جميعهم أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكر الكوفي أنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا وحتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا قتيبة أنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير قال \ أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف \ ومعنى قوله أي الإسلام خير يريد أي خصال الإسلام خير وقيل (فحيوا بأحسن منها) معناه أي إذا كان الذي سلم مسلما (أو ردوها) بمثلها إذا لم يكن مسلما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن يسار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك فقل وعليك \ قوله تعالى (إن الله كان على كل شيء حسيبا) أي على كل شيء من رد السلام بمثله أو بأحسن منه حسيبا أي محاسبا مجازيا وقال مجاهد حفيظا وقال أبو عبيدة كافيا يقال حسبي هذا أي كفاني 87 قوله تعالى (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم) اللام لام القسم تقديره والله ليجمعنكم في الموت
458

سورة النساء 88 وفي القبور (إلى يوم القيامة) وسميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون من قبورهم قال الله تعالى (يوم يخرجون من الأجداث سراعا) وقيل لقيامهم إلى الحساب قال الله تعالى (يوم يقوم الناس لرب العالمين) (لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا) أي قولا ووعدا وقرأ حمزة والكسائي (أصدق) وكل صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الزاي 88 (فما لكم في المنافقين فئتين) اختلفوا في سبب نزولها فقال قوم نزلت في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين فلما رجعوا قال بعض الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلهم فإنهم منافقون وقال بعضهم اعف عنهم فإنهم تكلموا بالإسلام أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو الوليد أنا شعبة عن عدي بن ثابت قال سمعت عبد الله بن يزيد يحدث عن زيد بن ثابت قال لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة تقول نقاتلهم وفرقة تقول لا نقاتلهم فنزلت (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) وقال إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة وقال مجاهد قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم ارتدوا واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة فاختلف المسلمون فيهم فقائل يقول هم منافقون وقائل يقول هم مؤمنون وقال بعضهم نزلت في ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين حتى تباعدوا من المدينة فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ولكن اجتوينا المدينة واشتقنا إلى أرضنا ثم إنهم خرجوا في تجارة لهم نحو الشام فبلغ ذلك المسلمين فقال بعضهم نخرج إليهم فنقتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا عن ديننا وقالت طائفة كيف تقتلون قوما على دينكم إن لم يذروا ديارهم وكان هذا بعين النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت لا ينهى واحدا من الفريقين فنزلت هذه الآية
وقال بعضهم هم قوم أسلموا بمكة ثم لم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين فنزلت (فما لكم) يا معشر المؤمنين (في المنافقين فئتين) أي صرتم فيهم فئتين أي فرقتين (والله أركسهم) أي نكسهم وردهم إلى الكفر (بما كسبوا) بأعمالهم غير الزاكية (أتريدون أن تهدوا) أي أن ترشدوا (من أضل الله) وقيل معناه أتقولون أن هؤلاء مهتدون وقد أضلهم الله (ومن يضلل الله) أي وكما كفروا يضلل الله عن الهدى (فلن تجد له سبيلا) أي طريقا إلى الحق
459

سورة النساء 89 90 89 قوله تعالى (ودوا) تمنوا يعني أولئك الذين رجعوا عن الدين تمنوا (لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) في الكفر وقوله (فتكونون) لم يرد به جواب التمني لأن جواب التمني بالفاء منصوب إنما أراد النسق أي ودوا لو تكفرون وودوا لو تكونون سواء مثل قوله (ودوا لو تدهن فيدهنون) أي ودوا لو تدهت وودوا لو تدهنون (فلا تتخذوا منهم أولياء) منع من موالاتهم (حتى يهاجروا في سبيل الله) معكم قال عكرمة هي هجرة أخرى والهجرة على ثلاثة أوجه هجرة المؤمنين في أول الإسلام وهي قوله تعالى (للفقراء المهاجرين) وقوله (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) ونحوهما من الآيات وهجرة المؤمنين وهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صابرين محتسبين كما حكي ههنا وفي هذه الآية منع موالاة المؤمنين من موالاة المنافقين حتى يهاجروا في سبيل الله وهجرة سائر المؤمنين ما نهى الله عنه وهي ما قال النبي صلى الله عليه وسلم \ المهاجر من هجر ما نهى الله عنه \ قوله تعالى (فإن تولوا) أعرضوا عن التوحيد والهجرة (فخذوهم) أي خذوهم أسارى ومنه يقال للأسير أخيذ (واقتلوهم حيث وجدتموهم) في الحل والحرم (ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) ثم استثنى طائفة منهم فقال 90 (إلا الذين يصلون إلى قوم) وهذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة لأن موالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال ومعنى (يصلون) أي نتسبون إليهم ويتصلون بهم ويدخلون فيهم بالحلف والجوار وقال ابن عباس رضي الله عنهما يريدون ويلجأون إلى قوم (بينكم وبينهم ميثاق) أي عهد وهم الأسلميون وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر الأسلمي قبل خروجه إلى مكة على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه فلهم من الجوار مثل ما لهلال وقال الضحاك عن ابن عباس أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة كانوا في
460

سورة النساء 91 الصلح والهدنة وقال مقاتل هم خزاعة وقوله (أو جاءوكم) أي يتصلون بقوم جاؤوكم (حصرت صدورهم) أي ضاقت صدورهم قرأ الحسن ويعقوب (حصرة) منصوبة منونة أي ضيقة صدورهم يعني القوم الذين جاؤوكم وهم بنو مدلج كانوا عاهدوا قريشا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم حصرت ضاقت صدورهم (أن يقاتلوكم) أي عن قتالكم للعهد الذي بينكم (أو يقاتلوا قومهم) يعني من أمن منهم ويجوز أن يكون معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم يعني قريشا قد ضاقت صدورهم لذلك وقال بعضهم أو بمعنى الواو كأنه يقول إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أي حصرت صدورهم عن قتالهم والقتال معكم وهم قوم هلال الأسلميون وبنو بكر نهى الله سبحانه عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد للمسلمين لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدماء قوله تعالى (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) يذكر منته على المسلمين بكف بأس المعاهدين يقول إن ضيق صدورهم عن قتالكم لما ألقى الله في قلوبهم من الرعب وكفهم عن قتالكم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم مع قومهم (فإن اعتزلوكم) أي اعتزلوا قتالكم (فلم يقاتلوكم) ومن اتصل بهم ويقال يوم فتح مكة يقاتلوكم مع قومهم (وألقوا إليكم السلم) أي الصلح فانقادوا واستسلموا (فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) أي طريقا بالقتل والقتال 91 قوله تعالى (ستجدون آخرين) قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما هم أسد وغطفان كانوا حاضري المدينة تكلموا بالإسلام رياء وهم غير مسلمين وكان الرجل منهم يقول له قومه بماذا أسلمت فيقول آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء وإذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إنا على دينكم يريدون بذلك الأمن في الفريقين وقال الضحاك عن ابن عباس هم بنو عبد الدار كانوا بهذه الصفة (يريدون أن يأمنوكم) فلا تتعرضوا لهم (ويأمنوا قومهم) فلا تتعرضوا لهم (كلما ردوا إلى الفتنة) أي دعوا إلى الشرك (أركسوا فيها) أي رجعوا وعادوا إلى الشرك (فإن لم يعتزلوكم) أي فإن لم يكفوا عن قتالكم حتى تسيروا إلى مكة (ويلقوا إليكم السلم) أي المفادة والصلح (ويكفوا أيديهم) ولم يقبضوا أيديهم عن قتالكم (فخذوهم) أسراء (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي وجدتموهم (وأولئكم) أي أهل هذه الصفة (جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) أي حجة بينة ظاهرة بالقتل والقتال
461

سورة النساء 92 قوله تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا) الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله فخرج هاربا إلى المدينة وتحصن في أطم من آطامها فجزعت أمة لذلك جزعا شديدا وقالت لابنها الحارث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتوني به فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة فأتوا عياشا وهم في الأطم قالا له إنزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك وقد حلفت ألا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى ترجع إليها ولك عهد الله علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوا له بالله نزل إليهم فأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه بنسعة فجلده كل واحد منهم مائة جلدة ثم قدموا به على أمه فلما أتاها قالت والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ثم تركوه موثقا مطروحا في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاهم الحارث بن زيد فقال يا عياش أهذا الذي كنت عليه فوالله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقالته وقال والله لا ألقاك خاليا أبدا إلا قتلتك ثم إن عياشا أسلم بعد ذلك وهاجر ثم أسلم الحارث ابن زيد بعده وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عياش حاضرا يومئذ ولم يشعر بإسلامه فبينما عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحارث فقتله فقال الناس ويحك أي شيء قد صنعت إنه قد أسلم فرجع عياش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزل (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) وهذا نهي عن قتل المؤمن كقوله تعالى (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) (إلا خطأ) استثناء منقطع معناه لكن إن وقع خطأ (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) أي فعليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة (ودية مسلمة) كاملة (
إلى أهله) أي إلى أهل القتيل الذي يرثونه (إلا أن يصدقوا) أي يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) أراد به إذا كان الرجل مسلما في دار الحرب منفردا مع الكفار فقتله من لم يعمل بإسلامه فلا دية عليه وعليه الكفارة وقيل المراد منه إذا كان المقتول مسلما في دار الإسلام وهو من نسب قوم كفار وقرابته في دار الحرب حرب للمسلمين ففيه الكفارة ولا دية لأهله وكان الحارث بن زيد من قوم كفار حرب للمسلمين وكان فيه تحرير رقبة ولم يكن فيه دية لأنه لم يكن بين قومه وبين المسلمين عهد قوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله
462

وتحرير رقبة مؤمنة) أراد به إذا كان المقتول كافرا ذميا أو معاهدا فيجب فيه الدية والكفارة والكفارة تكون بإعتاق رقبة مؤمنة سواء كان المتقول مسلما أو معاهدا رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا وتكون في مال القاتل (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) والقاتل إن كان واجدا للرقبة أو قادرا على تحصيلها بوجود ثمنها فاضلا عن نفقته ونفقة عياله وحاجته من مسكن ونحوه فعليه الإعتاق ولا يجوز أن ينتقل إلى الصوم فإن عجز عن تحصيلها فعليه صوم شهرين متتابعين فإن أفطر يوما متعمدا في خلال الشهرين أو نسي النية ونوى صوما آخر وجب عليه استئناف الشهرين وإن فصل يوما بعذر مرض أو سفر فهل ينقطع التتابع اختلف أهل العلم فيه فمنهم من قال ينقطع وعليه استئناف الشهرين وهو قول النخعي وأظهر قول الشافعي رضي الله عنه لأنه أفطر مختارا ومنهم من قال لا ينقطع وعليه أن يبني وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين أفطرت أيام الحيض ولا ينقطع التتابع فإذا طهرت بنت على ما أصابت لأنه أمر مكتوب على النساء لا يمكنهن الاحتراز عنه فإن عجز عن الصوم فهل يخرج عنه بإطعام ستين مسكينا فيه قولان أحدهما يخرج كما في كفارة الظهار والثاني لا يخرج لأن الشرع لم يذكر له بدلا فقال (فصيام شهرين متتابعين) (توبة من الله) أي جعل الله ذلك توبة القاتل الخطأ (وكان الله عليما) بمن قتل خطأ (حكيما) فيما حكم به عليكم أما الكلام في بيان الدية فاعلم أن القتل على ثلاثة أنواع عمد محض وشبه عمد وخطأ محض أما المحض فهو أن يقصد قتل إنسان بما يقصد به القتل غالبا فقتله ففيه القصاص عند وجود التكافؤ أو دية مغلظة في مال القاتل حالة وشبه العمد أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من ذلك الضرب غالبا بأن ضربه بعصا خفيفة أو حجر صغير ضربة أو ضربتين فمات فلا قصاص فيه بل يجب فيه دية مغلظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين والخطأ المحض هو أن لا يقصد قتله بل قصد شيئا آخر فأصابه فمات منه فلا قصاص فيه بل تجب دية مخفضة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين وتجب الكفارة في ماله في الأنواع كلها وعند أبي حنيفة رضي الله عنه قتل العمد لا يوجب الكفارة لأنه كبيرة كسائر الكبائر ودية الحر المسلم مائة من الإبل فإذا عدمت الإبل وجبت قيمتها من الدراهم أو الدنانير في قول وفي قول يجب بدل مقدر منها وهو ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم لما روي عن عمر رضي الله عنه فرض الدية على أهل الذهب ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم وذهب قوم إلى أن الواجب في الدية مائة من الإبل أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو قول عروة بن الزبير والحسن البصري رضي الله عنهما وبه قال مالك وذهب قوم إلى أنها مائة من الإبل أو ألف دينار أو عشرة آلاف درهم وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي ودية المرأة نصف دية الرجل ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم إن كان كتابيا وإن كان مجوسيا فخمس الدية روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمانمائة درهم وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وقال قوم دية الذمي نصف دية المسلم وهو قول عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك
463

