الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ١٢
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
* (إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهدآء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا باياتى ثمنا قليلا ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *.
قوله تعالى: * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) *. اعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى لليهود المنكرين لوجوب الرجم، وترغيب لهم في أن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم والأنبياء المبعوثين إليهم، وفيه مسائل: المسألة الأولى: العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فوجب حصول الفرق بين الهدى والنور، فالهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والتكاليف، والنور بيان للتوحيد والنبوة والمعاد. قال الزجاج * (فيها هدى) * أي بيان الحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه النبي صلى الله عليه وسلم * (ونور) * بيان أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق.
المسألة الثانية: احتج القائلون بأن شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا بهذه الآية؛ وتقريره أنه تعالى قال: إن في التوراة هدى ونورا. والمراد كونه هدى ونورا في أصول الشرع وفروعه، ولو كان منسوخا غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيه هدى ونور، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط، لأنه ذكر الهدى والنور، ولو كان المراد منهما معا هو ما يتعلق بأصول الدين لزم التكرار، وأيضا أن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم، فلا بد وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة في الآية، لأنا وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا، لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها.
2

المسألة الثالثة: قوله * (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) * يريد النبيين الذين كانوا بعد موسى، وذلك أن الله تعالى بعث في بني إسرائيل ألوفا من الأنبياء ليس معهم كتاب، إنما بعثهم بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها. فإن قيل: كل نبي لا بد وأن يكون مسلما، فما الفائدة في قوله * (النبيون الذين أسلموا) *. قلنا فيه وجوه: الأول: المراد بقوله أسلموا) * أي انقادوا لحكم التوراة، فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام. الثاني: قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له، كقوله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة) * (النحل: 120) وقوله * (أم يحسدون الناس) * (النساء: 45) وذلك لأنه كان قد اجتمع فيه من خصال الغير ما كان حاصلا لأكثر الأنبياء. الثالث: قال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون: الأنبياء كلهم يهود أو نصارى، فقال تعالى: * (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) * يعني الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه. الرابع: المراد بقوله * (النبيون الذين أسلموا) * يعني الذين كان مقصودهم من الحكم بالتوراة الإيمان والإسلام وإظهار أحكام الله تعالى والانقياد لتكاليفه، والغرض من التنبيه على قبح طريقة هؤلاء اليهود المتأخرين، فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام. المسألة الرابعة: قوله * (للذين هادوا) * فيه وجهان: الأول: المعنى أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة للذين هادوا، أي لأجلهم وفيما بينهم، والثاني: يجوز أن يكون المعنى على القديم والتأخير على معنى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا.
المسألة الخامسة: أما الربانيون فقد تقدم تفسيره، وأما الأحبار فقال ابن عباس: هم الفقهاء، واختلف أهل اللغة في واحده، قال الفراء: إنما هو " حبر " بكسر الحاء، يقال ذلك للعالم وإنما سمي بهذا الاسم لمكان الحبر الذي يكتب به، وذلك أنه يكون صاحب كتب، وكان أبو عبيدة يقول: حبر بفتح الحاء.
قال الليث: هو حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها. وقال الأصمعي: لا أدري أهو الحبر أو الحبر، وأما اشتقاقه فقال قوم: أصله من التحبير وهو التحسين، وفي الحديث " يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره " أي جماله وبهاؤه، والمحبر للشيء المزين، ولما كان العلم أكل أقسام الفضيلة والجمال والمنقبة لا جرم سمي العالم به. وقال آخرون اشتقاقه من
3

الحبر الذي يكتب به، وهو قول الفراء والكسائي وأبي عبيدة، والله أعلم.
المسألة السادسة: دلت الآية على أنه يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار، وهذا يقتضي كون الربانيين أعلى حالا من الأحبار، فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين، والأحباء كآحاد العلماء. ثم قال: * (بما استحفظوا من كتاب الله) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: حفظ كتاب الله على وجهين: الأول: أن يحفظ فلا ينسى. الثاني: أن يحفظ فلا يضيع، وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين: أحدهما: أن يحفظون في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم، والثاني: أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه. المسألة الثانية: الباء في قوله * (بما استحفظوا من كتاب الله) * فيه وجهان: الأول: أن يكون صلة الأحبار على معنى العلماء بما استحفظوا. الثاني: أن يكون المعنى يحكمون بما استحفظوا، وهو قول الزجاج. ثم قال تعالى: * (وكانوا عليه شهداء) * أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله، فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها عن التحريف والتغيير.
ثم قال تعالى: * (فلا تخشوا الناس واخشوني) * واعلم أنه تعالى لما قرر أن النبيين والربانيين والأحبار كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة، خاطب اليهود الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعهم من التحريف والتغيير.
واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بد وأن يكون لخوف ورهبة، أو لطمع ورغبة، ولما كان الخوف أقوى تأثيرا من الطمع قدم تعالى ذكره فقال: * (فلا تخشوا النساء واخشون) * والمعنى إياكم وأن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم، فلا تكونوا خائفين من الناس، بل
4

كونوا خائفين مني ومن عقابي. ولما ذكر أمر الرهبة اتبعه بأمر الرغبة، فقال * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة، فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل، والرشوة التي تأخذونها منهم في غاية القلة، والرشوة لكونها سحتا تكون قليلة البركة والبقاء والمنفعة، فكذلك المال الذي تكتسبونه قليل من قليل، ثم أنتم تضيعون بسببه الدين والثواب المؤبد، والسعادات التي لا نهاية لها. ويحتمل أيضا أن يكون إقدامهم على التحريف والتبديل لمجموع الأمرين، للخوف من الرؤساء ولأخذ الرشوة من العامة، ولما منعهم الله من الأمرين على ما في كل واحد منهما من الدناءة والسقوط كان ذلك برهانا قاطعا في المنع من التحريف والتبديل. ثم إنه أتبع هذا البرهان الباهر بالوعيد الشديد فقال: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: المقصود من هذا الكلام تهديد اليهود في إقدامهم على تحريف حكم الله تعالى في حد الزاني المحصن، يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة وقالوا: إنه غير واجب، فهم كافرون على الاطلاق، لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى والتوراة ولا بمحمد والقرآن. المسألة الثانية: قالت الخوارج: كل من عصى الله فهو كافر. وقال جمهور الأئمة: ليس الأمر كذلك، أما الخوارج فقد احتجوا بهذه الآية وقالوا: إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله، فوجب أن يكون كافرا. وذكر المتكلمون والمفسرون أجوبة عن هذه الشبهة: الأول: أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم، وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومنهم من حاول دفع هذا السؤال فقال: المراد ومن لم يحكم من هؤلاء الذين سبق ذكرهم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وهذا أيضا ضعيف لأن قوله * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * كلام أدخل فيه كلمة * (من) * في معرض الشرط، فيكون للعموم. وقول من يقول: المراد ومن لم يحكم بما أنزل الله من الذين سبق ذكرهم فهو زيادة في النص وذلك غير جائز. الثاني: قال عطاء: هو كفر دون
5

كفر. وقال طاوس: ليس بكفر ينقل عن الملة كمن يكفر بالله واليوم الآخر، فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين، وهو أيضا ضعيف، لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين. والثالث: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعنى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار، ويشبه من أجل ذلك الكافرين، وهذا ضعيف أيضا لأنه عدول عن الظاهر. والرابع: قال عبد العزيز بن يحيى الكناني: قوله * (بما أنزل الله) * صيغة عموم، فقوله * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وهذا حق لأن الكافر هو الذي أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله، أما الفاسق فإنه لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل، وهو العمل، أما في الاعتقاد والاقرار فهو موافق، وهذا أيضا ضعيف لأنه لو كانت هذه الآية وعيدا مخصوصا بمن خالف حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم، وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله تعالى في واقعة الرجم، فيدل على سقوط هذا الجواب، والخامس: قال عكرمة: قوله * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية، وهذا هو الجواب الصحيح والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص * (. والمعنى أنه تعالى بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن هو الرجم، واليهود غيروه وبدلوه، وبين في هذه الآية أيضا أنه تعالى بين في التوراة أن النفس بالنفس، وهؤلاء اليهود غيروا هذا الحكم أيضا، ففضلوا بني النضير على بني قريظة، وخصصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير، فهذا هو وجه النظم من الآية، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الكسائي: العين والأنف والأذن والسن والجروح كلها بالرفع، وفيه
6

وجوه: أحدها: العطف على محل * (أن النفس) * لأن المعنى: وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس لأن معنى كتبنا قلنا، وثانيها: أن الكتابة تقع على مثل هذه الجمل تقول: كتبت (الحمد لله) وقرأت (سورة أنزلناها) وثالثها: أنها ترتفع على الاستئناف، وتقديره: أن النفس مقتولة بالنفس والعين مفقوءة بالعين، ونظيره قوله تعالى في هذه السورة * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) * (البقرة: 62) وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بنصف الكل سوى * (الجروح) * فإنه بالرفع، فالعين والأنف والأذن نصب عطفا على النفس، ثم * (الجروح) * مبتدأ، و * (قصاص) * خبره، وقرأ نافع وعاصم وحمزة كلها بالنصب عطفا لبعض ذلك على بعض، وخبر الجميع قصاص، وقرأ نافع * (الأذن) * بسكون الذال حيث وقع، والباقون بالضم مثقلة، وهما لغتان.
المسألة الثانية: قال ابن عباس: يريد وفرضنا عليهم في التوراة أن النفس بالنفس، يريد من قتل نفسا بغير قود قيد منه، ولم يجعل الله له دية في نفس ولا جرح، إنما هو العفو أو القصاص. وعن ابن عباس: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت هذه الآية، وأما الأطراف فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة، وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضا في الأطراف، ولما ذكر الله تعالى بعض الأعضاء عمم الحكم في كلها فقال * (والجروح قصاص) * وهو كل ما يمكن أن يقتص منه، مثل الشفتين والذكر والأنثيين والأنف والقدمين واليدين وغيرها، فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رض في لحم، أو كسر في عظم، أو جراحة في بطن يخاف منه التلف ففيه أرش وحكومة. واعلم أن هذه الآية دالة على أن هذا كان شرعا في التوراة، فمن قال: شرع من
قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ بالتفصيل قال: هذه الآية حجة في شرعنا، ومن أنكر ذلك قال: إنها ليست بحجة علينا. المسألة الثالثة: * (قصاص) * هاهنا مصدر يراد به المفعول، أي والجروح متقاصة بعضها ببعض.
ثم قال تعالى: * (فمن تصدق به فهو كفارة له) * الضمير في قوله * (له) * يحتمل أن يكون عائدا إلى العافي أو إلى المعفو عنه، أما الأول فالتقدير أن المجروح أو ولي المقتول إذا عفا كان ذلك كفارة له، أي للعافي ويتأكد هذا بقوله تعالى في آية القصاص 3 في سورة البقرة * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (البقرة: 237)
7

ويقرب منه قوله صلى الله عليه وسلم: " أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس " وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه " وهذا قول أكثر المفسرين. والقول الثاني: أن الضمير في قوله * (فهو كفارة له) * عائد إلى القاتل والجارح، يعني أن المجني عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفارة للجاني، يعني لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما المجني عليه الذي عفا فأجره على الله تعالى. ثم قال تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) * وفيه سؤال، وهو أنه تعالى قال أولا: * (فأولئك هم الكافرون) * (المائدة: 44) وثانيا: * (هم الظالمون) * والكفر أعظم من الظلم، فلما ذكر أعظم التهديدات أولا، فأي فائدة في ذكر الأخف بعده؟ وجوابه: أن الكفر من حيث أنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس، ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق سبحانه، وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه.
قوله تعالى
* (وقفينا على ءاثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونورا ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين) *.
قفيته: مثل عقبته إذا اتبعته، ثم يقال: عقبته بفلان وقفيته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء. فإن قيل: فأين المفعول الأول في الآية؟ قلنا: هو محذوف، والظرف وهو قوله * (على آثارهم) * كالساد مسده، لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، والضمير في * (آثارهم) * للنبيين في قوله * (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) * (المائدة: 44) وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى وصف عيسى ابن مريم بكونه مصدقا لما بين يديه من التوراة،
8

وإنما يكون كذلك إذا كان عمله على شريعة التوراة، ومعلوم أنه لم يكن كذلك، فإن شريعة عيسى عليه السلام كانت مغايرة لشريعة موسى عليه السلام، فلذلك قال في آخر هذه الآية * (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) * (المائدة: 47) فكيف طريق الجمع بين هذين الأمرين؟
والجواب: معنى كون عيسى مصدقا للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزل من عند الله، وأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود النسخ. السؤال الثاني: لم كرر قوله * (مصدقا لما بين يديه) * والجواب: ليس فيه تكرار لأن في الأول: أن المسيح يصدق التوراة، وفي الثاني: الإنجيل يصدق التوراة. السؤال الثالث: أنه تعالى وصف الإنجيل بصفات خمسة فقال: * (فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين) * وفيه مباحثات ثلاثة: أحدها: ما الفرق بين هذه الصفات الخمسة: وثانيها: لم ذكر الهدى مرتين؟، وثالثها: لم خصصه بكونه موعظة للمتقين؟ والجواب على الأول: أن الإنجيل هدى بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه، وبراءة الله تعالى عن الصاحبة والولد والمثل والضد، وعلى النبوة وعلى المعاد، فهذا هو المراد بكونه هدى، وأما كونه نورا، فالمراد به كونه بيانا للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف، وأما كونه مصدقا لما بين يديه، فيمكن حمله على كونه مبشرا بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبمقدمه وأما كونه هدى مرة أخرى فلأن اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم سبب لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولما كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله تعالى مرة أخرى تنبيها على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان هذى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجا إلى البيان والتقرير، وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة وإنما خصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما في قوله * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2). السؤال الرابع: قوله في صفة الإنجيل * (ومصدقا لما بين يديه) * عطف على ماذا؟ الجواب: أنه عطف على محل * (فيه هدى) * ومحله النصب على الحال، والتقدير: وآتيناه الإنجيل حال كونه هدى ونورا ومصدقا لما بين يديه.
ثم قال تعالى: * (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) * قرأ حمزة * (وليحكم) * بكسر اللام وفتح
9

الميم، جعل اللام متعلقة بقوله * (وآتيناه الإنجيل) * (المائدة: 46) لأن إيتاء الإنجيل إنزال ذلك عليه، فكان المعنى آتيناه الإنجيل ليحكم، وأما الباقون فقرؤا بجزم اللام والميم على سبيل الأمر، وفيه وجهان: الأول: أن يكون التقدير: وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، فيكون هذا إخبارا عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل، ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله * (وكتبنا وقفينا) * يدل عليه، وحذف القول كثير كقوله تعالى: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) * (الرعد: 23) أي يقولون سلام عليكم، والثاني: أن يكون قوله * (وليحكم) * ابتداء أمر للنصارى بالحكم في الإنجيل. فإن قيل: كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن؟ قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن المراد ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول الأصم. والثاني: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، مما لم يصر منسوخا بالقرآن، والثالث: المراد من قوله * (وليحكم أهل الإنجيل بم أنزل الله فيه) * زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره مثل ما فعله اليهود من إخفاء أحكام التوراة، فالمعنى بقوله * (وليحكم) * أي وليقر أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجه الذي أنزله الله فيه من غير تحريف ولا تبديل. ثم قال تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) * واختلف المفسرون، فمنهم من
جعل هذه الثلاثة، أعني قوله (الكافرون والظالمون الفاسقون) صفت لموصوف واحد. قال القفال: وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة بلفظ ما يوجب القدح في المعنى، بل هو كما يقال: من أطاع الله فهو المؤمن، من أطاع الله فهو البر، من أطاع الله فهو المتقي، لأن كل ذلك صفات مختلفة حاصلة لموصوف واحد. وقال آخرون: الأول: في الجاحد، والثاني والثالث: في المقر التارك. وقال الأصم: الأول والثاني: في اليهود، والثالث: في النصارى.
ثم قال تعالى: * (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب) * وهذا خطاب مع محمد صلى الله عليه وسلم، فقوله * (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق) * أي القرآن، وقوله * (مصدقا لما بين يديه من الكتاب) * أي كل كتاب نزل من السماء سوى القرآن.
وقوله * (ومهيمنا عليه) * فيه مسائل:
10

المسألة الأولى: في المهيمن قولان: الأول: قال الخليل وأبو عبيدة: يقال قد هيمن إذا كان رقيبا على الشيء وشاهدا عليه حافظا. قال حسان: فإن الكتاب مهيمن لنبينا * والحق يعرفه ذوو الألبب
والثاني: قالوا: الأصل في قولنا: آمن يؤمن فهو مؤمن، أأمن يؤامن فهو مؤامن بهمزتين، ثم قبلت الأولى هاء كما في: هرقت وأرقت، وهياك وإياك، وقبلت الثانية ياء فصار مهيمنا فلهذا قال المفسرون * (ومهيمنا عليه) * أي أمينا على الكتب التي قبله. المسألة الثانية: إنما كان القرآن مهيمنا على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخا البتة، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف على ما قال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9) وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق صدق باقية أبدا، فكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبدا. المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف " قرىء * (ومهيمنا عليه) * بفتح الميم لأنه مشهود عليه من عند الله تعالى: بأن يصونه عن التحريف والتبديل لما قررنا من الآيات، ولقوله * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * (فصلت: 42) والمهيمن عليه هو الله تعالى. ثم قال تعالى: * (فاحكم بينهم بما أنزل الله) * يعني فاحكم بين اليهود بالقرآن والوحي الذي نزله الله تعالى عليك. * (ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: * (ولا تتبع) * يريد ولا تنحرف، ولذلك عداه بعن، وكأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم. المسألة الثانية: روي أن جماعة من اليهود قالوا: تعالوا نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلنا نفتنه عن دينه، ثم دخلوا عليه وقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم، وإنا إن اتبعناك اتبعك كل اليهود، وإن بيننا وبين خصومنا حكومة فنحاكمهم إليك، فاقض لنا ونحن نؤمن بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
11

المسألة الثالثة: تمسك من طعن في عصمة الأنبياء بهذه الآية وقال: لولا جواز المعصية عليهم وإلا لما قال: * (ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) *. والجواب: أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي. وقيل: الخطاب له والمراد غيره. ثم قال تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: لفظ (الشرعة: في اشتقاقه وجهان: الأول: معنى شرع بين وأوضح. قال ابن لسكيت: لفظ الشرع مصدر: شرعت الإهاب، إذا شققته وسلخته. الثاني: شرع مأخوذ من الشروع في الشيء وهو الدخول فيه، والشريعة في كلام العرب المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون منها، فالشريعة فعلية بمعنى المفعولة، وهي الأشياء التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها، وأما المنهاج فهو الطريق الواضح، يقال: انهجب لك الطريق وأنهجب لغتان. المسألة الثانية: احتج أكثر العلماء بهذه الآية على أن شرع من قبلنا لا يلزمنا، لأن قوله * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * يدل على أنه يجب أن يكون كل رسول مستقلا بشريعة خاصة، وذلك ينفي كون أمة أحد الرسل مكلفة بشريعة الرسول الآخر. المسألة الثالثة: وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء والرسل، وآيات دالة على حصول التباين فيها. أما النوع الأول: فقوله: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) * (الشورى: 13) إلى قوله * (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) * (الشورى: 13) وقال * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90). وأما النوع الثاني: فهو هذه الآية، وطريق الجمع أن نقول: النوع الأول من الآيات مصروف إلى ما يتعلق بأصول الدين، والنوع الثاني مصروف إلى ما يتعلق بفروع الدين. المسألة الرابعة: الخطاب في قوله * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * خطاب للأمم الثلاث: أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد عليهم السلام، بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قوله * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) * (المائدة: 44) ثم قال * (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم) * (المائدة: 46) ثم قال * (وأنزلنا إليك الكتاب) * (المائدة: 48). ثم قال: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * يعني شرائع مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة. المسألة الخامسة: قال بعضهم: الشرعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد، والتكرير للتأكيد
12

والمراد بهما الدين. وقال آخرون: بينهما فرق، فالشرعة عبارة عن مطلق الشريعة، والطريقة عبارة عن مكارم الشريعة، وهي المراد بالمنهاج، فالشريعة أول، والطريقة آخر. وقال المبرد: الشريعة ابتداء الطريقة، والطريقة المنهاج المستمر، وهذا تقرير ما قلناه. والله أعلم بأسرار كلامه. ثم قال تعالى: * (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) * أي جماعة متفقة على شريعة واحدة، أو ذوي أمة واحدة، أي دين واحد لا اختلاف فيه. قال الأصحاب: هذا يدل على أن الكل بمشيئة الله تعالى والمعتزلة حملوه على مشيئة الالجاء. ثم قال تعلى: * (ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) * من الشرائع المختلفة، هل تعملون بها منقادين لله خاضعين لتكاليف الله، أم تتبعون الشبه وتقصرون في العمل. * (فاستبقوا الخيرات) * أي فابدروها وسابقوا نحوها.
* (إلى الله مرجعكم جميعا) * استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات. * (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) * فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وموفيكم ومقصركم في العمل، والمراد أن الأمر سيؤول إلى ما يزول معه الشكوك ويحصل مع اليقين، وذلك عند مجازاة المحسن بإحسانه والمسئ
بإساءته.
ثم قال تعالى: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: فإن قيل: قوله: * (وأن احكم بينهم) * معطوف على ماذا؟ قلنا: على * (الكتاب) * في قوله * (وأنزلنا إليك الكتاب) * (المائدة: 48) كأنه قيل: وأنزلنا إليك أن أحكم
13

و * (أن) * وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال، ويجوز أن يكون معطوفا على قوله * (بالحق) * (المائدة: 48) أي أنزلناه بالحق وبأن أحكم، وقوله: * (ولا تتبع أهواءهم) * قد ذكرنا أن اليهود اجتمعوا وأرادوا إيقاعه في تحريف دينه فعصمه الله تعالى عن ذلك. المسألة الثانية: قالوا: هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله * (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) * (المائدة: 42). المسألة الثالثة: أعيد ذكر الأمة بالحكم بعد ذكره في الآية الأولى إما للتأكيد، وإما لأنهما حكمان أمر بهما جميعا، لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصن، ثم احتكموا في قتيل كان فيهم. ثم قال تعالى: * (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) *. قال ابن عباس: يريد به يردوك إلى أنوائهم، فإن كل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن، ومنه قوله * (وإن كادوا ليفتنونك) * (الإسرار: 73) والفتنة ههنا في كلامهم التي تميل عن الحق وتلقى في الباطل وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " أعوذ بك من فتنة المحيا " قال هو أن يعدل عن الطريق. قال أهل العلم: هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائزان على الرسول، لأن الله تعالى قال: * (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) * والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسول، فلم يبق إلا الخطأ والنسيان. ثم قال تعالى: * (فإن تولوا) * أي فإن لم يقبلوا حكمك * (فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: المراد يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا، وهو أن يسلطك عليهم، ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء، وإنما خص الله تعالى بعض الذنوب لأن القوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم، وكان مجازاتهم بالبعض كافيا في إهلاكهم والتدمير عليهم، والله أعلم. المسألة الثانية: دلت الآية على أن الكل بإرادة الله تعالى، لأنه لا يريد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم إلا وقد أراد ذنوبهم، وذلك يدل على أنه تعالى مريد للخير والشر. ثم قال تعالى: * (وإن كثيرا من الناس لفاسقون) * لمتمردون في الكفر معتدون فيه، يعني أن التولي عن حكم الله تعالى من التمرد العظيم ولاعتداء في الكفر.
ثم قال تعالى: * (أفحكم الجاهلية يبغون) *
14

وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن عامر * (تبغون) * بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على المغايبة، وقرأ المسلمي * (أفحكم الجاهلية) * برفع الحكم على الابتداء، وإيقاع * (يبغون) * خبرا وإسقاط الراجع عنه لظهوره، وقرأ قتادة * (أبحكم الجاهلية) * والمراد أن هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به حكام بالجاهلية، فأرادوا بشهيتهم أن يكون محمد خاتم النبيين حكما كأولئك الحكام. المسألة الثانية: في الآية وجهان: الأول: قال مقاتل: كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمدا عليه الصلاة والسلام، فلما بعث تحاكموا إليه، فقالت بنو قريظة: بنو النضير إخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، وكتابنا واحد، فإن قتل بنو النضير منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإن قتلنا منهم واحدا أخذوا منا مائة وأربعين وسقا من تمر، وأروش جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم، فقال عليه السلام: فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضري، ودم النضري وفاء من دم القرظي، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل، ولا جراحة، فغضب بنو النضير وقالوا: لا نرضى بحكمك فإنك عدو لنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية * (أفحكم الجاهلية يبغون) * يعني حكمهم الأول. وقيل: إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه، وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به، فمنعهم الله تعالى منه بهذه الآية، الثاني: أن المراد بهذه الآية أن يكون تعييرا لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم مع أنهم يبغون حكم الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى. ثم قال تعالى: * (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) * اللام في قوله * (لقوم يوقنون) * للبيان كاللام في * (هيت لك) * (يوسف: 23) أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكما، ولا أحسن منه بيانا.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين) *
اعلم أنه تم الكلام عند قوله * (أولياء) * ثم ابتدا فقال * (بعضهم أولياء بعض) * وروي أن عبادة بن الصامت جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبرأ عنده من موالاة اليهود، فقال عبد الله بن
15

أبي: لكني لا أتبرأ منهم لأني أخاف الدوائر، فنزلت هذه الآية، ومعنى لا تتخذوهم أولياء: أي لا تعتمدوا على الاستنصار بهم، ولا تتوددوا إليهم. ثم قال: * (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) * قال ابن عباس: يريد كأنه مثلهم، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانية المخالف في الدين، ونظيره قوله * (ومن لم يطعمه فإنه مني) * (البقرة: 249).
ثم قال: * (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي كاتبا نصرانيا، فقال: مالك قاتلك الله، ألا اتخذت حنيفا، أما سمعت قول الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) * قلت: له دينه ولي كتابته، فقال: لا أكرمهم إذا أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله، قلت: لا يتم أمر البصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام، يعني هب أنه قد مات فما تصنع بعده، فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره.
ثم قال تعالى: * (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) * وأعلم أن المراد بقوله * (الذين في قلوبهم مرض) * المنافقون: مثل عبد الله بن أبي وأصحابه، وقوله * (يسارعون فيهم أي يسارعون في مودة اليهود ونصارى نجران، لأنهم كانوا أهل ثروة وكانوا يعينونهم على مهماتهم ويقرضونهم
، ويقول المنافقون: إنما نخالطهم لأنا نخشى أن تصيبنا دائرة. قل الواحدي رحمه الله: الدائرة من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة هي التي تخشى، كالهزيمة والحوادث المخوفة، فالدوائر تدور، والدوائل تدول. قال الزجاج: أي نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم فيدور الأمر كما كان قبل ذلك.
ثم قال تعالى: * (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) *.
قال المفسرون (عسى) من الله واجب، لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله، فهو بمنزلة الوعد لتعلق النفس به ورجائها له، والمعنى: فعسى الله أن يأتي بالفتح لرسول الله على أعدائه وإظهار
16

المسلمين على أعدائهم، أو أمر من عنده يقطع أصل اليهود أو يخرجهم عن بلادهم فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم، وذلك لأنهم كانوا يشكون في أمر الرسول ويقولون: لا نظن أنه يتم له أمره، والأظهر أن تصير الدولة والغلبة لأعدائه. وقيل: أو أمر من عنده، يعني أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم فيندموا على فعالهم. فإن قيل: شرط صحة التقسيم أن يكون ذلك بين قسمين متنافيين، وقوله * (عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) * ليس كذلك، لأن الاتيان بالفتح داخل في قوله * (أو أمر من عنده) *. قلنا: قوله * (أو أمر من عنده) * معناه أو أمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل البتة، كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير محاربة ولا عسكر
ثم قال تعالى:
* (ويقول الذين ءامنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) *
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر * (يقول) * بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والشام، والباقون بالواو، وكذلك هي في مصاحف أهل العراق. قال الواحدي رحمه الله: وحذف الواو هنا كإثباتها، وذلك لأن في الجملة المعطوفة ذكرا من المعطوف عليها، فإن الموصوف بقوله * (يسارعون فيهم) * (المائدة: 52) هم الذين قال فيهم المؤمنون * (أهؤلاء الذين أقسموا بالله) * فلما حصل في كل واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى حصن العطف بالواو وبغير الواو، ونظيره قوله تعالى: * (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم) * لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر ما تقدم أغنى ذلك عن ذكر الواو، ثم قال: * (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) * (الكهف: 22) فأدخل
17

الواو، فدل ذلك على أن حذف الواو وذكرها جائز. وقال صاحب " الكشاف " حذف الواو على تقدير أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا. واختلفوا في قراءة هذه الآية من وجه آخر، فقرأ أبو عمروا * (ويقول الذين آمنوا) * نصبا على معنى: وعسى أن يقول الذين آمنوا، وأما من رفع فإنه جعل الواو لعطف جملة على جملة، ويدل على قراءة الرفع قراءة من حذف الواو. المسألة الثانية: الفائدة في أن المؤمنين يقولون هذا القول هو أنهم يتعجبون من حال المنافقين عندما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى، وقالوا: إنهم يقسمون بالله جهد أيمانهم معنا ومن أنصارنا، فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا محبين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم؟ المسألة الثالثة: قوله * (حبطت " أعمالهم) * يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، والمعنى ذهب ما أظهروه من الإيمان، وبطل كل خير عملوه لأجل أنهم الآن أظهروا موالاة اليهود والنصارى، فأصبحوا خاسرين في الدنيا والآخرة، فإنه لما بطلت أعمالهم بقيت عليهم المشقة في الإتيان بتلك الأعمال، ولم يحصل لهم شيء من ثمراتها ومنافعها، بل استحقوا اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم) *.
فيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن عامر ونافع * (يرتدد) * بدالين، والباقون بدال واحدة مشددة، والأول: لإظهار التضعيف، والثاني: للإدغام. قال الزجاج: إظهار الدالين هو الأصل لأن الثاني من المضاعف إذا سكن ظهر التضعيف، نحو قوله * (إن يمسسكم قرح) * (آل عمران: 140) ويجوز في اللغة: إن يمسكم. المسألة الثانية: روى صاحب " الكشاف " أنه كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة: ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: بنو مدلج: ورئيسهم ذو الحمار، وهو الأسود العنسي، وكان كاهنا ادعى النبوة في اليمن واستولى على بلادها، وأخرج عمال رسول الله، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن، فأهلكه الله على يد فيروز الديلمي بيته فقتله، وأخبر رسول الله بقتله ليلة قتل، فسر المسلمون، وقبض رسول الله من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول.
18

وبنو حنيفة قوم مسيلمة، ادعى النبوة وكتب إلى رسول الله: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، فأجابه الرسول: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب: أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام، أراد في جاهليتي وفي إسلامي. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد: ادعى النبوة، فبعث إليه رسول الله خالدا، فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وسبع في عهد أبي بكر: فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر التي ادعت النبوة وزوجت نفسها من مسيلمة الكذاب،
وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وكفى الله أمرهم على يد أبي بكر. وفرقة واحدة في عهد عمر: غسان قوم جبلة بن الأيهم، وذلك أن جبلة أسلم على يد عمر، وكان يطوف ذات يوم جارا رداءه، فوطئ رجل طرف ردائه فغضب فلطمه، فتظلم إلى عمر فقضى له بالقصاص عليه، إلا أن يعفو عنه، فقال: أن أشتريها بألف، فأبى الرجل، فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف، فأبى الرجل إلا القصاص، فاستنظر عمر فأنظره عمر فهرب إلى الروم وارتد. المسألة الثالثة: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا من يتول منكم الكفار فيرتد عن دينه فليعلم أن الله تعالى يأتي بأقوام آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه. وقال الحسن رحمه الله: علم الله أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم، فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخبارا عن الغيب، وقد وقع المخبر على وفقه فيكون معجزا. المسألة الرابعة: اختلفوا في أن أولئك القوم من هم؟ فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضحاك وابن جريح: هم أبو بكر وأصحابه لأنهم هم الذين قاتلوا أهل الردة. وقالت عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب، واشتهر النفاق، ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهضابها. وقال السدي: نزلت الآية في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا الرسول وأعانوه على إظهار الدين. وقال نجاهد: نزلت في أهل اليمن. وروي مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال: هم قوم هذا. وقال آخرون: هم الفرس لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن هذه الآية ضرب بيده
19

على عاتق سلمان وقال: هذا وذووه، ثم قال: " لو كان الدين معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس ". وقال قوم: إنها نزلت في علي عليه السلام، ويدل عليه وجهان: الأول: أنه عليه السلام لما دفع الراية إلى علي عليه السلام يوم خيبر قال: " لأدفعن الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله "، وهذا هو الصفة المذكورة في الآية. والوجه الثاني: أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) * (المائدة: 55) وهذه الآية في حق علي، فكان الأولى جعل ما قبلها أيضا في حقه، فهذه جملة الأقوال في هذه الآية. ولنا في هذه الآية مقامات: المقام الأول: أن هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية من الروافض، وتقرير مذهبهم أن الذين أقرنا بخلافة أبي بكر وإمامته كلهم كفروا وصاروا مرتدين، لأنهم أنكروا النص الجلي على إمامة علي عليه السلام فنقول: " لو كان كذلك لجاء الله تعالى بقوم يحاربهم ويقهرهم ويردهم ويبطل شوكتهم، فلو كان الذين نصبوا أبا بكر للخلافة كذلك لوجب بحكم الآية أن يأتي الله بقوم يقهرهم ويبطل مذهبهم، ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن الروافض هم المقهورون الممنوعون عن إظهار مقالاتهم الباطلة أبدا منذ كانوا علمنا فساد مقالتهم ومذهبهم، وهذا كلام ظاهر لمن أنصف. المقام الثاني: أنا ندعي أن هذه الآية يجب أن يقال: إنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه والدليل عليه وجهان: الأول: أن هذه الآية مختصة بمحاربة المرتدين، وأبو بكر هو الذي تولى محاربة المرتدين على ما شرحنا، ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه السلام لأنه لم يتفق له محاربة المرتدين، ولأنه تعالى قال * (فسوف يأتي الله) * وهذا للاستقبال لا للحال، فوجب أن يكون هؤلاء القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب. فإن قيل: هذا لازم عليكم لأن أبا بكر رضي الله عنه كان موجودا في ذلك الوقت. قلنا: الجواب من وجهين: الأول: أن القوم الذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردة ما كانوا موجودين في الحال، والثاني: أن معنى الآية أن الله تعالى قال: فسوف يأتي الله بقوم قادرين متمكنين من هذا الحراب، وأبو بكر وإن كان موجودا في ذلك الوقت إلا أنه ما كان مستقلا في ذلك الوقت
20

بالحراب والأمر والنهي، فزال السؤال، فثبت أنه لا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن أيضا أن يكون المراد هو علي عليه السلام، لأن عليا لم يتفق له قتال مع أهل الردة، فكيف تحمل هذه الآية عليه.
فإن قالوا: بل كان قتاله مع أهل الردة لأن كل من نازعه في الإمامة كان مرتدا. قلنا: هذا باطل من وجهين: الأول: أن اسم المرتد إنما يتناول من كان تاركا للشرائع الإسلامية، والقوم الذين نازعوا عليا ما كانوا كذلك في الظاهر، وما كان أحد يقول: إنه إنما يحاربهم لأجل أنهم خرجوا عن الإسلام، وعلي عليه السلام لم يسمهم البتة بالمرتدين، فهذا الذي يقوله هؤلاء الروافض لعنهم الله بهت على جميع المسلمين وعلى علي أيضا. الثاني: أنه لو كان كل من نازعه في الإمامة كان مرتدا لزم في أبي بكر وفي قومه أن يكونوا مرتدين، ولو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويردونهم إلى الدين الصحيح، ولما لم يوجد ذلك البتة علمنا أن منازعة علي في الإمامة لا تكون ردة، وإذا لم تكن ردة لم يمكن حمل الآية على علي، لأنها نازلة فيمن يحارب المرتدين، ولا يمكن أيضا أن يقال: إنها نازلة في أهل اليمن أو في أهل فارس، لأنه لم يتفق لهم محاربة مع المرتدين، وبتقدير أن يقال: اتفقت لهم هذه المحاربة ولكنهم كانوا رعية وأتباعا وأذنابا، وكان الرئيس المطاع الأمر في تلك الواقعة هو أبو بكر، ومعلوم أن حمل الآية على من كان أصلا في هذه العبادة ورئيسا مطاعا فيها أولى من حملها على الرعية والأتباع والأذناب، فظهر بما ذكرنا من الدليل الظاهر أن هذه الآية مختصة بأبي بكر. والوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة بأبي بكر: هو أنا نقول: هب أن عليا كان قد حارب المرتدين، ولكن محاربة أبي بكر مع المرتدين كانت أعلى حالا وأكثر موقعا في الإسلام من محاربة علي مع من خالفه في الإمامة، وذلك لأنه علم بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم لما توفي اضطربت الأعراب وتمردوا، وأن أبا بكر هو الذي قهر مسيلمة وطليحة، وهو الذي حارب الطوائف السبعة المرتدين، وهو الذي حارب مانعي الزكاة، ولما فعل ذلك استقر الإسلام وعظمت شوكته وانبسطت دولته. أما لما انتهى الأمر إلى علي عليه السلام فكان الإسلام قد انبسط في الشرق والغرب، وصار ملوك الدنيا مقهورين، وصار الإسلام مستوليا على جميع الأديان والملل، فثبت أن محاربة أبي بكر رضي الله عنه أعظم تأثيرا في نصرة الإسلام وتقويته من محاربة علي عليه السلام، ومعلوم أن المقصود من هذه الآية تعظيم قوم يسعون في تقوية الدين ونصرة الإسلام، ولما كان أبو بكر هو المتولي لذلك وجب أن يكون هو المراد بالآية.
21

المقام الثالث في هذه الآية: وهو أنا ندعي دلالة هذه الآية على صحة إمامة أبي بكر، وذلك لأنه لما ثبت بما ذكرنا أن هذه الآية مختصة به فنقول: إنه تعالى وصف
الذين أرادهم بهذه الآية بصفات: أولها: أنه يحبهم ويحبونه. فلما ثبت أن المراد بهذه الآية هو أبو بكر ثبت أن قوله * (يحبهم ويحبونه) * وصف لأبي بكر، ومن وصفه الله تعالى بذلك يمتنع أن يكون ظالما، وذلك يدل على أنه كان محقا في إمامته، وثانيها: قوله * (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * وهو صفة أبي بكر أيضا الدليل الذي ذكرناه، ويؤكده ما روي في الخبر المستفيض أنه عليه الصلاة والسلام قال: " ارحم أمتي بأمتي أبو بكر " فكان موصوفا بالرحمة والشفقة على المؤمنين وبالشدة مع الكفار، ألا ترى أن في أول الأمر حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة وكان في غاية الضعف كيف كان يذب عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف كان يلازمه ويخدمه، وما كان يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم، وفي آخر الأمر أعني وقت خلافته كيف لم يلتفت إلى قول أحد، وأصر على أنه لا بد من المحاربة مع مانعي الزكاة حتى آل الأمر إلى أن خرج إلى قتال القوم وحده، حتى جاء أكابر الصحابة وتضرعوا إليه ومنعوه من الذهاب، ثم لما بلغ بعث العسكر إليهم انهزموا وجعل الله تعالى ذلك مبدأ لدولة الإسلام، فكان قوله * (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * لا يليق إلا به، وثالثها: قوله * (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) * فهذا مشترك فيه بين أبي بكر وعلي، إلا أن حظ أبي بكر فيه أتم وأكمل، وذلك لأن مجاهدة أبي بكر مع الكفار كانت في أول البعث، وهناك الإسلام كان في غاية الضعف، والكفر كان في غاية القوة، وكان يجاهد الكفار بمقدار قدرته، ويذب عن رسول الله بغاية وسعه، وأما علي عليه السلام فإنه إنما شرع في الجهاد يوم بدر وأحد، وفي ذلك الوقت كان الإسلام قويا وكانت العساكر مجتمعة، فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي من وجهين: الأول: أنه كان متقدما عليه في الزمان، فكان أفضل لقوله تعالى: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) * (الحديد: 10) والثاني: أن جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهاد علي كان في وقت القوة، ورابعها: قوله * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) * وهذا لائق بأبي بكر لأنه متأكد بقوله تعالى: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) * (النور: 22) وقد بينا أن هذه الآية في أبي بكر، ومما يدل على أن جميع هذه الصفات لأبي بكر أنا بينا بالدليل أن هذه الآية لا بد وأن تكون في أبي بكر، ومتى كان الأمر كذلك كانت هذه الصفات لا بد وأن تكون لأبي بكر، وإذا ثبت هذا وجب القطع بصحة إمامته، إذ لو كانت إمامته باطلة لما كانت هذه الصفات لائقة به.
22

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه كان موصوفا بهذه الصفات حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد وفاته لما شرع في الإمامة زالت هذه الصفات وبطلت. قلنا: هذا باطل قطعا لأنه تعالى قال: * (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) * فأثبت كونهم موصوفين بهذه الصفة حال إتيان الله بهم في المستقبل، وذلك يدل على شهادة الله له بكونه موصوفا بهذه الصفات حال محاربته مع أهل الردة، وذلك هو حال إمامته، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على صحة إمامته، أما قول الروافض لعنهم الله: إن هذه الآية في حق علي رضي الله عنه بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " وكان ذلك هو علي عليه السلام، فنقول: هذا الخبر من باب الآحاد، وعندهم لا يجوز التمسك به في العمل، فكيف يجوز التمسك به في العلم، وأيضا إن إثبات هذه الصفة لعلي لا يوجب انتفاءها عن أبي بكر، وبتقدير أن يدل على ذلك لكنه لا يدل على انتفاء ذلك المجموع عن أبي بكر، ومن جملة تلك الصفات كونه كرارا غير فرار، فلما انتفى ذلك عن أبي بكر لم يحصل مجموع تلك الصفات له، فكفى هذا في العمل بدليل الخطاب، فأما انتفاء جميع تلك الصفات فلا دلالة في اللفظ عليه، فهو تعالى إنما أثبت هذه الصفة المذكورة في هذه الآية حال اشتغاله بمحاربة المرتدين بعد ذلك فهب أن تلك الصفة ما كانت حاصلة في ذلك الوقت، فلم يمنع ذلك من حصولها في الزمان المستقبل، ولأن ما ذكرناه تمسك بظاهر القرآن، وما ذكروه تمسك بالخبر المذكور المنقول بالآحاد، ولأنه معارض بالأحاديث الدالة على كون أبي بكر محبا لله ولرسوله. وكون الله محبا له وراضيا عنه. قال تعالى في حق أبي بكر * (ولسوف يرضى) * (الليل: 21) وقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله يتجلى للناس عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة " وقال: " ما صب الله شيئا في صدري إلا وصبه في صدر أبي بكر " وكل ذلك يدل على أنه كان يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
وأما الوجه الثاني: وهو قولهم: الآية التي بعد هذه الآية دالة على إمامة علي فوجب أن تكون هذه الآية نازلة في علي، فجوابنا: أنا لا نسلم دلالة الآية التي بعد هذه الآية على إمامة على وسنذكر الكلام فيه إن شاء الله تعالى، فهذا ما في هذا الموضع من البحث والله أعلم. أما قوله تعالى: * (يحبهم ويحبونه) * فتحقيق الكلام في المحبة ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (والذين آمنوا أشد حبا لله) * (البقرة: 165) فلا فائدة في الإعادة. وفيه دقيقة وهي أنه تعالى قدم محبته لهم على محبتهم له، وهذا حق لأنه لولا أن الله أحبهم وإلا لما وفقهم حتى صاروا محبين له.
ثم قال تعالى: * (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * وهو كقوله * (أشداء على الكفار رحماء
23

بينهم) * (الفتح: 29)
قال صاحب " الكشاف " أذلة جمع ذليل، وأما ذلول فجمعه ذلل، وليس المراد بكونهم أذلة هو أنهم مهانون، بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب، فإن من كان ذليلا عند إنسان فإنه البتة لا يظهر شيئا من التكبر والترفع، بل لا يظهر إلا الرفق واللين فكذا ههنا، فقوله * (أعزة على الكافرين) * أي يظهرون الغلطة والترفع على الكافرين. وقيل: يعازونهم أي يغالبونهم من قولهم: عزه يعزه إذا غلبه، كأنهم مشدون عليهم بالقهر والغلبة. فإن قيل: هلا قيل: أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين. قلنا: فيه وجهان: أحدهما: أن يضمن الذل معنى الرحمة والشفقة، كأنه قيل: راحمين عليهم مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع، والثاني: أنه تعالى ذكر كلمة * (على) * حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم، فيفيد أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم، بل ذاك التذلل إنما كان لأجل أنهم أرادوا أن يضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع. وقرئ (أذلة وأعزة) بالنصب على الحال. ثم قال تعالى: * (يجاهدون في سبيل الله) * أي لنصرة دين الله * (ولا يخافون لومة لائم) * وفيه وجهان: الأول: أن تكون هذه الواو للحال، فإن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم، فبين الله تعالى في هذه الآية أن من كان قويا
في الدين فإنه لا يخاف في نصرة دين الله بيده ولسانه لومة لائم. الثاني: أن تكون هذه الواو للعطف، والمعنى أن من شأنهم أن يجاهدوا في سبيل الله لا لغرض آخر، ومن شأنهم أنهم صلاب في نصرة الدين لا يبالون بلومة اللائمين، واللومة المرة الواحدة من اللوم، والتنكير فيها وفي اللائم مبالغة، كأنه قيل: لا يخافون قط من لوم أحد من اللائمين. ثم قال تعالى: * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) * فقوله * (ذلك) * إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف القوم بالمبة والذلة والعة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة الواحدة، فبين تعالى أن كل ذلك بفضله إحسانه، وذلك صريح في أن طاعات العباد مخلوقة لله تعالى، والمعتزلة يحملون اللفظ على فعل الألطاف، وهو بعيد لأن فعل الألطاف عام في حق الكل، فلا بد في التخصيص من فائدة زائدة. ثم قال تعالى: * (والله واسع عليم) * فالواسع إشارة إلى كمال القدرة، والعليم إشارة إلى كمال العلم، ولما أخبر الله تعالى أنه سيجيء بأقوام هذا شأنهم وصفتهم أكد ذلك بأنه كامل القدرة فلا يعجز عن هذا الموعود، كامل العلم فيمتنع دخول الخلف في أخباره ومواعيده.
24

قوله تعالى
* (إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم راكعون) *.
وجه النظم أنه تعالى لما نهى في الآيات المتقدمة عن موالاة الكفار أمر في هذه الآية بموالاة من يجب موالاته وقال: * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) * أي المؤمنون الموصوفون بالصفات المذكورة، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في قوله * (والذين آمنوا) * قولان: الأول: أن المراد عامة المؤمنين، وذلك لأن عبادة بن الصامت لما تبرأ من اليهود وقال: أنا بريء إلى الله من حلف قريظة والنضير، وأتولى الله ورسوله نزلت هذه الآية يعلى وفق قوله. وروي أيضا أن عبد الله بن سلام قال: يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء، فعلى هذا: الآية عامة في حق كل المؤمنين، فكل من كان مؤمنا فهو ولي كل المؤمنين، ونظيره قوله تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * (التوبة: 71) وعلى هذا فقوله * (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) * صفة لك المؤمنين، والمراد بذكر هذه الصفات تمييز عن المنافقين لأنهم كانوا يدعون الإيمان، إلا أنهم ما كانوا مداومين على الصلوات والزكوات، قال تعالى في صفة صلاتهم * (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) * (التوبة: 54) وقال: * (يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) * (النساء: 142) وقال في صفة زكاتهم * (أشحة على الخير) * (الأحزاب: 19) وأما قوله * (وهم راكعون) * ففيه على هذا القول وجوه: الأول: قال أبو مسلم: المراد من الركوع الخضوع، يعني " أنهم يصلون ويزكون وهم منقادون خاضعون لجميع أوامر الله ونواهيه والثاني: أن يكون المراد: من شأنهم إقامة الصلاة، وخص الركوع بالذكر تشريفا له كما في قوله * (واركعوا مع الراكعين) * (البقرة: 43) والثالث: قال بعضهم: إن أصحابه كانوا عند نزول هذه الآية مختلفون في هذه الصفات، منهم من قد أتم الصلاة، ومنهم من دفع المال إلى الفقير، ومنهم من كان بعد في الصلاة وكان راكعا، فلما كانوا مختلفين في هذه الصفات لا جرم ذكر الله تعالى كل هذه الصفات.
25

القول الثاني: أن المراد من هذه الآية شخص معين، وعلى هذا ففيه أقوال: روى عكرمة أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه. والثاني: روى عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام. روي أن عبد الله بن سلام قال: لما نزلت هذه الآية قلت يا رسول أنا رأيت عليا تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع، فنحن نتولاه. وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فما أعطاني أحد شيئا، وعلي عليه السلام كان راكعا، فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " اللهم إن أخي موسى سألك " فقال: * (رب اشرح لي صدري) * إلى قوله * (وأشركه في أمري) * (طه: 25 - 32) فأنزلت قرآنا ناطقا * (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا) * (القصص: 35) اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري. قال أبو ذر: فوالله ما أتم رسول الله هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال: يا محمد إقرأ * (إنما وليكم الله ورسوله) * إلى أخرها، فهذا مجموع مع يتعلق بالروايات في هذه المسألة. المسألة الثانية: قالت الشيعة: هذه الآية دالة على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب، وتقريره، أن نقول: هذه الآية دالة على أن المراد بهذه الآية إمام، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون ذلك الإمام هو علي بن أبي طالب. بيان المقام الأول: أن الولي في اللغة قد جاء بمعنى الناصر والمحب، كما في قوله * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * (التوبة: 71) وجاء بمعنى المتصرف. قال عليه الصلاة والسلام: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها " فنقول: ههنا وجهان: الأول: أن لفظ الولي جاء بهذين المعنيين ولم يعين الله مراده، ولا منافاة بين المعنيين، فوجب حمله عليهما، فوجب دلالة الآية على أن المؤمنين المذكورين في الآية متصرفون في الأمة. الثاني: أن نقول: الولي في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر، فوجب أن يكون بمعنى المتصرف، وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر، لأن الولاية المذكورة في هذه الآية غير عامة في كل المؤمنين، بدليل أنه تعالى ذكر بكلمة * (إنما) * للحصر، كقوله: * (إنما الله إله واحد) * (النساء: 171) والولاية المذكورة في هذه الآية ليست بمعنى النصرة، وإذا لم تكن بمعنى النصرة كانت بمعنى التصرف، لأنه ليس للولي معنى
26

سوى هذين، فصار تقدير الآية: إنما المتصرف فيكم أيها المؤمنون هو الله ورسوله والمؤمنون الموصوفون بالصفة الفلانية، وهذا يقتضي أن المؤمنين الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه لآية متصرفون في جميع الأمة، ولا معنى للإمام إلا الإنسان الذي يكون متصرفا في كل الأمة، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن الشخص المذكور فيها يجب أن يكون إمام الأمة. أما بيان المقام الثاني: وهو أنه لما ثبت ما ذكرنا وجب أن يكون ذلك الإنسان هو علي بن أبي طالب، وبيانه من وجوه
: الأول: أن كل من أثبت بهذه الآية إمامة شخص قال: إن ذلك الشخص هو علي، وقد ثبت بما قدمنا دلالة هذه الآية على إمامة شخص، فوجب أن يكون ذلك الشخص هو علي، ضرورة أنه لا قائل بالفرق. والثاني: تظاهرت الروايات على أن هذه الآية نزلت في حق علي، ولا يمكن المصير إلى قول من يقول: إنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، لأنها لو نزلت في حقه لدلت على إمامته، وأجمعت الأمة على أن هذه الآية لا تدل على إمامته، فبطل هذا القول، والثالث: أن قوله * (وهم راكعون) * لا يجوز جعله عطفا على ما تقدم، لأن الصلاة قد تقدمت، والصلاة مشتملة على الركوع، فكانت إعادة ذكر الركوع تكرارا، فوجب جعله حالا أي يؤتون الزكاة حال كونهم راكعين، وأجمعوا على أن إيتاء الزكاة حال الركوع لم يكن إلا في حق علي، فكانت الآية مخصوصة به ودالة على إمامته من الوجه الذي قررناه، وهذا حاصل استدلال القوم بهذه الآية على إمامة علي عليه السلام.
والجواب: أما حمل لفظ الولي على الناصر وعلى المتصرف معا فغير جائز، لما ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز حمل اللفظ المشترك على مفهومية معا. أما الوجه الثاني: فنقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من لفظ الولي في هذه الآية الناصر والمحب، ونحن نقيم الدلالة على أن حمل لفظ الولي على هذا المعنى أولى من حمله على معنى المتصرف. ثم نجيب عما قالوه فنقول: الذي يدل على أن حمله على الناصر أولى وجوه: الأول: أن اللائق بما قبل هذه الآية وبما بعدها ليس إلا هذا المعنى، أما ما قبل هذه لآية فلأنه تعالى قال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) * (المائدة: 51) وليس المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرفين في أرواحكم وأموالكم لأن بطلان هذا كالمعلوم بالضرورة، بل المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أحبابا وأنصارا، ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم، ثم لما بالغ في النهي عن ذلك قال: إنما وليكم الله ورسوله والمؤمنون والموصوف، والظاهر أن
27

الولاية المأمور بها ههنا هي المنهي عنها فيما قبل، ولما كانت الولاية المنهي عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النصرة كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النصرة، وأما ما بعد هذه الآية فهي قوله * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله أن كنتم مؤمنين) * (المائدة: 57) فأعاد النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى والكفار أولياء، ولا شك أن الولاية المنهي عنها هي الولاية بمعنى النصرة، فكذلك الولاية في قوله * (إنما وليكم الله) * يجب أن تكون هي بمعنى النصرة، وكل من أنصف وترك التعصب وتأمل في مقدمة الآية وفي مؤخرها قطع بأن الولي في قوله * (إنما وليكم الله) * ليس إلا بمعنى الناصر والمحب، ولا يمكن أن يكون بمعنى الإمام، لأن ذلك يكون إلقاء كلام أجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد، وذلك يكون في غاية الركاكة والسقوط، ويجب تنزيه كلام الله تعالى عنه. الحجة الثانية: أنا لو حملنا الولاية على التصرف والإمامة لما كان المؤمنون المذكورين في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية، لأن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ما كان نافذ التصرف حال حياة الرسول، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنون موصوفين بالولاية في الحال، أما لو حملنا الولاية على المحبة والنصرة كانت الولاية حاصلة في الحال، فثبت أن حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التصرف، والذي يؤكد ما قلناه أنه تعالى منع المؤمنين من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، ثم أمرهم بموالاة هؤلاء المؤمنين، فلا بد وأن تكون موالاة هؤلاء المؤمنين حاصلة في الحال حتى يكون النفي والإثبات متواردين على شيء واحد، ولما كانت الولاية بمعنى التصرف غير حاصلة في الحال امتنع حمل الآية عليها. الحجة الثالثة: أنه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع في سبعة مواضع وهي قوله * (والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) * وحمل ألفاظ الجمع وإن جاز على الواحد على سبيل التعظم لكنه مجاز لا حقيقة، والأصل حمل الكلام على الحقيقة. الحجة الرابعة: أنا قد بينا بالبرهان البين أن الآية المتقدمة وهي قوله * (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) * (المائدة: 54) إلى آخر الآية من أقوى الدلائل على صحة إمامة أبي بكر، فلو دلت هذه الآية على صحة إمامة علي بعد الرسول لزم التناقض بين الآيتين، وذلك باطل، فوجب القطع بأن هذه الآية لا دلالة فيها على أن عليا هو الإمام بعد الرسول.
الحجة الخامسة: أن علي بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض، فلو كانت هذه الآية دالة على إمامته لاحتج بها في محفل من المحافل، وليس للقوم أن يقولوا: إنه
28

تركه للتقية لإنهم ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير، وخبر المباهلة، وجميع فضائله ومناقبه، ولم يتمسك البتة بهذه الآية في إثبات إمامته، وذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض لعنهم الله. الحجة السادسة: هب أنها دالة على إمامة علي، لكنا توافقنا على أنها عند نزولها ما دلت على حصول الإمامة في الحال: لأن عليا ما كان نافذ التصرف في الأمة حال حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يبق إلا أن تحمل الآية على أنها تدل على أن عليا سيصير إماما بعد ذلك، ومتى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه ونحمله على إمامته بعد أبي بكر وعمر وعثمان، إذ ليس في الآية ما يدل على تعيين الوقت، فإن قالوا: الأمة في هذه الآية على قولين: منهم من قال: إنها لا تدل على إمامة علي، ومنهم من قال: إنها تدل على إمامته، وكل من قال بذلك قال: إنها تدل على إمامته بعد الرسول من غير فصل، فالقول بدلالة الآية على إمامة علي لا على هذا الوجه، قول ثالث، وهو باطل لأنا نجيب عنه فنقول: ومن الذين أخبركم أنه ما كان أحد في الأمة قال هذا القول، فإن من المحتمل، بل من الظاهر أنه منذ استدل مستدل بهذه الآية على إمامة علي، فإن السائل يورد على ذلك لاستدلال هذا السؤال، فكان ذكر هذا الاحتمال وهذا السؤال مقرونا بذكر هذا الاستدلال. الحجة السابعة: أن قوله: * (إنما وليكم الله ورسوله) * لا شك أنه خطاب مع الأمة، وهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله، وإنما ذكر الله تعالى هذا الكلام تطييبا لقول المؤمنين وتعريفا لهم بأنه لا حاجة بهم إلى اتخاذ الأحباب والأنصار من الكفار، وذلك لأن من كان الله ورسوله ناصرا له ومعينا له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة من اليهود والنصارى وإذا كان كذلك كان المراد بقوله * (إنما وليكم الله ورسوله) * هو الولاية بمعنى النصرة والمحبة، ولا شك أن لفظ الولي مذكور مرة واحدة، فلما أريد به ههنا معنى النصرة امتنع أن يراد به معنى التصرف لما ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في
مفهوميه معاف.
الحجة الثامنة: أنه تعالى مدح المؤمنين في الآية المتقدمة بقوله * (يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * (المائدة: 54) فإذا حملنا قوله * (إنما وليكم الله ورسوله) * على معنى المحبة والنصرة كان قوله * (إنما وليكم الله ورسوله) * يفيد فائدة قوله * (يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * وقوله * (يجاهدون في سبيل الله) * (المائدة: 54) يفيد فائدة قوله * (يقيمون الصلاة ويؤتون
29

الزكاة وهم راكعون) * (المائدة: 55) فكانت هذه الآية مطابقة لما قبلها مؤكدة لمعناها فكان ذلك أولى، فثبت بهذه الوجوه أن الولاية المذكورة في هذه الآية يجب أن تكون بمعنى النصرة لا بمعنى التصرف.
أما الوجه الذي عولوا عليه وهو أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة، والولاية بمعنى النصرة عامة، فجوابه من وجهين: الأول: لا نسلم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة، ولا نسلم أن كلمة * (إنما) * للحصر، والدليل عليه قوله * (إنما مثل الحياة الدنيا كما أنزلناه من السماء) * (يونس: 24) ولا شك أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثل، وقال * (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) * (محمد: 36) ولا شك أن اللعب واللهو قد يحصل في غيرها. الثاني: لا نسلم أن الولاية بمعنى النصرة عامة في كل المؤمنين، وبيانه أنه تعالى قسم المؤمنين قسمين: أحدهما: الذين جعلهم موليا عليهم وهم المخاطبون بقوله * (إنما وليكم الله) * والثاني: الأولياء، وهم المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، فإذا فسرنا الولاية ههنا بمعنى النصرة كان المعنى أنه تعالى جعل أحد القسمين أنصارا للقسم الثاني. ونصرة القسم الثاني غير حاصلة لجميع المؤمنين، ولو كان كذلك لزم في القسم الذي هم المنصورون أن يكونوا ناصرين لأنفسهم، وذلك محال، فثبت أن نصرة أحد قسمي الأمة غير ثابتة لكل الأمة، بل مخصوصة بالقسم الثاني من الأمة، فلم يلزم من كون الولاية المذكورة في هذه الآية خاصة أن لا تكون بمعنى النصرة، وهذا جواب حسن دقيق لا بد من التأمل فيه. وأما استدلالهم بأن الآية نزلت في حق علي فهو ممنوع، فقد بينا أن أكثر المفسرين زعموا أنه في حق الأمة، والمراد أن الله تعالى أمر المسلم أن لا يتخذ الحبيب والناصر إلا من المسلمين، ومنهم من يقول: إنها نزلت في حق أبي بكر.
وأما استدلالهم بأن الآية مختصة بمن أدى الزكاة في الركوع، وذلك هو علي بن أبي طالب فنقول: هذا أيضا ضعيف من وجوه: الأول: أن الزكاة اسم للواجب لا للمندوب بدليل قوله تعالى * (وأتوا الزكاة) * (البقرة: 43) فلو أنه أدى الزكاة الواجبة في حال كونه في الركوع لكان قد أخر أداء الزكاة الواجب عن أول أوقات الوجوب، وذلك عند أكثر العلماء معصية، وأنه لا يجوز إسناده إلى علي عليه السلام، وحمل الزكاة على الصدقة النافلة خلاف الأصل لما بينا أن قوله * (وآتوا الزكاة) * ظاهرة يدل على أن كل ما كان زكاة فهو واجب. الثاني: هو أن اللائق بعلي عليه السلام أن يكون مستغرق القلب بذكر الله حال ما يكون في الصلاة، والظاهر أن من كان كذلك فإنه لا يتفرغ لاستماع كلام الغير ولفهمه، ولهذا قال تعالى: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا
30

وعلى جنوبهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض) * (آل عمران: 191) ومن كان قبله مستغرقا في الفكر كيف يتفرغ لاستماع كلام الغير. الثالث: أن دفع الخاتم في الصلاة للفقير ولم يكن له مال تجب الزكاة فيه، ولذلك فإنهم يقولون: إنه لما أعطى ثلاثة أقراص نزل فيه سورة * (أهل أتى) * (الإنسان: 1) وذلك لا يمكن إلا إذا كان فقيرا، فأما من كان له مال تجب فيه الزكاة يمتنع أن يستحق المدح العظيم المذكور في تلك السورة على إعطاء ثلاثة أقراص، وإذا لم يكن له مال تجب فيه الزكاة امتنع حمل قوله * (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) * عليه. الوجه الخامس: هب أن المراد بهذه الآية هو علي بن أبي طالب لكنه لم يتم الاستدلال بالآية إلا إذا تم أن المراد بالولي هو المتصرف لا الناصر والمحب، وقد سبق الكلام فيه. المسألة الثالثة: أعلم أن الذين يقولون: المراد من قوله * (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) * هو أنهم يؤتون الزكاة حال كونهم راكعين احتجوا بالآية على أن العمل القليل لا يقطع الصلاة، فإنه دفع الزكاة إلى السائل وهو في الصلاة، ولا شك أنه نوى إيتاء الزكاة وهو في الصلاة، فدل ذلك على أن هذه الأعمال لا تقطع الصلاة، وبقي في الآية سؤالان. السؤال الأول: المذكور في الآية هو الله تعالى ورسوله والمؤمنون، فلم لم يقل: إنما أولياؤكم؟ والجواب: أصل الكلام إنما وليكم الله، فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قيل: إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع، وفي قراءة عبد الله: إنما مولاكم الله. السؤال الثاني: * (الذين يقيمون) * ما محله؟ الجواب: الرفع على البدل من * (الذين آمنوا) * أو يقال: هم الذين يقيمون، أو النصب على المدح، والغرض من ذكره تمييز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان ويكون منافقا، لأن ذلك الإخلاص إنما يعرف بكونه مواظبا على الصلاة في حال الركوع، أي في حال الخضوع والخشوع والإخبات لله تعالى.
ثم قال تعالى
* (ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون) *
31

فيه مسألتان: المسألة الأولى: الحزب في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه، وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبهم، وللمفسرين عبارات. قال الحسن: جند الله، وقال أبو روق: أولياء الله وقال أبو العالية: شيعة الله، وقال بعضهم: أنصار الله. وقال الأخفش: حزب الله الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم. المسألة الثانية: قوله * (فإن حزب الله هم الغالبون) * جملة واقعة موقع خبر المبتدأ، والعائد، غير مذكور لكونه معلوما، والتقدير فهو غالب لكونه من جند الله وأنصاره.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أوليآء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) *
اعلم أنه تعالى نهى في الآية المتقدمة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وساق الكلام في تقريره، ثم ذكر ههنا النهي العام عن موالاة جميع الكفار وهو هذه الآية، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ أبو عمرون والكسائي * (الكفار) * بالجر عطفا على قوله * (من الذين أوتوا الكتاب) * ومن الكفار، والباقون بالنصب عطفا على قوله * (الذين اتخذوا) * بتقدير: ولا الكفار. المسألة الثانية: قيل: كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهر الإيمان ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. المسألة الثالثة: هذه الآية تقتضي امتياز أهل الكتاب عن الكفار لأن العطف يقتضي المغايرة، وقوه * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) * (البينة: 1) صريح في كونهم كفارا، وطريق التوفيق بينهما أن كفر المشركين أعظم وأغلظ، فنحن لهذا السبب نخصصهم باسم الكفر. والله أعلم. المسألة الرابعة: معنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم إظهارهم ذلك باللسان مع الإصرار على الكفر في القلب، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن) * (البقرة: 14) والمعنى أن القوم لما اتخذوا دينكم هزوا وسخرية فلا تتخذوهم أولياء وأنصارا وأحبابا، فإن ذلك الأمر الخارج عن العقل والمروءة.
32

قوله تعالى
* (وإذا ناديتم إلى الصلوة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) *
لما حكى في الآية الأولى عنهم أنهم اتخذوا دين المسلمين هزوا ولعبا ذكر ههنا بعض ما يتخذونه من هذا الدين هزوا ولعبا فقال: * (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: الضمير في قوله * (اتخذوها) * للصلاة أو المناداة. قيل: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن بالمدينة يقول: أشهد أن محمدا رسول الله يقول: أحرق الكاذب، فدخلت خادمته بنار ذات ليلة فتطايرت منها شرارة البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله. وقيل: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي للصلاة وقام المسلمون إليها، فقالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا على طريق الاستهزاء، فنزلت الآية. وقيل: كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس عنها. وقيل: قالوا يا محمد لقد أبدعت شيئا لم يسمع فيما مضى، فإن كنت نبيا فقد خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء، فمن أين لك صياح كصياح العير، فأنزل الله هذه الآية. المسألة الثانية: قالوا: دلت الآية على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده. المسألة الثالثة: قوله * (هزوا ولعبا) * أمران، وذلك لأنهم عند إقامة الصلاة يقولون: هذه الأعمال التي أتينا بها استهزاء بالمسلمين وسخرية منهم، فإنهم يظنون أنا على دينهم مع أنا لسنا كذلك. ولما اعتقدوا أنه ليس فيها فائدة ومنفعة في الدين والدنيا قالوا إنها لعب. ثم قال تعالى: * (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) * أي لو كان لهم عقل كامل لعلموا أن تعظيم الخالق المنعم وخدمته مقرونة بغاية التعظيم لا يكون هزوا ولعبا، بل هو أحسن أعمال العباد وأشرف أفعالهم، ولذلك قال بعض الحكماء: أشرف الحركات الصلاة، وأنفع السكنات الصيام.
قوله تعالى
* (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منآ إلا أن ءامنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون) *
33

