الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ٨
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
تم
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد الثامن
1

شناسنامه
2

1 سورة
1 الحجر
1 مكية
1 وعدد آياتها تسع وتسعون آية
5

1 " سورة الحجر "
3 محتوى السورة:
المشهور عند جل المفسرين أن سورة الحجر مكية، وهي السورة الثانية و
الخمسون من السور التي نزلت على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في
مكة المكرمة على ما ذكره ابن النديم في فهرسته تحت موضوع تاريخ القرآن، و
عدد آياتها تسع وتسعون آية باتفاق كل المفسرين.
ولم تشذ السورة في سياقها ومضامينها عن السور المكية السابقة لها، وكما
ذكرنا سابقا فإن السور المكية تشتمل على جمل من الكلام حول أصول الدين
كالتوحيد والمعاد، وإنذار المشركين والعاصين والظالمين، بالإضافة إلى ما
يحمله تاريخ الأقوام السالفة من دروس العبرة للاعتبار.
ويمكننا تلخيص ما حوته السورة في سبع نقاط:
1 - الآيات المتعلقة بمبدأ عالم الوجود، والإيمان به بالتدبر في أسرار
الإيجاد.
2 - الآيات المتعلقة بالمعاد وعقاب الفجرة الفسقة.
3 - أهمية القرآن باعتباره كتابا سماويا.
4 - محاولة إيقاظ وتنبيه البشر من خلال طرح قصة خلق آدم، وتمرد
إبليس، وتبيان عاقبة التمرد.
7

5 - زيادة في محاولة الإيقاظ والتنبيه من خلال عرض القصص القرآني لما
جرى لأقوام لوط وصالح وشعيب (عليهم السلام).
6 - إنذار وبشارة، مواعظ لطيفة وتهديدات عنيفة، إضافة إلى المرغبات
المشوقة.
7 - مخاطبة النبي صلى الله وعليه وآله وسلم لتقوية صبره وثباته قبال ما
يحاك من دسائس، وبالذات ما كان يجري داخل إطار مكة.
وقد اختير اسم السورة من الآية الثمانين التي ذكرت قوم صالح بأصحاب
الحجر، علما بأن السورة تناولت ذلك في خمس آيات، وهي السورة الوحيدة في
القرآن التي ذكرتهم بهذه التسمية، وسيأتي ذلك مفصلا في تفسير الآيات (80 -
84) إن شاء الله.
* * *
8

2 الآيات
الر تلك آيات الكتب وقرآن مبين (1) ربما يود الذين
كفروا لو كانوا مسلمين (2) ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم
الأمل فسوف يعلمون (3) وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب
معلوم (4) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون (5)
2 التفسير
3 الأماني الزائفة!
سورة أخرى تفتتح بالحروف المقطعة (ألف، لام، وراء) لتبين من جديد أن
مفردات كتاب نور السماء إلى ظلام أهل الأرض، ما هي إلا عين تلك الأبجدية
التي تلوك ألفاظها ألسن كل البشر، صغيرهم وكبيرهم، بين مختلف اللغات، ومع
ذلك فلا يستطيع أي مخلوق الوصول لبناء وتركيب كلام القرآن، وهو ذروة
التحدي الرباني المعجز، وعليه فقد جاءت تلك آيات الكتاب وقرآن مبين
مباشرة.
كما نعلم أن " تلك " اسم إشارة للبعيد، والمفروض في هذا الموضع استعمال
اسم الإشارة (هذه) باعتباره يدل على القرب، لأن القرآن كتاب بين أيدينا، إلا إن
9

لغة العرب - كما بينا سابقا - تسمح بذلك لبيان عظمة المشار إليه، فالمراد أن لشأن
القرآن عظمة، وكأنه في موضع بعيد جدا بين طيات السماء لا يناله إلا من ملك
مستلزمات التحليق إليه. ويقارب ذلك ما نتداوله فيما بيننا عند تعظيم شخص
معين فنقول له مثلا: (إن سمح لنا ذلك السيد أن...) فنستعمل (ذلك) مع كون
الشخص مخاطبا.
وأما بشأن مجئ صيغة " قرآن " نكرة فلبيان عظمته أيضا، وذكر " القرآن "
بعد " الكتاب " تأكيد، ووصفه بال‍ " مبين " لأنه يظهر الحقائق ويبين الحق من
الباطل.
وأما ما احتمله بعض المفسرين من أن المراد بكلمة " الكتاب " إشارة إلى
التوراة والإنجيل، فهو كما يبدو بعيد جدا ويفتقد إلى الدليل.
ثم يحذر الذين يصرون على الفساد ومخالفة آيات الله الجلية، ويخبر بأنهم
سوف يندمون حين ينكشف الغطاء يوم القيامة بما كسبت أيديهم من كفر
وتعصب أعمى وعناد. ويقول: ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
فالمراد بكلمة " يود " التمني حسب ما ورد في تفسير الميزان، وذكر كلمة
" لو " للدلالة على تمنيهم الإسلام في وقت لا يمكنهم فيه العودة إلى ما كانوا
ينكرون، وهذه إشارة إلى أن تمنيهم سيكون في العالم الآخر وبعد معاينة نتائج
الأعمال.
ويؤيد هذا المعنى وما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: " ينادي مناد يوم
القيامة يسمع الخلائق إنه لا يدخل الجنة إلا مسلم، فثم يود سائر الخلائق أنهم
كانوا مسلمين ". (1)

1 - مجمع البيان، ج 3، ص 328، كذلك ورد الحديث الأول في تفسير الثقلين عن تفسير العياشي، وأورد الفخر الرازي في
تفسيره حديثا يشابه الحديث الثاني مع تفاوت يسير، وذكر في تفسير الطبري أيضا عدة أحاديث في مضمون الحديث الثاني
ضمن تفسير الآية المذكورة.
10

وروي أيضا عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إذا اجتمع أهل النار في النار
ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين،
قالو: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت
لنا ذنوب (كبائر) فأخذنا بها (وهذا الاعتراف بالذنب والتقصير ولوم الأعداء يكون
سببا لأن) يسمع الله عز وجل ما قالوا فأمر من كان في النار من أهل الإسلام
فأخرجوا منها فحينئذ يقول الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين ". (1)
وربما كان ظاهر الآية يوحي إلى أولئك الكفرة الذين ما زالت جذوة الفطرة
تسري في أعماق وجدانهم، وحينما لمسوا من نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الآيات
الربانية التي تناغي أوتار القلوب، لانت قلوبهم وتمنوا أن لو يكونوا مسلمين، إلا
أن تعصبهم الأعمى وعنادهم القاتم، أو قل منافعهم المادية حجبتهم عن قبول
دعوة الحق، وبذلك بقوا بين قضبان كفرهم واستحوذت عليهم أحابيل الكفر و
الضلال.
ذكر لنا أحد الأصدقاء من المؤمنين المجاهدين وكان قد سافر إلى أوروبا
قائلا: ذات مرة التقيت بأحد المسيحيين - وكان رجلا منصفا - وبعد أن بينت له
بعض خصال ديننا، استهوته ومال إليها قائلا: أهنئكم من أعماقي على عظمة
معتقدكم، ولكن - ماذا نصنع مع الظروف الاجتماعية التي أجبرتنا على أن لا نحيد
عنها!
ومن تاريخ الإسلام نطالع ما حصل لقيصر الروم عندما وصله رسول
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويذكر بأن القيصر قد أظهر الإيمان سرا للرسول حتى أنه رغب في
دعوة قومه لدين التوحيد إلا أنه خاف قومه وفكر بامتحانهم ف‍ (أمر مناديا ينادي:
ألا إن هرقل قد ترك النصرانية واتبع دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأقبل جنده بأسلحتهم حتى

1 - المصدر السابق.
11

طافوا بقصره، فأمر مناديه فنادى: ألا إن قيصر إنما أراد أن يجربكم كيف صبركم
على دينكم، فارجعوا فقد رضي عنكم. ثم قال للرسول: إني أخاف على ملكي. و
إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، والذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني
أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته). (1)
وعلى أية حال، ينبغي التنويه بعدم وجود تعارض بين أي من التفسيرين،
فيمكن حمل الآية على ندم بعض من الكافرين في كلا العالمين (الدنيا والآخرة)،
واعتبار عدم استطاعتهم العودة إلى الإسلام في حياتهم الدنيا وفي الآخرة لجهات
مختلفة - فتأمل.
ثم يأتي نداء السماء بلهجة لاذعة، يا محمد ذرهم يأكلوا ويتمتعوا
ويلههم الأمل فسوف يعلمون فهم كالأنعام التي لا تعرف سوى الحقل
والعلف، ولا تفهم سوى اللذات المادية، وكل ما تريده لا يتعدى إطار ما تعرف
وتفهم.
إنهم لا يدركون فقه الحقائق، لأن حجب الغرور والغفلة والأماني الزائفة
ختمت على قلوبهم.
ولكن، عندما يصفع الأجل وجوههم وترتفع تلك الحجب عن أعينهم،
وحينما يجدون أنفسهم أمام الموت أو في عرصة يوم القيامة، هنالك سيدركون
عظمة حجم غفلتهم ومدى خسرانهم، وكيف أنهم قد ضيعوا أغلى ما كانوا يملكون!
الآية التالية توضح محدودية اللذائذ الدنيوية لكي لا يظن أحد إنما خالدة
فتقول: وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ثم يقول تعالى: ما تسبق
من أمة أجلها وما يستأخرون.
فقد سرت سنة الباري جل شأنه بأن يعطي المدة الكافية لرجوع المضللين

1 - مكاتيب الرسول، ج 1، ص 112.
12

إلى بارئهم، من خلال ابتلائهم بالشدائد الصعبة تارة، وبفيوضات رحمة الرخاء
تارة أخرى، فمن لا تنفعه البشارة يأتيه الإنذار وهكذا، كل ذلك إتماما للحجة
عليهم.
صحيح أن المصلحة الموجبة للتربية الربانية تقتضي (بعلم رب الأرباب) أن
يمهل ولكنه سبحانه لا يهمل، وعاجلا أم آجلا سينال كل نصيبه بما كسبت يداه.
من الآيتين الأخيرتين، تتضح لنا فلسفة تكرار آيات القرآن لذكر تأريخ
الأمم السابقة.
أفلا تكفينا قصص السابقين عبرة لإصلاح أنفسنا والرجوع إلى الله تعالى؟
بل كيف نسترخي بالقعود حتى يقدر علينا ما كتب على الذين ضلوا وظلموا من
قبلنا؟ اذن وعلينا الاعتبار، وإلا فسنكون عبرة لمن سيأتي بعدنا.
* * *
2 ملاحظة:
3 الغفلة وطول الأمل
مما لا شك فيه أن الأمل بمثابة العامل المحرك لعجلة حياة الإنسان، فلو
ارتفع الأمل يوما من قلوب الناس لارتبكت مسيرة الحياة ولا تجد إلا القليل ممن
يجد في نفسه دافعا لمواجهة صراع الحياة معه، والحديث النبوي الشريف: " الأمل
رحمة لأمتي، ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرا " (1)
يشير لهذه الحقيقة.
وإذا ما تجاوز الأمل حده المعقول فإنه سيتحول إلى (طول أمل) وهو ما ينذر
بالإنحراف والهلاك، ومثله كمثل ماء المطر الذي يمثل عامل الحياة الفياض

1 - سفينة البحار، ج 1، 30 (أمل).
13

للأرض والنبات والحيوان، فلو زاد عن حد الحاجة إليه، أصبح عاملا للغرق
والهلاك.
وهذا الأمل القاتل هو أساس الجهل بالله وعدم معرفة الحق والابتعاد عن
الحقيقة، ويؤدي إلى تقوقع الانسان في دائرته الفردية بما ينسجه الخيال الواسع
ويبتعد عن هدف وجود الإنسان على الأرض والمصير الذي يصبو إليه.
ويحدثنا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن هذا المضمون بقوله " يا أيها الناس، إن
أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد
عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة " (1).
حقا، كم هم أولئك الذين امتازوا بالملكات الفائقة والكفاءات اللائقة، ولكنهم
سقطوا في شباك فخ طول الأمل فتحولوا إلى موجودات ضعيفة، بل وممسوخة!
وأصبحوا لا يستطيعون تقديم شئ لمجتمعهم، بل ضيعوا حتى ما ينفع أنفسهم
وأثقلوا عما يسمون به إلى التكامل.
وهذه الصورة نتلمس ملامحها بجلاء في دعاء كميل: " وحبسني عن نفعي بعد
أملي ".
بديهي أن الأمل الذي يتجاوز الحد المعقول، يجعل الإنسان عرضة للانهماك
والعجز والاضطراب، ويصور لصاحبه أن هذه الحال ستوصله إلى السعادة
والرفاه، وما يدري أنه يخطو صوب جرف الشقاء والنكد.
وغالبا ما تطوى صفحات هؤلاء بالدمعة الجارية والحسرة لما آل إليه المآل
ليكونوا عبرة لكل ذي عين بصيرة وأذن سميعة.
* * *

1 - نهج البلاغة، من الخطبة 42.
14

2 الآيات
وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6) لو ما
تأتينا بالملائكة إن كنت من الصدقين (7) ما ننزل الملائكة إلا
بالحق وما كانوا إذا منظرين (8)
2 التفسير
3 طلب نزول الملائكة:
تبتدئ الآيات بتبيان موقف العداء الأعمى والتعصب الأصم للقرآن الحكيم
والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الكفار، فتقول: وقالوا يا أيها الذي نزل عليه
الذكر إنك لمجنون.
ومن خلال كلامهم يظهر بجلاء مدى وقاحتهم وسوء الأدب الذي امتازوا به
حين مخاطبتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتارة يقولون: يا أيها الذي، وأخرى: نزل
عليه الذكر بصيغة الهزؤ والإنكار لآيات الله سبحانه، وثالثة: يستعملون أدوات
التوكيد " إن " ولام القسم ليتهموا أشرف خلق الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنون!
نعم، الخصم المريض الجاهل حينما يقابل حكيما لا نظير له، فأول ما يرميه
بالجنون، لأنه ينطلق من جهله الذي لا يستوعب الحكمة والمعقول، فيرى كل ما
فوق تصوره القاصر غير معقول، ويوصم خصمه بالمجنون!
15

هؤلاء الاشخاص لديهم تعصب خاص نحو كل ما ألفوه في محيطهم
الاجتماعي حتى وإن كان ضلالا وانحرافا، لذا تراهم يواجهون كل دعوة جديدة
على أساس أنها غير معقولة، فهم يخشون من كل جديد، ويتمسكون بشدة
بالعادات والتقاليد القديمة.
أضف إلى ذلك، أن من استهوته الدنيا وعاش لها لا يفقه المعاني الروحية
والقيم الإنسانية ويوزن كل شئ بالمعايير المادية، فإذا شاهد شخصا يضحي بكل
شئ وحتى بنفسه لأجل أن يصل إلى هدف معنوي، فسوف لا يصدق بأنه عاقل،
لأن العقل في عرفهم هو ما يصيب: المال الوافر، الزوجة الجميلة، الحياة المرفهة،
والوجاهة الكاذبة!
وعليه، فحينما يرون رجلا قد عرضت عليه الدنيا بكل ما يحلمون به فأبى أن
يقبلها بقوله: " والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك
هذا الأمر ما تركته " فسيقولون عنه: إنه لمجنون!
الملفت في التهم الموجهة إلى أنبياء الله تعالى أنها تحمل بين طياتها تضادا
واضحا يلمس بأدنى تدبر، ففي الوقت الذي يرمون النبي بالمجنون يعودون
ويقولون عنه: إنه لساحر، فمع أن الساحر لابد له من الذكاء والنباهة، فهل يعقل أن
يكون الساحر، مجنونا؟!
إنهم لم يكتفوا بنسبة الجنون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل تحججوا قائلين: لو ما
تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين.
فيجيبهم الباري جل شأنه: ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا
منظرين. فلو ثم انزال الملائكة وشاهدوا الحقيقة بأعينهم ثم لم يؤمنوا بما
فسوف يحيق بهم، العذاب الإلهي دون إمهال.
وللمفسرين وجوها متباينة في تفسير ما ننزل الملائكة إلا بالحق:
1 - يرى البعض، أن أمر تنزيل الملائكة لا يتعلق بما يتقوله القائلون تحججا،
16

بل هو إعجاز رباني لإظهار الحق وإحقاقه.
وبعبارة أخرى، فالإعجاز ليس أمرا ترفيهيا يناغي تصورات الأخرين بقدر
ما هو حجة إلهية لإثبات الحق وإماطة الباطل.
وقد أشبعت هذه الحقيقة بما فيه الكفاية لمن يرى النور نورا والظلام ظلاما
من خلال ما أوصله نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق القرآن والمعاجز الأخرى.
2 - المقصود من كلمة " الحق " هو العقاب الدنيوي بالبلاء المهلك، وبعبارة
أخرى (عذاب الاستئصال).
أي... في حال عدم إيمان الكفار المعاندين بعد نزول الملائكة على ضوء
اقتراحهم فهم هالكون قطعا.
وبهذا تكون جملة وما كانوا إذا منظرين مؤكدة لهذا المعنى، وأما على
التفسير الأول فإنها تتناول موضوعا جديدا.
3 - وقيل المراد بالحق في الآية الموت، أي أن الملائكة لا تنزل إلا لقبض
الأرواح.
لكن هذا المعنى بعيد جدا أمام ما يحفل به القرآن من ذكر نزول الملائكة في
قصتي إبراهيم ولوط عليهما السلام ومعركة بدر... الخ.
4 - وقيل المراد بالحق الشهادة (المشاهدة).
أي... ما دام الإنسان يعيش في عالم الدنيا فهو عاجز عن رؤية ما وراء هذا
العالم حيث هناك تسبح الملائكة بحمد ربها، لأن الحجب المادية قد أفسدت
رؤيته ولا يتسنى له ذلك إلا بعد الرحيل إلى العالم الآخر، وحين ذلك ينتهي مفعول
الماديات فتزال الحجب ويرى الملائكة.
يواجه هذا التفسير نفس ما واجهه التفسير الثالث من إشكال، فقوم لوط مثلا،
17

على ما كانوا عليه من كفر وانحراف فقد رأوا ملائكة العذاب في دنياهم (1).
من خلال ما تقدم يتبين لنا أن التفسيرين الأول والثاني ينسجمان مع ظاهر
الآية دون الآخرين.
أما ما ورد في ذيل الآية من عدم الامهال بعد استجابة مطاليبهم في رؤية
المعاجز الحسية وعدم ايمانهم بها، فلأنه قد تمت الحجة عليهم وانتفت جميع
اعذارهم وتبريراتهم، وبما أن استدامة الحياة إنما هو لأجل اتمام الحجة واحتمال
توبة ورجوع الافراد المنحرفين إلى الصراط المستقيم، وهذا الامر لا موضوع له
في مثل هؤلاء الاشخاص، فلذلك يحين أجلهم وينالون جزاءهم الذي
يستحقونه. (فتدبر)
* * *

1 - راجع سورة هود، 81.
18

2 الآية
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)
2 التفسير
3 حفظ القرآن من التحريف:
بعد أن استعرضت الآيات السابقة تحجج الكفار واستهزاءهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والقرآن، تأتي هذه الآية المباركة لتواسي قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة ولتطمئن
قلوب المؤمنين المخلصين من جهة أخرى، من خلال طرح مسألة حيوية ذات
أهمية بالغة لحياة الرسالة، ألا وهي.. حفظ القرآن من أيادي التلاعب والتحريف
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.. فبناء هذا القرآن مستحكم وشمس
وجوده لا يغطيها غبار الضلال، ومصباح هديه أبدي الإنارة، ولو اتحد أعتى
جبابرة التاريخ وطغاته وحكامه الظلمة، محفوفين بعلماء السوء، ومزودين
بأقوى الجيوش عدة وعتادا، على أن يخمدوا نور القرآن، فلن يستطيعوا، لأن
الحكيم الجبار سبحانه تعهد بحفظه وصيانته..
وقد اختلف المفسرون في دلالة (حفظ القرآن) في هذه الآية المباركة:
1 - قال بعضهم: الحفظ من التحريف والتغيير، والزيادة والنقصان.
2 - وقال البعض الآخر: حفظ القرآن من الضياع والفناء إلى يوم قيام الساعة.
19

3 - وقال غيرهم: حفظه أمام المعتقدات المضلة المخالفة له.
بما أنه لا يوجد أي تضاد بين هذه التفاسير وتدخل ضمن المفهوم العام
لعبارة إنا له لحافظون فلا داعي لحصر مصاديقها في بعد واحد، خصوصا وإن
" لحافظون " ذكرت بصيغة مطلقة وليس هناك ما يخصصها.
والصحيح، وفقا لظاهر الآية المذكورة، أن الله تعالى وعد بحفظ القرآن من
جميع النواحي: من التحريف، من التلف والضياع، ومن سفسطات الأعداء
المزاجية ووساوسهم الشيطانية.
أما ما احتمله بعض قدماء المفسرين بأنه الحفظ على شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
باعتبار أن ضمير " له " في الآية يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدلالة إطلاق لفظة " الذكر "
على شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض الآيات (1)، فهو احتمال يتعارض مع سياق
الآيات السابقة التي عنت ب‍ " الذكر " " القرآن "، بالإضافة إلى إشارة الآية المقبلة
لهذا المعنى.
* * *
3 بحث في عدم تحريف القرآن:
المشهور بين أوساط جل علماء المسلمين شيعة وسنة، أن القرآن لم يتعرض
لأي نوع من التحريف، وأن الذي بين أيدينا هو عين القرآن الذي نزل على صدر
الحبيب محمد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فلا زيادة أو نقصان، حتى ولو بكلمة واحدة، أو قل
بحرف واحد.
ومن جملة من صرح بهذا من العلماء الأعلام الشيعة (من المتقدمين
والمتأخرين) تغمدهم الله برحمته.