سورة النساء 93 وأحمد رحمهما الله والدية في العمد المحض وشبه العمد مغلظة بالسن فيجب ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي رضي الله عنه أنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ ألا إن في قتل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها \ وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وهو قول الزهري وربيعة وبه قال مالك وأحمد وأصحاب الرأي وأما دية الخطأ فمخففة وهي أخماس بالاتفاق غير أنهم اختلفوا في تقسيمها فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وهو قول عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة وبه قال مالك والشافعي رحمهم الله وأبدل قوم بني اللبون ببنات المخاض يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه وبه قال أحمد وأصحاب الرأي ودية الأطراف على هذا التقدير ودية المرأة فيها على النصف من دية الرجل والدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة وهم عصبات القاتل من الذكور ولا يجب على الجاني منها شيء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها على العاقلة 93 قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) الآية نزلت في مقيس بن صبابه الكندي وكان قد أسلم هو وأخوه هشام قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأرسل له رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى مقيس فيقتص منه وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديته فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا سمعا وطاعة لله ولرسوله والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي ديته فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين نحو المدينة فيأتي الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبة قتل الذي معك فتكون نفس مكان وفضل الدية فتغفل الفهري فرماه بصخرة فقتله ثم ركب بعيرا وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا فنزل فيه (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) (فجزاؤه جهنم خالدا فيها) بكفره وارتداده هو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عمن أمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة قوله تعالى (وغضب
464

الله عليه ولعنه) أي طرده عن الرحمة (وأعد له عذابا عظيما) اختلفوا في حكم هذه الآية فحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قاتل المؤمن عمدا لا توبة له فقيل له
أليس قد قال الله في سورة الفرقان (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) إلى أن قال (ومن يفعل ذلك يلق اثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب) فقال كانت هذه في الجاهلية وذلك أن أناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تدعوا إليه لحسن ويخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) إلى قوله (إلا من تاب وآمن) فهذه لأولئك وأما التي في النساء فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل مسلما متعمدا فجزاؤه جهنم وقال زيد بن ثابت لما نزلت التي في الفرقان (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) عجبنا من لينها فلبثنا سبعة اشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللية فنسخت اللينة وأراد بالغليظة الآية وباللينة آية الفرقان وقال ابن عباس رضي الله عنهما تلك آية مكية وهذه مدنية ولم ينسخها شيء والذي عليه الأكثرون وهو مذهب أهل السنة أن قاتل المسلم عمدا توبته مقبوله لقوله تعالى (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا) وقال (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال إن لم يقتل يقال له لا توبة لك وإن قتل ثم جاء يقال لك توبة ويروى مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما وليس في الآية متعلق لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر لأن الآية نزلت في قاتل وهو كافر وهو مقيس بن صبابة وقيل إنه وعيد لمن قتل مؤمنا مستحلا لقتله بسبب إيمانه ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافرا مخلدا في النار وقيل قوله تعالى (فجزاؤه جهنم خالدا فيها) معناه هي جزاؤه إن جازاه ولكنه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له بكرمه فإنه وعد أن يغفر لمن يشاء حكي أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له هل يخلف الله وعده فقال لا فقال أليس قد قال الله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) فقال أبو عمرو بن العلاء من العجم أتيت يا أبا عثمان إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفا وذما وإنما تعد إخلاف الوعد خلفا وذما وأنشد (وإني وإن وعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي) والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمن أنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد يوم بدر وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه \ بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم
465

سورة النساء 94 ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه \ فبايعناه على ذلك 94 قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) الآية قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك وكان من أهل فدك مسلما لم يسلم من قومه غيره فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد بسيفه فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدا شديدا وكان قد سبقهم قبل ذلك الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أقتلتموه إرادة ما معه \ ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد فقال يا رسول الله استغفر لي فقال فكيف بلا إله إلا الله قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال أسامة فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات وقال \ اعتق رقبة \ وروى أبو ظبيان عن أسامة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إنما قال خوفا من السلاح قال \ أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا أم لا \ وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له فسلم عليهم قالوا ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم فقاموا وقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله) يعني إذا سافرتم في سبيل الله يعني الجهاد (فتبينوا) قرأ حمزة والكسائي ههنا في موضعين وفي سورة الحجرات بالتاء والثاء من التثبيت أي قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر وقرأ الآخرون بالياء والنون من التبين يقال تبينت الأمر إذا تأملته (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام) هذا قرأ أهل المدينة وابن عامر وحمزة أي المعاذة وهو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله وقرأ الآخرون السلام وهو السلام الذي هو تحية المسلمين لأنه كان قد سلم عليهم وقيل السلم والسلام واحد أي لا تقولوا لمن سلم عليكم لست مؤمنا فذلك
466

سورة النساء 95 قوله تعالى (لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) يعني تطلبون الغنم والغنيمة و (عرض الحياة الدنيا) منافعها ومتاعها (فعند الله مغانم) أي غنائم (كثيرة) وقيل ثواب كثير لمن اتقى قتل المؤمن (كذلك كنتم من قبل) قال سعيد بن جبير كذلك كنتم تكتمون إيمانكم من المشركين (فمن الله عليكم) بإظهار الإسلام وقال قتادة كنتم ضلالا من قبل فمن الله عليكم بالهداية وقيل معناه كذلك كنتم من قبل تأمنون في قومكم بلا إله إلا الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها فمن الله عليكم بالهجرة (فتبينوا) أن تقتلوا مؤمنا (إن الله كان بما تعملون خبيرا) قلت إذا رأى الغزاة في بلد أو قرية شعار الإسلام فعليهم أن يكفوا عنهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوما فإن سمع آذانا كف عنهم وإن لم يسمع أغار عليهم أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن ابن عصام عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال \ إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم أذانا فلا تقتلوا أحدا \ 95 قوله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) الآية أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن
إسماعيل ثنا عبد العزيز بن عبد الله ثنا إبراهيم بن سعد الزهري حدثني صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال رأيت مروان بن الحكم جالسا في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه فأخبرنا زيد بن ثابت رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) قال فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلا أعمى فأنزل الله تعالى عليه وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سرى عنه فأنزل الله (غير أولي الضرر) فهذه الآية في فضل الجهاد والحث عليه فقال (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) عن الجهاد (غير أولي الضرر) قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي بنصب الراء أي إلا أولي الضرر وقرأ الآخرون برفع الراء على نعت (القاعدين) يريد لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر أي غير أولي الزمانة والضعف في البدن والبصر (والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) أي ليس المؤمنون القاعدون عن الجهادمن غير عذر والمؤمنون والمجاهدون سواء غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين لأن العذر أقعدهم أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحيم بن منيب
467

سورة النساء 96 أنا يزيد بن هارون أخبرنا حميد الطويل عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال \ إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه \ قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة قال \ نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر \ وروى القاسم عن ابن عباس قال (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) عن بدر والخارجون إلى بدر قوله تعالى (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) أي فضيلة وقيل أراد بالقاعد ها هنا أولي الضرر فضل الله المجاهدين عليهم درجة لأن المجاهد باشر الجهاد مع النية وأولي الضرر كانت لهم نية ولكنهم لم يباشروا فنزلوا عنهم بدرجة (وكلا وعد الله الحسنة) يعني الجنة بإيمانهم وقال مقاتل يعني المجاهد والقاعد المعذور (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) يعني على القاعدين من غير عذر 96 (درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) قال ابن محيريز في الآية هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر وسبعون خريفا وقيل الدرجات هي الإسلام والجهاد والهجرة والشهادة فاز بها المجاهدون أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني أنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد شريك الشافعي أنا عبد الله بن مسلم أبو بكر الجورندي أنا يونس بن عبد الأعلى أنا ابن وهب حدثني أبو هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الجبلي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة \ قال فعجب لها أبو سعيد فقال أعدها علي يا رسول الله فأعادها عليه ثم قال \ وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض \ قال وما هي يا رسول الله قال \ الجهاد في سبيل الله ثلاثا \ أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو القاسم إيراهيم بن محمد بن علي التياه أنا أبي أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن صالح المطرز أنا محمد بن يحيى أنا شريح بن النعمان أنا فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها \ قالوا يا رسول الله أفلا ننذر الناس بذلك قال \ إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوق عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة \ واعلم أن الجهاد في الجملة فرض غير أنه ينقسم إلى فرض العين وفرض الكفاية ففرض العين أن يدخل الكفار دار قوم من المؤمنين فيجب على كل مكلف من الرجال ممن لا عذر له من أهل تلك البلدة الخروج إلى عدوهم حرا كان أو عبدا أو غنيا كان أو فقيرا دفعا عن أنفسهم وعن جيرانهم وهو في حق من بعد منهم من المسلمين
468

سورة النساء 97 98 فرض على الكفاية فإن لم يقع الكفاية بمن نزل بهم يجب على من بعد منهم من المسلمين عونهم وإن وقعت الكفاية بالنازلين بهم فلا فرض على الأبعدين إلا على طريق الاختيار ولا يدخل في هذا القسم العبيد والفقراء ومن هذا القبيل أن يكون الكفار قادرين في بلادهم فعلى الإمام أن لا يخلي كل سنة عن غزوة يغزوها بنفسه أو بسراياه حتى لا يكون الجهاد معطلا والاختيار للمطيق الاجتهاد مع وقوع الكفاية بغيره أن لا يقعد عن الجهاد ولكن لا يفترض لأن الله تعالى وعد المجاهدين والقاعدين الثواب في هذه الآية فقال (وكلا وعد الله الحسنى) فلو كان فرضا على الكافة لاستحق القاعد العقاب لا الثواب 97 قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) الآية نزلت في ناس من أ ل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع الكفار فقال الله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة) أراد به ملك الموت وأعوانه أو أراد ملك الموت وحده كما قال تعالى (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع (ظالمي أنفسهم) بالشرك وهو نصب على الحال أي في حال ظلمهم قيل أي المقام في دار الشرك لأن الله تعالى لم يقبل الإسلام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالهجرة ثم نسخ بعد فتح مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ لا هجرة بعد الفتح \ وهؤلاء قتلوا يوم بدر وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وقالوا لهم فيما كنتم فذلك قوله تعالى (قالوا فيم كنتم) أي في ماذا كنتم أو في أي الفريقين كنتم أفي المسلمين أم في المشركين سؤال توبيخ وتعيير فاعتذروا بالضعف عن مقاومة أهل الشرك (قالوا كنا مستضعفين) عاجزين (في الأرض) يعني أرض مكة (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) يعني إلى المدينة وتخرجوا من مكة من بين أهل الشرك فأكذبهم الله تعالى وأعلمنا بكذبهم وقال (فأولئك مأواهم) منزلهم (جهنم وساءت مصيرا) أي بئس المصير إلى جهنم ثم استثنى أهل العذر منهم فقال 98 (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة) لا يقدرون على حيلة ولا على نفقة
469