اعلم أن وجه النظم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزوا ولعبا قال لهم: ما الذين تنقمون من هذا الدين، وما الذي تجدون فه مما يوجب اتخاذه هزوا ولعبا وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ الحسن * (هل تنقمون) * بفتح القاف، والفصيح كسرها. يقال: نقمت الشيء ونقمته بكسر القاف وفتحها إذا أنكرته، وللمفسرين عبارات: هل تنقمون منا: هل تعيبون هل تنكرون، هل تكرهون. قال بعضهم: سمي العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل. وقال آخرون: الكراهة التي يتبعها سخط من الكاره تسمى نقمة، لأنها تتبعها النقمة التي هي العذاب فعلى القول الأول لفظ النقمة موضوع أولا للمكروه، ثم سمي العذاب نقمة لكونه مكروها، وعلى القول الثاني لفظ النقمة موضوع للعذاب، ثم سمي المنكر والمكروه نقمة لأنه يتبعه العذاب. المسألة الثانية: معنى الآية أنه يقول لأهل الكتاب: لم اتخذتم هذا الدين هزوا ولعبا، ثم قال على سبيل التعجب: هل تجدون في هذا الدين إلا الإيمان بالله والإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بجميع الأنبياء الذين كانوا قبل محمد! يعني أن هذا ليس مما ينقم، أما الإيمان بالله فهو رأس جميع الطاعات، وأما الإيمان بمحمد وبجميع الأنبياء فهو الحق والصدق؛ لأنه إذا كان الطريق إلى تصديق بعض الأنبياء في ادعاء الرسالة والنبوة هو المعجز، ثم رأينا أن المعجز حصل على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب الإقرار بكونه رسولا، فأما الإقرار بالبعض وإنكار البعض فذلك كلام متناقض، ومذهب باطل، فثبت أن الذي نحن عليه هو الدين الحق والطريق المستقيم، فلم تنقموه علينا! قال ابن عباس: إن نفرا من اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال: أؤمن بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل إلى قوله ونحن له مسلمون، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية وما بعدها. وأما قوله * (وأن أكثركم فاسقون) * فالقراءة العامة * (أن) * بفتح الألف، وقرأ نعيم بن ميسرة * (إن) * بالكسر، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: كيف ينقم اليهود على المسلمين مع كون أكثر اليهود فاسقين؟
والجواب من وجوه: الأول: قوله * (وأن أكثركم فاسقون) * تخصيص لهم بالفسق، فيدل على سبيل التعريض أنهم لم يتبعوهم على فسقهم، فكان المعنى: وما تنقمون منا إلا أن آمنا. وما فسقنا مثلكم، الثاني: لما ذكر تعالى ما ينقم اليهود عليهم من الإيمان بجميع الرسل وليس ذلك بما ينعم ذكر في مقابله
34

فسقهم، وهو مما ينقم، ومثل هذا حسن في الازدواج. يقول القائل: هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر، وأني غني وأنت فقير، فيحسن ذلك لإتمام المعنى على سبيل المقابلة. والثالث: أن يكون الواو بمعنى (مع) أي وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله مع أن أكثركم فاسقون، فإن أحد الخصمين إذا كان موصوفا بالصفات الذميمة
واكتسب الثاني شيئا كثيرا من الصفات الحميدة كان اكتسابه للصفات الحميدة مع كون خصمه مكتسبا للصفات الذميمة أشد تأثيرا في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم. والرابع: أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي واعتقاد أنكم فاسقون. الخامس: أن يكون التقدير: وما تنقمون منا إلا بأن آمنا بالله وبأن أكثركم فاسقون، يعني بسبب فسقكم نقمتم الإيمان علينا. السادس: يجوز أن يكون تعليلا معطوفا على تعليل محذوف كأنه قيل: وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم، ولأجل أن أكثركم فاسقون. السؤال الثاني: اليهود كلهم فساق وكفار، فلم خص الأكثر بوصف الفسق؟ والجواب من وجهين: الأول: يعني أن أكثركم إنما يقولون ما يقولون، ويفعلون ما يفعلون طلبا للرياسة والجاه وأخذ الرشوة والتقرب إلى الملوك، فأنتم في دينكم فساق لا عدول، فإن الكافر والمبتدع قد يكون عدل دينه، وقد يكون فاسق دينه، ومعلوم أن كلهم ما كانوا كذلك فلذلك خص أكثرهم بهذا الحكم، والثاني: ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك.
ثم قال تعالى
* (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل) *.
فيه مسائل: المسألة الأولى: قوله * (من ذلك) * إشارة إلى المنقم، ولا بد من حذف المضاف، وتقديره: بشر من أهل ذلك؛ لأنه قال: * (من لعنه الله) * ولا يقال الملعون شر من ذلك الدين،
بل يقال: إنه شر ممن له ذلك الدين.
35

فإن قيل: فهذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوما عليهم بالشر، ومعلوم أنه ليس كذلك. قلنا: إنما خرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم، فإنهم حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر، فقيل لهم: هب أن الأمر كذلك ولكن لعنة الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك. المسألة الثانية: * (مثوبة) * نصب على التمييز، ووزنها مفعلة كقولك: مقولة ومجوزة، وهو بمعنى المصدر، وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول والميسور. فإن قيل: المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف جاءت في الإساءة؟ قلنا: هذا على طريقة قوله * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21) وقول الشاعر: تحية بينهم ضرب وجيع
المسألة الثالثة: * (من) * في قوله * (من لعنه الله) * يحتمل وجهين: الأول: أنه في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، فإنه لما قال: * (قل هل أنبئكم بشر من ذلك) * فكأن قائلا قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله، ونظيره قوله تعالى: * (قل أفأنبكم بشر من ذلكم النار) * (الحج: 72) كأنه قال: هو النار. الثاني: يجوز أن يكون في موضع خفض بدلا من (شر) والمعنى أنبئكم بمن لعنه الله.
المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى ذكر من صفاتهم أنواعا: أولها: أنه تعالى لعنهم، وثانيها: أنه غضب عليهم، وثالثها: أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت. قال أهل التفسير: عنى بالقردة أصحاب السبت، وبالخنازير كفار مائدة عيسى. وروي أيضا أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير.
المسألة الخامسة: ذكر صاحب " الكشاف " في قوله * (وعبد الطاغوت) * أنواعا من القراءات: أحدها: قرأ أبي: وعبدوا الطاغوت، وثانيها: قرأ ابن مسعود: ومن عبدوا، وثالثها: وعابد الطاغوت عطفا على القردة، ورابعها: وعابدي، وخامسها: وعباد، وسادسها: وعبد، وسابعها: وعبد، بوزن حطم، وثامنها: وعبيد، وتاسعها: وعبد بضمتين جميع عبيد، وعاشرها: وعبدة بوزن كفرة، والحادي عشر: وعبد، وأصله عبدة، فحذفت التاء للإضافة، أو هو كخدم في جمع خادم، والثاني عشر: عبد، والثالث عشر: عباد، والرابع عشر: وأعبد، والخامس عشر: وعبد الطاغوت على البناء للمفعول، وحذف الراجع، بمعنى وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم، والسادس عشر: وعبد الطاغوت، بمعنى صار الطاغوت معبودا من دون الله تعالى، كقولك: أمر إذا صار أميرا، والسابع عشر: قرأ حمزة: عبد الطاغوت بفتح العين وضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت،
36

وعابوا هذه القراءة على حمزة ولحنوه ونسبوه إلى ما لا يجوز ذكره، وقال قوم: إنها ليست بلحن ولا خطأ، وذكروا فيها وجوها: الأول: أن العبد هو العبد إلا أنهم ضموا الباء للمبالغة، كقولهم: رجل حذر وفطن للبليغ في الحذر والفطنة، فتأويل عبد الطاغوت أنه بلغ الغاية في طاعة الشيطان،
وهذا أحسن الوجوه. الثاني: أن العبد، والعبد لغتان كقولهم: سبع وسبع. والثالث: أن العبد جمعه عباد، والعباد جمعه عبد، كثمار وثمر. ثم استثقلوا ضمتين متواليتين فأبدلت الأولى بالفتحة. الرابع: يحتمل أنه أراد أعبد الطاغوت، فيكون مثل فلس وأفلس، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى العين. الخامس: يحتمل أنه أراد: وعبدة الطاغوت كما قرئ، ثم حذف الهاء وضم الباء لئلا يشتبه بالفعل. المسألة السادسة: قوله * (وعبد الطاغوت) * قال الفراء: تأويله وجعل منهم القردة ومن عبد الطاغوت، فعلى هذا: الموصول محذوف. المسألة السابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء الله. قالوا: لأن تقدير الآية وجعل الله منهم من عبد الطاغوت، وإنما يعقل معنى هذا الجعل إذا كان هو الذي جعل فيهم تلك العبادة، إذ لو كان جعل تلك العبادة منهم لكان الله تعالى ما جعلهم عبدة الطاغوت، بل كانوا هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك، وذلك على خلاف الآية. قالت المعتزلة: معناه أنه تعالى حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * (الزخرف: 19) والكلام فيه قد تقدم مرارا. المسألة الثامنة: قيل: الطاغوت العجل، وقيل: الطاغوت الأحبار، وكل من أطاع أحدا في معصية الله فقد عبده. ثم قال تعالى: * (أولئك شر مكانا) * أي أولئك الملعونون الممسوخون شر مكانا من المؤمنين، وفي لفظ المكان وجهان: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لأن مكانهم سقر، ولا مكان أشد شرا منه. والثاني: أنه أضعف الشر في اللفظ إلى المكان وهو في الحقيقة لأهله، وهو من باب الكناية كقولهم: فلان طويل النجاد كثير الرماد، ويرجع حاصله إلى الإشارة إلى الشيء بذكر لوازمه وتوابعه. ثم قال: * (وأضل عن سواء السبيل) * أي عن قصد السبيل والدين الحق. قال
المفسرون: لما نزلت هذه الآية عبر المسلمون أهل الكتاب وقالوا: يا إخوان القردة والخنازير، فافتضحوا ونكسوا رؤوسهم.
37

قوله تعالى
* (وإذا جآءوكم قالوا ءامنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون) *.
فيه مسائل: المسألة الأولى: قالوا: نزلت هذه الآية في ناس من اليهود كانوا يدخلون على الرسول عليه الصلاة والسلام ويظهرون له الإيمان نفاقا، فأخبره الله عز وجل بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا لم يتعلق بقلبهم شيء من دلائلك وتقريراتك ونصائحك وتذكيراتك. المسألة الثانية: الباء في قوله * (دخلوا بالكفر و... خرجوا به) * يفيد بقاء الكفر معهم حالتي الدخول والخروج من غير نقصان ولا تغيير فيه البتة، كما تقول: دخل زيد بثوبه وخرج به، أي بقي ثوبه حال الخروج كما كان حال الدخول. المسألة الثالثة: ذكر عند الدخول كلمة * (قد) * فقال * (وقد دخلوا بالكفر) * وذكر عند الخروج كلمة * (هم) * فقال: * (وهم قد خرجوا به) * قالوا: الفائدة في ذكر كلمة " قد " تقريب الماضي من الحال، والفائدة في ذكر كلمة " هم " التأكيد في إضافة الكفر إليهم، ونفى أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فعل، أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم معك ما يوجب كفرا فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم. المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: إنه تعالى أضاف الكفر إليهم حالتي الدخول والخروج على سبيل الذم، وبالغ في تقرير تلك الإضافة بقوله * (وهم قد خرجوا به) * فدل هذا على أنه من العبد لا من الله. والجواب: المعارضة بالعلم والداعي. ثم قال تعالى: * (والله أعلم بما كانوا يكتمون) * والغرض منه المبالغة فيما في قلوبهم من الجد والاجتهاد في المكر بالمسلمين والكيد بهم والبغض والعداوة لهم
38

ثم قال تعالى:
* (وترى كثيرا منهم يسارعون فى الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون) *.
المسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة. قيل: الإثم الكذب، والعدوان الظلم. وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم، وأما أكل السحت فهو أخذ الرسوة، وقد تقدم الاستقصاء في تفسير السحت، وفي الآية فوائد: الفائدة الأولى: أنه تعالى قال: * (وترى كثيرا منهم) * والسبب أن كلهم ما كان يفعل ذلك، بل كان بعضهم يستحيي فيترك. الفائدة الثانية: أن لفظ المسارعة إنما يستعمل في أكثر الأمر في الخير. قال تعالى: * (يسارعون في الخيرات) * (آل عمران: 114) وقال تعالى: * (نسارع لهم في الخيرات) * (المؤمنون: 56) فكان اللائق بهذا الموضع لفظ العجلة، إلا أنه تعالى ذكر لفظ المسارعة لفائدة، وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيه. الفائدة الثالثة: لفظ الاثم يتناول جميع المعاصي والمنهيات، فلما ذكر الله تعالى بعده العدوان وأكل السحت دل هذا على أن هذين النوعين أعظم أنواع المعصية والإثم
ثم قال تعالى:
* (لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) *.
معنى * (لولا) * هاهنا التخصيص والتوبيخ، وهو بمعنى هلا، والكلام في تفسير الربانيين والأحبار قد تقدم. قال الحسن: الربانيون علماء أهل الإنجيل، والأحبار علماء أهل التوراة. وقال غيره: كله في اليهود لأنه متصل بذكرهم، والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي، وذلك يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه، لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول: إن ذم تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه، لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول: إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت * (لبئس ما كانوا يعملون) * (المائدة: 62) وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر * (لبئس ما كانوا يصنعون) * والصنع أقوى من العمل لأن العمل
39

إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا، فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا، والأمر في الحقيقة كذلك لأن المعصية مرض الروح، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال، فكما أن هناك يحصل العلم بأن المرض صعب شديد لا يكاد يزول، فكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دل على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة، وعن ابن عباس: هي أشد آية في القرآن، وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها والله أعلم.
قوله تعالى: * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) *.
اعلم أن في الآية مسائل: المسألة الأولى: في هذا الموضع إشكال وهو أن الله تعالى حكى عن اليهود أنهم قالوا ذلك، ولا شك في أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه، ونرى اليهود مطبقين متفقين على أنا لا نقول ذلك ولا نعتقده البتة، وأيضا المذهب الذي يحكى عن العقلاء لا بد وأن يكون معلوم البطلان بضرورة العقل، والقول بأن يد الله مغلولة قول باطل ببديهة العقل، لأن قولنا (الله) اسم لموجود قديم، وقادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته مقيدة وقاصرة، وإلا فكيف يمكنه مع القدرة الناقصة حفظ العالم وتدبيره.
إذا ثبت هذا فنقول: حصل الاشكال الشديد في كيفية تصحيح هذا النقل وهذه الرواية فنقول: عندنا فيه وجوه: الأول: لعل القوم إنما قالوا هذا على سبيل الإلزام، فإنهم لما سمعوا قاوله تعالى: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * (البقرة: 245) قالوا: لو احتاج إلى القرض لكان فقيرا عاجزا، فلما حكموا بأن الإله الذي يستقرض شيئا من عباده فقير مغلول اليدين، لا جرم حكى الله عنهم هذا الكلام الثاني: لعل القوم لما رأوا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية الشدة والفقر
والحاجة قالوا على
40

سبيل السخرية والاستهزاء: إن إله محمد فقير مغلول اليد، فلما قالوا ذلك حكى الله عنهم هذا الكلام الثالث: قال المفسرون: اليهود كانوا أكثر الناس مالا وثروة، فلما بعث الله محمدا وكذبوا به ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالت اليهود: يد الله مغلولة، أي مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة والمحنة يقول مثل هذه الألفاظ. الرابع: لعله كان فيهم من كان على مذهب الفلسفة، وهو أنه تعالى موجب لذاته، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نهج واحد وسنن واحد، وأنه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه التي عليها تقع، فعبروا عن عدم الاقتدار على التغيير والتبديل بغل اليد. الخامس: قال بعضهم: المراد هو قول اليهود: إن الله لا يعذبنا إلا بقدر الأيام التي عبدنا العجل فيها، إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا في هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة، واستوجبوا اللعن بسبب فساد العبارة وعدم رعاية الأدب، وهذا قول الحسن فثبت أن هذه الحكاية صحيحة على كل هذه الوجوه والله أعلم. المسألة الثانية: غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن البخل والجود، ومنه قوله تعالى: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) * (الإسراء: 29) قالوا: والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لدفع المال ولإنفاقه، فأطلقوا اسم السبب على المسبب، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل. فقيل للجواد: فياض الكف مبسوط اليد، وبسط البنان تره الأنامل. ويقال للبخيل: كز الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل. فإن قيل: فلما كان قوله * (يد الله مغلولة) * المراد منه البخل وجب أن يكون قوله * (غلت أيديهم) * المراد منه أيضا البخل لتصح المطابقة، والبخل من الصفات المذمومة التي نهى الله تعالى عنها، فكيف يجوز أن يدعو عليهم بذلك؟ قلنا: قوله * (يد الله مغلولة) * عبارة عن عدم المكنة من البذل والإعطاء، ثم إن عدم المكنة من الاعطاء تارة يكون لأجل البخل وتارة يكون لأجل الفقر، وتارة يكون لأجل العجز، فكذلك قوله * (غلت أيديهم) * دعاء عليهم بعدم القدرة والمكنة؛ سواء حصل ذلك بسبب العجز أو الفقر أو البخل، وعلى هذا التقدير فإنه يزول الاشكال.
المسألة الثالثة: قوله * (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) * فيه وجهان: الأول: أنه دعاء عليهم، والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاستثناء في قوله * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * (الفتح: 27) وكما علمنا الدعاء على المنافقين في قوله * (فزادهم الله مرضا) * (البقرة: 10) وعلى أبي لهب في قوله * (تبت يدا أبي لهب) * (المسد: 1) الثاني: أنه إخبار. قال الحسن: غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة، أي شدت إلى
41

أعناقهم جزاء لهم على هذا القول.
فإن قيل: فإذا كان هذا الغل إنما حكم به جزاء لهم على هذا القول، فكان ينبغي أن يقال: فغلت أيديهم. قلنا: حذف العطف وإن كان مضمرا إلا أنه حذف لفائدة، وهي أنه لما حذف كان قوله * (غلت أيديهم) * كالكلام المبتدأ به، وكون الكلام مبتدأ به يزيده قوة ووثاقة؛ لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره، ونظير هذا الموضع في حذف فاء التعقيب قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا) * (البقرة: 67) ولم يقل: فقالوا أتتخذنا هزوا. وأما قوله * (ولعنوا بما قالوا) * قال الحسن عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار. ثم قال تعالى: * (بل يداه مبسوطتان) *. واعلم أن الكلام في هذه الآية من المهمات، فإن الآيات الكثيرة من القرآن ناطقة بإثبات اليد، فتارة المذكور هو اليد من غير بيان العدد. قال تعالى: * (يد الله فوق أيديهم) * (الفتح: 10) وتارة بإثبات اليدين لله تعالى: منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى لإبليس الملعون * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) * (ص: 75) وتارة بإثبات الأيدي. قال تعالى: * (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما) * (يس: 71). إذا عرفت هذا فنقول اختلفت الأمة في تفسير يد الله تعالى، فقالت المجسمة: إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد، واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها) * (الأعراف: 195) وجه الاستدلال أنه تعالى قدح في إلهية الأصنام لأجل أنها ليس لها شيء من هذه الأعضاء، فلو لم تحصل لله هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إلها، ولما بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء له قالوا وأيضا اسم اليد موضوع لهذا العضو، فحمله على شيء آخر ترك للغة، وإنه لا يجوز.
واعلم أن الكلام في إبطال هذا القول مبني على أنه تعالى ليس بجسم، والدليل عليه أن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون، وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، ولأن كل جسم فهو متناه في المقدار، وكل ما كان متناهيا في المقدار فهو محدث، ولأن كل جسم فهو مؤلف من الأجزاء، وكل ما كان كذلك كان قابلا للتركيب والانحلال، وكل ما كان كذلك افتقر إلى ما يركبه ويؤلفه، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع كونه تعالى جسما، فيمتنع أن تكون يده عضوا جسمانيا.
وأما جمهور الموحدين فلهم في لفظ اليد قولان: الأول: قول من يقول: القرآن لما دل
42

على إثبات اليد لله تعالى آمنا به، والعقل لما دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض آمنا به، فأما أن اليد ما هي وما حقيقتها فقد فوضنا معرفتها إلى الله تعالى، وهذا هو طريقة السلف. وأما المتكلمون فقالوا: اليد تذكر في اللغة على وجوه: أحدها: الجارحة وهو معلوم، وثانيها: النعمة، قوله: لفلان عندي يد أشكره عليها، وثالثها: القوة قال تعالى * (أولي الأيدي والأبصار) * (ص: 45) فسروه بذوي القوى والعقول، وحكى سيبويه أنهم قالوا: لا يد لك بهذا، والمعنى سلب كمال القدرة ورابعها: الملك، يقال: هذه الضيعة في يد فلان، أي في ملكه. قال تعالى: * (الذي بيده عقدة النكاح) * (البقرة: 237) أي يملك ذلك، وخامسها: شدة العناية والاختصاص. قال تعالى: * (لما خلقت بيدي) * (ص: 75) والمراد تخصيص آدم عليه السلام بهذا التشريف، فإنه تعالى هو الخالق لجميع المخلوقات. ويقال: يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمن له شيئا. إذا عرفت هذا فنقول: اليد في حق الله يمتنع أن تكون بمعنى
الجارحة، وأما سائر المعاني فكلها حاصلة. وههنا قول آخر، وهو أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله زعم في بعض أقواله أن اليد صفة قائمة بذات الله تعالى، وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال: والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه علة لكرامة آدم واصطفائه، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لامتنع كونه علة للاصطفاء، لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات، فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء، وأكثر العلماء زعموا أن اليد في حق الله تعالى عبارة عن القدرة وعن النعمة. فإن قيل: إن فسرتم اليد في حق الله تعالى بالقدرة فهذا مشكل؛ لأن قدرة الله تعالى واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين تارة، وبإثبات الأيدي أخرى، وإن فسرتموها بالنعمة فنص القرآن ناطق بإثبات اليدين، ونعم الله غير محدودة كما قال تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34) (النحل: 18). والجواب: إن اخترنا تفسير اليد بالقدرة كان الجواب عن الاشكال المذكور أن القوم جعلوا قولهم * (يد الله مغلولة) * كناية عن البخل، فأجيبوا على وفق كلامهم، فقيل * (بل يداه مبسوطتان) * أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل، بل هو جواد على سبيل الكمال. فإن من أعطى بيده أعطى على أكمل الوجوه، وأما إن اخترنا تفسير اليد بالنعمة كان الجواب عن الاشكال المذكور من وجهين: الأول: أنه نسبة بحسب الجنس، ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها، فقيل: نعمتاه نعمة الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن، أو نعمة النفع ونعمة
43

الدفع، أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء. الثاني: أن المراد بالنسبة المبالغة في وصف النعمة، ألا ترى أن قولهم (لبيك) معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة، وكذلك (سعديك) معناه مساعدة بعد مساعدة، وليس المراد منه طاعتين ولا مساعدتين. فكذلك الآية: المعنى فيها أن النعمة متظاهرة متتابعة ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة. ثم قال تعالى: * (ينفق كيف يشاء) * أي يرزق ويخلق كيف يشاء، إن شاء قتر، وإن شاء وسع. وقال * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء) * (الشورى: 27) وقال * (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * (الرعد: 26) وقال) * قل اللهم مالك الملك) * إلى قوله * (وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير) * (آل عمران: 26). واعلم أن هذه الآية رد على المعتزلة، وذلك لأنهم قالوا: يجب على الله تعالى إعطاء الثواب للمطيع، ويجب عليه أن لا يعاقبه، ويجب عليه أن لا يدخل العاصي الجنة، ويجب عليه عند بعضهم أن يعاقبه، فهذا المنع والحجر والقيد يجري مجرى الغل، فهم في الحقيقة قائلون بأن يد الله مغلولة وأما أهل السنة فهم القائلون بأن الملك ملكه، وليس لأحد عليه استحقاق، ولا لأحد عليه اعتراض كما قال * (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) * (المائدة: 17) فقوله سبحانه:) * بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) * لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة، والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم. ثم قال تعالى: * (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: المراد بالكثير علماء اليهود، يعني ازدادوا عند نزول ما أنزل إليك من ربك من القرآن والحجج شدة في الكفر وغلوا في الانكار، كما يقال: ما زادتك موعظتي إلا شرا. وقيل: إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر. المسألة الثانية: قال أصحابنا: دلت الآية على أنه تعالى لا يراعي مصالح الدين والدنيا لأنه تعالى لما علم أنهم يزدادون عند إنزال تلك الآيات كفرا وضلالا، فلو كانت أفعاله معللة برعاية المصالح للعباد لامتنع عليه إنزال تلك الآيات، فلما أنزلها علمنا أنه تعالى لا يراعي مصالح العباد، ونظيره قوله * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * (التوبة: 125). فإن قالوا: علم الله تعالى من حالهم أنهم سواء أنزلها أو لم ينزلها فإنهم يأتون بتلك الزيادة من الكفر، فلهذا حسن منه تعالى إنزالها.
قلنا: فعلى هذا التقدير لم يكن ذلك الازدياد لأجل إنزال تلك الآيات، وهذا يقتضي أن
44

تكون إضافة ازدياد أكفر إلى إنزال تلك الآيات باطلا، وذلك تكذيب لنص القرآن. ثم قال تعالى: * (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) *. واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بين أنهم إنما ينكرون نبوته بعد ظهور الدلائل على صحتها لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة.
ثم إنه تعالى بين أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة لا جرم أن الله تعالى كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا، لأن كل فريق منهم بقي مصرا على مذهبه ومقالته، يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات تعظيما لنفسه وترويجا لمذهبه، فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم، وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضا ويغزو بعضهم بعضا، وفي قوله * (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء) * قولان: الأول: المراد منه ما بين اليهود والنصارى من العداوة لأنه جرى ذكرهم في قوله * (لا تتخذوا اليهود والنصارى) * (المائدة: 51) وهو قول الحسن ومجاهد. الثاني: أن المراد وقوع العداوة بين فرق اليهود، فإن بعضهم جبرية، وبعضهم قدرية، وبعضهم موحدة، وبعضهم مشبهة، وكذلك بين فرق النصارى: كالملكانية والنسطورية واليعقوبية. فإن قيل: فهذا المعنى حاصل بتمامه بين فرق المسلمين، فكيف يمكن جعله عيبا على اليهود والنصارى؟ قلنا: هذه البدع إنما حدثت بعد عصر الصحابة والتابعين، أما في ذلك الزمان فلم يك شيء من ذلك حاصلا، فلا جرم حسن من الرسول ومن أصحابه جعل ذلك عيبا على اليهود والنصارى. ثم قال تعالى: * (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) *. وهذا شرح نوع آخر من أنواع المحن عن اليهود، وهو أنهم كلما هموا بأمر من الأمور رجعوا خائبين خاسرين مقهورين ملعونين كما قال تعالى: * (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا) * (آل عمران: 112) قال قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتم من أذل الناس. ثم قال تعالى: * (ويسعون في الأرض فسادا) * أي ليس يحصل في أمرهم قوة من العزة والمنعة، إلا أنهم يسعون في الأرض فسادا، وذلك بأن يخدعوا ضعيفا، ويستخرجوا نوعا من المكر والكيد على سبيل الخفية. وقيل: إنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين. ثم قال تعالى: * (والله ة يحب المفسدين) * وذلك يدل على أن الساعي في الأرض بالفساد ممقوت عند الله تعالى
45

ثم قال تعالى:
* (ولو أن أهل الكتاب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولادخلناهم جنات النعيم) *.
واعلم أنه تعالى لما بالغ في ذمهم وفي تهجين طريقتهم بين أنهم لو آمنوا واتقوا لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا، أما سعادات الآخرة فهي محصورة في نوعين: أحدهما: رفع العقاب، والثاني: إيصال الثواب، أما رفع العقاب فهو المراد بقوله * (لكفرنا عنهم سيآتهم) * وأما إيصال الثواب فهو المراد بقوله * (ولأدخلناهم جنات النعيم) *. فإن قيل: الإيمان وحده سبب مستقل باقتضاء تكفير السيئات وإعطاء الحسنات، فلم ضم إليه شرط التقوى؟ قلنا: المراد كونه آتيا بالإيمان لغرض التقوى والطاعة، لا لغرض آخر من الأغراض العاجلة مثل ما يفعله المنافقون
ثم قال تعالى:
* (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم سآء ما يعملون) *.
واعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الآخرة، بين في هذه الآية أيضا أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الدنيا ووجدوا طيباتها وخيراتها، وفي إقامة التوراة والإنجيل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعملوا بما فيها من الوفاء بعهود الله فيها، ومن الاقرار باشتمالها في الدلائل الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وثانيها: إقامة التوراة إقامة أحكامها وحدودها كما يقال: أقام الصلاة إذا قام بحقوقها، ولا يقال لمن لم يوف بشرائطها: أنه أقامها. وثالثها: أقاموها نصب أعينهم لئلا يزلوا في شيء من حدودها، وهذه الوجوه كلها حسنة لكن الأول أحسن.
46

وأما قوله تعالى: * (وما أنزل إليهم) * ففيه قولان: الأول: أنه القرآن، والثاني: أنه كتب سائر الأنبياء: مثل كتاب شعياء ومثل كتاب حيقوق، وكتاب دانيال، فإن هذه الكتب مملوءة من البشارة بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام. وأما قوله تعالى: * (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * فاعلم أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام أصابهم القحط والشدة، وبلغوا إلى حيث قالوا: * (يد الله مغلولة) * فالله تعالى بين أنهم لو تركوا ذلك الكفر لانقلب الأمر وحصل الخصب والسعة، وفي قوله * (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * وجوه: الأول: أن المراد منه المبالغة في شرح السعة والخصب، لا أن هناك فوقا وتحتا، والمعنى لأكلوا أكلا متصلا كثيرا، وهو كما تقول: فلان في الخير من فرقه إلى قدمه، تريد تكاثف الخير وكثرته عنده. الثاني: أن الأكل من فوق نزول القطر، ومن تحت الأرجل حصول النبات، كما قال تعالى في سورة الأعراف * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) * (الأعراف: 96) الثالث: الأكل من فوق كثرة الأشجار المثمرة، ومن تحت الأرجل الزروع المغلة، والرابع: المراد أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار، فيجتنون ما تهدل من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم، والخامس: يشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على اليهود من بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم. ثم قال تعالى: * (منهم أمة مقتصدة) * معنى الاقتصاد في اللغة الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير، وأصله القصد، وذلك لأن من عرف مطلوبه فإنه يكون قاصدا له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب، أما من لم يعرف موضع مقصوده فإنه يكون متحيرا، تارة يذهب يمينا وأخرى يسارا، فلهذا السبب جعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض، ثم في هذه الأمة المقتصدة قولان: أحدهما: أن المراد منها الذين آمنوا من أهل الكتاب: كعبد الله بن سلام من اليهود، والنجاشي من النصارى، فهم على القصد من دينهم، وعلى المنهج المستقيم منه، ولم يميلوا إلى طرفي الافراط والتفريط. والثاني: المراد منها الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولا في دينهم، ولا يكون فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة، كما قال * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) * (آل عمران: 75). ثم قال تعالى: * (وكثير منهم ساء ما يعملون) * وفيه معنى التعجب كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم، والمراد: منهم الأجلاف المذمومون المبغضون الذين لا يؤثر فيهم الدليل ولا
47

ينجع فيهم القول.
قوله تعالى: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) * أمر الرسول بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة الفاسقين ولا يخشى مكروههم فقال * (بلغ) * أي واصبر على تبليغ ما أنزلته إليك من كشف أسرارهم وفضائح أفعالهم، فإن الله يعصمك من كيدهم ويصونك من مكرهم. وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعا وعرفت أن الناس يكذبوني واليهود والنصارى وقريش يخوفوني، فلما أنزل الله هذه الآية زال الخوف بالكلية " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أيام إقامته بمكة يجاهر ببعض القرآن ويخفي بعضه إشفاقا على نفسه من تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه، فلما أعز الله الإسلام وأيده بالمؤمنين قال له: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) * أي لا تراقبن أحدا، ولا تترك شيئا مما أنزل إليك خوفا من أن ينالك مكروه. ثم قال تعالى: * (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع * (رسالاته) * في هذه الآية وفي الأنعام * (حيث يجعل رسالاته) * (الأنعام: 124) على الجمع، وفي الأعراف * (برسالاتي) * (الأعراف: 144) على الواحد، وقرأ حفص عن عاصم على الضد، ففي المائدة والأنعام على الواحد، وفي الأعراف على الجمع، وقرأ ابن كثير في الجميع على الواحد، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم كله على الجمع. حجة من جمع أن الرسل يبعثون بضروب من الرسالات وأحكام مختلفة في الشريعة، وكل آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم فهي رسالة، فحسن لفظ الجمع، وأما من أفرد فقال: القرآن كله رسالة واحدة، وأيضا فإن لفظ الواحد قد يدل على الكثرة وإن لم يجمع كقوله * (وادعوا ثبورا كثيرا) * (الفرقان: 14) فوقع الاسم الواحد على الجمع، وكذا ههنا لفظ الرسالة وإن كان واحدا إلا أن المراد هو الجمع.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إن قوله * (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * معناه فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته، فأي فائدة في هذا الكلام؟
أجاب جمهور المفسرين بأن المراد: أنك إن لم تلغ واحدا منها كنت كمن لم يبلغ شيئا منها،
48

وهذا الجواب عندي ضعيف، لأن من أتى بالبعض وترك البعض لو قيل: إنه ترك الكل لكان كذبا ولو قيل أيضا: إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل مقدار الجرم في ترك الكل فهو أيضا محال ممتنع، فسقط هذا الجواب. والأصح عندي أن يقال: إن هذا خرج على قانون قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري ومعناه أن شعري قد بلغ في الكمال والفصاحة إلى حيث متى قيل فيه: إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها، فهذا الكلام يفيد المبالغة التامة من هذا الوجه، فكذا ههنا: فإن لم تبلغ تنبيها على غاية التهديد والوعيد والله أعلم.
المسألة الثالثة: ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوها: الأول: أنها نزلت في قصة الرجم والقصاص على ما تقدم في قصة اليهود. الثاني: نزلت في عيب اليهود واستهزائهم بالدين والنبي سكت عنهم، فنزلت هذه الآية. الثالث: لما نزلت آية التخيير، وهو قوله * (يا أيها النبي قل لأزواجك) * (الأحزاب: 28) فلم يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدنيا فنزلت. الرابع: نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش. قالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول: * (يا أيها الرسول بلغ) * ولو كتم رسول الله شيئا من الوحي لكتم قوله * (وتخفى في نفسك ما الله مبديه) * (الأحزاب: 37) الخامس: نزلت في الجهاد، فإن المنافقين كانوا يكرهونه، فكان يمسك أحيانا عن حثهم على الجهاد. السادس: لما نزل قوله تعالى: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) * (الأنعام: 108) سكت الرسول عن عيب آلهتهم فنزلت الآية وقال * (بلغ) * يعني معايب آلهتهم ولا تخفها عنهم، والله يعصمك منهم. السابع: نزلت في حقوق المسلمين، وذلك لأنه قال في حجة الوداع لما بين الشرائع والمناسك (هل بلغت) قالوا نعم، قال عليه الصلاة والسلام: " اللهم فاشهد " الثامن: روي أنه صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها، فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال " الله " فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله هذه الآية وبين أنه يعصمه من الناس. التاسع: كان يهاب قريشا واليهود والنصارى، فأزال الله عن قلبه تلك الهيبة بهذه الآية. العاشر: نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب عليه السلام، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال: " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " فلقيه عمر
49

رضي الله عنه فقال: هنيئا لك يا ابن طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي. واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمله على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاما مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها. المسألة الرابعة: في قوله * (والله يعصمك من الناس) * سؤال، وهو أنه كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه عليه الصلاة والسلام شج وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن المراد بعصمه من القتل، وفين التنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام! وثانيها: أنها نزلت بعد يوم أحد. وأعلم أن المراد من * (الناس) * ههنا الكفار، بدليل قوله تعالى: * (إن الله لا يهدي القوم الكافرين) * ومعناه أنه تعالى لا يمكنهم مما يريدون، وعن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال: " انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس ".
قوله تعالى
* (قل يا أهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين) *
واعلم أنه تعالى لما أمره بالتبليغ سواء طاب للسامع أو ثقل عليه أمر بأن يقول لأهل الكتاب هذا الكلام وإن كان مما يشق عليهم جدا فقال * (قل يا أهل الكتاب) * من اليهود والنصارى * (لستم
50

على شيء) * من الدين ولا في أيديكم شيء من الحق والصواب، كما تقول: هذا ليس بشيء إذا أردت تحقيره وتصغير شأنه. وقوله: * (حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) * وهذا مذكور فيما قبل، والتكرير للتأكيد. ثم قال تعالى: * (فلا تأس على القوم الكافرين) * وفيه وجهان: الأول: لا تأسف عليهم بسبب زيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين. الثاني: لا تتأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم، فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك، روى ابن عباس أنه جاء جماعة من اليهود وقالوا: يا محمد ألست تقر أن التوراة حق من الله تعالى؟ قال بلى، قالوا: فإنا مؤمنون بها ولا نؤمن بغيرها، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى
* (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة، وبقي ههنا مسائل: المسألة الأولى: ظاهر الأعراب يقتضي أن يقال: والصابئين، وهكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن كثير، وللنحويين في علة القراءة المشهورة وجوه: الأول: وهو مذهب الخليل وسيبويه ارتفع الصابئون بالابتداء علي نية التأخير، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون كذلك، فحذف خبره، والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو
أن الصابئين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالا، فكأنه قيل: كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأنزل ذنبهم، حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضا كذلك. الوجه الثاني: وهو قول الفراء أن كلمة * (إن) * ضعيفة في العمل ههنا، وبيانه من وجوه: الأول: أن كلمة * (إن) * إنما تعمل كونها مشابهة للفعل، ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين
51

الحرف ضعيفة. الثاني: أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعلم في الاسم فقط، أما الخبر فإنه بقي مرفوعا بكونه خبر المبتدأ، وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير، وهذا مذهب الكوفيين، وقد بيناه بلا دليل في سورة البقرة في تفسير قوله * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم) * (البقرة: 6) الثالث: أنها إنما يظهر أثرها في بعض الأسماء، أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها، والأمر ههنا كذلك، لأن الاسم ههنا هو قوله * (الذين) * وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض. إذا ثبت هذا فنقول: إنه إذا كان اسم * (إن) * بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب، فالذي يعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف، والرفع على إسقاط عمله، فلا يجوز أن يقال: إن زيدا وعمرو قائمان لأن زيدا ظهر فيه أثر الإعراب، لكن إنما يجوز أن يقال: إن هؤلاء وإخوتك يكرموننا، وإن هذا نفسه شجاع، وإن قطام وهند عندنا، والسبب في جواز ذلك أن كلمة * (إن) * كانت في الأصل ضعيفة العمل، وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف، فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه، وهو كونه مبتدأ، فهذا تقرير قول الفراء، وهو مذهب حسن وأولى من مذهب البصريين، لأن الذي قالوه يقتضي أن كلام الله على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح،
وإنما تحصل الصحة عند تفكيك هذا النظم، وأما على قول الفراء فلا حاجة إليه، فكان ذلك أولى. المسألة الثانية: قال بعض النحويين: لا شك أن كلمة " إن " من العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر، وكون المبتدأ مبتدأ والخبر خبرا وصف حقيقي ثابت حال دخول هذا الحرف وقبله، وكونه مبتدأ يقتضي الرفع. إذا ثبت هذا فنقول: المعطوف على اسم " إن " يجوز انتصابه بناء على إعمال هذا الحرف، ويجوز ارتفاعه أيضا لكونه في الحقيقة مبتدأ محدث عنه ومخبرا عنه. طعن صاحب " الكشاف " فيه وقال: إنما يجوز ارتفاعه على العطف على محل (إن واسمها) بعد ذكر الخبر، وتقول: إن زيدا منطلق وعمرا وعمرون بالنصب على اللفظ، والرفع على موضع (إن) واسمها، لأن الخبر قد تقدم، وأما قبل ذلك الخبر فهو غير جائز، لأنا لو رفعناه على محل (إن واسمها) لكان العامل في خبرهما هو المبتدأ، ولو كان كذلك لكان العامل في خبرهما هو الابتداء، لأن الابتداء هو المؤثر في المبتدأ والخبر معا، وحينئذ يلزم الخبر المتأخر أن يكون مرفوعا بحرف (إن) وبمعنى الابتداء فيجتمع على المرفوع الواحد رافعان مختلفان، وأنه محال.
52

وأعلم أن هذا الكلام ضعيف، وبيانه من وجوه: الأول: أن هذه الأشياء التي تسميها النحويون: رافعة وناصبة ليس معناها أنها كذلك لذواتها أو لأعيانها، فإن هذا لا يقوله عاقل، بل المراد أنها معرفات بحسب الوضع والاصطلاح لهذه الحركات، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد غير محال، ألا ترى أن جميع أجزاء المحدثات دالة على وجود الله تعالى. والوجه الثاني: في ضعف هذا الجواب أنه بناه على أن كلمة (أن) مؤثرة في نصب الاسم ورفع الخبر، والكوفيون ينكرون ذلك ويقولن: لا تأثير لهذا الحرف في رفع الخبر البتة، وقد أحكمنا هذه المسألة في سورة البقرة. والوجه الثالث: وهو أن الأشياء الكثيرة إذا عطف بعضها على البعض فالخبر الواحد لا يكون خبرا عنها، لأن الخبر عن الشيء عبارة عن تعريف حاله وبيان صفته، ومن المحال أن يكون حال الشيء وصفته عين حال الآخر وصفته، لامتناع قيام الصفة الواحدة بالذوات المختلفة. وإذا ثبت هذا ظهر أن الخبر وإن كان في اللفظ واحدا إلا أنه في التقدير متعدد، وهو لا محالة موجود بحسب التقدير والنية، وإذا حصل التعدد في الحقيقة لم يمتنع كون البعض مرتفعا بالحرف والبعض بالابتداء، وبهذا التقدير لم يلزم اجتماع الرافعين على مرفوع واحد. والذي يحقق ذلك أنه سلم أن بعد ذكر الاسم وخبره جاز الرفع والنصب في المعطوف عليه، ولا شك أن هذا المعطوف إنما جاز ذلك فيه لأنا نضمر له خبرا، وحكمنا بأن ذلك الخبر المضمر مرتفع بالابتداء. وإذا ثبت هذا فنقول: إن قبل ذكر الخبر إذ عطفنا اسما على حكم صريح العقل أنه لا بد من الحكم بتقدير الخبر، وذلك إنما يحصل بإضمار الأخبار الكثيرة، وعلى هذا التقدير يسقط ما ذكر من الالتزام والله أعلم. المسألة الثالثة: أنه تعالى لما بين أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا، بين أن هذا الحكم عام في الكل، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، وذلك لأن الإنسان له قوتان: القوة النظرية، والقوة العملية، أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق، وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير، وأعظم المعارف شرفا معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى، وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادرا على الحشر والنشر، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم لآخر، وأفضل الخيرات في الأعمال أمران: المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق
53

كما قال عليه الصلاة والسلام: " التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله " ثم بين تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل فإنه يرد القيامة من غير خوف ولا حزن. والفائدة في ذكرهما أن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، فقال * (لا خوف عليهم) * بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة * (ولا هم يحزنون) * بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أمورا أعظم أشرف وأطيب مما كانت لهم حاصلة في الدنيا، ومن كان كذلك فإنه لا يحزن طيبات الدنيا. فإن قيل: كيف يمكن خلو المكلف الذي لا يكون معصوما عن أهوال القيامة؟ والجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح، ولا يكون آتيا بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركا لجميع المعاصي، والثاني: أنه إن حصل خوف فذلك عارض قليل لا يعتد به. المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: أنه تعالى شرط عدم الخوف وعدم الحزن بالإيمان والعمل الصالح، والمشروط بشيء عدم عند عدم الشرط، فلزم أن من لم يأت مع الإيمان بالعمل الصالح فإنه يحصل له الخوف والحزن، وذلك يمنع من العفو عن صاحب الكبيرة. والجواب: أن صاحب الكبيرة لا يقطع بأن الله يعفو عنه لا محالة، فكان الخوف والحزن حاصلا قبل إظهار العفو. المسألة الخامسة: أنه تعالى قال
في أول الآية * (إن الذين آمنوا) * ثم قال في آخر الآية * (من آمن بالله) * وفي هذا التكرير فائدتان، الأولى: أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، فالفائدة في هذا التكرير إخراجهم عن وعد عدم الخوف وعدم الحزن. الفائدة الثانية: أنه تعالى أطلق لفظ الإيمان، والإيمان يدخل تحته أقسام، وأشرفها الإيمان بالله واليوم لآخر، فكانت الفائدة في الإعادة التنبيه على أن هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان، وقد ذكرنا وجوها كثيرة في قوله * (يا أيها الذين آمنوا) * وكلها صالحة لهذا الموضع. المسألة السادسة: لراجع إلى اسم * (إن) * محذوف، والتقدير: من آمن منهم، إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوما، والله أعلم.
قوله تعالى
* (لقد أخذنا ميثاق بنى إسراءيل وأرسلنآ إليهم رسلا كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) *
54

اعلم أن المقصود بيان عتو بني إسرائيل وشدة تمردهم عن الوفاء بعهد الله، وهو متعلق بما افتتح الله به السورة، وهو قوله * (أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) فقال * (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل) * يعني خلقنا الدلائل وخلقنا العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال، وأرسلنا إليهم رسلا بتعريف الشرائع والأحكام. وقوله * (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم) * جملة شرطية وقعت صفة لقوله * (رسلا) * والراجع محذوف، والتقدير: كلما جاءهم رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم، أي بما يخالف أهواءهم وما يضاد شهواتهم من مشاق التكليف. وههنا سؤالات: الأول: أي جواب الشرط؟ فإن قوله * (فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) * لا يصلح أن يكون جوابا لهذا الشرط، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين. والجواب: أن جواب الشرط محذوف، وإنما جاز حذفه لأن الكلام المذكور دليل عليه، والتقدير: كلما جاءهم رسول ناصبوه، ثم إنه قيل: فكيف ناصبوه؟ فقيل: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون. وقوله: الرسول الواحد لا يكون فريقين. فنقول: إن قوله * (كلما جاءهم رسول) * يدل على كثرة الرسل، فلا جرم جعلهم فريقين. السؤال الثاني: لم ذكر أحد الفعلين ماضيا، والآخر مضارعا؟ والجواب: أنه تعالى بين أنهم كيف كانوا يكذبون عيسى وموسى في كل مقام، وكيف كانوا يتمردون على أوامره وتكاليفه، وأنه عليه السلام إنما توفى في التيه في قول بعضهم لشؤم تمردهم عن قبول قوله في مقاتلة الجبارين. وأما القتل فهو ما اتفق لهم في حق زكريا ويحيى عليهما السلام، وكانوا قد قصدوا أيضا قتل عيسى وإن كان الله منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه، فذكر التكذيب بلفظ الماضي هنا إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام، لأنه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة، وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لكون ذلك الزمان قريبا فكان كالحاضر. السؤال الثالث: ما الفائدة في تقديم المفعول في قوله تعالى: * (فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) *. والجواب: قد عرفت أن التقديم إنما يكون لشدة العناية، فالتكذيب والقتل وإن كانا منكرين إلا أن تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقتلهم أقبح، فكان التقديم لهذه الفائدة.
55

* (وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) *
ثم قال تعالى: * (وحسبوا أن لا تكونن فتنة) * في الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرون * (أن لا تكون فتنة) * برفع نون (تكون) والباقون بالنصب، وذكر الواحدي لهذا تقريرا حسنا فقال: الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يدل علي ثبات الشيء واستقراره نحو: العلم والتيقن والتبين، فما كان مثل هذا يقع بعده (أن) الثقيلة ولم يقع بعده (أن) الخفيفة الناصبة للفعل، وذلك لأن الثقيلة تدل على ثبات الشيء، واستقراره، فإذا كان العلم يدل على الاستقرار والثبات و (إن) الثقيلة تفيد هذا المعنى حصلت بينهما موافقة ومجانسة، ومثاله من القرآن قوله تعالى: * (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) * (النور: 25) * (ألم يعلموا أن لله هو يقبل التوبة عن عباده) * (التوبة: 104) * (ألم يعلم بأن الله يرى) * (العلق: 14) والباء زائدة. والضرب الثاني: فعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار، نحو: أطمع وأخاف وأرجو، فهذا لا يستعمل فيه إلا الخفيفة الناصبة للفعل، قال تعالى: * (والذين أطمع أن يغفر لي خطيئتي) * (الشعراء: 82) * (تخافون أن يتخطفكم الناس) * (الأنفال: 26) * (فخشيا أن يرهقهما) * (الكهف: 80). والضرب الثالث: فعل يحذو مرة إلى هذا القبيل ومرة أخرى إلى ذلك القبيل نحو: حسب وأخواتها، فتارة تستعمل بمعنى أطمع وأرجو فيما لا يكون ثابتا ومستقرا، وتارة بمعنى العلم فيما يكون مستقرا. إذا عرفت هذا فنقول: يمكن إجراء الحسبان ههنا بحيث يفيد الثبات والاستقرار، لأن القوم كانوا جازمين بأنهم لا يقعون بسبب ذلك التكذيب والقتل في الفتنة والعذاب، ويمكن إجراؤه بحيث لا يفيد هذا الثبات من حيث إنهم كانوا يكذبون ويقتلون بسبب حفظ الجاه والتبع، فكانوا بقلوبهم عارفين بأن ذلك خطأ ومعصية، وإذا كان اللفظ محتملا لكل واحد من هذين المعنيين لا جرم ظهر الوجه صحة كل واحدة من هاتين القراءتين، فمن رفع قوله * (أن لا تكون) * كان المعنى: أنه لا تكون، ثم خففت المشددة وجعلت (لا) عوضا من حذف الضمير، فلو قلت: علمت أن يقول: بالرفع لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضا من حذف الضمير: نحو السين وسوف وقد، كقوله * (علم أن سيكونن) * (المزمل: 20) ووجه النصب ظاهر.
ثم قال الواحدي: وكلا الوجهين قد جاء به القرآن، فمثل قراءة من نصب وأوقع بعده الخفيفة
56

قوله * (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) * (العنكبوت: 4) * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم) * (الجاثية: 21) * (آلم * أحسب الناس أن يتركوا) * (العنكبوت: 1، 2) ومثل قراءة من رفع * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم) * (الزخرف: 80) * (أيحسبون أنما نمدهم به) * (المؤمنون: 55) * (أيحسب الإنسان ألن نجمع) * (القيامة: 3) فهذه مخففة من الثقيلة لأن الناصبة للفعل لا يقع بعدها (لن) ومثل المذهبين في الظن قوله * (تظن أن يفعل) * (القيامة: 25) * (إن ظنا أن يقيما) * (البقرة: 230) ومن الرفع قوله: * (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن) * (الجن: 5) * (وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا) * (الجن: 7) فأن ههنا الخفيفة من الشديدة كقوله * (علم أن سيكون) * (المزمل: 20) لأن (أن) الناصبة للفعل لا تجتمع مع لن
، لأن (لن) تفيد التأكيد، و (أن) الناصبة تفيد عدم الثبات كما قررناه. المسألة الثانية: أن باب حسب من الأفعال التي لا بد لها من مفعولين، إلا أن قوله * (أن لا تكون فتنة) * جملة قامت مقام مفعولي حسب لأن معناه: وحسبوا الفتنة غير نازلة بهم. المسألة الثالثة: ذكر المفسرون في (الفتنة) وجوها، وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، ثم عذاب الدنيا أقسام: منها القحط، ومنه الوباء، ومنها القتل، ومنها العداوة، ومنها البغضاء فيما بينهم، ومنها الادبار والنحوسة، وكل ذلك قد وقع بهم، وكل واحد من المفسرين حمل الفتنة على واحد من هذه الوجوه. وأعلم أن حسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين: الأول: أنهم كانوا يعتقدون أن النسخ ممتنع على شرع موسى عليه السلام، وكانوا يعتقدون أن الواجب عليهم في كل رسول جاء بشرع آخر أنه يجب عليهم تكذيبه وقتله، والثاني: أنهم وإن اعتقدوا في أنفسهم كونهم مخطئين في ذلك التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولن: نحن أبناء الله وأحباؤه، وكانوا يعتقدون أن نبوة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب. ثم قال تعالى: * (فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) *. فيه مسائل: المسألة الأولى: الآية دالة على أن عماهم وصممهم عن الهداية إلى الحق حصل مرتين. واختلف المفسرون في المراد بهاتين على وجوه: الأول: المراد أنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، ثم تاب الله على بعضهم حيث وفق بعضهم للإيمان به، ثم عموا وصموا كثير منهم في زمان محمد عليه الصلاة والسلام فأن أنكروا نبوته ورسالته، وإنما قال * (كثير منهم) * لأن أكثر اليهود وإن أصروا على الكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام إلا أن
57

جمعا منهم آمنوا به: مثل عبد الله بن سلام وأصحابه. الثاني: عموا وصموا حين عبدوا العجل، ثم تابوا عنه فتاب الله عليهم، ثم عموا وصموا كثير منهم بالتعنت، وهو طلبهم رؤية الله جهرة ونزول الملائكة: الثالث: قال القفال رحمه الله تعالى: ذكر الله تعالى في سورة بني إسرائيل ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية فقال * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر
نفيرا) * (الإسراء: 4 - 6) فهذا في معنى * (فعموا وصموا) * ثم قال * (فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) * (الإسراء: 7) فهذا في معنى قوله * (ثم عموا وصموا كثير منهم) * الرابع: أن قوله * (فعموا وصموا) * إنما كان برسول أرسل إليهم مثل داود وسليمان وغيرهما فآمنوا به فتاب الله عليهم، ثم وقعت فترة فعموا وصموا مرة أخرى.
المسألة الثانية: قرئ. * (عموا وصموا) * بالضم على تقدير: عماهم الله وصمهم الله، أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما تقول نزكته إذا ضربته بالنزك، وهو رمح قصير، وركبته إذا ضربته بركبتك. المسألة الثالثة: في قوله * (ثم عموا وصموا كثير منهم) * وجوه: الأول: على مذهب من يقول من العرب " أكلوني البراغيث " والثاني: أن يكون * (كثير منهم) * بدلا عن الضمير في قوله * (ثم عموا وصموا) * والإبدال كثير في القرآن قال تعالى: * (الذي أحسن كل شيء خلقه) * (السجدة: 7) وقال: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (آل عمران: 97) وهذا الإبدال هاهنا في غاية الحسن، لأنه لو قال: عموا وصموا لأوهم ذلك أن كلهم صاروا كذلك، فلما قال * (كثير منهم) * دل على أن ذلك حاصل للأكثر لا للكل. الثالث: أن قوله * (كثير منهم) * خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هم كثير منهم. المسألة الرابعة: لا شك أن المراد بهذا العمى والصمم الجهل والكفر، فنقول: إن فاعل هذا الجهل هو الله تعالى أو العبد، والأول: يبطل قوله المعتزلة، والثاني: باطل لأن الإنسان لا يختار البتة تحصيل الجهل والكفر لنفسه. فإن قالوا: إنما اختاروا ذلك لأنهم ظنوا أنه علم. قلنا: حاصل هذا أنهم إنما اختاروا هذا الجهل لسبق جهل آخر، إلا أن الجهالات لا تتسلسل بل لا بد من انتهائها إلى الجهل الأول، ولا يجوز أن يكون فاعله هو العبد لما ذكرناه، فوجب أن يكون فاعله هو الله تعالى.
58

ثم قال تعالى: * (والله بصير بما يعملون) * أي من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل، والمقصود منه التهديد.
قوله تعالى
* (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بنى إسراءيل اعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) *.
قوله تعالى: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم) *. اعلم أنه تعالى لما استقصى الكلام مع اليهود شرع هاهنا في الكلام مع النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وهذا هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون: إن مريم ولدت إلها، ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون: إن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى، ثم حكى تعالى عن المسيح أنه قال. وهذا تنبيه على ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفرق بين نفسه وبين غيره في أن دلائل الحدوث ظاهرة عليه. ثم قال تعالى: * (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) * ومعناه ظاهر. واحتج أصحابنا على أن عقاب الفساق لا يكون مخلدا، قالوا: وذلك لأنه تعالى جعل أعظم أنواع الوعيد والتهديد في حق المشركين هو أن الله حرم عليهم الجنة وجعل مأواهم النار، وأنه ليس لهم ناصر ينصرهم ولا شافع يشفع لهم، فلو كان حال الفساق من المؤمنين كذلك لما بقي لتهديد المشركين على شركهم بهذا الوعيد فائدة.
ثم قال تعالى: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: * (ثلاثة) * كسرت بالإضافة، ولا يجوز نصبها لأن معناه: واحد ثلاثة. أما إذا قلت: رابع ثلاثة فههنا يجوز الجر والنصب، لأن معناه الذي صير
الثلاثة أربعة بكونه فيهم.
59

المسألة الثانية: في تفسير قول النصارى * (ثالث ثلاثة) * طريقان: الأول: قول بعض المفسرين، وهو أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة، والذي يؤكد ذلك قوله تعالى للمسيح * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * (المائدة: 116) فقوله * (ثالث ثلاثة) * أي أحد ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة آلهة، والدليل على أن المراد ذلك قوله تعالى في الرد عليهم * (وما من إله إلا إله واحد) * وعلى هذا التقدير ففي الآية إضمار، إلا أنه حذف ذكر الآلهة لأن ذلك معلوم من مذاهبهم، قال الواحدي ولا يكفر من يقول: إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة، فإنه ما من شيئين إلا والله ثالثهما بالعلم، لقوله تعالى: * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) * (المجادلة: 7). والطريق الثاني: أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم أب، وابن، وروح القدس، وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، وأثبتوا الذات والكلمة والحياة، وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى عيسى اختلاط الماء بالخمر، واختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد. واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى. ثم قال تعالى: * (وما من إله إلا إله واحد) * في * (من) * قولان: أحدهما: أنها صلة زائدة والتقدير: وما إله إلا إله واحد، والثاني: أنها تفيد معنى الاستغراق، والتقدير: وما في الوجود من هذه الحقيقة إلا فرد واحد. ثم قال تعالى: * (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) * قال الزجاج: معناه: ليمسن الذين أقاموا على هذا الدين؛ لأن كثيرا منهم تابوا عن النصرانية.
ثم قال تعالى:
* (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم) *.
قال الفراء: هذا أمر في لفظ الاستفهام كقوله * (فهل أنتم منتهون) * (المائدة: 91) في آية تحريم الخمر.
60

ثم قال تعالى
* (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الايات ثم انظر أنى يؤفكون) *.
ثم قال تعالى: * (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة) * أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، فإن كان الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق على يد موسى، وإن كان خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى * (وأمه صديقة) * وفي فسير ذلك وجوه: أحدها: أنها صدقت بآيات ربها وبكل ما أخبر عنه ولدها. قال تعالى في صفتها * (وصدقت بكلمات ربها وكتبه) * (التحريم: 12) وثانيها: أنه تعالى قال: * (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا) * (مريم: 17) فلما كلمها جبريل وصدقته وقع عليها اسم الصديقة، وثالثها: أن المراد بكونها صديقة غاية بعدها عن المعاصي وشدة جدها واجتهادها في إقامة مراسم العبودية، فإن الكامل في هذه الصفة يسمى صديقا قال تعالى: * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين) * (النساء: 69). ثم قال تعالى: * (كانا يأكلان الطعام) *. واعلم أن المقصود من ذلك: الاستدلال على فساد قول النصارى، وبيانه من وجوه: الأول: أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، وكل من كان كذلك كان مخلوقا لا إلها، والثاني: أنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة، والإله هو الذي يكون غنيا عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون إلها. الثالث: قال بعضهم: إن قوله * (كانا يأكلان الطعام) * كناية عن الحدث لأن من أكل الطعام فإنه لا بد وأن يحدث، وهذا عندي ضعيف من وجوه: الأول: أنه ليس كل من أكل أحدث، فإن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون. الثاني: أن الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطعام، وهذه الحاجة من أقوى الدلائل على أنه ليس بإله، فأي حاجة بنا إلى جعله كناية عن شيء آخر. الثالث: أن الإله هو القادر على الخلق والايجاد، فلو كان إلها لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام والشراب، فما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين، وبالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل.
ثم قال تعالى: * (انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) * يقال: أفكه يأفكه إفكا إذا صرفه، والإفك الكذب لأنه صرف عن الحق، وكل مصروف عن الشيء مأفوك عنه، وقد
61

أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر، ومعنى قوله * (أنى يؤفكون) * أنى يصرفون عن الحق، قال أصحابنا: الآية دلت على أنهم مصروفون عن تأمل الحق، والإنسان يمتنع أن يصرف نفسه عن الحق والصدق إلى الباطل والجهل والكذب، لأن العاقل لا يختار لنفسه ذلك، فعلمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي صرفهم عن ذلك.
ثم قال تعالى:
* (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) *.
وهذا دليل آخر على فساد قول النصارى، وهو يحتمل أنواعا من الحجة: أن اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الاضرار بهم، وكان أنصاره وصحابته يحبونه فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الاضرار والنفع كيف يعقل أن يكون إلها. الثاني: أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه، ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه، ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلها. الثالث: أن إله العالم يجب أن يكون غنيا
عن كل ما سواه، ويكون كل ما سواه محتاجا إليه، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة الله تعالى، لأن الإله لا يعبد شيئا، إنما العبد هو الذي يبعد الإله، ولما عرف بالتواتر كونه كان مواظبا على الطاعات والعبادات علمنا أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجا في تحصيل المنافع ودفع المضار إلى غيره، ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضار عنهم، وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد، وهذا هو عين الدليل الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام حيث قال لأبيه * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * (مريم: 42).
ثم قال تعالى: * (والله هو السميع العليم) * والمراد منه التهديد يعني سميع بكفرهم عليم بضمائرهم.
قوله تعالى: * (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) *.
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولا على أباطيل النصارى وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها، فعند ذلك خاطب مجموع الفريقين بهذا الخطاب فقال * (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) * والغلو نقيض التقصير. ومعناه الخروج عن الحد، وذلك لأن الحق بين طرفي الافراط والتفريط، ودين الله بين الغلو والتقصير. وقوله * (غير الحق) * صفة المصدر، أي
62

لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق، أي غلوا باطلا، لأن الغلو في الدين نوعان: غلو حق، وهو أن يبالغ في تقريره وتأكيده، وغلو باطل وهو أن يتكلف في تقرير الشبه وإخفاء الدلائل، وذلك الغلو هو أن اليهود لعنهم الله نسبوه إلى الزنا. وإلى أنه كذاب، والنصارى ادعوا فيه الإلهية. ثم قال تعالى: * (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: الأهواء هاهنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة. قال الشعبي: ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه. قال: * (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) * (ص: 26) * (واتبع هواه فتردى) * (طه: 16) * (وما ينطق عن الهوى) * (النجم: 3) * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * (الجاثية: 23) قال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر. لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال: يريد الخير ويحبه. وقال بعضهم: الهوى إله يعبد من دون الله. وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار، وأنشد في ذم الهوى: إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك، فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة. المسألة الثانية: أنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال، فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى أنهم الآن ضالون كما كانوا، ولا نجد حالة أقرب إلى العبد من الله والقرب من عقاب الله تعالى من هذه الحالة. نعوذ بالله منها، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا، ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الاضلال أنه إرشاد إلى الحق، ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الأول الضلال عن الدين، وبالضلال الثاني الضلال عن طريق الجنة. واعلم أنه تعالى لما خاطب أهل الكتاب بهذا الخطاب وصف أسلافهم فقال تعالى:
* (لعن الذين كفروا من بنى إسراءيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) *.
* (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم) *. قال أكثر المفسرين: يعني أصحاب السبت، وأصحاب المائدة. أما أصحاب السبت فهو أن قوم داود، وهم أهل " أيلة " لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان على ما ذكر الله تعالى هذه القصة في سورة الأعراف قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة، وأما أصحاب المائدة فإنهم لما أكلوا من المائدة ولم يؤمنوا قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير، وكانوا
63

خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي. قال بعض العلماء: إن اليهود كانوا يفتخرون بأنا من أولاد الأنبياء، فذكر الله تعالى هذه الآية لتدل على أنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء. وقيل: أن داود وعيسى عليهما السلام بشرا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولعنا من يكذبه وهو قول الأصم.
ثم قال تعالى: * (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) * والمعنى أن ذلك اللعن كان بسبب أنهم يعصون ويبالغون في ذلك العصيان.
ثم أنه تعالى فسر المعصية والاعتداء بقوله * (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) * وللتناهي هاهنا معنيان: أحدهما: وهو الذي عليه الجمهور أنه تفاعل من النهي، أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضا، روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من رضي عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم ". والمعنى الثاني في التناهي: أنه بمعنى الانتهاء. يقال: انتهى عن الأمر، وتناهى عنه إذا كف عنه. ثم قال تعالى: * (لبئس ما كانوا يفعلون) * اللام في * (لبئس) * لام القسم، كأنه قال: أقسم لبئس ما كانوا يفعلون، وهو ارتكاب المعاصي والعدوان، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإن قيل: الانتهاء عن الشيء بعد أن صار مفعولا غير ممكن فلم ذمهم عليه؟ قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن يكون المراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه الثاني: لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته وأدواته. الثالث: لا يتناهون عن الاصرار على منكر فعلوه.
64