1 - راجع سورة الطلاق، الآية العاشرة.
20

1 - الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (460 ه‍ ق)، وله بحث صريح
وقاطع بهذا الشأن في أول تفسيره المعروف ب‍ (التبيان).
2 - الشريف المرتضى، ويعتبر من كبار علماء الإمامية في القرن الرابع
الهجري.
3 - الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه المعروف برئيس المحدثين،
حيث يقول في بيان عقائد الإمامية: (إن اعتقادنا بالقرآن أنه سالم من أي
تحريف).
4 - المفسر الكبير الشيخ الطبرسي، وله في مقدمة تفسيره بحث مفصل بهذا
الشأن.
5 - المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، من كبار العلماء المتأخرين.
6 - المرحوم المحقق اليزدي، وقد نقل في كتابه (العروة الوثقى) مسألة عدم
تحريف القرآن عن جمهور مجتهدي الشيعة.
7 - بالإضافة إلى جمع من العلماء الآخرين، أمثال: الشيخ المفيد، الشيخ
البهائي، القاضي نور الله مع سائر محققي الشيعة.
وقد نحى هذا المنحى علماء ومحققوا أهل السنة.
وقد نقل عن بعض محدثي الشيعة وبعض أهل السنة، اعتقادهم بوقوع
التحريف في القرآن. إلا أن كبار علماء الفريقين بأدلتهم القاطعة قد أبطلوا زعم
هؤلاء وأدخلوه في حيز النسيان.
وأفاد العلامة الشريف المرتضى في جواب (المسائل الطرابلسيات) " إن
صحة نقل القرآن واضحة وبينة كمعرفتنا لعواصم العالم والحوادث المهمة في
التأريخ والكتب الشهيرة "
فهل هناك من يشك في وجود مدن كمكة والمدينة أو لندن وباريس وإن لم
يزرها؟! أو هل هناك من ينكر وقوع الهجوم المغولي على الشرق، الثورة
21

الفرنسية، الحرب العالمية الأولى أو الثانية؟!
فإن لم يكن هناك من يشك أو ينكر، بسبب تواتر ذكر وجودها، فكذلك
آيات القرآن الكريم، وهذا ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وإذا كان بعض المغرضين قد نسبوا للشيعة اعتقادهم بتحريف القرآن، فغايتهم
إشعال فتيل التفرقة والفتنة بين الشيعة والسنة، وقد فندت كتب كبار علماء الشيعة
هذه الأباطيل الفاقدة لأي دليل منطقي.
ولا نستغرب من الفخر الرازي قوله في ذيل الآية مورد البحث: (إن الآية:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون دليل على بطلان قول الشيعة في حصول
التغيير والزيادة والنقصان في القرآن)، مما نعلمه عن هذا الرجل من حساسية
وتعصب تجاه الشيعة.
وهنا.. لابد من كلمة: إن كان يقصد بالشيعة كبار علمائهم ومحققيهم، فليس
هناك من يعتقد بذلك.
وإن كان يقصد بوجود قول ضعيف بهذا الشأن بين أوساط الشيعة، فإن نظيره
موجود في أوساط السنة أيضا، وهو ما لم يعتن به من قبل الطرفين.
وقد تطرق لذلك بوضوح المحقق الشيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء في
كتابه (كشف الغطاء) بقوله: لا ريب أنه (أي القرآن) محفوظ من النقصان بحفظ
الملك الديان، كما دل عليه صريح القرآن، وإجماع العلماء في كل زمان، ولا عبرة
بنادر (1).
إن التأريخ الإسلامي مزدحم بالتهم الباطلة المتغذية من ثدي العصبية المقيتة،
مع علمنا القاطع بأن أعداء الإسلام يقفون وراء حياكة ونشر هذه التهم لإيقاع
البغضاء بين أبناء الدين الواحد، وأن غاية ما يسعون إليه أن يروا المسلمين أمة

1 - تفسير آلاء الرحمن، 35.
22

مفككة غير قادرة على القيام بمهامها الوحدوية التوحيدية.
ترى كاتبا معروفا (من أهل الحجاز) في عرض ذمه للشيعة من خلال كتابه
(الصراع) يقول: (والشيعة هم أبدا أعداء المساجد) (1).
والحال لو أجرينا إحصاءا لعدد المساجد في شوارع وأسواق وأزقة المدن
الشيعية لأخذ منا الوقت الطويل لكثرتها، لدرجة أن بعضا من الشيعة بات يشكل
على كثرة المساجد في المنطقة الواحدة ويرى لو يلتفت المحسنون لدور الأيتام
والمستشفيات الخيرية وما شاكلها، بدلا من بناية المساجد لكفاية الموجود ومع
هذا ترى كاتبا معروفا يتحدث بصراحة عن أمر يدعو إلى الضحك.
وعليه فلا ينبغي الاستغراب لما افتراه الفخر الرازي.
3 أدلة عدم تحريف القرآن:
1 - أدلة عدم تحريف القرآن كثيرة - فبالإضافة إلى الآية محل البحث وآيات
اخر - كيفية تعامل الناس مع هذا الكتاب السماوي العظيم عبر التأريخ.
وقبل البداء ينبغي التنويه بأن من احتمل التحريف في القرآن، إنما أراد بذلك
حصول النقص فيه، ولم نر من احتمل الزيادة في القرآن.
ونظرة فاحصة إلى تاريخ حياة المسلمين نرى من خلالها أنهم كانوا يعايشون
القرآن في كافة مرافق حياتهم، فهو القانون والدستور الحاكم، ونظام الدولة، وهو
الكتاب المقدس السماوي ورمز العبادة.. وبعد هذا كله هل يحتمل أن تطرأ عليه
الزيادة أو النقصان؟!
يحدثنا التأريخ بأن القرآن ما كان ليفارق الإنسان المسلم في: صلاته،
المسجد، البيت، ميدان الحرب عند مواجهة الأعداء، بل إن المسلمين كانوا

1 - الصراع، لعبد الله علي القصيمي، ج 2، ص 23، على ما نقل عنه العلامة الأميني في الغدير، ج 3، ص 300.
23

يجعلون تعليم القرآن مهورا للنساء. فكان للقرآن الحضور الفاعل في كل صغيرة
وكبيرة من شؤون المسلمين، حتى أن الطفل ينمو على هديه.
ومرة أخرى نقول: أو يعقل أن يصاب هذا الكتاب السماوي المقدس بسهام
التحريف والتغيير وهو محفوظ في قلوب وسلوك المسلمين على مر التأريخ؟!
لقد تم جمع القرآن - كما ذكرنا في المجلد الأول من هذا التفسير - في عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واهتم به المسلمون الأوائل أقصى درجات الاهتمام، في مجال
تعلم أحكامه وحفظه، لدرجة أصبحت فيها مكانة الفرد الاجتماعية تقاس بقدر
حفظه من سور القرآن الكريم، حتى أصبح عدد حفاظ القرآن من الكثرة بحيث
أنه في إحدى المعارك قتل فيها أربعة آلاف منهم (1).
وكذلك الحال في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما استشهد سبعون رجلا من
الصحابة الذين حفظوا القرآن في معركة بئر معونة - وهي إحدى المناطق المجاورة
للمدينة - (2).
من هذين المثلين (وأمثالهما كثير) يتضح لنا أن حفظة وقراء ومعلمي القرآن
الكريم من الكثيرة بحيث يستشهد منهم في معركة واحدة ذلك العدد الضخم.
وهذا طبيعي جدا إذا ما نظرنا إلى طريقة تعامل المسلمين مع القرآن، باعتباره
القانون الحاكم النافذ، والكتاب المقدس الذي لا يوجد سواه.
لم يكن القرآن الكريم كتابا مهملا في زوايا البيوت والمساجد يعلوه غبار
النسيان حتى تسنح الفرصة لمن يريد أن يزيد فيه أو ينقص، بل إن مسألة حفظه
كانت وما زالت عبادة عظيمة وسنة متبعة تمتد جذورها في عمق التاريخ
الإسلامي.
وبعد أن ظهرت الطباعة كان القرآن الكريم أكثر الكتب من حيث الطبع

1 - منتخب كنز العمال، كما نقل عنه (البيان في تفسير القرآن)، ص 260.
2 - سفينة البحار، ج 1، ص 57.
24

والانتشار بين صفوف المسلمين في كافة بلدانهم، ولا تخلو مدينة إسلامية من
حفاظ للقرآن. والأمثلة أكثر من أن تقال، ففي البلدان الإسلامية هناك مدارس
خاصة لقراءة وحفظ القرآن وذكر أحد المطلعين: أنه يوجد في بعض بلاد
الإسلامية ما يقرب من مليون ونصف المليون حافظ للقرآن.
وبناء على ما ذكره فريد وجدي في كتابه (دائرة المعارف): إن من شروط
امتحان القبول في كلية الأزهر في مصر، هو حفظ القرآن الكريم كاملا ودرجة
النجاح في ذلك (20) من (40) كحد أدنى.
خلاصة القول: إن حفظ القرآن منذ عصر ظهور الإسلام أصبح سنة حية في
حياة المسلمين، من خلال ما أمر وأكد عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (وهو ما تعضده الروايات
الكثيرة)، وإلى هنا نعاود طرح السؤال: هل هناك مجال لاحتمال وجود التحريف
في القرآن؟!
2 - بالإضافة إلى ما تقدم تواجهنا مسألة (كتاب الوحي) وهم الأشخاص
الذين أوكل إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهمة تسجيل الآيات القرآنية بعد نزولها، ويذكر أن
عددهم كان بين 14 - 43 رجلا.
يقول أبو عبد الله الزنجاني في كتابه القيم (تأريخ القرآن): (كان للنبي كتاب
يكتبون الوحي وهم ثلاثة وأربعون، أشهرهم الخلفاء الأربعة، وكان ألزمهم للنبي
زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)) فكيف لكتاب له كل هؤلاء الكتاب أن تمتد
إليه يد التحريف؟!
3 - دعوة الأئمة المعصومين عليهم السلام للعمل بالقرآن الموجود بين
أيدينا. ولو تفحصنا كلامهم عليهم السلام لوجدنا أنهم قد دعوا الناس لتلاوة
ودراسة القرآن والعمل على هديه منذ صدر الإسلام وعلى امتداد وجودهم
المبارك بين الناس، وهذا دليل على أن الأيادي المفسدة ما استطاعت النيل من
هذا الكتاب السماوي.
25

وخطب الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة خير شاهد ينطق بهذا الادعاء: فنقرأ
في الخطبة (133): " وكتاب الله بين أظهركم، ناطق لا يعيا لسانه، وبيت لا تهدم
أركانه، وعز لا تهزم أعوانه ".
ويقول في الخطبة (176): " واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش،
والهادي الذي لا يضل... ".
ونطالع قوله (عليه السلام) في نفس الخطبة المذكورة: " وما جالس هذا القرآن أحد إلا
قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى ".
ونتابع ذات الخطبة حتى نصل لقوله (عليه السلام): " وإن الله سبحانه لم يعظ أحدا بمثل
هذا القرآن، فإنه حبل الله المتين، وسببه الأمين ".
ونقرأ في الخطبة (198): " ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه،
وسراجا لا يخبو توقده،...، ومنهاجا لا يضل نهجه،...، وفرقانا لا يخمد برهانه "
وأمثال ذلك كثير في كلام علي والأئمة (عليهم السلام).
ولو فرضنا أن يد التحريف قد طالت كتاب السماء، فهل من الممكن أن يدعو
إليه الأئمة عليهم السلام بهذه القوة؟ ويصفونه بأنه: صراط هداية، وسيلة التفريق
بين الحق والباطل، النور الذي لا يطفأ أبدا، مصباح هداية لا يخبو، حبل الله
المتين والعروة الوثقى.
4 - وإذا ما سلمنا ب‍ (خاتمية) النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الدين الإسلامي هو خاتم
الأديان الإلهية، وإن رسالة القرآن باقية إلى يوم القيامة.
فهل يصدق أن الله سبحانه سوف لا يحفظ دليل دينه وحجة نبيه
الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وهل يجتمع تحريف القرآن مع بقاء الإسلام عبر آلاف السنين
ودوامه حتى نهاية العالم؟!
5 - وهناك دليل آخر على أصالة القرآن وحفظه من أية شائبة نتلمسه في
روايات الثقلين المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق متعددة معتبرة.
26

فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله
وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا " (1).
فهل يصح هذا التعبير عن كتاب تطاله يد التحريف؟!
6 - بالإضافة إلى كل ذلك فالقرآن طرح على المسلمين باعتباره الحد
الفاصل المأمون الجانب في تمييز الأحاديث الصادقة من الكاذبة، وتشير كثير من
الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام إلى أن صدق أو كذب أي حديث
يتبين من خلال عرضه على القرآن، فما وافق القرآن فهو حق وما خالفه فهو
باطل.
فلو افترضنا أن تحريفا قد طرأ على القرآن (ولو بصورة نقصان) فهل يمكن
اعتباره فاصلا بين الحق والباطل، أو معيارا دقيقا لتمييز الحديث الصحيح من
السقيم؟!
3 روايات التحريف:
يستند القائلون بتحريف القرآن مرة على روايات قد أسئ فهمها نتيجة عدم
الوصول لما كانت ترمز إليه من معنى، وأخرى على روايات ضعيفة السند ويمكن
تقسيم روايات التحريف إلى ثلاثة أقسام:
1 - الروايات القائلة: إن عليا (عليه السلام) شرع بجمع القرآن بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وعندما تم جمعه عرضه على جمع من الصحابة ممن تربعوا في مقام الخلافة فلم
يقبلوه منه، فقال علي (عليه السلام): إنكم لن تروه بعد الآن أبدا.
وبنظرة فاحصة إلى تلك الروايات نصل إلى أن القرآن الذي كان عند علي

1 - حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة، رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع من الصحابة مثل: أبو سعيد
الخدري، زيد بن أرقم، زيد بن ثابت، أبو هريرة، حذيفة بن أسيد، جابر بن عبد الله الأنصاري، عبد الله حنطب، عبد بن حميد،
جبير بن مطعم، ضمرة الأسلمي، أبو ذر الغفاري، أبو رافع، أم سلمة وغيرهم.
27

(عليه السلام) لا يختلف مع بقية النسخ من حيث المضمون، سوى اختلافه من حيث العرض
والترتيب في ثلاثة أمور:
الأول: أن آياته وسوره كانت مرتبة حسب تأريخ النزول.
الثاني: تثبيت سبب النزول لكل آية وسورة.
الثالث: تضمن تفسير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للآيات بالإضافة إلى ذكر الناسخ
والمنسوخ.
فالقرآن الذي جمعه أمير المؤمنين (عليه السلام) ليس إلا عين القرآن الموجود سوى
أنه أضاف إليه: (التفسير) و (التأويل) و (سبب النزول) و (تبيان الناسخ والمنسوخ)
وما شابه ذلك. وبعبارة أخرى، كان قرآنا مع تفسيره الأصيل.
كما أنه ورد في كتاب سليم بن قيس: (إن أمير المؤمنين عليه السلام لما رأى
غدر الصحابة وقلة وفائهم لزم بيته، وأقبل على القرآن، فلما جمعه كله، وكتابه
بيده، وتأويله الناسخ والمنسوخ، بعث إليه أن أخرج فبايع، فبعث إليه إني مشغول
فقد آليت على نفسي لا أرتدي بردائي إلا لصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه) (1).
2 - الروايات المشيرة إلى " التحريف المعنوي " للقرآن.
إن التحريف - كما نعلم - على ثلاثة ضروب: لفظي، معنوي، وعملي.
فالتحريف اللفظي: هو تغيير ألفاظ وعبارات القرآن وحصول الزيادة
والنقصان فيها. (وهذا ما نرفضه بشدة - وجميع محققي الإسلام - وننكره إنكارا
قاطعا).
والتحريف المعنوي: هو تفسير الآية خلافا لمفهومها ومعناها الحقيقي.
أما التحريف العملي: فهو العمل على خلاف المقتضى.
ففي تفسير علي بن إبراهيم عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنه قال: لما نزلت هذه الآية يوم

1 - بحار الأنوار، ج 92، ص 41.
28

تبيض وجوه وتسود وجوه قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم: " ترد علي
أمتي يوم القيامة على خمس رايات، فراية مع عجل هذه الأمة، فأسألهم: ماذا فعلتم
بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أما الأكبر فحرفناه ونبذناه وراء ظهورنا... " (1).
وواضح أن التحريف هنا يقصد به التحريف المعنوي للقرآن ونبذه وراء
الظهور.
3 - الروايات المختلقة:
فقد سعى أعداء الدين والمنحرفون عن الصراط المستقيم، وتبعهم الجهلة،
في اختلاق بعض الروايات للحط من شرف القرآن وقدسيته، ومنها الروايات
التي رواها أحمد بن محمد بن السياري والبالغة (188) رواية (2)، وقد استدل
العلامة الشيخ النوري بكثير من هذه الروايات في كتابه (فصل الخطاب).
والسياري هذا مطعون عند كثير من علماء (علم الرجال) ويقولون عليه كان:
فاسد المذهب، لا يعتمد عليه، وضعيف الحديث.
وعلى قول بعضهم: إنه من أهل الغلو، منحرف، معروف بالتقول بالتناسخ،
وكذاب، ويقول عنه الكشي (صاحب كتاب الرجال المعروف): إن الإمام
الجواد (عليه السلام) وصف ادعاءات السياري في رسالته بأنها باطلة.
مع أن روايات التحريف غير مقتصرة على السياري، إلا أن أكثرها وأهمها
تعود إليه.
وبين هذه الروايات المزيفة ما تضحك الثكلى، وينكرها كل ذي لب لبيب،
وعلى سبيل المثال ما جاء في إحداها بخصوص الآية الثالثة من سورة النساء
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء أنه: قد
سقط بين شرطها وجزاءها ثلث القرآن!!!

1 - تفسير البرهان، ذيل الآية (106) من سورة آل عمران.
2 - أورد هذا الإحصاء مؤلف كتاب (البرهان المبين).
29

وقد ذكرنا في تفسير الآية المذكورة، أن الشرط والجزاء في الآية مرتبطان
ارتباطا تاما، ولم يسقط من بينهما ولو كلمة واحدة.
أضف إلى ذلك، أن ثلث القرآن ما يعادل أربعة عشر جزء منه تقريبا، فكيف
يدعى هذا المدعى مع ما للقرآن من كتاب وحي وحفاظ وقراء منذ عهد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهل يعقل أن يحصل ذلك دون أن يلتفت إليه أحد؟!
وكأن هؤلاء لم يعيشوا ويعايشوا التاريخ بواقعيته وجلاءه، ألم يثبت التأريخ
بأن الشئ الأساسي في حياة المسلمين هو القرآن؟ أولم يكن القرآن يتلى في
آناء الليل وأطراف النهار في جميع البيوت والمساجد؟ إذن.. فكيف يحتمل
إسقاط كلمة واحدة دون أن يلتفت إليه أحد، فضلا عن كون السقط ثلث القرآن؟!
لا يسعنا إلا أن نقول: إن كذبة بهذه المواصفات لدليل جلي على سذاجة
واضعي مثل هذه الأحاديث.
وقد اعتمد الكثير من المتذرعين في إثبات تحريف القرآن على كتاب (فصل
الخطاب) المشار إليه آنفا.
ولابد من الإشارة إلى غرض وغاية هذا الكتاب من خلال ما كتبه تلميذ
المؤلف العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني في الجزء الأول من كتاب (مستدرك
الوسائل)، حيث يذكر أنه سمع من أستاذه مرارا: إن ما في كتاب فصل الخطاب لا
يمثل عقيدتي الشخصية، إنما ألفته للبحث والمناقشة، وأشرت فيه إلى عقيدتي في
عدم تحريف القرآن دون أن أصرح، وكان من الأفضل أن أسميه (فصل الخطاب
في عدم تحريف الكتاب).
ثم يقول المحدث الطهراني: هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه، وأما عمله
فقد رأيناه يقيم وزنا لما ورد في مضامين الأخبار، ويراها أخبار آحاد لابد أن
تضرب عرض الحائط، ولا أحد يستطيع نسبة التحريف إلى أستاذنا إلا من هو غير
عارف بعقيدته ومرامه.
30

وأخيرا.. فالأيادي المغلولة لا يسعها في هذا المجال إلا أن تبذل كل جهودها
للنيل من أصالة وعظمة وقدسية كتاب السماء عند المسلمين عن طريق بث
الخرافات والأباطيل.
وطالعتنا الصحف من مدة ليست بالبعيدة بأن أياد إسرائيلية صهيونية قامت
بطبع نسخة جديدة للقرآن غيروا فيها كثيرا من الآيات القرآنية، وكما هو معهود
فقد انتبه علماء المسلمين بسرعة لهذه الدسيسة الخبيثة وجمعوا تلك النسخ،
فباءت محاولتهم بالفشل والخذلان.
وفات هؤلاء الأعداء من أصحاب القلوب الداكنة، أن نقطة واحدة لو غيرت
في القرآن فسيعيدها إلى نصابها المفسرون والحفاظ وقراء هذا الكتاب العظيم
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره
الكافرون (1).
* * *

1 - التوبة، 32.
31

2 الآيات
ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين (10) وما يأتيهم من
رسول إلا كانوا به يستهزءون (11) كذلك نسلكه في قلوب
المجرمين (12) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين (13) ولو
فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما
سكرت أبصرنا بل نحن قوم مسحورون (15)
2 التفسير
3 العناد والتعصب:
تواسي الآيات قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقلوب المؤمنين لما كانوا يواجهونه من
صعاب في طريق دعوتهم، من خلال الإشارة إلى صراع الأنبياء السابقين مع
أقوامهم الضالة والمتعصبة.
فتقول أولا: ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين.
ولكنهم من العناد والتعصب لدرجة وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به
يستهزؤن.
ذلك الاستهزاء وتلك السخرية لاعتبارات عدة:
32

- مرة، يريدون بالسخرية إسقاط شخصية النبي كي لا يؤثر في أوساط الفئة
الواعية.
- وأخرى، يحاولون بالإستهزاء تغطية ضعفهم وعجزهم أمام المنطق القوي
والحجج الدامغة لرسل الله عز وجل.
- وتارة، يأخذهم الاستغراب لدعوات الأنبياء الثورية ضد طريقة حياتهم
الموبوءة وتقاليدهم البالية، ولما كانوا مكيفين لها ومسترخين بين أجوائها،
فيدفعهم جهلهم وتعصبهم الأعمى لما هو سائد، لأن يستهزؤوا.
- وأخرى، محاولة تخدير وجدانهم السارح في المتاهات كي لا يصحوا على
حين غرة فيعتنق الحق وينهض بأعباء مسؤوليته.
- وقد يكون الاستهزاء بسبب خطل مقياسهم ومعيارهم للقدوة والقائد فما
تعارفوا عليه في مواصفات الزعيم أو القائد، أن يكون من الطبقة الثرية المرفهة،
وقيمة الإنسان عندهم من خلال: لباسه الأنيق، مركبه الفاره، بيته الفخم، وحياته
المحفوفة بالزخارف وإذا نهض بدعوة الحق إنسان فقير لا يمتلك من حطام الدنيا
شيئا، فسيكون موضع سخريتهم!
- وأخيرا، فقبولهم لدعوة الأنبياء عليهم السلام - حسب تصورهم - يستلزم
تقويضا لكل شهواتهم الدنيوية، وتحميلهم وظائف جديدة لا يطيقونها، فليجأون
للإستهزاء لتبرير إعراضهم وانكارهم وإراحة ضمائرهم.
ثم يقول جل وعلا: كذلك نسلكه في قلوب المجرمين أي نوصل الآيات
القرآنية إلى أعماق وجدانهم وعقولهم.
ومع وضوح البلاغ والتأكيد وبيان المنطق الرباني وإظهار المعجزات، ترى
المتعصبين المستهزئين لا يؤمنون به وهو ليس بجديد وقد خلت سنة
الأولين.
ويصل أمر الغارقين في شهواتهم والمصرين في عنادهم على الباطل إلى أنهم
33

لا يؤمنون حتى ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ومع
ذلك لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون.
عجبا، أن يصل الإنسان لهذا الدرك من العناد والتعصب!
إن الذنوب والجهل ومعاداة الحق تؤثر على الروح الطاهرة والفطرة السليمة،
فتحجبهما عن رؤية وجه الحقيقة الناصع، وتمنعهما من إدراك الحقائق، وإذا لم
يتمكن الإنسان من رفع تلك الحجب وإزالة الموانع، فإن صورة الحق ستتلوث في
نظره فينكر كل ما هو معقول ومحسوس معا، ومن الممكن تطهير الفطرة في
المراحل الأولى، ولكن إذا رسخت في قلبه هذه الحالة وتجذرت وأمست " ملكة "
وصفة أخلاقية، فلا يمكن ازالتها بسهولة، وعندها سوف لا تترك أقوى الأدلة
العقلية ولا أوضح الأدلة الحسية أي تأثير في قلبه.
* * *
2 ملاحظات
1 - (شيع) جمع (شيعة)، ويطلق على المجموعة والفرقة التي تمتلك نهجا
مشتركا.
يقول الراغب الأصفهاني في كتاب (المفردات) - باب شيع: الشياع الانتشار
والتقوية، يقال شاع الخبر أي كثر وقوى، وشاع القوم انتشروا وكثروا، وشيعت
النار بالحطب قويتها، والشيعة: من يتقوى بهم الإنسان.
أما العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) فيعتبر أن أصلها من المشايعة، وهي
المتابعة، يقال شايع فلان فلانا على أمره أي تابعه عليه، ومنه شيعة علي (عليه السلام) وهم
الذين تابعوه على أمره ودانوا بإمامته، وفي حديث أم سلمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة " إشارة لهذا المعنى.
وعلي أية حال.. فالشياع بمعنى الانتشار والتقوية، أو المشايعة بمعنى
34

المتابعة، كلاهما دليل على وجود نوع من الاتحاد وارتباط الفكري والديني في
مفهوم (الشيعة) و (التشيع).
وإطلاق لفظ (شيع) على الأقوام السابقة يدل على أنهم في قبال دعوة الأنبياء
عليهم السلام كانوا متحدين في توجههم ومتآزرين متعاضدين في عملهم.
فإن كان لأهل الضلال هذا الاتحاد والتنسيق أفلا ينبغي لأتباع الحق أن
يسيروا على نور هديه متكاتفين ومتآزرين؟
2 - مرجع الضمير في " نسلكه ":
من لطف الباري جل شأنه أن يوصل ويفهم آياته للمجرمين والمخالفين
بطرق شتى، عسى أن تستقر في قلوبهم، ولكن عدم صلاحية ولياقة المحل يكون
سببا لخروجها من تلك الأجواف النتنة، فتبقى قلوبا غير متأثرة، شبيها بمرور
الغذاء النافع في معدة مريضة فلا تتقبله وتقذفه إلى الخارج. (ويستفاد هذا المعنى
من (السلوك) المادة الأصلية لعبارة " نسلكه ").
وعلى هذا الأساس فضمير " نسلكه " يعود إلى " الذكر " أي القرآن كما ورد
في الآيات المتقدمة، وكذلك حال الضمير في لا يؤمنون به يعود إليه أيضا،
أي: إنهم مع كل ذلك لا يؤمنون بالذكر.
فنلحظ التوافق التام بين الضميرين بالضبط كما جاء في سورة الشعراء في
الآيتين 200 و 201.
وذهب بعض المفسرين إلى أن ضمير " نسلكه " يعود إلى الاستهزاء المذكور
في الآية المتقدمة لها، فيكون المعنى: إنا ندخل الاستهزاء والسخرية في قلوبهم
نتيجة لذنوبهم وعنادهم.
ويكفينا لتضعيف هذا التفسير أن نقول: إنه يذهب بالتناسق بين الضميرين.
ونستفيد كذلك من عبارة " نسلكه " أن على المبلغ والمرشد أن لا يكتفي في
أداء وظيفته بايصال صوته إلى أسماع الناس، بل عليه أن يطرق كل الآفاق حتى
35