سورة النساء 99 100 ولا على قوة الخروج منها (ولا يهتدون سبيلا) أي لا يعرفون طريقا إلى الخروج وقال مجاهد لا يعرفون طريق المدينة 99 (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) يتجاوز عنهم وعسى من الله واجب لأنه للإطماع والله تعالى إذا أطمع عبدا وصله إليه (وكان الله عفوا غفورا) قال ابن عباس رضي الله عنهما كنت أنا
وأمي ممن عذر الله يعني المستضعفين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في الصلاة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا معاذ بن فضالة أنا هشام عن يحيى هو ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعوا على أحد قنت بعد الركوع فربما قال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد في الركعة الآخرة من صلاة العشاء اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام الله أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها سنين كسني يوسف يجهر بذلك 100 قوله تعالى (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (مراغما) أي متحولا يتحول إليه وقال مجاهد متزحزحا عما يكره وقال أبو عبيدة المراغم المهاجر يقال راغمت قومي وهاجرتهم وهو المضطرب والمذهب قيل سميت المهاجرة مراغمة لأن من يهاجر يراغم قومه وسعة أي في الرزق وقيل سعة من الضلالة إلى الهدى وروي أنه لما نزلت هذه الآية سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير مريض يقال له جندع بن ضمرة فقال والله ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة أخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجرا وضحك المشركون وقالوا ما أدرك هذا ما طلب فأنزل الله (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت) أي قبل بلوغه إلى مهاجره (فقد وقع) أي وجب (أجره على الله) بإيجابه على نفسه فضلا منه (وكان الله غفورا رحيما)
470

سورة النساء 101 101 قوله عز وجل (وإذا ضربتم في الأرض) أي سافرتم (فليس عليكم جناح) أي حرج وإثم (أن تقصروا من الصلاة) يعني من أربعة ركعات إلى ركعتين وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء (وإن خفتم أن يفتنكم) أي يغتالكم ويقتلكم (الذين كفروا) في الصلاة نظيره قوله تعالى (على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) أي يقتلهم (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) أي ظاهر العداوة اعلم أن قصر الصلاة في السفر جائز بإجماع الأمة واختلفوا في جواز الاتمام فذهب أكثرهم إلى أن القصر واجب وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس رضي الله عنهما وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس رضي الله عنهما وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وأصحاب الرأي لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وذهب قوم إلى جواز الاتمام روي ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما وبه قال الشافعي رضي الله عنه إن شاء أتم هو وإن شاء قصر والقصر أفضل أخبرنا الإمام عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وأتم وظاهر القرآن يدل على ذلك لأن الله تعالى قال (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) ولفظ (لا جناح) إنما يستعمل في الرخص لا فيما يكون حتما فظاهر الآية يوجب أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف وليس الأمر على ذلك إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرها لم يخل عن خوف العدو والقصر جائز في السفر في حال الأمن عند عامة أهل العلم والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود عن ابن جريج أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن عبد الله بن باباه عن يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما قال الله تعالى (أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) وقد أمن الناس فقال عمر رضي الله عنه عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال \ صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته \ أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد الوهاب عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة آمنا لا يخاف الله فصلى ركعتين وذهب قوم إلى أن ركعتي المسافر ليستا بقصر إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف يروى ذلك عن جابر رضي الله عنه وهو قول عطاء وطاوس والحسن ومجاهد وجعلوا شرط الخوف المذكور في الآية باقيا وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الاقتصار على ركعة
471

سورة النساء 102 واحدة لا يجوز خائفا كان أو آمنا واختلف أهل العلم في مسافة القصر فقالت طائفة يجوز القصر في السفر الطويل والقصير روي ذلك عن أنس رضي الله عنه وقال عمرو بن دينار قال لي جابر بن زيد أقصر بعرفة أما عامة الفقهاء فلا يجوزون القصر في السفر القصير واختلف في حد ما يجوز به القصر فقال الأوزاعي مسيرة يوم وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه قال مسيرة ليلتين قاصدتين وقال في موضع ستة وأربعون ميلا بالهاشمي وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي مسيرة ثلاثة أيام وقيل قوله (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) متصل بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال نزل قوله (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) هذا القدر ثم بعد حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) (وإذا كنت فيهم) الآية ومثله في القرآن كثير أن يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر وهو في الظاهر كالمتصل به وهو منفصل عنه كقوله تعالى (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) إخبار عن يوسف عليه السلام 102 قوله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أن المشركين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلوا جميعا ندموا إلا كانوا أكبوا عليهم فقال بعضهم لبعض دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعني صلاة العصر فإذا قاموا فيها فشدوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد إنها صلاة الخوف وإن الله عز وجل يقول (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة)
فعلمه صلاة الخوف وجملته أن العدو إذا كانوا في معسكرهم في غير ناحية القبلة فيجعل الإمام القوم فرقتين فتقف طائفة وجاه العدو تحرسهم ويشرع الإمام مع طائفة في الصلاة فإذا صلى بهم ركعة قام وثبت قائما حتى أتموا صلاتهم وذهبوا إلى وجاه العدو ثم أتت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية وثبت جالسا حتى أتموا لأنفسهم
472

الصلاة ثم يسلم بهم وهذه رواية سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بذات الرقاع وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحق أنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه صفت طائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسم ثم سلم بهم قال مالك وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف وأخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسداد أنا يحيى عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وذهب قوم إلى أن الإمام إذا قام إلى الركعة الثانية تذهب الطائفة الأولى في خلال الصلاة إلى وجاه العدو وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم الركعة الثانية ويسلم وهم لا يسلمون بل يذهبون إلى وجاه العدو وتعود الطائفة الأولى فتتم صلاتها ثم تعود الطائفة الثانية فتتم صلاتها وهذه رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك وهو قول أصحاب الرأي أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب أنا يزيد بن زريع أنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا فقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم بهم فقام هؤلاء فصلوا ركعتهم وكلتا الروايتين صحيحة فذهب قوم إلى أن هذا من الاختلاف المباح وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى حديث سهل بن أبي حثمة لأنه أشد موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلاة وأبلغ في حراسة العدو وذلك لأن الله تعالى قال (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) أي إذا صلوا ثم قال (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا) وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلوا وقال (فليصلوا معك) ومقتضاه أن يصلوا تمام الصلاة فظاهره يدل أن كل طائفة تفارق الإمام بعد تمام الصلاة والاحتياط لأمر الصلاة من حيث أنه لا يكثر فيها العمل والذهاب والمجيء والاحتياط لأمر الحرب من حيث أنهم إذا لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحرب والضرب والهرب إن احتاجوا إليه ولو صلى الإمام أربع ركعات بكل طائفة ركعتين جاز أنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفرايني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ قال أنا الضاغاني أنا عفان بن مسلم ثنا أبان العطار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة فأخذ سيف نبي الله صلى الله عليه وسلم فاخترطه فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتخافني قال لا قال فمن يمنعك مني قال الله يمنعني منك قال فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأغمد السيف وعلقه فنودي بالصلاة قال فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا فصلى بالطائفة
473

الأخرى ركعتين قال فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان أخبرنا عبد الوهاب بن الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أخبرني الثقفة بن علية أو غيره عن يونس عن الحسن عن جابر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة الظهر صلاة الخوف ببطن نخل فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم وروي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أنه صلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا ورواه زيد بن ثابت وقال كانت للقوم ركعة واحدة وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان وتأوله قوم على صلاة شدة الخوف وقالوا الفرض في هذه الحالة ركعة واحدة وأكثر أهل العلم على أن الخوف لا ينقص عدد الركعات وإن كان العدو في ناحية القبلة في مستوى إن حملوا عليهم رأوهم صلى الإمام بهم جميعا وحرسوا في السجود كما أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم الإسفرايني أنا أبو عوانة الحافظ أنا عمار بن يزيد بن هارون أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر رضي الله عنهما قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصففنا خلفه صفين والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى فقام الصف المؤخر في نحو العدو فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود ثم قاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر المقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا قال جابر رضي الله عنه كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائكم واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم عند عامة أهل العلم ويحكى عن بعضهم عدم الجواز ولا وجه له وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه كل حديث روي في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز روي فيها ستة أوجه أو سبعة أوجه وقال مجاهد في سبب نزول هذه الآية عن ابن عياش الزرقي قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة فنزلت الآية بين الظهر والعصر قوله تعالى (وإذا كنت فيهم) أي شهيدا معهم فأقمت لهم الصلاة (فلتقم طائفة منهم معك) أي فلتقف كقوله تعالى (وإذا أظلم عليهم قاموا) أي وقفوا (وليأخذوا أسلحتهم) واختلفوا في الذين يأخذون أسلحتهم فقال بعضهم أراد هؤلاء الذين وقفوا مع الإمام يصلون ويأخذون الأسلحة والصلاة فعلى هذا إنما يأخذه إذا كان لا يشغله عن الصلاة فلا يؤذي من
بجنبه فإذا شغلته حركته وثقلته عن الصلاة كالجعبة والترس الكبير أو كان يؤذي من جنبه كالرمح فلا يأخذه وقيل وليأخذوا أسلحتهم أي الباقون الذين قاموا في وجه العدو (فإذا سجدوا) أي صلوا (فليكونوا من ورائكم) يريد مكان الذين هم وجاه العدو (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا) وهم الذين كانوا في وجه العدو (فليصلوا معك وليأخذوا
474

سورة النساء 103 حذرهم وأسلحتهم) قيل هؤلاء الذين أتوا وقيل هم الذين صلوا (ود الذين كفروا) يتمنى الكفار (لو تغفلوا) أي لو وجدوكم غافلين (عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) فيقصدونكم ويحملون عليكم حملة واحدة (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم) رخص في وضع السلاح في حال المطر والمرض لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين (وخذوا حذركم) أي راقبوا العدو كيلا يتغفلوكم والحذر ما يتقى به من العدو وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في رسول الله وذلك أنه غزا محاربا وبنى أنمارا فنزلوا ولا يرون من العدو أحدا فوضع الناس أسلحتهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة فبصر به عورث بن الحارث المحاربي فقال قتلني الله إن لم أقتله ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده فقال يا محمد من يعصمك مني الآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله ثم قال اللهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت ثم أهوى بالسيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربه فانكب لوجهه من زلخة زلخها بين كتفيه وندر سيفه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم قال يا غورث من يمنعك مني الآن قال لا أحد قال تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأعطيك سيفك قال لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه فقال غورث والله لأنت خير مني فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل أنا أحق بذلك منك فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا ويلك ما منعك منه قال لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه فوالله ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت لوجهي وذكر حاله قال وسكن الوادي فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي أصحابه فأخبرهم الخبر وقرأ عليهم هذه الآية (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم) أي من عدوكم وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية كان عبد الرحمن بن عوف جريحا (إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) يهانو فيه والجناح الإثم من جنحت إذا عدلت عن القصد 103 (فإذا قضيتم الصلاة) يعني صلاة الخوف أي فرغتم منها (فاذكروا الله) أي صلوا لله (قياما) في حال الصحة (وقعودا) في حال المرض (وعلى جنوبكم) عند الجرح والزمانة وقيل اذكروا الله بالتسبيح والتحميد والتهليل والتمجيد على كل حال أخبرنا
475