ثم قال تعالى: * (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا) *. اعلم أنه تعالى لما وصف أسلافهم بما تقدم وصف الحاضرين منهم بأنهم يتولون الكفار وعبدة الأوثان، والمراد منهم كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكرنا في قوله تعالى: * (ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) * (النساء: 51). ثم قال تعالى: * (لبئس مال قدمت لهم أنفسهم) * أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في دار الآخرة. وقوله تعالى: * (أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) * محل * (أن) * رفع تقول: بئس رجلا زيد، ورفعه كرفع زيد، وفي زيد وجهان: الأول: أن يكون مبتدأ، ويكون (بئس) وما عملت فيه خبره، والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه لما قال: بئس رجلا قتل: ما هو؟ فقال: زيد، أي هو زيد.
ثم قال تعالى: * (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون) * والمعنى: لو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى عليه
السلام، فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام، بل مرادهم الرياسة والجاه فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه، فلهذا وصفهم الله تعالى بالفسق فقال: * (ولكن كثيرا منهم فاسقون) * وفيه وجه آخر ذكره القفال، وهو أن يكون المعنى: ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء، وهذا الوجه حسن في الكلام ما يدفعه.
قوله تعالى: * (لتجدن أشد الناس عدواة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) *.
65

أعلم أنه تعالى لما ذكر من أحوال أهل الكتاب من اليهود والنصارى ما ذكره ذكر في هذه الآية أن اليهود في غاية العدواة مع المسلمين، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العدواة، بل نبه على أنهم أشد في العدواة من المشركين من جهة أنه قدم ذكرهم على ذكر المشركين. ولعمري أنهم كذلك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله) * وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم. وههنا مسألتان: الأولى: قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي: المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول صلى الله عليه وسلم آمنوا به، ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين. وقال آخرون: مذهب اليهود أنه جيب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، فإن قدروا على القتل فذاك، وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر والكيد والحيلة، وأما النصارى فليس مذهبهم ذاك بل الإيذاء في دينهم حرام، فهذا هو وجه التفاوت: المسألة الثانية: المقصود من بيان هذا التفاوت تخفيف أمر اليهود على الرسول صلى الله عليه وسلم، واللام في قوله * (لتجدن) * لام القسم، والتقدير: قسما إنك تجد اليهود والمشركين أشد الناس عدواة مع المؤمنين، وقد شرحت لك أن هذا التمرد والمعصية عادة قديمة لهم، ففرغ خاطرك عنهم ولا تبال بمكرهم وكيدهم. ثم ذكر تعالى سبب هذا التفاوت فقال: * (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) * وفي الآية مسألتان: الأولى: علة هذا التفاوت أن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد على الدنيا والدليل عليه قوله تعالى: * (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا) * (البقرة: 96) فقرنهم في الحرص بالمشركين المنكرين للمعاد، والحرص معدن الأخلاق الذميمة لأن من كان حريصا على الدنيا طرح دينه في طلب الدنيا وأقدم على كل محظور ومنكر بطلب الدنيا، فلا جرم تشتد عداوته مع كل من نال مالا أو جاها، وأما النصارى فإنهم في أكثر الأمر معرضون عن الدنيا مقبلون على العبادة وترك طلب الرياسة والتكبر والترفع، وكل من كان كذلك فإنه لا يحسد الناس ولا يؤذيهم ولا يخاصمهم بل يكون لين العريكة في طلب الحق سهل الانقياد له، فهذا هو الفرق بين هذين الفريقين في هذا الباب، وهو المراد بقوله تعالى: * (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) *.
66

وههنا دقيقة نافعة في طلب الدين وهو أن كفر النصارى أغلظ من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الإلهيات وفي النبوات، واليهود لا ينازعون إلا في النبوات، ولا شك في أن الأول أغلظ، ثم إن النصارى مع غلظ كفرهم لما لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا بل كان في قلبهم شيء من الميل إلى الآخرة شرفهم الله بقوله * (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) * وأما اليهود مع أن كفرهم أخف في جنب كفر النصارى طردهم وخصهم الله بمزيد اللعن وما ذاك إلا بسبب حرصهم على الدنيا، وذلك ينبهك على صحة قوله صلى الله عليه وسلم: " حب الدنيا رأس كل خطيئة ". المسألة الثانية: القس والقسيس اسم لرئيس النصارى، والجمع القسيسون. وقال عروة بن الزبير: صنعت النصارى الإنجيل وأدخلت فيه م ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين، وكان سمه قسيسا، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس. قال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم، وهذا مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين، وأما الرهبان فهو جمع راهب كركبان وراكب، وفرسان وفارس، وقال بعضهم: لرهبان واحد، وجمعه رهابين كقربان وقرابين، وأصله من الرهبة بمعنى المخافة. فإن قيل: كيف مدحهم الله تعالى بذلك مع قوله * (ورهبانية ابتدعوها) * (الحديد: 27) وقوله عليه لصلاة والسلام: " لا رهبانية في الإسلام ". قلنا: إن ذلك صار ممدوحا في مقابلة طريقة اليهود في القساوة والغلظة، ولا يلزم من هذا القدر كونه ممدوحا على الإطلاق.
ثم قال تعالى: * (وإذا سمعوا م أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع) * الضمير في
67

قوله * (سمعوا) * يرجع إلى القسيسين والرهبان الذين آمنوا منهم * (وما أنزل) * يعني القرآن إلى الرسول يعني محمدا عليه الصلاة والسلام قال ابن عباس: يريد النجاشي وأصحابه، وذلك لأن جعفر الطيار قرأ عليهم سورة مريم، فأخذ النجاشي تبنة من الأرض وقال: والله ما زاد على ما قال في الإنجيل مثل هذا، وما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من لقراءة، وأما قوله * (ترى أعينهم تفيض من الدمع) * ففيه وجهان: الأول: المراد أن أعينهم تمتلئ من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلئ الإناء وغيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه. الثاني: أن يكون المراد المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها. وأما قوله تعالى: * (مما عرفوا من الحق) * أي مما نزل على محمد وهو الحق. فإن قيل: أي فرق بين (من) وبين (من) في قوله * (مما عرفوا من الحق) *. قلنا: الأولى: لابتداء الغاية، والتقدير: أن فيض الدمع إنما ابتدئ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببه، والثانية: للتبغيض، يعني أنهم عرفوا بعض الحق وهو القرآن فأبكاهم الله، فكيف لو عرفوا كله. وأما قوله تعالى: * (يقولون ربنا آمنا) * أي بما سمعنا وشهدنا أنه حق * (فاكتبنا مع الشاهدين) * وفيه وجهان: الأول: يريد أمة محمد عليه الصلاة والسلام الذين يشهدون بالحق، وهو مأخوذ من قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) * (البقرة: 143) والثاني: أي مع كل من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنك لا إله غيرك. وأما قوله تعالى:
* (وما لنا لا نؤمن بالله وما جآءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) *
ففيه مسألتان: الأولى: قال صاحب " الكشاف " محل * (لا نؤمن) * النصب على الحال بمعنى غير مؤمنين، كقولك قائما، والواو في قوله * (ونطمع) * واو
الحال. فإن قيل: فما العامل في الحال الأولى والثانية. قلنا: العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل، كأنه قيل: أي شيء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنين، وفي الثاني معنى هذا الفعل ولكن مقيدا بالحال الأولى، لأنك لو أزلته وقلت: وما لنا نطمع لم يكن كلاما، ويجوز أن يكون * (ونطمع) * حالا من * (لا نؤمن) * على أنهم أنكروا على أنفسهم أنهم لا يوحدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين، وأن يكون معطوفا على
68

قوله * (لا نؤمن) * على معنى: وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين. المسألة الثانية: تقدير الآية: ويدخلنا ربنا مع القوم الصالحين جنته ودار رضوانه، قال تعالى: * (ليدخلنهم مدخلا يرضونه) * (الحج: 59) إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوما. ثم قال تعالى:
* (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزآء المحسنين * والذين كفروا وكذبوا باياتنآ أولئك أصحاب الجحيم) *
وفي مسائل: المسألة الأولى: ظاهر الآية يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بمجرد القول لأنه تعالى قال: * (فأثابهم الله بما قالوا) * وذلك غير ممكن لأن مجرد القول لا يفيد الثواب. وأجابوا عنه من وجهين: الأول: أنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة، وذلك هو قوله * (مما عرفوا من الحق) * (المائدة: 83) فلما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ثم انضاف إليه القول لا جرم كمل الإيمان. الثاني: روى عطاء عن ابن عباس أنه قال قوله * (بما قالوا) * يريد بما سألوا، يعني قولهم * (فاكتبنا مع الشاهدين) * (المائدة: 83). المسألة الثانية: الآية دالة على أن المؤمن الفاسق لا يبقى مخلدا في النار، وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى قال: * (وذلك جزاء المحسنين) * وهذا الإحسان لا بد وأن يكون هو الذي تقدم ذكره من المعرفة وهو قوله * (مما عرفوا من الحق) * (المائدة: 83) ومن الاقرار به، وهو قوله * (فأثابهم الله بما قالوا) * وإذ كان كذلك، فهذه الآية دالة على أن هذه المعرفة، وهذا الاقرار يوجب أن يحصل له هذا الثواب، وصاحب الكبيرة له هذه المعرفة وهذا الاقرار، فوجب أن يحصل له هذا الثواب، فأما أن ينقل من الجنة إلى النار وهو باطل بالإجماع، أو يقال: يعاقب على ذنبه ثم ينقل إلى الجنة وذلك هو المطلوب. الثاني: هو أنه تعالى قال: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) * فقوله * (أولئك أصحاب الجحيم) * يفيد الحصر، أي أولئك أصحاب الجحيم لا غيرهم، والمصاحب للشيء هو الملازم له الذي لا ينفك عنه، فهذا يقتضي تخصيص هذا الدوام بالكفار، فصارت هذه الآية من هذين الوجهين من أقوى الدلائل على أن الخلود في النار لا يحصل للمؤمن الفاسق.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) *
69

اعلم أن الله تعالى لما استقصى في المناظرة مع اليهود والنصارى عاد بعده إلى بيان الأحكام وذكر جملة منها. النوع الأول: ما يتعلق بحل المطاعم والمشارب واللذات فقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: الطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب، وفي الآية قولان: الأول: روي أنه صلى الله عليه وسلم وصف يوم القيامة لأصحابه في بيات عثمان بن مظعون وبالغ وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير، فعزموا على أن يرفضوا الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل، وأن لا يناموا على الفرش، ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالوا لهم " إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر آكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وبهذا الكلام ظهر وجه النظم بين هذه الآية وبين ما قبلها، وذلك لأنه تعالى مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهبانا، وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ولذاتها، فلما مدحهم أوهم ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل تلك الطريقة، فذكر تعالى عقيب هذه الآية إزالة لذلك الوهم، ليظهر للمسلمين أنهم ليسوا مأمورين بذلك. فإن قيل: ما الحكمة في هذا النهي، فإن من المعلوم أن حب الدنيا مستول على الطبع والقلوب، فإذا توسع الإنسان في اللذات والطيبات اشتد ميله إليها وعظمت رغبته فيه، وكلما كانت تلك النعم أكثر وأدوم كان ذلك الميل أقوى وأعظم، وكلما ازداد الميل قوة ورغبة ازداد حرصه في طلب الدنيا واستغراقه في تحصيلها، وذلك يمنعه عن الاستغراق في معرفة الله وفي طاعته ويمنعه عن طلب سعادات الآخرة، وأما إذا أعرض عن لذات الدنيا وطيباتها، فكلم كان ذلك الإعراض أتم وأدوم كان ذلك الميل أضعف والرغبة أقل، وحينئذ تتفرغ النفس لطلب معرفة الله تعالى والاستغراق في خدمته، وإذا كان الأمر كذلك فما الحكمة في نهي الله تعالى عن الرهبانية؟
والجواب: عنه من وجوه: الأول: أن الرهبانية المفرطة والاحتراز التام عن الطيبات واللذات مما يوقع الضعف في الأعضاء الرئيسية التي هي القلب والدماغ، وإذا وقع الضعف فيهما اختلت الفكرة وتشوش العقل. ولا شك أن أكمل السعادات وأعظم القربات إنما هو معرفة
70

الله تعالى، فإذا كانت الرهبانية الشديد مما يوقع الخلل في ذلك بالطريق الذي بيناه لا جرم وقع النهي عنها. والثاني: وهو أن حاصل ما ذكرتم أن اشتغال النفس بطلب اللذات الحسية يمنعها عن الاستكمال بالسعادات العقلية، وهذا ملسم لكن في حق النفوس الضعيفة، أما النفوس المتسعلية الكاملة فإنها لا يكون استعمالها في الأعمال الحسية مانعا لها من الاستكمال بالسعادات العقلية، فإنا نشاهد النفوس قد تكن ضعيفة بحيث متى اشتغلت بمهم امتنع عليها الاشتغال بمهم آخر، وكلما كانت النفس أقوى كانت هذه الحالة أكمل، وإذا كان كذلك كانت الرهبانية الخالصة دليلا على نوع من الضعف والقصور، وإنما الكمال في الوفاء بالجهتين والاستكمال في الناس. الثالث: وهو أن من استوفى اللذات الحسية، كان غرضه منها الاستعانة بها على استيفاء اللذات العقلية فإن رياضته ومجاهدته أتم من رياضة من أعرض عن للذات الحسية، لأن صرف حصة النفس إلى جانب الطاعة أشق وأشد من الاعراض عن حصة النفس بالكلية، فكان الكمال في هذا أتم. الربع: وهو أن الرهبانية التامة توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل. وأما ترك الرهبانية مع المواظبة على المعرفة والمحبة والطاعات فإنه يفيد عمارة الدنيا والآخرة، فكانت هذه الحالة أكمل، فهذا جملة الكلام
في هذا الوجه. القول الثاني: في تفسير هذه الآية ما ذكره القفال، وهو أنه تعالى قال في أول السورة * (أوفوا بالعقود) * فبين أنه كما لا يجوز استحلال المحرم كذلك لا يجوز تحريم المحلل، وكانت العرب تحرم من الطيبات ما لم يحرمه الله تعالى، وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقد حكى الله تعالى ذلك في هذه السورة وفي سورة الأنعام، وكانوا يحللون الميتة والدم وغيرهما، فأمر الله تعالى أن لا يحرموا ما أحل الله ولا يحللوا ما حرمه الله تعالى حتى يدخلوا تحت قوله * (ي أيها لذين آمنوا أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1). المسألة الثانية: قوله * (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * يحتمل وجوها: أحدها: لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله تعالى لكم، وثانيها: لا تظهروا باللسان تحريم ما أحله الله لكم، وثالثها: لا تجتنبوا عنها اجتنابا شبيه لاجتناب من المحرمات، فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل، ورابعها: لا تحرموا على غيركم بالفتوى وخامسها: لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * (التحريم: 1) وسادسها: أن يخلط المغصوب بالمملوك خلطا لا يمكنه التمييز، وحينئذ يحرم الكل، فذلك الخلط سبب لتحريم ما كن حلالا له، وكذلك القول فيما إذا خلط النجس بالطاهر، والآية محتملة لكل هذه الوجوه، ولا يبعد حملها على الكل والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله * (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) * (البقرة: 190) فيه وجوه: الأول: أنه تعالى
71

جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلما فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها، والثاني: أنه لما أباح الطيبات حرم الإسراف فيها بقوله تعالى: * (ولا تعتدوا) * ونظيره قوله تعالى * (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) * (الأعراف: 31) الثالث: يعني لما أحل لكم الطيبات فاكتفوا بهذه المحللات ولا تتعدوها إلى ما حرم عليكم.
ثم قال تعالى: * (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون) *
وفيه مسائل: المسألة الأولى: قوله * (وكلوا) * صيغة أمر، وظاهرها للوجوب لا أن المراد ههنا الإباحة والتحليل. واحتج أصحاب الشافعي به في أن التطوع لا يلزم بالشروع، وقالوا: ظاهر هذه الآية يقتضي إباحة الأكل على الاطلاق فيتناول ما بعد الشروع في الصوم، غايته أن خص في بعض الصور إلا أن العام حجة في غير محل التخصيص. المسألة الثانية: قوله * (حلالا طيبا) * يحتمل أن يكون متعلقا بالأكل، وأن يكون متعلقا بالمأكول، فعلى الأول يكون التقدير: كلوا حلالا طيبا مما رزقكم الله، وعلى التقدير الثاني: كلوا من الرزق الذي يكون حلالا طيبا، أما على التقدير الأول فإنه حجة المعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالا، وذلك لأن الآية على هذا التقدير دالة على الاذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن الله تعالى في أكل الحلال، فيلزم أن يكون كل ما كان رزقا كان حلالا، وأما على التقدير الثاني فإنه حجة لأصحابنا على الرزق قد يكون حراما لأنه تعالى خصص إذن الأكل بالرزق الذي يكون حلالا طيبا ولولا أن الرزق قد لا يكون حلالا وإلا لم يكن لهذا التخصيص والتقييد فائدة. المسألة الثالثة: لم يقل تعالى: كلوا ما رزقكم، لكن قال * (كلوا مما رزقكم لله) * وكلمة (من) للتبعيض، فكأنه قال: اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات لأنه إرشاد إلى ترك لإسراف كما قال: * (ولا تسرفوا) * (الأنعام: 141) (الأعراف: 31). المسألة الرابعة: * (وكلوا مما رزقكم الله) * يدل على أنه تعالى قد تكفل برزق كل أحد. فإنه لو لم يتكفل برزقه لم قال * (كلوا مما رزقكم الله) * وإذا تكفل الله برزقه وجب أن لا يبالغ في الطلب وأن يعول على وعد الله تعالى وإحسانه، فإنه أكرم من أن يخلف الوعد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " أما قوله * (واتقوا الله) * فهو تأكيد للتوصية
72

بما أمر به، زاده توكيدا بقوله تعالى: * (أنتم به مؤمنون) * لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه.
النوع الثاني: من الأحكام المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) *. قد ذكرنا أنه تعالى بين في هذا الموضع أنواعا من الشرائع والأحكام. بقي أن يقال: أي مناسبة بين هذا الحكم وبين ما قبله حتى يحسن ذكره عقيبه؟ فنقول: قد ذكرنا أن سبب نزول الآية الأولى أن قوما من الصحابة حرموا على أنفسهم المطاعم والملابس واختاروا الرهبانية وحلفوا على ذلك فلما نهاهم الله تعالى عنها قالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا أنزل الله هذه الآية. واعلم أن الكلام في أن يمين اللغو ما هو قد سبق على الاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله * (يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * (البقرة: 225) فلا وجه للإعادة. ثم قال تعالى: * (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم * (عقدتم) * بتشديد القاف بغير ألف، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم * (عقدتم) * بتخفيف القاف بغير ألف، وقرأ ابن عامر عاقدتم بالألف والتخفيف. قال الواحدي: يقال عقد فلان اليمين والعهد والحبل عقدا إذا وكده وأحكمه، ومثل ذلك أيضا عقد بالتشديد إذا وكد، ومثله أيضا عاقد بالألف. إذا عرفت هذا فنقول: أما من قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير، يقال: عقد زيد يمينه، وعقدوا أيمانهم، وأما من قرأ بالتشديد فاعلم أن أبا عبيدة زيف هذه القراءة وقال: التشديد للتكرير مرة بعد مرة فالقراءة بالتشديد توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة لأنها لم تتكرر. وأجاب الواحدي رحمه الله عنه من وجهين: الأول: أن بعضهم قال: عقد بالتخفيف والتشديد واحد في المعنى. الثاني: هب أنها تفيد التكرير كما في قوله * (وغلقت الأبواب) * (يوسف: 23) إلا أن هذا التكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه، ومتى جمع بين القلب واللسان فقد حصل التكرير أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر لم يكن معقدا، وأما من قرأ بالألف فإنه من المفاعلة التي تختص بالواحد مثل عافاه الله وطارقت النعل وعاقبت اللص فتكون هذه القراءة كقراءة من خفف.
73

المسألة الثانية: (ما) مع الفعل بمنزلة المصدر، والتقدير: ولكن يؤاخذكم بعقدكم أو بتعقيدكم أو بمعاقدتكم الأيمان. المسألة الثالثة: في الآية محذوف، والتقدير: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوما عندهم أو بنكث ما عقدتم، فحذف المضاف. وأما كيفية استدلال الشافعي بهذه الآية على أن اليمين الغموس توجب الكفارة فقد ذكرناها في سورة البقرة. ثم قال تعالى: * (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) *.
واعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير، فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر، وهو الصوم. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: معنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الثلاثة، ولا يجوز له تركها جميعا، ومتى أتى بأي واحد شاء من هذه الثلاثة، فإنه يخرج عن العهدة، فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير، ومن الفقهاء من قال: الواحد لا بعينه، وهذا الكلام يحتمل وجهين: الأول: أن يقال: الواجب عليه يأن يدخل في الوجود واحدا من هذه الثلاثة لا بعينه. وهذا محال في العقول لأن الشيء الذي لا يكون معينا في نفسه يكون ممتنع الوجود لذاته، وما كان كذلك فإنه لا يراد به التكليف، الثاني: أن يقال: الواجب عليه واحد معين في نفسه وفي علم الله تعالى، إلا أنه مجهول العين عند الفاعل، وذلك أيضا محال لأن كون ذلك الشيء واجبا بعينه في علم الله تعالى هو أنه لا يجوز تركه بحال، وأجمعت الأمة على أنه يجوز له تركه بتقدير الإتيان بغيره، والجمع بين هذين القولين جمع بين النفي والإثبات وهو محال، وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه.
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله نصيب كل مسكين مد، وهو ثلثا من، وهو قول ابن
74

عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم، وقال أبو حنيفة رحمه الله الواجب نصف صاع من الحنطة، وصاع من غير الحنطة. حجة الشافعي أنه تعالى لم يذكر في الاطعام قوله * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) * وهذا الوسط إما أن يكون المراد منه ما كان متوسطا في العرف، أو ما كان متوسطا في الشرع، فإن كان المراد ما كان متوسطا في العرف فثلثا من الحنطة إذا جعل دقيقا أو جعل خبزا فإنه يصير قريبا من المن، وذلك كاف في قوت اليوم الواحد ظاهرا، وإن كان المراد ما كان متوسطا في الشرع فلم يرد في الشرع له مقدار إلا في موضع واحد، وهو ما روي في خبر المفطر في نهار رمضان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإطعام ستين مسكينا من غير ذكر مقدار، فقال الرجل: ما أجد فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه خمسة عشر صاعا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أطعم هذا، وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع، وهو مد، ولا يلزم كفارة الحلف لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل، فكان قدرها معتبرا بصدقة الفطر، وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد. وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى قال: * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) * والأوسط هو الأعدل والذي ذكره الشافعي رحمه الله هو أدنى ما يكفي، فأما الأعدل فيكون بإدام، وهكذا روي عن ابن عباس رحمهما الله: مد معه إدامه، والإدام يبلغ قيمته قيمة مد آخر أو يزيد في الأغلب. أجاب الشافعي رحمه الله بأن قوله * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) * يحتمل أن يكون المراد التوسط في القدر، فإن الإنسان ربما كان قليل الأكل جدا يكفيه الرغيف الواحد، وربما كان كثير الأكل فلا يكفيه المنوان، إلا أن المتوسط الغالب أنه يكفيه من الخبز ما يقرب من المن، ويحتمل أن يكون المراد التوسط في القيمة لا يكون غالبا كالسكر، ولا يكون خسيس الثمن كالنخالة والذرة، والأوسط هو الحنطة والتمر والزبيب والخبز، ويحتمل أن يكون المراد الأوسط في الطيب واللذاذة، ولما كان اللفظ محتملا لكل واحد من الأمرين فنقول: يجب حمل اللفظ على ما ذكرناه لوجهين: الأول: أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام. الثاني: أن هذا القدر واجب بيقين، والباقي مشكوك فيه لأن اللفظ لا دلالة فيه عليه فأوجبنا اليقين وطرحنا الشك والله أعلم.
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: الواجب تمليك الطعام. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا غدى أو عشى عشرة مساكين جاز.
75

حجة الشافعي: أن الواجب في هذه الكفارة أحد الأمور الثلاثة، إما الاطعام، أو الكسوة، أو الاعتاق، ثم أجمعنا على أن الواجب في الكسوة التمليك، فوجب أن يكون الواجب في الاطعام هو التمليك. حجة أبي حنيفة: أن الآية دلت على أن الواجب هو الاطعام، والتغدية والتعشية هما إطعام بدليل قوله تعالى: * (ويطعمون الطعام على حبه) * (الإنسان: 8) وقال: * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) * وإطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك، ويقال في العرف: فلان يطعم الفقراء إذا كان يقدم الطعام إليهم ويمكنهم من أكله. وإذا ثبت أنه أمر بالاطعام وجب أن يكون كافيا. أجاب الشافعي رضي الله عنه: أن الواجب إما المد أو الأزيد، والتغدية والتعشية قد تكون أقل من ذلك فلا يخرج عن العهدة إلا باليقين والله أعلم. المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمه الله: لا يجزئه إلا طعام عشرة وقال أبو حنيفة رحمه الله لو أطعم مسكينا واحدا عشرة أيام جاز. حجة الشافعي رحمه الله: أن مدار هذا الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه، وما كان كذلك فإنه يجب الاعتماد فيه على مورد النص. المسألة الخامسة: الكسوة في اللغة معناها اللباس، وهو كل ما يكتسى به، فأما التي تجزى في الكفارة فهو أقل ما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة ثوب واحد لكل مسكين، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وهو مذهب الشافعي رحمه الله. المسألة السادسة: المراد بالرقبة الجملة، وقيل الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل، فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الاطلاق من الرقبة فك الرقبة، ثم جرى ذلك على العتق، ومذهب أهل الظاهر أن جميع الرقبات تجزيه. وقال الشافعي رحمه الله: الرقبة المجزية في الكفارة كل رقبة سليمة من عيب يمنع من العمل، صغيرة كانت أو كبيرة، ذكرا أو أنثى، بعد أن تكون مؤمنة، ولا يجوز إعتاق الكافرة في شيء من الكفارات، ولا إعتاق المكاتب، ولا شراء القريب، وهذه المسائل قد ذكرناها في آية الظهار. المسألة السابعة: لقائل أن يقول: أي فائدة لتقديم الاطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة. قلنا له وجوه: أحدها: أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا
76

على الترتيب لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ، وثانيها: قدم الاطعام لأنه أسهل
لكون الطعام أعم وجودا، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف، وثالثها: أن الاطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر، أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته. ثم قال تعالى: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الشافعي رحمه الله: إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالاطعام، وإن لم يكن عنده هذا
القدر جاز له الصيام وعند أبي حنيفة رحمه الله، يجوز له الصيام إذا كان عنده من المال ما لا يجب فيه الزكاة، فجعل من لا زكاة عليه عادما. حجة الشافعي رحمه الله، أنه تعالى علق جواز الصيام على عدم وجدان هذه الثلاثة، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط، فعند عدم وجدان هذه الثلاثة وجب أن لا يجوز الصوم، تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقت عياله يوما وليلة لأن ذلك كالأمر المضطر إليه، وقد رأينا في الشرع أنه متى وقع التعارض في حق النفس وحق الغير كان تقديم حق النفس واجبا، فوجب أن تبقى الآية معمولا بها في غير هذه الصورة. المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله في أصح قوليه: أنه يصوم ثلاثة أيام إن شاء متتابعة وإن شاء متفرقة. وقال أبو حنيفة: يجب التتابع. حجة الشافعي: أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام، والآتي بصوم ثلاثة أيام على التفرق آت بصوم ثلاثة أيام، فوجب أن يخرج عن العهدة. حجة أبي حنيفة رحمه الله، ما روي في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: فصوم ثلاثة أيام متتابعات، وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما. والجواب أن القراءة الشاذة مردودة لأنها لو كانت قرآنا لنقلت نقلا متواترا، إذ لو جوزنا في القرآن أن لا ينقل على التواتر لزم طعن الروافض والملاحدة في القرآن وذلك باطل، فعلمنا أن القراءة الشاذة مردودة، فلا تصلح لأن تكون حجة. وأيضا نقل في قراءة أبي بن كعب أنه قرأ (فعدة من أيام أخر متتابعات) مع أن التتابع هناك ما كان شرطا، وأجابوا عنه بأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له علي أيام من رمضان أفأقضيها متفرقات؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك قال بلى، قال
77

فالله أحق أن يعفو وأن يصفح ". قلنا: فهذا الحديث وإن وقع جوابا عن هذا السؤال في صوم رمضان إلا أن لفظه عام، وتعليله عام في جميع الصيامات، وقد ثبت في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكان ذلك من أقوى الدلائل على جواز التفريق ههنا أيضا. المسألة الثالثة: من صام ستة أيام عن يمينين أجزأه سواء عين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين أو لا والدليل عليه أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام عليه، وقد أتى بها، فوجب أن يخرج عن العهدة. ثم قال تعالى: * (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) * قوله * (ذلك) * إشارة إلى ما تقدم ذكره من الطعام والكسوة وتحرير الرقبة، أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم لأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف، إلا أنه حذف ذكر الحنث لكونه معلوما، كما قال: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 184) أي فأفطر. احتج الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز فقال: الآية دلت على أن كل واحد من الأشياء الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف، فإذا أداها بعد الحلف قبل الحنث فقد أدى الكفارة عن ذلك اليمين، وإذا كان كذلك وجب أن يخرج عن العهدة. قال: وقوله * (إذا حلفتم) * فيه دقيقة وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فإنه يجوز.
ثم قال تعالى: * (واحفظوا أيمانكم) * وفيه وجهان: الأول: المراد منه قللوا الأيمان ولا تكثروا منها قال كثير: قليل الألا يا حافظ ليمينه * وإن سبقت منه الألية برت
فدل قوله (وإن سبقت منه الألية) على أن قوله (حافظ ليمينه) وصف منه له بأنه لا يحلف. الثاني: واحفظوا أيمانكم إذا حلفتم عن الحنث لئلا تحتاجوا إلى التفكير، واللفظ محتمل للوجهين، إلا أن على هذا التقدير يكون مخصوصا بقوله عليه السلام: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه ". ثم قال: تعالى: * (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) * والمعنى ظاهر، والكلام في لفظ لعل تقدم مرارا.
78

قوله تعالى
* (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) *.
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذا الموضع، ووجه اتصاله بما قبله أنه تعالى قال فيما تقدم * (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * إلى قوله * (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) * (المائدة: 87، 88) ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر لا جرم أنه تعالى بين أنهما غير داخلين في المحللات، بل في المحرمات. واعلم أنا قد ذكرنا في سورة البقرة معنى الخمر والميسر وذكرنا معنى الأنصاب والأزلام في أول هذه السورة عند قوله) * وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام) * (المائدة: 3) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع. وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان: الأول: سميت الخمر خمرا لأنها خامرت العقل، أي خالطته فسترته، والثاني: قال ابن الأعرابي: تركت فاختمرت، أي تغير ريحها، والميسر هو قمارهم في الجزور، والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها، والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر. واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين: الأول: قوله * (رجس) * والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل. يقال: رجس الرجل رجسا ورجس إذا عمل عملا قبيحا، وأصله من الرجس بفتح الراء، وهو شدة الصوت. يقال: سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد فكان الرجس هو العمل الذي يكون قوي الدرجة كامل الرتبة في القبح. الوصف الثاني: قوله * (من عمل الشيطان) * وهذا أيضا مكمل لكونه رجسا لأن الشيطان نجس خبيث لأنه كافر والكافر نجس لقوله * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث لقوله * (الخبيثات للخبيثين) * (النور: 26) وأيضا كل ما أضيف إلى الشيطان فالمراد من تلك الإضافة المبالغة في كمال قبحه. قال تعالى: * (فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان) * (القصص: 15) ثم إنه تعالى لما وصف هذه الأربعة بهذين الوصفين قال * (فاجتنبوه) * أي كونوا جانبا منه، والهاء عائدة إلى ماذا فيه وجهان: الأول: أنها عائدة إلى الرجس، والرجس واقع على الأربعة المذكورة، فكان الأمر
79

بالاجتناب متناولا للكل. الثاني: أنها عائدة إلى المضاف المحذوف، كأنه قيل: إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك، ولذلك قال: * (رجس من عمل الشيطان) *. واعلم أنه تعالى لما أمر باجتناب هذه الأشياء ذكر فيها نوعين من المفسدة: فالأول: ما يتعلق بالدنيا وهو قوله:
* (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون) *.
واعلم أنا نشرح وجه العداوة والبغضاء أولا في الخمر ثم في الميسر: أما الخمر فاعلم أن الظاهر فيمن يشرب الخمر أنه يشربها مع جماعة ويكون غرضه من ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه ويفرح بمحادثتهم ومكالمتهم، فكان غرضه من ذلك الاجتماع تأكيد الألفة والمحبة إلا أن ذلك في الأغلب ينقلب إلى الضد لأن الخمر يزيل العقل، وإذا زال العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل، وعند استيلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأصحاب، وتلك المنازعة ربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش، وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء، فالشيطان يسول أن الاجتماع على الشرب يوجب تأكيد الألفة والمحبة، وبالآخرة انقلب الأمر وحصلت نهاية العداوة والبغضاء. وأما الميسر ففيه بإزاء التوسعة على المحتاجين الاجحاف بأرباب الأموال، لأن من صار مغلوبا في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه عن رجاء أنه ربما صار غالبا فيه، وقد يتفق أن لا يحصل له ذلك إلى أن لا يبقى له شيء من المال، وإلى أن يقامر على لحيته وأهله وولده، ولا شك أنه بعد ذلك يبقى فقيرا مسكينا ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا غالبين له فظهر من هذا الوجه أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس، ولا شك أن شدة العداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة من الهرج والمرج والفتن، وكل ذلك مضاد لمصالح العالم. فإن قيل: لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام ثم أفردهما في آخر الآية. قلنا: لأن هذه الآية خطاب مع المؤمنين بدليل أنه تعالى قال: * (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) * (المائدة: 90) والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة،
80

فلما كان المقصود من هذه الآية النهي عن الخمر والميسر وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر تأكيدا لقبح الخمر والميسر، لا جرم أفردهما في آخر الآية بالذكر. أما النوع الثاني: من المفاسد الموجودة في الخمر والميسر: المفاسد المتعلقة بالدين، وهو قوله تعالى: * (ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) * فنقول: أما أن شرب الخمر يمنع عن ذكر الله فظاهر، لأن شرب الخمور يورث الطرب واللذة الجسمانية، والنفس إذا استغرقت في اللذات الجسمانية غفلت عن ذكر الله تعالى، وأما أن الميسر مانع عن ذكر الله وعن الصلاة فكذلك، لأنه إن كان غالبا صار استغراقه في لذة الغلبة مانعا من أن يخطر بباله شيء سواه، ولا شك أن هذه الحالة مما تصد عن ذكر الله وعن الصلاة. فإن قيل: الآية صريحة في أن علة تحريم الخمر هي هذه المعاني، ثم إن هذه المعاني كانت حاصلة قبل تحريم الخمر مع أن التحريم ما كان حاصلا وهذا يقدح في صحة هذا التعليل: قلنا: هذا هو أحد الدلائل على أن تخلف الحكم عن العلة المنصوصة لا يقدح في كونها علة. ولما بين تعالى اشتمال شرب الخمر واللعب بالميسر على هذه المفاسد العظيمة في الدين. قال تعالى: * (فهل أنتم منتهون) * روي أنه لما نزل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * (النساء: 43) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت هذه الآية قال عمر: انتهينا يا رب. واعلم أن هذا وإن كان استفهاما في الظاهر إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيقة، وإنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها للمخاطب، فلما استفهم بعد ذلك عن تركها لم يقدر المخاطب إلا على الاقرار بالترك، فكأنه قيل له: أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما قد ظهر فصار قوله * (فهل أنتم منتهون) * جاريا مجرى تنصيص الله تعالى على وجوب الانتهاء مقرونا بإقرار المكلف بوجوب الانتهاء. واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر من وجوه: أحدها: تصدير الجملة بإنما، وذلك لأن هذه الكلمة للحصر، فكأنه تعالى قال: لا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة وثانيها: أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " شارب الخمر كعابد الوثن " وثالثها: أنه تعالى أمر بالاجتناب، وظاهر الأمر للوجوب، ورابعها: أنه قال: * (لعلكم تفلحون) * جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خيبة، وخامسها: أنه شرح أنواع المفاسد المتولدة منها في الدنيا والدين، وهي وقوع التعادي والتباغض بين الخلق
81

وحصول الاعراض عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة. وسادسها: قوله * (فهل أنتم منتهون) * وهو من أبلغ ما ينتهي به كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح فهل أنتم منتهون مع هذه الصوارف؟ أم أنتم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ. وسابعها: أنه تعالى قال بعد ذلك.
* (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا) * فظاهره أن المراد وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فيما تقدم ذكره من أمرهما بالاجتناب عن الخمر والميسر، وقوله * (واحذروا) * أي احذروا عن مخالفتها في هذه التكاليف. وثامنها: قوله: * (فإن توليتم فاعملوا أنما على رسولنا البلاغ المبين) * وهذا تهديد عظيم ووعيد شديد في حق من خالف في هذا التكليف وأعرض فيه عن حكم الله، وبيانه، يعني أنكم إن توليتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ والاعذار والانذار، فأما ما وراء ذلك من عقاب من خالف هذا التكليف وأعرض عنه فذاك إلى الله تعالى، ولا شك أنه تهديد شديد، فصار كل واحد من هذه الوجوه الثمانية دليلا قاهرا وبرهانا باهرا في تحريم الخمر. واعلم أن من أنصف وترك الاعتساف علم أن هذه الآية نص صريح في أن كل مسكر حرام، وذلك لأنه تعالى لما ذكر قوله * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) * (المائدة: 91) قال بعده * (فهل أنتم منتهون) * فرتب النهي عن شرب الخمر على كون الخمر مشتملة على تلك المفاسد، ومن المعلوم في بدائه العقول أن تلك المفاسد إنما تولدت من كونها مؤثرة في السكر وهذا يفيد القطع بأن علة قوله * (فهل أنتم منتهون) * هي كون الخمر مؤثرا في الاسكار، وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كل مسكر حرام، ومن أحاط عقله بهذا التقدير وبقي مصرا على قوله فليس لعناده علاج، والله أعلم.
82

قوله تعالى
* (ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) *.
وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: روي أنه لما نزلت آية تحريم الخمر قالت الصحابة: إن إخواننا كانوا قد شربوا الخمر يوم أحد ثم قتلوا فكيف حالهم، فنزلت هذه
الآية والمعنى: لا إثم عليهم في ذلك لأنهم شربوها حال ما كانت محللة، وهذه الآية مشابهة لقوله تعالى في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * (البقرة: 143) أي إنكم حين استقبلتم بيت المقدس فقد استقبلتموه بأمري فلا أضيع ذلك، كما قال: * (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى) * (آل عمران: 195). المسألة الثانية: الطعام في الأغلب من اللغة خلاف الشراب، فكذلك يجب أن يكون الطعم خلاف الشرب، إلا أن اسم الطعام قد يقع على المشروبات، كما قال تعالى: * (ومن لم يطعمه فإنه مني) * (البقرة: 249) وعلى هذا يجوز أن يكون قوله * (جناح فيما طعموا) * أي شربوا الخمر، ويجوز أن يكون معنى الطعم راجعا إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب، وقد تقول العرب: تطعم تطعم أي ذق حتى تشتهي وإذا كان معنى الكلمة راجعا إلى الذوق صلح للمأكول والمشروب معا. المسألة الثالثة: زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بين في الخمر أنها محرمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة، بين في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد، بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى، والاحسان إلى الخلق. قالوا: ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم، لأنه لو كان المراد ذلك لقال: ما كان جناح على الذين طعموا، كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة فقال * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * (البقرة: 143) ولكنه لم يقل ذلك، بل قال: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح) * إلى قوله * (إذا ما اتقوا وآمنوا) * ولا شك أن إذا للمستقبل لا للماضي.
83

واعلم أن هذا القول مردود بإجماع كل الأمة وقولهم: إن كلمة إذا للمستقبل لا للماضي. فجوابه ما روى أبو بكر الأصم: أنه لما نزل تحريم الخمر، قال أبو بكر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها، فأنزل الله هذه الآيات، وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص. المسألة الرابعة: أنه تعالى شرط لنفي الجناح حصول التقوى والايمان مرتين وفي المرة الثالثة حصول التقوى والاحسان واختلفوا في تفسير هذه المراتب الثلاث على وجوه: الأول: عمل الاتقاء، والثاني: دوام الاتقاء والثبات عليه، والثالث: اتقاء ظلم العباد مع ضم الاحسان إليه. القول الثاني: أن الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول هذه الآية، والثاني: اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية. الثالث: اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية وهذا قول الأصم، القول الثالث: اتقاء الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر، القول الرابع: ما ذكره القفال رحمه الله تعالى قال: التقوى الأولى عبارة عن الاتقاء من القدح في صحة النسخ وذلك لأن اليهود يقولون النسخ يدل على البداء فأوجب على المؤمنين عند سماع تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة أن يتقوا عن هذه الشبهة الفاسدة والتقوى الثانية الإتيان بالعمل المطابق لهذه الآية وهي الاحتراز عن شرب الخمر والتقوى الثالثة عبارة عن المداومة على التقوى المذكورة في الأولى والثانية ثم يضم إلى هذه التقوى الإحسان إلى الخلق. والقول الخامس: أن المقصود من هذا التكرير التأكيد والمبالغة في الحث على الايمان والتقوى. فإن قيل: لم شرط رفع الجناح عن تناول المطعومات بشرط الايمان والتقوى مع أن المعلوم أن من لم يؤمن ومن لم يتق ثم تناول شيئا من المباحات فإنه لا جناح عليه في ذلك التناول، بل عليه جناح في ترك الإيمان وفي ترك التقوى، إلا أن ذلك لا تعلق له بتناول ذلك المباح فذكر هذا الشرط في هذا المعرض غير جائز. قلنا: ليس هذا للاشتراط بل لبيان أن أولئك الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدا لأحوالهم في الايمان والتقوى والاحسان، ومثاله أن يقال لك: هل على زيد فيما فعل جناح، وقد علمت أن ذلك الأمر مباح فتقول: ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمنا محسنا تريد أن زيدا إن بقي مؤمنا محسنا فإنه غير مؤاخذ بما فعل.
84

ثم قال تعالى: * (والله يحب المحسنين) * والمعنى أنه تعالى لما جعل الاحسان شرطا في نفي الجناح بين أن تأثير الإحسان ليس في نفي الجناح فقط، بل وفي أن يحبه الله، ولا شك أن هذه الدرجة أشرف الدرجات وأعلى المقامات، وقد تقدم تفسير محبة الله تعالى لعباده.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم) * اعلم أن هذا نوع آخر من الأحكام، ووجه النظم أنه تعالى كما قال: * (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * (المائدة: 87) ثم استثنى الخمر والميسر عن ذلك، فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحللات، وبين دخوله في المحرمات. وهاهنا مسائل: المسألة الأولى: اللام في قوله * (ليبلونكم الله) * لام القسم، لأن اللام والنون قد يكونان جوابا للقسم، وإذا ترك القسم جيء بهما دليلا على القسم. المسألة الثانية: الواو في قوله * (ليبلونكم) * مفتوحة لالتقاء الساكنين. المسألة الثالثة: ليبلونكم أي ليختبرن طاعتكم من معصيتكم أي ليعاملنكم معاملة المختبر. المسألة الرابعة: قال مقاتل بن حيان: ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم، فيقدرون على أخذها بالأيدي، وصيدها بالرماح، وما رأوا مثل ذلك قط، فنهاهم الله عنها ابتلاء. قال الواحدي: الذي تناله الأيدي من الصيد، الفراخ والبيض وصغار الوحش، والذي تناله الرماح الكبار، وقال بعضهم: هذا غير جائز، لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لم يمتنع. المسألة الخامسة: معنى التقليل والتصغير في قوله * (بشيء من الصيد) * أن يعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي كون التكليف فيها صعبا شاقا، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، وإنما هو ابتلاء سهل، فإن الله تعالى امتحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بصيد البر كما امتحن بني إسرائيل بصيد البحر، وهو صيد السمك. المسألة السادسة: من في قوله * (من الصيد) * للتبعيض من وجهين: أحدهما: المراد صيد البر
85

دون البحر. والثاني: صيد الاحرام دون صيد الاحلال، وقال الزجاج: يحتمل أن تكون للتبيين كقوله * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) * (الحج: 30). المسألة السابعة: أراد بالصيد المفعول، بدليل قوله تعالى: * (تناله أيديكم ورماحكم) * والصيد إذا كان بمعنى المصدر يكون حدثا، وإنما يوصف بنيل اليد والرماح ما كان عينا. ثم قال تعالى: * (ليعلم الله من يخافه بالغيب) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: أن هذا مجاز لأنه تعالى عالم لم يزل ولا يزال واختلفوا في معناه فقيل نعاملكم
معاملة من يطلب أن يعلم وقيل ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وقيل هذا على حذف المضاف والتقدير: ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب. المسألة الثانية: قوله * (بالغيب) * فيه وجهان: الأول: من يخافه حال إيمانه بالغيب كما ذكر ذلك في أول كتابه وهو قوله * (يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3) الثاني: من يخاف بالغيب أي يخافه بإخلاص وتحقيق ولا يختلف الحال بسبب حضور أحد أو غيبته كما في حق المنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم. المسألة الثالثة: الباء في قوله * (بالغيب) * في محل النصب بالحال والمعنى من يخافه حال كونه غائبا عن رؤيته ومثل هذا قوله * (من خشي الرحمن بالغيب) * (ق: 33) * (ويخشون ربهم بالغيب) * (الأنبياء: 49) وأما معنى الغيب فقد ذكرناه في قوله * (الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3). ثم قال تعالى: * (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) * والمراد عذاب الآخرة والتعزيز في الدنيا قال ابن عباس: هذا العذاب هو أن يضرب بطنه وظهره ضربا وجيعا وينزع ثيابه. قال القفال: وهذا جائز لأن اسم العذاب قد يقع على الضرب كما سمى جلد الزانيين عذابا فقال * (وليشهد عذابهما طائفة) * (النور: 2) وقال * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * (النساء: 25) وقال حاكيا عن سليمان في الهدهد: * (لأعذبنه عذابا شديدا) * (النمل: 21).
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * وفيه مسائل:
86

المسألة الأولى: المراد بالصيد قولان. الأول: أنه الذي توحش سواء كان مأكولا أو لم يكن، فعلى هذا المحرم إذا قتل سبعا لا يؤكل لحمه ضمن ولا يجب به قيمة شاة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال زفر: يجب بالغا ما بلغ. والقول الثاني: أن الصيد هو ما يؤكل لحمه، فعلى هذا لا يجب الضمان البتة في قتل السبع، وهو قول الشافعي رحمه الله وسلم أبو حنيفة رحمه الله أنه لا يجب الضمان في قتل الفواسق الخمس وفي قتل الذئب حجة الشافعي رحمه الله القرآن والخبر، أما القرآن فهو أن الذي يحرم أكله ليس بصيد، فوجب أن لا يضمن، إنما قلنا إنه ليس بصيد لأن الصيد ما يحل أكله لقوله تعالى بعد هذه الآية * (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * (المائدة: 96) فهذا يقتضي حل صيد البحر بالكلية، وحل صيد البر خارج وقت الاحرام، فثبت أن الصيد ما يحل أكله والسبع لا يحل أكله، فوجب أن لا يكون صيدا، وإذا ثبت أنه ليس بصيد وجب أن لا يكون مضمونا، لأن الأصل عدم الضمان، تركنا العمل به في ضمان الصيد بحكم هذه الآية، فبقي فيما ليس بصيد على وفق أوصل، وأما الخبر فهو الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام: " خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهن في الحل والحرم الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب العقور " وفي رواية أخرى: والسبح الضاري، والاستدلال به من وجوه: أحدها: أن قوله: والسبع الضاري نص في المسألة، وثانيها: أنه عليه السلام وصفها بكونها فواسق ثم حكى بحل قتلها، والحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معللا بذلك الوصف، وهذا يدل على أن كونها فواسق علة لحل قتلها، ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذية، وصفة الايذاء في السباع أقوى فوجب جوا " قتلها، وثالثها: أن الشارع خصها بإباحة القتل، وإنما خصها بهذا الحكم لاختصاصها بمزيد الايذاء، وصفة الايذاء في السباع أتم، فوجب القول بجواز قتلها. وإذا ثبت جواز قتلها وجب أن لا تكون مضمونة لما بيناه في الدليل الأول. حجة أبي حنيفة رحمه الله: أن السبع صيد فيدخل تحت قوله * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * وإنما قلنا إنه صيد لقول الشاعر: ليث تربى ربية فاصطيدا ولقول علي عليه السلام:
فصيد الملوك أرانب وثعالب * وإذا ركبت فصيدي الأبطال
والجواب: قد بينا بدلالة الآية أن ما يحرم أكله ليس بصيد، وذلك لا يعارضه شعر مجهول، وأما شعر علي عليه السلام فغير وارد، لأن عندنا الثعلب حلال.
87

المسألة الثانية: حرم جمع حرام، وفيه ثلاثة أقوال: الأول: قيل حرم أي محرمون بالحج، وقيل: وقد دخلتم الحرم، وقيل: هما مرادان بالآية، وهل يدخل فيه المحرم بالعمرة فيه خلاف.
المسألة الثالثة: قوله * (لا تقتلوا) * يفيد المنع من القتل ابتداء، والمنع منه تسببا، فليس له أن يتعرض إلى الصيد ما دام محرما لا بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم، وأما الحلال فله أن يتصيد في الحل وليس له أن يتصيد في الحرم، وإذا قلنا * (وأنتم حرم) * يتناول الأمرين أعني من كان محرما ومن كان داخلا في الحرم كانت الآية دالة على كل هذه الأحكام. ثم قال تعالى: * (ومن قتله منكم متعمدا بجزاء مثل ما قتل من النعم) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي فجزاء بالتنوين؛ ومثل بالرفع والمعنى فعليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد فمثل مرفوع لأنه صفة لقوله * (فجزاء) * قال ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل. ألا ترى أنه ليس عليه جزاء مثل ما قتل، في الحقيقة إنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول الذي لم يقتله وقوله تعالى: * (من النعم) * يجوز أن يكون صفة للنكرة التي هي جزاء؛ والمعنى فجزاء من النعم مثل ما قتل، وأما سائر القراء فهم قرؤا * (فجزاء مثل) * على إضافة الجزاء إلى المثل وقالوا: إنه وإن كان الواجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فإنهم يقولون: أنا أكرم مثلك يريدون أنا أكرمك ونظيره قوله * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) والتقدير: ليس هو كشئ، وقال: * (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات) * (الأنعام: 122) والتقدير: كمن هو في الظلمات وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى فجزاء مثل ما قتل من النعم كقولك خاتم فضة أي خاتم من فضة. المسألة الثانية: قال سعيد بن جبير: المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه شيء وهو قول داود وقال جمهور الفقهاء: يلزمه الضمان سواء قتل عمدا أو خطأ حجة داود أن قوله تعالى: * (ومن قتله منكم متعمدا) * مذكور في معرض الشرط، وعند عدم الشرط يلزم عدم المشروط فوجب أن لا يجب الجزاء عند فقدان العمدية قال: والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال في آخر الآية * (ومن عاد فينتقم الله منه) * والانتقام إنما يكون في العمد دون الخطأ وقوله * (ومن عاد) * المراد منه ومن عاد إلى ما تقدم ذكره، وهذا يقتضي أن الذي تقدم ذكره من القتل الموجب للجزاء هو العمد لا الخطأ وحجة الجمهور قوله تعالى: * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * (المائدة: 96) ولما كان ذلك
حراما بالاحرام صار فعله محظورا بالاحرام فلا يسقط حكمه بالخطأ والجهل كما في حلق الرأس وكما في ضمان مال المسلم فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يتبدل ذلك بكونه خطأ أو عمدا فكذا هاهنا وأيضا
88

يحتجون بقوله عليه السلام في الضبع كبش إذا قتله المحرم، وقول الصحابة في الظبي شاة، وليس فيه ذكر العمد.
أجاب داود بأن نص القرآن خير من خبر الواحد وقول الصحابي والقياس. المسألة الثالثة: ظاهر الآية يدل على أنه يجب أن يكون جزاء الصيد مثل المقتول، إلا أنهم اختلفوا في المثل، فقال الشافعي ومحمد بن الحسن: الصيد ضربان: منه ما له مثل، ومنه ما لا مثل له، فما له مثل يضمن بمثله من النعم، وما لا مثل له يضمن بالقيمة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: المثل الواجب هو القيمة. وحجة الشافعي: القرآن، والخبر، والإجماع، والقياس، أما القرآن فقوله تعالى: * (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) * والاستدلال به من وجوه أربعة: الأول: أن جماعة من القراء قرؤا * (فجزاء) * بالتنوين، ومعناه: فجزاء من النعم مماثل لما قتل، فمن قال إنه مثله في القيمة فقد خالف النص، وثانيها: أن قوما آخرين قرؤا * (فجزاء مثل ما قتل) * بالإضافة، والتقدير: فجزاء ما قتل من النعم، أي فجزاء مثل ما قتل يجب أن يكون من النعم، فمن لم يوجبه فقد خالف النص، ثالثها: قراءة ابن مسعود * (فجزاؤه مثل ما قتل من النعم) * وذلك صريح فيما قلناه: ورابعها: أن قوله تعالى: * (يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) * صريح في أن ذلك الجزاء الذي يحكم به ذوا عدل منهم، يجب أن يكون هديا بالغ الكعبة. فإن قيل: إنه يشري بتلك القيمة هذا الهدى. قلنا: النص صريح في أن ذلك الشيء الذي يحكم به ذوا عدل يجب أن يكون هديا وأنتم تقولون: الواجب هو القيمة، ثم إنه يكون بالخيار إن شاء اشترى بها هديا يهدي إلى الكعبة، وإن شاء لم يفعل، فكان ذلك على خلاف النص، وأما الخبر: فما روى جابر بن عبد ا أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع، أصيد هو؟ فقال نعم، وفيه كبش إذا أخذه المحرم، وهذا نص صريح. وأما الاجماع: فهو أن الشافعي رحمه الله قال: تظاهرت الروايات عن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر في بلدان مختلفة وأزمان شتى: أنهم حكموا في جزاء الصيد بالمثل من النعم، فحكموا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الظبي بشاة، وفي الأرنب بجفرة، وفي رواية بعناق، وفي الضب بسخلة، وفي اليربوع بجفرة وهذا يدل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبها بالصيد من النعم لا بالقيمة ولا حكموا بالقيمة لاختلف باختلاف الأسعار والظبي هو الغزال الكبير الذكر والغزال هو
89

الأنثى واليربوع هو الفأرة الكبيرة تكون في الصحراء، والجفرة الأنثى من أولاد المعز إذا انفصلت عن أمها والذكر جفر والعنق الأنثى من أولاد المعز إذا قويت قبل تمام الحول. وأما القياس فهو أن المقصود من الضمان جزاء الهالك ولا شك أن المماثلة كلما كانت أتم كان الجزاء أتم فكان الايجب أولى. حجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لا نزاع أن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة فكان المراد بالمثل في قوله * (فجزاء مثل م قتل من النعم) * هو القيمة في هذه الصورة، فوجب أن يكون في سائر الصور كذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على المعنى الواحد. والجواب: أن حقيقة المماثلة أمر معلوم والشارع أوجب رعاية المماثلة فوجب رعايتها بأقصى الامكان فإن أمكنت رعايتها في الصورة وجب ذلك وإن لم يكن رعايتها إلا بالقيمة وجب الاكتفاء بها للضرورة. المسألة الرابعة: جماعة محرمون قتلوا صيدا. قال الشافعي رحمه الله: لا يجب عليهم إلا جزاء واحدا، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة ومالك والثوري رحمهم الله: يجب على كل واحد منهم جزاء واحد. حجة الشافعي رحمه الله: أن الآية دلت على وجوب المثل، ومثل الواحد واحد وأكد هذا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال بمثل قولنا: حجة أبي حنيفة رحمه الله أن كل واحد منهم قاتل فوجب أن يجب على كل وحد منهم جزاء كامل، بيان الأول أن جماعة لو حلف كل واحد منهم أن لا يقتل صيدا فقتلوا صيدا واحدا لزم كل واحد منهم كفارة، وكذلك القصاص المتعلق بالقتل يجب على جماعة يقتلون واحدا، وإذا ثبت أن كل واحد منهم قاتل وجب أن يجب على كل واحد منهم جزاء كامل لقوله تعالى: * (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) * فقوله * (ومن قتله منكم متعمدا) * صيغة عموم فيتناول كل القاتلين. أجاب الشافعي رحمه الله: بأن القتل شيء واحد فيمتنع حصوله بتمامه بأكثر من فاعل واحد فإذا اجتمعوا حصل بمجموع أفعالهم قتل واحد وإذا كان كذلك امتنع كون كل واحد منهم قاتلا في الحقيقة وإذا ثبت أن كل واحد منهم ليس بقاتل لم يدخل تحت هذه لآية وأما قتل الجماعة بالواحد فذاك ثبت على سبيل التعبد وكذا القول في إيجاب الكفارات المتعددة. المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه الله: المحرم إذا دل غيره على صيد، فقتله المدلول عليه لم يضمن الدال الجزاء، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يضمن حجة الشافعي أو وجوب الجزاء معلق بالقتل في هذه الآية والدلالة ليست بقتل فوجب أن لا يجب الضمان ولأنه بدل المتلف فلا يجب بالدالة ككفارة القتل والدية، وكالدلالة على مال المسلم. حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه سئل عمر عن هذه
90

المسألة فشاور عبد الرحمن بن عوف فأجمعا على أن عليه الجزاء وعن ابن عباس أنه أوجب الجزاء على الدال، أجاب الشافعي رحمه الله: بأن نص القرآن خير من أثر بعض الصحابة. المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه الله: إن جرح ظبيا فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة، وقال داود لا يضمن البتة سوى القتل، وقال المزني عليه شاة. حجة داود أن الآية دالة على أن شرط وجوب الجزاء هو القتل، فإذا لم يوجد القتل: وجب أن لا يجب الجزاء البتة، وجوابه أن المعلق على القتل، وجوب مثل المقتول، وعندنا أن هذا لا يجب عند عدم القتل فسقط قوله. المسألة السابعة: إذا رمى من الحل والصيد في الحل، فمر في السهم طائفة من الحرم، قال الشافعي رحمه الله: يحرم وعليه والجزاء، وقال أبو حنيفة: لا يحرم. حجة الشافعي: أن سبب الذبح مركب من أجزاء، بعضها مباح وبعضها محرم، وهو المرور في الحرم، وما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال، لا سيما في الذبح الذي الأصل فيه الحرمة. وحجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن قوله تعالى: * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * نهى له عن الاصطياد حال كونه في الحرم، فلما لم يوجد واحد من هذين الأمرين وجب أن لا تحصل الحرمة.
المسألة الثامنة: الحلال إذا اصطاد صيدا وأدخله الحرم لزمه الارسال وإن ذبحه حرم ولزمه الجزاء وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال الشافعي رحمه الله، وقال الشافعي رحمه الله يحل، وليس عليه ضمان. حجة الشافعي: قوله تعالى: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم) * (المائدة: 1) وحجة أبي حنيفة قوله تعالى: * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * نهى عن قتل الصيد حال كونه محرما، وهذا يتناول الصيد الذي اصطاده في الحل، والذي اصطاده في الحرم. المسألة التاسعة: إذا قتل المحرم صيدا وأدى جزاءه، ثم قتل صيدا آخر لزمة جزاء آخر، وقال داود: لا يجب حجة الجمهور: أن قوله تعالى: * (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) * ظاهره يقتضي أن علة وجوب الجزاء هو القتل، فوجب أن يتكرر الحكم عند تكرر العلة. فإن قيل: إذا قال الرجل لنسائه، من دخل منكن الدار فهي طالق، فدخلت واحدة مرتين لم يقع إلا طلاق واحد. قلنا: الفرق أن القتل علة لوجوب الجزاء، فيلزم تكرر الحكم عند تكرر العلة. أما ههنا: دخول الدار شرط لوقوع الطلاق، فلم يلزم تكرر الحكم عند تكرر الشرط. حجة داود: قوله تعالى: * (ومن عاد فينتقم الله منه) * جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة.
91

المسألة العاشرة: قال الشافعي رحمه الله: إذا أصاب صيدا أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله، والصحيح أحب إلي، وعلى هذا الكبير أولى من الصغير، ويفدى الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى، والأولى أن لا بغير، لأن نص القرآن إيجاب المثل، والأنثى وإن كانت أفضل من الذكر من حيث إنها تلد، فالذكر أفضل من الأنثى لأن لحمه أيب وصورته أحسن. ثم قال تعالى: * (يحكم به ذوا عدل منكم) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال ابن عباس: يريد يحكم في جزاء الصيد رجلان صالحان ذوا عدل منكم أي من أهل ملتكم ودينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشباه به من النعم فيحكمان به، واحتج به من نصر قول أبي حنيفة رحمه الله في إيجاب القيمة، فقال: التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد، وأما الخلقة والصورة، فظاهرة مشاهدة لا يحتاج فيها إلى الاجتهاد. وجوابه: أن وجوه المشابهة بين النعم وبين الصيد مختلفة وكثيرة، فلا بد من الاجتهاد في تمييز الأقوى من الأضعف، والذي يدل على صحة ما ذكرنا أنه قال ميمون بن مهران: جاء أعرابي إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا، فسأل أبو بكر رضي الله عنه أبي بن كعب، فقال الأعرابي: أتيتك أسألك، وأنت تسأل غيرك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: وما أنكرت من ذلك، قال الله تعالى: * (يحكم به ذوا عدل منكم) * فشاورت صاحبي، فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به، وعن قبيضة بن جابر: أنه حين كان محرما ضرب ظبيا فمات، فسأل عمر بن الخطاب رضي لله عنه، وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف، فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ قال: عليه شاة. قال: وأنا أرى ذلك، فقال: إذهب فاهد شاة. قال قبيصة: فخرجت إلى صاحبي وقلت له إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره. قال: ففاجأني عمر وعلاني بالدرة، وقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم، قال الله تعالى: * (يحكم به ذوا عدل منكم) * فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف. المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: الذي له مثل ضربان فما حكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره، لأنه شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين، فينظر إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام فكل ما كان أقرب شبها به يوجبانه وقال مالك: يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة، وفيما لم تحكم به حجة الشافعي رحمه الله الآية دلت على أنه يجب أن يحكم به ذوا عدل، فإذا حكم به اثنان من الصحابة، فقد دخل تحت الآية، ثم ذاك أولى لما ذكرنا أنهم شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل. المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله: يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين إذا كان أخطأ
92

فيه، فإن تعمد لا يجوز، لأنه يفسق به، وقال مالك: لا يجوز كما في تقويم المتلفات. حجة الشافعي رحمه الله: أنه تعالى أوجب أن يحكم به ذوا عدل، وإذا صدر عنه القتل خطأ كان عدلا، فإذا حكم به هو وغيره فقد حكم به ذوا عدل، وأيضا روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبيا، فسأل عمر عنه، فقال عمر: احكم فقال: أنت عدل يا أمير المؤمنين فاحكم، فقال عمر رضي الله عنه: إنما أمرتك أن تحكم وما أمرتك أن تزكيني، فقال: أرى فيه جديا جمع الماء والشجر، فقال: افعل ما ترى، وعلى هذا التقدير قال أصحابنا: يجوز أن يكونا قاتلين. المسألة الرابعة: لو حكم عدلان بمثل، وحكم عدلان آخران بمثل آخر، فيه وجهان: أحدهما: يتخير، والثاني: يأخذ بالأغلظ. المسألة الخامسة: قال بعض مثبتي القياس: دلت الآية على أن العمل بالقياس والاجتهاد جائز لأنه تعالى فوض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم وهذا ضعيف لأنه لا شك أن الشارع تعبدنا بالعمل بالظن في صور كثيرة. منها: الاجتهاد في القبلة، ومنها: العمل بشهادة الشاهدين ومنها: العمل بتقويم المقومين في قيم المتلفات وأروش الجنايات، ومنها: العمل بتحكيم الحكام في تعيين مثل المصيد المقتول، كما في هذه الآية، ومنها: عمل العامي بالفتوى. ومنها: العمل بالظن في مصالح الدنيا. إلا أنا نقول: إن ادعيتم أن تشبيه صورة شرعية بصورة شرعية في الحكم الشرعي هو عين هذه المسائل التي عددناها فذلك باطل في بديهة العقل، وإن سلمتم المغايرة لم يلزم، من كون الظن حجة في تلك الصور، كونه حجة في مسألة القياس، إلا إذا قسنا هذه المسألة على تلك المسائل وذلك يقتضي إثبات القياس بالقياس، وهو باطل. وأيضا فالفرق ظاهر بين البابين، لأن في جميع الصور المذكورة الحكم إنما ثبت في حق شخص واحد في زمان واحد في واقعة واحدة. وأما الحكم الثابت بالقياس فإنه شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والتنصيص على أحكام الأشخاص الجزئية متعذر. وأما التنصيص على الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر. وأما التنصيص على الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر، فظهر الفرق والله أعلم. ثم قال تعالى: * (هديا بالغ الكعبة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية وجهان: الأول: أن المعنى يحكمان به هديا يساق إلى الكعبة فينحر هناك، وهذا يؤكد قول من أوجب المثل من طريق الخلقة لأنه تعالى لم يقل يحكمان به شيئا يشتري به هدي وإنما قال يحكمان به هديا وهذا صريح في أنهما يحكمان بالهدي لا غير. الثاني: أن يكون المعنى يحكمان به شيئا يشتري به ما يكون هديا، وهذا بعيد عن ظاهر اللفظ، والحق هو الأول. وقوله * (هديا) * نصب على الحال من
93

الكناية في قوله * (به) * والتقدير يحكم بذلك المثل شاة أو بقرة أو بدنة فالضمير في قوله * (به) * عائد إلى المثل والهدي حال منه، وعند التفطن لهذين الاعتبارين فمن الذي يرتاب في أو الواجب هو المثل من طريق الخلقة والله أعلم. المسألة الثانية: قوله * (بالغ الكعبة) * صفة لقوله * (هديا) * لأن إضافته غير حقيقية، تقديره بالغا الكعبة لكن التنوين قد حذف استخفافا ومثله * (عارض ممطرنا) * (الأحقاف: 24). المسألة الثالثة: سميت الكعبة كعبة لارتفاعها وتربعها، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة والكعبة إنما أريد بها كل الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في الكعبة ولا عندها ملازقا لها ونظير هذه الآية قوله * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * (الحج: 33). المسألة الرابعة: معنى بلوغه الكعبة، أن يذبح بالحرم فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حيا لم يجز بل يجب عليه ذبحه في الحرم، وإذا ذبحه في الحرم. قال الشافعي رحمه الله: يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضا. وقال أبو حنيفة رحمه الله: له أن يتصدق به حيث شاء، وسلم الشافعي أن له أن يصوم حيث شاء، لأنه لا منفعة فيه لمساكين الحرم. حجة الشافعي: أن نفس الذبح إيلام، فلا يجوز أن يكون قربة، بل القربة هي إيصال اللحم إلى الفقراء، فقوله: * (هديا بالغ الكعبة) * يوجب إيصال تلك الهدية إلى أهل الحرم والكعبة. وحجة أبي حنيفة رحمه الله: أنها لما وصلت إلى الكعبة فقد صارت هديا بالغ الكعبة، فوجب أن يخرج عن العهدة. ثم قال تعالى: * (أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر * (أو كفارة طعام) * على إضافة الكفارة إلى الطعام، والباقون * (أو كفارة) * بالرفع والتنوين طعام بالرفع من غير التنوين، أما وجه القراءة الأولى: فهي أنه تعالى لما خير المكلف بين ثلاثة أشياء: الهدي، والصيام، والطعام، حسنت الإضافة، فكأنه قيل كفارة طعام لا كفارة هدي، ولا كفارة صيام، فاستقامت الإضافة لكون الكفارة من هذه الأشياء، وأما وجه قراءة من قرأ * (أو كفارة) * بالتنوين، فهو أنه عطف على قوله * (فجزاء) * و * (طعام مساكين) * عطف بيان، لأن الطعام هو الكفارة ولم تضف الكفارة إلى الطعام، لأن الكفارة ليست للطعام، وإنما الكفارة لقتل الصيد. المسألة الثانية: قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله: كلمة * (أو) * في هذه الآية للتخيير، وقال أحمد وزفر: إنها للترتيب.
94