يوصل صوت الحق إلى القلوب ليقر فيها.
وبعبارة أخرى، ينبغي الاستفادة من جميع الوسائل.. السمعية والبصرية،
البرامج العملية، الأدب - شعرا وقصة - والفن الأصيل الهادف. لتكون كلمة الحق
واضحة لذوي القلوب الواعية، والحجة تامة على من ظلم وعاند.
3 - سنة الأولين:
تفيدنا الآية الآنفة الذكر بأن أساليب أهل الضلال الرامية لتخدير الناس
ومحاولة تفريقهم وإبعادهم عن أولياء الله لا تختص بزمان ومكان معينين، بل هي
ممارسة موجودة منذ القدم وباقية ما بقي صراع الحق ضد الباطل على الأرض
ولهذا لا ينبغي أن نستوحش من ذلك ونتراجع امام المشاكل والعراقيل التي
يدبرها الأعداء.
ولا نسمح لليأس من أن يدخل قلوبنا، ولا لأساليب الأعداء من أن تفقدنا
الثقة بالنفس فذكر سنن الأولين في القرآن ما هي إلا مواساة وتسلية مؤثرة لقلوب
دعاة الإيمان.
وإذا ما تصورنا يوما أن نشر دعوة الحق ورفع راية العدل والهداية لا
يواجهان برد فعل الأعداء، فإننا في خطأ كبير، وأقل ما فيه أننا سنصاب بحالة
اليأس المهلكة، وما علينا إلا أن نستوعب مسير خط الأنبياء (عليهم السلام) في مواجهاتهم
لأعداء الله، وأن نجسد ذلك الاستيعاب في سلوكنا، بل وعلينا أن نزداد في كل
يوم عمقا في دعوتنا.
4 - تفسير فظلوا فيه يعرجون:
يظهر هذا المقطع القرآني - بوضوح - تصويرا لحال المعاندين، فلو أن بابا من
السماء فتحت لهم وظلوا يصعدون وينزلون من خلاله، لقالوا: سحرت عيوننا
وحجبت عن رؤية الواقع! (يبدو أن المراد من السماء هنا: الفضاء الخارجي الذي
لا يمكن النفوذ منه بسهولة).
علما بأن كلمة " ظلوا " تستعمل لاستمرار العمل في النهار وتقابلها كلمة
36

(باتوا) من البيتوتة الليل.
ويميل إلى هذا المعنى غالب المفسرين ولكن العجيب أن بعض المفسرين
احتملوا عودة ضمير " ظلوا " إلى الملائكة، فيكون المعنى: أنهم لو رأوا الملائكة
تصعد وتنزل من السماء بأم أعينهم لما آمنوا أيضا.
ولكن إضافة لعدم انسجام هذا الاحتمال مع تسلسل الآيات السابقة
واللاحقة التي تتحدث عن المشركين، أن ذكر الملائكة إنما ورد قبل ست آيات
(فعودة الضمير إلى الملائكة بعيد جدا) فإن هذا المعنى يقلل من بلاغة العبارة
القرآنية، لأن القرآن يريد أن يقول أن المشركين لا يستسلمون للحق حتى لو
صعدوا وهبطوا من السماء مرارا في ساعات النهار.
5 - معنى عبارة سكرت أبصارنا.
جملة " سكرت " من مادة (سكر) أي: التغطية.
ويراد بها: أن الكافرين المعاندين يقولون: قد غطيت عيوننا عن رؤية
الواقعيات، وإذا رأينا أنفسنا نصعد إلى السماء وننزل إلى الأرض سنحكم على
ذلك بأنه وهم وخيال، كما في ما يسمى بالشعوذة التي يستفيد صاحبها من خفة
حركة يده فيخدع أنظار الحاضرين بها.
ويضيفون القول: بل نحن قوم مسحورون، فبالرغم من أن الشعوذة هي
لون من ألوان السحر، لكنهم ربما يشيرون إلى ما هو أشد من الشعوذة التي
تختص بخداع البصر فقط، ألا وهو السحر الكامل الذي يغطي على كل وجود
الانسان ويفقد معه الإحساس بكل ما هو واقع!
فلو أغلقنا عين انسان ما فإنه لا يفقد الشعور فيما لو أنه يصعد به إلى الأعلى
أو ينزل إلى الأسفل.
فمعنى الآية: لو أخذنا المشركين إلى أقطار السماوات لقالوا أولا: إننا أصبنا
بالشعوذة، وبعد أن يجدوا أن هذه العملية لا تتوقف على العين فقط فسيقولون
حينها: إننا مسحورون!
* * *
37

2 الآيات
ولقد جعلنا في السماء بروجا وزينها للناظرين (16)
وحفظناها من كل شيطن رجيم (17) إلا من استرق السمع
فأتبعه شهاب مبين (18)
2 التفسير
تشير الآيات إلى جانب من عالم المخلوقات للدلالة على معرفة وتوحيد
الله، وبسياقها جاءت تكملة لبحثي القرآن والنبوة المذكورين في الآيات السابقة.
قوله تعالى: ولقد جعلنا في السماء بروجا.
" البروج ": جمع " برج " ويعني " الظهور "، ولهذا يطلق على البيت الذي يبنى
في سور المدينة أو على سور الحصن الذي يعتصم به المقاتلون، وذلك لما له من
بروز وارتفاع خاص. ويقال كذلك (تبرجت) للمرأة التي تظهر زينتها.
والبروج السماوية: هي منازل الشمس والقمر. وبعبارة أقرب إلى الذهن: لو
نظرنا إلى الشمس والقمر بإمعان فسنراها في كل فصل من فصول السنة ولفترة
زمنية معينة يقابلان أحد الصور الفلكية (الصور الفلكية: مجموعة نجوم على هيئة
خاصة) فنقول: إن الشمس في برج الحمل (1) - مثلا - أو الثور أو الميزان أو

1 - الحمل: مجموع شمسية تظهر في السماء على هيئة الحمل تقريبا. وكذلك الثور والميزان وغيرها.
38

العقرب أو القوس.
ويعتبر وجود الأبراج السماوية، وكذلك النظام الدقيق في حركة منازل
الشمس والقمر ضمن هذه البروج (وهو التقويم المجسم لعالم وجودنا)، يعتبر من
الأدلة الواضحة على علم وقدرة الخالق جل وعلا.
إن هذا النظام العجيب بما يحمل من دقة في حساب تشكيله يكشف لنا
وجود هدف لخلق هذا العالم، وكلما أمعنا النظر في خلق الله ازددنا مقربة من
معرفة الخالق الجليل.
ثم يضيف: زيناها للناظرين (1).
انظروا لاحدى الليالي المظلمة ذات النجوم الكثيرة فسترون مجموعات
نجمية ائتلفت فيما بينها في كل زاوية من زوايا السماء، وكأنها حلقات تنظيمية
تتجاذب أطراف الحديث، وترى تلك كأنها ترمقنا شابحة، وأخرى تغمزنا
باستمرار وكأنها تدعونا إليها، ويخال من بعضها وكأنها تقترب منا لشدة تلألؤها،
وتلك التي تنادينا بخافت ضوئها وينطق لسان حالها من أعماق السماء وجوفها
المتباعد.. إنني هنا!
هذه اللوحة الشاعرية الرائعة ربما ألفها البعض على أنها عادية نتيجة لتكرار
المشاهدة، ومع ذلك فلها جذب خاص وهي جديرة بالتأمل.
وحينما يبزغ القمر (وبأشكاله المختلفة) وسط تلك المجاميع، يضيف إلى
سحرها وجمالها رونقا جديدا.
وتراها خجلة، لا تقوى على أن ترفع رأسها إلا بعد غروب الشمس، فتتلألأ
الواحدة تلو الأخرى، وكأنهن يخرجن على استحياء من خلف ستار.. وما إن يحل
الطلوع حتى نراها تفر فرارا لتختفي.

1 - ضمير " زيناها " يعود إلى " السماء " لأنها مؤنث مجازي.
39

ومضافا إلى ذلك فإن لها من الجمالية العلمية والأسرار المخفية ما لا يصدق،
ويكفيك لجماليتها أنها جعلت أنظار العلماء تشخص إليها منذ آلاف السنين حتى
زماننا الذي ما توصل العلماء إلى صناعة المرقبات (التلسكوبات)، إلا للوصول
لاكتشاف أسرار جديدة عن هذا العالم الدائب الملتهب رغم صمته.
ويضيف في الآية التالية: وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق
السمع فاتبعه شهاب مبين.
الآية المذكورة، من الآيات التي أشبعت شرحا وتفسيرا من قبل المفسرين،
وكل منهم قد نحى منحى خاصا في فهم معناها.
وقد ورد ذات المضمون في سورة الصافات (الآيتان 6 و 7) وكذلك في
سورة الجن الآية (9).
وربما ارتسمت في أذهان البعض أسئلة لم يسعفوا بالإجابة عنها، فكان لزاما
علينا في بادئ الأمر أن نلقي نظرة إلى آراء كبار المفسرين فيما يخص الموضوع
الذي نحن بصدده، ومن ثم نعرج إلى ما نراه راجحا من هذه الآراء:
1 - بعض المفسرين ومنهم صاحب تفسير (في ظلال القرآن) قد اكتفوا
بالتفسير الإجمالي ولم يغوصوا إلى كثير من التفاصيل، ولم يعيروا أهمية لكثير
من المسائل على اعتبار أنها حقائق فوق البشر ولا يمكننا إدراكها، وما علينا إلا
أن نهتم بالآيات التي ترتب الآثار على حياتنا العملية وتنظم لنا السلوك والتوجه
إلى الحق.
فكتب يقول: وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شئ
يسترق؟..
كل هذا غيب من غيب الله لا سبيل لنا إليه إلا من خلال النصوص، ولا
جدوى في الخوض فيه، لأنه لا يزيد شيئا في العقيدة ولا يثمر إلا انشغال العقل
البشري بما ليس من اختصاصه، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة، ثم
40

لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة (1).
وينبغي التنويه هنا إلى أن القرآن كتاب سماوي جاء لتوجيه الإنسان إلى
الحق، وهو كتاب حياة وتربية، فإن كان فيه ما لا يخص الحياة الإنسانية فمن
الأولى أن لا يطرح أصلا، وهذا خلاف التخطيط والمنهج الرباني، وكل ما فيه
دروس لنا ومنهج قويم للحياة.
والتسليم بوجود حقائق غامضة في القرآن أمر مرفوض.. أوليس القرآن
كتاب نور، وكتابا مبينا؟! أو لم ينزل كي يفهمه الناس ويسيروا بهديه؟! فكيف
إذن.. لا يهمنا فهم بعض آياته؟!
وبكلمة: فإن هذا التفسير مرفوض.
2 - يصر جمع لا بأس به من المفسرين (وخصوصا القدماء منهم) على
الوقوف عند المعنى الظاهري لهذه الآيات.
فالسماء هي هذه السماء، والشهاب هو ما نراه ونسميه شهابا (أي الكرات
الصغيرة التي تسبح في الفضاء، وتخترق بين الحين والآخر جاذبية الأرض
فتنطلق نحوها بسرعة فتحترق نتيجة لاحتكاكها بالهواء المسبب لزيادة
حرارتها).
والشيطان هو ذلك الموجود الخبيث المتمرد الذي يحاول أن يخترق أعماق
السماوات ليطلع على أخبار ذلك العالم ليوصل تلك الأخبار إلى أوليائه الأشرار
على الأرض من خلال استراقه السمع، ولكنه يمنع من الوصول إلى هدفه برميه
بالشهب (2).

1 - تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 396.
2 - ذكر هذا التفسير الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وكذلك الآلوسي في (روح المعاني) بعد طرح الإشكالات المختلفة في
الموضوع اعتمادا على علم الهيئة والطبقات الفلكية القديم وأمثال ذلك. وأكثر العلماء فيه البيان من خلال الإجابة على تلك
التساؤلات، ولا ضرورة لذكرها لما وصل إليه علم الفلك في يومنا.
41

3 - وذهب جمع من المفسرين مثل العلامة الطباطبائي في (تفسير الميزان)
والطنطاوي في تفسير (الجواهر) إلى حمل هذه الآيات على التشبيه والكناية
وضرب الأمثال، أو ما يسمى ب‍ (البيان الرمزي) ثم شرحوا ذلك بصور عدة:
ألف: نقرأ في تفسير الميزان: (أورد المفسرون أنواعا من التوجيه لتصوير
استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب، وهي مبينة على ما سبق إلى الذهن
من ظاهر الآيات والأخبار، إن هناك أفلاكا محيطة بالأرض تسكنها جماعات من
الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شئ إلا منها، وإن في السماء الأولى جمعا من
الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم
بالشهب.
وقد اتضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء.
ويحتمل - والله العالم - أن هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال
المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها
من الحس، وهو القائل عز وجل في سورة العنكبوت (43): وتلك الأمثال
نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون، وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش
والكرسي واللوح والكتاب.
وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا
أفق أعلى، نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى
الأرض، والمراد لاقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب
اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة
ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت (1).
ب - والطنطاوي في تفسيره المعروف، هكذا يرى: (إن العلماء المحتالين

1 - تفسير الميزان، ج 17، ص 124 (في تفسير الآيات من سورة الصافات).
42

المرائين الذين يتبعهم عوام الناس دون أن تكون لهم الأهلية لأن يطلعوا على عجائب السماوات وبدائع العالم العلوي
وأجرامه غير المحدودة، وما يحكمها من نظم وحساب دقيق، فإن الله تعالى يمنع عنهم هذا العلم
ويجعل هذه السماء المليئة بالنجوم الوضاءة بكل أسرارها في اختيار من له عقل
ونباهة وإخلاص وإيمان، ومن الطبيعي أن يمنع هذا الصنف من العلماء من النفوذ
في أسرار هذه السماء، فكل شيطان يطرد عن الحضرة الإلهية سواء كان من البشر
أو من غيرهم، وليس له حق الوصول إلى هذه الحقائق، ومتى ما اقترب منها طرد
عنها، فيمكن أن يعيش هكذا أشخاص سنوات كثيرة ثم يموتون ولكنهم لا
يدركون هذه الأسرار أبدا، لهم أبصار ينظرون بها ولكن لا تستطيع رؤية هذه
الحقائق، أليس العلم لا يناله إلا عشاقه ولا يدرك جماله ولا ينظر إليه إلا
عرفاؤه (1)؟!
ويقول في مكان آخر: ما المانع أن تكون هذه التعبيرات كناية، فيكون المنع
الحسي رمزا للمنع العقلي، والكناية من أجمل أنواع البلاغة، ألا ترى أن كثيرا
من الناس حولك محبوسون في هذه الأرض، غائبة أبصارهم، لا يسمعون إلى
الملأ الأعلى ولا يفهمون رموز هذه الدنيا وعجائبها وقد قذفوا من كل جانب،
مطرودين حيث طردتهم شهواتهم وعداواتهم وكبرياؤهم وحروبهم وطمعهم
وشرهم عن تلك المعاني العالية (2)، وإن أصيب أحد بهذه الأهواء يوما بسبب
التلوثات التي تملأ قلبه وروحه فإنه سيطرد أيضا.
ج - وله كلام في مكان آخر، خلاصته: تبقى قائمة بين أرواح البشر المنتقلة
إلى عالم البرزخ مع الأرواح التي ما زالت مع البشر في الحياة الدنيا، وإذا ما توفر
التشابه والسنخية فيما بينها فيمكن والحال هذه إحضارها والتكلم معها فتطلعها
على أمور واقعة ودقيقة جدا، ولا تتمكن من أن تعطي الصورة الحقيقية لبعض

1 - تفسير الجواهر، ج 8، ص 11.
2 - تفسير الجواهر، ج 18، ص 10.
43

الأمور، لأنها لا تنقل بدقة إلا ما هو ضمن عالمها المحدود، ولا يمكنها أن تصل
إلى عالم أعلى منها، فكما أن الأسماك لا تتمكن من اختراق عالمها المائي، كذلك
هذه الأرواح فإنها لا تقوى على الخروج لأكثر من حدود عالمها.
د - وقال بعض آخر: أظهرت الاكتشافات الأخيرة وجود أشعة قوية تنبعث
باستمرار من الفضاء البعيد، ويمكن استلامها على الأرض بوضوح بواسطة أجهزة
استقبال خاصة، وإن مصدر هذه الأمواج لا زال مجهولا، إلا أن بعض العلماء
يحتملون وجود كائنات حية كثيرة تعيش على الأجرام السماوية البعيدة وربما
كانت متفوقة علينا مدنيا فيرسلون هذه الأمواج ليخبرونا عن وجودهم وبعض
أخبارهم، وفي تلك الأخبار مسائل جديدة علينا، ولكن الجن تسعى للاستفادة
من تلك المسائل فتطرد بتلك الأشعة القوية المقتدرة على أن لا تصل لفهم ما
أرسل إلى أهل الأرض (1).
كانت هذه آراء المفسرين والعلماء وأقوالهم المختلفة.
3 نتيجة البحث:
طال بنا البحث في تفسير الآيات الآنفة الذكر، وقبل الخروج بمحصلة البحث
لابد من ذكر بعض الملاحظات:
1 - أشار القرآن الكريم بكلمة " السماء " إلى نفس هذه السماء التي يتبادر
الذهن إليها تارة، وإلى السمو المعنوي والمقام العلوي تارة أخرى.
فمثلا نقرأ في الآية (40) من سورة الأعراف إن الذين كذبوا بآياتنا
واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء.
فمن الممكن حمل معنى السماء هنا على الكناية عن مقام القرب من الله عز

1 - القرآن على مر العصور، ع. نوفل.
44

وجل، كما نقرأ في الآية العاشرة من سورة فاطر إليه يصعد الحكم الطيب
والعمل الصالح يرفعه.
وكما هو بين أن كلا من الحكم الطيب والعمل الصالح ليسا من الأشياء التي
يقال عنها ذلك، بل المراد هو الارتفاع إلى مقام القرب الإلهي والتشرف بالسمو
والرفعة المعنوية.
والمقصود من تعبير " أنزل " و " نزل " في آيات القرآن هو النزول من الساحة
الإلهية المقدسة على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقرأنا في تفسير الآية (24) من سورة إبراهيم ألم تر كيف ضرب الله
مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء إن أصل الشجرة
الطيبة المشار إليها في الآية هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والفرع علي (عليه السلام) (والفرع هنا هو
الأصل الثانوي الذي يرتفع في السماء) والأئمة عليهم السلام هم الفروع
الأصغر (1).
وكذلك ما نقرؤه في أحد الأحاديث: " كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إلى
السماء ".
لا ريب أن " السماء " المستعملة هنا ليست السماء المشاهدة.
نستنتج مما سبق أن " السماء " قد استعملت بمفهوميها المادي والمعنوي أو
الحقيقي والمجازي.
2 - و " النجوم " كذلك، بمفهومها المادي.. هذه الأجرام السماوية التي تشاهد
في السماء. ومفهومها المعنوي.. أولئك العلماء والأشخاص الذين ينيرون درب
المجتمعات البشرية.
فكما أن سالك الصحراء وعابر البحر يستهديان بالنجوم والليالي الحالكة

1 - راجع تفسير البرهان، ج 2، ص 310.
45

الداكنة، فكذلك المجتمعات البشرية، فإنها تسلك الطريق السليمة لترشيد حياتها
ونيل سعادتها بنور أولئك المؤمنين الواعين من العلماء والصالحين.
وفي الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم
بأيها اقتديتم اهتديتم " (1) وهو إشارة جلية لهذا المعنى.
كما نقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل الآية وهو الذي جعل لكم
النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر (2).. إن الإمام (عليه السلام) قال: " النجوم آل
محمد صلى الله عليه وآله وسلم " (3).
3 - يستفاد من الروايات العديدة التي وردت في تفسير الآيات المبحوثة، أن
منع الشياطين من الصعود إلى السماوات وطردها بالشهب تم حين ولادة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويستفاد من بعضها أن ذلك حدث أثناء ولادة عيسى بن مريم (عليه السلام)
كذلك ولكن لفترة معينة، وأما عند ولادة نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد تم المنع بشكل
كامل (4).
ومن كل ما تقدم يمكننا القول: إن " السماء " كناية عن سماء الحق والإيمان،
والشياطين تسعى أبدا لاختراق هذه السماء والتسلل إلى قلوب المؤمنين
المخلصين عن طريق تخدير حماة الحق بأنواع الوساوس لصرعهم.
ولكن علم وتقوى أولياء الله وقادة دعوة الحق من الأنبياء والأئمة عليهم
السلام والعلماء العاملين كفيل بأن يبعد عبدة الجبت والطاغوت عن هذه السماء.
وهذا ما يساعدنا على فهم ذلك الترابط بين ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ولادة
المسيح (عليه السلام)، وبين طرد الشياطين عن السماء.

1 - سفينة البحار، ج 2، ص 9.
2 - الأنعام، 97.
3 - نور الثقلين، ج 1، ص 750.
4 - نور الثقلين، ج 3، ص 5 - تفسير القرطبي، ج 5، ص 3626.
46

ويساعدنا كذلك على أن نفهم تلك الرابطة بين الصعود إلى السماء والاطلاع
على الأسرار، لتيقننا بعدم وجود أخبار خاصة بين طبقات هذه السماء المشاهدة،
وكل ما هناك لا يتعدى عجائب الخلقة التي صورها الباري جل شأنه والتي يمكن
دراسة الكثير منها على سطح الأرض، والذي ربما أصبح شبيه بالبديهي من أن
الأجرام السماوية المنتشرة في الفضاء اللامتناهي بعضها أجرام فاقدة للحياة
وأخرى حية، ولكن حياتها ليست كحياتنا.
ولا بد من الالتفات إلى أن مسألة وجود الشهب منحصرة ضمن منطقة الغلاف
الجوي للأرض فقط، وذلك حينما تلتهب تلك الصخور المتساقطة صوب الأرض
من خلال احتكاكها بالهواء، أما خارج منطقة الغلاف الجوي فخال من الشهب.
نعم، هناك صخور وكرات تسبح في الفضاء إلا أنها لا تسمى شهبا إلا بعد دخولها
في منطقة الغلاف الجوي فتلتهب وتظهر للعيان على هيئة خط ناري واضح تخيل
للناظر أنها نجمة متحركة بسرعة.
وكما هو معلوم، فإن إنسان العصر الحديث قد نفذ مرارا من هذه المنطقة، بل
وغالى في نفوذه حتى وطأت قدماه سطح القمر (علما بأن سمك الغلاف الجوي
يبلغ من مائة إلى مائتي كيلومتر طولا.. وأن القمر يبعد عن الأرض بأكثر من
ثلاثمائة ألف كيلومتر).
فإن كان المقصود من الشهب في الآية عين الشهب المشاهدة لنا، فيمكن
القول: إن علماء البشر قد اكتشفوا هذه المنطقة ولم يجدوا الأسرار الخاصة
المدعاة.
والخلاصة: يظهر لنا من خلال ما ذكر من قرائن وشواهد كثيرة أن المقصود
من السماء هو.. سماء الحق والحقيقة، وأن الشياطين ذوي الوساوس يحاولون أن
يجدوا لهم سبيلا لاختراق السماء واستراق السمع، ليتمكنوا من إغواء الناس
بذلك، ولكن النجوم والشهب (وهم القادة الربانيون من الأنبياء والأئمة والعلماء)
47

يبعدونهم ويطردونهم بالعلم والتقوى.
ولكن.. بما أن القرآن الكريم بحر غير متناه، فلا ينبغي البناء القطعي على هذا
التأويل، وربما المستقبل سيحفل بتفسير آخر لهذه الآيات مستندا على حقائق لم
نصل لها في زماننا.
* * *
48

2 الآيات
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل
شئ موزون (19) وجعلنا لكم فيها معيش ومن لستم له
برازقين (20) وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر
معلوم (21)
2 التفسير
وإتماما لما سبق يتناول القرآن بعض آيات الخلق، ومظاهر عظمة الباري
على وجه البسيطة، ويبدأ بنفس الأرض والأرض مددناها.
" المد "، في الأصل بمعنى: التوسعة والبسط، ومن المحتمل أن يراد به إخراج
القسم اليابس من الأرض من تحت الماء، لأن سطح الأرض (كما هو معلوم) كان
مغطى بالمياه بشكل كامل نتيجة للأمطار الغزيرة، واستقرت المياه على سطح
الأرض بعد أن مرت السنين الطويلة على انقطاع الأمطار، وبشكل تدريجي
ظهرت اليابسة من تحت الماء، وهو ما تسميه الروايات ب‍ " دحو الأرض ".
ثم يتطرق إلى خلق الجبال بما تحمله من منافع جمة كآية من آيات التوحيد
وألقينا فيها رواسي.
49

عبر سبحانه عن خلق الجبال بالإلقاء، ولعل المراد ب‍ " إلقاء " هنا بمعنى
(إيجاد) لأن الجبال هي الارتفاعات الشاخصة على سطح الأرض الناشئة من
برودة قشرة الأرض التدريجي، أو من المواد البركانية.
ومن بديع خلق الجبال إضافة إلى كونها أوتادا لتثبيت الأرض وحفظها من
التزلزل نتيجة الضغط الداخلي، فإنها تقف كالدرع الحصين في مواجهة قوة
العواصف، بل وتعمل على تنظيم حركة الهواء وتعيين اتجاهه، ومع ذلك فهي
المحل الأنسب لتخزين المياه على صورة ثلوج وعيون.
واستعمال كلمة " رواسي " جمع (راسية) بمعنى الثابت والراسخ، إشارة لطيفة
لما ذكرناه.
فهي: ثابتة بنفسها، وسبب لثبات قشرة الأرض وثبات الحياة الإنسانية عليها.
ثم ينتقل إلى العامل الحيوي الفعال في وجود الحياة البشرية والحيوانية، ألا
وهو النبات وأنبتنا فيها من كل شئ موزون.
ما أجمل هذا التعبير وأبلغه! " موزون " من مادة (وزن) (1)، ويشير بذلك إلى:
الحساب الدقيق، النظام العجيب، والتناسق في التقدير في جميع شؤون النباتات،
وكل أجزائها تخضع لحساب معين لا يقبل التخلخل من الساق، الغصن، الورقة،
الوردة، الحبة وحتى الثمرة.
يتنوع على وجه البسيطة مئات الآلاف من النباتات، وكل تحمل خواصا
معينة ولها من الآثار ما يميزها عن غيرها، وهي باب بمعرفة واسع وصولا لمعرفة
البارئ المصور جل شأنه، وكل ورقة منها كتاب ينطق بعرفة الخالق.
وقد ذهب البعض إلى أن المقصود هو إحداث المعادن والمناجم المختلفة
في الجبال، لأن كلمة " إنبات " تستعمل في اللغة العربية للمعادن أيضا.