سورة النساء 104 عمرو بن عبد العزيز الكاشاني أنا القاسم بن جعفر الهاشمي أنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي أنا أبو داود السجستاني أنا محمد بن العلاء أنا ابن أبي زائدة عن أبيه عن خالد بن سلمة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه (فإذا اطمأننتم) أي سكنتم وأمنتم (فأقيموا الصلاة) أي أتموها أربعا بأركانها (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) قيل واجبا مفروضا مقدرا في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتان وقال مجاهد أي فرضا مؤقتا وقته الله عليهم وقد جاء بيان أوقات الصلاة في الحديث أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا أبو بكر عبد الله بن هاشم حدثنا وكيع أنا سفيان عن عبد الرحمن بن الحارس عن عياش بن أبي ربيعة الزرقي عن حكم بن أبي حكيم عن عباد بن حنيف عن نافع بن أبي جبير بن مطعم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ أمني جبريل عليه السلام عند باب البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت بقدر الشراك وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله وصلى بين المغرب حين أفطر الصائم وصلى بي العشاء حين غاب الشفق وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظل كل شيء مثله وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثليه وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم وصلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل الأول وصلى بي الفجر حين أسفر ثم التفت إلي وقال يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين \ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو بكر بن الحسن الحيري أنا وكيع أنا حاجب بن أحمد ثنا عبد الله بن هشام ثنا وكيع ثنا بدر بن عثمان ثنا أبو بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سائلا أتاه فسأله عن مواقيت الصلاة قال فلم يرد عليه شيئا ثم أمر بلالا فأذن ثم أمره فأقام الصلاة حين انشق الفجر فصلى ثم أمره فأقام الظهر والقائل يقول قد زالت الشمس أو لم تزل وهو كان أعلم منهم ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين سقط الشفق قال وصلى الفجر من الغد والقائل يقول طلعت الشمس أو لم تطلع وصلى الظهر قريبا من وقت العصر بالأمس وصلى العصر والقائل يقول قد احمرت الشمس وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل الأول ثم قال أين السائل عن وقت الصلاة فقال الرجل أنا يا رسول الله قال \ ما بين هذين الوقتين وقت \ 104 قوله تعالى (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) الآية سبب نزولها أن أبا سفيان رضي الله عنه وأصحابه لما رجعوا يوم أحد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة في آثارهم فشكوا ألم الجراحات فقال الله تعالى (ولا تهنوا
476

سورة النساء 105 106 في ابتغاء القوم) أي تضعفوا في ابتغاء القوم في طلب القوم أبي سفيان وأصحابه (إن تكونوا تألمون) تتوجعون من الجراح (فإنهم يألمون) أي يتوجعون يعني الكفار (كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون) أي وأنتم مع ذلك تأملون من الأجر والثواب في الآخرة والنصر في الدنيا مالا يرجون وقال بعض المفسرين المراد بالرجاء الخوف لأن كل راج خائف أن لا يدركه مأموله ومعنى الآية ترجون من الله أي وتخافون من الله أي تخافون من عذاب الله مالا يخافون قال الفراء رحمه الله ولا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجد كقوله تعالى (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) أي لا يخافونه وقال تعالى (مالكم لا ترجون لله وقارا) أي لا تخافون لله عظمته ولا يجوز رجوتك بمعنى خفتك ولا خفتك وأت تريد رجوتك (وكان الله عليما حكيما) 105 قوله تعالى (إنا إنزلنا إليك الكتاب بالحق
لتحكم بين الناس بما أراك الله) الآية روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب له فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين فالتمست الدرع عند طعمة فحلف بالله ما أخذها وما له بها من علم فقال أصحاب الدرع لقد رأينا أثر الدقيق حتى دخل داره فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه منه فقال اليهودي دفعها إلي طعمة بن أبيرق فجاء بنو ظفر وهم قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى أن طعمة سرق الدرع في جراب فيه نخالة فخرق الجراب حتى كان يتناثر منه النخالة طول الطريق فجاء به إلى دار زيد السمين وتركه على بابه وحمل الدرع إلى بيته فلما أصبح صاحب الدرع جاء على أثر النخالة إلى دار زيد السمين فأخذه وحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد زيد اليهودي وقال مقاتل إن زيدا السمين أودع درعا عند طعمة فجحدها طعمة فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) بالأمر والنهي والفصل (لتحكم بين الناس بما أراك الله) بما علمك الله وأوحى إليك (ولا تكن للخائنين) طعمة (خصيما) معينا مدافعا عنه 106 (واستغفر الله) مما هممت به من معاقبة اليهودي وقال مقاتل واستغفر الله من جدالك عن طعمة (إن الله كان غفورا رحيما)
477

سورة النساء 107 110 107 (ولا تجادل) لا تخاصم (عن الذين يختانون أنفسهم) أي يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة (إن الله لا يحب من كان خوانا) خائنا (أثيما) بسرقة الدرع أثيما في رميه اليهودي قيل إنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره كقوله تعالى (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) والاستغفار في حق الأنبياء بعد النبوة على أحد الوجوه الثلاثة إما لذنب تقدم على النبوة أو لذنوب أمته وقرابته أو لمباح جاء الشرع بتحريمه فيتركه بالاستغفار فالاستغفار يكون معناه السمع والطاعة لحكم الشرع 108 (يستخفون من الناس) أي يستترون ويستحيون من الناس يريد بني ظفر بن الحارث (ولا يستخفون من الله) أي لا يستترون ولا يستحيون من الله (وهو معهم إذ يبيتون) يتقولون ويؤلفون والتبيين تدبير الفعل ليلا (مالا يرضى من القول) وذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم نرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسمع قوله ويمينه لأنه مسلم ولا يسمع من اليهودي فإنه كافر فلم يرض الله ذلك منهم (وكان الله بما يعملون محيطا) قم يقول لقوم طعمة 109 (ها أنتم هؤلاء) أي يا هؤلاء (جادلتم) أي خاصمتم (عنهم) يعني عن طعمة وفي قراءة أبي بن كعب عنه (في الحياة الدنيا) والجدال شدة المخاصمة من الجدل وهو شدة القتل فهو يريد قتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج وقيل الجدال من الجدالة وهي الأرض فكان كل واحد من الخصمين يروم قهر صاحبه وصرعه على الجدالة (فمن يجادل الله عنهم) يعني عن طعمة (يوم القيامة) إذا أخذه الله بعذابه (أم من يكون عليهم وكيلا) كفيلا أي من الذي يذب عنهم ويتولى أمرهم يوم القيامة ثم استأنف فقال 110 (ومن يعمل سوءا) يعني السرقة (أو يظلم نفسه) برميه البريء وقيل ومن يعمل سوءا أي شركا أو يظلم نفسه يعني إثما دون الشرك (ثم يستغفر الله) أي يتب إليه ويستغفره (يجد الله غفورا رحيما) يعرض التوبة على طعمة في هذه الآية
478

سورة النساء 111 114 111 (ومن يكسب إثما) يعني يمين طعمة بالباطل أي ما سرقته إنما سرقه اليهود (فإنما يكسبه على نفسه) فإنما يضر به نفسه (وكان الله عليما) بسارق الدرع (حكيما) حكم بالقطع على السارق 112 (ومن يكسب خطيئة) أي سرقة الدرع (أو إثما) بيمينه الكاذبة (ثم يرم به) أي يقذف بما جنى (بريئا) منه وهو نسبة السرقة إلى اليهود (فقد احتمل بهتانا) البهتان هو البهت وهو الكذب الذي يتحير في عظمه (وإثما مبينا) أي ذنبا بينا وقوله (ثم يرم به) ولم يقل بهما بعد ذكر الخطيئة والإثم رد الكناية إلى الإثم أو جعل الخطيئة والإثم كالشئ الواحد 113 قوله تعالى (ولولا فضل الله عليك ورحمته) يقول للنبي صلى الله عليه وسلم (لهمت) لقد همت أي أضمرت (طائفة منهم) يعني قوم طعمة (أن يضلوك) يخطئوك في الحكم ويلبسوا عليك الأمر حتى تدافع عن طعمة (وما يضلون إلا أنفسهم) يعني يرجع وباله عليها (وما يضرونك من شيء) يريد أن ضرره يرجع إليهم (وأنزل الله عليك الكتاب) يعني القرآن (والحكمة) يعني القضاء بالوحي (وعلمك مالم تكن تعلم) من الأحكام وقيل من علم الغيب (وكان فضل الله عليك عظيما) 114 قوله تعالى (لا خير في كثير من نجواهم) يعني قوم طعمة وقال مجاهد الآية عامة في حق جميع الناس والنجوى هي الإسرار في التدبير وقيل النجوى ما يتفرد بتدبيره قوم سرا كان أو جهرا فمعنى الآية لا خير في كثير مما يدبرونه بينهم (إلا من أمر بصدقة) أي إلا في نجوى من أمر بصدقة فالنجوى يكون متصلا قيل النجوى هاهنا الرجال المتناجون كما قال الله تعالى (وإذ هم نجوى إلا من أمر بصدقة) وقيل هذا استثناء منقطع يعني لكن من أمر بصدقة أي حث عليها (أو معروف) أي بطاعة الله وما يعرفه الشرع وأعمال البر كلها معروف لأن العقول
479

سورة النساء 115 116 تعرفها (أو إصلاح بين الناس) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو بكر بن أحمد الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن حماد أنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم هو ابن أبي الجعد عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة \ قال قلنا بلى قال \ إصلاح ذات البين وإن إفساد ذات البين هي الحالقة \ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد بن منصور الرمادي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم مكتوم بنت عقبة وكانت من المهاجرات الأول قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \ ليس الكذاب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا \ قوله تعالى (ومن يفعل ذلك) أي هذه الأشياء التي ذكرها (ابتغاء مرضاة الله) أي طلب رضاه (فسوف نؤتيه) في الآخرة (أجرا عظيما) قرأ أبو عمرو وحمزة (يؤتيه) بالياء يعني يؤتيه الله وقرأ الآخرون بالنون 115 قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول) نزلت في طعمة بن أبيرق وذلك أنه لما ظهرت عليه السرقة خاف على نفسه من قطع اليد والفضيحة فهرب إلى مكة وارتد عن الدين فقال تعالى (ومن يشاقق الرسول) أي يخالفه (من بعد ما تبين له الهدى) من التوحيد والحدود (ويتبع غير سبيل المؤمنين) أي غير طريق المؤمنين (نوله ما تولى) أي نكله في الآخرة إلى ما تولى في الدنيا (ونصله جهنم وساءت مصيرا) روي أن طعمة بن أبيرق نزل على رجل من بني
سليم من أهل مكة يقال له الحجاج بن علاط فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع أن يدخل ولا أن يخرج حتى أصبح فأخذ ليقتل فقال بعضهم دعوه فإنه قد لجأ إليكم فتركوه فأخرجوه من مكة فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام فنزلوا منزلا فسرق بعض متاعهم وهرب فطلبوه وأخذوه ورموه بالحجارة حتى قتلوه فصار قبره تلك الحجارة وقيل إنه ركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذه فألقي في البحر وقيل إنه نزل في حرة بني سليم وكان يعبد صنما إلى أن مات فأنزل الله تعالى فيه 116 (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) أي ذهب عن الطريق وحرم الخير كله وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما إن هذه الآية نزلت في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك
480