حجة الأولين أن كلمة (أو) في أصل اللغة للتخيير، والقول بأنها للترتيب ترك للظاهر. حجة الباقين: أن كلمة (أو) قد تجيء لا لمعنى للتخيير، كما في قوله تعالى: * (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم منن خلاف) * (المائدة: 33) فإن المراد منه تخصيص كل واحد من هذه الأحكام بحالة معينة، فثبت أن هذا اللفظ يحتمل الترتيب، فنقول: والدليل دل على أن المراد هو الترتيب، لأن الواجب ههنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله * (ليذوق وبال أمره.. ومن عاد فينتقم الله منه) * والتخيير ينافي التغليظ. والجواب: أن إخراج المثل ليس أقوى عقوبة من إخراج الطعام، فالتخيير لا يقدح في القدر الحاصل من العقوبة في إيجاب المثل. المسألة الثالثة: إذا قتل صيدا له مثل قال الشافعي رحمه الله: هو مخير بين ثلاثة أشياء: إن شاء أخرج المثل، وإن شاء قوم المثل بدراهم، ويشتري بها طعاما ويتصدق به، وإن شاء صام، وأما الصيد الذي لا مثل له، فهو مخير فيه بين شيئين، بين أن يقوم الصيد بالدراهم ويشتري بتلك الدراهم طعاما ويتصدق به، وبين أن يصوم، فعلى ما ذكرنا الصيد الذي له مثل إنما يشتري الطعام بقيمة مثله. وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله: إنما يشتري الطعام بقيمته: حجة الشافعي أن المثل من النعم هو الجزاء والطعام بناء عليه فيعدل به كما يعدل عن الصوم بالطعام، وأيضا تقويم مثل الصيد أدخل في الضبط من تقويم نفس الصيد، وحجة أبي حنيفة رحمه الله: أن مثل المتلف إذا وجب اعتبر بالمتلف لا بغيره ما أمكن، والطعام إنما وجب مثلا للمتلف فوجب أن يقدر به. المسألة الرابعة: اختلفوا في موضع التقويم: فقال أكثر الفقهاء: إنما يقوم في المكان الذي قتل الصيد فيه. وقال الشعبي: يقوم بمكة بثمن مكة لأنه يكفر بها. المسألة الخامسة: قال الفراء: العدل ما عادل الشيء من غير جنسه، والعدل المثل، تقول عندي عدل غلامك أو شاتك إذا كان عندك غلام يعدل غلاما أو شاة تعدل شاة، أما إذا أردت قيمته من غير جنسه نصبت العين فقلت عدل. وقال أبو الهيثم: العدل المثل، والعدل القيمة، والعدل اسم حمل معدول بحمل آخر مسوى به، والعدل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه. وقال الزجاج وابن الأعرابي: العدل والعدل سواء وقوله * (صياما) * نصب على التمييز، كنا تقول عندي رطلان عسلا، وملء بيت قتا، والأصل فيه إدخال حرف من فيه، فإن لم يذكر نصبته. تقول: رطلان من العسل وعدل ذلك من الصيام. المسألة السادسة: مذهب الشافعي رضي الله عنه: أنه يصوم لكل مد يوما وهو قول عطاء
95

ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه يصوم لكل نصف صاع يوما، والأصل في هذه المسألة أنهما توافقا على أن الصوم مقدر بطعام يوم، إلا أن طعام اليوم عند الشافعي مقدر بالمد، وعند أبي حنيفة رحمه الله مقدر بنصف صاع على ما ذكرناه في كفارة اليمين. المسألة السابعة: زعم جمهور الفقهاء أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد. وقال محمد بن الحسن رحمه الله إلى الحكمين: حجة الجمهور أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الثلاثة على التخيير، فوجب أن يكون قاتل الصيد مخيرا بين أيها شاء، وحجة محمد رحمه الله أنه تعالى جعل الحياة إلى الحكمين فقال * (يحكم به ذوا عدل منك هديا) * أي كذا وكذا. وجوابنا: أن تأويل الآية * (فجزاء مثل ما قتل من النعم... أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) * وأما الذي يحكم به ذوا عدل فهو تعيين المثل، إما في القيمة أو في الخلقة. ثم قال تعالى: * (ليذوق وبال أمره) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: الوبال في اللغة: عبارة عما فيه من الثقل والمكروه. يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة، وماء وبيل إذا لم يستمر، أو الطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا ينهضم، قال تعالى: * (فأخذناه أخذا وبيلا) * (المزمل: 16) أي ثقيلا. المسألة الثانية: إنما سمى الله تعالى ذلك وبالا لأنه خيره بين ثلاثة أشياء: اثنان منها توجب تنقيص المال، وهو ثقيل على الطبع، وهما الجزاء بالمثل والاطعام، والثالث: يوجب إيلام البدن وهو الصوم، وذلك أيضا ثقيل على الطبع، والمعنى: أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام. ثم قال تعالى: * (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: في الآية وجهان: الأول: عفا الله عما مضى في الجاهلية وعما سلف قبل التحريم في الإسلام. القول الثاني: وهو قول من لا يوجب الجزاء إلا في المرة الأولى، أما في المرة الثانية
فإنه لا يوجب الجزاء عليه ويقول إنه أعظم من أن يكفره التصدق بالجزاء، فعلى هذا المراد: عفا الله عمال سلف في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء، ومن عاد إليه مرة ثانية فلا كفارة لجرمه بل ينتقم الله منه. وحجة هذا القول: أن الفاء في قوله * (فينتقم الله منه) * فاء الجزاء، والجزاء هو الكافي،
96

فهذا يقتضي أن هذا الانتقام كاف في هذا الذنب، وكونه كافيا يمنع من وجوب شيء آخر، وذلك يقتضي أن لا يجب الجزاء عليه. المسألة الثانية: قال سيبويه في قوله * (ومن عاد فينتقم الله منه) * وفي قوله * (ومن كفر فأمتعه قليلا) * (البقرة: 126) وفي قوله * (فمن يؤمن بربه فلا يخاف) * (الجن: 13) إن في هذه الآيات إضمارا مقدرا والتقدير: ومن عاد فهو ينتقم الله منه، ومن كفر فأنا أمتعه، ومن يؤمن بربه فهو لا يخاف، وبالجملة فلا بد من إضمار مبتدأ يصير ذلك الفعل خبرا عنه، والدليل عليه: أن الفعل يصير بنفسه جزاء، فلا حاجة إلى إدخال حرف الجزاء عليه فيصير إدخال حرف الفاء على الفعل لغوا أما إذا أضمرنا المبتدأ احتجنا إلى إدخال حرف الفاء عليه ليرتبط بالشرط فلا تصير الفاء لغوا والله أعلم.
قوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: المراد بالصيد المصيد، وجملة ما يصاد من البحر ثلاثة أجناس، الحيتان وجميع أنواعها حلال، والضفادع وجميع أنواعها حرام، واختلفوا فيما سوى هذين. فقال أبو حنيفة رحمه الله إنه حرام. وقال ابن أبي ليلى والأكثرون إنه حلال، وتمسكوا فيه بعموم هذه الآية، والمراد بالبحر جميع المياه والأنهار. المسألة الثانية: أنه تعالى عطف طعام البحر على صيده والعطف يقتضي المغايرة وذكروا فيه وجوها: الأول: وهو الأحسن ما ذكره أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه هذا هو الأصح مما قيل في هذا الموضع. والوجه الثاني: أن صيد البحر هو الطري، وأما طعام البحر فهو الذي جعل مملحا، لأنه لما صار عتيقا سقط اسم الصيد عنه، وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومقاتل والنخعي وهو ضعيف لأن الذي صار مالحا فقد كان طريا وصيدا في أول الأمر فيلزم التكرار. والثالث: أن الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره مثل اصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ، واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها فقد حصل التغاير بين الاصطياد من البحر وبين الأكل من طعام البحر والله أعلم.
97

المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله: السمكة الطافية في البحر محللة. وقال أبو حنيفة رحمه الله محرمة: حجة الشافعي القرآن والخبر، أما القرآن فهو أنه يمكن أكله فيكون طعاما فوجب أن يحل لقوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه) * وأما الخبر فقوله عليه السلام في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". المسألة الرابعة: قوله * (للسيارة) * يعني أحل لكم صيد البحر للمقيم والمسافر، فالطري للمقيم، والمالح للمسافر. المسألة الخامسة: في انتصاب قوله * (متاعا لكم) * وجهان: الأول: قال الزجاج انتصب لكونه مصدرا مؤكدا إلا أنه لما قيل: * (أحل لكم) * كان دليلا على أنه منعم به، كما أنه لما قيل * (حرمت عليكم أمهاتكم) * (النساء: 23) كان دليلا على أنه كتب عليهم ذلك فقال * (كتاب الله عليكم) * (النساء: 24) الثاني: قال صاحب " الكشاف " انتصب لكونه مفعولا له، أي أحل لكم تمتيعا لكم. ثم قال تعالى: * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) *. وفيه مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى ذكر تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة من قوله * (غير محلي الصيد وأنتم حرم) * (المائدة: 1) إلى قوله * (وإذا حللتم فاصطادوا) * (المائدة: 2) ومن ثوله * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * (المائدة: 95) إلى قوله * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) *. المسألة الثانية: صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر، فعلى هذا السلحفاة، والسرطان، والضفدع، وطير الماء، كل ذلك من صيد البر، ويجب على قاتله الجزاء. المسألة الثالثة: اتفق المسلمون على أن المحرم عليه الصيد، واختلفوا في الصيد الذي يصيده الحلال هل يحل للمحرم فيه أربعة أقوال: الأول: وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس، وذكره الثوري وإسحاق أنه يحرم عليه بكل حال، وعولوا فيه على قوله * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * وذلك لأن صيد البر يدخل فيه ما اصطاده المحرم وما اصطاده الحلال، وكل ذلك صيد البر، وروى أبو داود في " سننه " عن حميد الطويل عن إسحاق بن عبد الله بن الحرث عن أبيه قال: كان الحرث خليفة عثمان على الطائف فصنع لعثمان طعاما وصنع فيه الحجل واليعاقيل ولحوم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجاءه الرسول فجاء فقالوا له كل فقال علي: أطعمونا قوتا حلالا فإنا حرم، ثم قال علي عليه السلام أنشد الله من كان
98

ههنا أجمع أتعلمون أن رسول الله أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله فقالوا نعم. والقول الثاني: أن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له، وهو قول الشافعي رحمه الله، والحجة فيه ما روى أبو داود في " سننه " عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم ". والقول الثالث: أنه إذا صيد للمحرم بغير إعانته وإشارته حل له وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فقال: " هل أشرتم هل أعنتم فقالوا لا. فقال: هل بقي من لحمه شيء أوجب الإباحة عند عدم الإشارة والاعانة من غير تفصيل. واعلم أن هذين القولين مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، والثاني في غاية الضعف. ثم قال تعالى: * (واتقوا الله الذي إليه تحشرون) * والمقصود منه التهديد ليكون المرء مواظبا على الطاعة محترزا عن المعصية.
قوله تعالى: * (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد) *. اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها، هو أن الله تعالى حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم، فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير، فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن عامر * (قيما) * بغير ألف، ومعناه المبالغة في كونه قائما بإصلاح مهمات الناس كقوله تعالى: * (دينا قيما) * (الأنعام: 161) والباقون بالألف، وقد استقصينا ذلك في سورة النساء. المسألة الثانية: * (جعل) * فيه قولان: الأول: أنه بين وحكم، الثاني:
أنه صير، فالأول بالأمر والتعريف، والثاني بخلق الدواعي في قلوب الناس لتعظيمه والتقرب إليه.
99

المسألة الثالثة: سميت الكعبة كعبة لارتفاعها، يقال للجارية إذا نتأ ثديها وخرج كاعب وكعاب، وكعب الإنسان يسمى كعبا لنتوه من الساق، فالكعبة لما ارتفع ذكرها في الدنيا واشتهر أمرها في العالم سميت بهذا الاسم، ولذلك فإنهم يقولون لمن عظم أمره فلان علا كعبه. المسألة الرابعة: قوله * (قياما للناس) * أصله قوام لأنه من قام يقوم، وهو ما يستقيم به الأمر ويصلح، ثم ذكروا ههنا في كون الكعبة سببا لقوام مصالح الناس وجوها: الأول: أن أهل مكة كانوا محتاجين إلى حضور أهل الآفاق عندهم ليشتروا منهم ما يحتاجون إليه طول السنة، فإن مكة بلدة ضيقة لا ضرع فيها ولا زرع، وقلما يوجد فيها ما يحتاجون إلي، فالله تعالى جعل الكعبة معظمة في القلوب حتى صار أهل الدنيا راغبين في زيارتها، فيسافرون إليها من كل فج عميق لأجل التجارة ويأتون بجميع المطالب والمشتهيات، فصار ذلك سببا لاسباغ النعم على أهل مكة. الثاني: أن العرب كانوا يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم، فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يتعرض له، ولو جنى الرجل أعظم الجنايات ثم التجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولهذا قال تعالى: * (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) * (العنكبوت: 67) الثالث: أن أهل مكة صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته وسادة الخلق إلى يوم القيامة وكل أحد يتقرب إليهم ويعظمهم. الرابع: أنه تعالى جعل الكعبة قواما للناس في دينهم بسبب ما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة، وجعل تلك المناسك سببا لحط الخطيئات، ورفع الدرجات وكثرة الكرامات. واعلم أنه لا يبعد حمل الآية على جميع هذه الوجوه، وذلك لأن قوام المعيشة إما بكثرة المنافع وهو الوجه الأول الذي ذكرناه، وإما بدفع المضار وهو الوجه الثاني، وإما بحصول الجاه والرياسة وهو الوجه الثالث، وإما بحصول الدين وهو الوجه الرابع، فلما كانت الكعبة سببا لحصول هذه الأقسام الأربعة، وثبت أن قوام المعيشة ليس إلا بهذه الأربعة ثبت أن الكعبة سبب لقوام الناس. المسألة الخامسة: المراد بقوله * (قياما للناس) * أي لبعض الناس وهم العرب، وإنما حسن هذا المجاز لأن أهل كل بلد إذا قالوا الناس فعلوا كذا وصنعوا كذا فإنهم لا يريدون إلا أهل بلدتهم فلهذا السبب خوطبوا بهذا الخطاب على وفق عادتهم. المسألة السادسة: اعلم أن الآية دالة على أنه تعالى جعل أربعة أشياء سببا لقيام الناس وقوامهم. الأول: الكعبة وقد بينا معنى كونها سببا لقيام الناس، وأما الثاني: فهو الشهر الحرام
100

ومعنى كونه سببا لقيام الناس هو أن العرب كان يقتل بعضهم بعضا في سائر الأشهر، ويغير بعضهم على بعض، فإذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم وكانوا يحصلون في الشهر الحرام من الأقوات ما كان يكفيهم طول السنة، فلولا حرمة الشهر الحرام لهلكوا وتفانوا من الجوع والشدة فكان الشهر الحرام سببا لقوام معيشتهم في الدنيا أيضا. فهو سبب لاكتساب الثواب العظيم بسبب إقامة مناسك الحج. واعلم أنه تعالى أراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة إلا أنه عبر عنها بلفظ الواحد لأنه ذهب به مذهب الجنس. وأما الثالث: فهو الهدي وهو إنما كان سببا لقيام الناس، لأن الهدي ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكا للمهدي وقواما لمعيشة الفقراء. وأما الرابع: فهو القلائد، والوجه في كونها قياما للناس أن من قصد البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد، ومن قصده من غير الشهر الحرام ومعه هدي، وقد قلده وقلد نفسه من لحاء شجرة الحرم لم يتعرض له أحد، حتى أن الواحد من العرب يلقى الهدي مقلدا، ويموت من الجوع فلا يتعرض له البتة، ولم يتعرض لها صاحبها أيضا، وكل ذلك إنما كان لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت الحرام، فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمنا من جميع الآفات والمخافات، فلما ذكر الله تعالى أنه جعل الكعبة البيت الحرام قياما للناسي ذكر بعده هذه الثلاثة، وهي الشهر الحرام والهدي والقلائد، لأن هذه الثلاثة إنما صارت سببا لقوام المعيشة لانتسابها إلى البيت الحرام، فكان ذلك دليلا على عظمة هذا البيت وغاية شرفه. ثم قال تعالى: * (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) *. والمعنى: أنه تعالى لما علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص الشديد على القتل والغارة وعلم أنه لو دامت بهم هذه الحالة لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه من منافع المعيشة، ولأدى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلية، دبر في ذلك تدبيرا لطيفا، وهو يأنه ألقى في قلوبهم اعتقادا قويا في تعظيم البيت الحرام وتعظيم مناسكه، فصار ذلك سببا لحصول الأمن في البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، فلما حصل الأمن في هذا المكان وفي هذا الزمان، قدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه في هذا الزمان، وفي هذا المكان، فاستقامت مصالح معاشهم، ومن المعلوم أن مثل هذا التدبير لا يمكن إلا إذا كان تعالى في الأزل عالما بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات حتى يعلم أن الشر غالب على طباعهم، وأن ذلك يفضي بهم إلى الفناء وانقطاع النسل، وأنه لا يمكن دفع ذلك إلا
101

بهذا الطريق اللطيف، وهو إلقاء تعظيم الكعبة في قلوبهم حتى يصير ذلك سببا لحصول الأمان في بعض الأمكنة، وفي بعض الأزمنة، فحينئذ تستقيم مصالح معاشهم في ذلك المكان، وفي ذلك الزمان، وهذا هو بعينه الدليل الذي تمسك به المتكلمون على كونه تعالى عالما، فإنهم يقولون إن أفعاله محكمة متقنة مطابقة للمصالح، وكل من كان كذلك كان عالما، ومن المعلوم أن إلقاء تعظيم الكعبة في قلوب العرب لأجل أن يصير ذلك سببا لحصول الأمن في بعض الأمكنة، وفي بعض الأزمنة، ليصير ذلك سبب اقتدارهم على تحصيل مصالح المعيشة، فعل في غاية الاتقان والاحكام، فيكون ذلك دليلا قاهرا وبرهانا باهرا، على أن صانع العالم سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات، فلا جرم قال ذلك * (لتعلموا) * أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فيه، فتعلموا أنه تدبير لطيف وفعل محكم متقن، فتعلموا * (أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض) * ثم إذا عرفتم ذلك، عرفتم أن علمه سبحانه وتعالى صفة قديمة أزلية واجبة الوجود، وما كان كذلك، امتنع أن يكون مخصوصا بالبعض دون البعض، فوجب كونه متعلقا بجميع المعلومات، وإذا كان كذلك، كان الله سبحانه عالما بجميع المعلومات، فلذلك قال: * (وأن الله بكل شيء عليم) * فما أحسن هذا الترتيب في هذا التقدير والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
قوله تعالى * (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) *.
لما ذكر الله تعالى أنواع رحمته بعباده، ذكر بعده أنه شديد العقاب، لأن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسلام: " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا " ثم ذكر عقيبه ما يدل على الرحمة وهو كونه غفورا رحيما وذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب، لأنه تعالى ذكر فيما قبل أنواع رحمته وكرمه، ثم ذكر أنه شديد العقاب ثم ذكر عقيبه وصفين من أوصاف الرحمة وهو كونه غفورا رحيما، وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة، والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة.
102

ثم قال تعالى: * (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) *.
واعلم أنه تعالى لما قدم الترهيب والترغيب بقوله * (أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) * (المائدة: 98) أتبعه بالتكليف بقوله * (ما على الرسول إلا البلاغ) * يعني أنه كان مكلفا بالتبليغ فلما بلغ خرج عن العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنا عالم بما تبدون وبما تكتمون، فإن خالفتم فاعلموا أن الله شديد العقاب، وإن أطعتم فاعلموا أن الله غفور رحيم.
ثم قال تعالى: * (قل لا يستوي الخبيث والطيب) *. اعلم أنه تعالى لما زجر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله * (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) * (المائدة: 98) ثم أتبعه بالتكليف بقوله * (ما على الرسول إلا البلاغ) * (المائدة: 99) ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله * (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) * (المائدة: 99) أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير
عن المعصية فقال: * (قل لا يستوي الخبيث والطيب) * وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان: أحدهما: الذي يكون جسمانيا، وهو ظاهر لكل أحد، والثاني: الذي يكون روحانيا، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعة الله تعالى، وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذرا عند أرباب الطباع السليمة، فكذلك الأرواح العارفة بالله تعالى المواظبة على خدمة الله تعالى، فإنها تصير مشرقة بأنوار المعارف الإلهية مبتهجة بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة، وكما أن الخبيث والطبيب في عالم الجسمانيات لا يستويان، فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان، بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشد، لأن مضرة خبث الخبيث الجسماني شيء قليل، ومنفعته طيبة مختصرة، وأما خبث الخبيث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة أبدية، وطيب الطيب الروحاني فمنفعته عظيمة دائمة أبدية، وهو القرب من جوار رب العالمين، والانخراط في زمرة الملائكة المقربين، والمرافقة من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير
103

عن المعصية. ثم قال تعالى: * (ولو أعجبك كثرة الخبيث) * يعني أن الذي يكون خبيثا في عالم الروحانيات، قد يكون طيبا في عالم الجسمانيات، ويكون كثير المقدار، وعظيم اللذة، إلا أنه مع كثرة مقداره ولذاذة متناولة وقرب وجدانه، سبب للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية، التي إليها الإشارة بقوله * (والباقيات الصالحات خير عند ربك) * (الكهف: 46) وإذا كان الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته، يمتنع أن يكون مساويا للطيب الذي هو المعرفة والمحبة والطاعة والابتهاج بالسعادات الروحانية والكرامات الربانية. ولما ذكر تعالى هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة، والتحذيرات من المعصية، أتبعها بوجه آخر يؤكدها، فقال تعالى: * (فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون) * أي فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجلية، والتعريفات القوية، ولا تقدموا على مخالفته لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) * في الآية مسائل: المسألة الأولى: في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه: الأول: أنه تعالى لما قال: * (ما على الرسول إلا البلاغ) * (المائدة: 99) صار التقدير كأنه قال، ما بلغه الرسول إليكم فخذوه، وكونوا منقادين له، وما لم يبلغه الرسول إليك فلا تسألوا عنه، ولا تخوضوا فيه، فإنكم أن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل عليكم ويشق عليكم. الثاني: أنه تعالى لما قال: * (ما على الرسول إلا البلاغ) * وهذا ادعاء منه للرسالة، ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات أخر على سبيل التعنت كما قال تعالى حاكيا عنهم * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسرار: 90) إلى قوله * (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) * (الإسرار: 93) والمعنى إني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام إليكم، والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواي في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات، فبعد ذلك طلب الزيادة من باب التحكم
104

وذلك ليس في وسعي ولعل إظهارها يوجب ما يسوءكم مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا، ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزات، وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي أن يطلبوا ذلك فربما كان ظهورها يوجب ما يسوءهم. الوجه الثالث: أن هذا متصل بقوله: * (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) * (المائدة: 99) فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مخيفة إن تبد لكم تسؤكم. المسألة الثانية: أشياء جمع شيء وأنها غير متصرفة وللنحويين في سبب امتناع الصرف وجوه الأول: قال الخليل وسيبويه: قولنا شيء جمعه في الأصل شيآء على وزن فعلاء فاستثقلوا اجتماع الهمزتين في آخره، فنقلوا الهمزة الأولى التي هي لام الفعل إلى أول الكلمة فجاءت لفعاء، وذلك يوجب منع الصرف لثلاثة أوجه، واحد منها مذكور، واثنان خطرا ببالي. أما الأول: وهو المذكور فهو أن الكلمة لما كانت في الأصل على وزن فعلاء، مثل حمراء، لا جرم لم تنصرف كما لم ينصرف حمراء، والثاني: أنها لما كانت في الأصل شيآء ثم جعلت أشياء كان ذلك تشبيها بالمعدول كما في عامر وعمر، وزافر وزفر، والعدل أحد أسباب منع الصرف. الثالث: وهو إنا لما قطعنا الحرف الأخير منه وجعلناه أوله، والكلمة من حيث إنها قطع منها الحرف الأخير صارت كنصف الكلمة، ونصف الكلمة لا يقبل الاعراب
، ومن حيث إن ذلك الحرف الذي قطعناه منها ما حذفناه بالكلية، بل ألصقناه بأولها، كانت الكلمة كأنها باقية بتمامها، فلا جرم منعناه بعض وجوه الاعراب دون البعض، تنبيها على هذه الحالة، فهذا ما خطر بالبال في هذا المقام. الوجه الثاني: في بيان السبب في منع الصرف ما ذكره الأخفش والفراء: وهو أن أشياء وزنه أفعلاء، كقوله أصدقاء وأصفياء، ثم إنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فقدموا الهمزة، فلما كان أشياء في الأصل أشيياء على وزن أصدقاء وأفعلاء، وكان ذلك مما لا يجري فيه الصرف، فكذا ههنا. الوجه الثالث: ما ذكره الكسائي: وهو أن أشياء على وزن أفعال، إلا أنهم لم يصرفوه لكونه شبيها في الظاهر بحمراء وصفراء، وألزمه الزجاج أن لا ينصرف أسماء وأبناء، وعندي أن سؤال الزجاج ليس بشيء، لأن للكسائي أن يقول: القياس يقتضي ذلك في أبناء وأسماء، إلا أنه ترك العمل به للنص، لأن النص أقوى من القياس، ولم يوجد النص في لفظ أشياء فوجب الجري فيه على القياس، ولأن المحققين من النحويين اتفقوا على أن العلل النحوية لا توجب الاطراد، ألا ترى أنا إذا قلنا
105

الفاعلية توجب الرفع، لزمنا أن نحكم بحصول الرفع في جميع المواضع، كقولنا جاءني هؤلاء وضربني هذا بل نقول: القياس ذلك فيعمل به، إلا إذا عارضه نص فكذا القول فيما أورده الزجاج على الكسائي. المسألة الثالثة: روى أنس أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأكثروا المسألة، فقام على المنبر فقال: " سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به " فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه، فقال يا نبي الله من أبي فقال: " أبوك حذافة بن قيس " وقال سراقة بن مالك ويروي عكاشة بن محصن يا رسول الله: الحج علين في كل عام فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد مرتين أو ثلاثة، فقال عليه الصلاة والسلام: " ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لتركتم، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " وقام آخر فقال: يا رسول الله أين أبي فقال " في النار " ولما اشتد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم قام عمر وقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأعلم أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتبت عليه تكاليف شاقة صعبة فالأولى بالعاقل أن يسكت عما لا تكليف عليه فيه، ألا ترى أن الذي سأل عن أبيه فإنه لم يأمن أن يلحقه الرسول عليه الصلاة والسلام بغير أبيه فيفتضح، وأما السائل عن الحج فقد كاد أن يكون ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: " إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من كان سببا لتحريم حلال إذ لم يؤمن أن يقول في الحج إيجاب في كل عام " وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوه، وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله تعالى، ثم يتلو هذه الآية وقال أبو ثعلبة الخشني: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها.
ثم قال تعالى: * (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) * وفيه وجوه: الأول: أنه بين بالآية الأولى أن تلك الأشياء التي سألوا عنها أن أبديت لهم ساءتهم ثم بين بهذه الآية أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، فكان حاصل الكلام أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، وإن أبديت لهم ساءتهم، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم. والوجه
106

الثاني: في تأويل الآية أن السؤال على قسمين. أحدهما: السؤال عن شيء لم يجز ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه، فهذا السؤال منهي عنه بقوله * (لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم) *. والنوع الثاني من السؤال: السؤال عن شيء نزل به لقرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فههنا السؤال واجب، وهو المراد بقوله * (وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) * والفائدة في ذكر هذا القسم أنه لما منع في الآية الأولى من السؤال أوهم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه فذكر ذلك تمييزا لهذا القسم عن ذلك القسم. فإن قيل قوله * (وأن تسألوا عنها) * هذا الضمير عائد إلى الأشياء المذكورة في قوله * (لا تسألوا عن أشياء) * فكيف يعقل في * (أشياء) * بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعا وجائزا معا. قلنا: الجواب عنه من وجهين: الأول: جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعا قبل نزول القرآن بها ومأمورا به بعد نزول القرآن بها، والثاني: أنهما وإن كانا نوعين مختلفين، إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسؤولا عنه شيء واحد، فلهذا حسن اتحاد الضمير وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين. الوجه الثالث في تأويل الآية: إن قوله * (لا تسألوا عن أشياء) * دل على سؤالاتهم عن تلك الأشياء، فقوله * (وإن تسألوا عنها) * أي وإن تسألوا عن تلك السؤالات حين ينزل القرآن لكم أن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا، والحاصل أن المراد من هذه الآية أنه يجب السؤال أولا، وأنه هل يجوز السؤال عن كذا وكذا أم لا. ثم قال تعالى: * (عفا الله عنها) * وفيه وجوه: الأول: عفا الله عما سلف من مسائلكم وإغضابكم للرسول بسببها، فلا تعودوا إلى مثلها. الثاني: أنه تعالى ذكر أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم، فقال * (عفا الله عنها) * يعني عما ظهر عند تلك السؤالات مما يسؤكم ويثقل ويشق في التكليف عليكم. الثالث: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها في الآية * (إن تبد لكم تسؤكم) * وهذا ضعيف لأن الكلام إذا استقام من غير تغيير النظم لم يجز المصير إلى التقديم والتأخير، وعلى هذا الوجه فقوله * (عفا الله عنها) * أي أمسك عنها وكف عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: " عفوت لكم عن صدقة الخيل، والرقيق " أي خففت عنكم بإسقاطها. ثم قال تعالى: * (والله غفور حليم) * وهذه الآية تدل على أن المراد من قوله عفا الله عنها ما ذكرناه في الوجه الأول.
107

ثم قال تعالى: * (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) *
قال المفسرون: يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وقوم موسى قالوا: * (أرنا الله جهرة) * (النساء: 153) فصار ذلك وبالا عليهم، وبنو إسرائيل * (قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله) * قال تعالى: فما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم) * و * (قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه) * (
البقرة: 246 - 247) فسألوها ثم كفروا بها، وقوم عيسى سألوا عن أشياء فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك فإن قيل: إنه تعالى قال: أولا: * (لا تسألوا عن أشياء) * (المائدة: 101) ثم قال ههنا: * (قد سألها قوم من قبلكم) * وكان الأولى أن يقول: قد سأل عنها قوم فما السبب في ذلك. قلنا الجواب من وجهين: الأول: أن السؤال عن الشيء عبارة عن السؤال عن حالة من أحواله، وصفة من صفاته، وسؤال الشيء عبارة عن طلب ذلك الشيء في نفسه، يقال: سألته درهما أي طلبت منه الدرهم ويقال: سألته عن الدرهم أي سألته عن صفة الدرهم وعن نعته، فالمتقدمون إنما سألوا من الله إخراج الناقة من الصخرة، وإنزال المائدة من السماء، فهم سألوا نفس الشيء، وأما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فهم ما سألوا ذلك، وإنما سألوا عن أحوال الأشياء وصفاتها، فلما اختلف السؤالان في النوع، اختلفت العبارة أيضا إلا أن كلا القسمين يشتركان في وصف واحد، وهو أنه خوض في الفضول، وشروع فيما لا حاجة إليه، وفيه خطر المفسدة، والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة، يجب على العاقل الاحتراز عنه، فبين تعالى أن قوم محمد عليه السلام في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال تلك الأشياء في كون كل واحد منهما فضولا وخوضا فيما لا فائدة فيه. الوجه الثاني: في الجواب أن الهاء في قوله * (قد سألها) * غير عائدة إلى الأشياء التي سألوا عنها، بل عائدة إلى سؤالاتهم عن تلك الأشياء، والتقدير: قد سأل تلك السؤالات الفاسدة التي ذكرتموها قوم من قبلكم، فلما أجيبوا عنها أصبحوا بها كافرين.
قوله تعالى: * (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) * في الآية مسائل:
108

المسألة الأولى: أعلم أنه تعالى لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها، ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها، بين تعالى أن ذلك باطل فقال: * (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) *. المسألة الثانية: أعلم أنه يقال: فعل وعمل وطفق وجعل وأنشأ وأقبل، وبعضها أعم من بعض، وأكثرها عموما فعل، لأنه واقع على أعمال الجوارح وأعمال القلوب، أما إنه واقع على أعمال الجوارح فظاهر، وأما إنه واقع على أعمال القلوب، فدليل عليه قوله تعالى: * (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا) * إلى قوله * (كذلك فعل الذين من قبلهم) * (النحل: 35) وأما عمل فإنه أخص من فعل، لأنه لا يقع إلا على أعمال الجوارح، ولا يقع على الهم والعزم والقصد، والدليل عليه قوله عليه السلام: " نية المؤمن خير من عمله " جعل النية خيرا من العمل، فلو كانت النية عملا، لزم كون النية خيرا من نفسها، وأما جعل فله وجوه: أحدها: الحكم ومنه قوله * (وجعلوا الملائكة الذين عم عباد الرحمن إناثا) * (الزخرف: 19) وثانيها: الخلق، ومنه قوله: * (وجعل الظلمات والنور) * (الانعام: 1). وثالثها: بمعنى التصيير ومه قوله * (إنا جعلناه قرآنا عربيا) * (الزخرف: 3). إذا عرفت هذا فنقول: قوله * (ما جعل الله) * أي ما حكم الله بذلك ولا شرع ولا أمر به. المسألة الثالثة: أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أشياء: أولها: البحيرة: وهي فعلية من البحر وهو الشق، يقال: بحر ناقته إذا شق أذنها، وهي بمعنى المفعول، قال أبو عبيدة والزجاج: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكرا شقوا أذن الناقة وامتنعوا من ركوبها وذبحها وسبوها لآلهتهم، ولا يجز لها وبر، ولا يحمل على ظهرها، ولا تطرد من ماء، ولا تمنع عن مرعى، ولا ينتفع بها وإذا لقيها المعبي لم يركبها تحريجا. وأما السائبة: فهي فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال: ساب الماء وسابت الحية، فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت، وهي المسيبة كعيشة راضية بمعنى مرضية، وذكروا فيها وجوها: أحدها: ما ذكره أبو عبيدة، وهو أن الرجل كان إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة سيب بعيرا، فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها، وثانيها: قال الفراء: إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث، سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجز لها وبر، ولم يشرب لبنها إلا ولد أو ضيف، وثالثها: قال ابن عباس: السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء، فيجئ به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من
109

لبنها أبناء السبيل، ورابعها: السائبة هو العبد يعتق على أن يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث.
وأما الوصيلة: فقال المفسرون: إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها، ويجوز أن تكون بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها، وأما الحام فيقال: حماه يحميه إذا حفظه وفيه وجوه: أحدها: الفحل إذا ركب ولد ولده. قيل: حمى ظهره أي حفظه عن الركوب فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت فحينئذ تأكله الرجال والنساء. وثانيها: إذا نتجت الناقة عشرة أبطن قالوا حمت ظهرها حكاه أبو مسلم. وثالثها: الحام هو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى، وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها، وهو قول السدي. فإن قيل: إذا جاز إعتاق العبيد هذه البهائم من الذبح والاتعاب والايلام. قلنا: الإنسان مخلوق لخدمة الله تعالى وعبوديته، فإذا تمرد عن طاعة الله تعالى عوقت بضرب الرق عليه، فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادة الله تعالى، فكان ذلك عبادة مستحسنة، وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع المكلفين، فتركها وإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها من غير أن يحصل في مقابلتها فائدة، فظهر الفرق، وأيضا الإنسان إذا كان عبدا فأعتق قدر على تحصيل مصالح نفسه، وأما البهيمة إذا أعتقت وتركت لم تقدر على رعاية مصالح نفسها فوقعت في أنواع من المحنة أشد وأشق مما كانت فيها حال ما كانت مملوكة فظهر الفرق. ثم قال تعالى: * (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون) * قال المفسرون: إن عمرو بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل، فاتخذ الأصنام، ونصب الأوثان، وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه " والقصب المعا وجمعه الاقصاب، ويروي يجر قصبه في النار. قال ابن عباس: قوله * (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) * يريد عمرو بن لحي وأصحابه يقولون على الله هذه الأكاذيب والأباطيل في تحريمهم هذه الأنعام، والمعنى أن الرؤساء يفترون على الله على الكذب، فأما الأتباع والعوام فأكثرهم لا يعقلون، فلا جرم يفترون على الله هذه الأكاذيب من أولئك الرؤساء
ثم قال تعالى: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه
110

اباءنآ أولو كان ءاباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) *
والمعنى معلوم وهو رد على أصحاب التقليد وقد استقصينا الكلام فيه في مواضع كثيرة. وأعلم أن الواو في قوله * (أولو كان آباؤهم) * واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار، وتقديره أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون. وأعلم أن الاقتداء إنما يجوز بالعالم المهتدي، وإنما يكون عالما مهتديا إذا بنى قوله على الحجة والدليل، فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالما مهتديا، فوجب أن لا يجوز الاقتداء به.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسهم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) * في الآية مسائل: المسألة الأولى: لما بين أنواع التكاليف والشرائع والأحكام ثم قال: * (ما على الرسول إلا الابلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) * (المائدة: 99) إلى قوله * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) * (المائدة: 104) فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الاعذار والانذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرين على جهلهم مجدين على جهالاتهم وضلالتهم، فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم، بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه، فلا يضركم ضلالتهم وجهالتهم، فلهذا قال: * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) *. المسألة الثانية: قوله * (عليك أنفسكم) * أي احفظوا من ملابسة المعاصي والاصرار على الذنوب قال النحويون عليك وعندك ودونك من جملة أسماء الأفعال. تقول العرب: عليك وعندك ودونك، فيعدونها إلى المفعول ويقيمونها مقام الفعل، وينصبون بها، فيقال: عليك زيدا كأنه قيل: خذ زيدا فقد علاك، أي أشرف عليك، وعندك زيدا، أي حضرك فخذه ودونك، أي قرب منك فخذه، فهذه الأحرف الثلاثة لا اختلاف بين النحويين في إجازة النصب بها ونقل صاحب " الكشاف " * (عليكم أنفسكم) * بالرفع عن نافع. المسألة الثالثة: ذكروا في سبب النزول وجوها: أحدها: ما روى الكلبي عن أبي صالح عن
111

ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبل من أهل الكتاب الجزية ولم يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف، عير المنافقون المؤمنين بقبول الجزية من بعض الكفار دون البعض، فنزلت هذه الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى، وثانيها: أن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالتهم. فقيل لهم: عليكم أنفسكم، وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين، وثالثها: أنهم كانوا يغتمون لعشائرهم لما ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك، والأقرب عندي أنه لما حكى عن بعضهم أنه إذا قيل لهم: * (تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) * (المائدة: 104) ذكر تعالى هذه الآية، والمقصود منها بيان أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يتشبهوا بهم في هذه الطريقة الفاسدة، بل ينبغي أن يكونوا مصرين على دينهم، وأن يعلموا أنه لا يضرهم جهل أولئك الجاهلين إذا كانوا راسخين في دينهم ثابتين فيه. المسألة الرابعة: فإن قيل: ظاهر هذه الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير واجب. قلنا الجواب عنه من وجوه: الأول: وهو الذي عليه أكثر الناس، إن الآية لا تدل على ذلك بل توجب أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذا بذنوب العاصي، فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بالدلائل، خطب الصديق رضي الله عنه فقال: إنكم تقرؤن هذه الآية * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) * وتضعونها غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب ". والوجه الثاني في تأول الآية: ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما قالا قوله * (عليكم أنفسكم) * يكون هذا في آخر الزمان: قال ابن مسعود لما قرئت عليه هذه الآية ليس هذا بزمانها، ما دامت قلوبكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا ووكل كل امرئ ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية، وهذا القول عندي ضعيف، لأن قوله * (يا أيها الذين آمنوا) * خطاب عام، وهو أيضا خطاب مع الحاضرين فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب. والوجه الثالث في تأويل الآية: مال ذهب إليه عبد الله بن المبارك قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه قال: * (عليكم أنفسكم) * يعني عليكم أهل دينكم ولا يشركم من ضل من الكفار، وهذا كقوله * (فاقتلوا أنفسكم) * (البقرة: 54) يعني أهل دينكم فقوله
112

* (عليكم أنفسكم) * يعني بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات، وينفره عن القبائح والسيئات، والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله * (عليكم أنفسكم) * معناه احفظوا أنفسكم فكان ذلك أمرا بأن نحفظ أنفسنا فإن لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك واجبا. والوجه الرابع: أن الآية مخصوصة بالكفار الذين علم أنه لا ينفعهم الوعظ، ولا يتركون الكفر، بسبب الأمر بالمعروف، فهاهنا لا يجب على الإنسان أن يأمرهم بالمعروف، والذي يؤكد هذا القول ما ذكرنا في سبب النزول أن الآية نازلة في المنافقين، حيث عيروا المسلمين بأخذ الجزية من أهل الكتاب دون المشركين. الوجه الخامس: أن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله، فهاهنا عليه نفسه لا تضره ضلالة من ضل ولا جهالة من جهل، وكان ابن شبرمة يقول: من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر. الوجه السادس: لا يضركم إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ضلال من ضل فلم يقبل ذلك. الوجه السابع: * (عليكم أنفسكم) * من أداء الواجبات التي من جملتها الأمر بالمعروف عند القدرة، فإن لم يقبلوا ذلك فلا ينبغي أن تستوحشوا من ذلك فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم فلا يضركم ضلال غيركم.
والوجه الثامن: أنه تعالى قال لرسوله * (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) * (النساء: 84) وذلك لا يدل على سقوط الأمر بالمعروف عن الرسول فكذا هاهنا. المسألة الخامسة: قرئ لا يضركم بفتح الراء مجزوما على جواب قوله * (عليكم أنفسكم) * وقرئ بضم الراء، وفيه وجهان: أحدهما: على وجه الخبر أي ليس يضركم من ضل، والثاني: أن حقها الفتح على الجواب ولكن ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد.
ثم قال تعالى: * (إلى الله مرجعكم جميعا) * يريد مصيركم ومصير من خالفكم * (فينبئكم بما كنتم
تعملون) * يعني يجازيكم بأعمالكم.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية).
113

اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض
فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم
لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين
اعلم أنه تعالى: لما أمر بحفظ النفس في قوله (عليكم أنفسكم) أمر بحفظ المال في قوله
(يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى) اتفقوا على أن سبب نزول هذه الآية أن تميما الداري وأخاه عديا كانا نصرانيين
خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما مهاجرا، خرجوا للتجارة فلما
قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه وألقاه فيما بين الأقمشة لم يخبر
صاحبه بذلك، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل فأخذا من متاعه
إناء من فضة منقوشا بالذهب ثلثمائة مثقال، ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما، ففتشوا فوجدوا
الصحيفة، وفيها ذكر الاناء فقالوا التميم وعدى: أين الاناء؟ فقالا لا ندري، والذي رفع إلينا دفعناه
إليكم، فرفعوا الواقعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية،
(المسألة الثانية) قوله (شهادة بينكم) يعنى شهادة ما بينكم وما بينكم كناية عن التنازع والتشاجر،
وإنما أضاف الشهادة إلى التنازع لان الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع، وحذف ما من
قوله (شهادة بينكم) جائز لظهوره، ونظيره قوله (هذا فراق بيني وبينك) أي ما بيني وبينك، وقوله
(لقد تقطع بينكم) في قراءة من نصب، وقوله (إذا حصر أحدكم الموت حين الوصية) يعنى الشهادة
المحتاج إليها عند حضور الموت، وحين الوصية بدل من قوله (إذا حضر أحدكم) لان زمان حضور
الموت هو زمان حضور الوصية، فعرف ذلك الزمان بهذين الامرين الواقعين فيه، كما يقال:
ائتني إذا زالت الشمس حين صلاة الظهر، والمراد بحضور الموت مشارفته وظهور أمارات
وقوعه، كقوله (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية) قالوا وقوله (إذا
حضر أحدكم الموت حين الوصية) دليل على وجوب الوصية، لأنه تعالى جعل زمان حضور
الموت غير زمان الوصية، وهذا إنما يكون إذا كانا متلازمين، وإنما تحصل هذه الملازمة
عند وجوب الوصية.
ثم قال تعالى (اثنان ذوا عدل منكم) وفيه مسألتان:
114

(المسألة الأولى) في الآية حذف، والمراد أن يشهد ذوا عدل منكم، وتقدير الآية: شهادة
ما بينكم عند الموت الموصوف، هي أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم، وإنما حسن هذا الحذف
لكونه معلوما.
(المسألة الثانية) اختلف المفسرون في قوله منكم على قولين: الأول: وهو قول
عامة المفسرين أن المراد: اثنان ذوا عدل منكم يا معشر المؤمنين، أي من أهل دينكم
وملتكم، وقوله (أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض) يعنى أو شهادة آخرين من
غير أهل دينكم وملتكم إذا كنتم في السفر، فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر
والسفر، وهذا قول ابن عباس، وأبى موسي الأشعري، وسعيد بن جبير، وسعيد بن
المسيب، وشريح ومجاهد وابن سيرين وابن جريج. قالوا: إذا كان الانسان في الغربة،
ولم يجد مسلما يشهده على وصيته، جاز له أن يشهد اليهودي أو النصراني أو المجوسي أو عابد
الوثن أو أي كافر كان وشهادتهم مقبولة، ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلا في هذه الصورة
قال الشعبي رحمه الله، مرض رجل من المسلمين في الغربة، فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على
وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة أتيا أبا موسى الأشعري، وكان واليا
عليها فأخبراه بالواقعة وقدما تركته ووصيته. فقال أبو موسى: هذا أمركم يكن بعد الذي كان في
عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم حلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر، بالله انهما ما كذبا
ولا بدلا وأجاز شهادتهما، ثم إن القائلين بهذا القول، منهم من قال هذا الحكم بقى محكما ومنهم من
قال صار منسوخا.
(القول الثاني) وهو قول الحسن والزهري وجمهور الفقهاء: ان قوله (ذوا عدو منكم) أي
من أقاربكم وقوله (أو آخران من غيركم) أي من الأجانب ان أنتم ضربتم في الأرض أي أن توقع
الموت في السفر، ولم يكن معكم أحد من أقاربكم، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية. وجعل الأقارب
أولا لانهم أعلم بأحوال الميت وهم به به أشفق، وبورثته أرحم وأرأف، واحتج الذاهبون إلى القول
الأول على صحة قولهم بوجوه.
(الحجة الأولى) انه تعالى قال في أول الآية (يا أيها الذين آمنوا) فعمهم بهذا الخطاب
جميع المؤمنين، فلما قال بعده (أو آخران من غيركم) كان المراد أو آخران من جميع
المؤمنين لا مجالة.
(الحجة الثانية) انه تعالى قال (أو آخران من غيركم ان أنتم ضربتم في الأرض) وهذا يدل
115

على أن جواز الاستشهاد بهذين الآخرين مشروط بكون المستشهد في السفر، فلو كان هذان
الشاهدان مسلمين، لما كان جواز الاستشهاد بهما مشروطا بالسفر، لان استشهاد المسلم جائز
في السفر والحضر.
(الحجة الثالثة) الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين من بعد الصلاة،
وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه الحلف، فعلمنا أن هذين الشاهدين ليسا
من المسلمين.
(الحجة الرابعة) ان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من شهادة النصرانيين على بديل
وكان مسلما.
(الحجة الخامسة) ما روينا ان أبا موسى الأشعري قضى بشهادة اليهوديين بعد أن حلفهما،
وما أنكر عليه أحد من الصحابة، فكان ذلك اجماعا.
(الحجة السادسة) أنا إنما نجيز إشهاد الكافرين إذا لم نجد أحدا من المسلمين، والضرورات قد
تبيح المحظورات، ألا ترى أنه تعالى أجاز التيمم والقصر في الصلاة, الأفكار في رمضان، وأكل
الميتة في حال الضرورة، والضرورة حاصلة في هذه المسألة، لان المسلم إذا قرب أجله في الغربة
ولم يجد مسلما يشهده على نفسه، ولم تكن شهادة الكفار مقبولة فإنه يضيع أكثر مهماته، فإنه
ربما وجبت عليه زكوات وكفارات وما أداها. وربما كان عنده ودائع أو ديون كانت في
ذمته، وكما تجوز شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء كالحيض والحبل والولادة والاستهلال
لأجل أنه لا يمكن وقوف الرجال على هذه الأحوال، فاكتفينا فيها بشهادة النساء لأجل الضرورة،
فكذا ههنا. وأما قول من يقول: بأن هذا الحكم صار منسوخا فبعيد، لاتفاق أكثر الأمة على
أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن، وليس فيها منسوخ، واحتج القائلون بالقول الثاني
بقوله (وأشهدوا ذوي عدل منكم) والكافر لا يكون عدلا.
أجاب الأولون عنه: لم لا يجوز أن يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن
الكذب، لا من كان عدلا في الدين والاعتقاد، والدليل عليه: أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل
الأهواء والبدع، مع أنهم ليسوا عدولا في مذاهبهم، ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحتراز عن
الكذب قبلنا شهادتهم، فكذا ههنا سلمنا أن الكافر ليس بعدل. إلا أن قوله (وأشهدوا ذوي عدل
منكم) عام، وقوله في هذه الآية (اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في
الأرض) خاص فإنه أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر، واكتفى بشهادة من لا يكون
116

منا في السفر، فهذه الآية خاصة، والآية التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام، لا سيما إذا
كان الخاص متأخرا في النزول، ولا شك أن سورة المائدة متأخرة فكان تقديم هذه الآية الخاصة
على الآية العامة التي ذكرتموها واجبا بالاتفاق والله أعلم.
ثم قال تعالى (أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت)
وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) قوله (أو آخران) عطف على قوله (اثنان) والتقدير: شهادة بينكم أن
يشهد اثنان منكم أو آخران من غيركم.
(المسألة الثانية) قوله (إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة المقصود منه
بيان أن جواز الاستشهاد بآخرين من غيرهم مشروط بما إذا كان المستشهد مسافرا ضاربا في
الأرض وحضرت علامات نزول الموت به.
ثم قال تعالى (تحبسونهما من بعد الصلاة) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) تحبسونهما، أي توقفونهما كما يقول الرجل: مربى فلان على فرس فحبس
على دابته أي أو قفها وحبست الرجل في الطريق أكلمه أي أوقفته.
فان قيل: ما موقع تحبسونهما.
قلنا: هو استئناف كأنه قيل كيف نعمل ان حصلت الريبة فيهما تحبسونهما.
(المسألة الثانية) قوله (من بعد الصلاة) فيه أقوال: الأول: قال ابن عباس من بعد صلاة
أهل دينهما، والثاني: قال عامة المفسرين من بعد صلاة العصر.
فان قيل: كيف عرف ان المراد هو صلاة العصر، مع أن المذكور وهو الصلاة المطلقة.
قلنا: إنما عرف هذا التعيين وجوه: أحدها: ان هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف
بعدها فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ، وثانيها: ما روى أنه لما نزلت هذه
الآية صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، ودعا بعدي وتميم، فاستحلفهما عند المنبر، فصار فعل
الرسول دليلا على التقييد، وثالثها: أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه
ويحترزون عن الحلف الكاذب، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها.
(والقول الثالث) قال الحسن: المراد بعد الظهر أو بعد الظهر أو بعد العصر، لان أهل الحجاز كانوا
يقعدون للحكومة بعدهما.
(والقول الرابع) أن المراد بعد أداء الصلاة أي صلاة كانت والغرض من التحليف بعد
117

إقامة الصلاة هو ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فكان احتراز الحالف عن الكذب في
ذلك الوقت أتم وأكمل، والله أعلم.
(المسألة الثالثة) قال الشافعي رحمه الله: الايمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق، والمال
إذا بلغ مائتي درهم في الزمان والمكان، فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة عند
المنبر، وفى بيت المقدس عند الصخرة، وفى سائر البلدان في أشرف المساجد، وقال أبو حنيفة
رحمه الله: يحلف من غير أن يختص الحلف بزمان أو مكان، وهذا على خلاف الآية، ولان
المقصود منه التهويل والتعظيم، ولا شك أن الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه أقوى.
ثم قال تعالى (فيقسمان بالله ان ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربا) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) الفاء في قوله (فيقسمان بالله) للجزاء يعنى: تحبسونهما فيقدمان لأجل ذلك
الحبس على القسم
(المسألة الثانية) قوله (انا ارتبتم) اعتراض بين القسم والمقسم عليه. والمعنى: ان ارتبتم في
شأنهما واتهتموهما فحلفوهما، وبهذا يحتج من يقول الآية نازلة في اشهاد الكفار، لان تحليف
الشاهد المسلم غير مشروع، ومن قال الآية نازلة في حق المسلم قال إنها منسوخة، وعن علي عليه
السلام أنه كان يحلف الشاهد والراوي عند التهمة
(المسألة الثالثة) قوله (لا نشتري به ثمنا) يعنى يقسمان بالله انا لا نبيع عهد الله بشئ من الدنيا
قائلين لا نشتري به ثمنا، وهو كقوله (ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) أي لا نأخذ
ولا نستبدل، ومن باع شيئا فقد اشترى ثمنه، وقوله (ولو كان ذا قربى) أي لا نبيع عهد الله بشئ
من الدنيا، ولو كان ذلك الشئ حبوة ذي قربى أو نفسه، وخص ذا القربى بالذكر لان الميل إليهم
أتم والمداهنة بسببهم أعظم، وهو كقوله (كونوا قوامين بالقسط شهداء الله ولو على أنفسكم
أو الوالدين والأقربين
ثم قال تعالى (ولا نكتم شهادة الله) وفيه مسألتان:
(الأولى) هذا عطف على قوله (لا نشتري به ثمنا) يعنى أنهما يقسمان حال ما يقولان لا نشتري
به ثمنا ولا نكتم شهادة الله أي الشهادة التي أمر الله بحفظها واظهارها
(المسألة الثانية) نقل عن الشعبي أنه وقف على قوله (شهادة) ثم ابتدأ الله بالمد على طرح
حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه، وروى عنه بغير مد على ما ذكره سيبويه ان منهم
من يقول الله لقد كان كذا، والمعنى تالله
118

فان عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق
عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا
لمن الظالمين (107) ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد
أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين (108)
ثم قال تعالى: * (فإن عثر على أنهما استحقا إثما) * قال الليث رحمه الله: عثر الرجل يعثر عثورا إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره. وأعثرت فلانا على أمري أي أطلعته عليه، وعثر الرجل يعثر عثرة إذا وقع على شيء، قال أهل اللغة: وأصل عثر بمعنى اطلع من العثرة التي هي الوقوع وذلك لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه، فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو، فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفيا عليه قد عثر عليه، وأعثر غيره إذا أطلعه عليه، ومنه قوله تعالى: * (وكذلك أعثرنا عليهم) * (الكهف: 21) أي اطلعنا، ومعنى الآية فإن حصل العثور والوقوف على أنهما أتيا بخيانة واستحقا الإثم بسبب اليمين الكاذبة. ثم قال تعالى: * (فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن معنى الآية فإن عثر بعدما حلف الوصيان على أنهما استحقا إثما أي حنثا في اليمين بكذب في قول أو خيانة في ممال قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت فيحلفان بالله لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما وما اعتدينا في ذلك وما كذبنا. وروي أنه لما نزلت الآية الأولى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ودعا بتميم وعدي فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنه لم يوجد منال خيانة في هذا المال ولما حلفا خلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما وكتما الإناء مدة ثم ظهروا واخلفوا فقيل: وجد بمكة. وقيل: لما طالت المدة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما فقالا كنا قد اشتريناه منه فقالوا ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئا فقلتما لا؟ فقالا لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نعثر فكتمنا فرفعوا القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: * (فإن عثر) * الآية فقام عمرو بن العاص
119

والمطلب بن أبي رفاعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر فدفع الرسول صلى الله عليه وسلم الإناء إليهما وإلى أولياء الميت. وكان تميم الداري يقول بعدما أسلم: صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى، وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فلما أسلم أخبر بذلك وقال: حلفت كاذبا وأنا وصاحبي بعنا الإناء بألف وقسمنا الثمن. ثم دفع خمسمائة درهم من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى ودفع الألف إلى موالي الميت. المسألة الثانية: قوله * (فآخران يقومان مقامهما) * أي مقام الشاهدين اللذين هما من غير ملتهما وقوله * (من الذين استحق عليهم الأوليان) * المراد به موالي الميت، وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي الميت بهذا الوصف، والأصح عندي فيه وجه واحد، وهو أنهم إنما وصفوا بذلك لأنه لما أخذ مالهم فقد استحق عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال مستعليا على تعلق مالكه به فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال. المسألة الثالثة: أما قوله * (الأليان) * ففيه وجوه: الأول: أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير: هما الأليان وذلك لأنه لما قال * (فآخران يقومان مقامهما) * فكأنه قيل: ومن هما فقيل الأوليان: والثاني: أن يكون بدلا من الضمير الذي في يقومان والتقدير فيقوم الأوليان، والثالث: أجاز الأخفش أن يكون قوله * (الأوليان) * صفة لقوله * (فآخران) * وذلك لأن النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة، كقوله تعالى * (كمشكاة فيها مصباح) * (النور: 35) فمصباح نكرة قم قال * (المصباح) * ثم قال في * (زجاجة) * ثم قال * (الزجاجة) *، وهذا مثل قولك رأيت رجلا، ثم يقول إنسان من الرجل، فصار بالعود إلى ذكره معرفة. الرابع: يجوز أن يكون قوله * (الأوليان) * بدلا من قوله آخران، وإبدال المعرفة من النكرة كثير. المسألة الرابعة: إنما وصفهما بأنهما أوليان لوجهين: الأول: معنى الأوليان الأقربان إلى الميت. الثاني: يجوز
أن يكون المعنى الأوليان باليمين، والسبب فيه أن الوصيين قد ادعيا أن الميت باع الإناء الفضة فانتقل اليمين إلى موالي الميت، لأن الوصيين قد ادعيا أن مورثهما باع الإناء وهما أنكرا ذلك، فكان اليمين حقا لهما، وهذا كما أن إنسانا أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه حكم برد اليمين إلى الذي ادعى الدين أولا لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه. المسألة الخامسة: القراءة المشهورة للجمهور استحق بضم التاء وكسر الحاء، والأليان تثنية الأولى، وقد ذكرنا وجهه وقراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر الأولين بالجمع، وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في قوله * (من الذين استحق عليهم) * وتقديره من الأولين الذين استحق عليهم مالهم
120

وإنما قيل لهم الأولين من حيث كانوا أولين في الذكر، ألا ترى أنه قد تقدم * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) * (المائدة: 106) وكذلك * (اثنان ذوا عدل) * (المائدة: 106) ذكرا في اللفظ قبل قوله * (أو آخران من غيركم) * وقرأ حفص وحده بفتح التاء والحاء الأوليان على التثنية، ووجهه أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصاية ولما خانا في مال الورثة صح أن يقال إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان، وقرأ الحسن الأولان، ووجهه ظاهر مما تقدم. ثم قال تعالى: * (فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين) *. والمعنى ظاهر أي وما اعتدينا في طلب هذا المال، وفي نسبتهم إلى الخيانة. وقوله * (إنا إذا لمن الظالمين) * أي إنا إذا حلفنا موقنين بالكذب معتقدين الزور والباطل.
ثم قال تعالى: * (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) *. والمعنى ذلك الحكم الذي ذكرناه والطريق الذي شرعناه أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، وأن يأتوا بالشهادة لا على وجهها، ولكنهم يخافون أن يحلفوا على ما ذكروه لخوفهم من أن ترد أيمان على الورثة بعد أيمانهم، فيظهر كذبهم ويفتضحون فيما بين الناس. ثم قال تعالى: * (واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين) * والمعنى اتقوا الله أن تخونوا في الأمانات واسمعوا مواعظ الله أي اعملوا بها وأطيعوا الله فيها والله لا يهدي القوم الفاسقين، وهو تهديد ووعيد لمن خالف حكم الله وأوامره فهذا هو القول في تفسير هذه الآية التي اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما، وروى الواحدي رحمه الله في " البسيط " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام. والحكم الذي ذكرناه في هذه الآية منسوخ عند أكثر الفقهاء والله أعلم بأسرار كلامه.
قوله تعالى: * (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم) * اعلم أن عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام، أتبعها إما بالإلهيات، وإما بشرح أحوال الأنبياء، أو بشرح أحوال القيامة ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر فيما تقدم أنواعا
121

كثيرة من الشرائع أتبعها بوصف أحوال القيامة أولا، ثم ذكر أحوال عيسى. أما وصف أحوال القيامة فهو قوله * (يوم يجمع الله الرسل) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها متصلة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: قال الزجاج تقديره: واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل، ولا يجوز أن ينصب على الظرف لهذا الفعل لأنهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم، ولكن على المفعول له. الثاني: قال القفال رحمه الله: يجوز أن يكون التقدير: والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل، أي لا يهديهم إلى الجنة كما قال * (ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم) * (النساء: 168، 169). والقول الثاني: أنها منقطعة عما قبلها، وعلى هذا التقدير ففيه أيضا وجهان: الأول: أن التقدير: أذكر يوم يجمع الله الرسل. والثاني: أن يكون التقدير: يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت. المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف " قوله ماذا منتصب بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أي أجابه أجبتم إجابة إنكار أم إجابة إقرار. ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم. فإن قيل: وأي فائدة في هذا السؤال؟ قلنا: توبيخ قومهم كما أن قوله * (وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت) * (التكوير: 8، 9) المقصود منه توبيخ من فعل ذلك الفعل. المسألة الثالثة: ظاهر قوله تعالى: * (قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) * يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم. والجمع بين هذا وبين قوله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * (النساء: 41) مشكل. وأيضا قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143) فإذا كانت أمتنا تشهد لسائر الناس فالأنبياء أولى بأن يشهدوا لأممهم بذلك. والجواب عنه من وجوه: الأول: قال جمع من المفسرين إن للقيامة زلازل وأهوالا بحيث
122

تزول القلوب عن مواضعها عند مشاهدتها. فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند مشاهدة تلك الأهوال ينسون أكثر الأمور، فهنالك يقولون لا علم لنا، فإذا عادت قلوبهم إليهم فعند ذلك يشهدون للأمم. وهذا الجواب وإن ذهب إليه جمع عظيم من الأكابر فهو عندي ضعيف، لأنه تعالى قال في صفة أهل الثواب * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * (الأنبياء: 103) وقال أيضا * (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة) * (عبس: 38، 39) بل إنه تعالى قال: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (البقرة: 62) فكيف يكون حال الأنبياء والرسل أقل من ذلك، ومعلوم أنهم لو خافوا لكانوا أقل منزلة من هؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يخافون البتة. والوجه الثاني: أن المراد منه المبالغة في تحقيق فضيحتهم كمن يقول لغيره ما تقول في فلان؟ فيقول: أنت أعلم به مني، كأنه قيل: لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره، وهذا أيضا ليس بقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى تردي الرسل بالنفي تبكيتهم وفضيحتهم. والوجه الثالث: في الجواب وهو الأصح وهو الذي اختاره ابن عباس أنهم إنما قالوا لا علم لنا لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا. فلهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم. والوجه الرابع: في الجواب أنهم قالوا: لا علم لنا، إلا أن علمنا جوابهم لنا وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا. والجزاء والثواب إنما يحصلان على الخاتمة وذلك غير معلوم لنا. فلهذا المعنى قالوا لا علم لنا وقوله * (إنك أنت علام الغيوب) * يشهد بصحة هذين الجوابين. الوجه الخامس: وهو الذي خطر ببالي وقت الكتابة، أنه قد ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير والحاصل عند كل أحد من حال الغير إنما هو الظن لا العلم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى
السرائر " وقال عليه الصلاة والسلام: " إنكم لتختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته فمن حكمت له بغير حقه فكأنما قطعت له قطعة من النار " أو لفظ هذا معناه. فالأنبياء قالوا: لا علام لنا البتة بأحوالهم، إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن، والظن كان معتبرا في الدنيا، لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن، وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء، وبواطن الأمور. فلهذا السبب قالوا * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) * ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن لأن الظن لا عبرة به في القيامة. الوجه السادس: أنهم لما علموا أنه سبحانه وتعالى عالم لا يجهل، حكيم لا يسفه، عادل لا يظلم،
123

علموا أن قولهم لا يفيد خيرا، ولا يدفع شرا فرأوا أن الأدب في السكوت، وفي تفويض الأمر إلى عدل الحي القيوم الذي لا يموت. المسألة الرابعة: قرئ * (علام الغيوب) * بالنصب. قال صاحب " الكشاف " والتقدير أن الكلام قد تم بقوله * (إنك أنت) * أي أنت الموصوف بأوصافك المعروفة، من العلم وغيره. ثم نصب * (علام الغيوب) * على الاختصاص، أو على النداء، أو وصفا لاسم إن. المسألة الخامسة: دلت على جواز إطلاق لفظ العلام عليه، كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه. أما العلامة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث.
قوله تعالى: * (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك) * في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل * (ماذا أجبتم) * (المائدة: 109) توبيخ من تمرد من أممهم وأشد الأمم افتقارا إلى التوبيخ والملام النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء وطعن هؤلاء الملاعين تعدى إلى جلال الله وكبريائه حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإله به، وهو اتخاذ الزوجة والولد فلا جرم ذكر الله تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة والمقصود منه توبيخ النصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة على عيسى تدل على أنه عبد وليس بإله. والفائدة في هذه الحكاية تنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم. المسألة الثانية: موضع * (إذ) * يجوز أن يكون رفعا بالابتداء على معنى ذاك إذ بقال الله، ويجوز أن يكون المعنى أذكر إذ قال الله. المسألة الثالثة: خرج قوله * (إذا قال الله) * على لفظ الماضي دون المستقبل وفيه وجوه: الأول: الدلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت وكل آت قريب ويقال: الجيش قد أتى، إذا قرب إتيانهم. قال الله تعالى: * (أتى أمر الله) * (النحل: 1) الثاني: أنه ورد على حكاية الحال ونظيره قول الرجل لصاحبه كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا فيها كذا إذ صاح صائح فتركتني وأجبته. ونظيره من القرآن قوله تعالى: * (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت) * (سبأ: 51) * (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) * (الأنفال: 50) * (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم) * (سبأ: 31) والوجه في كل هذه الآيات ما ذكرناه، من أنه خرج على
124