1 - الوزن: معرفة قدر الشئ - مفردات الراغب.
50

وقد وردت الإشارة في بعض الروايات لهذا المعنى، ففي رواية عن الإمام
الباقر (عليه السلام) عندما سئل عن تفسير هذه الآية أنبتنا فيها من كل شئ موزون، أنه
قال: " فإن الله تبارك وتعالى انبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر
والنحاس والرصاص والكحل والزرنيغ وأشباه هذه لا يباع إلا وزنا " (1).
وهناك من ذهب إلى أن المقصود من الإنبات في الآية إلى معنى أوسع يشمل
جميع المخلوقات على هذه الأرض، كما يشير إلى ذلك نوح (عليه السلام) حين مخاطبته
قومه والله أنبتكم من الأرض نباتا (2).
وعليه، فليس هناك ما يمنع من إطلاق مفهوم الإنبات في الآية ليشمل النبات
والبشر والمعادن... الخ.
وبما أن وسائل وعوامل حياة الإنسان غير منحصرة بالنبات والمعادن فقط،
ففي الآية التالية يشير القرآن الكريم إلى جميع المواهب بقوله: وجعلنا لكم
فيها معايش.
ليس لكم فقط، بل لجميع الكائنات الحية حتى الخارجة عن مسؤوليتكم
ومن لستم له برازقين.
نعم، لقد كفينا الجميع احتياجاتهم.
" معايش " جمع " معيشة "، وهي: الوسائل والمستلزمات التي تتطلبها حياة
الإنسان، والتي يحصل عليها بالسعي تارة، وتأتيه بنفسها تارة أخرى.
ومع أن بعض المفسرين قد حصر كلمة " معايش " بالزراعة والنبات أو الأكل
والشرب فقط، ولكن مفهومها اللغوي أوسع من أن يخصص، ويطلق ليشمل كل ما
يرتبط بالحياة من وسائل العيش.
وانقسم المفسرون في تفسير من لستم له برازقين إلى قسمين:

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 6 (يعود ضمير " فيما " بناءا على هذا التفسير إلى الجبال).
2 - سورة نوح، 17.
51

الأول: أن الله تعالى يريد أن يبين مواهبه ونعمه الشاملة للبشر والحيوان
والكائنات الحية الأخرى التي لا يملك الإنسان أمر تغذيتها ولا يستطيعه.
الثاني: أن الله تعالى يريد تذكير الإنسان بأنه سبحانه هو الرازق، وقد تكفل
بإيصال رزقه إلى كل محتاج له سواء كان بواسطة الإنسان أو بواسطة أخرى (1).
ويبدو لنا أن التفسير الأول أكثر صوابا، ويعزز ذلك الحديث المروي في
تفسير علي بن إبراهيم، حيث يتناول معنى ومن لستم له برازقين على أنه:
(لكل ضرب من الحيوان قدرنا له مقدرا) (2).
أما آخر آية من الآيات المبحوثة، فتحوي جوابا لسؤال طالما تردد على
أذهان كثير من الناس، وهو: لماذا لم تهيأ النعم والأرزاق بما لا يحتاج إلى سعي
وكدح؟! فتنطق الحكمة الإلهية جوابا: وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما
ننزله إلا بقدر معلوم. فليست قدرتنا محدودة حتى نخاف نفاذ ما نملك، وإنما
منبع ومخزن وأصل كل شئ تحت أيدينا، وليس من الصعب علينا خلق أي
شئ وبأي وقت يكون، ولكن الحكمة اقتضت أن يكون كل شئ في هذا
الوجود خاضعا لحساب دقيق، حتى الأرزاق إنما تنزل إليكم بقدر.
ونقرأ في مكان آخر من القرآن: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في
الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء (3).

1 - بناء على التفسير الأول يكون الاسم الموصول " من " في " من لستم له برازقين " عطفا على ضمير " لكم " وبناء على
التفسير الثاني عطفا على " معايش "، وبعض المفسرين اعترض على التفسير الأول بأن الاسم الصريح المجرور لا يعطف على
ضمير مجرور إلا بإعادة ذكر حرف الجر، أي.. دخول اللام على " من " هنا واجبا، وثمة اعتراض آخر يقول: كيف يطلق الاسم
الموصول " من " على غير العاقل؟
والاعتراضان مردودان، لأن عدم تكرار حرف الجر جار على لسان العرب، وكذا الحال بالنسبة
لاستعمال " من " لغير العاقل. بل
التفسير الثاني يواجهه ما لسعة المفهوم لل‍ " معايش "، حيث يشمل جميع وسائل الحياة حتى الحيوانات الداجنة وما شابهها..
وعلى هذا الأساس رجحنا التفسير الأول.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 6.
3 - الشورى، 27.
52

إن السعي والكدح في صراع الحياة يضفي على حركة الإنسان الحيوية
والنشاط، وهو بقدر ما يعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لتشغيل العقول وتحريك
الأبدان، فإنه يطرد الكسل ويمنع العجز ويحيي القلب للتحرك والتفاعل مع
الآخرين.. وإذا ما جعلت الأرزاق تحت اختيار الإنسان بما يرغب هو لا حسب
التقدير الرباني، فهل يستطيع أحد أن يتكهن بما سيؤول إليه مصير البشرية؟
فيكفي لحفنة ضئيلة من العاطلين، ذوي البطون المنتفخة، وبدون أي وازع
انضباطي، يكفيهم لأن يعيثوا في الأرض الفساد. لماذا؟
لأن الناس ليسوا كالملائكة، بل هناك الأهواء التي تلعب بالقلوب
والمغريات التي تدني إلى الانحراف.
لقد اقتضت الحكمة الربانية أن يكون الإنسان حاملا لجميع الصفات الحسنة
والسيئة، ويمتحن على هذه الأرض بما يحمل، وبماذا يعمل، وعن ماذا يتجاوز؟..
والسعي والحركة لما هو مشروع، المجال الأمثل للامتحان.
والفقر والغنى من البلاء الذي يدخل ضمن مخطط التمحيص والإمتحان،
فكما أن الفقر والعوز قد يجران الإنسان نحو هاوية السقوط في مهالك الانحراف،
فكذلك الغنى في كثير من حالاته يكون منشأ للفساد والطغيان.
* * *
2 بحوث
3 1 - ما هي خزائن الله تعالى؟
نقرأ في آيات القرآن أن: لله عز وجل خزائن، لله خزائن السماوات
والأرض، بيده خزائن كل شئ.. فما هي خزائنه تعالى؟
" الخزائن " لغة جمع " خزانة ": وهي المكان المخصص لحفظ وتجميع المال.
وهي من مادة (خزن) على وزن (وزن) بمعنى: حفظ الشئ وحبسه.
53

بديهي، أن من كانت قدرته محدودة وغير قادر على أن يهئ لنفسه كل ما
يحتاج إليه على الدوام، يبدأ بجمع ما يملك وخزنه لوقت الحاجة إليه مستقبلا.
وهل يمكن تصور ذلك في شأنه سبحانه!؟ الجواب بالنفي قطعا.. ولهذا فسر
جمع من المفسرين أمثال العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) والفخر الرازي في
(تفسيره الكبير) والراغب في (المفردات)، فسروا خزائن الله بمعنى (مقدورات
الله)، يعني: أن كل شئ جمع في خزانة قدرة الله، وكل ما يخطه ضرورة أو
صلاحا لمخلوقه يخلقه بقدرته.
وقد فسر بعض كبار المفسرين " خزائن الله " بأنها: (مجموع ما في الكون من
أصوله وعناصره وأسبابه العامة المادية، ومجموع الشئ موجود في مجموع
خزائنه لا في كل واحد منها) (1).
هذا التفسير وإن كان مقبولا من الناحية الأصولية ولكن تعبير " عندنا "
ينسجم أكثر مع التفسير الأول.
وان عبارة " خزائن الله " وما شابهها لا تصف مقام الرب وشأنه الجليل، ولا
يصح أن نعتبرها بعين معناها، وإنما استعملت للتقريب، من باب تكلم الناس
بلسانهم، ليكونوا أكثر قربا للسمع وأشد فهما للمعنى.
وذكر بعض المفسرين أن " خزائن " تختص بالماء والمطر، ولكن من الواضح
حصر مفهوم " خزائن " بهذا المصداق المحدد تقييد بلا مقيد لإطلاق مفهوم الآية،
وهو خال من أي دليل أو قرنية.
3 2 - النزول مكاني ومقامى
كما بينا سابقا أن النزول لا يرمز إلى الحالة المكانية دوما (أي النزول من

1 - الميزان، ج 12، ص 142.
54

مكان عال إلى أسفل)، بل يرمز إلى النزول المقامي في بعض الموارد، فمثلا.. في
حال وصول نعمة من شخص ذي شأن إلى من هم أقل منه شأنا، فإنه يعبر عنها
بالنزول.
وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مورد النعم الإلهية، سواء
كانت نازلة من السماء إلى الأرض كالمطر، أو ما يتوالد على الأرض
كالحيوانات، وهذا ما نلاحظه في الآية السادسة من سورة الزمر وأنزلنا لكم
من الأنعام ثمانية أزواج، وكذلك في الآية الخامسة والعشرين من سورة
الحديد، بشأن الحديد، وأنزلنا الحديد... الخ.
خلاصة القول:
إن (نزول) و (إنزال) هنا بمعنى وجود وإيجاد وخلق، وما استعمال هذا اللفظ
إلا لأنها نعم الله عز وجل التي وهبها لعباده.
* * *
55

2 الآيات
وأرسلنا الريح لواقح فأنزلنا من السماء ماء
فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين (22) وإنا لنحن نحى ونميت
ونحن الوارثون (23) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا
المستأخرين (24) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم (25)
2 التفسير
3 دور الرياح والأمطار:
بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة قسما من أسرار الخليقة
والنعم الإلهية كخلق الأرض والجبال والنباتات وما تحتاجه الحياة من
مستلزمات، يشير في أولى الآيات المبحوثة إلى حركة الرياح وما لها من آثار
في عملية نزول المطر، فيقول: وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء
فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين.
" لواقح " جمع " لاقح ".. وهي تشير هنا إلى دور الرياح في تجميع قطع
الحساب مع بعضها لتهيئة عملية سقوط الأمطار.
وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أن الآية تشير إلى عملية تلقيح
56

النباتات بواسطة الرياح، وبها يستدلون على الإعجاز العلمي للقرآن، على اعتبار
أن عصر نزول القرآن ما كان يحظى بما وصل إليه عصرنا من العلوم الحديثة، وأن
إخبار القرآن بهذه الحقيقة العلمية (علمية التلقيح) من ذلك الوقت لدليل على
إعجازه العلمي.
مع قبولنا بحقيقة تلقيح النباتات ودور الرياح فيها، إلا أننا لا نرى ما يشير لما
ذهب إليه علماء اليوم لسببين:
الأول: وجود قرينة نزول المطر بعد كلمة لواقح مباشرة.
ثانيا: وجود فاء السببية بينها (بين لواقح ونزول المطر).
مما يبين بشكل جلي أن تلقيح الرياح يعقبه نزول المطر.
ويعتبر ما جاء في الآية المباركة من روائع الكلم، حيث شبه قطع الحساب
بالآباء والأمهات يتم تزاوجهم بأثر الرياح، فتحمل الأمهات، ثم تلقي بما حملت
(قطرات المطر) إلى الأرض.
ويمكن حمل ما أنتم له بخازنين على أنها إشارة لخزن ماء المطر في
السحب قبل نزوله، أي إنكم لا تستطيعون استملاك السحب التي هي المصدر
الأصلي للأمطار.
ويمكن حملها على أنها إشارة إلى جمع وخزن الأمطار بعد نزولها، أي إنكم
لا تقدرون على جمع مياه الأمطار بمقادير كبيرة حتى بعد نزوله، وأن الله عز وجل
هو الذي يحفظها ويخزنها على قمم الجبال بهيئة ثلوج، أو ينزلها في أعماق
الأرض لتكون بعد ذلك عيونا وآبارا.
ثم ينتقل من مظاهر توحيد الله إلى المعاد ومقدماته: وإنا لنحن نحيي
ونميت ونحن الوارثون، فيذكر مسألة الحياة والموت التي تعتبر من أهم
المقدمات لبحث موضوع المعاد، إضافة لكون هذه المسألة من مكملات
موضوع التوحيد، باعتبار مسألة الحياة منذ بدايتها وحتى انتهائها بالموت تشكل
57

نظاما مترابطا في عالم الوجود لا يمكن تصور تشكيله إلا بوجود علم وقدرة
مطلقين، بالإضافة إلى أن وجود الحياة والموت بحد ذاته دليل على أن
موجودات هذا العالم لا تملك زمام أنفسها ناهيك عما هو بأيديها، وأن الوارث
الحقيقي لكل شئ هو الله تعالى.
ثم يضيف: ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين.
أي، نحن على علم بهم وبما يعملون، وإن أمر محاسبتهم وجزائهم في المعاد
علينا سهل يسير.
ولهذا، نرى الآية التي تليها: وإن ربك هو يحشر هم إنه حكيم عليم
مرتبطة تماما مع ما قبلها ومتممة من خلال طرحها مسألة ما سيكون بعد
الموت.. فحكمة الباري أوجبت أن لا يكون الموت نهاية لكل شئ.
فلو أن الحياة انحصرت بهذه الفترة الزمنية المحدودة وينتهي كل شئ
بالموت لكانت عملية الخلق عبثا، وهذا غير معقول، لأنه تعالى منزه عن العبث.
فالحكمة الإلهية اقتضت من " حياة الدنيا أن تكون مرحلة استعداد لمسيرة
دائمة نحو المطلق "، وبتعبير آخر. مقدمة لحياة أبدية خالدة. وأما كونه سبحانه
عليما.. فهو عليم بصحائف أعمال الجميع المثبتة في قلب هذا العالم الطبيعي من
جهة، وكذلك في أعماق وجود الانسان من جهة أخرى، ولا تخفى عليه خافية
يوم يقوم الحساب.
وكونه سبحانه الحكيم العليم في هذا المورد دليل قوي وعميق الغور على
مسألة الحشر والمعاد.
* * *
2 بحث
3 من هم المستقدمون والمستأخرون؟
58

ذكر المفسرون في تفسير ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا
المستأخرين احتمالات كثيرة، فذكر العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) ستة
احتمالات، والقرطبي ثمانية احتمالات، وأبو الفتوح الرازي بحدود العشرة
احتمالات، والملاحظة الدقيقة تظهر أنه يمكن لنا أن نجمع كل ما ذكروه في
تفسير واحد، لأن كلمة " المستقدمين " و " المستأخرين " لهما معنيان واسعان
يشملان المتقدمين والمتأخرين من حيث الزمان، وكذلك من حيث أعمال الخير
والجهاد وحتى الحضور في الصفوف المتقدمة لصلاة الجماعة وما شابهها. وإذا ما
أخذنا بهذا المعنى الجامع فيمكننا جمع كل الاحتمالات الواردة في " تقدم "
و " تأخر " المذكورتين في الآية في تفسير واحد.
وفيما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحث على الاشتراك في الصف الأول من
صفوف صلاة الجماعة أنه قال: " إن الله وملائكته يصلون على الصف المتقدم "
فازدحم الناس وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا: " لنبيعن دورنا
ولنشترين دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم "، فنزلت هذه الآية.
(وأفهمتهم على أن الله تعالى عليم بنياتكم، فحتى لو كنتم في الصف الأخير فإنه
يكتب لكم ثواب الصف الأول حسب نيتكم وعزمكم على ذلك).
فمحدودية شأن نزول الآية لا يكون أبدا سببا لحصر مفهومها الواسع.
* * *
59

2 الآيات
ولقد خلقنا الإنسان من صلصل من حمإ مسنون (26)
والجان خلقناه من قبل من نار السموم (27) وإذ قال ربك
للملائكة إني خلق بشرا من صلصل من حمإ مسنون (28)
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29)
فسجد الملائكة كلهم أجمعون (30) إلا إبليس أبى أن يكون مع
الساجدين (31) قال بإبليس ما لك ألا تكون مع
الساجدين (32) قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصل
من حمإ مسنون (33) قال فاخرج منها فإنك رجيم (34) وإن
عليك اللعنة إلى يوم الدين (35) قال رب فانظرني إلى يوم
يبعثون (36) قال فإنك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت
المعلوم (38) قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض
ولأغوينهم أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين (40) قال
هذا صر ط على مستقيم (41) إن عبادي ليس لك عليهم
60

سلطن إلا من اتبعك من الغاوين (42) وإن جهنم لموعدهم
أجمعين (43) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (44)
2 التفسير
3 خلق الإنسان:
بعد ذكر خلق نماذج من مخلوقات الله في الآيات السابقة، تأتي هذه الآيات
لتبين أن الهدف الأساسي من إيجاد كل الخليقة إنما هو خلق الإنسان. وتتطرق
الآيات إلى جزئيات عديدة في شأن الخلق، زاخرة بالمعاني.
وقبل الدخول في بحوث مفصلة حول بعض المسائل التي ذكرت في الآيات
المباركات نشرع بتفسير إجمالي..
يقول تعالى في البداية: ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ
مسنون، " الصلصال " هو التراب اليابس الذي لو اصطدم به شئ أحدث
صوتا.. و " الحمأ المسنون " هو طين متعفن.
والجان خلقناه من قبل من نار السموم.
" السموم " لغة: الهواء الحارق، وسمي بالسموم لأنه يخترق جميع مسامات
بدن الإنسان، وكذلك يطلق على المادة القاتلة (السم) لأنها تنفذ في بدن الإنسان
وتقتله.
ثم يعود القرآن الكريم إلى خلق الإنسان مرة أخرى فيتعرض إلى كلام الله
تعالى مع الملائكة قبل خلق الإنسان: وإذا قال ربك للملائكة إني خالق بشرا
من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي وهي روح
شريفة طاهرة جليلة فقعوا له ساجدين.
وبعد أن تم خلق الإنسان من الجسم والروح المناسبين فسجد الملائكة
كلهم أجمعين.
61

ولم يعص هذا الأمر إلا إبليس: إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين.
وهنا سأل الله إبليس: قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين.
فأجاب إبليس بعد أن كان غارقا في بحر الغرور المظلم، وتائها في حب
النفس المقتم، وبعد أن غطى حجاب الخسران عقله.. أجاب بوقاحة قال لم
أكن لا سجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون.. فأين النار المضيئة من
التراب الأسود المتعفن! وهل لموجود شريف مثلي أن يتواضع ويخضع لموجود
أدنى منه! أي قانون هذا؟!..
ونتيجة للغرور وحب النفس، فقد جهل أسرار الخليقة، ونسي بركات التراب
الذي هو منبع كل خير وبركة، والأهم من ذلك كله.. فقد تجاهل شرافة تلك الروح
التي أودعها الرب في آدم.. وكنتيجة طبيعية لهذا السلوك المنحرف فقد هوى من
ذلك المقام المرموق بعد أن أصبح غير لائق لأن يكون في درجة الملائكة وبين
صفوفهم، فجاء الأمر الإلهي مقرعا: قال فاخرج منها فإنك رجيم، أي أخرج
من الجنة، أو من السماوات أو اخرج من بين صفوف الملائكة.
واعلم يا إبليس بأن غرورك أصبح سببا لكفرك، وكفرك قد أوجب طردك
الأبدي وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين أي، إلى يوم القيامة.
وهنا.. حينما وجد إبليس نفسه مطرودا من الساحة الإلهية، ساوره إحساس
بأن خلق الإنسان هو سبب شقائه فاشتعلت نار الحقد والضغينة في قلبه لينتقم
لنفسه من أولاد آدم (عليه السلام).
فبالرغم من أن السبب الحقيقي يرجع إلى إبليس نفسه وليس لآدم دخل في
ذلك، إلا أن غروره وحبه لنفسه وعناده المستحكم لم يعطياه الفرصة لدرك حقيقة
شقاءه، ولهذا قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون، ليركز عناده وعداءه!
وقبل الله تعالى طلبه: قال فإنك من المنظرين.
ولكن ليس إلى يوم يبعثون كما أراد، بل إلى يوم الوقت المعلوم. فما هو
62

يوم الوقت المعلوم؟
قال بعض المفسرين: هو نهاية هذا العالم وانتهاء التكليف، لأن بعد ذلك (كما
يفهم من ظاهر الآيات القرآنية) تحل نهاية حياة جميع الكائنات، ولا يبقى حي إلا
الذات الإلهية المقدسة، ومن هذا نفهم حصول الموافقة على بعض طلب إبليس.
وقال بعض آخر: هو زمان معين لا يعلمه إلا الله، لإنه لو أظهره عز وجل لكان
لإبليس ذريعة في المزيد من التمرد والمعاصي.
وثمة من قال: إنه يوم القيامة، لأن إبليس أراد أن يكون حيا إلى ذلك اليوم
ليكون بذلك من الخالدين في الحياة، وإن يوم الوقت المعلوم قد ورد بمعنى يوم
القيامة في سورة الواقعة (الآية / 50)، وهو ما يعزز هذا القول.
ويبدو أن هذا الاحتمال بعيد جدا لأنه يتضمن الموافقة الإلهية على كل طلب
إبليس، والحال أن ظاهر الآيات المذكورة لا تعطي هذا المعنى، فلم تبين الآيات
أن الله استجاب لطلبه بالكامل، بل يوم الوقت المعلوم... ومن هنا يكون التفسير
الأول أكثر توافقا مع روح وظاهر الآية، وكذلك ينسجم مع بعض الروايات عن
الإمام الصادق (عليه السلام) بهذا الخصوص (1).
وهنا أظهر إبليس نيته الباطنية قال رب بما أغويتني وكان هذا الإنسان
سببا لشقائي لأزينن لهم في الأرض نعمها المادية ولأغوينهم أجمعين
بإلهائهم بتلك النعم.
إلا أنه يعلم جيدا بأن وساوسه سوف لن تؤثر في قلوب عباد الله المخلصين،
وأنهم متحصنون من الوقوع في شباكه، لأن قوة الإيمان ودرجة الإخلاص عندهم
بمكان يكفي لدرء الخطر عنهم بتحطيم قيود الشيطان عن أنفسهم.. ولهذا نراه قد
استثنى في طلبه إلا عبادك منهم المخلصين.