سورة النساء 117 119 بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جرأة على الله وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا وإني لنادم تائب مستغفر فماذا حالي فأنزل الله تعالى هذه الآية 117 قوله تعالى (إن يدعون من دونه إلا إناثا) نزلت في أهل مكة أي ما يعبدون كقوله تعالى (وقال ربكم ادعوني) أي اعبدوني بدليل قوله تعالى (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) قوله (من دونه) أي من دون الله (إلا إناثا) أراد بالإناث الأوثان لأنهم كانوا يسمونها باسم الإناث فيقولون اللات والعزى ومناة وكانوا يقولون لصنم كل قبيلة أنثى بني فلان فكان في كل واحدة منهن شيطان يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم ولذلك قال (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) هذا قول أكثر المفسرين يدل على صحة التأويل وأن المراد بالإناث الأوثان قراءة ابن عباس رضي الله عنه (إن يدعون من دونه إلا اثنا) جمع الوثن فصير الواو همزة وقال الحسن وقتادة إلا إناثا أي مواتا لا روح فيه لأن أصنامهم كانت من الجمادات سماها إناثا لأنه يخبر عن الموات كما يخبر عن الإناث ولأن الإناث أدون الجنسين كما أن الموات أرذل الحيوان وقال الضحاك أراد بالإناث الملائكة وكان بعضهم يعبدون الملائكة ويقولون الملائكة إناث كما قال الله تعالى (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) أي وما يعبدون إلا شيطانا مريدا لأنهم إذا عبدوا الأصنام فقد أطاعوا الشيطان والمريد المارد وهو المتمرد العاتي الخارج عن الطاعة وأراد إبليس 118 (لعنه الله) أي أبعده الله من رحمته (وقال) يعني قال إبليس (لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) أي حقا معلوما فما أطيع فيه إبليس فهو مفروضه وفي بعض التفاسير من كل ألف واحد لله تعالى وتسعمائة وتسعة وتسعون لإبليس وأصل الفرض في اللغة القطع ومنه الفرصة في النهر وهي الثلمة تكون فيه وفرض القوس والشرك للشق الذي يكون فيه الوتر والخيط الذي يشد به الشراك 119 (ولأضلنهم) يعني عن الحق أي لأغوينهم بقوله إبليس وأراد به التزيين وإلا فليس إليه من الإضلال شيء كما قال (لأزينن لهم في الأرض) (ولأمنينهم) قيل أمنينهم ركوب الأهواء وقيل أمنينهم أن لا جنة ولا نار ولا بعث وقيل أمنينهم إدراك الآخرة مع ركوب المعاصي (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن
481

سورة النساء 120 123 ومجاهد وقتادة وسعيد بن المسيب والضحاك يعني دين الله نظيره قوله تعالى (لا تبديل لخلق الله) أي لدين الله يريد وضع الله في الدين بتحليل الحرام وتحريم الحلال وقال عكرمة وجماعة من المفسرين فليغيرن خلق الله بالخصاء والوشم وقطع الآذان حتى حرم بعضهم الخصاء وجوزه بعضهم في البهائم لأن فيه غرضا ظاهرا وقيل تغيير خلق الله هو أن الله تعالى خلق الأنعام للركوب والأكل فحرموها وخلق الشمس والقمر والأحجار لمنفعة العباد فعبدوها من دون الله (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله) أي ربا يطيعه (فقد خسر خسرانا مبينا) 120 (يعدهم ويمنيهم) فوعده وتمنيته ما يوقعه في قلب الإنسان من طول العمر ونيل الدنيا وقد يكون بالتخويف بالفقر فيمنعه من الإنفاق وصلة الرحم كما قال الله تعالى (الشيطان يعدكم الفقر) ويمنيهم بأن لا بعث ولا جنة ولا نار (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) أي باطلا 121 (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) أي مفرا ومعدلا عنها 122 قوله تعالى (والذين آمنوا وعلموا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) أي من تحت الغرف والمساكن (خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا) 123 قوله تعالى (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) الآية قال مسروق وقتادة والضحاك أراد ليس أمانيكم أيها المسلمون ولا أماني أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى وذلك أنهم افتخروا فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى وقال مجاهد أراد بقوله (ليس بأمانيكم) يا مشركي أهل الكتاب وذلك أنهم قالوا لا بعث ولا حاب وقال أهل الكتاب (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) (ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) فأنزل الله تعالى (ليس بأمانيكم) أي ليس الأمر بالأماني وإنما الأمر بالعمل الصالح (من يعمل سوءا يجز به) قال ابن عباس وسعيد بن جبير وجماعة الآية عامة في حق كل عامل وقال الكبي عن أبي صالح عن ابن عباس
482

سورة النساء 124 رضي الله عنهما لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين وقالوا يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا غيرك فكيف الجزاء قال \ منه ما يكون في الدينا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده أعشاره وأما من يكون جزاؤه في الآخرة فليقابل بين حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطي الجزاء في الجنة فيؤتي كل ذي فضل فضله \ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ثنا أبو بكر محمد بن أحمد العدوسي ثنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد ثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان والحرث بن محمد قالا ثنا روح هو ابن عبادة ثنا موسى بن عبيدة أخبرني مولى بن سباع قال سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه هذه الآية (من يعمل سوءا يجز به) (ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ يا أبا بكر ألا أقرئك أية أنزلت علي قال قلت بلى قال فأقرئنيها قال ولا أعلم إلا أني وجدت انقصاما في ظهري حتى تمطيت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يا أبا بكر فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءا إنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليست لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة \ 124 قوله تعالى (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) أي
مقدار النقير وهو النقرة التي تكون في ظهر النواة قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة
483

سورة النساء 125 وأبو بكر (يدخلون) بضم الياء وفتح الخاء ههنا وفي سورة مريم وحم المؤمن زاد أبو عمر (يدخلونها) في سورة فاطر وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء روى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال لما نزلت (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية (ومن يعمل من الصالحات) الآية ونزلت أيضا 125 (ومن أحسن دينا) أحكم دينا (ممن أسلم وجهه لله) أي أخلص عمله لله وقيل فوض أمره إلى الله (وهو محسن) أي موحد (واتبع ملة إبراهيم) يعني دين إبراهيم عليه السلام (حنيفا) أي مسلما مخلصا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومن دين إبراهيم الصلاة إلى الكعبة والطواف بها ومناسك الحج وإنما خص بها إبراهيم لأنه كان مقبولا عند الأمم أجمع وقيل لأنه بعث على ملة إبراهيم وزيدت له أشياء (واتخذ الله إبراهيم خليلا) صفيا والخلة صفاء المودة وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما كان إبراهيم عليه السلام أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فأصاب الناس سنة فحشروا إلى باب إبراهيم عليه السلام السلام يطلبون الطعام وكانت الميرة كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي بمصر فقال خليله لغلمانه لو كان إبراهيم عليه السلام إنما يريده لنفسه لاحتمالنا ذلك له فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة فرجع رسل إبراهيم عليه السلام فمروا ببطحاء سهلة فقالوا فيما بينهم لو أنا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فإنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة فملؤوا تلك الغرائر سهلة ثم أتوا إبراهيم فأعلموه وسارة نائمة فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت سبحان الله ما جاء الغلمان قالوا بلى قالت فما جاؤوا بشيء قالوا بلى فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هي ملأى بأجود دقيق حوار يكون فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام فقال يا سارة من أين هذا قالت من عند خليلك المصري فقال هذا من عند خليلي الله قال فيومئذ اتخذ الله إبراهيم خليلا قال الزجاج معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل والخلة الصداقة فسمي خليلا لأن الله أحبه واصطفاه وقيل هو من الخلة وهي الحاجة سمي خليلا أي فقيرا إلى الله لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلا إلى الله عز وجل والأول أصح لأن قوله (واتخذ الله إبراهيم خليلا) يقتضي الخلة من الجانبين ولا يتصور الحاجة من الجانبين ثنا أبو المظفر بن أحمد التيمي ثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم ثنا خيثمة بن سليمان بن حيضرة الأطرابلسي ثنا أبو قلابة الرقاشي ثنا بشر بن عمر ثنا شعبة
484

سورة النساء 126 127 عن أبي إسحق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكنه أخي وصاحبي ولقد اتخذ الله صاحبكم خليلا \ 126 قوله عز وجل (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا) أي أحاط علمه بجميع الأشياء 127 قوله تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) الآية قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في بنات أم كحة وميراثهن عن أبيهن وقد مضت القصة في أول السورة وقالت عائشة رضي الله عنها هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنة صداقها وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركها وفي رواية هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب أن يتزوجها لدمامتها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها فنهاهم الله عن ذلك قوله عز وجل (يستفتونك) أي يستخبرونك في النساء (قل الله يفتيكم فيهن) (وما يتلى عليكم في الكتاب) قيل معناه ويفتيكم في ما يتلى عليكم وقيل يريد الله أن يفتيكم فين وكتابه يفتيكم فيهن وهو قوله عز وجل (وآتوا اليتامى أموالهم) قوله (في يتامى النساء) هذا إضافة الشيء إلى نفسه لأنه أراد باليتامى النساء (اللاتي لا تؤتونهن) أي لا تعطونهن (ما كتب لهن) من صداقهن (وترغبون أن تنكحوهن) أي في نكاحهن لمالهن وجمالهن بأقل من صداقهن وقال الحسن وجماعة أراد أن تؤتونهن حقهن من الميراث لأنهم كانوا لا يرثون النساء وترغبون أن تنكحوهن أي عن نكاحهنلدمامتهن (والمستضعفين من الولدان) يريد ويفتيكم في المستضعفين من الولدان وهم الصغار أن تعطوهم حقوقهم لأنهم كانوا لا يورثون الصغار يريد ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله (وآتوا اليتامى أموالهم) يعني بإعطاء حقوق الصغار (وأن تقوموا لليتامى بالقسط) أي ويفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط بالعدل في مهورهن ومواريثهن (وما تفعلوا من خير فإن الله كان به علما) يجازيكم عليه
485

سورة النساء 128 128 قوله تعالى (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) الآية نزلت في عمرة ويقال في خولة بنت محمد بن مسلمة وفي زوجها سعيد بن الربيع ويقال رافع بن خديج تزوجها وهي شابة فلما علاها الكبر تزوج عليها امرأة شابة وآثرها عليها وجفا ابنة محمد بن سلمة فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فنزلت فيها هذه الآية وقال سعيد بن جبير كان رجل له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج عليها غيرها فقالت لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي وأقسم لي من كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسم لي فقال إن كان يصلح ذلك فهو أحب إلي فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله تعالى (وإن امرأة خافت) أي علمت (من بعلها) أي من زوجها (نشوزا) أي بغضا قال الكلبي يعني ترك مضاجعتها أو إعراضا بوجهه عنها وقلة مجالستها (فلا جناح عليهما) أي على الزوج والمرأة (أن يصلحا) أي يتصالحا وقرأ أهل الكوفة (أن يصلحا) من الإصلاح (بينهما صلحا) يعني في القسم والنفقة وهو أن يقول الزوج لها إنك قد دخلت في السن وإني أريد أن أتزوج امرأة شابة جميلة أوثرها عليك في القسمة ليلا ونهارا فإن رضيت بهذا فأقيمي وإن كرهت خليت سبيلك فإن رضيت كانت هي المحسنة ولا تجبر على ذلك وإن لم ترض بدون حقها كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم والنفقة أو يسرحها بإحسان فإن أمسكها ووفاها حقها مع كراهية فهو محسن وقال سليمان بن يسار في هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما فإن صالحته عن بعض حقها من القسم والنفقة فذلك جائز ما رضيت فإن أنكرته بعد الصلح فذلك لها ولها حقها وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية هو أن الرجل يكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة فيقول للكبيرة أعطيتك من مالي نصيبا على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك فترضى بما اصطلحا عليه فإن أبت أن ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم وعن علي رضي الله عنه في هذه الآية قال تكون المرأة عند الرجل
فتنبو عينه عنها من دمامة أو كبر فتكره فرقته فإن أعطته من مالها فهو له حل وإن أعطته من أيامها فهو حل له (والصلح خير) يعني إقامتها بعد تخييره إياها والمصالحة على ترك بعض حقها من القسم والنفقة خير من الفرقة كما يروى أن سودة رضي الله عنها كانت امرأة كبيرة وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها فقالت لا تطلقني وكفاني أن أبعث في نسائك وقد جعلت نوبتي لعائشة رضي الله عنها فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة رضي الله عنها قوله تبارك وتعالى (وأحضرت الأنفش
486