سبيل الحكاية عن الحال. المسألة الرابعة: * (يا عيسى ابن مريم) * يجوز أن يكون * (عيسى) * في محل الرفع لأنه منادى مفرد وصف بمضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيدا وكل ما كان مثل هذا جاز فيه وجهان نحو يا زيد بن عمرو، ويا زيد بن عمرو، وأنشد النحويون: يا حكم بن المنذر بن الجارود برفع الأول ونصبه على ما بيناه. المسألة الخامسة: قوله * (نعمتي عليك) * أراد الجمع كقوله * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (النحل: 18) وإنما جاز ذلك لأن مضاف يصلح للجنس. واعلم أن الله تعالى فسر نعمته عليه بأمور: أولها: قوله * (إذا أيدتك بروح القدس) * وفيه وجهان: الأول: روح القدس هو جبريل عليه السلام، الروح جبريل والقدس هو الله تعالى، كأنه أضافه إلى نفسه تعظيما له. الثاني: أن الأرواح مختلفة بالماهية فمنها طاهرة نورانية ومنها خبيثة ظلمانية، ومنها مشرقة، ومنها كدرة، ومنها خيرة، ومنها نذلة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " الأرواح جنود مجندة " فالله تعالى خص عيسى بالروح الطاهرة النورانية المشرقة العلوية الخيرة. ولقائل أن يقول: لما دلت هذه الآية على أن تأييد عيسى إنما حصل من جبريل أو بسبب روحه المختص به، قدح هذا في دلالة المعجزات على صدق الرسل لأنا قبل العلم بعصمة جبريل نجوز أنه أعان عيسى عليه السلام على ذلك، على سبيل إغواء الخلق وإضلالهم فما لم تعرف عصمة جبريل لا يندفع هذا وما لم تعرف نبوة عيسى عليه السلام لا تعرف عصمة جبريل، فيلزم الدور وجوابه: ما ثبت من أصلنا أن الخالق ليس إلا الله وبه يندفع هذا السؤال. وثانيها: قوله تعالى: * (تكلم الناس في المهد وكهلا) * أما كلام عيسى في المهد فهو قوله * (إني عبد الله آتاني الكتاب) * (مريم: 30) وقوله * (تكلم الناس في المهد وكهلا) * في موضع الحال. والمعنى: يكلمهم طفلا وكهلا من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده. وثالثها: قوله تعالى: * (وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) * وفي * (الكتاب) * قولان: أحدهما: المراد به الكتابة وهي الخط. والثاني: المراد منه جنس الكتب. فإن الإنسان يتعلم أولا كتبا سهلة مختصرة، ثم يترقى منها إلى الكتب الشريفة. وأما * (الحكمة) * فهي عبارة عن العلوم النظرية، والعلوم العملية. ثم ذكر بعده * (التوراة والإنجيل) * وفيه وجهان: الأول:
125

أنهما خصا بالذكر بعد ذكر الكتب على سبيل التشريف كقوله * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * (البقرة: 238) وقوله * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) * (الأحزاب: 7) والثاني: وهو الأقوى أن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية، لا يحصل إلا لمن صار بانيا في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء. فقوله * (والتوراة والإنجيل) * إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ورابعها: قوله تعالى: * (وإذ تخلق من الطين كهيأة الطير باذني فتنفخ فيها فتكون طيرا باذني) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع * (فتكون طائرا) * والباقون * (طيرا) * بغير ألف وطير جمع طائر كضأن وضائن وركب وراكب. المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر ههنا * (فتنفخ فيها) * وذكر في آل عمران * (فأنفخ فيه) * (آل عمران: 49). والجواب: أن قوله * (كهيئة الطير) * أي هيئة مثل هيئة الطير فقوله * (فتنفخ فيها) * الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء.
إذا عرفت هذا فنقول: الكاف تؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير وتذكر بحسب الظاهر. وإذا كان كذلك جاز أن يقع الضمير عنها تارة على وجه التذكير وأخرى على وجه التأنيث. المسألة الثالثة: أنه تعالى اعتبر الأذن في خلق الطين كهيئة الطير، وفي صيرورته ذلك الشيء طيرا. وإنما أعاد قوله * (باذني) * تأكيدا لكون ذلك واقعا بقدرة الله تعالى وتخليقه لا بقدرة عيسى وإيجاده. وخامسها: قوله تعالى: * (وتبرئ الأكمه والأبرص باذني) * وإبراء الأكمه والأبرص معروف وقال الخليلي الأكمه من ولد أعمى والأعمى من ولد بصيرا ثم عمي. وسادسها: قوله تعالى: * (وإذ تخرج الموتى باذني) * أي وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء
126

باذني أي بفعلي ذلك عند دعائك، وعند قولك للميت أخرج بإذن الله من قبرك، وذكر الإذن في هذه الأفاعيل إنما هو على معنى إضافة حقيقة الفعل إلى الله تعالى كقوله * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) * (آل عمران: 145) أي إلا بخلق الله الموت فيها. وسابعها: قوله تعالى: * (وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قوله * (إذ جئتهم بالبينات) * يحتمل أن يكون المراد منه هذه البينات التي تقدم ذكرها وعلى هذا التقدير فالألف وللأم للعهد. ويحتمل أن يكون المراد منه جنس البينات. المسألة الثانية: روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى منهم حيث رفعه إلى السماء. ثم قال تعالى: * (فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي * (ساحر) * بالألف وكذلك في يونس وهود والصف، وقرأ ابن عامر وعاصم في يونس بالألف فقط والباقون * (سحر) * فمن قرأ * (ساحر) * أشار إلى الرجل ومن قرأ * (سحر) * أشار به إلى ما جاء به. وكلاهما حسن لأن كل واحد منهما قد تقدم ذكره. قال الواحدي رحمه الله: والاختيار * (سحر) * لجواز وعوعه على الحدث والشخص، أما وقوعه على الحدث فظاهر وأما وقوعه على الشخص، فتقول: هذا سحر وتريد به ذو سحر كما قال تعالى: * (ولكن البر من آمن) * (البقرة: 177) أي ذا البر قال الشاعر: فإنما هي إقبال وإدبار المسألة الثانية: فإن قيل: إنه تعالى شرع ههنا في تعديد نعمه على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه * (إن هذا إلا سحر مبين) * ليس من النعم، فكيف ذكره ههنا؟ والجواب: أن من الأمثال المشهورة - أن كل ذي نعمة محسود - وطعن الكفار في عيسى عليه
127

السلام بهذا الكلام، يدل على أن نعم الله في حقه كانت عظيمة فحسن ذكره عند تعديد النعم للوجه الذي ذكرناه.
* (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن ءامنوا بى وبرسولى قالوا ءامنا واشهد بأننا مسلمون) *
وثامنها: قوله تعالى: * (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي) * وقد تقدم تفسير الوحي. فمن قال إنهم كانوا أنبياء قال ذلك الوحي هو الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء. ومن قال إنهم ما كانوا أنبياء قال المراد بذلك الوحي الإلهام والالقاء في القلب كما في قوله تعالى: * (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) * (القصص: 7) وقوله * (وأوحى ربك إلى النحل) * (النحل: 68) وإنما ذكر هذا في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبا في قلوبهم من أعظم نعم الله على الإنسان. وذكر تعالى أنه لما ألقى ذلك الوحي في قلوبهم، آمنوا وأسلموا وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام، لأن الإيمان صفة القلب والإسلام عبارة عن الإنقياد والخضوع في الظاهر، يعني آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم. فإن قيل: إنه تعالى قال في أول الآية * (أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك) * (المائدة: 110) ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه بشيء منها تعلق. قلنا: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل الضمن والتبع للأم. ولذلك قال تعالى: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية * ((المؤمنون: 50) فجعلهما معا آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر. وروي أنه تعالى لما قال لعيسى * (أذكر نعمتي عليك) * (المائدة: 110) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر، ولا يدخر شيئا لغد ويقول مع كل يوم رزقه، ومن لم يكن له بيت فيخرب، ولا ولد فيموت، أينما أمسى بات.
قوله تعالى
* (إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السمآء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) *
فيه مسائل: المسألة الأولى: في قوله * (إذا قال) * وجهان: الأول: أوحيت إلى الحواريين إذ قال الحواريون الثاني: أذكر إذ قال الحواريون. المسألة الثانية: * (هل يستطيع ربك) * قرأ الكسائي * (هل تستطيع) * بالتاء * (ربك) * بالنصب
128

وبإدغام اللام في التاء، وسبب الادغام أن اللام قريب المخرج من التاء لأنهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا وبحسب قرب الحرف من الحرف يحسن الإدغام، وهذه القراءة مروية عن علي وابن عباس. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانوا أعلم بالله من أن يقولوا هل يستطيع وإنما قالوا هل تستطيع أن تسأل ربك. وعن معاذ بن جبل: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم * (هل تستطيع) * بالتاء * (ربك) * بالنصب والباقون يستطيع بالياء ربك برفع الباء وبالإظهار فأما القراءة الأولى فمعناها: هل تسطيع سؤال ربك؟ قالوا وهذه القراءة أولى من الثانية لأن هذه القراءة توجب شكهم في استطاعة عيسى، والثانية توجب شكهم في استطاعة الله، ولا شك أن الأولى أولى، وأما القراءة الثانية ففيها إشكال، وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم * (قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون) * (المائدة: 111) وبعد الإيمان كيف يجوز أن يقال إنهم بقوا شاكين في اقتدار الله تعالى على ذلك. والجواب عنه من وجوه: الأول: أنه تعالى ما وصفهم بالإيمان والإسلام بل حكى عنهم ادعاءهم لهما ثم أتبع ذلك بقوله حكاية عنهم * (هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء) * فدل ذلك على أنهم كانوا شاكين متوقفين فإن هذا القول لا يصدر عمن كان كاملا في الإيمان وقالوا: ونعلم أن قد صدقتنا وهذا يدل على مرض في القلب وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم * (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) * يدل على أنهم ما كانوا كاملين في الإيمان. والوجه الثاني: في الجواب أنهم كانوا مؤمنين إلا أنهم طلبوا هذه الآية ليحصل لهم مزيد الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام * (ولكن ليطمئن قلبي) * (
البقرة: 260) فإن مشاهدة مثل هذه الآية لا شك أنها تورث الطمأنينة ولهذا السبب قالوا وتطمئن قلوبنا. والوجه الثالث: في الجواب أن المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك هل هو جائز في الحكمة أم لا وذلك لأن أفعال الله تعالى لما كانت موقوفة على رعاية وجوه الحكمة ففي الموضع الذي لا يحصل فيه شيء من وجوه الحكمة يكون الفعل ممتنعا فإن المنافي من جهة الحكمة كالمنافي من جهة القدرة، وهذا الجواب يتمشى على قول المعتزلة، وأما على قولنا فهو محمول على أن الله تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقض به ولم يعلم وقوعه كان ذلك محالا غير مقدور لأن خلاف المعلوم غير مقدور. الوجه الرابع: قال السدي: * (هل يستطيع ربك) * أي هل يطيعك ربك إن سألته، وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع والسين زائدة. الوجه الخامس: لعل المراد بالرب: هو جبريل عليه السلام، لأنه كان يربيه ويخصه بأنواع
129

الإعانة، ولذلك قال تعالى في أول الآية * (إذ أيدتك بروح القدس) * (المائدة: 110) يعني أنك تدعي أنه يريبك ويخصك بأنواع الكرامة، فهل يقدر على إنزال مائدة من السماء عليك. والوجه السادس: أنه ليس المقصود من هذا السؤال كونهم شاكين فيه بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول هل يقدر السلطان على إشباع هذا ويكون غرضه منه أن ذلك أمر جلي واضح، لا يجوز لعاقل أن يشك فيه، فكذا ههنا. المسألة الثالثة: قال الزجاج: المائدة فاعلة من ماد يميد، إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها وقال ابن الأنباري سميت مائدة لأنها عطية من قول العرب: ماد فلان فلانا يميده ميدا إذا أحسن إليه، فالمائدة على هذا القول، فاعلة من الميد بمعنى معطية، وقال أبو عبيدة: المائدة فاعلة بمعنى مفعولة مثل عيشة راضية، وأصلها مميدة ميد بها صاحبها، أي أعطيها وتفضل عليه بها، والعرب تقول مادني فلان يميدني إذا أحسن إليه. ثم قال تعالى: * (قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) * وفيه وجهان: الأول: قال عيسى اتقوا الله في تعيين المعجزة، فإنه جار مجرى التعنت والتحكم، وهذا من العبد في حضرة الرب جرم عظيم، ولأنه أيضا اقتراح معجزة بعد تقدم معجزات كثيرة، وهو جرم عظيم. الثاني: أنه أمرهم بالتقوى لتصير التقوى سببا لحصول هذا المطلوب، كما قال: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب) * (الطلاق: 2، 3) وقال: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) * (المائدة: 35) وقوله: * (إن كنتم مؤمنين) * يعني إن كنتم مؤمنين بكونه سبحانه وتعالى قادرا على إنزال المائدة فاتقوا الله لتصير تقواكم وسيلة إلى حصول هذا المطلوب. ثم قال تعالى:
* (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين) *
والمعنى كأنهم لما طلبوا ذلك قال عيسى لهم: إنه قد تقدمت المعجزات الكثيرة فاتقوا الله في طلب هذه المعجزة بعد تقدم تلك المعجزات القاهرة، فأجابوا وقالوا إنا لا نطلب هذه المائدة لمجرد أن
130

تكون معجزة بل لمجموع أمور كثيرة: أحدها: أنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاما آخر، وثانيها: أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل، ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقيت الطمأنينة، وثالثها: أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل، ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة، وثالثها: أنا وإن علمنا بسائر المعجزات صدقك، ولكن إذا شاهدنا هذه المعجزة ازداد اليقين والعرفان وتأكدت الطمأنينة. ورابعها: أن جميع تلك المعجزات التي أوردتها كانت معجزات أرضية، وهذه معجزة سماوية وهي أعجب وأعظم، فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين، نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل، ونكون عليها من الشاهدي لله بكمال القدرة ولك بالنبوة. ثم قال تعالى:
* (قال عيسى بن مريم اللهم ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء تكون لنا عيدا لاولنا وءاخرنا وءاية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين) *
وفيه مسائل: المسألة الأولى: أما الكلام في * (اللهم) * فقد تقدم بالاستقصاء في سورة آل عمران في قوله) * قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) * (آل عمران: 26) فقوله: * (اللهم) * نداء، وقوله * (ربنا) * نداء ثان وأما قوله * (تكون لنا) * صفة للمائدة وليس بجواب للأمر، وفي قراءة عبد الله * (تكن) * لأنه جعله جواب الأمر. قال الفراء: وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع، ومثاله قوله تعالى: * (فهب لي من لدنك وليا * يرثني) * (مريم: 5 - 6) بالجزم والرفع * (فأرسله معي ردءا يصدقني) * (القصص: 34) بالجزم والرفع، وأما قوله * (عيدا لأولنا وآخرنا) * أي نتخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا، ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدا، والعيد في اللغة اسم لما عاد إليك في وقت معلوم، واشتقاقه من عاد يعود فأصله هو العود، فسمي العيد عيدا لأنه يعود كل سنة بفرح جديد، وقوله * (وآية منك) * أي دلالة على توحيدك وصحة نبوة رسولك * (وارزقنا) * أي وارزقنا طعاما نأكله وأنت خير الرازقين. المسألة الثانية: تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا، فقدموا ذكر الأكل فقالوا * (نريد أن نأكل منها) * (المائدة: 113) وأخروا الأغراض الدينية الروحانية، فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال * (وأرزقنا) * وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الزرق بقوله * (وأرزقنا) * لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرزاق فقال * (وأنت خير الرازقين) * فقوله * (ربنا) *
131

ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى، وقوله * (أنزل علينا) * انتقال من الذات إلى الصفات، وقوله * (تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا) * إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة، بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله * (وآية منك) * إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال وقوله * (وارزقنا) * إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزول من حضرة الجلال. فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون. ثم قال: * (وأنت خير الرازقين) * وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ومن غير الله إلى الله ومن الأخس إلى الأشرف، وعند ذلك تلوح لك شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة
النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله. المسألة الثالثة: في قراءة زيد * (يكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا) * والتأنيث بمعنى الآية. ثم قال تعالى:
* (قال الله إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) *
وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وعاصم ونافع * (منزلها) * بالتشديد، والباقون بالتخفيف وهما لغتان نزل وأنزل وقيل: بالتشديد أي منزلها مرة بعد أخرى، وبالتخفيف مرة واحدة. المسألة الثانية: * (فمن يكفر بعد منكم) * أي بعد إنزال المائدة * (فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) * قال ابن عباس: يعني مسخهم خنازير وقيل: قردة وقيل: جنسا من العذاب لا يعذب به غيرهم. قال الزجاج: ويجوز أن يكون ذلك العذاب معجلا لهم في الدنيا، ويجوز أن يكون مؤخرا إلى الآخرة، وقوله * (من العالمين) * يعني عالمي زمانهم. المسألة الثالثة: قيل: إنهم سألوا عيسى عليه السلام هذا السؤال عند نزولهم في مفازة على غير ماء ولا طعام ولذلك قالا نريد أن نأكل منها. المسألة الرابعة: اختلفوا في أن عيسى عليه السلام هل سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان قد أضافها إلى نفسه في الظاهر وكلاهما محتمل والله أعلم. المسألة الخامسة: اختلفوا في أنه هل نزلت المائدة. فقال الحسن ومجاهد: ما نزلت واحتجوا
132

عليه بوجهين: الأول: أن القوم لما سمعوا قوله * (أعذبه عذابا أحدا من العالمين) * استغفروا وقالوا لا نريدها. الثاني: أنه وصف المائدة بكونها عيدا لأولهم وآخرهم فلو نزلت لبقي ذلك العيد إلى يوم القيامة. وقال الجمهور الأعظم من المفسرين: أنها نزلت لأنه تعالى قال * (إني منزلها عليكم) * وهذا وعد بالإنزال جزما من غير تعليق على شرط، فوجب حصول هذا النزول. والجواب عن الأول: أن قوله * (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه) * شرط وجزاء لا تعلق له بقوله * (إني منزلها عليكم) * والجواب عن الثاني: أن يوم نزولها كان عيدا لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم. المسألة السادسة: روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفا، ثم قال: اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عليه السلام وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة، وقال لهم ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها. فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك، فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل. وقال: بسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسما. وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد، فقال شمعون: يا روح الله: أمن طعام الدنيا أمن طعام الآخرة؟ فقال: ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزيدكم من فضله، فقال الحواريون: يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال يا سمكة أحيي بإذن الله فاضطربت، ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية، ثم طارت المائدة ثم عصوا من بعدها، فمسخوا قردة وخنازير.
قوله تعالى
* (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أءنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله) *
133

وفيه مسائل: المسألة الأولى: هذا معطوف على قوله * (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك) * (المائدة: 110) وعلى هذا القول فهذا الكلام إنما يذكره لعيسى يوم القيامة، ومنهم من قال: إنه تعالى قال هذا الكلام لعيسى عليه السلام حين رفعه إليه وتعلق بظاهر قوله * (وإذ قال الله) * وإذ تستعمل للماضي، والقول الأول أصح، لأن الله تعالى عقب هذه القصة بقوله * (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) * (المائدة: 119) والمراد به يوم القيامة، وأما التمسك بكلمة إذ فقد سبق الجواب عنه. المسألة الثانية: في قوله * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * سؤالان: أحدهما: أن الاستفهام كيف يليق بعلام الغيوب. وثانيهما: أنه كان عالما بأن عيسى عليه السلام لم يقل ذلك فلم خاطبه به؟ فإن قلتم الغرض منه توبيخ النصارى وتقريعهم فنقول: إن أحدا من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى ومريم مع القول ينفي إلهية الله تعالى فكيف يجوز أن ينسب هذا القول إليهم مع أن أحدا منهم لم يقل به. والجواب: عن السؤال الأول أنه استفهام على سبيل الإنكار. والجواب: عن السؤال الثاني أن الإله هو الخالق والنصارى يعتقدون أن خالق المعجزات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى عليه السلام ومريم والله تعالى ما خلقها البتة وإذا كان كذلك فالنصارى قد قالوا إن خالق تلك المعجزات هو عيسى ومريم والله تعالى ليس خالقها، فصح أنهم أثبتوا في حق بعض الأشياء كون عيسى ومريم إلهين له مع أن الله تعالى ليس إلها له فصح بهذا التأويل هذه الحكاية والرواية. ثم قال تعالى: * (قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) * أما قوله * (سبحانك) * فقد فسرناه في قوله * (سبحانك لا علم لنا) * (البقرة: 32). وأعلم أن الله تعالى لما سأل عيسى أنك هل قلت كذا لم يقل عيسى بأني قلت أو ما قلت بل قال ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، وهذا ليس بحق ينتج أنه ما يكون لي أن أقول هذا الكلام لأن هذا يجري مجرى دعوى الطهارة والنزاهة، والمقام مقام الخضوع والتواضع، ولم يقل بأني قلته بل فوض ذلك إلى عمله المحيط بالكل. فقال: * (إن كنت قلته فقد علمته) * وهذا مبالغة في الأدب وفي إظهار الذل والمسكنة في حضرة الجلال وتفويض الأمور بالكلية إلى الحق سبحانه.
134

ثم قال تعالى: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: المفسرون ذكروا فيه عبارات تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي وقيل: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، وقيل: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وقيل: تعلم ما كان مني في الدنيا ولا أعلم ما كان منك في الآخرة، وقيل: تعلم ما أقول وأفعل، ولا أعلم ما تقول وتفعل. المسألة الثانية: تمسكت المجسمة بهذه الآية وقالوا: النفس هو الشخص وذلك يقتضي كونه تعالى جسما. والجواب من وجهين: الأول: أن النفس عبارة عن الذات، يقال نفس الشئ وذاته بمعنى واحد، والثاني: أن المراد تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ولكنه ذكر هذا الكلام على طريق المطابقة والمشاكلة وهو من فصيح الكلام. ثم قال تعالى: * (إنك أنت علام الغيوب) * وهذا تأكيد للجملتين المتقدمتين أعني قوله * (إن كنت قلته فقد علمته) * وقوله * (
تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) *
ثم قال تعالى حكاية عن عيسى * (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم) * أن مفسرة والمفسر هو الهاء في به الراجع إلى القول المأمور به والمعنى ما قلت لهم إلا قولا أمرتني به إلا أنه وضع القول موضع الأمر، نزولا على موجب الأدب الحسن، لئلا يجعل نفسه وربه أمرين معا، ودل على الأصل بذكر أن المفسرة.
ثم قال تعالى: * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) * أي كنت أشهد على ما يفعلون ما دمت مقيما فيهم. * (فلما توفيتني) * والمراد منه، وفاة الرفع إلى السماء، من قوله * (إني متوفيك ورافعك إلي) * (آل عمران: 55).
135

* (كنت أنت الرقيب عليهم) * قال الزجاج: الحافظ عليهم المراقب لأحوالهم. * (وأنت على كل شيء شهيد) * يعني أنت الشهيد لي حين كنت فيهم وأنت الشهيد عليهم بعد مفارقتي لهم، فالشهيد الشاهد ويجوز حمله على الرؤية، ويجوز حمله على العلم، ويجوز حمله على الكلام بمعنى الشهادة فالشهيد من أسماء الصفات الحقيقية على جميع التقديرات ثم قال تعالى:
* (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) *.
فيه مسائل: المسألة الأولى: معنى الآية ظاهر، وفيه سؤال: وهو أنه كيف جاز لعيسى عليه السلام أن يقول * (وإن تغفر لهم) * والله لا يغفر الشرك. والجواب عنه من وجوه: الأول: أنه تعالى لما قال لعيسى عليه السلام: * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * (المائدة: 116) علم أن قوما من النصارى حكوا هذا الكلام عنه، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافرا بل يكون مذنبا حيث كذب في هذه الحكاية وغفران الذنب جائز، فلهذا المعنى: طلب المغفرة من الله تعالى، والثاني: أنه يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل الزهاد والعباد النار، لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه، فذكر عيسى هذا الكرم ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى الله، وترك التعرض والاعتراض بالكلية، ولذلك ختم الكلام بقوله * (فإنك أنت العزيز الحكيم) * يعني أنت قادر على ما تريد، حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية، وقوله إن الله لا يغفر الشرك فنقول: غفرانه جائز عندنا، وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا: لأن العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب، وليس في إسقاطه على الله مضرة، فوجب أن يكون حسنا بل دل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجودا في شرع عيسى عليه السلام. الوجه الثالث: في الجواب أن القوم قالوا هذا الكفر فعيسى عليه السلام جوز أن يكون بعضهم قد تاب عنه، فقال: * (ان تعذبهم) * علمت أن أولئك المعذبين ماتوا على الكفر فلك أن تعذبهم بسبب أنهم عبادك، وأنت قد حكمت على كل من كفر ممن عبادك بالعقوبة، وإن تغفر لهم علمت أنهم تابوا عن الكفر، وأنت حكمت على من تاب عن الكفر بالمغفرة. الوجه الرابع: أنا ذكرنا أن من الناس من قال: إن قول الله تعالى لعيسى * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * (المائدة: 116) إنما كان عند رفعه إلى السماء لا في يوم القيامة، وعلى
136

هذا القول فالجواب سهل لأن قوله * (ان تعذبهم فإنهم عبادك) * يعني ان توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك، وان أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الايمان، وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضا ذاك على هذا التقدير فلا إشكال. المسألة الثانية: احتج بعض الأصحاب بهذه الآية على شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في حق الفساق قالوا: لأن قول عيسى عليه السلام * (ان تعذبهم فإنهم عبادك) * ليس في حق أهل الثواب لأن التعذيب لا يليق بهم، وليس أيضا في حق الكفار لأن قوله * (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) * لا يليق بهم فدل على أن ذلك ليس إلا في حق الفساق من أهل الايمان، وإذا ثبت شفاعة الفساق في حق عيسى عليه السلام ثبت في حق محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى لأنه لا قائل بالفصل. المسألة الثالثة: روى الواحدي رحمه الله أن في مصحف عبد الله (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم سمعت شيخي ووالدي رحمه الله يقول * (العزيز الحكيم) * هاهنا أولى من الغفور الرحيم، لأن كونه غفورا رحيما يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة لكل محتاج، وأنا العزة والحكمة فهما لا يوجبان المغفرة، فإن كونه عزيزا يقتضي أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأنه لا اعتراض عليه لأحد فإذا كان عزيزا متعاليا عن جميع جهات الاستحقاق، ثم حكم بالمغفرة كان الكرم هاهنا أتم مما إذا كان كونه غفورا رحيما يوجب المغفرة والرحمة، فكانت عبارته رحمه الله أن يقول: عز عن الكل. ثم حكم بالرحمة فكان هذا أكمل. وقال قوم آخرون: إنه لو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، أشعر ذلك بكونه شفيعا لهم، فلما قال: * (فإنك أنت العزيز الحكيم) * دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى، وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه.
ثم قال تعالى: * (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: أجمعوا على أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة، والمعنى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة، والدليل على أن المراد ما ذكرنا: أن صدق الكفار في القيامة لا ينفعهم، ألا
137

ترى أن إبليس قال: * (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) * (إبراهيم: 22) فلم ينفعه هذا الصدق، وهذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله * (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) * (المائدة: 117). المسألة الثانية: قرأ جمهور القراء * (يوم) * بالرفع، وقرأ نافع بالنصب، واختاره أبو عبيدة. فمن قرأ بالرفع، قال الزجاج: التقدير هذا اليوم يوم منفعة الصادقين، وأما النصب ففيه وجوه: الأول: على أنه ظرف لقال والتقدير: قال الله هذا القول لعيسى يوم ينفع. الثاني: أن يكون التقدير: هذا الصدق واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم، ويجوز أن تجعل ظروف الزمان أخبارا عن الأحداث بهذا التأويل كقولك: القتال يوم السبت، والحج يوم عرفة، أي واقع في ذلك اليوم، والثالث: قال الفراء: * (يوم) * أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في يومئذ. قال البصريون هذا خطأ لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى المبنى كقول النابغة. على حين عاتبت المشيب على الصبا بنى (حين) لإضافته إلى المبنى وهو الفعل الماضي وكذلك قوله * (يوم لا تملك) * (
الإنفطار: 19) بني لإضافته إلى (لا) وهي مبنية، أما هنا فالإضافة إلى معرب لأن ينفع فعل مستقبل، والفعل المستقبل معرب فالإضافة إليه لا توجب البناء والله أعلم. ثم قال تعالى: * (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) *. اعلم أنه تعالى لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة، شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب، وحقيقة الثواب: أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم. فقوله * (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) * إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم، وقوله * (خالدين فيها أبدا) * إشارة إلى الدوام واعتبر هذه الدقيقة، فإنه أينما ذكر الثواب قال: * (خالدين فيها أبدا) * وأينما ذكر عقاب الفساق من أهل الايمان ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأبيد، وأما قوله تعالى: * (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) * فهو إشارة إلى التعظيم. هذا ظاهر قول المتكلمين، وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى، فتحت قوله * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) * أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها، وقوله * (ذلك الفوز العظيم) * الجمهور على أن قوله * (ذلك) * عائد إلى جملة ما تقدم من قوله * (لهم جنات تجري) * إلى قوله * (ورضوا عنه) * وعندي أنه يحتمل أن يكون ذلك مختصا بقوله * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) * فإنه ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان
138

صفة الحق وأي مناسبة بينهما، وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري، ولكن كل ميسر لما خلق له
ثم قال تعالى:
* (لله ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شىء قدير) *.
قيل: إن هذا جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: من يعطيهم ذلك الفوز العظيم؟ فقيل: الذي له ملك السماوات والأرض. وفي هذه الخاتمة الشريفة أسرار كثيرة ونحن نذكر القليل منها. فالأول: أنه تعالى قال: * (لله ملك السماوات والأرض وما فيهن) * ولم يقل ومن فيهن فغلب غير العقلاء، والسبب فيه التنبيه على أن كل المخلوقات مسخرون في قبضة قهره وقدرته وقضائه وقدره، وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها وكالبهائم التي لا عقل لها، فعلم الكل بالنسبة إلى علمه كلا علم، وقدرة الكل بالنسبة إلى قدرته كلا قدرة. والثاني: أن مفتتح السورة كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية فقال: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) وكمال حال المؤمن في أن يشرع في العبودية وينتهي إلى الفناء المحض عن نفسه بالكلية. فالأول هو الشريعة وهو البداية والآخر هو الحقيقة وهو النهاية. فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها بذكر كبرياء الله وجلاله وعزته وقدرته وعلوه، وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن المناسبة بين ذلك المفتتح، وهذا المختتم! والثالث: أن السورة اشتملت على أنواع كثيرة من العلوم. فمنها: بيان الشرائع والأحكام والتكاليف. ومنها المناظرة مع اليهود في إنكارهم شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ومنها المناظرة مع النصارى في قولهم بالتثليث فختم السورة بهذه النكتة الوافية بإثبات كل هذه المطالب. فإنه قال: * (لله ملك السماوات والأرض وما فيهن) * ومعناه أن كل ما سوى الحق سبحانه فإنه ممكن لذاته موجود بإيجاده تعالى. وإذا كان الأمر كذلك كان مالكا لجميع الممكنات والكائنات موجدا لجميع الأرواح والأجساد، وإذا ثبت هذا لزم منه ثبوت كل المطالب المذكورة في هذه السورة. وأما حسن التكليف كيف شاء وأراد، فذاك ثابت، لأنه سبحانه لما كان مالكا للكل، كان لله أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والثواب والعقاب كيف شاء وأراد. فصح القول بالتكليف على أي وجه أراده الحق سبحانه وتعالى. وأما الرد على اليهود فلأنه سبحانه لما كان مالك الملك فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع موسى ويضع شرع محمد عليهما الصلاة والسلام وأما الرد على النصارى فلأن عيسى ومريم داخلان فيما سوى الله لأنا بينا أن الموجد إما أن يكون هو الله تعالى أو غيره، وعيسى ومريم لا شك في كونهما داخلين في هذا القسم. فإذا دلنا
139

على أن كل ما سوى الله تعالى ممكن لذاته موجود بإيجاد الله كائن بتكوين الله كان عيسى ومريم عليهما السلام كذلك. ولا معنى للعبودية إلا ذلك. فثبت كونهما عبدين مخلوقين فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية التي جعلها الله خاتمة لهذه السورة برهان قاطع في صحة جميع العلوم التي اشتملت هذه السورة عليها. والله أعلم بأسرار كلامه.
140

سورة الأنعام
مكية إلا الآيات: 20 و 23 و 91 و 93 و 114 و 141 و 151 و 152 و 153 فمدنية، وآياتها 165 نزلت بعد سورة الحجر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
قال ابن عباس رضي الله عنه: إنها مكية نزلت جملة واحدة، فامتلأ منها الوادي، وشيعها سبعون ألف ملك، ونزلت الملائكة فملأوا ما بين الأخشبين، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم الكتاب وكتبوها من ليلتهم إلا ست آيات فإنها مدنيات * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) * (الأنعام: 151) إلى آخر الآيات الثلاث وقوله * (وما قدروا الله حق قدره) * (الأنعام: 91) الآية وقوله * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * (الأنعام: 93) وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نزل علي سورة من القرآن جملة غير سورة الأنعام، وما اجتمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها، وقد بعث بها إلي مع جبريل مع خمسين ملكا أو خمسين ألف ملك يزفونها ويحفونها حتى أقروها في صدري كما أقر الماء في الحوض، ولقد أعزني الله وإياكم بها عزا لا يذلنا بعده أبدا، فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه " وعن ابن المنكدر: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ". قال الأصليون: هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة. أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة، والثاني: أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة، والسبب فيه أنها مشتملة على
دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة، وأيضا فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم، وبحسب الحوادث والنوازل. وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة، وذلك يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي.
141

بسم الله الرحمن الرحيم
* (الحمد لله الذى خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) *.
اعلم أن الكلام المستقصى في قوله * (الحمد لله) * قد سبق في تفسير سورة الفاتحة، ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الفوائد، وفيه مسائل: المسألة الأولى: في الفرق بين المدح والحمد والشكر. اعلم أن المدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر. أما بيان أن المح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله ولطافة خلقته، ويمدح الياقوت على نهاية صفائه وصقالته! فيقال: ما أحسنه وما أصفاه، وأما الحمد: فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان، فثبت أن المدح أعم من الحمد. وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فون الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحصل عندك. فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد، وهو أعم من الشكر. إذا عرفت هذا فنقول: إنما لم يقل المدح لله ونا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار، فقد يحصل لغيره. أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار. فكان قوله * (الحمد لله) * تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة وليس علة موجبة له إيجاب العلة لمعلولها، ولا شك أن هذه الفائدة عظيمة في الدين وإنما لم يقل الشكر لله، لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب انعام صدر منه ووصل إليك، وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة فحينئذ يكون المطلوب الأصلي به وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة، فأما إذا قال: الحمد لله، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه تعالى أوصل
142

النعمة إليه، فيكون الاخلاص أكمل، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت.
المسألة الثانية: الحمد: لفظ مفرد محلى بالألف واللام فيفيد أصل الماهية. إذا ثبت هذا فنقول: قوله * (الحمد لله) * يفيد أن هذه الماهية لله، وذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير الله، فهذا يقتضي أن جميع أقسام الحمد والثناء والتعظيم ليس إلا لله سبحانه. فإن قيل: إن شكر المنعم واجب، مثل شكر الأستاذ على تعليمه، وشكر السلطان على عدله، وشكر المحسن على إحسانه، كما قال عليه الصلاة والسلام: " من لم يشكر الناس لم يشكر الله ". قلنا: المحمود والمشكور في الحقيقة ليس إلا الله، وبيانه من وجوه: الأول: صدور الاحسان من العبد يتوقف على حصول داعية الاحسان في قلب العبد، وحصول تلك الداعية في القلب ليس من العبد، وإلا لافتقر في حصولها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل، بل حصولها ليس إلا من الله سبحانه فتلك الداعية عند حصولها يجب الفعل، وعند زوالها يمتنع الفعل فيكون المحسن في الحقيقة ليس إلا الله، فيكون المستحق لكل حمد في الحقيقة هو الله تعالى. وثانيها: أن كل من أحسن من المخلوقين إلى الغير، فإنه إنما يقدم على ذلك الإحسان إما لجلب منفعة أو دفع مضرة، أما جلب المنفعة: فإنه يطمع بواسطة ذلك الإحسان بما يصير سببا لحصول السرور في قلبه أو مكافأة بقليل أو كثير في الدنيا أو وجدان ثواب في الآخرة. وأما دفع المضرة، فهو أن الإنسان إذا رأى حيوانا في ضر أو بلية فإنه يرق قلبه عليه، وتلك الرقة ألم مخصوص يحصل في القلب عند مشاهدة وقوع ذلك الحيوان في تلك المضرة فإذا حاول إنقاذ ذلك الحيوان من تلك المضرة زالت تلك الرقة عن القلب وصار فارغ القلب طيب الوقت، فذلك الإحسان كأنه سبب أفاد تخليص القلب عن ألم الرقة الحسية، فثبت أن كل ما سوى الحق فإنه يستفيد بفعل الإحسان إما جلب منفعة أو دفع مضرة، أما الحق سبحانه وتعالى، فإنه يحسن ولا يستفيد منه جلب منفعة ولا دفع مضرة، وكان المحسن الحقيقي ليس إلا الله تعالى، فبهذا السبب كان المستحق لكل أقسام الحمد هو الله، فقال: * (الحمد لله) * وثالثها: أن كل إحسان يقدم عليه أحد من الخلق فالانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله، ألا ترى أنه لولا أن الله تعالى خلق أنواع النعمة وإلا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة والفواكه إلى الغير، وأيضا فلولا أنه سبحانه أعطى الإنسان الحواس الخمس التي بها يمكنه الانتفاع بتلك النعم وإلا لعجز عن الانتفاع بها. ولولا أنه سبحانه أعطاه المزاج الصحي والبنية السليمة وإلا لما أمكنه الانتفاع بها، فثبت أن كل إحسان يصدر عن محسن سوى الله
143

تعالى، فإن الانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله تعالى. وعند هذا يظهر أنه لا محسن في الحقيقة إلا الله، ولا مستحق للحمد إلا الله. فلهذا قال: * (الحمد لله) * ورابعها: أن الانتفاع بجميع النعم لا يمكن إلا بعد وجود المنتفع بعد كونه حيا قادرا عالما، ونعمة الوجود والحياة والقدرة والعلم ليست إلا من الله سبحانه والتربية الأصلية والأرزاق المختلفة لا تحصل إلا من الله سبحانه من أول الطفولية إلى آخر العمر. ثم إذا تأمل الإنسان في آثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان ووصل إلى ما أودع الله تعالى في أعضائه من أنواع المنافع والمصالح علم أنها بحر لا ساحل له، كما قال تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34) فبتقدير: أن نسلم أن العبد يمكنه أن ينعم على الغير إلا أن نعم العبد كالقطرة، ونعم الله لا نهاية لها أولا وآخرا وظاهرا وباطنا فلهذا السبب كان المستحق للحمد المطلق والثناء المطلق ليس إلا الله سبحانه فلهذا قال: * (الحمد لله) *. المسألة الثالثة: إنما قال: * (الحمد لله) * ولم يقل: أحمد الله، لوجوه: أحدها: أن الحمد صفة القلب وربما احتاج الإنسان إلى أن يذكر هذه اللفظة حال كونه غافلا بقلبه عن استحضار معنى الحمد والثناء، فلو قال في ذلك الوقت أحمد الله، كان كاذبا واستحق عليه الذم والعقاب، حيث أخبر عن دعوى شيء مع أنه ما كان موجودا. أما إذا قال: الحمد لله، فمعناه: أن ماهية الحمد وحقيقته مسلمة لله تعالى. وهذا الكلام حق وصدق سواء كان معنى الحمد والثناء حاضرا في قلبه أو لم يكن، وكان تكلمه بهذا الكلام عبادة شريفة وطاعة رفيعة فظهر الفرق بين هذين اللفظين. وثانيها: روي أنه تعالى أوحى
إلى داود عليه السلام يأمره بالشكر، فقال داود: يا رب وكيف أشكرك؟ وشكري لك لا يحصل إلا أن توفقني لشكرك وذلك التوفيق نعمة زائدة وإنها توجب الشكر لي أيضا وذلك يجر إلى ما لا نهاية له ولا طاقة لي بفعل ما لا نهاية له. فأوحى الله تعالى إلى داود: لما عرفت عجزك عن شكري فقد شكرتني.
إذا عرفت هذا فنقول: لو قال العبد أحمد الله كان دعوى أنه أتى بالحمد والشكر فيتوجه عليه ذلك السؤال. أنما لو قال: الحمد لله فليس فيه ادعاء أن العبد أتى بالحمد والثناء، بل ليس فيه إلا أنه سبحانه مستحق للحمد والثناء سواء قدر على الإتيان بذلك الحمد أو لم يقدر عليه فظهر التفاوت بين هذين اللفظين من هذا الوجه، وثالثها: أنه لو قال أحمد الله كان ذلك مشعرا بأنه ذكر حمد نفسه ولم يذكر حمد غيره. أما إذا قال: الحمد لله، فقد دخل فيه حمده وحمد غيره من أول خلق العالم إلى آخر استقرار المكلفين في درجات الجنان ودركات النيران، كما قال تعالى: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (يونس: 10) فكان هذا الكلام أفضل وأكمل.
144

المسألة الرابعة: اعلم أن هذه الكلمة مذكورة في أول سور خمسة. أولها: الفاتحة، فقال: * (الحمد لله رب العالمين) * (الفاتحة: 2) وثانيها: في يأول هذه السورة، فقال: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * (الأنعام: 1) والأول أعم لأن العالم عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، فقوله) * الحمد لله رب العالمين) * يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى. أما قوله * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * لا يدخل فيه إلا خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، ولا يدخل فيه سائر الكائنات والمبدعات، فكان التحميد المذكور في أول هذه السورة كأنه قسم من الأقسام الداخلة تحت التحميد المذكور في سورة الفاتحة وتفصيل لتلك الجملة. وثالثها: سورة الكهف، فقال: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) * (الكهف: 1) وذلك أيضا تحميد مخصوص بنوع خاص من النعمة وهو نعمة العلم والمعرفة والهداية والقرآن، وبالجملة النعم الحاصلة بواسطة بعثة الرسل، ورابعها: سورة سبأ وهي قوله * (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * (سبأ: 1) وهو أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله * (الحمد لله رب العالمين) * وخامسها: سورة فاطر، فقال: * (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) * (فاطر: 1) وظاهر أيضا أنه قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله * (الحمد لله رب العالمين) * فظهر أن الكلام الكلي التام هو التحميد المذكور في أول الفاتحة وهو قوله * (الحمد لله رب العالمين) * وذلك لأن كل موجود فهو إما واجب الوجود لذاته، وإما ممكن الوجود لذاته. وواجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى وما سواه ممكن وكل ممكن فلا يمكن دخوله في الوجود إلا بإيجاد الله تعالى وتكوينه والوجود نعمة فالإيجاد إنعام وتربية، فلهذا السبب قال: * (الحمد لله رب العالمين) * وأنه تعالى المربي لكل ما سواه والمحسن إلى كل ما سواه. فذلك الكلام هو الكلام الكلي الوافي بالمقصود. أما التحميدات المذكورة في أوائل هذه السور فكان كل واحد منها قسم من أقسام ذلك التحميد ونوع من أنواعه. فإن قيل: ما الفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب؟ وأيضا لم قال ههنا * (خلق السماوات والأرض) * بصيغة فعل الماضي؟ وقال في سورة فاطر * (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) * بصيغة اسم الفاعل. فنقول في الجواب عن الأول: الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الحق سبحانه عبارة عن علمه النافذ في جميع الكليات والجزئيات الواصل إلى جميع ذوات الكائنات والممكنات وأما كونه فاطرا فهو عبارة عن الإيجاد والابداع، فكونه تعالى خالقا إشارة إلى صفة العلم، وكونه فاطرا إشارة إلى صفة القدرة، وكونه تعالى ربا ومربيا مشتمل على الأمرين، فكان ذلك أكمل. والجواب عن الثاني: أن الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الله تعالى عبارة عن علمه بالمعلومات، والعمل بالشيء صح تقدمه على وجود المعلوم. ألا ترى أنه يمكننا أن نعلم الشيء قبل
145

دخوله في الوجود. أما إيجاد الشيء، فإنه لا يحصل إلا حال وجود الأثر بناء على مذهبنا أن القدرة إنما تؤثر في وجود المقدور حال وجود المقدور. فلهذا السبب قال: * (خلق السماوات) * والمراد أنه كان عالما بها قبل وجودها، وقال: * (فاطر السماوات والأرض) * والمراد أنه تعالى إنما يكون فاطرا لها وموجدا لها عند وجودها. المسألة الخامسة: في قوله * (الحمد لله) * قولان: الأول: المراد منه احمدوا الله تعالى، وإنما جاء على صيغة الخبر لفوائد: إحداها: أن قوله * (الحمد لله) * يفيد تعليم اللفظ والمعنى، ولو قال: احمدوا لم يحصل مجموع هاتين الفائدتين. وثانيها: أنه يفيد أنه تعالى مستحق الحمد سواء حمده حامد أو لم يحمده. وثالثها: أن المقصود منه ذكر الحجة فذكره بصيغة الخبر أولى. والقول الثاني: وهو قول أكثر المفسرين معناه قولوا الحمد لله. قالوا: والدليل على أن المراد منه تعليم العباد أنه تعالى قال في أثناء السورة * (إياك نعبد وإياك نستعين) * وهذا الكلام لا يليق ذكره إلا بالعباد. والمقصود أنه سبحانه لما أمر بالحمد وقد تقرر في العقول أن الحمد لا يحسن إلا على الإنعام، فحينئذ يصير هذا الأمر حاملا للمكلف على أن يتفكر في أقسام نعم الله تعالى عليه. ثم إن تلك النعم يستدل بذكرها على مقصودين شريفين: أحدهما: أن هذه النعم قد حدثت بعد أن كانت معدومة فلا بد لها من محدث ومحصل وليس ذلك هو العبد لأن كل أحد يريد تحصيل جميع أنواع النعم لنفسه، فلو كان حصول النعم للعبد بواسطة قدرة العبد واختياره، لوجب أن يكون كل واحد واصلأ إلى جميع أقسام النعم إذ لا أحد إلا وهو يريد تحصيل كل النعم لنفسه، ولما ثبت أنه لا بد لحدوث هذه النعم من محدث وثبت أن ذلك المحدث ليس هو العبد، فوجب الاقرار بمحدث قاهر قادر، وهو الله سبحانه وتعالى. والنوع الثاني: من مقاصد هذه الكلمة أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها فإذا أمر الله تعالى العبد بالتحميد، وكان الأمر بالتحميد مما يحمله على تذكر أنواع نعم الله تعالى، صار ذلك التكليف حاملا للعبد على تذكر أنواع نعم الله عليه، ولما كانت تلك النعم كثيرة خارجة عن الحد والاحصاء، صار تذكر تلك النعم موجبة رسوخ حب الله تعالى في قلب العبد. فثبت أن تذكير النعم يفيد هاتين الفائدتين الشريفتين. إحداهما: الاستدلال بحدوثها عن الاقرار بوجود الله تعالى. وثانيهما: أن الشعور بكونها نعما يوجب ظهور حب الله في القلب، ولا مقصود من جميع العبادات إلا هذان الأمران. فلهذا السبب وقع الابتداء في هذا الكتاب الكريم بهذه الكلمة، فقال: * (الحمد لله رب العالمين) *.
146

واعلم أن هذه الكلمة بحر لا ساحل له، لأن العالم اسم لكل ما سوى الله تعالى، وما سوى الله إما جسم أو حال فيه أو لا جسم ولا حال فيه، وهو الأرواح. ثم الأجسام
إما فلكية، وإما عنصرية. أما الفلكيات فأولها العرش المجيد، ثم الكرسي الرفيع. ويجب على العاقل أن يعرف أن العرش ما هو، وأن الكرسي ما هو، وأن يعرف صفاتهما وأحوالهما، ثم يتأمل أن اللوح المحفوظ، والقلم والرفرف، والبيت المعمور، وسدرة المنتهى ما هي، وأن يعرف حقائقها، ثم يتفكر في طبقات السماوات وكيفية اتساعها وأجرامها وأبعادها، ثم يتأمل في الكواكب الثابتة والسيارة، ثم يتأمل في عالم العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان، ثم يتأمل في كيفية حكمة الله تعالى في خلقه الأشياء الحقيرة والضعيفة كالبق والبعوض، ثم ينتقل منها إلى معرفة أجناس الأعراض وأنواعها القريبة والبعيدة، وكيفية المنافع الحاصلة من كل نوع من أنواعها، ثم ينتقل منها إلى تعرف مراتب الأرواح السفلية والعلوية والعرشية والفلكية، ومراتب الأرواح المقدسة عن علائق الأجسام المشار إليها بقوله * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) * (الأنبياء: 19) فإذا استحضر مجموع هذه الأشياء بقدر القدرة والطاقة، فقد حضر في عقله ذرة من معرفة العالم، وهو كل ما سوى الله تعالى. ثم عند هذا يعرف أن كل ما حصل لها من الوجود وكمالات الوجود في ذواتها من صفاتها وأحوالها وعلائقها، فمن إيجاد الحق ومن جوده ووجوده، فعند هذا يعرف من معنى قوله * (الحمد لله رب العالمين) * ذرة، وهذا بحر لا ساحل له، وكلام لا آخر له والله أعلم. المسألة السادسة: إنا وإن ذكرنا أن قوله * (الحمد لله رب العالمين) * أجري مجرى قوله قولوا: الحمد لله رب العالمين فإنما ذكرناه لأن قوله في أثناء السورة * (إياك نعبد وإياك نستعين) * لا يليق إلا بالعبد فلهذا السبب افتقرنا هناك إلى هذا الاضمار. أما هذه السورة وهي قوله * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * فلا يبعد أن يكون المراد منه ثناء الله تعالى به على نفسه. وإذا ثبت هذا فنقول: إن هذا يدل من بعض الوجوه، على أنه تعالى منزه عن الشبيه في اللذات والصفات والأفعال وذلك لأن قوله * (الحمد لله) * جار مجرى مدح النفس وذلك قبيح في الشاهد، فلما أمرنا بذلك دل هذا على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق، فكما أن هذا قبيح من الخلق مع أنه لا يقبح من الحق، فكذلك ليس كل ما يقبح من الخلق وجب أن يقبح من الحق. وبهذا الطريق وجب أن يبطل كلمات المعتزلة في أن ما قبح منا وجب أن يقبح من الله. إذا عرفت بهذا الطريق أن أفعاله لا تشبه أفعال الخلق، فكذلك صفاته لا تشبه صفات الخلق، وذاته لا تشبه ذوات الخلق، وعند هذا يحصل التنزيه المطلق والتقديس الكامل عن كونه تعالى
147

مشابها لغيره في الذات والصفات والأفعال، فهو الله سبحانه واحد في ذاته، لا شريك له في صفاته، ولا نظير له واحد في أفعاله لا شبيه له تعالى وتقدس والله أعلم. أما قوله سبحانه * (الذي خلق السماوات والأرض) * ففيه مسألتان: الأولى: في السؤالات المتوجهة على هذه الآية وهي ثلاثة: السؤال الأول: أن قوله * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * جار مجرى ما يقال: جاءني الرجل الفقيه. فإن هذا يدل على وجود رجل آخر ليس بفقيه، وإلا لم يكن إلى ذكر هذه الصفة حاجة كذا ههنا قوله * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * يوهم أن هناك إلها لم يخلق السماوات والأرض، وإلا فأي فائدة في هذه الصفة؟ والجواب: أنا بينا أن قوله (الله) جار مجرى اسم العلم. فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الصوف التمييز، بل تعريف كون ذلك المعنى المسمى، موصوفا بتلك الصفة. مثاله إذا قلنا الرجل العالم، فقولنا: الرجل اسم الماهية، والماهية تتناول الأشخاص المذكورين الكثيرين. فكان المقصود ههنا من ذكر الوصف تمييز هذا الرجل بهذا الاعتبار عن سائر الرجال بهذه الصفة. أما إذا قلنا: زيد العالم، فلفظ زيد اسم علم، وهو لا يفيد إلا هذه الذات المعينة، لأن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات. فإذا وصفناه بالعلمية امتنع أن يكون المقصود منه تمييز ذلك الشخص عن غيره، بل المقصود منه تعريف كون ذلك المسمى موصوفا بهذه الصفة. ولما كان لفظ (الله) من باب أسماء الأعلام، لا جرم كان الأمر على ما ذكرناه والله أعلم. السؤال الثاني: لم قدم ذكر السماء على الأرض، مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء؟ والجواب: السماء كالدائرة، والأرض كالمركز، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس، فإن حصول المركز لا يوجب تعين الدائرة لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها، فلما كانت السماء متقدمة على الأرض بهذا الاعتبار وجب تقديم ذكر السماء على الأرض بهذا الاعتبار. السؤال الثالث: لم ذكر السماء بصيغة الجمع والأرض بصيغة الواحد مع أن الأرضين أيضا كثيرة بدليل قوله تعالى * (ومن الأرض مثلهن) * (الطلاق: 12). والجواب: أن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض مجرى القابل. فلو كانت المساء واحدة لتشابه الأثر، وذلك يخل بمصالح هذا العالم. أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية فحصل بسببها الفصول
148

الأربعة، وسائر الأحوال المختلفة، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم. أما الأرض فهي قابلة للأثر والقابل الواحد كاف في القبول، وأما دلالة الآية المذكورة على تعدد الأرضين فقد بينا في تفسير تلك الآية كيفية الحال فيها والله أعلم. المسألة الثانية: اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر الدلالة على وجود الصانع. وتقريره أن أجرام السماوات والأرض تقدرت في أمور مخصوصة بمقادير مخصوصة، وذلك لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار. أما بيان المقام الأول فمن وجوه: الأول: أن كل فلك مخصوص اختص بمقدار معين مع جواز أن يكون الذي كان حاصلا مقدارا أزيد منه أو أنقص منه. والثاني: أن كل فلك بمقدار مركب من أجزاء، والجزء الداخل كان يمكن وقوعه خارجا وبالعكس. فوقوع كل واحد منها في حيزه الخاص أمر جائز. والثالث: أن الحركة والسكون جائزان على كل الأجسام بدليل أن الطبيعة الجسمية واحدة. ولوازم الأمور الواحدة بالحركة دون السكون اختصاص بأمر ممكن. والرابع: أن كل حركة، فإنه يمكن وقوعها أسرع مما وقع وأبطأ مما وقع، فاختصاص تلك الحركة المعينة بذلك القدر المعين من السرعة والبطء اختصاص بأمر ممكن. والخامس: أن كل حركة، وقعت متوجهة إلى جهة، فإنه يمكن وقوعها متوجهة إلى سائر الجهات. فاختصاصها بالوقوع على ذلك الوجه الخاص اختصاص بأمر ممكن. والسادس: أن كل فلك فإنه يوجد جسم آخر إما أعلى منه وإما أسفل منه، وقد كان وقوعه على خلاف ذلك الترتيب أمرا ممكنا، بدليل أن الأجسام لما كانت متساوية في الطبيعة الجسمية، فكل ما صح على بعضها صح على كلها، فكان اختصاصه بذلك الحيز والترتيب أمرا ممكنا. والسابع: وهو أن لحركة كل فلك أولا، لأن وجو، حركة لا أول لها محال. لأن حقيقة الحركة انتقال من
حالة إلى حالة. وهذا الانتقال يقتضي كونها مسبوقة بالغير. والأول ينافي المسبوقية بالغير، والجمع بينهما محال. فثبت أن لكل حركة أولا، واختصاص ابتداء حدوثه بذلك الوقت، دون ما قبله وما بعده اختصاص بأمر ممكن. والثامن: هو أن الأجسام، لما كانت متساوية في تمام الماهية كان اتصاف بعضها بالفلكية وبعضها بالعنصرية دون العكس، اختصاصا بأمر ممكن. والتاسع: وهو أن حركاتها فعل لفاعل مختار، ومتى كان كذلك فلها أول. بيان المقام الأول أن المؤثر فيها لو كان علة موجبة بالذات لزم من دوام تلك العلة دوام آثارها، فيلزم من دوام تلك العلة، دوام كل واحد من الأجزاء المتقومة في هذه الحركة. ولما كان ذلك محالا ثبت أن المؤثر فهيا ليس علة موجبة بالذات، بل
149

فاعلا مختارا. وإذا كان كذلك، وجب كون ذلك الفاعل متقدما على هذه الحركات، وذلك يوجب أن يكون لها بداية. العاشر: أنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له بدليل أنا نعلم بالضرورة أنا لو فرضنا أنفسنا واقفين على طرف الفلك الأعلى فإنا نميز بين الجهة التي تلي قدامنا وبين الجهة التي تلي خلفنا، وثبوت هذا الامتياز معلوم بالضرورة. وإذا كان كذلك ثبت أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له، وإذا كان كذلك فحصول هذا العالم في هذا الحيز الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر مكن، فثبت بهذه الوجوه العشرة: أن أجرام السماوات والأرضين مختلفة بصفات وأحوال، فكان يجوز في العقل حصول أضدادها ومقابلاتها، فوجب أن لا يحصل هذا الاختصاص الخاص إلا لمرجح ومقدر وإلا فقد ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال.
وإذا ثبت هذا فنقول: إنه لا معنى للخلق إلا التقدير. فلما دل العقل على حصول التقدير من هذه الوجوه العشرة، وجب حصول الخلق من هذه الوجوه العشرة. فلهذا المعنى. قال: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * والله أعلم، ومن الناس من قال المقصود من ذكر السماوات والأرض والظلمات والنور التنبيه على ما فيها من المنافع. واعلم أن منافع السماوات أكثر من أن تحيط بجزء من أجزائها المجلدات، وذلك لأن السماوات بالنسبة إلى مواليد هذا العالم جارية مجرى الأب والأرض بالنسبة إليها جارية مجرى الأم فالعلل الفاعلة سماوية والعلل القابلة أرضية وبها يتم أمر المواليد الثلاثة. والاستقصاء في شرح ذلك لا سبيل له. أما قوله * (وجعل الظلمات والنور) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: لفظ * (جعل) * يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله تعالى: * (وجعل الظلمات والنور) * وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * (الزخرف: 19) والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين والتصيير كإنشاء شيء من شيء، وتصيير شيء شيئا، ومنه: قوله تعالى: * (وجعل منها زوجها) * (الأعراف: 189) وقوله * (وجعلنا لهم أزواجا) * (الرعد: 38) وقوله * (أجعل الآلهة إلها واحدا) * (ص: 5) وإنما حسن لفظ الجعل ههنا لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كأنه كل واحد منهما إنما تولد من الآخر.
المسألة الثانية: في لفظ * (الظلمات والنور) * قولان: الأول: أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما. وأيضا هذان الأمران إذا جعلا مقرونين
150

بذكر السماوات والأرض، فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان والثاني: نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال * (وجعل الظلمات والنور) * أي ظلمة الشرك والنفاق والكفر والنور يريد نور الإسلام والإيمان والنبوة واليقين. ونقل عن الحسن أنه قال: يعني الكفر والإيمان، ولا تفاوت بين هذين القولين، فكان قول الحسن كالتلخيص لقول ابن عباس. ولقائل أن يقول حمل اللفظ على الوجه الأول أولى، لما ذكرنا أن الأصل حمل اللفظ على حقيقته، ولأن الظلمات والنور إذا كان ذكرهما مقرونا بالسموات والأرض لم يفهم منه إلا ما ذكرناه. قال الواحدي: والأولى حمل اللفظ عليهما معا. وأقول هذا مشكل لأنه حمل اللفظ على مجازه، واللفظ الواحد بالاعتبار الواحد لا يمكن حمله على حقيقته ومجازه معا. المسألة الثالثة: إنما قدم ذكر الظلمات على ذكر النور لأجل أن الظلمة عبارة عن عدم النور عن الجسم الذي من شأنه قبول النور، وليست عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور، والدليل عليه أنه إذا جلس إنسان بقرب السراج، وجلس إنسان آخر بالبعد منه، فإن البعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافيا مضيئا، وأما القريب فإنه لا يرى البعيد ويرى ذلك الهواء مظلما، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية. وإذ ثبت هذا فنقول: عدم المحدثات متقدم على وجودها، فالظلمة متقدمة في التقدير والتحقق على النور، فوجب تقديمها في اللفظ، ومما يقوي ذلك ما يروى في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره. المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: لم ذكر الظلمات بصيغة الجمع، والنور بصيغة الواحد؟ فنقول: أما من حمل الظلمات على الكفر والنور على الإيمان، فكلامه ههنا ظاهر، لأن الحق واحد والباطل كثير، وأما من حملها على الكيفية المحسوسة، فالجواب: أن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية، ثم إنها تقبل التناقص قليلا قليلا، وتلك المراتب كثيرة. فلهذا السبب عبر عن الظلمات بصيغة الجمع. أما قوله تعالى: * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) * فأعلم أن العدل هو التسوية. يقول: عدل الشيء بالشيء إذا سواه به، ومعنى * (يعدلون) * يشركون به غيره.
151

فإن قيل: على أي شيء عطف قوله * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) * قلنا: يحتمل أن يكون معطوفا على قوله * (الحمد لله) * على معنى أن الله حقيق بالحمد على كل ما خلق لأنه ما خلقه إلا نعمة * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) * فيكفرون بنعمته، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله * (خلق السماوات والأرض) * على معنى أن خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه، ثم إنهم يعدلون به جمادا لا يقدر على شيء أصلا. فإن قيل: فما معنى ثم؟ قلنا: الفائدة فيه استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته والله أعلم.
قوله تعالى
* (هو الذى خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) *
اعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع تعالى، ويحتمل أن لا يكون المراد منه ذكر الدليل على صحة المعاد وصحة الحشر. أما الوجه الأول: فتقريره: أن الله تعالى لما استدل بخلقه السماوات والأرض وتعاقب الظلمات والنور على وجود الصانع الحكيم أتبعه بالاستدلال بخلقه الإنسان، على إثبات هذا المطلوب فقال: * (هو الذي خلقكم من طين) * والمشهور أن المراد منه أنه تعالى خلقهم من آدم وآدم كان مخلوقا من طين. فلهذا السبب قال: * (هو الذي خلقكم من طين) * وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث، وهما يتوالدان من الدم، والدم إنما يتولد من الأغذية، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية، فإن كانت حيوانية كان الحال في كيفية تولد ذلك الحيوان كالحال في كيفية تولد الإنسان، فبقي أن تكون نباتية، فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية، ولا شك أنها متولدة من الطين، فثبت أن كل إنسان متولد من الطين. وهذا الوجه عندي أقرب إلى الصواب. إذا عرفت هذا فنقول: هنا الطين قد تولدت النطفة منه بهذا الطريق المذكور، ثم تولد من النطفة أنواع الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل مثل القلب والدماغ والكبد، وأنواع الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها، وتولد الصفات المختلفة في المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم وذلك هو المطلوب.
152

وأما الوجه الثاني: وهو أن يكون المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد، فنقول لما ثبت أن تخليق بدن الإنسان إنما حصل، لأن الفاعل الحكيم والمقدر الرحيم، رتب حلقة هذه الأعضاء على هذه الصفات المختلفة بحكمته وقدرته، وتلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادرا على إعادتها وإعادة الحياة فيها، وذلك يدل على صحة القول بالمعاد. وأما قوله تعالى: * (ثم قضى أجلا) * ففيه مباحث: المبحث الأول: لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر. قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * (الأسرار: 23) وبمعنى الخبر والاعلام. قال تعالى: * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) * (الإسرار: 4) وبمعنى صفة الفعل إذا تم. قال تعالى: * (فقضاهن سبع سماوات في يومين) * (فصلت: 12) ومنه قولهم قضى فلان حاجة فلان. وأما الأجل فهو في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانقضاء عمره، وأجل الدين محله لانقضاء التأخير فيه وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أجولا، وهو آجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل. إذا عرفت هذا فقوله * (ثم قضى أجلا) * معناه أنه تعالى خصص موت كل واحد بوقت معين وذلك التخصيص عبارة عن تعلق مشيئته بإيقاع ذلك الموت في ذلك الوقت. ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (ثم إنكم بعد ذلك يميتون) * (المؤمنون: 15). وأما قوله تعالى: * (وأجل مسمى عنده) * فاعلم أن صريح هذه الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان. واختلف المفسرون في تفسيرهما على وجوه: الأول: قال أبو مسلم قوله * (ثم قضى أجلا) * المراد منه آجال الماضين من الخلق وقوله * (وأجل مسمى عنده) * المراد منه آجال الباقين من الخلق فهو خص هذا الأجل. الثاني: بكونه مسمى عنده، لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهم معلومة، أما الباقون فهم بعد لم يموتوا فلم تصر آجالهم معلومة، فلهذا المعنى قال: * (وأجل مسمى عنده) * والثاني: أن الأجل الأول هو أجل الموت والأجل المسمى عند الله هو أجل القيامة، لأن مدة حياتهم في الآخرة لا آخرة لها ولا انقضاء ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله سبحانه وتعالى. والثالث: الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. والرابع: أن الأول: هو النوم والثاني: الموت. والخامس: أو الأجل الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد، والأجل الثاني: مقدار ما بقي من عمر كل أحد. والسادس: وهو قول حكماء الإسلام أن لكل إنسان أجلين: أحدهما: الآجال الطبيعية. والثاني: الآجال الاخترامية. أما الآجال الطبيعية: فهي التي لو بقي ذلك المزاج
153