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 13، الحديث 45.
63

من البديهي أن الله سبحانه منزه عن تضليل خلقه، إلا أن محاولة إبليس
لتبرير ضلاله وتبرئة نفسه جعلته ينسب ذلك إلى الله سبحانه وتعالى. هذا الموقف
هو ديدن جميع الأبالسة والشياطين، فهم يلقون تبعة ذنوبهم على الآخرين أولا
ومن ثم يسعون لتبرير أعمالهم القبيحة بمنطق مغلوط ثانيا، والمصيبة أن مواقفهم
تلك إنما يواجهون بها رب العزة والجبروت، وكأنهم لا يعلمون أنه لا تخفى عليه
خافية.
وينبغي ملاحظة أن " المخلصين " جمع مخلص (بفتح اللام) وهو - كما بيناه
في تفسير سورة يوسف - المؤمن الذي وصل إلى مرحلة عالية من الإيمان والعمل
بعد تعلم وتربية ومجاهدة مع النفس، فيكون ممتنعا من نفوذ وساوس الشيطان
وأي وسواس آخر.
ثم قال تعالى تحقيرا للشيطان وتقوية لقلوب العباد المؤمنين السالكين
درب التوحيد الخالص: قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك
عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين.
يعني، يا إبليس ليس لك القدرة على إضلال الناس، لكن الذين يتبعونك إن
هم إلا المنحرفين عن الصراط المستقيم والمستجيبين لدواعي رغباتهم وميولهم.
وبعبارة أخرى.. إن الإنسان حر الإرادة، وإن إبليس وجنوده لا يقوون على
أن يجبروا إنسانا واحدا على السير في طريق الفساد والضلال، لكنه الإنسان هو
الذي يلبي دعوتهم ويفتح قلبه أمامهم ويأذن لهم في الدخول فيه!
وخلاصة القول: إن الوساوس الشيطانية وإن كانت لا تخلو من أثر في
تضليل وانحراف الإنسان، إلا أن القرار الفعلي للانصياع للوساوس أو رفضها
يرجع بالكامل إلى الإنسان، ولا يستطيع الشيطان وجنوده مهما بلغوا من مكر أن
يدخلوا قلب إنسان صاحب إرادة موجهة صوب الإيمان المخلص.
وأراد الله سبحانه بهذا القول نزع الخيال الباطل والغرور الساذج من فكر
64

الشيطان من أنه سيجد سلطة فائقة على الناس وبلا منازع، يمكنه من خلالها إغواء
من يريد.
ثم يهدد الله بشدة أتباع الشيطان: وإن جهنم لموعدهم أجمعين وأن ليس
هناك وسيلة للفرار، والكل سيحاسب في مكان واحد.
لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم.
هي أبواب للذنوب التي يدخلون جهنم بسببها، وكل يحاسب بذنبه.. كما هو
الحال في أبواب الجنة التي هي عبارة عن طاعات وأعمال صالحة ومجاهدة
للنفس يدخل بها المؤمنون الجنة.
* * *
2 بحوث
3 1 - التكبر والغرور من المهالك العظام:
المستفاد تربويا من قصة إبليس في القرآن هو أن الكبر والغرور من الأسباب
الخطيرة في عملية الانهيار والسقوط من المكانة المحترمة المرموقة إلى مدارك
الدون والخسران.
فكما هو معلوم أن إبليس لم يكن من الملائكة (كما تشير إلى ذلك الآية
الخمسون من سورة الكهف) إلا أنه ارتقى الدرجات العلا ونال شرف العيش بين
صفوف الملائكة نتيجة لطاعته السابقة لله عز وجل، حتى أن البعض قال عنه: إنه
كان معلما للملائكة، ويستفاد من الخطبة القاصعة في (نهج البلاغة) أنه عبد الله عز
وجل آلاف السنين.
لكن شراك التعصب الأعمى وعبادة هوى النفس المهلك قد أديا إلى خسرانه
كل ذلك في لحظة تكبر وغرور.
بل إن حب الذات والغرور والتعصب والتكبر قد جعلته يستمر في موقفه
65

المريض ويوغل قدمه في وحل الإصرار على الإثم والسير المتخبط في جادة
العناد، فنسي أو تناسى ما للتوبة والاستغفار من أثر إيجابي، حتى دعته الحال لأن
يشارك كل الظلمة والمذنبين من بني آدم في جرائمهم وذنوبهم بوسوسته لهم..
وبات عليه أن يتحمل نصيبه من عذاب الجميع يوم الفزع الأكبر.
وليس إبليس فحسب، بل إن التأريخ يحدثنا عن أصحاب النفوس المريضة
ممن ركبهم الغرور والكبر فعاثوا في الأرض فسادا بعد أن غطت العصبية رؤاهم،
وحجب الجهل بصيرتهم، وسلكوا طريق الظلم والاستبداد وسادوا على الرقاب
بكل جنون فهبطوا إلى أدنى درجات الرذيلة والانحراف عن الطريق القويم.
إن هاتين السمتين الأخلاقيتين (التكبر والغرور) في الواقع.. نار رهيبة
محرقة. فكما أن من صرف وطرا من عمره في بناء وتأثيث دار، لربما في لحظات
معدودات يتحول إلى هباء منثور بسبب شرارة صغيرة.. فالتكبر والغرور يفعل فعل
النار في الحطب ولا تنفع معه تلك السنين المعمورة بالطاعة والبناء.
فأي درس أنطق من قصة إبليس وأبلغ؟!
إن إبليس قد اختلطت عليه معاني الأشياء فراح يضع المعاني حسب
تصوراته الخادعة المحدودة ولم يدرك أن النار ليست أفضل وأشرف من التراب،
والتراب مصدر جميع البركات كالنباتات والحيوانات والمعادن وهو محل حفظ
المياه، وبعبارة اشمل هو منبع وأصل كل الكائنات الحية، وما عمل النار إلا
الإحراق وكثيرا ما تكون مخربة ومهلكة.
ويصف أمير المؤمنين (عليه السلام) إبليس بأنه " عدو لله، إمام المتعصبين وسلف
المستكبرين " ثم يقول: " ألا ترون كيف صغره الله بتكبره ووضعه بترفعه، فجعله
في الدنيا مدحورا وأعد له في الآخرة سعيرا " (1).

1 - نهج البلاغة، من الخطبة 192.
66

وكما أشرنا سابقا أن إبليس كان أول من وضع أسس مذهب الجبر الذي
ينكره وجدان أي إنسان. حيث أن الدافع المهم لأصحاب هذا المذهب تبرئة
ساحة المذنبين من أعمالهم المخالفة لشرع الله، وكما قرأنا في الآيات مورد
البحث من أن إبليس تذرع بتلك الكذبة الكبيرة لأجل تبرئة نفسه، وأنه على حق
في إضلاله لبني آدم حين قال: رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض
ولأغوينهم أجمعين.
3 2 - على من يتسلط الشيطان؟
نرى من الضروري أن نكرر القول بأن نفوذ الوساوس الشيطانية في قلب
الإنسان لا تأتي فجأة أو إجبارا، وإنما بوجود الرغبة الكافية عند الإنسان بفسح
المجال أمام دخول الوساوس إلى دواخله، وعلى هذا فالشيطان يعلم تماما بأن
ليس له سبيل على المخلصين الذين طهروا أنفسهم في ظل التربية الخالصة من
الشوائب والأدران وغسلوا قلوبهم من صدأ الشرك والضلال. وبتعبير القرآن
الكريم إن رابطة الشيطان مع الضالين هي رابطة التابع والمتبوع وليس رابطة
المجبر والمجبور.
3 3 - أبواب جهنم!
قرأنا في الآيات مورد البحث أن لجهنم سبعة أبواب (وليس بعيدا أن يكون
ذكر العدد في هذا المورد للكثرة كما ورد هذا العدد في الآية السابعة والعشرين من
سورة لقمان بهذا المعنى أيضا).
ومن الواضح أن تعدد أبواب جهنم (كما هو تعدد أبواب الجنة) لم يكن
لتسهيل أمر دخول الواردين نتيجة لكثرتهم، بل هي إشارة إلى الأسباب والعوامل
المتعددة التي تؤدي لدخول الناس في جهنم، وأن لكل من هذه الذنوب باب معين
67

يؤدي إلى مدركه.
ففي نهج البلاغة: " إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة
أوليائه " (1)، وفي الحديث المعروف: " إن السيوف مقاليد الجنة ".. فهذه التعبيرات
تبين لنا بوضوح ما المقصود من تعدد أبواب الجنة والنار.
وثمة نكتة لطيفة في ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): " إن للجنة ثمانية
أبواب " (2)، في حين أن الآيات تذكر أن لجهنم سبعة أبواب، وهذا الاختلاف في
العددين إشارة إلى أنه مع كثرة أبواب العذاب والهلاك إلا أن أبواب الوصول إلى
السعادة والنعيم أكثر، (وقد تحدثنا عن ذلك في تفسير الآية الثالثة والعشرين من
سورة الرعد).
3 4 - (الحمأ المسنون) و (روح الله):
يستفاد من الآيات أن خلق الإنسان تم بشيئين متغايرين، أحدهما في أعلى
درجات الشرف والآخر في أدنى الدرجات (بقياس ظاهر القيمة).
فالطين المتعفن خلق منه الجانب المادي منه الإنسان، في حين جانبه
الروحي والمعنوي خلق بشئ سمي (روح الله).
وبديهي أن الله سبحانه منزه عن الجسمية وليس له روح، وإنما أضيف الروح
إلى لفظ الجلالة لإضفاء التشريف عليها وللدلالة على أنها روح ذات شأن جليل
قد أودعت في بدن الانسان، بالضبط كما تسمى الكعبة (بيت الله) لجلالة قدرها،
وشهر رمضان المبارك (شهر الله) لبركته.
ولهذا السبب نرى أن الخط التصاعدي الانسان يتساهى في العلو حتى يصل
إلى أن لا يرى سوى الله عز وجل، وخط تسافله من الإنحطاط حتى يركد في

1 - نهج البلاغة، الخطبة 27.
2 - الخصال للشيخ الصدوق - باب الثمانية.
68

أدنى مرتبة من الحيوانات بل هم أضل وهذا البون الشاسع بين الخطين
التصاعدي والتنازلي بحد ذاته دليل على الأهمية الاستثنائية لهذا المخلوق.
إن شرف مقام الانسان وتكريمه يأتي من خلال هذا التركيب الخاص، ولكن
ليس بفضل جنبته المادية لأنه ليس سوى (حمأ مسنون) وإنما بفضل الروح الإلهية
المودعة فيه، بما تحمل من استعدادات ولياقة لأن تكون منعكسا للأنوار الإلهية،
تلك الأنوار التي استمد منها الإنسان شرف قدره ومقامه.. ولا سبيل لتكامل
الانسان إلا ببنائه الروحي ووضع بعده المادي في خدمة طريق التكامل والوصول
لساحة رضوانه جل شأنه.
والمستفاد من الآيات المتعلقة بخلق آدم في أوائل سورة البقرة أن مسألة
سجود الملائكة لآدم، كان لما أودع فيه من العلم الإلهي الخاص.
وقد أجبنا على سؤال: كيف يصح السجود لغير الله؟ وهل أن سجود الملائكة
كان في حقيقة لله عز وجل لأجل هذا الخلق العجيب؟ أم كان لآدم؟.. في تفسير
الآيات المتعلقة بخلق آدم سورة البقرة.
3 5 - ما هو الجان؟
إن كلمة (الجن) في الأصل بمعنى: الشئ الذي يستر عن حس الانسان،
فمثلا نقول (جنه الليل) أو (فلما جن عليه الليل) أي عندما غطته ستارة الليل
السوداء، ويقال (مجنون) لمن فقد عقله أي ستر، و (الجنين) للطفل المستور في
رحم أمه، و (الجنة) للبستان الذي تغطي أشجاره أرضه، و (الجنان) للقلب الذي
ستر داخل صدر الانسان، و (الجنة) للدرع الذي يحمي الإنسان من ضربات
الأعداد.
والمستفاد من آيات القرآن أن " الجن " نوع من الموجودات العاقلة قد
سترت عن حس الانسان، وخلقت من النار، أو من مارج من نار، أي من صافي
69

شعلتها، وإبليس من هذا الصنف.
وقد عبر بعض العلماء عن الجن بأنها: نوع من الأرواح العاقلة المجردة من
المادة (وواضح أن تجردها ليس كاملا، فما يخلق من المادة فهو مادي، ولكن
يمكن أن يكون نصف تجرد لأنه لا يدرك بحواسنا، وبتعبير آخر: إنه نوع من
الجسم اللطيف).
ويستفاد من الآيات القرآنية أيضا أن الجن فيهم المؤمن المطيع والكافر
العاصي، وأنهم مكلفون شرعا، ومسؤولون.
ومن الطبيعي أن شرح هذه الأمور ومسألة انسجامها مع العلم الحديث يتطلب
منا بحثا مطولا، وسنتناوله إن شاء الله في تفسير سورة الجن.
ومما ينبغي الإشارة إليه في هذا الصدد.. أن كلمة " الجان " الواردة في
الآيات مورد البحث هي من مادة (الجن) ولكن.. هل ترمزان إلى معنى واحد؟ فقد
ذهب بعض المفسرين إلى أن الجان نوع خاص من الجن، ولكننا لا نرى ذلك.
فلو جمعنا الآيات القرآنية الواردة بهذا الشأن مع بعضها البعض لا تضح أن
كلا المعنيين واحد، لأن الآيات القرآنية وضعت " الجن " في قبال الانسان تارة،
ووضعت " الجان " تارة أخرى.
فمثلا نقرأ في الآية (88) من سورة الإسراء قل لئن اجتمعت الإنس
والجن.
وفي بعض الآية (56) من سورة الذاريات وما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدون.
في حين نقرأ في الآية (15) من سورة الرحمن خلق الإنسان من صلصال
كالفخار وخلق الجان من مارج من نار.
وفي الآية (39) من نفس السورة فيومئذ لا يسأل عن ذنبه انس ولا
جان.
70

فمن مجموع الآيات أعلاه والآيات القرآنية الأخرى يستفاد بوضوح أن
الجن والجان لفظان لمعنى واحد، ولهذا وردت في الآيات السابقة كلمة " الجن "
في مقابل الإنسان، وكذا الحال بالنسبة لل‍ " جان ".
وينبغي التنويه إلى أن القرآن الكريم قد ذكر " الجان " ويريد به نوعا من
الأفاعي كما جاء في قصة موسى (عليه السلام) كأنها جان في سورة القصص - 31، إلا
أن ذلك خارج نطاق بحثنا.
3 6 - القرآن وخلق الإنسان:
شاهدنا في الآيات الأنفة أن القرآن قد تناول مسألة خلق الإنسان بشكل
مختصر ومكثف تقريبا، لأن الهدف الأساسي من التناول هو الجانب التربوي في
الخلق، وورد نظير ذلك في أماكن أخرى من القرآن، كما في سورة السجدة،
والمؤمنون، وسورة ص، وغيرها.
وبما أن القرآن الكريم ليس كتابا للعلوم الطبيعية بقدر ما هو كتاب حياة
الإنسان يرسم له فيه أساليب التربية وأسس التكامل. فلا ينتظره منه أن يتناول
جزئيات هذه العلوم من قبيل تفاصيل: النمو، التشريح، علم الأجنة، علم النبات
وما شابه ذلك، إلا أنه لا يمنع من أن يتطرق بإشارات مختصرة إلى قسم من هذه
العلوم بما يتناسب مع البحث التربوي المراد طرحه.
بعد هذه المقدمة نشرع بالموضوع من خلال بحثين:
1 - التكامل النوعي من الناحية العلمية.
2 - التكامل النوعي وفق المنظور القرآني.
في البدء، نتناول البحث الأول وندرس المسألة وفق المقاييس الخاصة
للمعلوم الطبيعية بعيدا عن الآيات والروايات:
ثمة فرضيتان مطروحتان في أوساط علماء الطبيعة بشأن خلق الكائنات
71

الحية بما فيها الحيوانات والنباتات:
ألف: فرضية تطور الأنواع (ترانسفور ميسم) والتي تقول: إن الكائنات الحية
لم تكن في البداية على ما هي عليه الآن، وإنما كانت على هيئة موجودات ذات
خلية واحدة تعيش في مياه المحيطات، وظهرت بطفرة خاصة من تعرقات طين
أعماق البحار.
أي أنها كانت موجودات عديمة الروح، وقد تولدت منها أول خلية حية
نتيجة لظروف خاصة.
وهذه الكائنات الحية لصغرها لا ترى بالعين المجردة وقد مرت بمراحل
التكامل التدريجي وتحولت من نوع إلى آخر.
وتم انتقالها من البحار إلى الصحاري ومنها إلى الهواء.. فتكونت بذلك أنواع
النباتات والحيوانات المائية والبرية والطيور.
وإن أكمل مرحلة وأتم حلقة لهذا التكامل هو الإنسان الذي نراه اليوم، الذي
تحول من موجودات تشبه القرود إلى القرود التي تشبه الإنسان ثم وصل إلى
صورته الحالية.
ب - فرضية ثبوت الأنواع (فيكنسيسم)، والتي تقول: إن أنواع الكائنات
الحية منذ بدايتها وما زالت تحمل ذات الأشكال والخواص، ولم يتغير أي من
الأنواع إلى نوع آخر، ومن جملتها الإنسان فكان له صورته الخاصة به منذ بداية
خلقه.
وقد كتب علماء كلا الفريقين بحوثا مطولة لإثبات عقيدتهم، وجرت
مناظرات ومنازعات كثيرة في المحافل العلمية حول هذه المسألة، وقد اشتد
النزاع عندما عرض كل من (لامارك) العالم الفرنسي المعروف المتخصص بعلوم
الأحياء والذي عاش بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر،
و (داروين) عالم الأحياء الإنكليزي الذي عاش في القرن التاسع عشر نظراتهما
72

في مسألة تطور الأنواع بأدلة جديدة.
ومما ينبغي التنوية إليه، هو أن معظم علماء اليوم يميلون إلى فريضة تطور أو
تكامل الأنواع هذه خصوصا في محافل العلوم الطبيعية.
3 أدلة القائلين بالتكامل:
يمكننا تلخيص أدلتهم بثلاثة أقسام:
الأول: الأدلة المأخوذة من الهياكل العظمية المتحجرة للكائنات الحية
القديمة فإن الدراسات لطبقات الأرض المختلفة (حسب اعتقادهم) تظهر أن
الكائنات الحية قد تحولت من صور بسيطة إلى أخرى أكمل وأكثر تعقيدا، ولا
يمكن تفسير ما عثر عليه من متحجرات الكائنات الحية إلا بفرضية التكامل هذه.
الثاني: مجموع القرائن التي جمعت في (التشريح المقارن).
ويؤكد هؤلاء العلماء عبر بحوثهم المطولة المفصلة: إننا عندما نشرح الهياكل
العظمية للحيوانات المختلفة ونقارنها فيما بينها، نجد أن ثمة تشابها كبيرا فيما
بينها، مما يشير إلى أنها جاءت من أصل واحد.
الثالث: مجموع القرائن التي حصل عليها من (علم الأجنة).
فيقولون: إننا لو وضعنا جميع الحيوانات في حالتها الجنينية - قبل أن تأخذ
شكلها الكامل - مع بعضها، فسنرى أن الأجنة قبل أن تتكامل في رحم أمهاتها أو
في داخل البيوض تتشابه إلى حد كبير.. وهذا ما يؤكد على أنها قد جاءت في
الأصل من شئ واحد.
3 أجوبة القائلين بثبوت الأنواع:
إلا أن القائلين بفرضية ثبوت الأنواع لديهم جواب واحد لجميع أدلة القائلين
بالتكامل وهو: أن القرائن المذكورة لا تملك قوة الإقناع، والذي لا يمكن إنكاره
73

أن الأدلة الثلاثة توجد في الذهن احتمالا ظنيا لمسألة التكامل، إلا أنها لا تقوى
أن تصل إلى حال اليقين أبدا.
وبعبارة أوضح: إن إثبات فرضية التكامل وانتقالها من صورة فرض علمي
إلى قانون علمي قطعي.. إما أن يكون عن طريق الدليل العقلي، أو عن طريق
الحس والتجربة والاختيار، ولا ثالث لها.
أما الأدلة العقلية والفلسفية فليس لها طريق إلى هذه المسائل كما نعلم، وأما
يد التجربة والاختيار فأقصر من أن تمتد إلى مسائل قد امتدت جذورها إلى
ملايين السنين.
إن ما ندركه بالحس والتجربة لا يتعدى بعض الحالات السطحية، ولفترة
زمنية متباعدة، على شكل طفرة وراثية (موتاسيون) في كل من الحيوان والنبات.
فمثلا.. نرى أحيانا في نسل الأغنام العادية ولادة مفاجئة لخروف ذي صوف
يختلف عن صوف الخراف العادية، فيكون أنعم وأكثر لينا من العادية بكثير،
فيكون بداية لظهور نسل جديد يسمى (أغنام مرينوس).
أو أن حيوانات تحصل فيها الطفرة الوارثية فيتغير لون عيونها أو أظفارها أو
شكل جلودها وما شابه ذلك.. لكنه لم يشاهد لحد الآن طفرة تؤدي إلى حصول
تغيير مهم في الأعضاء الأصلية لبدن أي حيوان، أو يتبدل نوع منها إلى نوع آخر.
بناء على ذلك.. يمكننا أن نتخيل أن نوعا من الحيوان يتحول إلى نوع آخر
بطريق تراكم الطفرة الوراثية، كأن تتحول الزواحف إلى طيور ولكن ذلك ليس
سوى حدس ومجرد تخيل لا غير، ولم نر الطفرات الوارثية قد غيرت عضوا
أصليا لحيوان ما إلى صورة أخرى.
نخلص مما تقدم إلى النتيجة التالية: إن الأدلة التي يطرحها أنصار فرضية
(الترانسفور ميسم) لا تتجاوز كونها فرضا لا غير، لذا نرى أنصارها يعبرون عنها
ب‍ (فرضية تطور الأنواع) ولم يجرأ أي منهم من تسميتها بالقانون أو الحقيقة
74

العلمية.
3 نظرية التكامل و.. الإيمان بالله:
الكثير ممن يحاولون تصوير نوع من التضاد بين هذه الفرضية ومسألة
الإيمان بالله، ولعل الحق يعطى لهم من جهة، حيث أن العقيدة الداروينية في
واقعها قد أوجدت حربا شعواء بين أصحاب الكنيسة من جانب ومؤيدي داروين
من جانب آخر، حتى وصل الصراع ذروته بين الطرفين في تلك الفترة بعدما لعب
الظرف السياسي وكذا الاجتماعي دورهما (مما لا يسع المجال لشرح ذلك هنا)،
فكانت النتيجة أن اتهم أصحاب الكنيسة الداروينية بأنها لا تنسجم مع الإيمان
بالله.
وقد كشفت الأيام عن عدم وجود تضاد بين الأمرين، فإننا سواء قبلنا
بفرضية التكامل أو نفيناها لفقدانها الدليل، فلا يمنع من الإيمان بالله بكلا
الاحتمالين.
فإذا قبلنا بالفرضية فلكونها قانونا علميا مبنيا على العلة والمعلول، ولا فرق
في العلاقة بين العلة والمعلول في عالم الكائنات الحية وبقية الموجودات، فهل
يعتبر اكتشاف العلل الطبيعية من قبيل نزول الأمطار، المد والجزر في البحار،
الزلازل وما شابهها، مانعا من الإيمان بالله؟ الجواب بالنفي قطعا. إذن فاكتشاف
وجود رابطة وعلاقة تكاملية بين أنواع الموجودات الحية لا يؤدي إلى تعارض
مع مسألة الإيمان بالله كذلك.
إذن، فالأشخاص الذين يتصورون أن كشف العلل الطبيعية ينافي الإيمان
بوجود الله هم الذين يذهبون هذا المذهب وإلا فإن كشف هذه العلل ليس - فقط -
لا يتعارض مع التوحيد، وإنما سيعطينا أدلة جديدة من عالم الخليقة لإثبات
وجوده سبحانه وتعالى.
75

ومما ينبغي ذكره: أن داروين قد تبرأ من تهمة الإلحاد وصرح في كتابه (أصل
الأنواع) قائلا: إنني مع قبولي لتكامل الأنواع فإني اعتقد بوجود الله، وأساسا فإنه
بدون الاعتقاد بوجود الله لا يمكن توجيه مسألة التكامل.
وقد كتب عن داروين بما نصه: (إنه بقي مؤمنا بالله الواحد رغم قبوله بالعلل
الطبيعية في ظهور الأنواع المختلفة من الأحياء، وقد كان إحساسه بوجود قدرة
ما فوق البشر يشتد في أعماقه كلما تقدم في السن، معتبرا أن لغز الخلق يبقى لغزا
محيرا للإنسان) (1).
كان يعتقد أن توجيه هذا التكامل النوعي المعقد والعجيب، وتحويل كائن
حي بسيط جدا إلى كل هذه الأنواع المختلفة من الأحياء لا يتم إلا بوجود خطة
دقيقة يضعها ويسيرها عقل كلي.
وهو كذلك.. إذ كيف يمكن إيجاد كل هذه الأنواع العجيبة والمحيرة والتي
لكل منها تفصيلات وشؤون واسعة، من مادة واحدة بسيطة جدا وحقيرة.. كيف
يمكن ذلك بدون الاستناد على علم وقدرة مطلقين؟!
النتيجة: إن الضجة المفتعلة في وجود تضاد بين عقيدة التكامل النوعي وبين
مسألة الإيمان بالله إنما هي بلا أساس وفاقدة للدليل (سواء قبلنا بالفرضية أو لم
نقبلها).
تبقى أمامنا مسألة جديرة بالبحث وهي: هل أن فرضية تطور الأنواع
تتعارض مع ما ذكره القرآن حول قصة خلق آدم، أو لا؟
3 القرآن ومسألة التكامل:
الجدير بالذكر أن كلا من مؤيدي ومنكري فرضية التكامل النوعي - نعني

1 - الداروينية، تأليف محمود بهزاد، الصفحة 75 و 76.
76

المسلمين منهم - قد استدل بآيات القرآن الكريم لإثبات مقصوده، ولكنهما في
بعض الأحيان وتحت تأثير موقفهما قد استدلا بآيات لا ترتبط بمقصودهما إلا
من بعيد، ولذلك سنتطرق إلى الآيات القابلة للبحث والمناقشة.
أهم آية يتمسك بها مؤيدو الفرضية، الآية الثالثة والثلاثون من سورة آل
عمران إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم، وآل عمران على العالمين.
فيقولون: كما أن نوحا وآل إبراهيم وآل عمران كانوا يعيشون ضمن أممهم
فاصطفاهم الله من بينهم فكذلك آدم، أي ينبغي أنه كان في عصره وزمانه أناس
باسم " العالمين " فاصطفاه الله من بينهم، وهذا يشير إلى أن آدم لم يكن أول إنسان
على وجه الأرض، بل كان قبله أناس آخرون، ثم امتاز آدم من بينهم بالطفرة
الفكرية والروحية فكانت سببا لاصطفائه من دونهم.
هذا وذكروا آيات أخر ولكنها من حيث الأصل لا ترتبط بمسألة البحث، ولا
يعدو تفسيرها بالتكامل أن يكون تفسيرا بالرأي، وبالبعض الآخر مع كونه ينسجم
مع التكامل النوعي إلا أنه ينسجم مع الثبوت النوعي والخلق المستقل لآدم كذلك،
ولهذا ارتأينا صرف النظر عنها.
أما ما يؤخذ على هذا الاستدلال فهو أن كلمة " العالمين " إن كانت بمعنى
الناس المعاصرين لآدم (عليه السلام) وأن الاصطفاء كان من بينهم، كان ذلك مقبولا، أما لو
اعتبرنا " العالمين " أعم من المعاصرين لآدم، حيث تشمل حتى غير المعاصرين،
كما روي في الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل فاطمة عليها السلام
حيث قال: " أما ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين "،
ففي هذه الحال سوف لا تكون لهذه الآية دلالة على مقصودهم، وهو شبيه بقول
قائل: إن الله تعالى اصطفى عدة أشخاص من بين الناس جميعا في كل القرون
والأزمان، وآدم (عليه السلام) أحدهم، وعندها سوف لا يكون لازما وجود أناس في زمان
آدم كي يطلق عليهم اسم " العالمين " أو يصطفي آدم من بينهم، وخصوصا أن
77