سورة النساء 129 130 الشح) يريد شح كل واحد من الزوجين بنصيبه من الآخر والشح أقبح البخل وحقيقته الحرض على منع الخير (وإن تحسنوا) أي تصلحوا (وتتقوا) الجور وقيل هذا خطاب مع الأزواج أي وإن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهة وتتقوا ظلمها (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) فيجزيكم بأعمالكم 129 قوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) أي لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب وميل القلب (ولو حرصتم) على العدل (فلا تميلوا) أي إلى التي تحبونها (كل الميل) في القسم والنفقة أي لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم (فتذروها كالمعلقة) أي فتدعوا الأخرى كالمعلقة لا أيما ولا ذات بعل وقال قتادة كالمحبوسة وفي قراءة أبي بن كعب كأنها محبوسة وروي عن أبي قلابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول \ اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك \ ورواه بعضهم عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها متصلا وروي عن أبي هريرة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل \ (وإن تصلحوا وتتقوا) الجور (فإن الله كان غفورا رحيما) 130 (وإن يتفرقا) يعني الزوج والمرأة بالطلاق (يغني الله كلا من سعته) من رزقه يعني المرأة بزوج آخر والزوج بامرأة أخرى (وكان الله واسعا حكيما) واسع الفضل والرحمة حكيما فيما أمر به ونهى عنه وجملة حكم الآية أن الرجل إذا كانت تحته امرأتان أو أكثر فإنه يجب عليه التسوية بينهن في القسم فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسم عصى الله تعالى وعليه القضاء للمظلومة والتسوية شرط في البينونة أما في الجماع فلا لأنه يدور على النشاط وليس ذلك إليه ولو كانت في نكاحه حرة وأمة فإنه يبيت عند الحرة ليلتين وعند الأمة ليلة واحدة وإذا تزوج جديدة على قديمات عنده يخص الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال على التوال إن كانت بكرا وإن كانت ثيبا فثلاث ليال ثم يسوي بعد ذلك بين الكل ولا يجب قضاء هذه الليالي للقديمات أخبرنا عبد الواحد المليحي ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي
487

سورة النساء 131 133 ثنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يوسف بن راشد ثنا أبو أسامة ثنا سفيان الثوري ثنا أيوب وخالد عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم قال أبو قلابة ولو شئت لقلت إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإذا أراد الرجل سفر حاجة فيجوز له أن يحمل بعض نسائه مع نفسه بعد أن يقرع بينهن فيه ثم لا يجب عليه أن يقضي للباقيات مدة سفره وإن طالت إذا لم يزد مقامه في بلده على مدة المسافرين والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العباس الأصم ثنا الربيع ثنا الشافعي ثنا عمي محمد بن علي بن شافع عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها أما إذا أراد سفر نقلة فليس له تخصيص بعضهن لا بالقرعة ولا بغيرها 131 قوله تعالى (ولله ما في السماوات وما في الأرض) عبيدا وملكا (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) يعني أهل التوراة والإنجيل وسائر الأمم المتقدمة في كتبهم (وإياكم) يا أهل القرآن في القرآن (أن اتقوا الله) أي وحدوا الله وأطيعوه (وإن تكفروا) بما أوصاكم الله به (فإن لله ما في السماوات وما في الأرض) قيل فإن لله ملائكة في السماوات والأرض هي أطوع له منكم (وكان الله غنيا) عن جميع خلقه غير محتاج إلى طاعتهم (حميدا) محمودا على نعمه 132 (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) قال عكرمة عن ابن عباس يعني شهيدا أن فيها عبيدا وقيل دافعا ومجيرا فإن قيل فأي فائدة في تكرار قوله تعالى (ولله ما في السماوات وما في الأرض) قيل لكل واحد منهما وجه أما الأول فمعناه لله ما في السماوات وما في الأرض وهو يوصيكم بالتقوى فاقبلوا وصيته وأما الثاني فيقول فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا أي هو الغني وله الملك فاطلبوا منه ما تطلبون وأما الثالث فيقول (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) أي له الملك فاتخذوه وكيلا ولا توكلوا على غيره 133 قوله تعالى (إن يشأ يذهبكم) يهلككم (أيها الناس) يعني الكفار (ويأت بآخرين) يقول بغيركم خير منكم وأطوع (وكان الله على ذلك قديرا) قادرا
488

سورة النساء 134 136 134 (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) يريد من كان يريد بعمله عرضا من الدنيا ولا يريد بها الله عز وجل آتاه الله من عرض الدنيا أو دفع عنه فيها ما أراد وليس له في الآخرة في ثواب ومن أراد بعمله ثواب الآخرة آتاه الله من الدنيا وما أحب وجزاه الجنة في الآخرة قوله تعالى (وكان الله سميعا بصيرا) 135 (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) يعني كونوا قائمين بالشهادة بالقسط أي بالعدل لله وقال ابن عباس رضي الله عنهما كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت له (ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) في الرحم أي قولوا الحق ولو على أنفسكم بالإقرار أو الوالدين والأقربين فأقيموها عليهم لله ولا تحابوا غنيا لغناه ولا ترحموا فقيرا لفقره فذلك قوله تعالى (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) منكم أي أقيموا على المشهود عليه وإن كان غنيا وللمشهود له وإن كان فقيرا فالله أولى بهما منكم أي كلوا أمرهما إلى الله وقال الحسن معناه الله أعلم بهما (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) أي ولا تجوروا وتميلوا إلى الباطل من الحق وقيل معناه لا تتبعوا الهوى لتعدلوا أي لتكونوا عادلين كما يقال لا تتبع الهوى لترضي ربك (وإن تلووا) أي تحرفوا الشهادة يقال لويته حقه إذا دفعته وأبطلته وقيل هذا خطاب مع الحكام في ليهم الأشداق يقول وإن تلووا أي تميلوا إلى أحد الخصمين أو تعرضوا عنه قرأ ابن عامر وحمزة (تلوا) بضم اللام قيل أصله تلووا فحذفت إحدى الواوين تخفيفا وقيل معناه وإن تلوا القيام بأداء الشهادة أو تعرضوا فتتركوا أداءها (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) ألآية قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأسد وأسيد بني كعب وثعلبة بن قيس وسلام بن أخت عبد الله بن سلام
وسلمة بن أخيه ويامين بن يامين فهؤلاء مؤمنوا أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا نؤمن بك
489

سورة النساء 137 138 وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير بما سواه من الكتب والرسل فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ بل آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبكل كتاب كان قبله \ فأنزل الله هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا) بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبموسى عليه السلام والتوراة (آمنوا بالله ورسوله) محمد صلى الله عليه وسلم (والكتاب الذي نزل على رسوله) يعني القرآن (والكتاب الذي أنزل من قبل) من التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو (نزل وأنزل) بضم النون والألف وقرأ الآخرون (نزل وأنزل) بالفتح أي أنزل الله (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) فلما نزلت هذه الآية قالوا فإنا نؤمن بالله ورسوله والقرآن وبكل رسول وكتاب كان قبل القرآن والملائكة واليوم الآخر لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون وقال الضحاك أراد بهم اليهود والنصارى وقيل (يا أيها الذين آمنوا) بموسى وعيسى (آمنوا) بمحمد والقرآن وقال مجاهد أراد بهم المنافقين يقول (يا أيها الذين آمنوا) باللسان (آمنوا) بالقلب وقال أبو العالية وجماعة هذا خطاب للمؤمنين يقول (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) أي أقيموا وأثبتوا على الإيمان كما يقال للقائم قم حتى أرجع إليك أي أثبت قائما قيل المراد به أهل الشرك يعني (يا أيها الذين آمنوا) باللات والعزى (آمنوا بالله ورسوله) قوله تعالى (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) قال قتادة هم اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل ثم آمنوا بالتوراة ثم كفروا بعيسى عليه السلام ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل هو في جميع أهل الكتاب آمنوا بنبيهم ثم كفروا به وآمنوا بالكتاب الذي نزل عليه ثم كفروا به وكفرهم به تركهم إياه ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل هذا في قوم مرتدين آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ومثل هذا هل تقبل توبته حكي عن علي رضي الله عنه أنه لا تقبل توبته بل يقتل لقوله تعالى (لم يكن الله ليغفر لهم) وأكثر أهل العلم على قبول توبته وقال مجاهد ثم ازدادوا كفرا أي ماتوا عليه (لم يكن الله ليغفر لهم) ما أقاموا على ذلك (ولا ليهديهم سبيلا) أي طريقا إلى الحق فإن قيل ما معنى قوله (لم يكن الله ليغفر لهم) ومعلوم أنه لا يغفر الشرك إن كان أول مرة قيل معناه أن الكافر إذا سلم أول مرة ودام عليه يغفر له كفره السابق فإن أسلم ثم كفر ثم أسلم ثم كفر لا يغفر له كفره السابق الذي كان يغفر له لو دام على الإسلام 138 (بشر المنافقين) أخبرهم يا محمد (بأن لهم عذابا أليما) والبشارة كل خبر يتغير به بشرة الوجه سارا كان أو غير سار وقال الزجاج معناه اجعل في موضع بشارتك لهم العذاب كما تقول العرب تحيتك الضرب وعتابك السيف أي بدلا لك من التحية ثم وصف المنافقين فقال
490

سورة النساء 139 141 139 (الذين يتخذون الكافرين أولياء) يعني يتخذون اليهود أولياء وأنصارا أو بطانة (من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة) أي المعونة والظهور على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقيل أيطلبون عندهم القوة (فإن العزة) أي الغلبة والقوة والقدرة (لله جميعا) 140 (وقد نزل عليكم في الكتاب) قرأ عاصم ويعقوب (نزل) بفتح النون والزاي أي نزل الله وقرا الآخرون (نزل) بضم النون وكسر الزاي أي عليكم يا معشر المسلمين (أن إذا سمعتم آيات الله) يعني القرآن (يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم) يعني مع الذي يستهزؤون (حتى يخوضوا في حديث غيره) أي يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وهذا إشارة إلى ما أنزل الله في سورة الأنعام (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة (إنكم إذا مثلهم) أي إن قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزئون ورضيتم به فأنتم كفار مثلهم وإن خاضوا في حديث غيره فلا بأس بالقعود معهم مع الكراهة وقال الحسن لا يجوز القعود معهم وإن خاضوا في حديث غيره لقوله تعالى (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) والأكثرون على الأول وآية الأنعام مكية وهذه مدنية والمتأخر أولى قوله (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) 141 (الذين يتربصون بكم) ينتظرون بكم الدوائر يعني المنافقين (فإن كان لكم فتح من الله) يعني ظفر وغنيمة (قالوا) لكم (ألم نكن معكم) على دينكم في الجهاد كنا معكم فاجعلو لنا نصيبا من الغنيمة (وإن كان للكافرين نصيب) يعني دولة وظهور على المسلمين (قالوا) يعني المنافقين للكافرين (ألم نستحوذ عليكم) والاستحواذ هو الاستيلاء والغلبة قال تعالى (استحوذ عليهم الشيطان) أي استولى وغلب يقول ألم نخبركم بعورة محمد صلى الله عليه وسلم
491