مصونا من العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني، وأما الآجال الاخترامية: فهي التي تحصل بسبب من الأسباب الخارجية: كالغرق والحرق ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المعضلة، وقوله * (مسمى عنده) * أي معلوم عنده أو مذكور اسمه في اللوح المحفوظ، ومعنى عنده شيبه بما يقول الرجل في المسألة عندي أن الأمر كذا وكذا أي هذا اعتقادي وقولي. فإن قيل: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره فلم جاز تقديمه في قوله * (وأجل مسمى عنده) * قلنا: لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة كقوله * (ولعبد مؤمن خير من مشرك) * (البقرة: 221). وأما قوله * (ثم أنتم تمترون) * فنقول: المرية والامتراء هو الشك. وأعلم أنا إن قلنا المقصود من ذكر هذا الكلام الاستدلال على وجود الصانع كان معناه أن بعد ظهور مثل هذه الحجة الباهرة أنتم تمترون في صحة التوحيد، وإن كان المقصود تصحيح القول بالمعاد فكذلك والله أعلم.
قوله تعالى
* (وهو الله فى السموت وفى الارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) *
واعلم أنا إن قلنا: إن المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدليل على وجود الصانع القادر المختار. قلنا: المقصود من هذه الآية بيان كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، فإن الآيتين المتقدمتين يدلان على كمال القدرة، وهذه الآية تدل على كمال العلم وحينئذ يكمل العلم بالصفات المعتبرة في حصول الإلهية، وإن قلنا: المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدلالة على صحة المعاد، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان، وذلك لأن منكري المعاد إنما أنكروه لأمرين أحدهما: أنهم يعتقدون أن المؤثر في حدوث بدن الإنسان هو امتزاج الطبائع وينكرون أن يكون المؤثر فيه قادرا مختارا. والثاني: أنهم يسلمون ذلك إلا أنهم يقولون إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي، ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرون ثم إنه تعالى أثبت بالآيتين المتقدمتين كونه تعالى قادرا ومختارا لا علة موجبة، وأثبت بهذه الآية كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، وحينئذ تبطل جميع الشبهات التي عليها مدار القول بإنكار المعاد، وصحة الحشر والنشر فهذا هو الكلام في نظم الآية وههنا مسائل:
154

المسألة الأولى: القائلون بأن الله تعالى مختص بالمكان تمسكوا بهذه الآية وهو قوله * (وهو الله في السماوات) * وذلك يدل على أن الإله مستقر في السماء قالوا:
ويتأكد هذا أيضا بقوله تعالى: * (أأمنتم من في السماء أن يخسف) * (الملك: 16) قالوا: ولا يلزمنا أن يقال فيلزم أن يكون في الأرض لقوله تعالى في هذه الآية * (وهو الله في السماوات وفي الأرض) * وذلك يقتضي حصوله تعالى في المكانين معا وهو محال لأنا نقول أجمعنا على أنه ليس بموجود في الأرض، ولا يلزم من ترك العمل بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من غير دليل، فوجب أن يبقى ظاهر قوله * (وهو الله في السماوات) * على ذلك الظاهر، ولأن من القراء من وقف عند قوله * (وهو الله في السماوات) * ثم يبتدئ فيقول * (وفي الأرض يعلم سركم) * والمعنى أنه سبحانه يعلم سرائركم الموجودة في الأرض فيكون قوله * (في الأرض) * صلة لقوله * (سركم) * هذا تمام الكلام. وأعلم أنا نقيم الدلالة أولا على أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره، وذلك من وجوه: الأول: أنه تعالى قال في هذه السورة * (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) * (الأنعام: 12) فبين بهذه الآية أن كل ما في السماوات والأرض فهو ملك لله تعالى ومملوك له، فلو كان الله أحد الأشياء الموجودة في السماوات لزم كونه ملكا لنفسه، وذلك محال، ونظير هذه الآية قوله في سورة طه * (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما) * (طه: 6) فإن قالوا قوله * (قل لمن ما في السماوات والأرض) * هذا يقتضي أن كل ما في السماوات فهو لله إلا أن كلمة ما مختصة بمن لا يعقل فلا يدخل فيها ذات الله تعالى. قلنا: لا نسلم والدليل عليه قوله * (والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها) * (الشمس: 5 - 7) ونظيره * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * (الكافرون: 3) ولا شك أن المراد بكلمة ما ههنا هو الله سبحانه. والثاني: أن قوله * (وهو الله في السماوات) * إما أن يكون المراد منه أنه موجود في جميع السماوات، أو المراد أنه موجود في سماء واحدة. والثاني: ترك للظاهر والأول: على قسمين لأنه إما أن يكون الحاصل منه تعالى في أحد السماوات عين ما حصل منه في سائر السماوات أو غيره، والأول: يقتضي حصول المتحيز الواحد في مكانين وهو باطل ببديهة العقل.
الثاني: يقتضي كونه تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض وهو محال. والثالث: أنه لو كان موجودا في السماوات لكان محدودا متناهيا وكل ما كان كذلك كان قبوله للزيادة والنقصان ممكنا، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر وكل ما كان كذلك فهو محدث. والرابع: أنه لو كان في السماوات فهل يقدر على خلق عالم آخر فوق السماوات أو لا يقدر، والثاني: يوجب تعجيزه والأول: يقتضي أنه تعالى لو فعل ذلك لحصل تحت هذا العالم، والقوم ينكرون كونه تحت العالم
155

والخامس: أنه تعالى قال: * (وهو معكم أينما كنتم) * (الحديد: 4) وقال: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * (ق: 16) وقال: * (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) * (الزخرف: 84) وقال * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * (البقرة: 115) وكل ذلك يبطل القول بالمكان والجهة صلى الله عليه وسلم تعالى، فثبت بهذه الدلائل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره فوجب التأويل وهو من وجوه: الأول: أن قوله * (وهو الله في السماوات وفي الأرض) * يعني وهو الله في تدبير السماوات والأرض كما يقال: فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاح مهماته، ونظيره قوله تعالى: * (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) * والثاني: أن قوله * (وهو الله) * كلام تام، ثم ابتدأ وقال: * (في السماوات وفي الأرض يعمل سركم وجهركم) * والمعنى إله سبحانه وتعالى يعلم في السماوات سرائر الملائكة، وفي الأرض يعلم سرائر الإنس والجن. والثالث: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير: وهو الله يعلم في السماوات وفي الأرض سركم وجهركم، ومما يقوي هذه التأويلات أن قولنا: وهو الله نظير قولنا هو الفاضل العالم، وكلمة هو إنما تذكر ههنا لإفادة الحصر، وهذه الفائدة إنما تحصل إذا جعلنا لفظ الله اسما مشتقا فأما لو جعلناه اسم علم شخص قائم مقام التعيين لم يصح إدخال هذه اللفظة عليه، وإذا جعلنا قولنا: الله لفظا مفيدا صار معناه وهو المعبود في السماء وفي الأرض، وعلى هذا التقدير يزول السؤال والله أعلم. المسألة الثانية: المراد بالسر صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف، والمراد بالجهر أعمال الجوارح، وإنما قدم ذكر السر على ذكر الجهر لأن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي، فالداعية التي هي من باب السر هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر، وقد ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، والعلة متقدمة على المعلول، والمتقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ. المسألة الثالثة: قوله * (ويعلم ما تكسبون) * فيه سؤال: وهو أن الأفعال إما أفعال القلوب وهي المسماة بالسر، وإما أعمال الجوارح وهي المسماة بالجهر. فالأفعال لا تخرج عن السر والجهر فكان قوله * (ويعلم ما تكسبون) * يقتضي عطف الشيء على نفسه، وأنه فاسد.
والجواب: يجب حمل قوله * (ما تكسبون) * على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب والحاصل أنه محمول على المكتسب كما يقال: هذا المال كسب فلان أي مكتسبه، ولا يجوز حمله على نفس الكسب، وإلا لزم عطف الشيء على نفسه على ما ذكرتموه في السؤال. المسألة الرابعة: الآية تدل على كون الإنسان مكتسبا للفعل والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر، ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب لكونه تعالى منزها عن جلب النفع ودفع الضرر والله أعلم.
156

قوله تعالى
* (وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) *
اعلم أنه تعالى لما تكلم، أولا: في التوحيد، وثانيا: في المعاد، وثالثا: فيما يقرر هذين المطلوبين ذكر بعده ما يتعلق بتقرير النبوة وبدأ فيه بأن بين كون هؤلاء الكفار معرضين عن تأمل الدلائل، غير ملتفتين إليها وهذه الآية تدل على أن التقليد باطل. والتأمل في الدلائل واجب. ولولا ذلك لما ذم الله المعرضين عن الدلائل. قال الواحدي رحمه الله: من في قوله * (من آية) * لاستغراق الجنس الذي يقع في النفي كقولك ما أتاني من أحد والثانية وهي قوله * (من آيات ربهم) * للتبعيض والمعنى وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا كانوا عنه معرضين.
قوله تعالى
* (فقد كذبوا بالحق لما جآءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون) *
اعلم أنه تعالى رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب، فالمرتبة الأولى: كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر في البينات، والمرتبة الثانية: كونهم مكذبين بها وهذه المرتبة أزيد مما قبلها، لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذبا به، بل يكون غافلا عنه غير متعرض له، فإذا صار مكذبا به فقد زاد على الأعراض، والمرتبة الثالثة: كونهم مستهزئين بها لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حد الاستهزاء، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الانكار، فبين تعالى أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب. واختلفوا في المراد بالحق فقيل إنه المعجزات: قال ابن مسعود: انشق القمر بمكة وانفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة، وقيل إنه القرآن، وقيل: إنه محمد صلى الله عليه وسلم وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم والأحكام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وقيل إنه الوعد والوعيد، الذي يرغبهم به تارة ويحذرهم بسببه أخرى، والأولى دخول الكل فيه. وأما قوله تعالى: * (فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن) * المراد منه الوعيد والزجر عن ذلك الاستهزاء، فيجب أن يكون المراد بالأنباء الأنباء لا نفس الأنباء بل العذاب الذي أنبأ الله تعالى به ونظيره قوله تعالى: * (ولتعلمن نبأه بعد حين) * (ص: 88) والحكيم إذا توعد فربما قال ستعرف نبأ هذا الأمر إذ نزل بك ما تحذره، وإنما كان كذلك لأن الغرض بالخبر الذي هو الوعيد حصول العلم بالعقاب الذي ينزل فنفس العقاب
157

إذا نزل يحقق ذلك الخبر، حتى تزول عنه الشبهة. ثم المراد من هذ العذاب يحتمل أن يكون عذاب الدنيا، وهو الذي ظهر يوم بدر ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة.
قوله تعالى
* (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الارض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السمآء عليهم مدرارا وجعلنا الانهار تجرى من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين) *
اعلم أن الله تعالى لما منعهم عن ذلك الإعراض والتكذيب والاستهزاء بالتهديد والوعيد أتبعه بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة في هذا الباب فوعظهم بسائر القرون الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم. فإن قيل: ما القرن؟ قلنا قال الواحدي: القرن القوم المقترنون في زمان من الدهر فالمدة التي يجتمع فيها قوم ثم يفترقون بالموت فهي قرن، لأن الذين يأتون بعدهم أقوام آخرون اقترنوا فهم قرن آخر، والدليل عليه قوله عليه السلام: " خير القرون قرني " واشتقاقه من الأقران، ولما كان أعمار الناس في الأكثر الستين والسبعين والثمانين لا جرم قال بعضهم: القرن هو الستون، وقال آخرون: هو السبعون، وقال قوم هو الثمانون والأقرب أنه غير مقدر بزمان معين لا يقع فيه زيادة ولا نقصان، بل المراد أهل كل عصر فإذا انقضى منهم الأكثر قيل قد انقضى القرن. واعلم أن الله تعالى وصف القرون الماضية بثلاثة أنواع من الصفات: الصفة الأولى: قوله * (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) * قال صاحب " الكشاف " مكن له في الأرض جعل له مكانا ونحوه في أرض له ومنه قوله تعالى: * (إنا مكنا له في الأرض) * (الكهف: 84) * (أو لم نمكن لهم) * (القصص: 57) وأما مكنته في الأرض، فمعناه أثبته فيها ومنه قوله تعالى: * (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) * (الأحقاف: 26) ولتقارب المعنيين جمع الله بينهما في قوله * (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) * والمعنى لم نعط أهل
158

مكة مثل ما أعطينا عادا وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا. والصفة الثانية: قوله: * (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) * يريد الغيث والمطر، فالسماء معناه المطر ههنا، والمدرار الكثير الدر وأصله من قولهم در اللبن إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير فالمدرار يصلح أن يكون من نعت السحاب، ويجوز أن يكون من نعت المطر يقال سحاب مدرار إذا تتابع أمطاره. ومفعال يجيء في نعت يراد المبالغة فيه. قال مقاتل * (مدرارا) * متتابعا مرة بعد أخرى ويستوي في المدرار المذكر والمؤنث. والصفة الثالثة: قوله * (وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم) * والمراد منه كثرة البساتين. واعلم أن المقصود من هذه الأوصاف أنهم وجدوا من منافع الدنيا أكثر مما وجده أهل مكة، ثم بين تعالى أنهم مع مزيد العز في الدنيا بهذه الوجوه ومع كثرة العدد والبسطة في المال والجسم جرى عليهم عند الكفر ما سمعتم وهذا المعنى يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة بقي ههنا سؤالات: السؤال الأول: ليس في هذا الكرم إلا أنهم هلكوا إلا أن هذا الهلاك غير مختص بهم بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضا قد هلكوا فكيف يحسن إيراد هذا الكلام في معرض الزجر عن الكفر مع أنه مشترك فيه بين الكافر وبين غيره. والجواب: ليس المقصود مننه الزجر بمجرد الموت والهلاك، بل المقصود أنهم باعوا الدين بالدنيا ففاتهم وبقوا في العذاب الشديد بسبب الحرمان عن الدين. وهذا المعنى غير مشترك فيه بين الكافر والمؤمن. السؤال الثاني: كيف قال * (ألم يروا) * مع أن القوم ما كانوا مقرين بصدق محمد عليه السلام فيما يخبر عنه وهم أيضا ما شاهدوا وقائع الأمم السالفة. والجواب: أن أقاصيص المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا هذه الحكايات ولمجرد سماعها يكفي في الاعتبار. والسؤال الثالث: ما الفائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم. والجواب: أن الفائدة هي التنبيه على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلكهم ويخلي بلادهم منهم، فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم قوما آخرين يعمر بهم بلادهم كقوله * (ولا يخاف عقباها) * (الشمس: 15) والله أعلم.
159

قوله تعالى
* (ولو انزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذآ إلا سحر مبين) *.
اعلم أن الذين يتمردون عن قبول دعوة الأنبياء طوائف كثيرة، فالطائفة الأولى الذين بالغوا في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها إلى أن استغرقوا فيها واغتنموا وجدانها، فصار ذلك مانعا لهم عن قبول دعوة الأنبياء، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة وبين أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باق، وليس من العقل تحمل العقاب
الدائم لأجل اللذات المنقرضة الخسيسة، والطائفة الثانية الذين يحملون معجزات الأنبياء عليهم السلام، على أنها من باب السحر لا من باب المعجزة، هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية وههنا مسائل: المسألة الأولى: بين الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به، بل حملوه على أنه سحر ومخرقة، والمراد من قوله * (في قرطاس) * أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة، فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر. فإن قيل: ظهور الكتاب ونزوله من السماء هل هو من باب المعجزات أم لا، فإن لم يكن من باب المعجزات لم يكن إنكارهم لدلالته على النبوة منكرا، ولا يجوز أن يقال: أنه من باب المعجزات لأن الملك يقدر على إنزاله من السماء، وقبل الايمان بصدق الأنبياء والرسل لم تكن عصمة الملائكة معلومة، وقبل الإيمان بالرسل، لا شك أنا نجوز أن يكون نزول ذلك الكتاب من السماء من قبل بعض الجن والشياطين، أو من قبل بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم، وإذا كان هذا التجويز قائما فقد خرج نزول الكتاب من السماء عن كونه دليلا على الصدق. قلنا: ليس المقصود ما ذكرتم، بل المقصود أنهم إذا رأوه بقوا شاكين فيه، وقالوا: إنما سكرت أبصارنا، فإذا لمسوه بأيديهم فقد يقوى الادراك البصري بالادراك اللمسي، وبلغ الغاية في الظهور والقوة، ثم هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا، وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة، فهذا هو المقصود من الآية لا ما ذكرتم والله أعلم.
160

المسألة الثانية: قال القاضي: دلت هذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يمنع العبد لطفا. علم أنه لو فعله لآمن عنده لأنه بين أنه إنما لا ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول، ولا يجوز أن يخبر بذلك إلا والمعلوم أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة فثبت بهذا وجوب اللطف، ولقائل أن يقول: أن قوله لو أنزل الله عليهم هذا الكتاب لقالوا هذا القول لا يدل على أنه تعلى ينزله عليهم، لو لم يقولوا هذا القول إلا على سبيل دليل الخطاب، وهو عنده ليس بحجة، وأيضا فليس كل مما فعله الله وجب عليه ذلك، وهذه الآية إن دلت فإنما تدل على الوقوع لا على وجوب الوقوع والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون * ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) *.
اعلم أن هذا النوع الثالث من شبه منكري النبوات فإنهم يقولون: لو بعث الله إلى الخلق رسولا لوجب أن يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة فإنهم إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر، وقدرتهم أشد، ومهابتهم أعظم، وامتيازهم عن الخلق أكمل، والشبهات والشكوك في نبوتهم ورسالتهم أقل. والحكيم إذا أراد تحصيل مهم فكل شيء كان أشد إفضاء إلى تحصيل ذلك المطلوب كان أولى. فلما كان وقوع الشبهات في نبوة الملائكة أقل، وجب لو بعث الله رسولا إلى الخلق أن يكون ذلك الرسول من الملائكة هذا هو المراد من قوله تعالى: * (وقالوا لولا أنزل عليه ملك) *. واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين: أما الأول: فقوله * (ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر) * ومعنى القضاء الإتمام والإلزام. وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة. ثم ههنا وجوه: الأول: أن إنزال الملك على البشر آية باهرة، فبتقدير إنزال الملك على هؤلاء الكفار فربما لم يؤمنوا كما قال: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) * إلى قوله * (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) * (الأنعام: 111) وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال، فإن سنة الله جارية بأن عند ظهور الآية الباهرة إن لم يؤمنوا جاءهم عذاب الاستئصال، فههنا ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب والوجه الثاني: أنهم إذا شاهدوا الملك رهقت أرواحهم من هول ما يشهدون، وتقريره: أن الآدمي
161

إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر. فإن كان الأول لم يبق الآدمي حيا، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل عليه السلام على صورته الأصلية غشي عليه، وإن كان الثاني فحينئذ يكون المرئي شخصا على صورة البشر، وذلك لا يتفاوت الحال فيه سواء كان هو في نفسه ملكا أو بشرا. ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم، وأضياف لوط، وكالذين تسوروا المحراب، وكجبريل حيث تمثل لمريم بشرا سويا. والوجه الثالث: أن إنزال الملك آية باهرة جارية مجرى الالجاء، وإزالة الاختيار، وذلك مخل بصحة التكليف. الوجه الرابع: أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهات المذكورة إلا أنه يقوي الشبهات من وجه آخر، وذلك لأن أي معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته أنت، فعلمنا أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهة من الوجوه المذكورة لكنه يقوي الشبهة من هذه الوجوه. وأما قوله * (ثم لا ينظرون) * فالفائدة في كلمة * (ثم) * التنبيه على أن عدم الانظار أشد من قضاء الأمر، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة. وأما الثاني: فقوله * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * أي لجعلناه في صورة البشر. والحكمة فيه أمور: أحدها: أن الجنس إلى الجنس أميل. وثانيها: أن البشر لا يطيق رؤية الملك، وثالثها: ان طاعات الملائكة قوية فيستحقرون طاعة البشر، وربما لا يعذرونهم في الاقدام على المعاصي. ورابعها: أن النبوة فضل من الله فيختص بها من يشاء من عباده، سواء كان ملكا أو بشرا. ثم قال: * (وللبسنا عليهم ما يلبسون) * قال الواحدي: يقال لبست الأمر على القوم ألبسه لبسا إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلا، وأصله من التستر بالثوب، ومنه لبس الثوب لأنه يفيد ستر النفس والمعنى أنا إذا جعلنا الملك في صورة البشر فهم يظنون كون ذلك الملك بشرا فيعود سؤالهم أنا لا نرضى برسالة هذا الشخص. وتحقيق الكلام أن الله لو فعل ذلك لصار فعل الله نظيرا لفعلهم في التلبيس، وإنما كان ذلك تلبيسا لأن الناس يظنون أنه بشر مع أنه ليس كذلك، وإنما كان فعلهم تلبيسا لأنهم يقولون لقومهم إنه بشر مثلكم والبشر لا يكون رسولا من عند الله تعالى.
قوله تعالى
* (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون) *.
162

اعلم أن بعض الأقوام الذين كانوا يقولون إن رسول الله يجب أن يكون ملكا من الملائكة كانوا يقولون هذا الكلام على سبيل الاستهزاء، وكان يضيق قلب الرسول عند
سماعه فذكر ذلك ليصير سببا للتخفيف عن القلب لأن أحدا ما يخفف عن القلب المشاركة في سبب المحنة والغم. فكأنه قيل له إن هذه الأنواع الكثيرة من سوء الأدب التي يعاملونك بها قد كانت موجودة في سائر القرون مع أنبيائهم، فلست أنت فريدا في هذا الطريق. وقوله * (فحاق بالذين سخروا منهم) * الآية ونظيره قوله * (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) * (فاطر: 43) وفي تفسيره وجوه كثيرة لأهل اللغة وهي بأسرها متقاربة. قال النضر: وجب عليهم. قال الليث (الحيق) ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء يعمله فنزل ذلك به، يقول أحاق الله بهم مكرهم وحاق بهم مكرهم، وقال الفراء (حاق بهم) عاد عليهم، وقيل (حاق بهم) حل بهم ذلك. وقال الزجاج " حاق " أي أحاط. قال الأزهري: فسر الزجاج (حاق) بمعنى أحاط وكان مأخوذ من الحوق وهو ما استدار بالكمرة. وفي الآية بحث آخر وهو أن لفظة (ما) في قوله * (ما كانوا به يستهزؤن) * فيها قولان: الأول: أن المراد به القرآن والشرع وهو ما جاء به محمد عليه السلام. وعلى هذا التقدير فتصير هذه الآية من باب حذف المضاف، والتقدير فحاق بهم عقاب ما كانوا به يستهزؤن. والقول الثاني: أن المراد به أنهم كانوا يستهزؤن بالعذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى هذا الإضمار.
قوله تعالى
* (قل سيروا فى الارض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) *.
اعلم أنه تعالى كما صبر رسوله بالآية الأولى، فكذلك حذر القوم بهذه الآية، وقال لرسوله قل لهم لا تغتروا بما وجدتم من الدنيا وطيباتها ووصلتم إليه من لذاتها وشهواتها، بل سيروا في الأرض لتعرفوا صحة ما أخبركم الرسول عنه من نزول العذاب على الذين كذبوا الرسل في الأزمنة السالفة، فإنكم عند السير في الأرض والسفر في البلاد لا بد وأن تشاهدوا تلك الآثار، فيكمل الاعتبار، ويقوى الاستبصار. فإن قيل: ما الفرق بين قوله * (فانظروا) * (آل عمران: 137) وبين قوله * (ثم انظروا) *. قلنا: قوله * (فانظروا) * يدل على أنه تعالى جعل النظر سببا عن السير، فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين.
163

وأما قوله * (سيروا في الأرض ثم انظروا) * فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ثم نبه الله تعالى على هذا الفرق بكلمة * (ثم) * لتباعد ما بين الواجب والمباح. والله أعلم.
قوله تعالى
* (قل لمن ما فى السموت والارض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) *.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من تقرير هذه الآية تقرير إثبات الصانع، وتقرير المعاد وتقرير النبوة وبيانه أن أحوال العالم العلوي والسفلي يدل على أن جميع هذه الأجسام موصوفة بصفات كان يجوز عليها اتصافها بأضدادها ومقابلاتها، ومتى كان كذلك، فاختصاص كل جزء من الأجزاء الجسمانية بصفته المعينة لا بد وأن يكون لأجل أن الصانع الحكيم القادر المختار خصه بتلك الصفة المعينة، فهذا يدل على أن العالم مع كل ما فيه مملوك لله تعالى. وإذا ثبت هذا، ثبت كونه قادرا على الإعادة والحشر والنشر، لأن التركيب الأول إنما حصل لكونه تعالى قادرا على كل الممكنات، عالما بكل المعلومات، وهذه القدرة والعلم يمتنع زوالهما، فوجب صحة الإعادة ثانيا. وأيضا ثبت أنه تعالى ملك مطاع، والملك المطاع من له الأمر والنهي على عبيده، ولا بد من مبلغ، وذلك يدل على أن بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق غير ممتنع. فثبت أن هذه الآية وافية بإثبات هذه المطالب الثلاثة. ولما سبق ذكر هذه المسائل الثلاثة، ذكر الله بعدها هذه الآية لتكون مقررة لمجموع تلك المطالب من الوجه الذي شرحناه والله أعلم. المسألة الثانية: قوله تعالى: * (قل لمن ما في السماوات والأرض) * سؤال. وقوله * (قل لله) * جواب فقد أمره الله تعالى بالسؤال أولا
164

ثم بالجواب ثانيا. وهذا، إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع. ولما بينا أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة في ذوات جميع الأجسام وفي جميع صفاتها، لا جرم كان الاعتراف بأنها بأسرها ملك لله تعالى وملك له ومحل تصرفه وقدرته لا جرم أمره بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا، ليدل ذلك على أن الاقرار بهذا المعنى مما لا سبيل إلى دفعه البتة. وأيضا فالقوم كانوا معترفين بأن كل العالم ملك لله، وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته بهذا المعنى كما قال: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25) ثم إنه تعالى لما بين بهذا الطريق كمال إلهيته وقدرته ونفاذ تصرفه في عالم المخلوقات بالكلية، أردفه بكمال رحمته وإحسانه إلى الخلق فقال: * (كتب على نفسه الرحمة) * فكأنه تعالى قال: إنه لم يرض من نفسه بأن لا ينعم ولا بأن يعد بالإنعام، بل أبدا ينعم وأبدا يعد في المستقبل بالإنعام ومع ذلك فقد كتب على نفسه ذلك وأوجبه إيجاب الفضل والكرم. واختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم: تلك الرحمة هي أنه تعالى يمهلهم مدة عمرهم ويرفع عنهم عذاب الاستئصال ولا يعاجلهم بالعقوبة في الدنيا. وقيل إن المراد أنه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدقهم وقبل شريعتهم. واعلم أنه جاءت الأخبار الكثيرة في سعة رحمة الله تعالى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لما فرغ الله من الخلق كتب كتابا أن رحمتي سبقت غضبي ". فإن قيل: الرحمة هي إرادة الخير، والغضب هو إرادة الانتقام، وظاهر هذا الخبر يقتضي كون إحدى الإرادتين سابقة على الأخرى، والمسبوق بالغير محدث، فهذا يقتضي كون إرادة الله تعالى محدثة. قلنا: المراد بهذا السبق سبق الكثرة لا سبق الزمان. وعن سلمان أنه تعالى لما خلق السماء والأرض خلق مائة رحمة، كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض، فعنده تسع وتسعون رحمة، وقسم رحمة واحدة بين الخلائق، فبها يتعاطفون ويتراحمون، فإذا كان آخر الأمر قصرها على المتقين. أما قوله * (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) * ففيه أبحاث: الأول: " اللام " في قوله * (ليجمعنكم) * لام قسم مضمر، والتقدير: والله ليجمعنكم. البحث الثاني: اختلفوا في أن هذا الكلام مبتدأ أو متعلق بما قبله. فقال بعضهم أنه كلام مبتدأ، وذلك لأنه تعالى بين
كمال إلهيته بقوله * (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) * ثم بين تعالى أنه يرحمهم في الدنيا بالامهال ودفع عذاب الاستئصال، وبين أنه يجمعهم إلى يوم القيامة، فقوله * (كتب على نفسه الرحمة) * أنه يمهلهم وقوله * (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) * أنه لا يمهلهم بل يحشرهم ويحاسبهم على كل ما فعلوا. والقول الثاني: أنع متعلق بما قبله والتقدير: كتب ربكم على نفسه الرحمة. وكتب ربكم على نفسه ليجمعنكم إلى يوم القيامة.
165

وقيل: أنه لما قال: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * فكأنه قيل: وما تلك الرحمة؟ فقيل: إنه تعالى * (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) * وذلك لأنه لولا خوف العذاب يوم القيامة لحصل الهرج والمرج ولارتفع الضبط وكثر الخبط، فصار التهديد بيوم القيامة من أعظم أسباب الرحمة في الدنيا، فكان قوله * (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) * كالتفسير لقوله * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) *. البحث الثالث: أن قوله * (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) * كلام ورد على لفظ الغيبة. وقوله * (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) * كلام ورد على سبيل المخاطبة. والمقصود منه التأكيد في التهديد، كأنه قيل: لما علمتم أن كل ما في السماوات والأرض لله وملكه، وقد علمتم أن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ولا يجوز في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي وبين المشتغل بالخدمة والمعرض عنها، فهلا علمتم أنه يقيم القيامة ويحضر الخلائق ويحاسبهم في الكل؟ البحث الرابع: ان كلمة * (إلى) * في قوله * (إلى يوم القيامة) * فيها أقوال: الأول: أنها صلة والتقدير: ليجمعنكم يوم القيامة. وقيل: * (إلى) * بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة. وقيل: فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة، لأن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان. وقيل: ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة. أما قوله * (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) * ففيه أبحاث: الأول: في هذه الآية قولان: الأول: أن قوله * (الذين) * موضعه نصب على البدل من الضمير في قوله * (ليجمعنكم) * والمعنى ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم وهو قول الأخفش. والثاني: وهو قول الزجاج، أن قوله * (الذين خسروا أنفسهم) * رفع بالابتداء، وقوله * (فهم لا يؤمنون) * خبره، لأن قوله * (ليجمعنكم) * مشتمل على الكل، على الذين خسروا أنفسهم وعلى غيرهم " والفاء " في قوله * (فهم) * يفيد معنى الشرط والجزاء، كقولهم: الذي يكرمني فله درهم، لأن الدرهم وجب بالاكرام فكان الاكرام شرطا والدرهم جزاء.
فإن قيل: ظاهر اللفظ يدل على أن خسرانهم سبب لعدم إيمانهم، والأمر على العكس. قلنا: هذا يدل على أن سبق القضاء بالخسران والخذلان، هو الذي حملهم على الامتناع من الايمان، وذلك عين مذهب أهل السنة.
166

* (وله ما سكن فى اليل والنهار وهو السميع العليم * قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموت والارض وهو يطعم ولا يطعم قل إنى أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين * قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *.
قوله تعالى (وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم. قل أغير الله اتخذ وليا فاطر
السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل انى أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من
المشركين قل أدنى أخاف ان عصيت ربى عذاب عظيم)
في الآية مسائل:
(ا لمسألة الأولى) اعلم أن أحسن ما قيل في نظم هذه الآية ما ذكره أبو مسلم رحمه الله تعالى.
فقال: ذكر في الآية الأولى السماوات والأرض، إذ لامكان سواهما. وفى هذه الآية ذكر الليل
والنهار إذ لا زمان سواهما، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات، فأخبر سبحانه مالك للمكان
والمكانيات، ومالك للزمان والزمانيات، وهذا بيان في غاية الجلالة.
وأقول ههنا دقيقة أخرى، وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات، ثم ذكر عقيبه
الزمان والزمانيات، وذلك لان المكان والمكانيات أقرب إلى القول العقول والأفكار من الزمان
والزمانيات، لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة، والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه بالأظهر
فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى، فهذا ما يتعلق بوجه النظم.
(المسألة الثانية) قوله (وله ما سكن في الليل والنهار) يفيد الحصر والتقدير: هذه الأشياء له
لا لغيره، هذا هو الحق لان كل موجود فهو إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، فالواجب لذاته
ليس الا الواحد. وما سوى ذلك الواحد ممكن. والممكن لا يوجد الا بايجاد الواجب لذاته، وكل
ما حصل بايجاده وتكوينه كان ملكا له، فثبت أن ما سوى ذلك الموجود الواجب لذاته فهو ملكه
ومالكه فلهذا السبب قال (وله ما سكن في الليل والنهار)
(المسألة الثالثة) في تفسير هذا السكون قولان: الأول: أن المراد منه الشئ الذي سكن
بعد أن تحرك، فعلى هذا، المراد كل ما استقر في والنهار من الدواب، وجملة الحيوانات في البر والبحر
167

وعلى هذا التقدير: قالوا في الآية محذوف والتقدير: وله ما سكن وتحرك في الليل والنهار كقوله
تعالى (سرابيل تقيكم الحر) أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لأنه يعرف ذلك
بالقرينة المذكورة، كذلك هنا حذف ذكر الحركة، لان ذكر السكون يدل عليه.
(والقول الثاني) أنه ليس المراد من هذا السكون ما هو ضد الحركة، بل المراد منه السكون
بمعنى الحلول، كما يقال: فلان يسكن بلد كذا إذا كان محله فيه، ومنه قوله تعالى (وسكنتم في مساكن
الذين ظلموا أنفسهم) وعلى هذا التقدير: كان المراد، وله كل ما حصل في الليل والنهار. والتقدير:
كل ما حصل في الوقت والزمان سواء كان متحركا أو ساكنا، وهذا التفسير أولى وأكمل. والسبب
فيه ان كل ما دخل تحت الليل والنهار حصل في الزمان فقد صدق عليه أنه انقضى الماضي وسيجئ
المستقبل، وذلك مشعر بالتغير وهو الحدوث، والحدوث ينافي الأزلية والدوام، فكل ما مر به
الوقت ودخل تحت الزمان فهو محدث. وكل حادث فلا بد له من محدث، وفاعل ذلك الفعل
يجب أن يكون متقدما عليه. والمتقدم على الزمان يجب أن يكون مقدما على الوقت والزمان. فلا
تجرى عليه الأوقات ولا تمر به الساعات ولا يصدق عليه أنه كان وسيكون.
واعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أنه مالك للمكان وجملة المكانيات ومالك للزمان وجملة الزمانيات،
بين أنه سميع عليم لم يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين. والمقصود منه الرد على من يقول
الاله تعالى موجب بالذات، فنبه على أنه وإن كان مالكا لكل المحدثات. لكنه فاعل مختار يسمع
ويرى ويعلم السر وأخفى، ولما قرر هذه المعاني قال (قل أغير الله أتخذ وليا)
واعلم أنه فرق بين أني يقال (أغير الله أتخذ وليا) وبين أن يقال: أتخذ غير الله وليا. لان
الانكار إنما حصل على اتخاذ غير الله وليا، لا على اتخاذ الولي، وقد عرفت أنهم يقدمون الأهم
فالأهم الذي هم بشأنه أعنى فكان قوله (قل أغير الله أتخذ وليا) أولى من العبارة الثانية، ونظيره قوله
تعالى (أفغير الله تأمروني أعبد) وقوله تعالى (آلله أذن لكم)
ثم قال (فاطر السماوات والأرض) وقرئ (فاطر السماوات) بالجر صفة لله وبالرفع على
إضمار (هو) والنصب على المدح. وقرأ الزهري (فطر السماوات) وعن ابن عباس: ما عرفت (فاطر
السماوات) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر. فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدائها. وقال ابن
الأنباري: أصل الفطر شق الشئ عند ابتدائه، فقوله (فاطر السماوات والأرض) يريد خالقهما
ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضم الأشياء إلى بعض، فلما كان
الأصل الشق جاز أن يكون في حال شق إصلاح. وفى حال أخرى شق افساد. ففاطر السماوات
168

من الاصلاح لا غير. وقوله (هل ترى من فطور) و (إذا السماء انفطرت) من الافساد، وأصلهما واحد
ثم قال تعالى (وهو يطعم ولا يطعم) أي وهو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد.
فان قيل: كيف فسرت الاطعام بالرزق؟ وقد قال تعالى (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن
يطعمون) والعطف يوجب المغايرة.
قلنا: لا شك في حصول المغايرة بينهما، إلا أنه قد يحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر لشدة
ما بينهما من المقاربة. والمقصود من الآية: أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع.
وقرى (ولا يطعم) بفتح الياء وروى ابن المأمون عن يعقوب (وهو يطعم ولا يطعم) على بناء
الأول للمفعول والثاني للفاعل، وعلى هذا التقدير: فالضمير عائد إلى المذكور في قوله (أغير الله)
وقرأ الأشهب (وهو يطعم ولا يطعم) على بنائهما للفاعل، وفسر بأن معناه: وهو يطعم ولا يستطعم.
وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى استطعت. ويجوز أن يكون المعنى: وهو يطعم تارة ولا يطعم
أخرى على حسب المصالح كقوله: وهو يعطى ويمنع، ويبسط ويقدر، ويغني ويفقر.
واعلم أن المذكور في صدر الآية هو المنع من اتخاذ غير الله تعالى وليا. واحتج عليه بأنه فاطر
السماوات والأرض وبأنه يطعم ولا يطعم. ومتى كان الامر كذلك امتنع اتخاذ غيره وليا. أما
بيان أنه فاطر السماوات والأرض، فلانا بينا أن ما سوى الواحد ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يقع
موجود إلا بايجاد غيره، فنتج أن ما سوى الله فهو حاصل بايجاده وتكوينه. فثبت أنه سبحانه هو
الفاطر لكل ما سواه من الموجودات. وأما بيان أنه يطعم ولا يطعم فظاهره لان الاطعام عبارة عن إيصال
المنافع، وعدم الاستطعام عبارة عن عدم الانتفاع، ولما كان واجبا لذاته كان لا محالة غنيا ومتعاليا عن
الانتفاع بشئ آخر. فثبت بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السماوات والأرض، وصحة أنه يطعم ولا
يطعم، وإذا ثبت هذا امتنع في العقل اتخاذ غير وليا. لان ما سواه محتاج في ذاته وفى جميع صفاته
وفى جميع ما تحت يده. والحق سبحانه هو الغنى لذاته. الجواد لذاته، وترك الغنى الجواد والذهاب
إلى الفقير المحتاج ممنوع عنه في صريح العقل.
وإذا عرفت هذ 1 فنقول: قد سيق في هذا الكتاب بيان أن الولي معناه الأصلي في اللغة: هو
القريب. وقد ذكرنا وجوه الاشقاقات فيه. فقوله (قل أغير الله أتخذ وليا) يمنع من القرب من
غير الله. فهذا يقتضى تنزيه القلب عن الالتفات إلى غير الله تعالى، وقطع العلائق عن كل
ما سوى الله تعالى.
169

من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين (16)
ثم قال تعالى (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم
سابق أمته في الاسلام لقوله (وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) ولقول موسى (سبحانك تبت إليك
وأنا أول المؤمنين)
ثم قال (ولا تكونن من المشركين) ومعناه أمرت بالاسلام ونهيت عن الشرك. ثم إنه
تعالى لما بين كون رسوله مأمورا بالاسلام ثم عقبه بكونه منهيا عن الشرك قال بعده (إني أخاف
إن عصبت ربى عذاب يوم عظيم) والمقصود أنى إن خالفته في هذا الأمر والنهي صرت مستحقا
للعذاب العظيم.
فان قيل: قوله (قل إني أخاف أن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) يدل على أنه عليه السلام
كان يخاف على نفسه من الكفر والعصيان، ولولا أن ذلك جائز عليه لما كان خائفا.
والجواب: أن الآية لا تدل على أنه خاف على نفسه، بل الآية تدل على أنه لو صدر عنه الكفر
والمعصية فإنه يخاف. وهذا القدر لا يدل على حصول الخوف، ومثاله قولنا: إن كان الخمسة
زوجا كانت منقسمة بمتساويين، وهذا لا يدل على أن الخمسة زوج. ولا على كونها منقسمة
بمتساويين والله أعلم.
وقوله تعالى (إني أخاف) قرأ ابن كثير ونافع (إني) بفتح الياء. وقرأ أبو عمرو
والباقون بالارسال.
قوله تعالى (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين) وفى الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه قرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي * (يصرف) * بفتح الياء وكسر الراء. وفاعل الصرف على هذه القراءة والضمير العائد إلى ربي من قوله * (إني أخاف إن عصيت ربي) * (الأنعام: 15) والتقدير: من يصرف هو عنه يومئذ العذاب. وحجة هذه القراءة قوله * (فقد رحمه) * فلما كان هذا فعلا مسندا إلى ضمير اسم الله تعالى وجب أن يكون الأمر في تلك اللفظة الأخرى على هذا الوجه ليتفق الفعلان، وعلى هذا التقدير: صرف العذاب مسندا إلى الله تعالى، وتكون الرحمة بعد ذلك مسندة إلى الله تعالى، وأما الباقون فإنهم قرؤا * (من يصرف عنه) * على فعل ما لم يسم فاعله، والتقدير من يصرف عنه عذاب يومئذ وإنما حسن ذلك لأنه تعالى أضاف العذاب إلى اليوم في قوله * (عذاب يوم عظيم) * (الإنعام: 15) فلذلك أضاف الصرف إليه. والتقدير: من يصرف عنه عذاب ذلك اليوم.
170

المسألة الثانية: ظاهر الآية يقتضي كون ذلك اليوم مصروفا وذلك محال، بل المراد عذاب ذلك اليوم، وحسن هذا الحذف لكونه معلوما. المسألة الثالثة: دلت الآية على أن الطاعة لا توجب الثواب، والمعصية لا توجب العقاب لأنه تعالى قال: * (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه) * أي كل من صرف الله عنه العذاب في ذلك اليوم فقد رحمه. وهذا إنما يحسن لو كان ذلك الصرف واقعا على سبيل التفضل أما لو كان واجبا مستحقا لم يحسن أن يقال فيه إنه رحمه ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب العبد، فإذا لم يضربه لا يقال إنه رحمه. أما إذا حسن منه أن يضربه ولم يضربه فإنه يقال إنه رحمه، فهذه الآية تدل على أن كل عقاب انصرف وكل ثواب حصل، فهو ابتداء فضل وإحسان من الله تعالى وهو موافق لما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا ولا أنت يا
رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " ووضع يده فوق رأسه، وطول بها صوته. المسألة الرابعة: قال القاضي: الآية تدل على أن من لم يعاقب في الآخرة ممن يصرف عنه العقاب، فلا بد من أن يثاب وذلك يبطل قول من يقول: إن فيمن يصرف عنه العقاب من المكلفين من لا يثاب، لكنه يتفضل عليه. فإن قيل: أليس من لم يعاقبه الله تعالى ويتفضل عليه فقد حصل له الفوز المبين وذلك يبطل دلالة الآية على قولكم؟ قلنا: هذا الذي ذكرتموه مدفوع من وجوه: الأول: أن التفضل يكون كالابتداء من قبل الله تعالى، وليس يكون ذلك مطلوبا من الفعل والفوز هو الظفر بالمطلوب، فلا بد وأن يفيد أمرا مطلوبا. والثاني: أن الفوز المبين لا يجوز حمله على التفضل بل يجب حمله على ما يقتضي مبالغة في عظم النعمة، وذلك لا يكون إلا ثوابا. والثالث: أن الآية معطوفة على قوله * (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) * (الأنعام: 15) والمقابل للعذاب هو الثواب، فيجب حمل هذه الرحمة على الثواب. واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف جدا وضعفه ظاهر فلا حاجة فيه إلى الاستقصاء والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير) *.
171

في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن هذا دليل آخر في بيان أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله وليا، وتقريره أن الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها. والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما. والخير اسم للقدر المشترك بين دفع الضر وبين حصول النفع فإذا كان الأمر كذلك فقد ثبت الحصر في أن الإنسان إما أن يكون في الضر أو في الخير لأن زوال الضر خير سواء حصل فيه اللذة أو لم تحصل. وإذا ثبت هذا الحصر فقد بين الله تعالى أن المضار قليلها وكثيرها لا يندفع إلا بالله، والخيرات لا يحصل قليلها وكثيرها إلا بالله. والدليل على أن الأمر كذلك، أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته أما الواجب لذاته فواحد فيكون كل ما سواه ممكنا لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، وكل ما سوى الحق فهو إنما حصل بإيجاد الحق وتكوينه فثبت أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به، وحصول جميع الخيرات والمنافع لا يكون إلا به، فثبت بهذا البرهان العقلي البين صحة ما دلت الآية عليه. فإن قيل: قد نرى أن الإنسان بدفع المضار عن نفسه بماله وبأعوانه وأنصاره، وقد يحصل الخير له بكسب نفسه وبإعانة غيره، وذلك يقدح في عموم الآية. وأيضا فرأس المضار هو الكفر فوجب أن يقال إنه لم يندفع إلا بإعانة الله تعالى. ورأس الخيرات هو الإيمان، فوجب أن يقال أنه لم يحصل إلا بإيجاد الله تعالى، ولو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يستحق الإنسان بفعل الكفر عقابا ولا يفعل الإيمان ثوابا. وأيضا فإنا نرى أن الإنسان ينتفع بأكل الدواء ويتضرر بتناول السموم، وكل ذلك يقدح في ظاهر الآية. والجواب عن الأول: أن كل فعل يصدر عن الإنسان فإنما يصدر عنه إذا دعاه الداعي إليه لأن الفعل بدون الداعي محال، وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى. وعلى هذا التقدير فيكون الكل من الله تعالى وهكذا القول في كل ما ذكرتموه من السؤالات. المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر إمساس الضر وإمساس الخير، إلا أنه ميز الأول عن الثاني بوجهين: الأول: أنه تعالى قدم ذكر إمساس الضر على ذكر إمساس الخير، وذلك تنبيه على أن جميع المضار لا بد وأن يحصل عقبيها الخير والسلامة. والثاني: أنه قال في إمساس الضر * (فلا كاشف له إلا هو) * وذكر في إمساس الخير * (فهو على كل شيء قدير) * فذكر في الخير كونه قادرا على جميع الأشياء وذلك يدل على أن إرادة الله تعالى لايصال الخيرات غالبة على إرادته لايصال
172

المضار. وهذه الشبهات بأسرها دالة على أن إرادة الله تعالى جانب الرحمة غالب، كما قال: (سبقت رحمتي غضبي).
قوله تعالى
* (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير) *.
فيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن صفات الكمال محصورة في القدرة والعلم فإن قالوا: كيف أهملتم وجوب الوجود. قلنا: ذلك عين الذات لا صفة قائمة بالذات لأن الصفة القائمة بالذات مفتقرة إلى الذات والمفتقر إلى الذات مفتقر إلى الغير فيكون ممكنا لذاته واجبا بغيره فيلزم حصول وجوب قبل الوجوب وذلك محال فثبت أنه عين الذات، وثبت أن الصفات التي هي الكمالات حقيقتها هي القدرة والعلم فقوله * (وهو القاهر فوق عباده) * إشارة إلى كمال القدرة، وقوله * (وهو الحكيم الخبير) * إشارة إلى كمال العلم. وقوله * (وهو القاهر) * يفيد الحصر ومعناه أنه لا موصوف بكمال القدرة وكمال العلم إلا الحق سبحانه وعند هذا يظهر أنه لا كامل إلا هو، وكل من سواه فهو ناقص. إذا عرفت هذا فنقول: أما دلالة كونه قاهرا على القدرة فلأنا بينا أن ما عدا الحق سبحانه ممكن بالوجود لذاته، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه وتكوينه وإيجاده وإبداعه فيكون في الحقيقة هو الذي قهر الممكنات تارة في طرف ترجيح الوجود على العدم، وتارة في طرف ترجيح العدم على الوجود ويدخل في هذا الباب كونه قاهرا لهم بالموت والفقر والإذلال ويدخل فيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله * (قل اللهم مالك الملك) * (آل عمران: 26) إلى آخر الآية. وأما كونه حكيما، فلا يمكن حمله ههنا على العلم لأن الخبير إشارة إلى العلم فيلزم التكرار أنه لا يجوز، فوجب حمله على كونه محكما في أفعاله بمعنى أن أفعاله تكون محكمة متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد والخبير هو العالم بالشيء المروي. قال الواحدي: وتأويله أنه العالم بما يصح أن يخبر به قال: والخبر علمك بالشيء تقول: لي به خبر أي علم وأصله من الخبر لأنه طريق من طرق العلم. المسألة الثانية: المشبهة استدلوا بهذه الآية على أنه تعالى موجود في الجهة التي هي فوق العالم وهو مردود ويدل عليه وجوه: الأول: أنه لو كان موجودا فوق العالم لكان إما أن يكون في الصغر بحيث لا يتميز جانب منه من جانب وإما أن يكون ذاهبا في الأقطار متمددا في الجهات. والأول: يقتضي أن يكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد فلو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون إله العالم بعض الذرات المخلوطة بالهباءات الواقعة في كوة البيت وذلك لا يقوله عاقل، وإن كان
173

الثاني كان متبعضا متجزئا، وذلك على الله محال. والثاني: أنه إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وحينئذ يصح عليه الزيادة والنقصان. وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بمقداره المعين لتخصيص مخصص، فيكون محدثا أو يكون متناهيا من بعض الجوانب دون البعض، فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهيا غير الجانب الموصوف بكونه غير متناه وذلك يوجب القسمة والتجزئة. والثالث: إما أن يفسر المكان بالسطح الحاوي أو بالبعد والخلاء. فإن كان الأول: فنقول أجسام العالم متناهية فخارج العالم لا خلا ولا ملا ولا مكان ولا حيث ولا جهة، فيمتنع حصول ذات الله تعالى فيه. وإن كان الثاني فنقول الخلاء متساوي الأجزاء في حقيقته وإذا كان كذلك، فلو صح حصول الله في جزء من أجزاء ذلك الخاء لصح حصوله في سائر الأجزاء، ولو كان كذلك لكان حصوله فيه بتخصيص مخصص، وكل ما كان واقعا بالفاعل المختار فهو محدث، فحصول ذاته في الجزء محدث. وذاته لا تنفك عن ذلك الحصول وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، فيلزم كون ذاته محدثة ومفتقر إلى الموجد ويكون موجده قبله فيكون ذات الله تعالى قد كانت موجودة قبل وجود الخلاء والجهة والحيث والحيز. وإذا ثبت هذا: فبعد الحيز والجهة والخلاء وجب أن تبقى ذات الله تعالى كما كانت وإلا فقد وقع التغيير في ذات الله تعالى وذلك محال. وإذا ثبت هذا وجب القول بكونه منزها عن الأحياز والجهات في جميع الأوقات. والخامس: أنه ثبت أن العالم كرة. وإذا ثبت هذا فالذي يكون فوق رؤوس أهل الري يكون تحت أقدام قوم آخرين. وإذا ثبت هذا، فإما أن يقال: إنه تعالى فوق أقوام بأعيانهم. أو يقال: إنه تعالى فوق الكل. والأول: باطل، لأن كونه فوقا لبعضهم يوجب كونه تحتا لآخرين، وذلك باطل. والثاني: يوجب كونه تعالى محيطا بكرة الفلك فيصير حاصل الأمر إلى أن إله العالم هو فلك محيط بجميع الأفلاك وذلك لا يقوله مسلم. والسادس: هو أن لفظ الفوقية في هذه الآية مسبوق بلفظ وملحوق بلفظ آخر. أما أنها مسبوقة فلأنها مسبوقة بلفظ القاهر، والقاهر مشعر بكمال القدرة وتمام المكنة. وأما أنها ملحوقة بلفظ فلأنها ملحوقة بقوله * (عباده) * وهذا اللفظ مشعر بالمملوكية والمقدورية، فوجب حمل تلك الفوقية على فوقية القدرة لا على فوقية الجهة.
174

فإن قيل: ما ذكرتموه على الضد من قولكم إن قوله * (وهو القاهر فوق عباده) * دل على كمال القدرة. فلو حملنا لفظ الفوق على فوقية القدرة لزم التكرار، فوجب حمله على فوقية المكان والجهة. قلنا: ليس الأمر كما ذكرتم لأنه قد تكون الذات موصوفة بكونها قاهرة للبعض دون البعض وقوله * (فوق عباده) * دل على أن ذلك القهر والقدرة عام في حق الكل. والسابع: وهو أنه تعالى لما ذكر هذه الآية ردا على من يتخذ غير الله وليا، والتقدير: كأنه قال إنه تعالى فوق كل عباده، ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غير الله وليا. وهذه النتيجة إنما يحسن ترتيبها على تلك الفوقيات كان المراد من تلك الفوقية، الفوقية بالقدرة والقوة. أما لو كان المراد منها الفوقية بالجهة فإن ذلك لا يفيد هذا المقصود لأنه لا يلزم من مجرد كونه حاصلا في جهة فوق أن يكون التعويل عليه في كل الأمور مفيدا وأن يكون الرجوع إليه في كل المطالب لازما. أما إذا حملنا ذلك على فوقية القدرة حسن ترتيب هذه النتيجة عليه فظهر بمجموع ما ذكرنا أن المراد ما ذكرناه، لا ما ذكره أهل التشبيه والله أعلم.
قوله تعالى
* (قل أى شىء أكبر شهادة قل الله شهيد بينى وبينكم وأوحى إلى هذا القرءان لانذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله ءالهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإننى برىء مما تشركون) *
في الآية مسائل: المسألة الأولى: أعلم أن الآية تدل على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله تعالى. ثم بين أن شهادة الله حاصلة إلا أن الآية لم تدل على أن تلك الشهادة حصلت في إثبات أي المطالب فنقول: يمكن أن يكون المراد حصول شهادة الله في ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في ثبوت وحدانية الله تعالى. أما الاحتمال الأول: فقد روى ابن عباس أن رؤساء أهل مكة قالوا يا محمد ما وجد الله غيرك
175

رسولا وما نرى أحدا يصدقك وقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوة فأرنا من يشهد لك بالنبوة، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة من الله حتى يعترفوا بالنبوة، فإن أكبر الأشياء شهادة هو الله سبحانه وتعالى فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهيد لي بالنبوة لأنه أوحي إلي هذا القرآن وهذا القرآن معجز، لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء وقد عجزتم عن معارضته فإذا كان معجزا، كان إظهار الله إياه على وفق دعواي شهادة من الله على كوني صادقا في دعواي. والحاصل: أنهم طلبوا شاهدا مقبول القول يشهد على نبوته فبين تعالى أن أكبر الأشياء شهادة هو لله، ثم بين أنه شهد له بالنبوة وهو المراد من قوله * (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) * فهذا تقرير واضح. وأما الاحتمال الثاني: وهو أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى. فاعلم أن هذا الكلام يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة، وهي أنا نقول: المطالب على أقسام ثلاثة: منها ما يمتنع إثباته بالدلائل السمعية فإن كل ما يتوقف صحة السمع على صحته امتنع إثباته بالسمع، وإلا لزم الدور. ومنها ما يمتنع إثباته بالعقل وهو كل شيء يصح وجوده ويصح عدمه عقلا، فلا امتناع في أحد الطرفين أصلا، فالقطع على أحد الطرفين يعينه لا يمكن إلا بالدليل السمعي، ومنها ما يمكن إثباته بالعقل والسمع معا، وهو كل أمر عقلي لا يتوقف على العلم به، فلا جرم أمكن إثباته بالدلائل السمعية. إذا عرفت هذا فنقول: قوله * (قل الله شهيد بيني وبينكم) * في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والأضداد والأنداد والأمثال والأشباه. ثم قال: * (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) * أي إن القول بالتوحيد هو الحق الواجب، وأن القول بالشرك باطل مردود. المسألة الثانية: نقل عن جهم أنه ينكر كونه تعالى شيئا. واعلم أنه لا ينازع في كونه تعالى ذاتا موجودا وحقيقة إلا أنه ينكر تسميته تعالى بكونه شيئا، فيكون هذا خلافا في مجرد العبارة. واحتج الجمهور على تسمية الله تعالى بالشيء بهذه الآية وتقريره أنه قال أي الأشياء أكبر شهادة ثم ذكر في الجواب عن هذا السؤال قوله * (قل الله) * وهذا يوجب كونه تعالى شيئا، كما أنه لو قال: أي الناس أصدق، فلو قيل: جبريل، كان هذا الجواب خطأ لأن جبريل ليس من الناس فكذا ههنا. فإن قيل: قوله * (قل الله شهيد بيني وبينكم) * كلام تام مستقبل بنفسه لا تعلق له بما قبله لأن
176

قوله * (الله) * مبتدأ، وقوله * (شهيد بيني وبينكم) * خبره، وهو جملة تامة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها. قلنا الجواب في وجهين: الأول: أن نقول قوله * (قل أي شيء أكبر شهادة) * لا شك أنه سؤال ولا بد له من جواب: إما مذكور، وإما محذوف. فإن قلنا: الجواب محذوف فنقول: هذا على خلاف الدليل، وأيضا فبتقدير أن يكون الجواب محذوفا، إلا أن ذلك المحذوف لا بد وأن يكون أمرا يدل المذكور عليه ويكون لائقا بذلك الموضع. والجواب اللائق بقوله * (أي شيء أكبر شهادة) * هو أن يقال: هو الله، ثم يقال بعده * (الله شهيد بيني وبينكم) * وعلى هذا التقدير فيصح الاستدلال بهذه الآية أيضا على أنه تعالى يسمى باسم الشيء فهذا تمام تقرير هذا الدليل. وفي المسألة دليل آخر وهو قوله تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) والمراد بوجهه ذاته، فهذا يدل على أنه تعالى استثنى ذات نفسه من قوله * (كل شيء) * والمستثنى يجب أن يكون داخلا تحت المستثنى منه، فهذا يدل على أنه تعالى يسمى باسم الشيء. واحتج جهم على فساد هذا الاسم بوجوه: الأول: قوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) والمراد ليس مثل مثله شيء وذات كل شيء مثل مثل نفسه فهذا تصريح بأن الله تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة، والتقدير: ليس مثله شيء لأن جعل كلمة من كلمات القرآن عبثا باطلا لا يليق بأهل الدين المصير إليه إلا عند الضرورة الشديدة. والثاني: قوله تعالى: الله خالق كل شيء) * (الرعد: 16) ولو كان تعالى مسمى بالشيء لزم كونه خالقا لنفسه وهو محال، لا يقال: هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول: إدخال التخصيص إنما يجوز في صورة نادرة شاذة لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها، فيجري وجودها مجرى عدمها، فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيها على أن البقية جارية مجرى العدم ومن المعلوم أن الباري تعالى لو كان مسمى باسم الشيء لكان هو تعالى أعظم الأشياء وأشرفها، وإطلاق لفظ الكل مع أن يكون هذا القسم خارجا عنه يكون محض كذب ولا يكون من باب التخصيص. الثالث: التمسك بقوله * (والله الأسماء الحسنى فادعوه بها) * (الأعراف: 180) والاسم إنما يحسن لحسن مسماه وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال نعت من نعوت
177

الجلال ولفظ الشيء أعم الأشياء فيكون مسماه حاصلا في أحسن الأشياء وفي أرذلها ومتى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال ولا نعتا من نعوت الجلال فوجب أن لا يجوز دعوة الله تعالى بهذا الاسم لأن هذا الاسم لما لم يكن من الأسماء الحسنى والله تعالى أمر بأن يدعى الأسماء الحسنى وجب أن لا يجوز دعاء الله تعالى بهذا الاسم وكل من منع من دعاء الله بهذا الاسم قال: إن هذا اللفظ ليس اسما من أسماء الله تعالى البتة. الرابع: أن اسم الشيء يتناول المعدوم، فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى بيان الأول: قوله تعالى: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا) * (الكهف: 23) سمى الشيء الذي سيفعله غدا باسم الشيء في الحال والذي سيفعله غداف يكون معدوما في الحال فدل ذلك على أن اسم الشيء يقع على المعدوم.
وإذا ثبت هذا فقولنا: إنه شيء لا يفيد امتياز ذاته عن سائر الذوات بصفة معلومة ولا بخاصة متميزة ولا يفيد كونه موجودا فيكون هذا لفظا لا يفيد فائدة في حق الله تعالى البتة، فكان عبثا مطلقا، فوجب أو لا يجوز إطلاقه على الله تعالى. والجواب عن هذه الوجوه أن يقال: لما تعارضت الدلائل. فنقول: لفظ الشيء أعم الألفاظ، ومتى صدق الخاص صدق العام، فمتى صدق فيه كونه ذاتا وحقيقة وجب أن يصدق عليه كونه شيئا وذلك هو المطلوب والله أعلم. أما قوله * (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) * فالمراد أنه تعالى أوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به، وهو خطاب لأهل مكة، وقوله ومن بلغ ذ عطف على المخاطبين من أهل مكة أي لأنذركم به، وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم، وقيل من الثقلين، وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة، وعن سعيد بن جبير: من بلغه القرآن، فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا التفسير فيحصل في الآية حذف، والتقدير: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به، ومن بلغه هذا القرآن إلا أن هذا العائد محذوف لدلالة الكلام عليه، كما يقال الذي رأيت زيد، والذي ضربت عمرو. وفي تفسير قوله * (ومن بلغ) * قول آخر، وهو أن يكون قوله * (ومن بلغ) * أي ومن احتلم وبلغ حد التكليف، وعند هذا لا يحتاج إلى إضمار العائد إلا أن الجمهور على القول الأول. أما قوله * (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون) * فنقول: فيه بحثان. البحث الأول: قرأ ابن كثير: (أينكم) بهمزة وكسرة بعدها خفيفة مشبهة ياء ساكنة بلا مدة، وأبو عمرو وقالون عن نافع كذلك إلا أنه يمد والباقون بهمزتين بلا مد.
178

والبحث الثاني: أن هذا استفهام معناه الجحد والانكار. قال لفراء: ولم يقل آخر لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث كما قال: * (والله الأسماء الحسنى) * (الأعراف: 180) وقال: * (فما بال القرون الأولى) * (طه: 51) ولم يقل الأول ولا الأولين وكل ذلك صواب. ثم قال تعالى: * (قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون) * واعلم أن هذا الكلام دال على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه: أولها: قوله * (قل لا أشهد) * أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء. وثانيها: قوله * (قل إنما هو إله واحد) * وكلمة * (إنما) * تفيد الحصر، ولفظ الواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء. وثالثها: قوله * (إنني بريء مما تشركون) * وفيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء فثبت دلالة هذه الآية على إيجاب التوحيد بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد. قال العلماء: المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام. ونص الشافعي رحمه الله على استحباب ضم التبري إلى الشهادة لقوله * (وإنني برئ مما تشركون) * عقيب التصريح بالتوحيد.
قوله تعالى
* (الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) *
اعلم أنا روينا في الآية الأولى أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته، فبين الله تعالى في الآية الأولى أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها، ثم بين في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم أنا لا نعرف محمدا عليه الصلاة والسلام، لأنهم يعرفونه
بالنبوة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة، فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني يا بني لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حق من الله تعالى. وأعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون علمهم بنبوة محمد عليه السلام مثل علمهم بأبنائهم وفيه سؤال وهو أن يقال: المكتوب في التوراة والإنجيل مجرد أنه سيخرج نبي في آخر الزمان يدعو الخلق إلى الدين الحق، أو المكتوب فيه هذا المعنى مع تعين الزمان والمكان والنسب والصفة
179

والحلية والشكل، فإن كان الأول فذلك القدر لا يدل على أن ذلك الشخص هو محمد عليه السلام، فكيف يصح أن يقال: علمهم بنوته مثل علمهم بنبوة أبنائهم، وإن كان الثاني وجب أن كيون جميع اليهود والنصارى عالمين بالضرورة من التوراة والإنجيل بكون محمد عليه الصلاة والسلام نبيا من عند الله تعالى، والكذب على الجمع العظيم لا يجوز لأنا نعلم بالضرورة أن التوراة والإنجيل حال ظهور الرسول عليه الصلاة والسلام أو يقال: إنه ما بقيت هذه التفاصيل في التوراة والإنجيل في وقت ظهوره لأجل أن التحريف قد تطرق إليهما قبل ذلك، والأول باطل لأن إخفاء مثل هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب ممتنع، والثاني أيضا باطل، لأن على هذا التقدير لم يكن يهود ذلك الزمان، ونصارى ذلك الزمان عالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم علمهم بنبوة أبنائهم، وحينئذ يسقط هذا الكلام. والجواب عن الأول: أن يقال المراد ب * (الذين آتيناهم الكتاب) * اليهود والنصارى، وهم كانوا أهلا للنظر والاستدلال، وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصلاة والسلام، فعرفوا بواسطة تلك المعجزات كونه رسولا من عند الله، والمقصود من تشبيه إحدى المعرفتين بالمعرفة الثانية هذا القدر الذي ذكرناه. أما قوله * (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) * ففيه قولان: الأول: أن قوله الذين) * صفة للذين الأولى، فيكون عاملهما واحدا ويكون المقصود وعيد المعاندين الذين يعرفون ويجحدون. والثاني: أن قوله الذين خسروا أنفسهم ابتداء. وقوله * (فهم لا يؤمنون) * خبره، وفي قوله * (الذين خسروا) * وجهان: الأول: أنهم خسروا أنفسهم بمعنى الهلاك الدائم الذي حصل لهم بسبب الكفر والثاني: جاء في التفسير أنه ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله منزلة في الجنة، فمن كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورث منزلة غيره.
قوله تعالى
* (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب باياته إنه لا يفلح الظالمون * ويوم
180

نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركآؤكم الذين كنتم تزعمون) *
اعلم أنه تعالى لما حكم على أولئك المنكرين بالخسران في الآية الأولى بين في هذه الآية سبب ذلك الخسران، وهو أمران: أحدهما: أن يفترى على الله كذبا، وهذا الافتراء يحتمل وجوها: الأول: أن كفرا مكة كانوا يقولون هذه الأصنام شركاء الله، والله سبحانه وتعالى أمرهم بعبادتها والتقرب إليها، وكانوا أيضا يقولون الملائكة بنات الله، ثم نسبوا إلى الله تحريم البحائر والسوائب. وثانيها: أن اليهود والنصارى كانوا يقولون: حصل في التوراة والإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرق إليهما النسخ والتغيير، وأنهما لا يجيء بعدهما نبي، وثالثها: ما ذكره الله تعالى في قوله * (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) * (الأعراف: 28) ورابعها: أن اليهود كانوا يقولون * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) وكانوا يقولون * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * (البقرة: 80) وخامسها: أن بعض الجهال منهم كان يقول: إن الله فقير ونحن أغنياء، وأمثال هذه الأباطيل التي كانوا ينسبونها إلى الله كثيرة، وكلها افتراء منهم على الله. والنوع الثاني: من أسباب خسرانهم تكذيبهم بآيات الله، والمراد منه قدحهم في معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، وطعنهم فيها وإنكارهم كون القرآن معجزة قاهرة بينة، ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذين الأمرين قال: * (إنه لا يفلح الظالمون) * أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا وفي الآخرة بل يبقون في الحرمان والخذلان. وأما قوله * (ويوم نحشرهم جميعا) * ففي ناصب قوله * (ويوم) * أقوال: الأول: أنه محذوف وتقديره * (ويوم نحشرهم) * كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الابهام الذي هو أدخل في التخويف، والثاني: التقدير أذكر يوم نحشرهم، والثالث: أنه معطوف على محذوف كأنه قيل لا يفلح الظالمون أبدا ويوم نحشرهم. وأما قوله * (ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤهم الذين كنتم تزعمون) * فالمقصود منه التقريع والتبكيت لا السؤال، ويحتمل أن يكون معناه أين نفس الشركاء، ويحتمل أن يكون المراد أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم، وعلى كلا الوجهين: لا يكون الكلام إلا توبيخا وتقريعا في نفوسهم أن الذي كانوا يظنونه مأيوس عنه، وصار ذلك تنبيها لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة، والعائد على الموصول من قوله * (الذين كنتم تزعمون) * محذوف، والتقدير: الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاء، فحذف مفعول الزعم لدلالة السؤال عليه، قال ابن عباس: وكل زعم في كتاب الله كذب.
181