الاصطفاء إلهي، والله عز وجل مطلع على المستقبل وعلى كافة الأجيال في كل
الأزمان (1).
وأما مؤيدو ثبوت الأنواع فقد اختاروا الآيات مورد البحث وما شابهها،
حيث نقول إن الله تعالى خلق الانسان من تراب من طين متعفن.
ومن الملفت للنظر أن هذا التعبير قد ورد في صفة خلق " الإنسان " ولقد
خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون - الآية السادسة والعشرون من
سورة الحجر -، وأيضا في صفة خلق " البشر " وإذ قال ربك للملائكة إني
خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون - الآية الثامنة والعشرون من سورة
الحجر -، وفي مسألة سجود الملائكة بعد خلق شخص آدم أيضا (لاحظ الآيات
29، 30، 31 من سورة الحجر).
عند الملاحظة الأولى للآيات يظهر أن خلق آدم كان من الحمأ المسنون أولا،
ومن ثم اكتملت هيئته بنفخ الروح الإلهية فيه فسجد له الملائكة إلا إبليس.
ثم إن أسلوب تتابع الآيات لا ينم عن وجود أي من الأنواع الأخرى منذ أن
خلق آدم من تراب حتى الصورة الحالية لبنيه.
وعلى الرغم من استعمال الحرف " ثم " في بعض من هذه الآيات لبيان
الفاصلة بين الأمرين، إلا أنه لا يدل أبدا على مرور ملايين السنين ووجود آلاف
الأنواع خلال تلك الفاصلة.
بل لا مانع إطلاقا من كونه إشارة إلى نفس مرحلة خلق آدم من الحمأ
المسنون، ثم مرحلة خلقه من الصلصال، فخلق بدن آدم، ونفخ الروح فيه.
وذلك ما ملاحظه في استعمال " ثم " في مسألة خلق الإنسان في عالم
الجنين والمراحل التي يطويها.. يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فانا

1 - وهناك احتمال آخر وهو: أن اصطفاء آدم من بين أولاده بعد أن مرت عليهم مدة ليست بالطويلة فتشكل من بينهم مجتمع
صغير.
78

خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة... ثم نخرجكم طفلا ثم
لتبلغوا أشدكم (1).
فهذه الآية المباركة تدلل على أن استعمال " ثم " يعبر عن وجود فاصلة ليس
من الضروري أن تكون طويلة، فيمكن كونها فاصلة طويلة أو قصيرة.
وخلاصة ما ذكر: أن الآيات القرآنية وإن لم تتطرق مباشرة لمسألة التكامل
النوعي أو ثبوت الأنواع، لكن ظاهرها (في خصوص الإنسان) ينسجم مع مسألة
الخلق المستقل، وإن لم يكن بالتصريح المفصل، لأن أكثر ما يدور ظاهر الآيات
حول الخلق المستقل المباشر، أما ما يتعلق بخلق سائر الأحياء (من غير الإنسان)
فقد سكت القرآن عنه.
* * *

1 - سورة الحج، 5.
79

2 الآيات
إن المتقين في جنت وعيون (45) ادخلوها بسلم آمنين (46)
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقبلين (47)
لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين (48) نبئ عبادي
أنى أنا الغفور الرحيم (49) وأن عذابي هو العذاب الأليم (50)
2 التفسير
3 نعم الجنة الثمان:
رأينا في الآيات السابقة كيف وصف الله تعالى عاقبة أمر الشيطان وأنصاره
وأتباعه، وأن جهنم بأبوابها السبعة مفتحة لهم.
وجريا على أسلوب القرآن في التربية والتعليم جاءت هذه الآيات
المباركات (ومن باب المقارنة) لترفع الستار عن حال الجنة وأهلها وما ترفل به
من نعم مادية ومعنوية، جسدية وروحية.
وقد عرضت الآيات ثمانية نعم كبيرة (مادية ومعنوية) بما يساوي عدد
أبواب الجنة.
1 - أشارت في البدء إلى نعمة جسمانية مهمة حيث: إن المتقين في جنات
وعيون ويلاحظ أن هذه الآية قد اتخذت من صفة (التقوى) أساسا لها، وهي
80

الخوف من الله والورع والالتزام، فهي إذن.. جامعة لكافة صفات الكمال
الإنساني.
إن ذكر الجنات والعيون بصيغة الجمع إشارة إلى تنوع رياض الجنة وكثرة
عيونها، والتي لكل منها لذة مميزة وطعم خاص.
2 و 3 - ثم تشير الآيات إلى نعمتين معنويتين مهمتين أخريتين (السلامة)
و (الأمن).. السلامة من أي أذى وألم، والأمن من كل خطر، فتقول - على لسان
الملائكة مرحبة بهم -: أدخلوها بسلام آمنين.
وفي الآية التالية بيان لثلاث نعم معنوية أخرى:
4 - ونزعنا ما في صدوركم من غل أي: الحسد والحقد والعداوة
والخيانة (1).
5 - إخوانا تربطهم أقوى صلات المحبة.
6 - على سرر متقابلين (2).
إن جلساتهم الاجتماعية خالية من القيود المتعبة التي يعاني منها عالمنا
الدنيوي، فلا طبقية ولا ترجيح بدون مرجع والكل إخوان، يجلسون متقابلين في
صف واحد ومستوى واحد.
وبطبيعة الحال، فهذا لا ينافي تفاوت مقاماتهم ودرجاتهم الحاصلة من درجة
الإيمان والتقوى في الحياة الدنيا، ولكن ذلك التساوي إنما يرتبط بجلساتهم
الاجتماعية.
7 - ثم تأتي الإشارة إلى النعمة المادية والمعنوية السابعة: لا يمسهم فيها

1 - الغل: في الأصل بمعنى النفوذ الخفي للشئ، ولهذا يطلق على الحسد والحقد والعداوة التي تنفذ بخفاء في نفس الإنسان،
فالغل مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الأخلاقية القبيحة.
2 - السرر: جمع سرير، وهي المقاعد التي يجلسون عليها في جلسات سمرهم. (علما بأن كلا من سرر وسرير من مادة
واحدة).
81

نصب إنه ليس كيوم استراحة بهذه الدنيا يقع بين تعب ونصب قبله وبعده، ولا
يدع الإنسان يجد طعم الراحة والاستقرار.
8 - ولا يشغلهم هم فناء أو انتهاء نعم وما هم منها بمخرجين.
بعد أن عرض القرآن الكريم النعم الجليلة التي ينالها المتقون في الجنة بذلك
الرونق المؤثر الذي يوقع المذنبين والعاصين في بحار لجية من الغم والحسرة
ويجعلهم يقولون: يا ليتنا نصيب بعض هذه المواهب، فهناك، يفتح الله الرحمن
الرحيم أبواب الجنة لهم ولكن بشرط، فيقول لهم بلهجة ملؤها المحبة والعطف
والرحمة وعلى لسان نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم.
إن كلمة " عبادي " لها من اللطافة ما يجذب كل إنسان، وحينما يختم الكلام
ب‍ الغفور الرحيم يصل ذلك الجذب إلى أوج شدته المؤثرة.
وكما هو معهود من الأسلوب القرآني، تأتي العبارات العنيفة حين تتحدث
عن الغضب والعذاب الإلهي لتمنع من سوء الاستفادة من الرحمة الإلهية، ولتوجد
التعادل بين مسألتي الخوف والرجاء، الذي يعتبر رمز التكامل والتربية فيقول
وبدون فاصلة: وأن عذابي هو العذاب الأليم.
* * *
2 بحوث
3 1 - رياض وعيون الجنة:
إن فهم واستيعاب أبعاد النعم الإلهية التي تزخر بها الجنة ونحن نعيش في هذا
العالم الدنيوي المحدود، يعتبر أمرا صعبا جدا، بل ومن غير الممكن، لأن نعم هذا
العالم بالنسبة لنعم الآخرة كنسبة الصفر إلى رقم كبير جدا.. ومع ذلك فلا يمنع من
أن نحس ببعض أشعتها بفكرنا وروحنا.
إن القدر المسلم بهذا الخصوص، هو أن النعم الأخروية متنوعة جدا، وينطق
82

بهذه الحقيقة التعبير بال‍ " جنات " في الآيات المتقدمة وغيرها من الآيات الأخر،
وكذلك التعبير بال‍ " عيون ".
لقد ورد في القرآن الكريم (في سور الإنسان، الرحمن، الدخان، محمد
وغيرها) إشارة إلى أنواع مختلفة من هذه العيون، وأشير إلى تنوعها بإشارات
صغيرة، ولعل ذلك تصوير لأنواع الأعمال الصالحة في هذا العالم، وسنشير إلى
هذا الأمر إن شاء الله عند تفسيرنا لهذه السور.
3 2 - النعم المادية وغير المادية:
على خلاف ما يتصور البعض.. فإن القرآن لم يبشر الناس دائما بالنعم
المادية للجنة فقط، بل تحدث مرارا عن النعم المعنوية أيضا، والآيات مورد
البحث نموذج واضح لذلك حيث نرى أن أول ما يواجه أهل الجنة هناك هو
الترحيب والبشارة من الملائكة لأهل الجنة عند دخولهم فيها ادخلوها بسلام
آمين.
ومن النعم الروحية الأخرى التي أشارت إليها هذه الآيات.. تطهير الصدور
من الأحقاد وكل الصفات المذمومة كالحسد والخيانة وما شابهها، والتي تذهب
بروح الأخوة.
وكذلك حذف الاعتبارات والامتيازات الاجتماعية المغلوطة التي تخدش
استقرار فكر وروح الإنسان، وهو ما ذكره في وصف جلساتهم.
ومن نافلة القول.. أن (السلامة) و (الأمن) المجعولتين على رأس النعم
الأخروي، هما أساس لكل نعمة أخرى، ولا يمكن الاستفادة الكاملة من أية نعمة
بدونهما وهذا ما ينطبق حتى على الحياة الدنيا، فالأمن والسلام أساس لكل نعيم
ورخاء وإلا فلا.
83

3 3 - الحقد والحسد عدوا الأخوة:
من لطيف ما يلاحظ في هذه الآيات أنها بعد أن ذكرت نعمة السلامة والأمن،
وقبل أن تتعرض لبيان حال الأخوة والألفة التي سيكون عليها أهل الجنة، أشارت
إلى مسألة نزع الصفات المانعة للأخوة، كالحقد والحسد والغرور والخيانة، جامعة
كل ذلك بكلمة " الغل " ذات المفهوم الواسع.
وفي الحقيقة، إن قلب الإنسان ما لم يطهر من هذا " الغل " فسوف لا تتحقق
نعمة السلامة والأمن ولا الأخوة والمحبة، بل الحروب والمظالم والمجابهات
والصراعات على الدوام، وهو ما يؤدي إلى قلع جذور الأخوة والسلامة والأمن
من الحياة.
3 4 - الجزاء الكامل:
يقول بعض المفسرين: إن الجزاء لا يكتمل إلا بأربعة أمور: منافع وخيرة، أن
تكون مقرونة بالاحترام، خالية من أي ألم، دائمة وخالدة.
وقد أشارت الآيات مورد البحث إلى هذه الأمور الأربعة...
فعبارة إن المتقين في جنات وعيون إشارة إلى المنفعة الأولى.
وعبارة ادخلوها بسلام آمنين دليل على الاحترام والتقدير.
وعبارة ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين
إشارة إلى نفي أي نوع من الآلام والمعاناة الروحية (النفسية).
وعبارة لا يمسهم فيها نصب إشارة إلى نفي الآلام الجسمانية.
أما عبارة وما هم منها بمخرجين فهي حاكية عن آخر شرط، وهو دوام
وبقاء النعم.
84

وبهذا يكون هذا الجزاء والثواب كاملا من كل الجهات (1).
3 5 - تعالوا لنجعل من هذه الدنيا جنة:
إن النعم المادية والروحية الأخروية التي صورتها الآيات السابقة في
حقيقتها تشكل أصول النعم لهذا العالم، ولعل القرآن الكريم يريد أن يفهمنا بأننا
يمكن أن نوجد جنة صغيرة في حياتنا تكون شبيهة بتلك الجنة الكبيرة، فيما لو
استطعنا أن نوفر شرائطها المطلوبة اللازمة.
فلو طهرنا قلوبنا من الحقد والعداوة.
وقوينا بيننا روابط الأخوة والمحبة.
وحذفنا من حياتنا تلك الاعتبارات واشكال الترف الزائدة والمفرقة.
وإذا ما عملنا لتحقيق الأمن والسلام في مجتمعنا.
وإذا أدرك الناس بأنه لا استعباد ولا استغلال ولا طبقية فيما بينهم... فإننا -
والحال هذه - سنكون في جنة الحياة الدنيا!!
* * *

1 - التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 19، ص 193.
85

2 الآيات
ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51) إذ دخلوا عليه فقالوا سلما
قال إنا منكم وجلون (52) قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام
عليم (53) قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون (54)
قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القنطين (55) قال ومن يقنط
من رحمة ربه إلا الضالون (56) قال فما خطبكم أيها
المرسلون (57) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (58) إلا آل
لوط إنا لمنجوهم أجمعين (59) إلا امرأته قدرنا إنها لمن
الغابرين (60)
2 التفسير
3 الضيوف الغرباء..!
تتحدث هذه الآيات المباركات وما بعدها عن الجنبة التربوية في تاريخ
حياة الأنبياء عليهم السلام وما جرى لهم مع العصاة من أقوامهم، وتطرح الآيات
نماذج حية للاعتبار، لكلا الطرفين (عباد الله المخلصين من طرف وأتباع
86

الشيطان من طرف آخر).
ومن لطيف البيان القرآني شروع الآيات بذكر قصة ضيف إبراهيم (وهم
الملائكة الذين جاؤوا بهيئة البشر وبشروه بولد جليل الشأن، ومن ثم أخبروه عن
أمر عذاب قوم لوط).
فقد جاء في الآيتين السابقتين أمر الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبيان سعة رحمة الله
للناس مع تبيان أليم عذابه، ويطرح في هذه القصة نموذجين حيين لهاتين
الصفتين، وبذلك تتبين صلة الربط بين هذه الآيات.
فتقول أولا: ونبئهم عن ضيف إبراهيم.
فكلمة " ضيف " جاءت بصيغة المفرد، ولا مانع من ذلك حيث ذهب بعض
كبار المفسرين إلى أن " ضيف " تستعمل مفردا وجمعا.
وهؤلاء الضيوف هم الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم (عليه السلام) بوجوه خالية
من الابتسامة، فابتدأوه بالسلام إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما.
فقام إبراهيم (عليه السلام) بوظيفته (إكرام الضيف)، فهيأ لهم طعاما ووضعه أمامهم، إلا
أنهم لم يدنوا إليه، فاستغرب من موقف الضيوف الغرباء، فعبر عما جال في
خاطره قال إنا منكم وجلون (1).
وكان مصدر خوف إبراهيم (عليه السلام) مما كان عليه متعارفا في مسألة رد الطعام أو
عدم التقرب منه، فهو عندهم إشارة إلى وجود نية سوء أو علامة عداء.
ولكن الملائكة لم يتركوا ابراهيم في هذا الحال حتى: قالوا لا توجل إنا
نبشرك بغلام عليم.
من هو المقصود بالغلام العليم؟
يبدو من خلال متابعة الآيات القرآنية أن المقصود هو (إسحاق)، حيث نقرأ

1 - إن الآيات مورد البحث لم تذكر هذا التفصيل في تهيئة الطعام وعدم مد أيديهم إليه، إلا أن ذلك ورد في الآية (69) و (70) من
سورة هود فليراجع.
87

في سورة هود، الآية (71) أن امرأة إبراهيم كانت واقفة بقربه عندما بشرته
الملائكة، ويظهر كذلك أنها كانت امرأة عاقرا فبشروها أيضا وامرأته قائمة
فضحكت فبشرناها بإسحاق.
وكما هو معروف فإن سارة، هي أم إسحاق، ولإبراهيم (عليه السلام) ولد آخر أكبر من
إسحاق واسمه (إسماعيل) من (هاجر) - الأمة التي تزوجها إبراهيم.
كان إبراهيم يعلم جيدا أنه من المستبعد أن يحصل له ولد ضمن الموازين
الطبيعية، (ومع أن كل شئ مقدورا لله عز وجل)، ولهذا أجابهم بصيغة التعجب:
قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون.. هل البشارة منكم أم من
الله عز وجل وبأمره، أجيبوني كي أزداد اطمئنانا؟
إن تعبير " مسني الكبر " إشارة إلى ما كان يجده من بياض في شعره وتجاعيد
في وجهه وبقية آثار الكبر فيه.
ويمكن لأحد أن يشكل: بأن إبراهيم (عليه السلام) قد سبق بحالة مشابهة حينما ولد له
إسماعيل (عليه السلام) وهو في الكبر.. فلم التعجب من تكرار ذلك؟
والجواب: أولا: كان بين ولادة إسماعيل وإسحاق (على ما يقول بعض
المفسرين) أكثر من عشر سنوات، وبذلك يكون تكرار الولادة مع مضي هذه المدة
ضعيف الاحتمال.
وثانيا: إن حدوث ووقوع حالة مخالفة للموازين الطبيعية مدعاة للتعجب،
وإذا ما تكررت فلا يمنع من التعجب لحدوثها وتكرارها مرة أخرى.
فولادة مولود جديد في هكذا سن أمر غير متوقع، وإذا ما وقع فهو غريب
وعجيب في كل الأحوال (1).
وعلى أية حال.. لم يدع الملائكة مجالا لشك أو تعجب إبراهيم حيث
قالوا بشرناك بالحق فهي بشارة من الله وبأمره، فهي حق مسلم به.

1 - يذكر بعض المفسرين أن عمر إبراهيم عليه السلام عند ولادة ابنه إسماعيل كان (99) عاما، وعند ولادة إسحاق كان عمره
(112) عاما.
88

وتأكيدا للأمر ودفعا لأي احتمال في غلبة اليأس على إبراهيم، قالت
الملائكة: فلا تكن من القانطين.
لكن إبراهيم (عليه السلام) طمأنهم بعدم دخول اليأس من رحمة الله إليه، وإنما هو في
أمر تلك القدرة التي تجعل من اختراق النواميس الطبيعية أمر حاصل وبدون
الخلل في الموازنة، قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.
إن الضالين هم الذين لا يعرفون الله وقدرته المطلقة، الله الذي خلق
الانسان ببناءه العجيب المحير من ذرة تراب ومن نطفة حقيرة ليخرجه ولدا
سويا، الله الذي حول نخلة يابسة إلى حاملة للثمر بإذنه، الله الذي جعل النار
بردا وسلاما.. هل من شك بأنه سبحانه قادر على كل شئ، بل وهل يصح ممن
آمن به وعرفه حق معرفته أن ييأس من رحمته!؟!
وراود إبراهيم (عليه السلام) - بعد سماعه البشارة - أن الملائكة قد تنزلت لأمر ما غير
البشارة، وما البشارة إلا مهمة عرضية ضمن مهمتهم الرئيسية، ولهذا قال فما
خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين.
ومع علم الملائكة بإحساس إبراهيم (عليه السلام) المرهف وأنه دقيق في كل شئ
ولا يقنع بالعموميات، فبينوا له أمر نزول العذاب على قوم لوط المجرمين
باستثناء أهله إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين.
إن ظاهر تعبير " آل لوط " وما ورد من تأكيد بكلمة " أجمعين " سيشمل امرأة
لوط الضالة التي وقفت في صف المشركين، ولعل إبراهيم كان مطلعا على ذلك،
ولذا أضافوا قائلين: إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين.
و " قدرنا " إشارة إلى المهمة التي كلفوا بها من الله عز وجل.
هذا وقد بحثنا قصة نزول الملائكة على إبراهيم (عليه السلام) وتبشيره بإسحاق (عليه السلام)
وحديثهم معه بشأن قوم لوط (عليه السلام) مفصلا في تفسيرنا للآيتين (69 و 70) من سورة
هود من هذا التفسير.
* * *
89

2 الآيات
فلما جاء آل لوط المرسلون (61) قال إنكم قوم
منكرون (62) قالوا بل جئنك بما كانوا فيه يمترون (63) وآتيناك
بالحق وإنا لصادقون (64) فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع
أدبرهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون (65)
وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (66)
وجاء أهل المدينة يستبشرون (67) قال إن هؤلاء ضيفي فلا
تفضحون (68) واتقوا الله ولا تخزون (69) قالوا أولم ننهك عن
العلمين (70) قال هؤلاء بناتي إن كنتم فعلين (71) لعمرك إنهم لفى
سكرتهم يعمهون (72) فأخذتهم الصيحة مشرقين (73)
فجعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل (74)
إن في ذلك لأيت للمتوسمين (75) وإنها لبسبيل مقيم (76) إن في
ذلك لأية للمؤمنين (77)
90

2 التفسير
3 عاقبة مذنبي قوم لوط:
طالعتنا الآيات السابقة بقصة اللقاء بين ملائكة العذاب هؤلاء وبين
إبراهيم (عليه السلام)، وهذه الآيات تكمل لنا سير أحدث القصة فتبتدأ من خروجهم من عند
إبراهيم حتى لقائهم بلوط (عليه السلام).
فنقرأ أولا فلما جاء آل لوط المرسلون.
فالتفت إليهم لوط قال إنكم قوم منكرون.
يقول المفسرون: قال لهم ذلك لما كانوا عليه من جمال الصورة ريعان
الشباب، وهو يعلم ما كان متفشيا بين قومه من الانحراف الجنسي.. فمن جهة، هم
ضيوفه ومقدمهم مبارك ولابد من إكرامهم واحترامهم، ولكن المحيط الذي يعيشه
لوط (عليه السلام) مريض وملوث.
ولهذا ورد تعبير " سئ بهم " في الآيات المتعرضة لقصة قوم لوط في سورة
هود، أي إن هذا الموضوع كان صعبا على نبي الله وقد اغتم لقدومهم لتوقعه يوما
عصيبا!
ولكن الملائكة لم يتركوه وهذه الهواجس طويلا حتى سارعوا إلى القول:
قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون، أي إننا جئنا بالعذاب الذي واعدتهم به
كثيرا، وذلك لأنهم لم يعتنوا ولم يصدقوا بما ذكرته لهم.
ثم أكدوا له قائلين: وأتيناك بالحق، أي العذاب الحتمي الجزاء الحاسم
لقومك الضالين.
ثم أضافوا لزيادة التأكيد: وإنا لصادقون.
فهؤلاء القوم قد قطعوا كل جسور العودة ولم يبق في شأنهم محلا للشفاعة
والمناقشة، كي لا يفكر لوط في التشفع لهم وليعلم أنهم لا يستحقونها أبدا.
ثم قال الملائكة للوط: أخرج وأهلك من المدينة ليلا حين ينام القوم أو
91

ينشغلوا بشرابهم وشهواتهم، لأجل نجاة الثلة المؤمنة من قومه (وهم أهله ما عدا
زوجته).
فأسر بأهلك بقطع من الليل وكن خلفهم كي لا يتخلف أحد منهم
ولتكون محافظا ورقيبا لهم واتبع أدبارهم وعلى أن يكون نظركم إلى الأمام
ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون، أي إلى أرض الشام، أو أي
مكان آخر يكون فيه الناس مطهرين من هذه الآثام.
ثم ينتقل مجرى الحديث حين يقول تعالى: وقضينا إليه ذلك الأمر أن
دابر هؤلاء مقطوع مصبحين، أي سوف لا يبقى منهم أحد عند الصباح.
ومن الملفت للنظر، أن القرآن قد ترك القصة عند هذا الحد وعاد إلى بدايتها
ليعرض ما ترك القول فيه - لسبب سنشير إليه فيما بعد - فيقول: وجاء أهل
المدينة يستبشرون أي إنهم قد ظنوا بحصول لقمة جديدة سائغة عن طريق
ضيوف لوط!
إن تعبير أهل المدينة ليوحي إلى أن الذين تحركوا صوب منزل لوط (عليه السلام)
كانوا جمعا كبيرا، وهو ما يوضح بجلاء تلك الوقاحة والقبح والجسارة التي كانوا
عليها، وخصوصا قوله يستبشرون التي تحكي عمق تلوثهم بذلك الدرك
السافل، مع أن مثل هذا الفعل القبيح ربما لا يشاهد حتى بين الحيوانات، وإذا ما
ابتلي به إنسان (والعياذ بالله) فإنه سوف يحاول كتمه وإخفاءه، حيث أن الإتيان به
مدعاة للتحقير والازدراء من قبل الآخرين.. أما قوم لوط، فكانوا مستبشرين
بذلك الصيد الجديد وكل يهنئ الآخر على ما سيصيبه من نصيب!!
وحينما سمع لوط أصواتهم وضجيجهم أغتم غما شديدا لأجل ضيوفه، لأنه
ما كان يدري أنهم ملائكة العذاب إلى ذلك الوقت ولهذا قال إن هؤلاء ضيفي
فلا تفضحون.
أي.. إن كنتم لا تؤمنون بالله ولا تصدقون بالنبي ولا تعتقدون بثواب
92