سورة النساء 142 144 وأصحابه ونطلعكم على سرهم قال المبرد يقول المنافقون للكفار ألم نغلبكم على رأيكم (ونمنعكم) ونصرفكم (من المؤمنين) أي عن الدخول في جملتهم وقيل معناه ألم نستول عليكم بالنصرة لكم ونمنعكم من المؤمنين أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأمورهم ومراد المنافقين بهذا الكلام إظهار المنة على الكافرين (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) يعني بين أهل الإيمان وأهل النفاق (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) قال علي في الآخرة وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أي حجة وقيل ظهورا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 142 (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) أي يعاملونه معاملة المخادعين وهو خادعهم أي مجازيهم على خداعهم وذلك أنهم يعطون نورا يوم القيامة كما للمؤمنين فيمضي المؤمنون بنورهم على الصراط ويطفأ نور المنافقين (وإذا قاموا إلى الصلاة) يعني المنافقين (قاموا كسالى) أي متثاقلين لا يريدون بها الله فإن رآهم أحد صلوا وإلا انصرفوا فلا يصلون (يراؤون الناس) أي يفعلون ذلك مراءاة للناس لا اتباعا لأمر الله (ولا يذكرون الله إلا قليلا) قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن إنما قال ذلك لأنهم يفعلونها رياء وسمعة ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله تعالى لكان كثيرا وقال قتادة إنما قل ذكر المنافقين لأن الله تعالى لم يقبله وكل ما قبل الله فهو كثير 143 (مذبذبين بين ذلك) أي مترددين متحيرين بين الكفر والإيمان (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) أي ليسوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمؤمنين وليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) أي طريقا إلى الهدى أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني قال أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا محمد بن المثنى أنا عبد الوهاب يعني الثقفي أنا عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير
إلى هذه مرة وإلى هذه مرة \ 144 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار وقال (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) أي حجة بينة في عذابكم ثم ذكر منازل المنافقين فقال جل ذكره
492

سورة النساء 145 148 145 (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) قرأ أهل الكوفة (في الدرك) بسكون الراء والباقون بفتحها وهما لغتان كالظعن والظعن والنهر والنهر قال ابن مسعود رضي الله عنه (في الدرك الأسفل) في توابيت من حديد مقفلة في النار وقال أبو هريرة بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم (ولن تجد لهم نصيرا) مانعا من العذاب 146 (إلا الذين تابوا) من النفاق وآمنوا (وأصلحوا) عملهم (واعتصموا بالله) وثقوا بالله (وأخلصوا دينهم لله) أراد الإخلاص بالقلب لأن النفاق كفر القلب فزواله يكون بإخلاص القلب (فأولئك مع المؤمنين) قال الفراء من المؤمنين (وسوف يؤت الله المؤمنين) في الآخرة (أجرا عظيما) يعني الجنة وحذفت الياء (من يؤت) في الخط لسقوطها في اللفظ وسقوطها في اللفظ لسكون اللام في (الله) 147 قوله تعالى (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم) أي إن شكرتم نعماءه (وآمنتم) به فيه تقديم وتأخير تقديره إن آمنتم وشكرتم لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان وهذا استفهام بمعنى التقرير معناه إنه لا يعذب المؤمن الشاكر فإن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه والشكر ضد الكفر والكفر ستر النعمة والشكر إظهارها (وكان الله شاكرا عليما) فالشكر من الله تعالى هو الرضا بالقليل من عباده وإضعاف الثواب عليه والشكر من العبد الطاعة ومن الله الثواب 148 قوله (لا يحب الله الجهر السوء من القول إلا من ظلم) يعني لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلا من ظلم فيجوز للمظلوم أن يخبر عن الظالم وأن يدعو عليه قال الله تعالى (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) قال الحسن دعاؤه عليه أن يقول اللهم أعني عليه اللهم استخرج حقي منه وقيل إن شئتم جاز أن يشتم بمثله لا يزيد عليه أخبرنا أبو عبد الله الحرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشمهيني أنا علي بن حجر أنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \ المسبتان ما قالا فعلى البادئ
493

سورة النساء 149 151 منهما حتى يعتدي المظلوم \ وقال مجاهد هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ويذكر ما صنع به أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل أنا قتيبة بن سعيد أنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أنه قال قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم \ إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم \ وقرأ الضحاك بن مزاحم وزيد بن أسلم (إلا من ظلم) بفتح الظاء واللام معناه لكن الظالم أجهروا له بالسوء من القول وقيل معناه لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن يجهره من ظلم والقراءة الأولى هي المعروفة (وكان الله سميعا) لدعاء المظلوم (عليما) بعقاب الظالم 149 قوله تعالى (إن تبدوا خيرا) يعني حسنة فيعمل بها كتبت له عشرا وإن هم بها ولم يعملها كتبت له حسنة واحدة وهو قوله (أو تخفوه) وقيل المراد من الخير المال يريد إن تبدوا صدقة تعطونها جهرا أو تخفوها فتعطوها سرا (أو تعفوا عن سوء) أي عن مظلمة (فإن الله كان عفوا قديرا) فهو أولى بالتجاوز عنكم يوم القيامة 150 قوله عز وجل (إن الذين يكفرون بالله ورسله) الآية نزلت في اليهود وذلك أنهم آمنوا بموسى عليه السلام والتوراة وعزير وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمد والقرآن (ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا) أي دينا بين اليهودية والإسلام ومذهبا يذهبون إليه 151 (أولئك هم الكافرون حقا) حقق كفرهم ليعلم أن الكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم (وأعتدن اللكافر عذابا مهينا)
494

سورة النساء 152 155 152 (والذين آمنوا بالله ورسله) كلهم (ولم يفرقوا بين أحد منهم) يعني بين الرسل وهم المؤمنون يقولون لا نفرق بين أحد من رسله (أولئك سوف يؤتيهم أجورهم) بإيمانهم بالله وكتبه ورسله قرأ حفص عن عاصم (يؤتيهم) بالياء أي يؤتيهم الله والباقون بالنون (وكان الله غفورا رحيما) 153 قوله تعالى (يسألك أهل الكتاب) الآية وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نبيا فأتنا بكتاب جملة من السماء كما أتى به موسى عليه السلام فأنزل الله عليه (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) وكان هذا السؤال منهم سؤال تحكم واقتراح لا سؤال انقياد والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد قوله (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) أي أعظم من ذلك يعني السبعين الذي خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل (فقالوا أرنا الله جهرة) أي عيانا قال أبو عبيدة معناه قالوا جهرة أرنا الله (فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل) يعني إلها (من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك) ولم نستأصلهم قيل هذا استدعاء إلى التوبة معناه أن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم (وآتينا موسى سلطانا مبينا) أي حجة بينة من المعجزات وهي الآيات التسع 154 (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت) قرأ أهل المدينة بتشديد الدال وفتح العين نافع برواية ورش ويجزمها الآخرون ومعناه لا تعتدوا ولا تظلموا باصطياد الحيتان فيه (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) 155 قوله تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم) أي فبنقضهم و (ما) صلة كقوله تعالى (فبما رحمة من
495

سورة النساء 156 158 الله) ونحوها (وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم) أي ختم عليها (فلا يؤمنون إلا قليلا) يعني ممن كذب الرسل لا ممن طبع على قلبه لأن من طبع الله على قلبه لا يؤمن أبدا وأراد بالقليل عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا 156 (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) حين رموها بالزنا 157 (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) وذلك أن الله تعالى ألقى شبه عيسى عليه السلام على الذي دل اليهود عليه وقيل إنهم حبسوا عيسى عليه السلام في بيت وجعلوا عليه رقيبا فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه السلام على الرقيب فقتلوه وقيل غير ذلك كما ذكرنا في سورة آل عمران قوله تبارك وتعالى (وإن الذين اختلفوا فيه) في قتله (لفي شك منه) أي في قتله قال الكلبي اختلافهم فيه
هو أن اليهود قالت نحن قتلناه وقالت طائفة من النصارى نحن قتلناه ما قتله هؤلاء ولا هؤلاء بل رفعه الله إلى السماء ونحن ننظر إليه وقيل كان الله تعالى ألقى شبه عيسى عليه السلام على وجه صطيافوس ولم يلقه على جسده فاختلفوا فيه فقال بعضهم قتلنا عيسى فإن الوجه وجه عيسى عليه السلام وقال بعضهم لم نقتله لأن جسده ليس جسد عيسى عليه السلام فاختلفوا قال السدي اختلافهم من حيث أنهم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى قال الله تعالى (ما لهم به من علم) من حقيقة أنه قتل أو لم يقتل (إلا اتباع الظن) لكنهم يتبعون الظن في قتله قال الله جل جلاله (وما قتلوه يقينا) أي ما قتلوا عيسى يقينا 158 (بل رفعه الله إليه) وقيل قوله (يقينا) ترجع إلى ما بعده وقوله (وما قتلوه) كلام تام تقديره بل رفعه الله إليه يقينا والهاء في (ما قتلوه) كناية عن عيسى عليه السلام وقال الفراء رحمه الله معناه وما قتلوه الذين ظنوا انه عيسى يقينا وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه وما قتلوا ظنهم يقينا (وكان الله عزيزا) منيعا بالنقمة من اليهود (حكيما) حكم باللعنة والغضب عليهم فسلط عليهم ينطيونس بن أسبسيانوس فقتل منهم مقتلة عظيمة
496

سورة النساء 159 160 159 قوله تعالى (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) أي وما من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى عليه السلام هذا قول أكثر المفسرين وأهل العلم وقوله (قبل موته) اختلفوا في هذه الكناية فقال عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي إنها كناية عن الكتابي ومعناه وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى عليه السلام قبل موته إذا وقع في اليأس حين لا ينفعه إيمانه سواء احترق أو غرق أو تردى في بئر أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة وهذه رواية عن ابن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال فقيل لابن عباس رضي الله عنهما أرأيت أن من خر من فوق بيت قال يتكلم به في الهواء قال فقيل أرأيت إن ضرب عنق أحدهم قال يتلجلج به لسانه وذهب قوم إلى أن الهاء في (موته) كناية عن عيسى عليه السلام معناه وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ويقتل الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون \ وقال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) قبل موت عيسى بن مريم ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات وروي عن عكرمة أن الهاء في قوله (ليؤمنن به) كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم يقول لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل هي راجعة إلى الله عز وجل يقول وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله عز وجل قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه قوله تعالى (ويوم القيامة يكون) يعني عيسى عليه السلام (عليهم شهيدا) أنه قد بلغهم رسالة ربه وأقر بالعبودية على نفسه كما قال تعالى مخبرا عنه (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) وكل نبي شاهد على أمته قال الله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) 160 قوله عز وجل (فبظلم من الذين هادوا) وهو ما تقدم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بآيات الله وبهتانهم على مريم وقولهم إنا قتلنا المسيح (حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) وهي ما ذكر في سورة الأنعام فقال (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ونظم الآية فبظلم من الذين هادوا
497