قوله تعالى
* (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين * انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) *
اعلم أن ههنا مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وحفص عن عاسم * (ثم لم تكن فتنتهم) * بالتاء المنقطة من فوق وفتنتهم بالرفع، وقرأ حمزة والكسائي * (ثم لم يكن) * بالياء وفتنتهم بالنصب، وأما القراءة بالتاء المنقطة من فوق ونصب الفتنة، فههنا قوله أن قالوا: في محل الرفع لسكونه اسم تكن، وإنما أنث لتأنيث الخبر كقوله من كانت أمك أو لأن ما قالوا: فتنة في المعنى، ويجوز تأويل إلا أن قالوا لا مقالتهم وأما القراءة بالياء المنقطة من تحت، ونصب فتنتهم، فههنا قوله أن قالوا: في محل الرفع لكونه اسم يكن، وفتنتهم هو الخبر. قال الواحدي: الاختيار قراءة من جعل أن قالوا الاسم دون الخبر لأن أن إذا وصلت بالفعل لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر، فكما أن المظهر والمضمر، إذا اجتمعا كان جعل المضمر اسما أولى من جعله خبرا، فكذا ههنا تقول كنت القائم، فجعلت المضمر اسما والمظهر
خبرا فكذا ههنا، ونقول قراءة حمزة والكسائي: والله ربنا بنصب قوله ربنا لوجهين: أحدهما: بإضمار أعني وأذكر، والثاني: على النداء، أي والله يا ربنا، والباقون بكسر الباء على أنه صفة لله تعالى. المسألة الثانية: قال الزجاج: تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك، وذلك أن الله تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين على حبه، فاعلم في هذه الآية أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤا منه وتباعدوا عنه، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين: ومثاله أن ترى إنسانا يحب عاريا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه، فيقال له ما كانت محبتك لفلان، إلا أن انتفيت منه فالمراد بالفتنة ههنا افتتانهم بالأوثان، ويتأكد هذا الوجه بما روى عطاء عن ابن عباس: أنه قال * (ثم لم تكن فتنتهم) * معناه شركهم في الدنيا، وهذا القول راجع إلى حذف المضاف لأن المعنى ثم لم تكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة، ومثله قولك ما كانت محبتك لفلان، إلا أن فررت منه وتركته.
182

المسألة الثالثة: ظاهر الآية يقتضي: أنهم حلفوا في القيامة على أنهم ما كانوا مشركين، وهذا يقتضي إقدامهم على الكذب يوم القيامة، وللناس فيه قولان: الأول: وهو قول أبي علي الجبائي، والقاضي: أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتجا عليه بوجوه: الأول: أن أهل القيامة يعرفون الله تعالى بالاضطرار، إذ لو يعرفون بالاستدلال لصار موقف القيامة دار التكليف، وذلك باطل، وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار، وجب أن يكونوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا القبيح بمعنى أنهم يعلمون أنهم لو راموا فعل القبيح لمنعهم الله منه لأن مع زوال التكليف لو لم يحصل هذا المعنى لكان ذلك إطلاقهم في فعل القبيح، وأنه لا يجوز، فثبت أن أهل القيامة يعلمون الله بالاضطرار، وثبت أنه متى كان كذلك كانوا ملجئين إلى ترك القبيح، وذلك يقتضي أنه لا يقدم أحد من أهل القيامة على فعل القبيح. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه لا يجوز منهم فعل القبيح، إذ كانوا عقلاء إلا أنا نقول: لم لا يجوز أن يقال: إنه وقع منهم هذا الكذب لأنهم لما عاينوا أهوال القيامة اضطربت عقولهم، فقالوا: هذا القول الكذب عند اختلال عقولهم، أو يقال: إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا. والجواب عن الأول: أنه تعالى لا يجوز أن يحشرهم: ويورد عليهم التوبيخ بقوله * (أين شركاؤهم) * (الأنعام: 22) ثم يحكي عنهم ما يجري مجرى الاعتذار مع أنهم غير عقلاء، لأن هذا لا يليق بحكمة الله تعالى، وأيضا فالمكلفون لا بد وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة، ليعلموا أنهم بما يعاملهم الله به غير مظلومين. والجواب عن الثاني: أن النسيان: لما كانوا عليه في دار الدنيا مع كمال العقل بعيد لأن العاقل لا يجوز أن ينسى مثل هذه الأحوال، وإن بعد العهد، وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور ولولا أن الأمر كذلك لجوزنا أن يكون العاقل قد مارس الولايات العظيمة دهرا طويلا، ومع ذلك فقد نسيه، ومعلوم أن تجويزه يوجب السفسطة. الحجة الثانية: أن القوم الذين أقدموا على ذلك الكذب إما أن يقال: إنهم ما كانوا عقلاء أو كانوا عقلاء، فإن قلنا إنهم ما كانوا عقلاء فهذا باطل لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي كلام المجانين في معرض تمهيد العذر، وإن قلنا إنهم كانوا عقلاء فهم يعلمون أن لله تعالى عالم بأحوالهم، مطلع على أفعالهم ويعلمون أن تجويز الكذب على الله محال، وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلا زيادة المقت والغضب وإذا كان الأمر كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب.
183

الحجة الثالثة: أنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على هذين النوعين من القبح والذنب وذلك يوجب العقاب، فتصير الدار الآخرة دار التكليف، وقد أجمعوا على أنه ليس الأمر كذلك، وأما إن قيل إنهم لا يستحقون على ذلك الكذب، وعلى ذلك الحلف الكاذب عقابا وذما، فهذا يقتضي حصول الاذن من الله تعالى في ارتكاب القبائح والذنوب، وأنه باطل، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدام أهل القيامة على القبيح والكذب. وإذا ثبت هذا: فعند ذلك قالوا يحمل قوله * (والله ربنا ما كنا مشركين) * أي ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا، وذلك لأن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم كانوا موحدين متباعدين من الشرك. فإن قيل: فعلى هذا التقدير: يكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم أخبروا بأنهم كانوا غير مشركين عد أنفسهم، فلماذا قال الله تعالى * (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) * ولنا أنه ليس تحت قوله * (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) * أنهم كذبوا فيما تقدم ذكره من قوله * (والله ربنا ما كنا مشركين) * حتى يلزمنا هذا السؤال بل يجوز أن يكون المراد انظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا في أمور كانوا يخبرون عنها كقولهم: إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك والكذب يصح عليهم في دار الدنيا، وإنما ينفى ذلك عنهم في الآخرة، والحاصل أن المقصود من قوله تعالى: * (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) * اختلاف الحالين، وأنهم في دار الدنيا كانوا يكذبون ولا يحترزون عنه وأنهم في الآخرة يحترزون عن الكذب ولكن حيث لا ينفعهم الصدق فلتعلق أحد الأمرين بالآخر أظهر الله تعالى للرسول ذلك وبين أن القوم لأجل شركهم كيف يكون حالهم في الآخرة عند الاعتذار مع أنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون على أنفسهم ويزعمون أنهم على صواب. هذا جملة كلام القاضي في تقرير القول الذي اختاره أبو علي الجبائي.
والقول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين أن الكفار يكذبون في هذا القول قالوا: والدليل على أن الكفار قد يكذبون في القيامة وجوه: الأول: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون * (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) * (المؤمنون: 107) مع أنه تعالى أخبر عنهم بقوله * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (الإنعام: 28) والثاني: قوله تعالى: * (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون) * (المجادلة: 18) بعد قوله * (ويحلفون على الكذب) * (المجادلة: 14) فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا. والثالث: قوله تعالى حكاية عنهم * (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) * (الكهف: 19) وكل ذلك يدل على إقدامهم في بعض الأوقات على الكذب. والرابع: قوله حكاية عنهم * (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) * (الزخرف: 77)
184

وقد علموا أنه تعالى لا يقضي عليهم بالخلاص. والخامس: أنه تعالى في هذه الآية حكى عنهم * (أنهم قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * وحمل هذا على أن المراد ما كنا مشركين في ظنوننا وعقائدنا مخالفة للظاهر. ثم حمل قوله بعد ذلك * (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) * على أنهم كذبوا في الدنيا يوجب فك نظم الآية، وصرف أول الآية إلى أحوال القيامة وصرف آخرها إلى أحوال الدنيا وهو في غاية البعد. أما قوله إما أن يكونوا قد كذبوا حال كمال العقل أو حال نقصان العقل فنقول: لا يبعد
أي يقال إنهم حال ما عاينوا أهوال القيامة، وشاهدوا موجبات الخوف الشديد اختلت عقولهم فذكروا هذا الكلام في ذلك الوقت وقوله: كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عنهم ما ذكروه في حال اضطراب العقول، فهذا يوجب الخوف الشديد عند سماع هذا الكلام حال كونهم في الدنيا ولا مقصود من تنزيل هذه الآيات إلا ذلك. وأما قوله ثانيا المكلفون لا بد أن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقول: اختلال عقولهم ساعة واحدة حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمال عقولهم في سائر الأوقات. فهذا تمام الكلام في هذه المسألة والله أعلم. أما قوله تعالى: * (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) * فالمراد إنكارهم كونهم مشركين، وقوله * (وضل عنهم) * عطف على قوله * (كذبوا) * تقديره: وكيف ضل عنهم ما كانوا يفترون بعبادته من الأصنام فلم تغن عنهم شيئا وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم.
قوله تعالى
* (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى ءاذانهم وقرا وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها حتى إذا جآءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذآ إلا أساطير الاولين) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بما يوجب اليأس عن إيمان بعضهم فقال * (ومنهم من يستمع إليك) * وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال ابن عباس حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعقبة وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحرث بن
185

عامر وأبو جهل واستمعوا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنضر ما يقول محمد فقال: لا أدري ما يقول لكني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدثكم به عن أخبار القرون الأولى وقال أبو سفيان إني لا أرى بعض ما يقول حقا فقال أبو جهل كلا فأنزل الله تعالى: * (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * والأكنة جمع كنان وهو ما وقى شيئا وستره، مثل عنان وأعنة، والفعل منه كننت وأكننت. وأما قوله * (أن يفقهوه) * فقال الزجاج: موضع * (أن) * نصب على أنه مفعول له والمعنى وجعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت (اللام) نصبت الكراهة، ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى (أن) وقوله * (وفي آذانهم وقرا) * قال ابن السكيت: الوقر الثقل في الأذن. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يصرف عن الإيمان، ويمنع منه ويحول بين الرجل وبينه، وذلك لأن هذه الآية تدل على أنه جعل القلب في الكنان الذي يمنعه عن الإيمان، وذلك هو المطلوب. قالت المعتزلة: لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار لا ليكون حجة للكفار على الرسول، ولو كان المراد من هذه الآية أنه تعالى منع الكفار عن الإيمان لكان لهم أن يقولوا للرسول لما حكم الله تعالى بأنه منعنا من الإيمان فلم يذمنا على ترك الإيمان، ولم يدعونا إلى فعل الإيمان؟ الثاني: أنه تعالى لو منعهم من الإيمان ثم دعاهم إليه لكان ذلك تكليفا للعاجز وهو منفي بصريح العقل وبقوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) الثالث: أنه تعالى حكى صريح هذا الكلام عن الكفار في معرض الذم فقال تعالى: * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر) * (فصلت: 5) وقال في آية أخرى * (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم) * (البقرة: 88) وإذا كان قد حكى الله تعالى هذا المذهب عنهم فلي معرض الذم لهم امتنع أن يذكره ههنا في معرض التقريع والتوبيخ، وإلا لزم التناقض. والرابع: أنه لا نزاع أن القوم كانوا يفهمون ويسمعون ويعقلون. والخامس أن هذه الآية وردت في معرض الذم لهم على ترك الإيمان ولو كان هذا الصد والمنع من قبل الله تعالى لما كانوا مذمومين بل كانوا معذورين. والسادس: أن قوله * (حتى إذا جاؤوك يجادلونك) * يدل على أنهم كانوا يفقهون ويميزون الحق من الباطل، وعند هذا قالوا لا بد من التأويل وهو من وجوه: الأول: قال الجبائي إن القوم كانوا يستمعون لقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ليتوسلوا بسماع قراءته إلى معرفة مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه فعند ذلك كان الله سبحانه وتعالى يلقي على قلوبهم النوم، وهو المراد من الأكنة، ويثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم، وهو المراد من قوله * (وفي
186

آذانهم وقرا) * والثاني: أن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر فإنه تعالى يسم قلبه بعلامة مخصوصة يستدل الملائكة برؤيتها على أنه لا يؤمن، فصارت تلك العلامة دلالة على أنهم لا يؤمنون.
وإذا ثبت هذا فنقول: لا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان والغطاء المانع، مع أن تلك العلامة في نفسها ليست مانعة عن الإيمان. والتأويل الثالث: أنهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه، فصار عدولهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان، فذكر الله تعالى الكنان كناية عن هذا المعنى. والتأويل الرابع: أنه تعالى لما منعهم الألطاف التي إنما تصلح أن تفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم منها، وفوض أمرهم إلى أنفسهم لسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه فيقول * (وجعلنا على قلوبهم أكنة) *. والتأويل الخامس: أن يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر) * (فصلت: 5). والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في بيان أنه لا يمكن حمل الكنان والوقر على أن الله تعالى منعهم عن الإيمان، وهو أن نقول: بل البرهان العقلي الساطع قائم على صحة هذا المعنى، وذلك لأن العبد الذي أتى بالكفر إن لم يقدر على الإتيان بالإيمان، فقد صح قولنا إنه تعالى هو الذي حمله على الكفر وصده عن الإيمان. وأما إن قلنا: إن القادر على الكفر كان قادرا على الإيمان فنقول: يمتنع صيرورة تلك القدرة مصدرا للكفر دون الإيمان، إلا عند انضمام تلك الداعية، وقد عرفت في هذا الكتاب أن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل، فيكون الكفر على هذا التقدير من الله تعالى، وتكون تلك الداعية الجارة إلى الكفر كنانا للقلب عن الإيمان، ووقرا للسمع عن استماع دلائل الإيمان، فثبت بما ذكرنا أن البرهان العقلي مطابق لما دل عليه ظاهر هذه الآية. وإذا ثبت بالدليل العقلي صحة ما دل عليه ظاهرة هذه الآية، وجب حمل هذه الآية عليه عملا بالبرهان وبظاهر القرآن، والله أعلم. المسألة الثالثة: أنه تعالى قال: * (ومنهم من يستمع إليك) * فذكره بصيغة الإفراد ثم قال: * (على قلوبهم) * فذكره بصيغة الجمع. وإنما حسن ذلك لأن صيغة (من) واحد في اللفظ جمع في المعنى. وأما قوله تعالى: * (وإن يروا كل آية
لا يؤمنوا بها) * قال بان عباس: وإن يروا كل دليل وحجة
187

لا يؤمنوا بها لأجل أن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة، وهذه الآية تدل على فساد التأويل الأول الذي نقلناه عن الجبائي، ولأنه لو كان المراد من قوله تعالى: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة) * إلقاء النوم على قلوب الكفار لئلا يمكنهم التوسل بسماع صوته على وجدان مكانه لما كان قوله * (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) * لائقا بهذا الكلام، وأيضا لو كان المراد ما ذكره الجبائي لكان يجب أن يقال: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يسمعوه، لأن المقصود الذي ذكره الجبائي إنما يحصل بالمنع من سماع صوت الرسول عليه السلام أما المنع من نفس كلامه ومن فهم مقصوده، فلا تعلق له بما ذكره الجبائي فظهر سقوط قوله. والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (حتى إذا جاؤوك يجادلونك) * فاعلم أن هذا الكلام جملة أخرى مرتبة على ما قبلها و * (حتى) * في هذا الموضع هي التي يقع بعدها الجمل، والجملة هي قوله * (إذا جاؤوك يجادلونك) * يقول الذين كفروا، ويجادلونك في موضع الحال وقوله * (يقول الذين كفروا) * تفسير لقوله * (يجادلونك) * والمعنى أنه بلغ بتكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون * (إن هذا إلا أساطير الأولين) * قال الواحدي: وأصل الأساطير من السطر، وهو أن يجعل شيئا ممتدا مؤلفا ومنه سطر الكتاب وسطر من شجر مغروس. قال ابن السكيت: يقال سطر وسطر، فمن قال سطر فجمعه في القليل أسطر والكثير سطور، ومن قال سطر فجمعه أسطار، والأساطير جمع الجمع، وقال الجبائي: واحد الأساطير أسطور وأسطورة وأسطير وأسطيرة، وقال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة. وقال أبو زيد: الأساطير من الجمع الذي لا واحد له مثل عباديد ثم قال الجمهور: أساطير الأولين ما سطره الأولون. قال ابن عباس: معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها. فأما قول من فسر الأساطير بالترهات، فهو معنى وليس مفسرا. ولما كانت أساطير الأولين مثل حديث رستم واسفنديار كلاما لا فائدة فيه لا جرم فسرت أساطير الأولين بالترهات. المسألة الرابعة: اعلم أنه كان مقصود القوم من ذكر قولهم * (إن هذا إلا أساطير الأولين) * القدح في كون القرآن معجزا فكأنهم قالوا: إن هذا الكلام من جنس سائر الحكايات المكتوبة، والقصص المذكورة للأولين، وإذا كان هذا من جنس تلك الكتب المشتملة على حكايات الأولين وأقاصيص الأقدمين لمل يكن معجزا خارقا للعادة. وأجاب القاضي عنه بأن قال: هذا السؤال مدفوع لأنه يلزم أن يقال لو كان في مقدوركم معارضته لوجب أن تأتوا بتلك المعارضة وحيث لم يقدروا عليها ظهر أنها معجزة. ولقائل أن يقول: كان للقوم أن يقولوا نحن وإن كنا أرباب
188

هذا اللسان العربي إلا أنا لا نعرف كيفية تصنيف الكتب وتأليفها ولسنا أهلا لذلك. ولا يلزم من عجزنا عن التصنيف كون القرآن معجزا أنا بينا أنه من جنس سائر الكتب المشتملة على أخبار الأولين وأقاصيص الأقدمين. واعلم أن الجواب عن هذا السؤال سيأتي في الآية المذكورة بعد ذلك.
قوله تعالى
* (وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) *.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بين أنهم طعنوا في كون القرآن معجزا بأن قالوا: إنه من جنس أساطير الأولين وأقاصيص الأقدمين؛ بين في هذه الآية أنهم ينهون عنه وينأون عنه، وقد سبق ذكر القرآن وذكر محمد عليه السلام، فالضمير في قوله * (عنه) * محتمل أن يكون عائدا إلى القرآن وأن يكون عائدا إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فلهذا السبب اختلف المفسرون فقال بعضهم: * (وهم ينهون عنه وينأون عنه) * أي عن القرآن وتدبره والاستماع له. وقال آخرون: بل المراد ينهون عن الرسول. واعلم أن النهي عن الرسول عليه السلام محال بل لا بد وأن يكون المراد النهي عن فعل يتعلق به عليه الصلاة والسلام، وهو غير مذكور فلا جرم حصل فيه قولان: منهم من قال المراد أنهم ينهون عن التصديق بنبوته والإقرار برسالته. وقال عطاء ومقاتل: نزلت في أبي طالب كان ينهى قريشا عن إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يتباعد عنه ولا يتبعه على دينه. والقول الأول: أشبه لوجهين: الأول: أن جميع الآيات المتقدمة على هذه الآية تقتضي ذم طريقتهم، فكذلك قوله * (وهم ينهون عنه) * ينبغي أن يكون محمولا على أمر مذموم، فلو حملناه على أن أبا طالب كان ينأى عن إيذائه، لما حصل هذا النظم. والثاني: أنه تعالى قال بعد ذلك * (وإن يهلكون إلا أنفسهم) * يعني به ما تقدم ذكره. ولا يليق ذلك بأن يكون المراد من قوله * (وهم ينهون عنه) * النهي عن أذيته، لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك. فإن قيل: إن قوله * (وإن يهلكون إلا أنفسهم) * يرجع إلى قوله * (وينأون عنه) * لا إلى قوله * (ينهون عنه) * لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه مفارقة دينه، وترك الموافقة له وذلك ذم فلا يصح ما رجحتم به هذا القول.
189

قلنا: إن ظاهر قوله * (وإن يهلكون إلا أنفسهم) * يرجع إلى كل ما تقدم ذكره لأنه بمنزلة أن يقال: إن فلانا يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه ولا يضر بذلك إلا نفسه، فلا يكون هذا الضرر متعلقا بأحد الأمرين دون الآخر. المسألة الثانية: اعلم أن أولئك الكفار كانوا يعاملون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوعين من القبيح. الأول: إنهم كانوا ينهون الناس عن قبول دينه والاقرار بنبوته. والثاني: كانوا ينأون عنه، والنأي البعد يقال: نأى ينأى إذا بعد. ثم قال: * (وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) * قال ابن عباس، أي وما يهلكون إلا أنفسهم بسبب تماديهم في الكفر وغلوهم فيه وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم ويذهبونها إلى النار بما يرتكبون من الكفر والمعصية، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يليتنا نرد ولا نكذب بايات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وينأى عن طاعته بأنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية وفيها مسائل:
المسألة الأولى: قوله * (ولو ترى) * يقتضي لله جوابا وقد حذف تفخيما للأمر وتعظيما للشأن، وجاز حذفه لعلم المخاطب به وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر. ولو قدرت الجواب، كان التقدير: لرأيت سوء منقلبهم أو لرأيت سوء حالهم وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى: أنك لو قلت لغلامك، والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب، ذهب بفكره إلى أنواع المكروه، من الضرب، والقتل، والكسر، وعظم الخوف ولم يدر أي الأقسام تبغي. ولو قلت: والله لئن قمت إليك لأضربنك فأتيت بالجواب، لعلم أنك لم تبلغ شيئا غير الضرب ولا يخطر بباله نوع من المكروه سواه، فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيرا في حصول الخوف. ومنهم من قال جواب * (لو) * مذكور من بعض الوجوه والتقدير ولو ترى إذ وقفوا على النار ينوحون ويقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب.
190

المسألة الثانية: قوله * (وقفوا) * يقال وقفته وقفا، ووقفته وقوفا كما يقال رجعته رجوعا. قال الزجاج: ومعنى * (وقفوا على النار) * يحتمل ثلاثة أوجه: الأول: يجوز أن يكون قد وقفوا عندها وهم يعاينونها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار. والثاني: يجوز أن يكونوا وقفوا عليها وهي تحتهم، بمعنى أنهم وقفوا فوق النار على الصراط، وهو جسر فوق جهنم. والثالث: معناه عرفوا حقيقتها تعريفا من قولك وقفت فلانا على كلام فلان؛ أي علمته معناه وعرفته، وفيه وجه رابع: وهم أنهم يكونون في جوف النار، وتكون النار محيطة بهم، ويكونون غائصين فيها وعلى هذا التقدير فقد أقيم (على) مقام (في) وإنما صح على هذا التقدير، أن يقال: وقفوا على النار، لأن النار دركات وطبقات، وبعضها فوق بعض فيصح هناك معنى الاستعلاء. فإن قيل: فلماذا قال * (ولو ترى) *؟ وذلك يؤذن بالاستقبال ثم قال بعده إذ وقفوا وكلمة * (إذ) * للماضي ثم قال بعده، فقالوا وهو يدل على الماضي. قلنا: أن كلمة (إذ تقام مقام (إذا) إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد، وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر، فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي، يفيد المبالغة من هذا الاعتبار. المسألة الثالثة: قال الزجاج: الإمالة في النار حسنة جيدة، لأن ما بعد الألف مكسور وهو حرف الراء، كأنه تكرر في اللسان فصارت الكسرة فيه كالكسرتين. أما قوله تعالى: * (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: قوله * (يا ليتنا نرد) * يدل على أنهم قد تمنوا أن يردوا إلى الدنيا. فأما قوله * (ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) * ففيه قولان: أحدهما: أنه داخل في التمني والتقدير أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ولا يكونوا مكذبين وأن يكونوا مؤمنين. فإن قالوا هذا باطل لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم كاذبين بقوله في آخر الآية * (وإنهم لكاذبون) * والمتمني لا يوصف بكونه كاذبا. قلنا: لا نسلم أن المتمني لا يوصف بكونه كاذبا لأن من أظهر التمني، فقد أخبر ضمنا كونه مريدا لذلك الشيء فلم يبعد تكذيبه فيه، ومثاله أن يقول الرجل: ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك، فهذا تمن في حكم الوعد، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه لقيل إنه كذب في وعده.
191

القول الثاني: أن التمني تم عند قوله * (يا ليتنا نرد) * وأما قوله * (ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) * فهذا الكلام مبتدأ وقوله تعالى في آخر الآية * (وإنهم لكاذبون) * عائد إليه وتقدير الكلام يا ليتنا نرد، ثم قالوا ولو رددنا لم نكذب بالدين وكنا من المؤمنين، ثم إنه تعالى كذبهم وبين أنهم لو ردوا لكذبوا ولأعرضوا عن الإيمان. المسألة الثانية: قرأ ابن عامر نرد ونكذب بالرفع في الثلاثة، فحصل من هذا أنهم اتفقوا على الرفع في قوله * (نرد) * وذلك لأنه داخلة في التمني لا محالة، فأما الذين رفعوا قوله * (ولا نكذب. ونكون) * ففيه وجهان: الأول: أن يكون معطوفا على قوله * (نرد) * فتكون الثلاثة داخل في التمني، فعلى هذا قد تمنوا الرد وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين. والوجه الثاني: أن يقطع ولا نكذب وما بعده عن الأول، فيكون التقدير: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، فهم ضمنوا أنهم لا يكذبون بتقدير حصول الرد. والمعنى يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد أي قد عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبدا. قال سيبويه: وهو مثل قولك دعني ولا أعود، فههنا المطلوب بالسؤال تركه. فأما أنه لا يعود فغير داخل في الطلب، فكذا هنا قوله * (يا ليتنا نرد) * الداخل في هذا التمني الرد، فأما ترك التكذيب وفعل الإيمان فغير داخل في التمني، بل هو حاصل سواء حصل الرد أو لم يحصل، وهذان الوجهان ذكرهما الزجاج والنحويون قالوا: الوجه الثاني أقوى، وهو أن يكون الرد داخلا في التمني، ويكون ما بعده إخبارا محضا. واحتجوا عليه بأن الله كذبهم في الآية الثانية فقال: * (وإنهم لكاذبون) * والمتمني لا يجوز تكذيبه، وهذا اختيار أبي عمرو. وقد احتج على صحة قوله بهذه الحجة، إلا أنا قد أجبنا عن هذه الحجة، وذكرنا أنها ليست قوية، وأما من قرأ * (ولا نكذب. ونكون) * بالنصب ففيه وجوه: الأول: بإضمار (أن) على جواب التمني، والتقدير: يا ليتنا نرد وأن لا نكذب. والثاني: أن تكون الواو مبدلة من الفاء، والتقدير: يا ليتنا نرد فلا نكذب، فتكون الواو ههنا بمنزلة الفاء في قوله * (لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) * (الزمر: 58) ويتأكد هذا الوجه بما روي أن ابن مسعود كان يقرأ * (فلا نكذب) * بالفاء على النصب، والثالث: أن يكون معناه الحال، والتقدير: يا ليتنا نرد غير مكذبين، كما تقول العرب - لا تأكل السمك وتشرب اللبن - أي لا تأكل السمك شاربا للبن.
واعلم أن على هذه القراءة تكون الأمور الثلاثة داخلة في التمني. وأما أن المتن كيف يجوز
192

تكذيبه فقد سبق تقريره. وأما قراءة ابن عامر وهي أنه كان يرفع * (ولا نكذب) * وينصب * (ونكون) * فالتقدير: أنه يجعل قوله * (ولا نكذب) * داخلا في التمني، بمعنى أنا إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين والله أعلم. المسألة الثالثة: قوله * (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب) * لا شبهة في أن المراد تمني ردهم إلى حالة التكليف لأن لفظ الرد إذا استعمل في المستقبل من حال إلى حال، فالمفهوم منه الرد إلى الحالة الأولى. والظاهر أن من صدر منه تقصير ثم عاين الشدائد والأحوال بسبب ذلك التقصير أنه يتمنى الرد إلى الحالة الأولى، ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصيرات. ومعلوم أن الكفار قصروا في دار الدنيا فهم يتمنون العود إلى الدنيا لتدارك تلك التقصيرات، وذلك التدارك لا يحصل بالعود إلى الدنيا فقط، ولا بترك التكذيب، ولا بعمل الإيمان بل إنما يحصل التدارك بمجموع هذه الأمور الثلاثة فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني. فإن قيل: كيف يحسن منهم تمني الرد مع أنهم يعلمون أن الرد يحصل لا البتة. والجواب من وجوه: الأول: لعلهم لم يعلموا أن الرد لا
يحصل. والثاني: أنهم وإن علموا أن ذلك لا يحصل؛ إلا أن هذا العلم لا يمنع من حصول إرادة الرد كقوله تعالى: * (يريدون أن يخرجوا من النار) * (المائدة: 37) وكقوله * (أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) * (الأعراف: 50) فلما صح أن يريدوا هذه الأشياء مع العلم بأنها لا تحصل، فبأن يتمنوه أقرب، لأن باب التمني أوسع، لأنه يصح أن يتمنى ما لا يصح أن يريد من الأمور الثلاثة الماضية. ثم قال تعالى: * (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: معنى * (بل) * ههنا رد كلامهم، والتقدير: أنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا، وترك التكذيب، وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان، بل لأجل خوفهم من العقاب الذي شاهدوه وعاينوه. وهذا يدل على أن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه، لكونه إيمانا وطاعة، فأما الرغبة فيه لطلب الثواب، والخوف من العقاب فغير مفيد. المسألة الثانية: المراد من الآية: أنه طهر لهم في الآخرة ما أخفوه في الدنيا. وقد اختلفوا في ذلك الذي أخفوه على وجوه: الأول: قال أبو روق: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون * (والله ربنا ما كنا مشركين) * فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر، فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل. قال الواحدي: وعلى هذا القول أهل التفسير. الثاني:
193

قال المبرد: بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها، وذلك لأن كفرهم ما كان باديا ظاهرا لهم، لأن مضار كفرهم كانت خفية، فلما ظهرت يوم القيامة لا جرم قال الله تعالى: * (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) * الثالث: قال الزجاج: بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور. قال والدليل على صحة هذا القول أنه تعالى ذكر عقيبه * (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) * (الأنعام: 29) وهذا قول الحسن. الرابع: قال بعضهم: هذه الآية في المنافقين، وقد كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإسلام، وبدا لهم يوم القيامة، وظهر بأن عرف غيرهم أنهم كانوا من قبل منافقين. الخامس: قيل بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوة الرسول ونعته وصفته في الكتب والبشارة به، وما كانوا يحرفونه من التوراة مما يدل على ذلك. واعلم أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة. والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانهتكت أستارهم. وهو معنى قوله تعالى: * (يوم تبلى السرائر) * (الطارق: 9). ثم قال تعالى: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * والمعنى أنه تعالى لو ردهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان، بل كانوا يستمرون على طريقتهم الأولى في الكفر التكذيب. فإن قيل: إن أهل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة، وشاهدوا أنواع العقاب والعذاب فلو ردهم الله تعالى إلى الدنيا فمع هذه الأحوال كيف يمكن أن يقال: إنهم يعودون إلى الكفر بالله وإلى معصية الله. قلنا: قال القاضي: تقرير الآية * (ولو ردوا) * إلى حالة التكليف، وإنما يحصل الرد إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة، ولم يحصل هناك مشاهدة الأهوال وعذاب جهنم، فهذا الشرط يكون مضمرا لا محالة في الآية إلا أنا نقول هذا الجواب ضعيف، لأن المقصود من الآية بيان غلوهم في الاصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان، ولو قدرنا عدم معرفة الله تعالى في القيامة، وعدم مشاهدة أهوال القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم الأول مزيد تعجب، لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا، فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره البتة. إذا عرفت هذا فنقول: قال الواحدي: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة، وذلك لأن الله تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك، وذلك القضاء السابق فيهم، وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد، ثم قال تعالى: * (وإنهم لكاذبون) * وفيه سؤال وهو أن يقال: إنه لم يتقدم ذكر خبر حتى يصرف هذا التكذيب إليه.
194

والجواب: أنا بينا أن منهم من قال الداخل في التمني هو مجرد قوله * (يا ليتنا نرد) * أما الباقي فهو إخبار، ومنهم من قال بل الكل داخل في التمني، لأن إدخال التكذيب في التمني أيضا جائز، لأن التمني يدل على الاخبار على سبيل الضمن والصيرورة، كقول القائل ليت زيدا جاءنا فكنا نأكل ونشرب ونتحدث فكذا ههنا. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) *.
اعلم أنه حصل في الآية قولان: الأول: أنه تعالى ذكر في الآية الأولى، أنه بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل فبين في هذه الآية أن ذلك الذي يخفونه هو أمر المعاد والحشر والنشر، وذلك لأنهم كانوا ينكرونه ويخفون صحته ويقولون ما لنا إلا هذه الحياة الدنيوية، وليس بعد هذه الحياة لا ثواب ولا عقاب. والثاني: أن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا الحشر والنشر، وقالوا: * (إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) *.
قوله تعالى
* (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *.
فيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية الأولى إنكارهم للحشر والنشر والبعث والقيامة بين في هذه الآية كيفية حالهم في القيامة، فقال * (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) * واعلم أن جماعة من المشبهة تمسكوا بهذه الآية، وقالوا ظاهر هذه الآية يدل على أن أهل القيامة يقفون عند الله وبالقرب منه، وذلك يدل على كونه تعالى بحث يحضر في مكان تارة ويغيب عنه تارة أخرى. واعلم أن هذا خطأ وذلك لأن ظاهر الآية، يدل على كونهم واقفين على الله تعالى، كما يقف أحدنا على الأرض، وذلك يدل على كونه مستعليا على ذات الله تعالى وأنه بالاتفاق باطل، فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه: التأويل الأول: هو أن يكون المراد * (ولو ترى إذ وقفوا على) * ما وعدهم ربهم من عذاب
195

الكافرين وثواب المؤمنين وعلى ما أخبرهم به من أمر الآخر. التأويل الثاني: أن المراد من هذا الوقوف المعرفة، كما يقول الرجل لغيره وفقت على كلامك أي عرفته. التأويل الثالث: أن يكون المراد أنهم وقفوا لأجل السؤال فخرج الكلام مخرج ما جرت به العادة، من وقوف العبد بين يدي سيده والمقصود منه التعبير عن المقصود
بالألفاظ الفصيحة البليغة. المسألة الثانية: المقصود من هذه الآية أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى، أنهم ينكرون القيامة والبعث في الدنيا، ثم بين أنهم في الآخرة يقرون به فيكون المعنى أن حالهم في هذا الإنكار سيؤول إلى الإقرار وذلك لأنهم شاهدوا القيامة والثواب والعقاب، قال الله تعالى: * (أليس هذا بالحق) *. فإن قيل: هذا الكلام يدل على أنه تعالى يقول لهم أليس هذا بالحق؟ وهو كالمناقض لقوله تعالى: * (ولا يكلمهم الله) * (البقرة: 174) والجواب أن يحمل قوله * (ولا يكلمهم) * أي لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع، وعلى هذا التقدير يزول التناقض ثم إنه تعالى بين أنه إذا قال لهم أليس هذا بالحق؟ قالوا بلى وربنا المقصود أنهم يعترفون بكونه حقا مع القسم واليمين. ثم إنه تعالى يقول لهم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وخص لفظ الذوق لأنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الاحساس وقوله * (بما كنتم تكفرون) * أي بسبب كفركم. واعلم أنه تعالى ما ذكر هذا الكلام احتجاجا على صحة القول بالحشر والنشر لأن ذلك الدليل قد تقدم ذكره في أول السورة في قوله * (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا) * (الأنعام: 2) على ما قررناه وفسرناه، بل المقصود من هذه الآية الردع والزجر عن هذا المذهب والقول.
قوله تعالى
* (قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا سآء ما يزرون) *.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح حالة أخرى من أحوال منكري
196

البعث والقيامة وهي أمران: أحدهما: حصول الخسران. والثاني: حمل الأوزار العظيمة. أما النوع الأول: وهو حصول الخسران فتقريره أنه تعالى بعث جوهر النفس الناطقة القدسية الجسماني وأعطاه هذه الآلات الجسمانية والأدوات الجسدانية وأعطاه العقل والتفكر أجل أن يتوصل باستعمال هذه الآلات والأدوات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي يعظم منافعها بعد الموت فإذا استعمل الإنسان هذه الآلات والأدوات والقوة العقلية والقوة الفكرية في تحصيل هذه اللذات الدائرة والسعادات المنقطعة ثم انتهى الإنسان إلى آخر عمره فقد خسر خسرانا مبينا لأن رأس المال قد فنى والربح الذي ظن أنه هو المطلوب فنى أيضا وانقطع فلم يبق في يده لا من رأس المال أثر ولا من الربح شيء. فكان هذا هو الخسران المبين. وهذا الخسران إنما يحصل لمن كان منكرا للبعث والقيامة وكان يعتقد أن منتهى السعادات ونهاية الكمالات هو هذه السعادات العاجلة الفانية. أما من كان مؤمنا بالبعث والقيامة فإنه لا يغتر بهذه السعادات الجسمانية ولا يكتفي بهذه الخيرات العاجلة بل يسعى في إعداد الزاد ليوم المعاد فلم يحصل له الخسران فثبت بما ذكرنا أن الذين كذبوا بلقاء الله وأنكروا البعث والقيامة قد خسروا خسرانا مبينا وأنهم عند الوصول إلى موقف القيامة يتحسرون على تفريطهم في تحصيل الزاد ليوم المعاد. والنوع الثاني من وجوه: خسرانهم أنهم يحملون أوزارهم على ظهورهم. وتقرير الكلام فيه أن كمال السعادة في الاقبال على الله تعالى والاشتغال بعبوديته والاجتهاد في حبه وخدمته وأيضا في الانقطاع عن الدنيا وترك محبتها وفي قطع العلاقة بين القلب وبينها، فمن كان منكرا للبعث والقيامة، فإنه لا يسعى في إعداد الزاد لموقف القيامة، ولا يسعى في قطع العلاقة بين القلب وبين الدنيا، فإذا مات بقي كالغريب في عالم الروحانيات، وكالمنقطع عن أحبابه وأقاربه الذين كانوا في عالم الجسمانيات فيحصل له الحسرات العظيمة بسبب فقدان الزاد وعدم الاهتداء إلى المخالطة بأهل ذلك العالم ويحصل له الآلام العظيمة بسبب الانقطاع عن لذات هذا العالم والامتناع عن الاستسعاد بخيرات هذا العالم. فالأول: هو المراد من قوله * (قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) * والثاني: هو المراد من قوله * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) * فهذا تقرير المقصود من هذه الآية. المسألة الثانية: المراد من الخسران فوت الثواب العظيم وحصول العقاب العظيم * (والذين كذبوا بلقاء الله) * المراد منه الذين أنكروا البعث والقيامة، وقد بالغنا في شرح هذه الكلمة عند قوله * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) * (البقرة: 46) وإنما حسنت هذه الكناية أن موقف القيامة موقف لا حكم
197

فيه لأحد إلا لله تعالى، ولا قدرة لأحد على النفع والضر والرفع والخفض إلا لله. وقوله * (حتى إذا جاءتهم السعة بغتة) * اعلم أن كلمة (حتى) غاية لقوله * (كذبوا) * لا لقوله * (قد خسر) * لأن خسرانهم لا غاية له ومعنى (حتى) ههنا أن منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة، والمعنى أنهم كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة. فإن قيل: إنما يتحسرون عند موتهم. قلنا: لما كان الموت وقوعا في أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ولذلك قال عليه السلام: " من مات فقد قامت قيامته " والمراد بالساعة القيامة، وفي تسمية يوم القيامة بهذا الاسم وجوه: الأول: أن يوم القيامة يسمى الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل: ما هي إلا ساعة الحساب. الثاني: الساعة هي الوقت الذي تقوم القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تعالى. ألا ترى أنه تعالى قال: * (بغتة) * والبغت والبغتة هو الفجأة والمعنى: أن الساعة لا تجيء إلا دفعة لأنه لا يعلم أحد متى يكون مجيئها، وفي أي وقت يكون حدوثها وقوله * (بغتة) * انتصابه على الحال بمعنى: باغتة أو على المصدر كأنه قيل: بغتتهم الساعة بغتة. ثم قال تعالى: * (قالوا يا حسرتنا) * قال الزجاج: معنى دعاء الحسرة تنبيه للناس على ما سيحصل لهم من الحسرة والعرب تعبر عن تعظيم أمثال هذه الأمور بهذه اللفظة كقوله تعالى: * (يا حسرة على العباد) * (يس: 30) و * (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) * (الزمر: 56) * (يا ويلتي أألد) * (هود: 72) وهذا أبلغ من أن يقال: الحسرة علينا في تفريطنا ومثله * (يا أسفي على يوسف) * (يوسف: 84) تأويله يا أيها الناس تنبهوا على ما وقع بي من الأسف فوقع النداء على غير المنادى في الحقيقة. وقال سيبويه: إنك إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت يا عجب أحضر وتعال فإن هذا زمانك. إذا عرفت هذا فنقول: حصل للنداء ههنا تأويلان: أحدهما: أن النداء للحسرة، والمراد منه تنبيه المخاطبين وهو قول الزجاج. والثاني: أن المنادى هو نفس الحسرة على معنى: أن هذا وقتك فاحضري وهو قول سيبويه وقوله * (على ما فرطنا فيها) * فيه بحثان. البحث الأول: قال أبو عبيدة يقال: فرطت في الشيء أي ضيعته فقوله * (فرطنا) * أي تركنا وضيعنا وقال الزجاج: فرطنا أي قدمنا العجز جعله من قولهم فرط فلان إذا سبق وتقدم، وفرط الشيء إذا قدمه. قال الواحدي: فالتفريط عنده تقديم التقصير. والبحث الثاني: أن الضمير في قوله * (فيها) * إلى ماذا يعود فيه وجوه: الأول: قال ابن عباس في الدنيا
والسؤال عليه أنه لم يجر للدنيا ذكر فكيف يمكن عود هذا الضمير إليها. وجوابه: أن العقل دل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا، فحسن عود الضمير إليها لهذا المعنى. الثاني: قال الحسن
198

المراد يا حسرتنا على ما فرطنا في الساعة، والمعنى: على ما فرطنا في إعداد الزاد للساعة وتحصيل الأهبة لها. والثالث: أن تعود الكناية إلى معنى ما في قوله * (ما فرطنا) * أي حسرتنا على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها. والرابع: قال محمد بن جرير الطبري: الكناية تعود إلى الصفقة لأنه تعالى لما ذكر الخسران دل ذلك على حصول الصفقة والمبايعة. ثم قال تعالى: * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) * فاعلم أن المراد من قولهم يا حسرتنا على ما فرطنا فيها إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب، وقوله * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) * إشارة إلى أنهم حصلوا لأنفسهم ما به استحقوا العذاب العظيم، ولا شك أن ذلك نهاية الخسران. قال ابن عباس: الأوزار الآثام والخطايا قال أهل اللغة الوزر الثقل وأصله من الحمل يقال وزرت الشيء أي حملته أزره وزرا، ثم قيل للذنوب أوزار لأنها تثقل ظهر من عملها، وقوله * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (فاطر: 18) أي لا تحمل نفس حاملة. قال أبو عبيدة: يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع أحمل وزرك وأوزار الحرب أثقالها من السلاح ووزير السلطان الذي يزر عنه أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية أي يحمل. قال الزجاج: وهم يحملون أوزارهم أي يحملون ثقل ذنوبهم، واختلفوا في كيفية حملهم الأوزار فقال المفسرون: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحا ويقول: أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) * (مريم: 85) قالوا ركبانا وأن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحا فيقول: أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم فذلك قوله * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) * وهذا قول قتادة والسدي. وقال الزجاج: الثقل كما يذكر في المنقول، فقد يذكر أيضا في الحال والصفة يقال: ثقل على خطاب فلان، والمعنى كرهته فالمعنى أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم. وقال آخرون: معنى قوله * (وهم يحملون أوزارهم) * أي لا تزايلهم أوزارهم كما تقول شخصك نصب عيني أي ذكرك ملازم لي. ثم قال تعالى: * (ألا ساء ما يزرون) * والمعنى بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه والاستقصاء في تفسير هذا اللفظ مذكور في سورة النساء في قوله * (وساء سبيلا) * (سورة النساء: 22).
199

قوله تعالى
* (وما الحيوة الدنيآ إلا لعب ولهو وللدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) *
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن المنكرين للبعث والقيامة بعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها، فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيها على خساستها وركاكتها. واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها لأن هذه الحياة العاجلة لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها، فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان: القول الأول: أن المراد منه حياة الكافر. قال ابن عباس: يريد حياة أهل الشرك والنفاق، والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعبا ولهوا. والقول الثاني: أن هذا عام في حياة المؤمن والكافر، والمراد منه اللذات الحاصلة في هذه الحياة والطيبات المطلوبة في هذه الحياة، وإنما سماها باللعب واللهو، لأن الإنسان حال اشتغاله باللعب واللهو يلتذ به، ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة، فكذلك هذه الحياة لا يبقى عند انقراضها إلا الحسرة والندامة. واعلم أن تسمية هذه الحياة باللعب واللهو فيه وجوه: الأول: أن مدة اللهو واللعب قليلة سريعة الانقضاء والزوال، ومدة هذه الحياة كذلك. الثاني: أن اللعب واللهو لا بد وأن ينساقا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره ولذات الدنيا كذلك. الثالث: أن اللعب واللهو، إنما يحصل عند الاغترار بظواهر الأمور، وأما عند التأمل التام والكشف عن حقائق الأمور، لا يبقى اللعب واللهو أصلا، وكذلك اللهو واللعب، فإنهما لا يصلحان إلا للصبيان والجهال المغفلين، أما العقلاء والحصفاء، فقلما يحصل لهم خوض في اللعب واللهو، فكذلك الالتذاذ بطيبات الدنيا والانتفاع بخيراتها لا يحصل، إلا للمغفلين الجاهلين بحقائق الأمور، وأما الحكماء المحققون، فإنهم يعلمون أن كل هذه الخيرات غرور، وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرة. الرابع: أن اللعب واللهو ليس لهما عاقبة محمودة، فثبت بمجموع هذه الوجوه أن اللذات والأحوال الدنيوية لعب ولهو
200

وليس لهما حقيقة معتبرة. ولما بين تعالى ذلك قال بعده * (وللدار الآخرة خير للذين يتقون) * وصد الآخرة بكونها خيرا، ويدل على أن الأمر كذلك حصول التفات بين أحوال الدنيا وأحوال الآخرة في أمور أحدها: أن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة بيان أن الأمر كذلك وجوه: الأول: أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين، وهو في نهاية الخساسة، بدليل أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيه، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل من أمر الإنسان، فإن الجمل أكثر أكلا، والديك والعصفور أكثر وقاعا، والذئب أقوى على الفساد والتمزيق، والعقرب أقوى على الايلام، ومما يدل على خساستها أنها لو كانت شريفة لكان الإكثار منها يوجب زيادة الشرف، فكان يجب أن يكون الإنسان الذي وقف كل عمره على الأكل والوقاع أشرف الناس، وأعلاهم درجة، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمر كذلك بل مثل هذا الإنسان يكون ممقوتا مستقذرا مستحقرا يوصف بأنه بهيمة أو كلب أو أخس، ومما يدل على ذلك أن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال بل يخفونها، ولذلك كان العقلاء عند الاشتغال بالوقاع يختفون ولا يقدمون على هذه الأفعال بمحضر من الناس وذلك يدل على أن هذه الأفعال لا توجب الشرف بل النقص، ومما يدل على ذلك أيضا أن الناس إذا شتم بعضهم بعضا لا يذكرون فيه إلا الألفاظ الدالة على الوقاع، ولولا أن تلك اللذة من جنس النقصانات، وإلا لما كان الأمر كذلك، ومما يدل عليه أن هذه اللذات ترجع حقيقتها إلى دفع الآلام، ولذلك فإن كل من كان أشد جوعا وأقوى حاجة كان التذاذه بهذه الأشياء أكمل له وأقوى، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه لا حقيقة لهذه اللذات في نفس الأمر. ومما يدل عليه أيضا أن هذه اللذات سريعة الاستحالة سريعة الزوال سريعة الانقضاء. فثبت بهذه الوجوه الكثيرة خساسة هذه اللذات. وأما
السعادات الروحانية فإنها سعادات شريفة عالية باقية مقدسة، ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيلوا في الإنسان كثرة العلم وشدة الانقباض عن اللذات الجسمانية، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدون أنفسهم عبيدا لذلك الإنسان وأشقياء بالنسبة إليه، وذلك يدل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية، وكمال مرتبة اللذات الروحانية.
الوجه الثاني: في بيان أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا، وهو أن نقول: هب أن هذين النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة، إلا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في عد القيامة معلوم قطعا. وأما الوصول إلى الخبرات الموعودة في غد الدنيا فغير معلوم بل ولا مظنون، فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التراب في آخر ذلك اليوم، وكم من أمير كبير أصبح في
201

الملك والإمارة، ثم أمسى أسيرا حقيرا، وهذا التفاوت أيضا يوجب المباينة بين النوعين. الوجه الثالث: هب أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوما آخر في الدنيا، إلا أنه لا يدري هل يمكنه الانتفاع بما جمعه من الأموال والطيبات واللذات أم لا؟ أما كل ما جمعه من موجبات السعادات، فإنه يعلم قطعا أنه ينتفع به في الدار الآخرة. الوجه الرابع: هب أنه ينتفع بها إلا أن انتفاعه بخيرات الدنيا لا يكون خاليا عن شوائب المكروهات، وممازجة المحرمات المخوفات. ولذلك قيل: من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق. فقيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: " سرور يوم بتمامه ". الوجه الخامس: هب أنه ينتفع بتلك الأموال والطيبات في الغد، إلا أن تلك المنافع منقرضة ذاهبة باطلة، وكلما كانت تلك المنافع أقوى وألذ وأكمل وأفضل كانت الأحزان الحاصلة عند انقراضها وانقضائها أقوى وأكمل كما قال الشاعر المتنبي: أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا فثبت بما ذكرنا أن سعادات الدنيا وخيراتها موصوفة بهذه العيوب العظيمة، والنقصانات الكاملة وسعادات الآخرة مبرأة عنها، فوجب القطع بأن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأتقى وأحرى وأولى. المسألة الثانية: قرأ ابن عامر * (ولدار الآخرة) * بإضافة الدار إلى الآخرة، والباقون * (وللدار الآخرة) * على جعل الآخرة نعتا للدار. أما وجه قراءة ابن عامر فهو أن الصفة في الحقيقة مغايرة للموصوف فصحت الإضافة من هذا الوجه، ونظيره قولهم بارحة الأولى، ويوم الخميس وحق اليقين، وعند البصرين لا تجوز هذه الإضافة، قالوا لأن الصفة نفس الموصوف، وإضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة.
واعلم أن هذا بناء على أن الصفة نفس الموصوف وهو مشكل لأنه يعقل تصور الموصوف منفكا عن الصفة، ولو كان الموصوف عين الصفة لكان ذلك محالا، ولقولهم وجه دقيق يمكن تقريره، إلا أنه لا يليق بهذا المكان، ثم إن البصريين ذكروا في تصحيح قراءة ابن عامر وجها آخر، فقالوا لم يجعل الآخرة صفة للدار، لكنه جعلها صفة للساعة، فكأنه قال: ولدار الساعة الآخرة. فإن قيل: فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم تكون قد أقيمت الآخرة التي هي الصفة مقام الموصوف الذي هو الساعة وذلك قبيح. قلنا لا يقبح ذلك إذا كانت الصفة قد استعملت استعمال
202

الأسماء ولفظ الآخرة قد استعمل الأسماء، والدليل عليه: قوله * (وللآخرة خير لك من الأولى) * (الضحى: 4) وأما قراءة العامة فهي ظاهرة لأنها تقتضي جعل الآخرة صفة للدار وذلك هو الحقيقة ومتى أمكن إجراء الكلام على حقيقته فلا حاجة إلى العدول عنه والله أعلم. المسألة الثالثة: اختلفوا في المراد بالدار الآخرة على وجوه. قال ابن عباس: هي الجنة، وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي. وقال الحسن: المراد نفس الآخرة خير. وقال الأصم: التمسك بعمل الآخرة خير. وقال آخرون: نعيم الآخرة من نعيم الدنيا، من حيث إنها باقية دائمة مصونة عن الشوائب آمنة من الانقضاء والانقراض. ثم قال تعالى: * (للذين يتقون) * فبين أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان من المتقين من المعاصي والكبائر. فأما الكافر والفاسق فلا! لأن الدنيا بالنسبة إليه خير من الآخرة على ما قال عليه السلام: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ". ثم قال: * (أفلا تعقلون) * قرأ نافع وابن عامر * (أفلا تعقلون) * بالتاء ههنا وفي سورة الأعراف ويوسف ويس. وقرأ حفص عن عاصم في * (يس) * بالياء والباقي بالتاء. وقرأ عاصم في وراية يحيى في يوسف بالتاء والباقي بالياء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية الأعش والبرجمي جميع ذلك بالياء. قال الواحدي: من قرأ بالياء معناه: أفلا يعقلون الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار؟ فيعملون لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك، ومن قرأ بالتاء، فالمعنى: قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون أن ذلك خير؟ والله أعلم.
قوله تعالى
* (قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بايات الله يجحدون) *
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن طوائف الكفار كانوا فرقا كثيرين، فمنهم من ينكر نبوته لأنه كان ينكر رسالة البشر ويقول يجب أن يكون رسول الله من جنس الملائكة وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة شبهة هؤلاء وأجاب عنها. ومنهم من يقول: إن محمدا يخبرنا بالحشر والنشر بعد الموت وذلك
203

محال. وكانوا يستدلون بامتناع الحشر والنشر على الطعن في رسالته. وقد ذكر الله تعالى ذلك وأجاب عنه بالوجوه الكثيرة التي تقدم ذكرها ومنهم من كان يشافهه بالسفاهة وذكر ما لا ينبغي من القول وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية. واختلفوا في أن ذلك المحزن ما هو؟ فقيل كانوا يقولن إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وهو قول الحسن. وقيل: إنهم كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه وشريعته. وقيل: كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال. المسألة الثانية: قرأ نافع * (ليحزنك) * بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي وهما لغتان يقال حزنني كذا وأحزنني. المسألة الثالثة: قرأ نافع والكسائي * (فإنهم لا يكذبونك) * خفيفة والباقون يكذبونك مشددة وفي هاتين القراءتين قولان: الأول: أن بينهما فرقا ظاهرا ثم ذكروا في تقرير الفرق وجهين: أحدهما: كان الكسائي يقرأ بالتخفيف، ويحتج بأن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وإلى صنعه الأباطيل من القول وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب وإن لم يكن ذلك بافتعاله وصنعه. قال الزجاج: معنى كذبته قلت له كذبت ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد
فكأن القوم كانوا يعتقدون أن محمدا عليه السلام ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويح بل تخيل صحة تلك النبوة وتلك الرسالة، إلا أن ذلك الذي تخيله فهو في نفسه باطل. والفرق الثاني قال أبو علي: يجوز أن يكون معنى * (لا يكذبونك) * أي لا يصادفونك كاذبا لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة كما يقال أحمدت الرجل إذا أصبته محمودا فأحببته وأحسنت محمدته إذا صادفته على هذه الأحوال. والقول الثاني: أنه لا فرق بين هاتين القراءتين: قال أبو علي: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحدا لأن معنى التفعيل النسبة إلى الكذب بأن يقول له كذبت كما تقول ذنبته وفسقته وخطأته أي قلت له فعلت هذه الأشياء وسقيته ورعيته أي قلت له سقاك الله ورعاك وقد جاء في هذا المعنى أفعلته قالوا أسقيته أي قلت له سقاك الله. قال ذو الرمة: وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه أي أنسبه إلى السقيا بأن أقول سقاك الله فعلى هذا التقدير يكون معنى القراءتين واحدا، إلا إن فعلت إذا أرادوا أن يسبوه إلى أمر أكثر من أفعلت.
المسألة الرابعة: ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدا صلى الله عليه وسلم ولكنهم يجحدون بآيات الله واختلفوا في كيفية الجمع بين هذين الأمرين على وجوه:
204

الوجه الأول: أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن والنبوة. ثم ذكروا لتصحيح هذا الوجه روايات: إحداها: أن الحرث بن عامر من قريش قال يا محمد والله ما كذبتنا قط ولكنا إن اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب. وثانيها: روي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا، فقال له والله إن محمدا لصادق وما كذب قط؟ ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش فنزلت هذه الآية. إذا عرفت هذا فنقول: معنى الآية على هذا التقدير أن القوم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون نبوتك بألسنتهم وظاهر قولهم وهذا غير مستبعد ونظيره قوله تعالى في قصة موسى * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) * (النمل: 14). الوجه الثاني: في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك أنت كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل والزمان المديد وما وجدوا منك كذبا البتة وسموك بالأمين فلا يقولون فيك إنك كاذب ولكن جحدوا صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمدا عرض له نوع خبل ونقصان فلأجله تخيل من نفسه كونه رسولا من عند الله، وبهذا التقدير: لا ينسبونه إلى الكذب أو لأنهم قالوا: إنه ما كذب في سائر الأمور، بل هو أمين في كلها إلا في هذا الوجه الواحد. الوجه الثالث: في التأويل: أنه لما ظهرت المعجزات القاهرة على وفق دعواه، ثم إن القوم أصروا على التكذيب فالله تعالى قال له إن القوم ما كذبوك، وإنما كذبوني، ونظيره أن رجلا إذا أهان عبدا لرجل آخر، فقال هذا الآخر: أيها العبد إنه ما أهانك، وإنما أهانني: وليس المقصود منه نفي الإهانة عنه بل المقصود تعظيم الأمر وتفخيم الشأن. وتقريره: أن إهانة ذلك العبد جارية مجرى إهانته، ونظيره قوله تعالى: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) * (الفتح: 10). والوجه الرابع: في التأويل وهو كلام خطر بالبال، هو أن يقال المراد من قوله * (فإنهم لا يكذبونك) * أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا، وهو المراد من قوله * (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) * والمراد أنهم يقولون في كل معجزة إنها سحر وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق فكان التقدير: إنهم لا يكذبونك على التعيين بل القوم يكذبون جميع الأنبياء والرسل، والله أعلم.
205

قوله تعالى
* (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جآءك من نبإ المرسلين) *
في الآية مسألتان: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى أزال الحزن عن قلب رسوله في الآية الأولى بأن بين أن تكذيبه يجري مجرى تكذيب الله تعالى فذكر في هذه الآية طريقا آخر في إزالة الحزن عن قلبه وذلك بأن بين أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثل هذه المعاملة، وأن أولئك الأنبياء صبروا على تكذيبهم وإيذائهم حتى أتاهم النصر والفتح والظفر فأنت أولى بالتزام هذه الطريقة لأنك مبعوث إلى جميع العالمين، فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. ثم أكد وقوى تعالى هذا الوعد بقوله ولا مبدل لكلمات الله يعني أن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق، ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه ونظيره قوله تعالى) * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) * (الصفات: 171) وقوله * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * (المجادلة: 21) وبالجملة فالخلف في كلام الله تعالى محال وقوله * (ولقد جاءك من نبأ المرسلين) * أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمرنا قومهم. قال الأخفش: * (من) * ههنا صلة، كما تقول أصابنا من مطر. وقال غيره: لا يجوز ذلك لأنها لا تزاد في الواجب، وإنما تزاد مع النفي كما تقول: ما أتاني من أحد، وهي ههنا للتبعيض، فإن الواصل إلى الرسول عليه السلام قصص بعض الأنبياء لا قصص كلهم كما قال تعالى: * (منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك) * (غافر: 78) وفاعل: (جاء) مضمر أضمر لدلالة المذكور عليه، وتقديره: ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين. المسألة الثاني: قوله تعالى: دولا مبدل لكلمات الله) * يدل على قولنا في خلق الأفعال لأن كل ما أخبر الله عن وقوعه، فذلك الخبر ممتنع التغير، وإذا امتنع تطرق التغير إلى ذلك الخبر امتنع تطرق التغير إلى المخبر عنه. فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يموت على الكفر كان ترك الكفر منه محالا. فكان تكليفه بالإيمان تكليفا بما لا يطاق. ولله أعلم.
206

قوله تعالى
* (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الارض أو سلما فى السمآء فتأتيهم باية ولو شآء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) *
في الآية مسائل: المسألة الأولى: المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش، فقالوا: يا محمد ائتنا من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل فانا نصدق بك فأبى الله أن يأتيهم بها فأعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك عليه، فنزلت هذه الآية، والمعنى: وإن كان كبر عليك إعراضهم عن الإيمان بك، وصحة القرآن، فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فافعل. فالجواب محذوف
وحسن هذا الحذف لأنه معلوم في النفوس. والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر، ومنه نافقاء اليربوع لأن اليربوع يثقب الأرض إلى العقر، ثم يصعد من ذلك العقر إلى وجه الأرض من جانب آخر، فكأنه ينفق الأرض نفقا، أي يجعل له منفذا من جانب آخر. ومنه أيضا سمي المنافق منافقا لأنه يضمر غير ما يظهر كالنافقاء الذي يتخذه اليربوع وأما السلم فهو مشتق من السلامة، وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك، والمقصود من هذا الكلام أن يقطع الرسول طعمه عن إيمانهم، وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر. المسألة الثانية: قوله تعالى: دلو شاء الله لجمعهم على الهدى) * تقديره: ولو شاء الله هداهم لجمعهم على الهدى وحيثما جمعهم على الهدى، وجب أن يقال: إنه ما شاء هداهم، وذلك يدل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر بل يريد إبقاءه على الكفر، والذي يقرب هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إما أن تكون صالحة للإيمان، أو غير صالحة له، فإن لم تكن صالحة له فالقدرة على الكفر مستلزمة للكفر، وغير صالحة للإيمان، فخالق هذه القدرة يكون قد أراد
207

هذا الكفر منه لا محالة، وأما إن كانت هذه القدرة، كما أنها صلحت للكفر فهي أيضا صالحة للإيمان، فلما استوت نسبة القدرة إلى الطرفين امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر، إلا لداعية مرجحة، وحصول تلك الداعية ليس من العبد، وإلا وقع التسلسل، فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى، وثبت أن مجموع القدرة مع الداعية الحاصلة موجب للفعل، فثبت أن خالق مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر، وغير مريد لذلك الإيمان. فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر بهذه الآية، ولا بيان أقوى من أن يتطابق البرهان مع ظاهر القرآن. قالت المعتزلة: المراد لولو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لجمعهم علي. قال القاضي: والالجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه، وحينئذ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان. ومثاله: أن أحدنا لو حصل بحضرة السلطان وحضر هناك من حشمه الجمع العظيم، وهذا الرجل علم أنه لو هم بقتل السلطان لقتلوه في الحال، فإن هذا العلم يصير مانعا له من قصد قتلك ذلك السلطان، ويكون ذلك سببا لكونه ملجأ إلى ترك ذلك الفعل فكذا ههنا. إذا عرفت الالجاء فنقول: إنه تعالى إنما ترك فعل هذا الالجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم فيكون ما يقع منهم كأن لم يقع، وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا بما يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة إلى الثواب، وذلك لا يكون إلا اختيارا. والجواب: أنه تعالى أراد منهم الاقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر على السوية أو حال حصول هذا الرجحان. والأول: تكليف ما لا يطاق، لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء، تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال، وإن كان الثاني: فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع، والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع، وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار، فسقط قولهم بالكلية. والله أعلم. المسألة الثالثة: قوله تعالى في آخر الآية * (فلا تكونن من الجاهلين) * نهي له عن هذه الحالة، وهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة كما أن قوله * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) * (الأحزاب: 48) لا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أطاعهم وقبل دينهم، والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تحسرك على تكذيبهم، ولا يجوز أن تجزع من إعراضهم عنك فإنك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل، والمقصود من تغليظ الخطاب التبعيد والزجر له عن مثل هذه الحالة. والله أعلم.
208

قوله تعالى
* (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون) *.
اعلم أنه تعالى بين السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان ولا يتركون الكفر فقال: * (إنما يستجيب الذين يسمعون) * يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، وإنما يستجيب من يسمع، كقوله * (إنك لا تسمع الموتى) * (النمل: 80) قال علي بن عيسى: الفرق بين يستجيب ويجيب، أن يستجيب في قبوله لما دعي إليه، وليس كذلك يجيب لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل: أتوافق في هذا المذهب أم تخالف؟ فيقول المجيب: أخالف. وأما قوله * (والموتى يبعثهم الله) * ففيه قولان: الأول: أنه مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة والمراد: أنه تعالى هو القادر على أن يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثم إليه يرجعون للجزاء، فكذلك ههنا أنه تعالى هو القادر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر عليه. والقول الثاني: أن المعنى: وهؤلاء الموتى يعني الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم، وقرئ * (يرجعون) * بفتح الياء. وأقول: لا شك أن الجسد الخالي عن الروح يظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات، وأصلح أحواله أن يدفن تحت التراب، وأيضا الروح الخالية عن العقل يكون صاحبها مجنونا يستوجب القيد والحبس والعقل بالنسبة إلى الروح كالروح بالنسبة إلى الجسد، وأيضا العقل بدون معرفة الله تعالى وصفاته وطاعته كالضائع الباطل، فنسبة التوحيد والمعرفة إلى العقل كنسبة العقل إلى الروح، ونسبة الروح إلى الجسد فمعرفة الله ومحبته روح روح الروح فالنفس الخالية عن هذه المعرفة تكون بصفة الأموات، فلهذا السبب وصف الله أولئك الكفار المصرين بأنهم الموتى. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقالوا لولا نزل عليه ءاية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل ءاية ولكن أكثرهم لا يعلمون) *.
209