وعقاب، فراعوا حق الضيافة التي هي من السنن المتعارف عليها عند كل
المجتمعات سواء كانت مؤمنة أم كافرة، أي بشر أنتم؟ لا تفهمون أبسط المسائل
الإنسانية، فإن لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في دنياكم!
ثم أضاف قائلا: واتقوا الله ولا تخزون (1) أمام ضيفي.
ولكنهم من الوقاحة والإصرار على الانحراف بحيث صاروا لا يشعرون
بالخجل من أنفسهم، بل راحوا يحاججون لوطا ويحاسبونه، وكأنه ارتكب جرما
في استضافته لهؤلاء القوم قالوا أو لم ننهك عن العالمين، باستضافتهم! فلماذا
خالفت أمرنا؟!
وكان قوم لوط من البخل بحيث أنهم لا يحبون الضيافة، وكانت مدينتهم على
طريق القوافل، ويبررون فعلهم القبيح ببعض الواردين لأجل أن لا ينزل عندهم
أحد من القوافل المارة، وتعارفوا على ذلك حتى أصبح عندهم عادة.
وكما يبدو أن لوطا كان حينما يسمع بأحد الغرباء يدخل المدينة يسرع
لاستضافته خوفا عليه من عمل قومه الخبيث، ولما علم أهل المدينة بذلك جاؤوا
إليه غاضبين ونهوه عن أن يستضيف أحدا مستقبلا.
عليه، فكلمة " العالمين " في الآية أعلاه - ما يبدو - إشارة إلى عابري السبيل،
ومن هم ليسوا من أهل تلك المدينة.
وعندما رآهم لوط على تلك الحال من الوقاحة والجسارة، أتاهم من طريق
آخر لعلهم يستفيقون من غفلتهم وسكر انحرافهم، فقال لهم: إن كنتم تريدون إشباع
غرائزكم فلماذا تسلكون سبيل الانحراف ولا تسلكون الطريق الصحيح (الزواج)

1 - نرى في هذه الآيات أن لوطا يطلب من قومه أن لا يفضحوه تارة وألا يخزوه تارة أخرى، الفضيحة لغة بمعنى: انكشاف
شئ، وظهور العيب أيضا (وأراد لوط أنه يفهمهم بأن عملكم القبيح هذا سيخجلني أمام ضيوفي ويعرفوا مدى خباثة أهل
مدينتي).
أما الخزي: فهو بمعنى الإبعاد وكذلك بمعنى الخجل (وأراد لوط أن يقول لهم: لا تخجلوني أمام ضيوفي وتباعدوا بيني وبينهم).
93

قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين.
مما لا شك فيه أن بنات لوط لا يكفين لذلك العدد الهائل من المتحجرين
حول داره، ولكن لوطا الذي كان يهدف إلى إلقاء الحجة عليهم أراد أن يقول لهم:
انني مستعد إلى هذه الدرجة للتضحية من أجل الضيف، وكذلك لأجل إنقاذكم من
الفساد ونجاتهم من الانحراف.
وذهب البعض إلى أن المقصود من هؤلاء بناتي كل بنات المدينة،
باعتباره أبا روحيا للجميع. (إلا أن التفسير الأول أقرب إلى معنى الآية).
وليس نجاف أن لوطا ما كان ليزوج بناته من أولئك المشركين الضالين،
ولكنه أراد أن يقول لهم: تعالوا آمنوا لأزوجكم بناتي.
لكن الويل، كل الويل من سكرات الشهوة، الانحراف الغرور والعناد.. التي
مسحت عنهم كل قيم الأخلاق الإنسانية وأفرغتهم من العواطف البشرية، والتي
بها يحسون بالخجل والحياء أمام منطق لوط (عليه السلام)، أو أن يتركوا بيت لوط وينسحبوا
عن موقفهم، ولكن أنى لهم ذلك، والأكثرية بسبب عدم تأثرهم بحديث لوط
استمروا في غيهم وأرادوا أن يمدوا أيديهم إلى الضيوف.
وهنا يخاطب الله تعالى نبيه قائلا: لعمرك إنهم في سكرتهم يعمهون.
وقرأنا في سورة هود - فيما يتعلق بهذه القصة - أن ملائكة العذاب قد كشفوا
عن أمرهم وقالوا للوط: لا تخف إنهم لن يصلوا إليك.
وفي الآية السابعة والثلاثين من سورة القمر نقرأ ولقد راودوه عن ضيفه
فطمسنا أعينهم.
وفي بعض الروايات: إن أحد هؤلاء الضيوف أخذ قبضة من تراب فرماها في
وجوه القوم فأصبحوا لا يبصرون جميعا.
وبعد ذلك يبلغ كلام الله تعالى عن هؤلاء القوم الذروة حينما يبين عاقبتهم
السيئة في آيتين قصيرتين وبشكل حدي ملئ بالدروس والعبر بقوله:
94

فأخذتهم الصيحة مشرقين أي صوت شديد عند شروق الشمس.
ويمكن حمل " الصيحة " على أنها صاعقة عظيمة أو صوت زلزلة رهيب،
والمهم أنه كان صوتا مرعبا أسقط الجميع مغميا عليهم أو ميتين.
والمعلوم أن الأمواج الصوتية إذا ما تعدت حدا معينا فستكون مرعبة مخيفة
تهز فرائض الإنسان، وإذا ما ازدادت شدتها فستبهت الإنسان وتشله عن الحركة
وربما تودي بحياته، بل ومن الممكن لها أن تهدم الأبنية، وهذا ما تفعله
المتفجرات.
ولم يكتف بذلك بل شمل العذاب المدينة أيضا فجعلنا عاليها سافلها.
وزيد في التنكيل بهم وأمطرنا عليهم حجازة من سجيل.
إن سقوط الحجارة على رؤوسهم ربما كان يستهدف من لم يمت من الصيحة
المرعبة ولم يصبح تحت الأنقاض، وربما لأجل محو أجسادهم وجثثهم من على
الأرض كي لا يبقى أثر لهؤلاء القوم المجرمين، حتى أن المار على تلك الديار بعد
نزول الأحجار لا يصدق بسهولة أنها كانت مدينة معمورة!
ثم إن نزول هذا العذاب ذو المراحل الثلاث (الصيحة الرهيبة، قلب المدينة،
المطر الحجري) - رغم أن كل واحدة منهن كانت تكفي لقطع دابر القوم - كان
لمضاعفة عذابهم لشدة فسادهم وجسارتهم وإصرارهم على إدامة التلوث بتلك
القبائح الشنيعة، وكي يكون عبرة لمن يعتبر.
وهنا يخلص القرآن الكريم إلى النتائج الأخلاقية والتربية فيقول: إن في
ذلك لآيات للمتوسمين (1) العقلاء الذين يفهمون الأحداث بفراستهم وذكائهم
ونظرهم الثاقب ويحملون من كل إشارة حقيقة ومن كل تنبيه درسا.
ولا تتصوروا أن آثارهم ذهبت تماما، بل هي باقية على طريق القوافل

1 - متوسم: من مادة (وسم) - على وزن رسم - أي ترك أثرا، ويقال لمن يخلص من أثر صغير إلى نتائج وحقائق كبيره
(متوسم).
95

والمارة وأنها لبسبيل مقيم.
وإن لم تصدقوا فاذهبوا لرؤية آثار المدن المعذبة الواقعة على طريق
المسافرين إلى الشام (من المدينة) فانظروا وفكروا واعتبروا، وعودوا إلى الله،
واسلكوا طريق التوبة، وطهروا نفوسكم من الآثام والذنوب.
ثم تدعو الآية المؤمنين إلى التفكر مليا في هذه القصة واستخلاص العبر
منها: إن في ذلك لآية للمؤمنين.
فكيف يمكن للمؤمن أن لا يعتبر ولا يهتز عندما يطالع خبر هذه الواقعة؟!
بحثنا بشئ من التفصيل في الآيات المتعلقة بقوم لوط في سورة هود من هذا
التفسير، فبحثنا في معنى " سجيل "، ولماذا أمطر على هؤلاء القوم المنحرفين
بالحجارة، ولماذا قلبت مدينتهم، ولماذا كان العذاب صباحا، ولماذا أمر لوط
وأهله أن لا يلتفتوا إلى الوراء، وكذلك بحثنا مسألة تحريم الشذوذ الجنسي في
الأديان السماوية وفلسفة التحريم، بالإضافة إلى بحث في أخلاق قوم لوط...
وسنبحث هنا بعض ما تبقى من الإشارات المتعلقة بهذه القصة.
* * *
2 بحوث
3 1 - ما المقصود ب‍ قطع من الليل؟
" القطع " بمعنى سواد الليل. يقول المرحوم الطبرسي في (مجمع البيان): القطع
كأنه جمع قطعة، ومعناه: سر بأهلك بعدما يمضي أكثر الليل وتبقى قطعة منه.
ولكن الراغب الأصفهاني في مفرداته يعتبر كلمة " قطع " بمعنى قطعة على
صيغة المفرد، مع أن كثيرا من المفسرين فسروها بأواخر الليل وعند السحر، ولعل
تفسيرهم يعود إلى الآيات الأخرى التي تحدد هذا الوقت في قصة آل لوط
96

نجيناهم بسحر (1).
أي إنهم خرجوا عندما كان عباد الشهوة غارقين في نوم غفلتهم وقد أفسد
وجودهم سكر الشراب والغرور والشهوات، فكانت المدينة مهيئة لآل لوط في
الخروج بسلام.
ثم إن نزول العقاب كان في الصباح عند شروق الشمس، ولعل انتخاب هذا
الوقت كان لإعطاء المهلة لقوم لوط بعد أن فقدوا أبصارهم، عسى أن يتفكروا في
أمرهم فيعيدوا النظر في شركهم وعصيانهم، فكانت تلك الليلة آخر فرصة لهم.
ويستفاد من بعض الروايات.. أن بعضا منهم عندما كانوا في طريق عودتهم
إلى دورهم أقسموا أن لا يدعوا أحدا من آل لوط حيا عند الصباح، ولهذا نزل
عليهم العذاب الإلهية في ذلك الوقت (2).
3 2 - تفسير قوله تعالى: وامضوا حيث تؤمرون.
ذكرنا أن الملائكة أوصت آل لوط بالخروج آخر الليل إلى المكان الذي عين
لهم، إلا أن الآيات القرآنية لم تدخل في تفاصيل ذلك السفر ولم تعين المنطقة التي
سيذهبون إليها، لذلك عرض المفسرون جملة آراء بهذا الخصوص.
فمنهم من قال: أمروا بالسير نحو الشام لأن محيطها أكثر طهارة.
وقال بعض آخر: إن الملائكة عينت لهم قرية وطلبت منهم الذهاب إليها.
واكتفى تفسير الميزان بعبارة: كان لديهم نوع من الهدية الإلهية والدلالة
العلمية في سلوك طريقهم.

1 - سورة القمر، 34.
2 - نور الثقلين، ج 2، ص 358.
97

3 3 - علاقة الربط بين " المتوسم " و " المؤمن ".
لاحظنا تعبير إن في ذلك لآيات للمتوسمين و إن في ذلك لآية
للمؤمنين في الآيات الحاكية عن قصة قوم لوط، والجمع بين التعبيرين يعطينا:
أن المؤمن الحقيقي هو المتوسم الذكي ذو الفراسة والنباهة.
وفي رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) عندما سئل عن تفسير قوله تعالى: إن في
ذلك لآيات للمتوسمين قال: هم الأمة، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله عز وجل " (1).
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " هم الأئمة " (2).
وروي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال: " كان رسول الله المتوسم، وأنا
من بعده، والأئمة من ذريتي المتوسمون " (3).
3 4 - سكر الشهوة والغرور!
إن سكر الخمر معروف، وثمة سكر أشد منه آثارا كسكر المنصب وسكر
الشهوة، وقرأنا في الآيات السابقة كيف أن الله يقسم بروح نبيه لعمرك إنه لفي
سكرتهم يعمهون، ولهذا فإنهم لا يبصرون أوضح طرق النجاة، وبلغ بهم الحال
أن يردوا ما عرض عليهم نبيهم (عليهم السلام) أن يشبعوا شهواتهم بالطريق الصحيح
المشروع ليتخلصوا من الذنوب والتلوثات وقبائح الأفعال!
والذي نستفيده من موقف لوط (عليه السلام) هو أن مكافحة الفساد لا يتم بالنهي عنه
فقط، بل لابد من تهيئة وتعبيد الطريق المعبدة البديلة، لينتقل الضال أو المضلل به
من جادة الفساد إلى جادة الصلاح، فلابد من تهيئة الأوضاع والأجواء السليمة

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 23.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
98

للناس مع وجود البرامج المؤثرة الهادفة.
ومن غريب ما نطالعه في بعض الروايات.. أن لوطا (هذا النبي الجليل) قد
قضى بين قومه ثلاثين عاما وهو يدعوهم إلى الهدى ويحذرهم من مغبة
الانغماس في متاهات الضلال، ومع ذلك لم يؤمن به إلا أهل بيته (ما عدا
زوجته) (1).
ما أعظم ثباته (عليه السلام)! مع منحرفين لدرجة لا يطيق أي إنسان العيش معهم حتى
ولو لساعة واحدة! بل وما أصعب العيش مع تلك الزوجة!
ونقرأ في الآيتين الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين من سورة
الذاريات: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من
المسلمين؟
فيتضح لنا.. أن العقاب الإلهي لا يكون عشوائيا، بل لا يشمل إلا المستحقين
له ولو كان هناك مؤمن واحد عامل بواجباته لا نقذه الله تعالى من بينهم.
* * *

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 382.
99

2 الآيات
وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين (78) فانتقمنا منهم
وإنهما لبإمام مبين (79) ولقد كذب أصحاب الحجر
المرسلين (80) وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين (81)
وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين (82) فأخذتهم الصيحة
مصبحين (83) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (84)
2 التفسير
3 خاتمة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر:
يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى قصتين من قصص الأمم السالفة،
وهما (أصحاب الأيكة) و (أصحاب الحجر) ليكمل البحث الذي عرضه في
الآيات السابقة حول قوم لوط.
يقول أولا: وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين (1).
فانتقمنا منهم وعاقبناهم على ظلمهم واستبدادهم..

1 - إن كلمة " إن " في هذه الآية ليست شرطية وإنما هي مخففة، فيكون تقدير الكلام (إنه كان أصحاب الأيكة لظالمين).
100

وجعلنا أرضهم وأرض قوم لوط - المتقدمة قصتهم - على طريقكم وإنهما
لبإمام مبين فانظروا إليها وإلى عاقبة أمرهم، واعتبروا يا أولي الألباب.
3 من هم أصحاب الأيكة؟
قال جمع من المفسرين، بالإضافة إلى أرباب اللغة: " الأيكة ": هي الأشجار
المتشابكة مع بعضها، و " أصحاب الأيكة ": هم قوم " شعيب " الذين عاشوا في بلدة
مليئة بالماء والأشجار بين الحجاز والشام وكانت حياتهم مرفهة ثرية فأصيبوا
بالغرور والغفلة، فأدى ذلك إلى الاحتكار والفساد في الأرض.
وقد دعاهم شعيب (عليه السلام) إلى التوحيد ونهج طريق الحق، مع تحذيره المكرر لهم
من عاقبة أعمالهم السيئة فيما لو استمروا على الحال التي هم عليها.
ومن خلال ما بينته الآيات في سورة هود، فإنهم لم ينصاعوا للحق ولم
ينصتوا لداعيه حتى جاءهم عذاب الله المهلك.
فبعد أن يئس من إصلاحهم أصابهم حر شديد استمر لعدة أيام متصلة، وفي
اليوم الأخير ظهرت سحابة في السماء اجتمعوا في ظلها، ليتفيؤوا من حر ذلك
اليوم، فنزلت عليهم صاعقة مهلكة فقطعت دابرهم عن آخرهم.
ولعل استعمال القرآن لعبارة " أصحاب الأيكة " في تسميتهم، إشارة إلى النعم
التي أعطاها الله لهم، ولكنهم استبدلوا الشكر بالكفر، فأقاموا صرح الظلم
والاستبداد، فحقت عليهم كلمة الله فأهلكوا بالصاعقة هم وأشجارهم.
وورد ذكرهم مفصلا - مع التصريح باسم شعيب - في الآيات (176) حتى
(190) من سورة الشعراء.
وينبغي الالتفات إلى أن عبارة فانتقمنا منهم يمكن أن تشمل قوم لوط
وأصحاب الأيكة معا، بدليل ما يأتي بعدها مباشرة وإنهما لبإمام مبين.
والمشهور عند المفسرين أن الآية تشير إلى مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب
101

الأيكة.
وكلمة " إمام " بمعنى طريق وجادة، لأنها من مادة. " أم "، بمعنى القصد، حيث
أن الإنسان حينما يسير في طريق ما إنما يسير لأجل الوصول إلى غاية معينة أو
قصد معين.
واحتمل البعض أن الإمام المبين هو اللوح المحفوظ، بدلالة الآية (12) من
سورة يس.
ولكن هذا الاحتمال مستبعد، لأن القرآن هنا في صدد إعطاء درس العبرة
للاعتبار، ووجود اسم هذين البلدين في اللوح المحفوظ سيكون بعيدا عن التأثير
في اعتبار الناس وتذكيرهم، في حين أن وجود هذين البلدين على طريق القوافل
والمارة يمكن أن يكون له الأثر البالغ فيهم.
فعند وقوف الناس قرب تلك الآثار وتذكر خبر أهلها وما جرى لهم من سوء
العاقبة، ربما سيهمل دموع العابرين عند أرض قوم لوط مرة، وعند أرض أصحاب
الأيكة مرة أخرى.. فتكون تلك اللحظات لحظات اعتبار، بعدما عرفوا أو
استذكروا ما حل بالقومين من دمار وهلاك نتيجة ظلمهم وضلالهم.
* * *
أما " أصحاب الحجر " فهم قوم عصاة عاشوا مرفهين في بلدة تدعى " الحجر "
وقد بعث الله إليهم نبيه صالح (عليه السلام) لهدايتهم.
ويقول القرآن عنهم: ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين!
ولكن أين تقع هذه البلدة؟
يذكر بعض المفسرين والمؤرخين: أنها كانت على طريق القوافل بين المدينة
والشام في منزل يسمى (وادي القرى) في جنوب (تيماء) ولا أثر لها اليوم -
تقريبا.
102

ويذكرون أنها كانت إحدى المدن التجارية في الجزيرة العربية، ولها من
الأهمية بحيث ذكرها (بطليموس) في مذكراته لكونها إحدى المدن التجارية.
وكذلك ذكرها العالم الجغرافي (بلين) باسم (حجري).
ونستشف من بعض الروايات أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قاد جيشا لدفع جيش
الروم في السنة التاسعة للهجرة، أراد الجنود أن يتوقفوا في هذا المكان، فمنعهم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هنا نزل عذاب الله على قوم ثمود (1).
ومن الجدير ذكره أن القرآن الكريم ذكر مسألة تكذيب الأنبياء في خبر
أصحاب الحجر (وكذلك قوم نوح وقوم شعيب وقوم لوط في الآيات (105 و
123 و 160) من سورة الشعراء) بالإضافة إلى أقوام أخر كذبت الأنبياء (عليهم السلام)،
والواضح من خلال ظاهر القصص أن لكل قوم كان نبي واحد لا أكثر.
ولعل مجئ هذا التعبير في هذه الآية (المرسلين)، باعتبار أن الأنبياء لهم
برنامج واحد وهدف واحد، وبينهم من درجة من الصلة بحيث أن تكذيب أي منهم
هو تكذيب للجميع.
واحتمل آخرون وجود أكثر من نبي وسط الأمة الواحدة، وذكر اسم أحدهم
لأنه أكثر شهرة.
وكما يبدو فإن التفسير الأول أقرب إلى الصواب منه إلى الثاني.
ويستمر القرآن بالحديث عن " أصحاب الحجر ": وآتيناهم آياتنا فكانوا
عنها معرضين وموقف الأعراض المشار إليه - كما يبدو - هو عدم استعدادهم
لسماع الآيات والتفكر بها.
وتشير الآية إلى أنهم كانوا من الجد والدقة في أمور معاشهم وحياتهم
الدنيوية حتى أنهم وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين.

1 - أعلام القرآن، الخزائلي، الصفحة 292.
103

وهو ما يبين لنا أن منطقتهم كانت جبلية، بالإضافة إلى ما توصلوا إليه من
مدنية متقدمة، حيث أصبحوا يبنون بيوتهم داخل الجبال ليأمنوا من السيول
والعواصف والزلازل.
والعجيب من أمر الإنسان، أنه يحزم أمره لتجهيز وتحصين مستلزمات حياته
الفانية، ولا يعير أي اهتمام لحياته الباقية، حتى يصل به المآل لأن لا يكلف نفسه
بسماع آيات الله والتفكر بها!!.
وأي عاقبة ينتظرون بعد عنادهم وكفرهم غير أن يطبق عليهم القانون الإلهي
الموعدين به (البقاء للإصلاح) وعدم إعطاء حق إدامة الحياة لأقوام فاسدين
ومفسدين.. فليس لهؤلاء سوى البلاء المهلك، ولهذا يقول القرآن: فأخذتهم
الصيحة مصبحين.
وكانت " الصيحة " عبارة عن صوت صاعق مدمر نزل على دورهم وكان من
القوة والرهبة بحيث جعل أجسادهم تتناثر على الأرض.
والشاهد على ما قلناه ما تحدثنا به الآية الثالثة عشر من سورة فصلت:
فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
فالعذاب الإلهي لا تقف أمامه الجبال الشاهقة، ولا البيوت المحصنة، ولا
الأبدان القوية أو الأموال الوافرة، ولهذا يأتي في نهاية قصتهم فما أغنى عنهم ما
كانوا يكسبون.
وجاءت الآيات (141 إلى 158) من سورة الشعراء بتفصيل أكثر، وهو ما
سيأتي في محله إن شاء الله تعالى.
* * *
104

2 الآيات
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن
الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل (85) إن ربك هو الخلق
العليم (86) ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم (87)
لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزوجا منهم ولا تحزن عليهم
واخفض جناحك للمؤمنين (88) وقل إني أنا النذير المبين (89)
كما أنزلنا على المقتسمين (90) الذين جعلوا القرآن عضين (91)
2 التفسير
يعود القرآن بعد طرح قصص الأقوام السالفة - كقوم لوط وقوم شعيب
وصالح - إلى مسألة التوحيد والمعاد، لأن سبب ضلال الإنسان يعود إلى عدم
اعتناقه عقيدة صحيحة، ولعدم ارتباطه بمسألة المبدأ والمعاد، فيشير إليهما معا
في آية واحدة وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق. فنظامها
محسوب ومحكم وهو حق، وكذا هدف خلقها حق.
فيكون هذا النظام البديع والخلق الدقيق المنظم دليلا واضحا على الخالق
105

العالم القادر جل وعلا، وهو حق أيضا، بل هو حقيقة الحق، وكل حق بما هو متصل
بوجوده المطلق فهو حق، وكل شئ لا يرتبط به سبحانه فهو باطل.. وهذا ما
يخص التوحيد أما في المعاد فيقول: وإن الساعة لآتية.. وإن تأخرت فإنها
آتية بالنتيجة.
ولا يبعد أن تكون الفقرة الأولى بمنزلة الدال على الفقرة الثانية، لأن هذا
العالم إنما يكون حقا عندما يكون لهذه الأيام الدنيوية المليئة بالآلام والمتاعب
هدف عال يبرر خلق هذا الوجود الكبير - فليست الدنيا لنحياها وتنتهي - ولهذا
فمسألة خلق السماوات والأرض وما بينهما حق يدل على وجود يوم القيامة
والحساب، وإلا لكان الخلق عبثا وليس حقا - فتأمل.
وبعد ذلك.. يأمر الله تعالى نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقابل عناد قومه وجهلهم
وتعصبهم وعداءهم بالمحبة والعفو وغض النظر عن الذنوب، والصفح عنهم
بالصفح الجميل، أي غير مصحوب بملامة فاصفح الصفح الجميل.
لأنك تملك الدليل الواضح على ما أمرت بالدعوة إليه، فلا تحتاج وإياهم إلى
الخشونة لتثبيت عقيدة المبدأ والمعاد في قلوب الناس، فالعقل والمنطق السليم
معك.
بالإضافة إلى أن الخشونة مع الجهلة غالبا ما تؤدي بهم إلى الرد بالمثل، بل
وبأشد من ذلك.
الصفح: هو وجه كل شئ، كوجه الصورة (1)، ولهذا فقد جاءت كلمة
" فاصفح " بمعنى أدر وجهك وغض النظر عنهم.
وبما أن إدارة الوجه وصرفه عن الشئ قد تعطي معنى عدم الاهتمام والنفرة
وما شابه ذلك بالإضافة لمعنى العفو والصفح، فقد ذكرت الآية المتقدمة كلمة

1 - يقول الفيروزآبادي في القاموس، ج 1، ص 242: الصفح: الجانب، ومن الجبل مضطجعه، ومنك جنبك، ومن الوجه
والسيف عرضه.
106

" الجميل " بعد " الصفح " لكي تحدد المعنى الثاني.
وفي رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال:
العفو من غير عتاب (1).
وروي مثل ذلك عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) (2).
الآية التالية - كما يقول جمع من المفسرين - بمنزلة الدليل على وجوب
العفو والصفح الجميل، حيث تقول: إن ربك هو الخلاق العليم.
فالله يعلم بأن الناس ليسوا سواسية من جهة الطبائع والمستويات الفكرية
والعاطفية وهو سبحانه مطلع على ما تخفيه صدورهم، وينبغي معاملتهم بروحية
العفو والمسامحة ليهتدوا إلى طريق الحق بأسلوب الإصلاح المرحلي أو
التدريجي.
ولا يرمز ذلك إلى الجبر في أعمال الناس وسلوكهم، بقدر ما هو إشارة إلى
أمر تربوي يأخذ بنظر الاعتبار اختلاف الناس في القابليات.
ومما يجدر ذكره.. تصور البعض أن الأمر الإلهي مختص بفترة حياة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة قبل الهجرة، وعندما هاجر (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة أصبح للمسلمين
القدرة والقوة فنسخ هذا الأمر وجاء الجهاد بدله.
ولكننا نجد ورود هذا الأمر في السور المدينة أيضا (كسورة البقرة وسورة
النور والتغابن والمائدة)، فبعض منها يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعفو والصفح، والبعض
الآخر يأمر المؤمنين بذلك.
فيتضح لنا أن أمر الصفح عام ودائم، وهو لا يعارض أمر الجهاد أبدا، فلكل
محله الخاص به.
فإذا كان الموقف يستدعي العفو والتسامح، فلم لا يؤخذ به! وإذا كان مدعاة

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 27.
2 - المصدر السابق.
107

للتجرؤ والجسارة من قبل الأعداء ولا ينفع معهم إلا الشدة، فلا مناص حينئذ من
الأخذ بأمر الجهاد.
ثم يواسي الله تعالى نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم).. أن لا تقلق من وحشية الأعداء
وكثرتهم وما يملكون من إمكانات مادية واسعة، لأن الله أعطاك ما لا يقف أمامه
شئ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم.
وكما هو معلوم، فإن " السبع " هم العدد سبعة، و " المثاني " هو العدد اثنان،
ولهذا اعتبر أكثر المفسرون أن " سبعا من المثاني " كناية عن سورة الحمد،
والروايات كذلك تشير لهذا المعنى.
والداعي لذلك كونها تتألف من سبع آيات، لأهميتها وعظمة محتواها فقد
نزلت مرتين على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو لأنها تتكون من قسمين (فنصفها حمد
وثناء لله عز وجل والنصف الآخر دعاء عبادة)، أو لأنها تقرأ مرتين في كل
صلاة (1).
واحتمل بعض المفسرين أن " السبع " إشارة إلى السور السبع الطول التي
ابتدأ بها القرآن، و " المثاني " كناية عن نفس القرآن، لأنه نزل مرتين على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة بصورة كاملة، وأخرى نزل نزولا تدريجيا حسب الاحتياج إليه
في أزمنة مختلفة.
وعلى هذا يكون معنى سبعا من المثاني سبع سور مهمات من القرآن.
ودليلهم في ذلك الآية الثالثة والعشرون من سورة الزمر، حيث يقول تعالى:
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني، أي مرتين على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن التفسير الأول يبدو أكثر صوابا، خصوصا وأن روايات أهل البيت (عليهم السلام)
تشير إلى أن " السبع المثاني " هي سورة الحمد.