سورة النساء 161 162 وهو ما ذكرنا (وبصدهم) وبصرفهم أنفسهم وغيرهم (عن سبيل الله كثيرا) أي عن دين الله صدا كثيرا 161 (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه) في التوراة (وأكلهم أموال الناس بالباطل) من الرشا في الحكم والمأكل التي يصيبونها من عوامهم عاقبناهم بأن حرمنا عليهم طيبات وكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرم عليهم شيء من الطيبات التي كانت حلالا لهم قال الله تعالى (ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) (وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما) 162 (لكن الراسخون في العلم منهم) يعني ليس كل أهل الكتاب بهذه الصفة لكن الراسخون المبالغون في العلم منهم أولوا البصائر وأراد به الذين أسلموا من علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام وأصحابه (والمؤمنون) يعني المهاجرون والأنصار (يؤمنون بما أنزل إليك) يعني القرآن (وما أنزل من قبلك) يعني سائر الكتب المنزلة (والمقيمين الصلاة) اختلفوا في وجه انتصابه فحكي عن عائشة رضي الله عنها وأبان بن عثمان أنه غلط من الكاتب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة وكذلك قوله في سورة المائدة (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون) وقوله (إن هذان لساحران) قالوا ذلك خطأ من الكاتب وقال عثمان إن في المصحف لحنا ستقيمه
498

سورة النساء 163 العرب بألسنتها فقيل له ألا تغيره فقال دعوه فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا وعامة الصحابة وأهل العلم على أنه صحيح واختلفوا فيه قيل هو نصب على المدح وقيل نصب على إضمار فعل تقديره أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة وقيل موضعه خفض واختلفوا في وجهه فقال بعضهم معناه لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة وقيل معناه يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة ثم قوله (والمؤتون الزكاة) رجوع إلى النسق الأول (والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) قرأ حمزة سيؤتيهم بالياء والباقون بالنون 163 قوله تعالى (إنا أوحينا إليك) هذا بناء على ما سبق من قوله (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) فلما ذكر الله عيوبهم وذنوبهم غضبوا وجحدوا كل ما أنزل الله عز وجل وقالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فنزل (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) وأنزل (إنا أوحينا إليك) (كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) فذكر عدة من الرسل الذين أوحى إليهم وبذأ بذكر نوح عليه السلام لأنه كان أبا البشر مثل آدم عليه السلام قال الله تعالى (وجعلنا ذريته) هم الباقين ولأنه أول نبي من أنبياء الشريعة وأول نذير على الشرك وأولو من عذبت أمته لردهم دعوته وأهلك أهل الأرض جميعا بدعائه وكان أطول الأنبياء عمرا وجعلت معجزته في نفسه لأنه عمر ألف سنة فلم تسقط له سن ولم تشب له شعرة ولم ينتقص له قوة ولم يصبر نبي على اذى قومه ما صبر هو على طول عمره قوله تعالى (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط) وهم أولاد يعقوب (وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا) قرأ الأعمش وحمزة (زبورا) والزبور بضم الزاي حيث كان بمعنى جمع زبور أي آتينا داود كتبا وصحفا مزبورة أي
499

سورة النساء 164 165 مكتوبة وقرأ الآخرون بفتح الزاي وهو اسم الكتاب الذي أنزل الله تعالى على داود عليه السلام وكان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجل وكان داود يبرز إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور ويقوم معه علماء بني إسرائيل فيقومون خلفه ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الناس الأعظم فالأعظم والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه تعجبا لما يسمعن منه والطير ترفرف على رؤوسهم فلما قارف الذنب لم ير ذلك ونفروا من حوله فقيل له ذاك أنس الطاعة وهذه وحشة المعصية أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحق الثعلبي أنا أبو بكر الجوزقي أنا أبو العباس الرعوف أنا يحيى بن زكريا أنا الحسن بن حماد بن سعيد الأموي عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \ لو رأيتني البارحة وأنا استمع لقراءتك لقد أعطيت مزمارا من مامير آل داود \ فقال أما والله يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته تحبيرا وكان عمر رضي الله عنه إذا رآه يقول ذكرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده 164 قوله تعالى (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل) أي وكما أوحينا إلى نوح وإلى الرسل (رسلا) نصب بنوع حرف الصفة وقيل معناه وقصصنا عليك رسلا في قراءة أبي (ورسل قد قصصناهم عليك من قبل) (ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) قال الفراء العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ولكن لا تحققه بالمصدر فإذا حقق بالمصدر ولم يكن إلا حقيقة الكلام كالإرادة يقال أراد فلان إرادة يريد حقيقة الإرادة ويقال أراد الجدار ولا يقال أراد الجدار إرادة لأنه مجاز غير حقيقة 165 قوله تعالى (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا وما أنزلت إلينا كتابا وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسول قال الله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (وكان الله عزيزا حكيما) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل ثنا موسى بن إسماعيل أنا أبو عوانة أنا عبد الملك عن وراد كاتب المغيرة قال قال سعد بن عبادة رضي الله عنه لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال \ أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه
500

سورة النساء 166 170 العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد الله الجنة \ 166 قوله تعالى (لكن الله يشهد بما أنزل إليك) قال ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونك ودخل عليه جماعة من اليهود فقال لهم إني والله أعلم أنكم لتعلمن أني رسول الله فقالوا ما نعلم ذلك والله فأنزل الله عز وجل (لكن الله يشهد بما أنزل إليك) إن جحدوك وكذبوك (أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) 167 (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) بكتمان نعت محمد صلى الله عليه وسلم (قد ضلوا ضلالا بعيدا) 168 (إن الذين كفروا وظلموا) قيل إنما قال (وظلموا) اتبع ظلمهم بكفرهم تأكيدا وقيل معناه كفروا بالله وظلموا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتمان نعته (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا) يعني دين الإسلام 169 (إلا طريق جهنم) يعني اليهودية (خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) وهذا في حق من سبق حكمه فيهم أنهم لا يؤمنون 170 (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم) تقديره فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم (وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما)
501

سورة النساء 171 171 (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) نزلت في النصارى وهم أصناف أربعة اليعقوبية والملكانية والنسطورية والمرقسية فقالت اليعقوبية عيسى هو الله وكذلك الملكانية وقالت النسطورية عيسى هو الله واليعقوبية يقولون ابن الله والنسطورية يقولون ثالث ثلاثة عليهم رجل من اليهود يقال له بولص سيأتي في سورة التوبة إن شاء الله تعالى وقال الحسن يجوز أن تكون نزلت في اليهود والنصارى فإنهم جميعا غلوا في أمر عيسى فاليهود بالتقصير والنصارى مجاوزة الحد وأصل الغلو مجاوزة الحد وهو في الدين حرام قال الله تعالى (لا تغلوا في دينكم) لا تشددوا في دينكم فتفتروا على الله الكذب (ولا تقولوا على الله إلا الحق) لا تقولوا أن له شريكا وولدا (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته) وهي قوله (كن) فكان بشرا من غير أب وقيل غيره (ألقاها إلى مريم) أي أعلمها وأخبرها بها كما يقال ألقيت إليك كلمة حسنة (وروح منه) قيل هو روح كسائر الأرواح إلا أن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفا وقيل الروح هو النفخ الذي نفخه جبريل عليه السلام في درع مريم فحملته بإذن الله تعالى سمي النفخ روحا لأنه ريح يخرج من الروح وأضافه إلى نفسه لأنه كان بأمره وقيل روح منه أي ورحمة فكان عيسى عليه السلام رحمة لمن تبعه وأمن به وقيل الروح الوحي أوحى إلى مريم بالبشارة وإلى جبريل عليه السلام أن كن فكان كما قال الله تعالى (ينزل الملائكة بالروح من أمره) يعني بالوحي وقيل أراد بالروح جبريل عليه السلام معناه كلمته ألقاها إلى مريم وألقاها أيضا روح منه بأمره وهو جبريل عليه السلام كما قال (تنزل الملائكة والروح) يعني جبريل فيها وقال (فأرسلنا إليها روحنا) يعني جبريل أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أنا صدقة بن الفضل أنا الوليد عن الأوزاعي حدثنا عمرو بن هاني حدثني جنادة بن أمية عن عبادة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال \ من شهد أن لا إلا إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الجنة على ما كان من العمل \ (فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة) أي ولا تقولوا هم بثلاثة وكانت النصارى تقول أب وابن وروح القدس (انتهوا خيرا لكم) تقديره انتهوا يكن الانتهاء خيرا لكم (إنما الله إله واحد سبحانه أن
502

سورة النساء 172 175 يكون له ولد) واعلم أن التبني لا يجوز لله تعالى لأن التبني إنما يجوز لمن يتصور له ولد (له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) 172 قوله تعالى (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله) وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول أنه عبد الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم \ إنه ليس بعار لعيسى عليه السلام أن يكون عبد الله \ فنزل (لن يستنكف المسيح) لن يأنف ولن يتعظم والاستنكاف الكبر مع الأنفة (ولا الملائكة المقربون) وهم
حملة العرش لا يأنفون أن يكونوا عبيدا لله ويستدل بهذه الآية من يقول بتفضيل الملائكة على البشر لأن الله تعالى ارتقى من عيسى إلى الملائكة ولا يرتقي إلا إلى الأعلى لا يقال لا يستنكف فلان من كذا ولا عبده إنما يقال فلان يستنكف من هذا ولا مولاه ولا حجة لهم فيه لأنه لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام البشر بل ردا على الذين يقولون الملائكة آلهة كما رد على النصارى قولهم المسيح ابن الله وقال رداعلى النصارى بزعمهم فإنهم يقولون بتفضيل الملائكة قوله تعالى (ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) قيل الاستنكاف هو التكبر مع الأنفة والاستكبار هو العلو والتكبر من غير أنفة 173 (فأما الذين آمنوا وعلموا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) من تضعيف ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (وأما الذين استنكفوا واستكبروا) عن عبادته (فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) 174 قوله عز وجل (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم هذا قول أكثر المفسرين وقيل هو القرآن والبرهان الحجة (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) بينا يعني القرآن 175 (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به) امتنعوا به من زيغ الشيطان (فسيدخلهم في رحمة منه وفضل) يعني الجنة (ويهديهم إليه صراطا مستقيما)
503

سورة النساء 176 176 قوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) نزلت في جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل وتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت فقلت يا رسول الله لمن الميراث إنها يرثني كلالة فنزلت (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) وقد ذكر معنى الكلالة وحكم الآية في أول السورة وفي هذه الآية بيان حكم ميراث الأخوة للأب والأم وللأب قوله (يستفتونك) أي يستخبرونك ويسألونك (قل الله يفتيكم في الكلالة) (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها) يعني إذا ماتت الأخت فجميع ميراثها للأخ (إن لم يكن لها ولد) فإن كان لها ابن فلا شيء للأخ وإن كان ولدها أنثى فللأخ ما فضل عن فرض البنات (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) أراد اثنتين فصاعدا وهو أن من مات وله أخوات فلهن الثلثان (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) (يبين الله لكم أن تضلوا) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن رجاء أنا إسرائيل عن أبي إسحق عن البراء رضي الله عنهم قال آخر سورة نزلت كاملة براءة وآخر سورة نزلت خاتمة سورة النساء (يستفتونك قلالله يفتيكم في الكلالة) وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن آخر آية نزلت آية الربا وآخر سورة نزلت (إذا جاء نصر الله والفتح) وروي عنه أن آخر آية نزلت قوله تعالى (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) وروي بعد ما نزلت سورة النصر عاش النبي صلى الله عليه وسلم عاما ونزلت بعدها سورة براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ستة أشهر ثم نزلت في طريق حجة الوداع (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) فسميت آية الصيف ثم نزلت وهو واقف بعرفة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) فعاش بعدها أحدا وثمانين يوما ثم نزلت آيات الربا ثم نزلت (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما
504