اعلم أن هذا النوع الرابع من شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنهم قالوا: لو كان رسولا من عند الله فهلا أنزل عليه آية قاهرة ومعجزة باهرة! ويروى أن بعض الملحدة طعن فقال: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم قد أتى بآية معجزة لما صح أن يقول أولئك الكفار * (لولا نزل عليه آية) * ولما قال: * (إن الله قادر على أن ينزل آية) *. والجواب عنه: أن القرآن معجزة قاهرة وبينة باهرة، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم تحداهم به فعجزا عن معارضته، وذلك يدل على كونه معجزا. بقي أن يقال: فإذا كان الأمر كذلك فكيف قالوا * (لولا نزل عليه آية من ربه) *. فنقول: الجواب عنه من وجوه: الوجه الأول: لعل القوم طعنوا في
كون القرآن معجزا على سبيل اللجاج والعناد، وقالوا: إنه من جنس الكتب، والكتاب لا يكون من جنس المعجزات، كما في التوراة والزبور والإنجيل، ولأجل هذه الشبهة طلبوا المعجزة. والوجه الثاني: أنهم طلبوا معجزات قاهرة من جنس معجزات سائر الأنبياء مثل فلق البحر واظلال الجبل وإحياء الموتى. والوجه الثالث: أنهم طلبوا مزيد الآيات والمعجزات على سبيل التعنت واللجاج مثل إنزال الملائكة وإسقاط السماء كسفا وسائر ما حكاه عن الكافرين. والوجه الرابع: أن يكون المراد ما حكاه الله تعالى عن بعضهم في قوله * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) * (الأنفال: 32) فكل هذه الوجوه مما يحتملها لفظ الآية. ثم إنه تعالى أجاب عن سؤالهم * (قل إن الله قادر على أن ينزل آية) * يعني أنه تعالى قادر على إيجاد ما طلبتموه وتحصيل ما اقترحتموه * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * واختلفوا في تفسير هذه الكلمة على وجوه: الوجه الأول: أن يكون المراد أنه تعالى لما أنزل آية باهرة ومعجزة قاهرة وهي القرآن كان طلب الزيادة جاريا مجرى التحكم والتعنت الباطل، والله سبحانه له الحكم والأمر فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، فإن فاعليته لا تكون إلا بحسب محض المشيئة على قول أهل السنة أو على وفق المصلحة على قول المعتزلة، وعلى التقديرين: فإنها لا تكون على وفق اقتراحات الناس ومطالباتهم، فإن شاء أجابهم إليها، وإن شاء لم يجبهم إليها.
والوجه الثاني: هو أنه لما ظهرت المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة الكافية لم يبق لهم عذر
210

ولا علة، فبعد ذلك لو أجابهم الله تعالى في ذلك الاقتراح فلعلهم يقترحون اقتراحا ثانيا، وثالثا، ورابعا، وهكذا إلى ما لا غاية له، وذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة، فوجب في أول الأمر سد هذا الباب والاكتفاء بما سبق من المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة. والوجه الثالث: أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من المعجزات القاهرة، فلو لم يؤمنوا عند ظهورها لاستحقوا عذاب الاستئصال، فاقتضت رحمة الله صونهم عن هذا البلاء فما أعطاهم هذا المطلوب رحمة منه تعالى عليهم، وإن كان لا يعلمون كيفية هذه الرحمة، فلهذا المعنى قال: * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) *. والوجه الرابع: أنه تعالى علم منهم أنهم إنما يطلبون هذه المعجزات لا لطلب الفائدة بل لأجل العناد والتعصب وعلم أنه تعالى لو أعطاهم مطلوبهم فهم لا يؤمنون، فلهذا السبب ما أعطاهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنه لا فائدة في ذلك، فالمراد من قوله * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * هو أن القوم لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل التعنت والتعصب فإن الله تعالى لا يعطيهم مطلوبهم ولو كانوا عالمين عاقلين لطلبوا ذلك على سبيل طلب الفائدة، وحينئذ كان الله تعالى يعطيهم ذلك المطلوب على أكمل الوجوه. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وما من دآبة فى الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا فى الكتاب من شىء ثم إلى ربهم يحشرون) *.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: في تقرير وجه النظم، فنقول فيه وجهان: الأول: أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لو كان إنزال سائر المعجزات مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها إلا أنه لما لم يكن إظهارها مصلحة للمكلفين، لا جرم ما أظهرها. وهذا الجواب إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى يراعي مصالح المكلفين ويتفضل عليهم بذلك فبين أن الأمر كذلك، وقرره بأن قال: * (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالك) * في وصول فضل الله وعنايته ورحمته وإحسانه إليهم، وذلك كالأمر المشاهد المحسوس فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى
211

جميع الحيوانات؛ فلو كان في إظهار هذه المعجزات القاهرة مصلحة للمكلفين لفعلها ولأظهرها ولامتنع أن يبخل بها مع ما ظهر أنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمصالحها ومنافعها وذلك يدل على أنه تعالى إنما لم يظهر تلك المعجزات، لأن إظهارها يخل بمصالح المكلفين. فهذا هو وجه النظم والمناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها والله أعلم. الوجه الثاني في كيفية النظم: قال القاضي: إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون بين أيضا بعده بقوله * (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) * في أنهم يحشرون، والمقصود: بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضا حاصل في حق البهائم. المسألة الثانية: الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير فجميع ما خلق الله تعالى من الحيوانات، فإنه لا يخلو عن هاتين الصفتين، إما أن يدب، وإما أن يطير. وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: من الحيوان ما لا يدخل في هذين القسمين مثل حيتان البحر، وسائر ما يسبح في الماء ويعيش فيه. والجواب: لا يبعد أن يوصف بأنها دابة من حيث إنها تدب في الماء أو هي كالطير، لأنها تسبح في الماء، كما أن الطير يسبح في الهواء، إلا أن وصفها بالدبيب أقرب إلى اللغة من وصفها بالطيران. السؤال الثاني: ما الفائدة في تقييد الدابة بكونها في الأرض؟ والجواب من وجهين: الأول: أنه خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء احتجاجا بالأظهر لأن ما في السماء وإن كان مخلوقا مثلنا فغير ظاهر، والثاني: أن المقصود من ذكر هذا الكلام أن عناية الله تعالى لما كانت حاصلة في هذه الحيوانات فلو كان إظهار المعجزات القاهرة مصلحة لما منع الله من إظهارها. وهذا المقصود إنما يتم بذكر من كان أدون مرتبة من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالا منه، فلهذا المعنى قيد الدابة بكونها في الأرض. السؤال الثالث: ما الفائدة في قوله * (يطير بجناحيه) *؟ مع أن كل طائر إنما يطير بجناحيه. والجواب فيه من وجوه: الأول: أن هذا الوصف إنما ذكر للتأكيد كقوله نعجة أنثى وكما يقال: كلمته بفي ومشيت إليه برجلي. الثاني: أنه قد يقول الرجل لعبده طر في حاجتي والمراد الإسراع وعلى هذا التقدير: فقد يحصل الطيران لا بالجناح. قال الحماسي:
طاروا إليه زرافات ووحدانا
212

فذكر الجناح ليمتحض هذا الكلام في الطير. والثالث: أنه تعالى قال في صفة الملائكة * (جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) * (فاطر: 1) فذكر ههنا قوله * (ولا طائر يطير بجناحيه) * ليخرج عنه الملائكة فإنا بينا أن المقصود من هذا الكلام إنما يتم بذكر من كان أدون حالا من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالا منه. السؤال الرابع: كيف قال: * (إلا أمم) * مع إفراد الدابة والطائر؟ والجواب: لما كان قوله * (وما من دابة ولا طائر) * دالا على معنى
الاستغراق ومغنيا عن أن يقول: وما من دواب ولا طيور لا جرم حمل قوله * (إلا أمم) * على المعنى. السؤال الخامس: قوله * (إلا أمم أمثالكم) * قال الفراء: يقال إن كل صنف من البهائم أمة وجاء في الحديث: " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها " فجعل الكلاب أمة. إذا ثبت هذا فنقول: الآية دلت على أن هذه الدواب والطيور أمثالنا، وليس فيها ما يدل على أن هذه المماثلة حصلت في أي الأحوال والأمور فبينوا ذلك. والجواب: اختلف الناس في تعيين الأمر الذي حكم الله تعالى فيه بالمماثلة بين البشر وبين الدواب والطيور وذكروا فيه أقوالا: القول الأول: نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يريد، يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني. وإلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسرين وقالوا: إن هذه الحيوانات تعرف الله وتحمده وتوحده وتسبحه واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (وإن ممن شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44) وبقوله في صفة الحيوانات * (كل قد علم صلاته وتسبيحه) * (النور: 41) وبما أنه تعالى خاطب النمل وخاطب الهدهد، وقد استقصينا في تقرير هذا القول وتحقيقه في هذه الآيات. وعن أبي الدرداء أنه قال: أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء: معرفة الإله، وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيوء كل واحد منهما لصاحبه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول يا رب إن هذا قتلني عبثا لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض ". والقول الثاني: المراد إلا أمم أمثالكم في كونها أمما وجماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضا، ويأنس بعضها ببعض، ويتوالد بعضها من بعض كالإنس إلا أن للسائل أن يقول حمل
213

الآية على هذا الوجه لا يفيد فائدة معتبرة لأن كون الحيوانات بهذه الصفة أمر معلوم لكل أحد فلا فائدة في الاخبار عنها. القول الثالث: المراد أنها أمثالنا في أن دبرها الله تعالى وخلقها وتكفل برزقها وهذا يقرب من القول الثاني في أنه يجري مجرى الاخبار عما علم حصوله بالضرورة. القول الرابع: أراد تعالى أنها أمثالنا في أنها تحشر يوم القيامة يوصل إليها حقوقها، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقص للجماء من القرناء ". القول السادس: ما اخترناه في نظم الآية، وهو أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الإتيان بالمعجزات القاهرة الظاهرة، فبين تعالى أن عنايته وصلت إلى جميع الحيوانات كما وصلت إلى الإنسان. ومن بلغت رحمته وفضله إلى حيث لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على الإنسان أولى، فدل منع الله من إظهار تلك المعجزات القاهرة على أنه لا مصلحة لأولئك السائلين في إظهارها، وأن إظهارها على وفق سؤالهم واقتراحهم يوجب عود الضرر العظيم إليهم.
القول السابع: ما رواه أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة، أنه لما قرأ هذه الآية قال: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم، فمنهم من يقدم إقدام الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاوس، ومنهم من يشبه الخنزير فإنه لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه. فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، فإن أخطأت مرة واحدة حفظها، ولم يجلس مجلسا إلا رواه عنه. ثم قال: فاعلم يا أخي إنك إنما تعاشر البهائم والسباع، فبالغ في الحذار والاحتراز، فهذا جملة ما قيل في هذا الموضع. المسألة الثالثة: ذهب القائلون بالتناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة مخالطة عالم الملائكة، وأما إن كانت شقية جاهلة عاصية فإنها تنقل إلى أبدان
214

الحيوانات، وكلما كانت تلك الأرواح أكثر شقاوة واستحقاقا للعذاب نقلت إلى بدن حيوان أخس وأكثر شقاء وتعبا، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فقالوا: صريح هذه الآية يدل على أنه لا دابة ولا طائر إلا وهي أمثالنا، ولفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية أما الصفات العرضية المفارقة، فالمساواة فيها غير معتبرة في حصول المماثلة. ثم إن القائلين بهذا القول زادوا عليه، وقالوا: قد ثبت هذا أن أرواح جميع الحيوانات عارفة بربها وعارفة بما يحصل لها من السعادة والشقاوة، وأن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولا من جنسها، واحتجوا عليه بأنه ثبت بهذه الآية أن الدواب والطيور أمم. ثم إنه تعالى قال: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * (فاطر: 24) وذلك تصريح بأن لكل طائفة من هذه الحيوانات رسولا أرسله الله إليها. ثم أكدوا ذلك بقصة الهدهد، وقصة النمل، وسائر القصص المذكورة في القرآن. واعلم أن القوم بالتناسخ قد أبطلناه بالدلائل الجيدة في علم الأصول، وأما هذه الآية فقد ذكرنا ما يكفي في صدق حصول المماثلة في بعض الأمرة المذكورة، فلا حاجة إلى إثبات ما ذكره أهل التناسخ. والله أعلم. ثم قال تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * وفي المراد بالكتاب قولان: القول الأول: المراد منه الكتاب المحفوظ في العرش وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام، كما قال عليه السلام: " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ". والقول الثاني: أن المراد منه القرآن، وهذا أظهر لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن، فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن. إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول: كيف قال تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم، وليس فيه أيضا تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع؟ والجواب: أن قوله * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * يجب أن يكون مخصوصا ببيان الأشياء التي يجب معرفتها، والإحاطة بها وبيانه من وجهين: الأول: أن لفظ التفريط لا يستعمل نفيا وإثباتا إلا فيما يجب أن يبين لأن أحدا لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه. الثاني: أن جميع آيات القرآن أو الكثير منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين
215

ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله، وإذا كان هذا التقييد معلوما من كل القرآن كان المطلق ههنا محمولا على ذلك المقيد. أما قوله إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع. فنقول: أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه: فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل، فلا حاجة إليها، وأما تفاصيل علم الفروع فنقول: للعلماء ههنا قولان: الأول: أنهم قالوا أن القرآن دل على أن الاجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة فكل ما دل عليه أحد الأصول الثلاثة، كان ذلك في الحقيقة موجودا في القرآن، وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة: المثال الأول: روي أن ابن مسعود كان
يقول: مالي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة، والمستوشمة، والواصلة، والمستوصلة، وروي أن امرأة قرأت جميع القرآن، ثم أتته فقالت: يا بان أم عبد، تلوت البارحة ما بين الدفتين، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة، فقال: لو تلوتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * (الحشر: 7) وإن مما أتانا به رسول الله أنه قال: لعن الله الواشمة والمستوشمة " وأقول: يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك لأنه تعالى قال في سورة النساء: * (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا * لعنه الله) * (النساء: 117، 118) فحكم عليه باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله وذكر من جملتها قوله * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * (النساء: 119) وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن. المثال الثاني: ذكر أن الشافعي رحمه الله كان جالسا في المسجد الحرام فقال: " لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى " فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: " لا شيء عليه " فقال: أين هذا في كتاب الله؟ فقال: قال الله تعالى: * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * ثم ذكر إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " ثم ذكر إسنادا إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: للمحرم قتل الزنبور. قال الواحدي: فأجابه من كتاب الله مستنبطا بثلاث درجات، وأقول: ههنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة. قال تعالى: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * (البقرة: 286) وقال: * (ولا يسألكم أموالكم) * (محمد: 36) وقال: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * (النساء: 29) فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة، وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء، وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة.
216

وأما الطريق الذي ذكره الشافعي: فهو تمسك بالعموم على أربع درجات: أولها: التمسك بعموم قوله * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * (الحشر: 7) وأحد الأمور الداخلة تحت هذا أمر النبي عليه السلام بمتابعة الخلفاء الراشدين، وثانيها: التمسك بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي "، وثالثها: بيان أن عمر رضي الله عنه كان من الخلفاء الراشدين، ورابعها: الرواية عن عمر أنه لم يوجب في هذه المسألة شيئا، فثبت أن الطريق الذي ذكرناه أقرب. المثال الثالث: قال الواحدي: روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقض بيننا بكتاب الله فقال عليه السلام: " والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله " ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت. قال الواحدي: وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله. وأقول: هذا المثال حق، لأنه تعالى قال: * (لتبين للناس ما أنزل إليهم) * (النحل: 44) وكل ما بينه الرسول عليه السلام كان داخلا تحت هذه الآية، فثبت بهذه الأمثلة أن القرآن لما دل على أن الإجماع حجة، وأن خبر الواحد حجة، وأن القياس حجة، فكل حكم ثبت بطريق من هذه الطرق الثلاثة، كان في الحقيقة ثابتا بالقرآن، فعند هذا يصح قوله تعالى: * (وما فرطنا في الكتاب من شيء) * هذا تقرير هذا القول، وهو الذي ذهب إلى نصرته جمهور الفقهاء. ولقائل أن يقول: حاصل هذه الوجه أن القرآن لما دل على خبر الواحد والقياس حجة، فكل حكم ثبت بأحد هذين الأصلين كان في الحقيقة قد ثبت بالقرآن إلا أنا نقول: حمل قوله * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * على هذا الوجه لا يجوز لأن قوله * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * ذكر في معرض تعظيم هذا الكتاب والمبالغة في مدحه والثناء عليه، ولو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لم يحصل منه ما يوجب التعظيم، وذلك لأنا لو فرضنا أن الله تعالى قال: اعملوا بالإجماع وخبر الواحد والقياس، كان المعنى الذي ذكروه حاصلا من هذا اللفظ والمعنى الذي يمكن تحصيله من هذا اللفظ القليل لا يمكن جعله واجبا لمدح القرآن والثناء عليه لسبب اشتمال القرآن عليه، لأن هذا إنما يوجب المدح العظيم والثناء التام لو لم يمكن تحصيله بطريق آخر أشد اختصارا منه، فأما لما بينا أن هذا القسم المقصود يمكن حمله وتحصيله باللفظ المختصر الذي ذكرناه علمنا أنه لا يمكن ذكره في تعظيم القرآن، فثبت أن هذه الآية مذكورة في معرض تعظيم القرآن، وثبت أن المعنى الذي ذكروه لا يفيد تعظيم القرآن، فوجب أن يقال، إنه لا يجوز حمل هذه الآية على هذا المعنى، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا القول.
217

والقول الثاني: في تفسير هذه الآية قول من يقول: القرآن واف ببيان جميع الأحكام وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف، وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع، لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية، والتنصيص على ما لا نهاية له محال بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي مثلا لله تعالى ألف تكليف على العباد وذكره في القرآن وأمر محمدا عليه السلام بتبليغ ذلك الألف تكليف آخر، ثم أكد هذه الآية بقوله * (اليوم أكملت لكم دينكم) * (المائدة: 3) وبقوله: * (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) * (الانعام: 59) فهذا تقرير مذهب هؤلاء، والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه، والله أعلم. ولنرجع الآن إلى التفسير، فنقول: قوله * (من شيء) * قال الواحدي * (من) * زائدة كقوله: ما جاء لي من أحد. وتقريره ما تركنا في الكتاب شيئا لم نبينه. وأقول: كلمة * (من) * للتبعيض فكان المعنى ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه، وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئا مما يحتاج المكلف إلى معرفته في هذا الكتاب. وأما قوله * (ثم إلى ربهم يحشرون) * فالمعنى أنه تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة. ويتأكد هذا بقوله تعالى: * (وإذا الوحوش حشرت) * (التكوير: 5) وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقتص للجماء من القرناء " وللعقلاء فيه قولان: القول الأول: أنه تعالى يحشر البهائم والطيور لإيصال الأعواض إليها وهو قول المعتزلة. وذلك لأن إيصال الآلام إليها من سبق جناية لا يحسن إلا للعوض، ولما كان إيصال العوض إليها واجبا، فالله تعالى يحشرها ليوصل تلك الأعواض إليها. والقول الثاني: قول أصحابنا أن الإيجاب على الله محال، بل الله تعالى يحشرها بمجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية. واحتجوا على أن القول بوجوب العوض على الله تعالى محال باطل بأمور: الحجة الأولى: أن الوجوب عبارة عن كونه مستلزما للذم عند الترك وكونه تعالى مستلزما للذم محال، لأنه تعالى كامل لذاته والكامل لذاته لا يعقل كونه مستلزما للذم بسبب أمر منفصل، لأن ما بالذات لا يبطل عنه عروض أمر من الخارج. والحجة الثانية: أنه تعالى مالك لكل المحدثات، والمالك يحسن تصرفه في ملك نفسه من غير حاجة إلى العوض. والحجة الثالثة: أنه لو حسن إيصال
الضرر إلى الغير لأجل العوض، لوجب أن يحسن منا
218

إيصال المضار إلى الغير لأجل التزام العوض من غير رضاه وذلك باطل، فثبت أن القول بالعوض باطل. والله أعلم. إذا عرفت هذا: فلنذكر بعض التفاريع التي ذكرها القاضي في هذا الكتاب. الفرع الأول: قال القاضي: كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام، وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا، فإنه يجب على الله حشره عقلا في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض والذي لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلا، إلا أنه تعالى أخبر أنه يحشر الكل، فمن حيث السمع يقطع بذلك. وإنما قلنا أن في الحيوانات من لا يستحق العوض البتة، لأنها ربما بقيت مدة حياتها مصونة عن الآلام ثم إنه تعالى يميتها من غير إيلام أصلا. فإنه لم يثبت بالدليل أن الموت لا بد وأن يحصل معه شيء من الإيلام، وعلى هذا التقدير فإنه لا يستحق العوض البتة. الفرع الثاني: كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض على الله. وهي أقسام: منها ما أذن في ذبحها لأجل الأكل ومنها ما أذن في ذبحها لأجل كونها مؤذية، مثل السباع العادية والحشرات المؤذية، ومنها آلمها بالأمراض، ومنها ما أذن الله في حمل الأحمال الثقيلة عليها واستعمالها في الأفعال الشاقة وأما إذا ظلمها الناس فذلك العوض على ذلك الظالم وإذا ظلم بعضها بعضا فذلك العوض على ذلك الظالم.
فإن قيل: إذا ذبح ما لا يؤكل لحمه على وجه التذكية فعلى من العوض؟ أجاب بأن ذلك ظلم والعوض على الذابح، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة. الفرع الثالث: المراد من العوض منافع عظيم بلغت في الجلالة والرفعة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل لها إلى تحصيل تلك المنفعة إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح فإنها كانت ترضى به، فهذا هو العوض الذي لأجله يحسن الإيلام والأضرار. الفرع الرابع: مذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة أن العوض منقطع. قال القاضي: وهو قول أكثر المفسرين، لأنهم قالوا إنه تعالى بعد توفير العوض عليها يجعلها ترابا، وعند هذا يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا. قال أبو القاسم البخلي: يجب أن يكون العوض دائما واحتج القاضي على قوله بأنه يحسن من الواحد منا أن يلتزم عملا شاقا والأجرة منقطعة، فعلمنا أن إيصال الألم إلى الغير غير مشروط بدوام الأجرة. واحتج البخلي على قوله، بأن قال: إنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة، وإماتتها توجب الألم وذلك الألم يوجب عوضا آخر، وهكذا إلى ما لا آخر له.
219

والجواب عنه: أنه لم يثبت بالدليل أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا مع الإيلام. والله أعلم. الفرع الخامس: أن البهيمة إذا استحقت على بهيمة أخرى عوضا، فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضا على الله تعالى فإنه ينقل ذلك العوض إلى المظلوم. وإن لم يكن الأمر كذلك فالله تعالى يكمل ذلك العوض، فهذا مختصر من أحكام الأعواض على قول المعتزلة. والله أعلم.
قوله تعالى
* (والذين كذبوا باياتنا صم وبكم فى الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) *
فيه مسائل: المسألة الأولى: في وجه النظم قولان: الأول: أنه تعالى بين من حال الكفار أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث كأن قلوبهم قد صارت ميتة عن قبول الإيمان بقوله * (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) * (الأنعام: 36) فذكر هذه الآية تقريرا لذلك المعنى الثاني أنه تعالى لما ذكر في قوله * (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) * (الأنعام: 38) في كونها دالة على كونها تحت تدبير مدبر قديم وتحت تقدير مقدر حكيم، وفي أن عناية الله محيطة بهم، ورحمته واصلة إليهم، قال بعده والمكذبون لهذه الدلائل والمنكرون لهذه العجائب صم لا يسمعون كلاما البتة، بكم لا ينطقون بالحق، خائضون في ظلمات الكفر، غافلون عن تأمل هذه الدلائل. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال ليس إلا من الله تعالى. وتقريره أنه تعالى وصفهم بكونهم صما وبكما وبكونهم في الظلمات وهو إشارة إلى كونهم عميا فهو بعينه نظير قوله في سورة البقرة * (صم بكم عمي) * (البقرة: 18). ثم قال تعالى: * (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) * وهو صريح في أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى. قالت المعتزلة: الجواب عن هذا من وجوه: الوجه الأول: قال الجبائي معناه أنه تعالى يجعلهم صما وبكما يوم القيامة عند الحشر. ويكونون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صما وبكما في الظلمات، ويضلهم بذلك عن الجنة
220

وعن طريقها ويصيرهم إلى النار، وأكد القاضي هذا القول بأنه تعالى بين في سائر الآيات أنه يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم. والوجه الثاني: قال الجبائي أيضا ويحتمل أنهم كذلك في الدنيا، فيكون توسعا من حيث جعلوا بتكذيبهم بآيات الله تعالى في الظلمات لا يهتدون إلى منافع الدين، كالصم والبكم الذين لا يهتدون إلى منافع الدنيا. فشبههم من هذا الوجه بهم، وأجرى عليهم مثل صفاتهم على سبيل التشبيه. والوجه الثالث: قال الكعبي قوله * (صم وبكم) * محمول على الشتم والإهانة، لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة. وأما قوله تعالى: * (من يشأ الله يضلله) * فقال الكعبي: ليس هذا على سبيل المجاز لأنه تعالى وإن أجمل القول فيه ههنا، فقد فصله في سائر الآيات وهو قوله * (ويضل الله الظالمين) * (إبراهيم: 27) وقوله * (وما يضل به إلا الفاسقين) * (البقرة: 26) وقوله * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (محمد: 17) وقوله * (يهدي به الله من اتبع رضوانه) * (المائدة: 16) وقوله * (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) * (إبراهيم: 27) وقوله * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سلبنا) * (العنكبوت: 69) فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال وإن كانت مجملة في هذه الآية، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات، ثم إن المعتزلة ذكروا تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل من وجوه: الأول: أن المراد من قوله * (من يشأ الله يضلله) * محمول على منع الألطاف فصاروا عندها كالصم والبكم. والثاني: * (من يشأ الله يضلله) * يوم القيامة عن طريق الجنة وعن وجدان الثواب، ومن يشأ أن يهديه إلى الجنة يجعله على صراط مستقيم، وهو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة. وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا
الاضلال إلا لمن يستحق عقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين. وأعلم أن هذه الوجوه التي تكلفها هؤلاء الأقوام إنما يحسن المصير إليها لو ثبت في العقل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره. وأما لما ثبت بالدليل العقلي القاطع أنه لا يمكن حمل هذا الكلام إلا على ظاهره كان العدول إلى هذه الوجوه المتكلفة بعيدا جدا، وقد دللنا على أن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعي، وبينا أن خالق ذلك الداعي هو الله، وبينا أن عند حصوله يجب الفعل، فهذه المقدمات الثلاثة توجب القطع بأن الكفر والإيمان من الله، وبتخليقه وتقديره وتكوينه، ومتى ثبت بهذا البرهان القاطع صحة هذا الظاهر، كان الذهاب إلى هذه التكلفات فاسدا قطعا، وأيضا فقد تتبعنا هذه الوجوه بالابطال والنقض في تفسير قوله * (ختم الله على قلوبهم) * (البقرة: 7) وفي سائر الآيات، فلا حاجة إلى الإعادة، وأقربها أن هذا الاضلال والهداية معلقان بالمشيئة، وعلى ما قالوه: فهو أمر واجب على الله تعالى يجب عليه أن يفعله شاء أم أبى والله أعلم.
221

المسألة الثالثة: قوله: * (والذين كفروا بآياتنا) * اختلفوا في المراد بتلك الآيات، فمنهم من قال: القرآن ومحمد، ومنهم من قال: يتناول جميع الدلائل والحجج، وهذا هو الأصح. والله أعلم.
قوله تعالى
* (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شآء وتنسون ما تشركون) *
اعلم أنه تعالى لما بين غاية جهل أولئك الكفار بين من حالهم أيضا أنهم إذا نزلت بهم بلية أو محنة يفزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه ولا يتمردون عن طاعته، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال الفراء للعرب في (أرأيت) لغتان: إحداهما: رؤية العين، فإذا قلت للرجل رأيتك كان المراد: أهل رأيت نفسك؟ ثم يثنى ويجمع. فنقول: أرأيتكما أرأيتكم، والمعنى الثاني: أن تقول أرأيتك، وتريد: أخبرني، وإذا أردت هذا المعنى تركت التاء مفتوحة على كل حال تقول: أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن. إذا عرفت هذا فنقول: مذهب البصريين: أن الضمير الثاني وهو الكاف في قولك: أرأيتك لا محل له من الاعراب، والدليل قوله تعالى: * (أرأيتك هذا الذي كرمت علي) * (الإسرار: 62) ويقال أيضا: أرأيتك زيدا ما شأنه، ولو جعلت الكاف محلا لكنت كأنك تقول: أرأيت نفسك زيدا ما شأنه، وذلك كلام فاسد، فثبت أن الكاف لا محل له من الاعراب، بل هو حرف لأجل الخطاب، وقال الفراء: لو كانت الكاف توكيدا لوقعت التثنية والجمع على التاء، كما يقعان عليها عند عدم الكاف، فلما فتحت التاء في خطاب الجمع، ووقعت علامة الجمع على الكاف، دل ذلك على أن الكاف غير مذكور للتوكيد. ألا ترى أن الكاف لو سقطت لم يصلح أن يقال لجماعة: أرأيت، فثبت بهذا انصراف الفعل إلى الكاف، وأنها واجبة لازمة مفتقر إليها. أجاب الواحد عنه: بأن هذه الحجة تبطل بكاف ذلك وأولئك، فإن علامة الجمع تقع عليها مع أنها حرف للخطاب، مجرد عن الاسمية، والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ نافع * (أرأيتكم. وأرأيت. وأفرأيت. وأرأيتك. وأفرأيتك) * وأشباه ذلك
222

بتخفيف الهمزة في كل القرآن، والكسائي ترك الهمزة في كل القرآن، والباقون بالهمزة. أما تخفيف الهمزة، فالمراد جعلها بين الهمزة والألف على التخفيف القياسي. وأما مذهب الكسائي فحسن، وبه قرأ عيسى بن عمر وهو كثير في الشعر، وقد تكلمت العرب في مثله بحذف الهمزة للتخفيف كما قالوا: وسله، وكما أنشد أحمد بن يحيى: وإن لم أقاتل فالبسوني برقعا بحذف الهمزة. أراد فألبسوني بإثبات الهمزة. وأما الذين قرأوا بتخفيف الهمزة فالسبب أن الهمزة عين الفعل والله أعلم. المسألة الثالثة: معنى الآية أن الله تعالى قال لمحمد عليه السلام: قل يا محمد لهؤلاء الكفار إن أتاكم عذاب الله في الدنيا وأتاكم العذاب عند قيام الساعة، أترجعون إلى غير الله في دفع ذلك البلاء والضر أو ترجعون فيه إلى الله تعالى؟ ولما كان من المعلوم بالضرورة أنهم إنما يرجعون إلى الله تعالى في دفع البلاء والمحنة لا إلى الأصنام والأوثان، لا جرم قال * (بل إياه تدعون) * يعني أنكم لا ترجعون في طلب دفع البلية والمحنة إلا إلى الله تعالى. ثم قال: * (فيكشف ما تدعون إليه) * أي فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم وتنسون ما تشركون به، وفيه وجوه: الأول: قال ابن عباس: المراد تتركون الأصنام ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع. الثاني: قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى أنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم، وهذا قول الحسن لأنه قال: يعرضون إعراض الناسي، ونظيره قوله تعالى: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله) * (يونس: 22) ولا يذكرون الأوثان. المسألة الرابعة: هذه الآية تدل على أنه تعالى قد يجيب الدعاء إن شاء وقد لا يجيبه، لأنه تعالى قال: * (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) * ولقائل أن يقول: إن قوله * (ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) يفيد الجزم بحصول الإجابة، فكيف الطريق إلى الجمع بين الآيتين. والجواب أن نقول: تارة يجزم تعالى بالإجابة وتارة لا يجزم، إما بحسب محض المشيئة كما هو قول أصحابنا، أو بحسب رعاية المصلحة كما هو قول المعتزلة، ولما كان كلا الأمرين حاصلا لا جرم وردت الآيتان على هذين الوجهين. المسألة الخامسة: حاصل هذا الكلام كأنه تعالى يقول لبدة الأوثان: إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله تعالى لا إلى الأصنام والأوثان، فلم تقدمون على عبادة الأصنام التي
223

لا تنتفعون بعبادتها البتة؟ وهذا الكلام إنما يفيد لو كان ذكر الحجة والدليل مقبولا. أما لو كان ذلك مردودا وكان الواجب هو محض التقليد، كان هذا الكلام ساقطا، فثبت أن هذه الآية أقوى الدلائل على أن أصل الدين هو الحجة والدليل. والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأسآء والضرآء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جآءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) *.
اعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الكفار عند نزول الشدائد يرجعون إلى الله تعالى، ثم بين في هذه الآية أنهم لا يرجعون إلى الله عند كل ما كان من جنس الشدائد، بل قد يبقون مصرين على الكفر منجمدين عليه غير راجعين إلى الله تعالى، وذلك يدل على مذهبنا من أن الله تعالى إذا لم يهده لم يهتد، سواء شاهد الآيات الهائلة، أو لم يشاهدها، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في الآية محذوف والتقدير: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا فخالفوهم فأخذناهم بالبأساء والضراء، وحسن الحذف لكونه مفهوما من الكلام المذكور. وقال الحسن (البأساء) شدة الفقر من البؤس (والضراء) الأمراض والأوجاع. ثم قال: * (لعلهم يتضرعون) * والمعنى: إنما أرسلنا الرسل إليهم وإنما سلطنا البأساء والضراء عليهم لأجل أن يتضرعوا. ومعنى التضرع التخشع وهو عبارة عن الانقياد وترك التمرد، وأصله من الضراعة وهي الذلة، يقال ضرع الرجل يضرع ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف، والمعنى أنه تعالى أعلم نبيه أنه قد أرسل قبله إلى أقوال بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا، والمقصود منه التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: أليس قوله * (بل إياه تدعون) * يدل على أنهم تضرعوا؟ وههنا يقول: قست قلوبهم ولم يتضرعوا. قلنا: أولئك أقوام، وهؤلاء أقوام آخرون. أو نقول أولئك تضرعوا لطلب إزالة البلية ولم يتضرعوا على سبيل الاخلاص لله تعالى فلهذا الفرق حسن النفس والاثبات.
224

* (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) *
ثم قال تعالى: * (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) * معناه نفي التضرع. والتقدير فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. وذكر كلمة (لولا) يفيد أنه ما كان لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوتهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم والله أعلم. المسألة الثانية: احتج الجبائي بقوله * (لعلهم يتضرعون) * فقال: هذا يدل على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم، وإنما سلط البأساء والضراء عليهم، لإرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا، وذلك يدل على أنه تعالى أراد الإيمان والطاعة من الكل. والجواب: أن كلمة (لعل) تفيد الترجي والتمني؛ وذلك في حق الله تعالى محال وأنتم حملتموه على إرادة هذا المطلوب، ونحن نحمله على أنه تعالى عاملهم معاملة لو صدرت عن غير الله تعالى لكان المقصود منه هذا المعنى، فإما تعليل حكم الله تعالى ومشيئته فذلك محال على ما ثبت بالدليل. ثم نقول إن دلت هذه الآية على قولكم من هذا الوجه فإنها تدل على ضد قولكم من وجه آخر، وذلك لأنها تدل على أنهم لم يتضرعوا لقسوة قلوبهم ولأجل أن الشيطان زين لهم أعمالهم. فنقول: تلك القسوة إن حصلت بفعلهم احتاجوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل، وإن حصلت بفعل الله فالقول قولنا، وأيضا هب أن الكفار إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح بسبب تزيين الشيطان، إلا أن نقول: ولم بقي الشيطان مصرا على هذا الفعل القبيح؟ فإن كان ذلك لأجل شيطان آخر تسلسل إلى غير النهاية، وإن بطلت هذه المقادير انتهت بالآخرة إلى أن كل أحد إنما يقدم تارة على الخير وأخرى على الشر، لأجل الدواعي التي تحصل في قلبه، ثم ثبت أن تلك الدواعي لا تحصل إلا بإيجاد الله تعالى فحينئذ يصح قولنا ويفسد بالكلية قولهم، والله أعلم.
قوله تعالى (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا
أخذناهم بغتة فإذا هم هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
اعلم أن هذا الكلام من تمام القصة الأولى فبين الله تعالى انه أخذهم أولا بالبأساء والضراء
لكي يتضرعوا. ثم بين في هذه الآية أنهم لما نسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء فتحنا عليهم
225

أبواب كل شئ ونقلناهم من البأساء والضراء إلى الراحة والرخاء وأنواع الآلاء والنعماء والمقصود
أنه تعالى عاملهم بتسليط المكاره والشدائد عليهم تارة فلم ينتفعوا به، فنقلهم من تلك الحالة إلى ضده
وهو فتح أبواب الخيرات عليهم وتسهيل موجبات المسرات والسعادات لديهم فلو ينتفعوا به أيضا.
وهذا كما يفعله الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى طلبا لصلاحه. حتى إذا فرحوا
بما أوتوا من الخير والنعم، لم يزيدوا على الفرح والبطر من غير انتداب لشكر ولا اقدام على
اعتذار وتوبة، فلا جرم أخذناهم بغتة
واعلم أن قوله (فتحنا عليهم أبواب كل شئ) معناه فتحنا عليهم أبواب كل شئ كان مغلقا
عنهم من الخير، (حتى إذا فرحوا) أي حتى إذا ظنوا أن الذي نزل بهم من البأساء والضراء ما كان
على سبيل الانتقام من الله. ولما فتح الله عليهم أبواب الخيرات ظنوا ان ذلك باستحقاقهم، فعند
ذلك ظهر أن قلوبهم قست وماتت. وانه لا يرجى لها انتباه بطريق من الطرق، لا جرم فاجأهم
الله بالعذاب من حيث لا يشعرون. قال الحسن: في هذه الآية مكر بالقوم ورب الكعبة، وقال
صلى الله عليه وسلم: إذا رأيت الله يعطى على المعاصي فان ذلك استدراج من الله تعالى ثم قرأ هذه
الآية. قال أهل المعاني: وانما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم
من حال السلامة والعافية وقوله (فإذا هم مبلسون) أي آيسون من كل خير. قال الفراء: المبلس الذي
انقطع رجاؤه، ولذلك قيل للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبلس. وقال الزجاج: المبلس الشديد
الحسرة الحزين، والابلاس في اللغة يكون بمعنى اليأس من النجاة عند ورود الهلكة، ويكون بمعنى
انقطاع الحجة، ويكون بمعنى الحيرة بما يرد على النفس من الليلة. وهذه المعاني متقاربة
ثم قال تعالى (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) الدابر التابع للشئ من خلفه كالولد للوالد
يقال: دبر فلان القوم يدبرهم دبورا ودبرا إذا كان آخرهم. قال أمية بن أبي الصلت:
فاستؤصلوا بعذاب حص دابرهم فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا
وقال أبو عبيدة: دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم. وقال الأصمعي الدابر الأصل يقال قطع
الله دابره أي أذهب الله أصله. وقوله (والحمد لله رب العالمين) فيه وجوه: الأول: معناه أنه تعالى
حمد نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم لان ذلك كان جاريا مجرى النعمة العظيمة على
أولئك الرسل في إزالة شرهم عن أولئك الأنبياء. والثاني: انه تعالى لما علم قسوة قلوبهم لزم
أن يقال: انه كلما ازدادت مدة حياتهم ازدادت أنواع كفرهم ومعاصيهم، فكانوا يستوجبون به
مريد العقاب والعذاب. فكان افناؤهم وأمانتهم في تلك الحالة موجبا ان لا يصيروا مستوجبين
226

قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من اله غير الله
يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون (46)
لتلك الزيادات من العقاب. فكان ذلك جاريا مجرى الانعام عليهم. والثالث: أن يكون هذا الحمد
والثناء انما حصل على وجود إنعام الله عليهم في أن كلفهم وأزال العذر والعلة عنهم ودبرهم بكل
الوجوه الممكنة في التدبير الحسن، وذلك بأن أخذهم أولا بالبأساء والضراء، ثم نقلهم إلا الآلاء
والنعماء وأمهلهم وبعث الأنبياء والرسل إليهم، فلما لم يزدادوا إلا انهما كا في الغي والكفر، أفناهم
الله وطهر وجه الأرض من شرهم، فكان قوله (الحمد لله رب العالمين) على تلك النعم
الكثيرة المتقدمة
قوله تعالى (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به
انظر كيف نصرف الآيات ثم ه يصدفون)
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من هذا الكلام ذكر ما يدل على وجود الصانع الحكيم المختار، وتقريره أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب فالأذن محل القوة السامعة والعين محل القوة الباصرة، والقلب محل الحياة والعقل والعلم. فلو زالت هذه الصفات عن هذه الأعضاء اختل أمر الإنسان وبطلت مصالحه في الدنيا وفي الدين. ومن المعلوم بالضرورة أن القادر على تحصيل هذه القوى فيها وصونها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله. وإذا كان الأمر كذلك، كان المنعم بهذه النعم العالية والخيرات الرفيعة هو الله سبحانه وتعالى فوجب أن يقال المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة. المسألة الثانية: ذكروا في قوله * (وختم على قلوبكم) * وجوها: الأول: قال ابن عباس: معناه وطبع على قلوبهم فلم يعقلوا الهدى. الثاني: معناه وأزال عقولكم حتى تصيروا كالمجانين. والثالث: المراد بهذا الختم الإماتة أي يميت قلوبكم. المسألة الثالثة: قوله * (من إله غير الله) * * (من) * رفع بالابتداء وخبره * (إله) * و * (غير) * صفة له وقوله * (يأتيكم به) * هذه الهاء تعود على معنى الفعل. والتقدير: من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم.
227

* (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون) *.
المسألة الرابعة: روي عن نافع * (به أنظر) * بضم الهاء وهو على لغة من يقرأ * (فخسفنا به وبداره الأرض) * (القصص: 81) فحذف الواو لالتقاء الساكنين فصار * (به انظر) * والباقون بكسر الهاء. وقرأ حمزة والكسائي * (يصدفون) * باشمام الزاي والباقون بالصاد أي يعرضون عنه. يقال: صدف عنه أي أعرض والمراد من تصريف الآيات إيرادها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحث يكون كل واحد منها يقوي ما قبل في الايصال إلى المطلوب فذكر تعالى أن مع هذه المبالغة في التفهيم والتقرير والإيضاح والكشف، انظر يا محمد أنهم كيف يصدفون ويعرضون. المسألة الخامسة: قال الكعبي: دلت هذه الآية على أنه تعالى مكنهم من الفهم، ولم يخلق فيهم الاعراض والصد ولو كان تعالى هو الخالق لما فيهم من الكفر لم يكن لهذا الكلام معنى. واحتج أصحابنا بعين هذه الآية وقالوا: إنه تعالى بين أنه بالغ في إظهار هذه الدلالة وفي تقريرها وتنقيحها وإزالة جهات الشبهات عنها، ثم إنهم مع هذه المبالغة القاطعة للعذر ما زادوا إلا تماديا في الكفر والغي والعناد، وذلك يدل على أن الهدى والضلال لا يحصلان إلا بهداية الله وإلا بإضلاله فثبت أن هذه الآية دلالتها على قولنا أقوى من دلالتها على قولهم والله أعلم.
قوله تعالى
* (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون) *.
اعلم أن الدليل المتقدم كان مختصا بأخذ السمع والبصر والقلب وهذا عام في جميع أنواع العذاب، والمعنى: أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحانه، ولا محصل لخير من الخيرات إلا الله سبحانه، فوجب أن يكون هو المعبود بجميع أنواع العبادات لا غيره.
فإن قيل: ما المراد بقوله * (بغتة أو جهرة) * قلنا العذاب الذي يجيئهم إما أن يجيئهم من غير سبق علامة تدلهم على مجيء ذلك العذاب أو مع سبق هذه العلامة. فالأول: هو البغتة. والثاني: هو الجهرة. والأول سماه الله تعالى بالبغتة، لأنه فاجأهم بها وسمى الثاني جهرة، لأن نفس العذاب وقع بهم وقد عرفوه حتى لو أمكنهم الاحتراز عنه لتحرزوا منه.
وعن الحسن أنه قال: * (بغتة أو جهرة) * معناه ليلا أو نهارا. وقال القاضي: يجب حمل هذا الكلام على ما تقدم ذكره لأنه لو جاءهم ذلك العذاب ليلا وقد عاينوا مقدمته، لم يكن بغتة ولو
228

جاءهم نهارا وهم لا يشعرون بمقدمته لم يكن جهرة. فأما إذا حملناه على الوجه الذي تقدم ذكره، استقام الكلام. فإن قيل: فما المراد بقوله * (هل يهلك إلا القوم الظالمون) * مع علمكم بأن العذاب إذا نزل لم يحصل فيه التمييز. قلنا: إن الهلاك وإن عم الأبرار والأشرار في الظاهر، إلا أن الهلاك في الحقيقة مختص بالظالمين الشريرين، لأن الأخيار يستوجبون بسبب نزول تلك المضار بهم أنواعا عظيمة من الثواب والدرجات الرفيعة عند الله تعالى، فذاك وإن كان بلاء في الظاهر، إلا أنه يوجب سعادات عظيمة؟ أما الظالمون فإذا نزل البلاء بهم فقد خسروا الدنيا والآخرة معا، فلذلك وصفهم الله تعالى بكونهم هالكين وذلك تنبيه على أن المؤمن التقي النقي هو السعيد، سواء كان في البلاء أو في الآلاء والنعماء وأن الفاسق الكافر هو الشقي، كيف دارت قضيته واختلفت أحواله، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن ءامن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا باياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) *.
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار فيما تقدم أنهم قالوا * (لولا نزل عليه آية من ربه) * (الأنعام: 37) وذكر الله تعلى في جوابهم ما تقدم من الوجوه الكثيرة ثم ذكر هذه الآية والمقصود منها أن الأنبياء والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات، بل ذاك مفوض إلى مشيئة الله تعالى وكلمته وحكمته فقال: * (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين) * مبشرين بالثواب على الطاعات، ومنذرين بالعقاب على المعاصي، فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو عمل القلب والاصلاح الذي هو عمل الجسد * (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كذبوا بآياتنا العذاب) * ومعنى المس في اللغة التقاء الشيئين من غير فصل. قال القاضي: إنه تعالى علل عذاب الكفار بكونهم فاسقين، وهذا يقتضي أن يكون كل فاسق كذلك، فيقال له هذا
229

معارض بما أنه خص الذين كذبوا بآيات الله بهذا الوعيد وهذا يدل على أن من لم يكن مكذبا بآيات الله أن يلحقه الوعيد أصلا. وأيضا فهذا يقتضي كون هذا الوعيد معللا بفسقهم فلم قلتم أن فسق من عرف الله وأقر بالتوحيد والنبوة والمعاد، مساو لفسق من أنكر هذه الأشياء؟ والله أعلم.
قوله تعالى
* (قل لا أقول لكم عندى خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلى قل هل يستوى الاعمى والبصير أفلا تتفكرون) *.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن هذا من بقية الكلام على قوله * (لولا نزل عليه آية من ربه) * (الأنعام: 37) فقال الله تعالى قل لهؤلاء الأقوام، إنما بعثت مبشرا ومنذرا، وليس لي أن أتحكم على الله تعالى وأمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه أمورا ثلاثة، أولها: قوله * (لا أقول لكم عندي خزائن الله) * فاعلم أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولا من عند الله، فاطلب من الله حتى يوسع علينا منافع الدنيا وخيراتها، ويفتح علينا أبواب سعادتها. فقال تعالى قل لهم إني لا أقول لكم عندي خزائن الله، فهو تعالى يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير لا بيدي والخزائن جمع خزانة، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه، بحيث لا تناله الأيدي. وثانيها: قوله * (ولا أعلم الغيب) * ومعناه أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولا من عند الله فلا بد وأن تخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار، حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح، ولدفع تلك المضار. فقال تعالى: قل إني لا أعلم الغيب فكيف تطلبون مني هذه المطالب؟ والحاصل أنهم كانوا في المقام الأول يطلبون منه الأموال الكثيرة والخيرات الواسعة، وفي المقام الثاني كانوا يطلبون منه الاخبار عن الغيوب، ليتوسلوا بمعرفة تلك الغيوب إلى الفوز بالمنافع والاجتناب عن المضار والمفاسد. وثالثها: قوله * (ولا أقول لكم إني ملك) * ومعناه أن الوقم كانوا يقولون * (مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) * (الفرقان: 7) ويتزوج ويخالط الناس. فقال تعالى: قل لهم إني لست من الملائكة. واعلم أن الناس اختلفوا في أنه ما الفائدة في ذكر نفي هذه الأحوال الثلاثة؟
230

فالقول الأول: أن المراد منه أن يظهر الرسول من نفسه الواضع لله والخضوع له والاعتراف بعبوديته، حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام. والقول الثاني: أن القوم كانوا يقترحون منه إظهار المعجزات القاهرة القوية، كقولهم * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90) إلى آخر الآية فقال تعالى في آخر الآية * (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) * (الإسراء: 93) يعني لا أدعي إلا الرسالة والنبوة، وأما هذه الأمور التي طلبتموها، فلا يكن تحصيلها إلا بقدرة الله، فكان المقصود من هذا الكلام إظهار العجز والضعف وأنه لا يستقل بتحصيل هذه المعجزات التي طلبوها منه. والقول الثالث: أن المراد من قوله * (لا أقول لكم عندي خزائن الله) * معناه إني لا أدعي كوني موصوفا بالقدرة اللائقة بالإله تعالى. وقوله * (ولا أعلم الغيب) * أي ولا أدعي كوني موصوفا بعلم الله تعالى. وبمجموع هذين الكلامين حصل أنه لا يدعي الإلهية. ثم قال: * (ولا أقول لكم إني ملك) * وذلك لأنه ليس بعد الإلهية درجة أعلى
حالا من الملائكة، فصار حاصل الكلام كأنه يقول لا أدعي الإلهية ولا أدعي الملكية ولكني أدعي الرسالة، وهذا منصب لا يمتنع حصوله للبشر، فكيف أطبقتم على استنكار قولي ودفع دعواي؟ المسألة الثانية: قال الجبائي: الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء، لأن معنى الكلام لا أدعي منزلة فوق منزلتي ولولا أن الملك أفضل وإلا لم يصح ذلك. قال القاضي: إن كان الغرض بما نفى طريقة التواضع؛ فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة، لم يدل على كونهم أفضل. المسألة الثالثة: قوله * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * ظاهره يدل على أنه لا يعمل إلا بالوحي وهو يدل على حكمين. الحكم الأول أن هذا النص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام وأنه ما كان يجتهد بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي، ويتأكد هذا بقوله * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * (النجم: 3، 4).
231

الحكم الثاني إن نفاة القياس قالوا: ثبت بهذا النص أنه عليه السلام ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه، لقوله تعالى: * (فاتبعوه) * (سبأ: 20) وذلك ينفي جواز العمل بالقياس، ثم أكد هذا الكلام بقوله * (قل هل يستوي الأعمى والبصير) * وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى عمل البصير. ثم قال: * (أفلا تتفكرون) * والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين وأن لا يكون غافلا عن معرفته، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع لعلهم يتقون) *
اعلم أنه تعالى لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين، أمر الرسول في هذه الآية بالانذار فقال: * (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا) * وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: (الإنذار) الاعلام بموضع المخافة وقوله * (به) * قال ابن عباس والزجاج بالقرآن. والدليل عليه قوله تعالى قبل هذه الآية * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * (الأنعام: 50) وقال الضحاك * (وأنذر به) * أي بالله، والأول أولى، لأن الانذار والتخويف إنما يقع بالقول وبالكلام لا بذات الله تعالى. وأما قوله * (الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) * ففيه أقوال: الأول: أنهم الكافرون الذين تقدم ذكرهم، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم من عذاب الآخرة، وقد كان بعضهم يتأثر من ذلك التخويف، ويقع في قلبه أنه ربما كان الذي يقوله محمد حقا، فثبت أن هذا الكلام لائق بهؤلاء، لا يجوز حمله على المؤمنين لأن المؤمنين يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم، والعلم خلاف الخوف والظن. ولقائل أن يقول: إنه لا يمتنع أن يدخل فيه المؤمنون، لأنهم وإن تيقنوا الحشر فلم يتيقنوا العذاب الذي يخاف منه، لتجويزهم أن يموت أحدهم على الإيمان والعمل الصالح وتجويز أن لا يموتوا على هذه الحالة، فلهذا السبب كانوا خائفين من الحشر، بسبب أنهم
232

كانوا مجوزين لحصول العذاب وخائفين منه. والقول الثاني: أن المراد منه المؤمنون لأنهم هم الذين يقرون بصحة الحشر والنشر والبعث والقيامة فهم الذين يخافون من عذاب ذلك اليوم. والقول الثالث: أنه يتناول الكل لأن لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر، سواء قطع بحصوله أو كان شاكا فيه لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان بالضرورة فكان هذا الخوف قائما في حق الكل ولأنه عليه السلام كان مبعوثا إلى الكل، وكان مأمورا بالتبليغ إلى الكل، وخص في هذه الآية الذين يخافون الحشر، لأن انتفاعهم بذلك الانذار أكمل، بسبب أن خوفهم يحملهم على إعداد الزاد ليوم المعاد. المسألة الثانية: المجسمة تمسكوا بقوله تعالى: * (أن يحشروا إلى ربهم) * وهذا يقتضي كون الله تعالى مختصا بمكان وجهة لأن كلمة (إلى) لانتهاء الغاية. والجواب: المراد إلى المكان الذي جعله ربهم لاجتماعهم وللقضاء عليهم. المسألة الثالثة: قوله * (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) * قال الزجاج: موضع * (ليس) * نصب على الحال كأنه قيل: متخلين من ولي ولا شفيع، والعامل فيه يخافون. ثم ههنا بحث: وذلك لأنه إن كان المراد من * (الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) * الكفار، فالكلام ظاهر، لأنهم ليس لهم عند الله شفعاء، وذلك لأن اليهود والنصارى كانوا يقولون: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) والله كذبهم فيه وذكر أيضا في آية أخرى فقال * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) * (غافر: 18) وقال أيضا * (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) * (المدثر: 48) وإن كان المراد المسلمين، فنقول: قوله * (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) * لا ينافي مذهبنا في إثبات الشفاعة للمؤمنين لأن شفاعة الملائكة والرسل للمؤمنين، إنما تكون بإذن الله تعالى لقوله * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * (البقرة: 255) فلما كانت تلك الشفاعة بإذن الله، كانت في الحقيقة من الله تعالى. المسألة الرابعة: قوله * (لعلهم يتقون) * قال ابن عباس: معناه وأنذرهم لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي. قالت المعتزلة: وهذا يدل على أنه تعالى أراد من الكفار التقوى والطاعة، والكلام على هذا النوع من الاستدلال قد سبق مرارا.
قوله تعالى
* (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ما عليك من
233

حسابهم من شىء وما من حسابك عليهم من شىء فتطردهم فتكون من الظالمين) *.
فيه مسائل: المسألة الأولى: روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء عن قومك؟ أفنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ أطردهم عن نفسك، فلعلك إن طردتهم اتبعناك، فقال عليه السلام: " ما أنا بطارد المؤمنين " فقالوا فأقمهم عنا إذا جئنا، فإذا أقمنا فأقعدهم معك إن شئت، فقال " نعم " طمعا في إيمانهم. وروي أن عمر قال له: لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون، ثم ألحوا وقالوا للرسول عليه السلام: أكتب لنا بذلك كتابا فدعا بالصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت هذه الآية، فرمى الصحيفة، واعتذر عمر عن مقالته، فقال سلمان وخباب: فينا نزلت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا وندنوا منه حتى تمس ركبتنا ركبته، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام، فنزل قوله * (واصبر
نفسك مع الذين يدعون ربهم) * (الكهف: 28) فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال: " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات ". المسألة الثانية: احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه: الأول: أنه عليه السلام طردهم والله تعالى نهاه عن ذلك الطرد، فكان ذلك الطرد ذنبا. والثاني: أنه تعالى قال: * (فتطردهم فتكون من الظالمين) * وقد ثبت أنه طردهم، فيلزم أن يقال: إنه كان من الظالمين. والثالث: أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال: * (وما أنا بطارد الذين آمنوا) * (هود: 29) ثم إنه تعالى أمر محمدا عليه السلام بمتابعة الأنبياء عليهم السلام في جميع الأعمال الحسنة، حيث قال: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90) فبهذا الطريق وجب على محمد عليه السلام أن لا يطردهم، فلما طردهم كان ذلك ذنبا. والرابع: أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة الكهف، فزاد فيها فقال: * (تريد زينة الحياة الدنيا) * (الكهف: 28) ثم إنه تعالى نهاه عن الالتفات إلى زينة الحياة الدنيا في آية أخرى فقال * (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا) * (طه: 131) فلما نهى عن الالتفات إلى زينة الدنيا، ثم
234

ذكر في تلك الآية أنه يريد زينة الحياة الدنيا كان ذلك ذنبا. الخامس: نقل أن أولئك الفقراء كلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الواقعة فكان عليه السلام يقول " مرحبا بمن عاتبني ربي فيهم " أو لفظ هذا معناه، وذلك يدل أيضا على الذنب. والجواب عن الأول: أنه عليه السلام ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما عين لجلوسهم وقتا معينا سوى الوقت الذي كان يحضر فيه أكابر قريش فكان غرضه منه التلطف في إدخالهم في الإسلام ولعله عليه السلام كان يقول هؤلاء الفقراء من المسلمين لا يفوتهم بسبب هذه المعاملة أمر مهم في الدنيا وفي الدين، وهؤلاء الكفار فإنه يفوتهم الدين والإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى فأقصى ما يقال إن هذا الاجتهاد وقع خطأ إلا أن الخطأ في الاجتهاد مغفور. وأما قوله ثانيا: إن طردهم يوجب كونه عليه السلام من الظالمين. فجوابه: أن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه، والمعنى أو أولئك الضعفاء الفقراء كانوا يستحقون التعظيم من الرسول عليه السلام فإذا طردهم عن ذلك المجلس كان ذلك ظلمأ، إلا أنه من باب ترك الأولى والأفضل لا من باب ترك الواجبات وكذا الجواب عن سائر الوجوه فإنا نحمل كل هذه الوجوه على ترك الأفضل والأكمل والأولى والأحرى، والله أعلم. المسألة الثالثة: قرأ ابن عامر * (بالغدوة والعشي) * بالواو وضم الغين وفي سورة الكهف مثله والباقون بالألف وفتح الغين. قال أبو علي الفارسي الوجه قراءة العامة بالغدة لأنها تستعمل نكرة فأمكن تعريفها بإدخال لام التعريف عليها. فأما (غدوة) فمعرفة وهو علم صيغ له، وإذا كان كذلك، فوجب أن يمتنع إدخال لام التعريف عليه، كما يمتنع إدخاله على سائر المعارف. وكتبة هذه الكلمة بالواو في المصحف لا تدل على قولهم، ألا ترى أنهم كتبوا " الصلاة " بالواو وهي ألف فكذا ههنا. قال سيبويه " غدوة وبكرة " جعل كل واحد منهما اسما للجنس كما جعلوا أم حبين اسما لدابة معروفة. قال وزعم يونس عن أبي عمرو أنك إذا قلت لقيته يوما من الأيام غدوة أو بكرة وأنت تريد المعرفة لم تنون. فهذه الأشياء تقوي قراءة العامة، وأما وجه قراءة ابن عامر فهو أن سيبويه قال زعم الخليل أنه يجوز أن يقال أتيتك اليوم غدوة وبكرة فجعلهما بمنزلة ضحوة، والله أعلم. المسألة الرابعة: في قوله * (يدعون ربهم بالغداة والعشي) * قولان: الأول: أن المراد من الدعاء الصلاة، يعني يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة، وهي صلاة الصبح وصلاة العصر وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد. وقيل: المراد من الغداة والعشي طرفا النهار، وذكر هذين القسمين تنبيها على كونهم مواظبين على الصلوات الخمس.
235

والقول الثاني: المراد من الدعاء الذكر قال إبراهيم: الدعاء ههنا هو الذكر والمعنى يذكرون ربهم طرفي النهار. المسألة الخامسة: المجسمة تمسكوا في إثبات الأعضاء لله تعالى بقوله * (يريدون وجهه) * وسائر الآيات المناسبة له مثل قوله * (ويبقى وجه ربك) * (الرحمن: 27). وجوابه أن قوله * (قل هو الله أحد) * (الإخلاص: 1) يقتضي الوجدانية التامة، وذلك ينافي التركيب من الأعضاء والأجزاء، فثبت أنه لا بد من التأويل، وهو من وجهين: الأول: قوله * (يريدون وجهه) * المعنى يريدونه إلا أنهم يذكرون لفظ الوجه للتعظيم، كما يقال هذا وجه الرأي وهذا وجه الدليل، والثاني: أن من أحب ذاتا أحب أن يرى وجهه، فرؤية الوجه من لوازم المحبة، فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا وتمام هذا الكلام تقدم في قوله * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) * (البقرة: 115).
ثم قال تعالى: * (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) * اختلفوا في أن الضمير في قوله * (حسابهم) * وفي قوله * (عليهم) * إلى ماذا يعود؟ والقول الأول: أنه عائد إلى المشركين، والمعنى ما عليك من حساب المشركين من شيء ولا حسابك على المشركين وإنما الله هو الذي يدبر عبيده كما يشاء وأراد. والغرض من هذا الكلام أن النبي صلى الله عليه وسلم يتحمل هذا الاقتراح من هؤلاء الكفار، فلعلهم يدخلون في الإسلام ويتخلصون من عقاب الكفر، فقال تعالى: لا تكن في قيد أنهم يتقون الكفر أم لا فإن الله تعالى هو الهادي والمدبر. القول الثاني: أن الضمير عائد إلى الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، وهم الفقراء، وذلك أشبه بالظاهر. والدليل عليه أن الكناية في قوله * (فتطردهم فتكون من الظالمين) * عائدة لا محالة إلى هؤلاء الفقراء، فوجب أن يكون سائر الكنايات عائدة إليهم، وعلى هذا التقدير فذكروا في قوله * (ما عليك من حسابهم من شيء) * قولين: أحدهما: أن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء وقالوا يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولا وملبوسا عندك، وإلا فهم فارغون عن دينك، فقال الله تعالى إن كان الأمر كما يقولون، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله، فحسابهم عليه لازم لهم، لا يتعدى إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم، كقوله * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الأنعام: 164). فإن قيل: أما كفى قوله * (ما عليك من حسابهم من شيء) * حتى ضم إليه قوله * (وما من حسابك عليهم من شيء) *
236

قلنا: جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة قصد بهما معنى واحد وهو المعنى في قوله * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا، كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. القول الثاني: ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم، ولا حساب رزقك عليهم، وإنما الرازق لهم ولك
هو الله تعالى، فدعهم يكونوا عندك ولا تطردهم. وأعلم أن هذه القصة شبيهة بقصة نوح عليه السلام إذ قال له قومه * (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) * (الشعراء: 111) فأجابهم نوح عليه السلام و * (قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) * (الشعراء: 112، 113) وعنوا بقولهم * (الأرذلون) * الحاكة والمحترفين بالحرف الخسيسة، فكذلك ههنا. وقوله * (فتطردهم) * جواب النفي ومعناه، ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم، بمعنى أنه لم يكن عليك حسابهم حتى أنك لأجل ذلك الحساب تطردهم، وقوله * (فتكون من الظالمين) * يجوز أن يكون عطفا على قوله * (فتطردهم) * على وجه التسبب لأن كونه ظالما معلوم طردهم ومسبب له. وأما قوله * (فتكون من الظالمين) * ففيه قولان: الأول: * (فتكون من الظالمين) * لنفسك بهذا الطرد، الثاني: أن تكون من الظالمين لهم لأنهم لما استوجبوا مزيد التقريب والترحيب كان طردهم ظلما لهم، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننآ أليس الله بأعلم بالشاكرين) *
فيه مسائل: المسألة الأولى: أعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أن كل واحد مبتلى بصاحبه، فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين في الإسلام مسارعين إلى قبوله فقالوا: لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين وأن نعترف لهم بالتبعية، فكان ذلك يشق عليهم. ونظيره قوله تعالى: * (أألقي الذكر عليه من بيننا) * (القمر: 25) * (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) * (الأحقاف: 11) وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحات والمسرات والطيبات والخصب والسعة، فكانوا يقولون كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء مع أنا بقينا في هذه الشدة والضيق والقلة.
237

* (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) * فأحد الفريقين يرى الآخر متقدما عليه في المناصب الدينية والفريق الآخر يرى الفريق الأول متقدما عليه في المناصب الدنيوية، فكانوا يقولون أهذا هو الذي فضله الله علينا، وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه، إما بحكم المالكية على ما هو قول أصحابنا أو بحسب المصلحة على ما هو قول المعتزلة، فكانوا صابرين في وقت البلاء، شاكرين في وقت الآلاء والنعماء وهم الذين قال الله تعالى فحقهم * (أليس الله بأعلم بالشاكرين) *. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال من وجهين: الأول: أن قوله * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) * تصريح بأن إلقاء تلك الفتنة من الله تعالى، والمراد من تلك الفتنة ليس إلا اعتراضهم على الله في أن جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدين والاعتراض على الله كفر وذلك يدل على أنه تعالى هو الخالق للكفر. والثاني: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا * (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) * والمراد من قوله * (من الله عليهم) * هو أنه عليهم بالإيمان بالله ومتابعة الرسول، وذلك يدل على أنم هذه المعاني إنما تحصل من الله تعالى لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد، فالله ما من عليه بهذا الإيمان، بل العبد هو الذي من على نفسه بهذا الإيمان، فصارت هذه الآية دليلا على قولنا في هذه المسألة من هذين الوجهين: أجاب الجبائي عنه، بأن الفتنة في التكليف ما يوجب التشديد، وإنما فعلنا ذلك ليقولوا أهؤلاء؟ أي ليقول بعضهم لبعض استفهاما لا إنكارا * (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) * بالإيمان؟ وأجاب الكعبي عنه بأن قال: * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) * ليصبروا أو ليشكروا، فكان عاقبة أمرهم أن قالوا * (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) * على ميثاق قوله * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) والجواب عن الوجهين أنه عدول عن الظاهر من غير دليل لا سيما والدليل العقلي قائم على صحة هذا الظاهر، وذلك لأنه لما كانت مشاهدة هذه الأحوال توجب الأنفة، والأنفة توجب العصيان والاصرار على الكفر، وموجب الموجب موجب، كان الالزام واردا، والله أعلم. المسألة الثالثة: في كيفية افتتان البعض بالبعض وجوه: الأول: أن الغنى والفقر كانا سببين لحصول هذا الافتتان كما ذكرنا في قصة نوح عليه السلام، وكما قال في قصة قوم صالح * (وقال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) * (الأعراف: 76) والثاني: ابتلاء الشريف بالوضيع. والثالث: ابتلاء الذكي بالأبله. وبالجملة فصفات الكمال مختلفة متفاوتة، ولا تجتمع في
238

إنسان واحد البتة، بل هي موزعة على الخلق وصفات الكمال محبوبة لذاتها، فكل أحد يحسد صاحبه على ما آتاه الله من صفات الكمال. فأما من عرف سر الله تعالى في القضاء والقدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض للخلق، وعاش عيشا طيبا في الدنيا والآخرة، والله أعلم. المسألة الرابعة: قال هشام بن الحكم: إنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند حدوثها، واحتج بهذه الآية، لأن الافتتان هو الاختبار والامتحان، وذلك لا يصح إلا لطلب العلم وجوابه قد مر غير مرة.
239