1 - وفي حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله عز وجل قال: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها
لعبدي " مجمع البيان، ج 1، ص 17، وراجع كذلك تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 28 و 29.
108

واعتبر الراغب في مفرداته أن كلمة " المثاني " أطلقت على القرآن لما يتكرر
من قراءة آياته، وهذا التكرار هو الذي يحفظه من التلاعب والتحريف (إضافة إلى
أن حقائق القرآن تتجلى في كل زمان بشكل جديد ينبغي له أن يوصف بالمثاني).
وعلى أية حال، فذكر عبارة " القرآن العظيم " بعد ذكر سورة الحمد، بالرغم
من أنها جزء منه، دليل آخر على شرف وأهمية هذه السورة المباركة، وكثيرا ما
يذكر الجزء مقابل الكل لأهميته، وهو كثير الاستعمال في الأدب العربي وغيره.
وخلاصة المطاف أن الله تعالى قد صرح لنبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنك قد ملكت
سندا عظيما (القرآن)، ولا تستطيع أي قوة في عالم الوجود أن تصرعه.
سندا كله نور، بركة، دروس تربوية، برامج عملية، هداية وتسديد، وبالذات
سورة الفاتحة منه التي لها من المحتوى والأثر بحيث لو ارتبط العبد بربه ولو
للحظة واحدة لحلقت روحه لساحة قدس الرب، وهي تعيش حال التعظيم
والتسليم والمناجاة والدعاء.
وبعد هذه الهبة العظيمة يأمر الله تعالى نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأربعة أوامر فيقول
له أولا: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم (1).
فمتع الحياة الدنيا ليست دائمة ولا خالية من التبعات، والحفاظ عليها أمر
صعب في أحسن الحالات.
ولهذا، لا تستحق الاهتمام بها مقابل ما أعطاك الله عز وجل من العطاء
المعنوي الجزيل (أي القرآن).
ثم يقول في الأمر الثاني: ولا تحزن عليهم لما عندهم من أموال ونعم
مادية.
فالأمر الأول في الحقيقة يتعلق بعدم الاهتمام والتوجه نحو النعم المادية،

1 - أزواجا: مفعول (متعنا). ومنهم: جار ومجرور متعلق بفعل مقدر. فيكون المعنى إجمالا: مجموعات مختلفة من الكفار.
109

والأمر الثاني يتعلق بعدم التأثر لفقدانها.
وقد جاء ما يشبه هذا المضمون في الآية (131) من سورة طه حيث يقول
جل وعلا بتفصيل أكثر: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة
الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى.
والأمر الثالث: جاء بخصوص ضرورة اللين والتواضع مع المؤمنين حيث
يقول: واخفض جناحك للمؤمنين.
إن هذا التعبير، كناية جميلة عن التواضع والمحبة والملاطفة، فالطيور حينما
تريد إظهار حنانها لفراخها تجعلها تحت أجنحتها بعد خفضها، فتجسم بذلك أعلى
صور العاطفة والحنان وتحفظهم من الحوادث والأعداء، وتحميهم من التشتت.
والتعبير المذكور عبارة عن كناية مختصرة بليغة ذات مغزى ومعان كثيرة
جدا.
ويمكن أن يحمل ذكر هذه الجملة بعد الأوامر الثلاثة المتقدمة إشارة تحذير
بعدم إظهار التواضع والإنكسار أمام الكفار المتنعمين بزهو الحياة الدنيا، بل لابد
للتواضع والحب والعاطفة الفياضة لمن آمن وإن كان محروما من مال الدنيا.
ونصل إلى الأمر الرابع: وقل لهؤلاء الكفرة المنعمين بكل حزم إني أنا
النذير المبين.
قل: أنذركم من أمر الله بنزول عذابه عليكم كما أنزلنا على المقتسمين
الذين جعلوا القرآن عضين (1)، أي الذين قسموا الآيات القرآنية أصنافا، فما
كان ينفعهم أخذوه، وما لا ينسجم ومشتهياتهم تركوه.
فبدل أن يتخذوا كتاب الله هاديا وقائدا لهم، جعلوه كآلة بأيديهم ووسيلة
للوصول لأهدافهم الشريرة، فلو وجدوا فيه كلمة واحدة تنفعهم لتمسكوا بها، ولو
وجدوا ألف كلمة لا تنسجم مع منافعهم الدنيوية لتركوها بأجمعها!!
* * *

1 - عضين: (جمع عضة) أي التفريق، ويقال لكل جزء مما قسم عضين أيضا.
110

2 بحوث
3 1 - القرآن.. عطاء إلهي عظيم
يخبر الله تعالى في الآيات المذكورة نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعنوان تنبيه لجميع
مسلمي العالم، أن هذا القرآن جعل في اختياركم، وفيه من العطاء ما لا يعد، وليكن
رأسمالكم الذي تتعاملون فيه في حياتكم، ولو عملتم به لجعلتم دنياكم كلها سعادة
ورفاه وأمن وصلاح.
وهذه حقيقة يعترف بها حتى غير المسلمين، فهم يعتقدون بأن المسلمين إذا
أخذوا القرآن وجعلوه أساس حياتهم، وعملوا بأحكامه وهديه، فسيكونون من
القوة والتقدم بحيث لا يسبقهم في ذلك أحد.
فنرى مثلا، سورة الحمد " سبعا من المثاني " والتي تسمى " خاتمة الكتاب "
لوحدها تمثل مدرسة كاملة للحياة:
فأولها.. يشير إلى خالق الوجود الذي يربي جميع أهل العالم في مسيرة
تكاملية شاملة، هذا الخالق الذي وسعت رحمته " خاصة " وعامة كل شئ.. ثم
تشير إلى محكمة العدل الإلهية التي يكفل الإيمان بها خلق رقابة دقيقة على جميع
سلوكيات الإنسان ونواياه.
ثم الإشارة إلى عدم الإتكال على غير الله، وعدم الخضوع والتسليم لغيره
لتتهيأ الأرضية الصالحة للسير على صراطه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ميل لا
إلى شرق ولا إلى غرب، كما أنه ليس فيه إفراط ولا تفريط، وكذلك ليس فيه ضلال
ولا غضب من الله عز وجل.
إنها جملة أمور، لو تمثلها الإنسان وبنى عليها كيانه، لكانت كفيلة بأن تجعل
له شخصية سامية متكاملة.
وللأسف الشديد فقد وقع هذا العطاء الإلهي بأيدي أناس لم يعرفوا جلالة
111

قدره، ولم يغورو العمق معناه، بل إنهم من الجهل بمكان حتى وصل بهم الأمر أن
تركوا تلك الآيات الربانية المنجية من التيه والضلال والجهل، وركضوا لاهثين
وراء من ملكته شهواته ومن لم يصل إلى أدنى درجات النضج الفكري، ليستجدوا
منهم القوانين والبرامج التربوية التي صنعها جهلهم المتلبس بلباس العلم والتقدم!
فهؤلاء المساكين يبيعون أغلى ما عندهم بثمن بخس، ويشترون به ما يبعدهم
عن بناء أخراهم!
ولا يعني هذا بأنا ضد التقدم التقني، بل علينا أن لا نحصر كل أنفسنا في هذا
الجانب من الحياة الإنسانية.. ففي الوقت الذي نجد في القرآن تلك العيون الفياضة
بالمعنويات، نراه كذلك صاحب برامج حيوية في مجالات التقدم والرفاه
الماديين، وهذا ما أوضحناه في الآيات المتقدمة وما سنزيد فيه في الآيات
القادمة إن شاء الله تعالى.
3 2 - الطمع بما عند الغير.. مصدر الإنحطاط
هناك الكثير من أصحاب العيون الضيقة الذين يلاحظون هذا وذاك باستمرار
بعيون ملؤها الطمع والجشع!
لقد دأب هؤلاء على قياس حالهم وحال الآخرين ويغتمون غما شديدا فيما
لو وجدوا أن شيئا من الحاجات المادية الحياتية ناقصا عندهم، فيبذلون كل شئ
في سبيل الحصول عليها حتى وإن كلفهم ذلك خسارة القيم الإنسانية وبيع
كرامتهم!
هذا نمط من التفكير ينم عن حالة التخلف، ويكشف عن الشعور بعقدة
الحقارة ونقص الهمة. وهو من العوامل الفاعلة في تخلف الإنسان في حياته،
وعلى كافة الأصعدة.
والشخص المستقل لا يتعامل مع مجريات الحياة بذلك النمط من التفكير
112

المتخلف، وإنما يستعمل قواه الفكرية والجسمانية في طريق رشده وتكامله، فهو
كمن يحدث نفسه قائلا: بما أنه لا ينقصني عن الآخرين شئ، ولا يوجد دليل
على عدم استطاعتي التقدم أكثر منهم أو الوصول لمصافهم.. فلماذا أمد عيني لما
متع به الآخرين من مال وجاه وما شاكل...
فصاحب الشخصية المستقلة لا يربط هدفه ومقصده من الحياة بالجوانب
المادية البحتة فقط، بل يطلبها لإشباع ما يحتاجه روحيا وتربويا، ويطلبها لكي
يحفظ بها استقلاله وحريته، ولكي لا يكون عالة على الآخرين، فهو لا يطلبها
بحرص، ولا يطلبها بكل ما يملك، لأن ذلك ليس بيع الأحرار، ولا هو بيع عباد الله
الصالحين.
ونختم الحديث بالحديث النبوي الشريف: " من رمى ببصره ما في يد غيره
كثر همه ولم يشف غيظه " (1).
3 3 - تواضع القائد
لقد أوصي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرارا من خلال القرآن أن يكون مع المؤمنين متواضعا،
محبا، سهلا ورحيما، والوصايا ليست منحصرة بخصوص نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل
هي عامة لكل قائد وموجه، سواء كانت دائرة قيادته واسعة أم محدودة، فعليه أن
يأخذ بهذا الأصل الأساسي في الإدارة والقيادة الصحيحة.
إن حب وتعلق الأفراد بقائدهم من الأسس الفاعلة لنجاح القائد، وهذا ما لا
يتحقق من دون تواضعه وطلاقة وجهه وحبه لخير أفراده.
أما خشونة وقساوة القائد فلا تؤدي إلا إلى فصم رابطة الالتحام بينه وبين
الأفراد مما يؤدى إلى تفرق وتشتت الناس عن قائدهم.

1 - تفسير الصافي، في تفسير الآيات مورد البحث.
113

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في رسالته إلى محمد بن أبي بكر: " فاخفض لهم
جناحك وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآس بينهم في اللحظة والنظرة " (1).
3 4 - من هم المقتسمون؟
إن التوجيهات الإلهية بلا شك تراعى فيها المصلحة العامة ومصلحة الأفراد
بصورة عامة، ولكن البعض منها قد يوافق مصالحنا الشخصية بحسب الظاهر
والبعض الآخر على خلافها. ومن خلال قبول أو رفض ما يدعونا إليه الله يمحص
المؤمن الخالص من المدعي للإيمان، فالذي يقبل كل شئ نازل من الله ويسلم
له، حتى وإن ظاهره لا يتوافق مع مصلحته، ويقول " كل من عند ربنا " ولا يجرؤ
على تجزئة أو تقسيم أو تبعيض الأحكام الإلهية.. فذلك هو المؤمن حقا.
أما الذين استفحل المرض في قلوبهم فيحاولون تسخير دين الله وأحكامه
لخدمة مصالحهم الشخصية، فيقبلون ما يدعم منافعهم ويتركون غيره، فتراهم
يجزؤون الآيات القرآنية، بل وتراهم في بعض الأحيان يجزؤون الآية الواحدة،
فما يوافق ميولهم احتذوا به ويتركون القسم الباقي من الآية! ولكن من القبح أن
نردد ما قاله بعض الأقوام السابقة نؤمن ببعض ونكفر ببعض فهذا شأن عبيد
الدنيا.
أما معيار تشخيص أتباع الحق من أتباع الباطل فمن خلال التسليم للأوامر
والتوجيهات الإلهية التي لا تنسجم مع الميول والأهواء والمنافع الدنيوية، فمن هنا
يعرف الصادق من الكذاب والمؤمن من المنافق.
وتجدر الإشارة هنا إلى وجود تفاسير أخرى لمعنى المقتسمين (غير ما
ذكرناه)، حتى أن القرطبي قد ذكر في تفسيره سبعة آراء في معنى هذه الكلمة، إلا

1 - نهج البلاغة، قسم الرسائل، الرسالة 27.
114

أن أكثرها خال من القرينة، والبعض الآخر لا يخلو من مناسبة وهو ما سنذكره
أدناه:
فمنها.. أن جمعا من رؤوس المشركين كانوا يقفون في أيام الحج على
رؤوس طرق وأزقة مكة، ويشرع كل واحد منهم بالسخرية والاستهزاء
بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن لينفروا الناس عنه.
فبعض يقول: إنه " مجنون " فإن ما يقوله ليس بموزون..
وبعض يقول: إنه " ساحر " وقرآنه نوع من السحر..
وبعض يقول: إنه " شاعر " والنغمة البلاغية للآيات السماوية هي شعر..
وبعض يقول: إنه " كاهن " وإن أخبار القرآن الغيبية هي نوع من الكهانة.
وقد سمي هؤلاء بالمقتسمين لتقسيمهم شوارع وأزقة مكة ومعابرها بينهم
ضمن خطة دقيقة ومحسوبة.
ولا مانع من دخول هذا التفسير وما ذكرناه معا ضمن مفهوم الآية المبحوثة.
* * *
115

2 الآيات
فوربك لنسئلنهم أجمعين (92) عما كانوا يعملون (93) فاصدع
بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94) إنا كفيناك المستهزأين (95)
الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون (96) ولقد
نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (97) فسبح بحمد ربك
وكن من الساجدين (98) وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)
2 التفسير
3 اصدع بما تؤمر!
يبين القرآن في أواخر سورة الحجر مصير المقتسمين الذين ذكروا في
الآيات السابقة فيقول: فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون.
إن عالم السر والعلن ومن لا يخفى عليه ذرة ما في السماوات والأرضين لا
يسأل لكشف أمر خفي عليه (سبحانه وتعالى عن ذلك)، وإنما السؤال لتفهيم
المسؤول قبح فعله، أو كون السؤال نوعا من العقاب الروحي، لأن الجواب سيكون
عن أمور قبيحة ومصحوبا باللوم والتوبيخ، وذلك ما يكون له بالغ الأثر في ذلك
المقام، حيث أن الإنسان عندها أقرب ما يكون إلى الحقائق وإدراكها.
116

وعلى هذا الأساس فالسؤال قسم من العقاب الروحي.
وعموم قوله تعالى: عما كانوا يعملون يرشدنا إلى أن السؤال سيكون عن
جميع أفعال الإنسان بلا استثناء، وهو درس بليغ كي لا نغفل عن أفعالنا.
أما ما اعتبره بعض المفسرين من اختصاص السؤال عن التوحيد والإيمان
بالأنبياء، أو هو مرتبط بما يعبد المشركون.. فهو كلام بلا دليل، ومفهوم الآية عام.
وقد يشكل البعض من كون الآية المتقدمة تؤكد على أن الله تعالى سيسأل
عباده، في حين نقرأ في الآية التاسعة والثلاثين من سورة الرحمن فيومئذ لا
يسئل عن ذنبه انس ولا جان.
وقد أجبنا عن ذلك سابقا، وخلاصته: في القيامة مراحل، يسأل في بعضها ولا
يسأل في البعض الآخر حيث تكون الأمور من الوضوح بحيث لا تستوجب
السؤال، أو أن لا يكون السؤال باللسان، وهذا ما نستنتجه من الآية الخامسة
والستين من سورة يس حيث تشير إلى غلق الأفواه وبدأ أعضاء البدن - حتى
الجلد - بالسؤال (1).
ثم يأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله فاصدع بما تؤمر، أي لا تخف من
ضوضاء المشركين والمجرمين، ولا تضعف أو تتردد أو تسكت، بل أدعهم إلى
رسالتك جهارا.
واعرض عن المشركين، ولا تعتن بهم.
" فاصدع "، من مادة (صدع) وهي لغة بمعنى " الشق " بشكل مطلق، أو شق
الأجسام المحكمة بما يكشف عما في داخلها، ويقال أيضا لألم الرأس الشديد
(صداع) وكأنه من شدته يريد أن يشق الرأس!
وهي هنا.. بمعنى: الإظهار والإعلان والإفشاء.

1 - لمزيد من الإيضاح، راجع ذيل تفسير الآية (7) من سورة الأعراف.
117

وعلى أية حال.. فالإعراض عن المشركين هنا بمعنى الإهمال، أو ترك
مجاهدتهم وحربهم، لأن المسلمين في ذلك الوقت لم تصل قدرتهم - بعد -
لمستوى المواجهة مع الأعداء وحربهم.
ثم يطمئن الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) تقوية لقلبه: إنا كفيناك المستهزئين.
إن مجئ الفعل بصيغة الماضي في هذه الآية مع أن المراد المستقبل يشير إلى
حتمية الحماية الربانية، أي: سندفع عنك شر المستهزئين، حتما مقضيا.
وقد ذكر المفسرون رواية تتحدث عن ست جماعات (أو أقل) كان منهم
يمارس نوعا من الاستهزاء تجاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فكلما صدع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة قاموا بالإستهزاء تفريقا للناس من
حوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أن الله تعالى ابتلى كلا منهم بنوع من البلاء، حتى شغلهم عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، (وقد ورد تفصيل تلك الابتلاءات في بعض التفاسير).
ثم يصف المستهزئين: الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون.
كأن القرآن يريد أن يقول: إن أفكار وأعمال هؤلاء بنفسها عبث سخف حيث
يعبدون ما ينحتونه بأيديهم من حجر وخشب، ودفعهم جهلهم لأن يجعلوا مع الله
ما صنعوا بأيديهم آلهة! ومع ذلك.. يستهزؤون بك!
ولمزيد من التأكيد على اطمئنان قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يضيف تعالى قائلا:
ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فروحك اللطيفة وقلبك الطيب
الرقيق لا يتحملان تلك الأقوال السيئة وأحاديث الكفر والشرك، ولذلك يضيق
صدرك.
ولكن لا تحزن من قبح أقوالهم فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين.
لأن تسبيح الله يذهب أثر أقوالهم القبيحة من قلوب أحباء الله، هذا أولا..
وثانيا، يعطيك قدرة وقوة ونورا وصفاء، ويخلق فيك تجليا وانفتاحا، ويقوي
ارتباطك مع الله، ويقوي إرادتك ويبث فيك قدرة أكبر للتحمل والثبات
118

والمجاهدة في قبال أعداء الله.
ولهذا نقرأ في رواية نقلا عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا
أحزنه أمر فزع إلى الصلاة.
ثم يعطي الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) آخر أمر في هذا الشأن: وأعبد ربك حتى يأتيك
اليقين.
المعروف والمشهور بين المفسرين أن المقصود من " اليقين " هنا الموت،
وسمي باليقين لحتميته، فربما يشك الإنسان في كل شئ، إلا الموت فلا يشك فيه
أحد قط.
أو لأن الحجب تزال عن عين الإنسان عند الموت فتتضح الحقائق أمامه
ويحصل له اليقين.
وفي الآيتين السادسة والأربعين والسابعة والأربعين من سورة المدثر نقرأ
عن لسان أهل جهنم: وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين أي الموت.
ومن هنا يتضح خطأ ما نقل عن بعض الصوفية من أن الآية أعلاه دليل على
ترك العبادة، فقالوا: أعبد الله حتى تحصل على درجة اليقين، فإذا حصلت عليها
فلا حاجة للعبادة بعدها!
ونقول:
أولا: اليقين هنا بمعنى الموت بشهادة الآيات القرآنية المشار إليها، وهو ما
يحصل للمؤمن والكافر سواء.
ثانيا: المخاطب بهذه الآية هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومقام اليقين للنبي من المسلمات،
وهل يجرؤ أحد أن يدعي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصل لدرجة اليقين، حتى يخاطب
بالآية المذكورة؟!!
ثانيا: المقطوع به أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك العبادة حتى آخر لحظات عمره
الشريف، وكذا الحال بالنسبة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) وهو المستشهد في
المحراب، وهو ما سار عليه بقية الأئمة (عليهم السلام).
119

* * *
2 بحوث
3 1 - بداية الدعوة العلنية للإسلام
المستفاد من بعض الروايات أن الآيتين فاصدع بما تؤمر واعرض عن
المشركين إنا كفيناك المستهزئين نزلتا في مكة بعد أن قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ثلاث سنوات في الدعوة السرية لرسالته، ولم يؤمن به إلا القليل من المقربين
إليه، وأول من آمن من النساء خديجة (عليها السلام) ومن الرجال علي (عليه السلام).
من البديهي، أن الدعوة إلى التوحيد الخالص المصاحبة لتحطيم نظام الشرك
وعبادة الأصنام في تلك البيئة وفترتها كانت في الواقع عملا عجيبا ومخيفا،
واستهزاء المشركين وسخريتهم كان معلوما عند الله من قبل أن يمارس، ولهذا
أراد الله تعالى تقوية قلب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كي لا يخشى المستهزئين، ويعلن رسالته بكل
قوة على الملأ ويشرع بجهاد منطقي معهم (1).
3 2 - الأثر الروحي لذكر الله
إن حياة الإنسان (كانت وما زالت) زاخرة بالمشاكل بحسب ما تقتضيه طبيعة
الحياة الدنيا، وكلما علاء الإنسان درجة كثرت مشاكله وتعددت، ومن هنا نفهم
شدة ما واجهه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مشاكل وصعاب في طريق دعوته الكبيرة.
ويكون العلاج الرباني لتجاوز العقبات عبارة عن محاولة تحصيل القوة من
مصدرها الحق مع التحلي بسعة الصدر، فيأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتسبيح والذكر والدعاء
والسجود، لما للعبادة من أثر عميق في تقوية روح الإنسان وإيمانه وإرادته.
ونستفيد من روايات مختلفة أن الأئمة (عليهم السلام) إذا واجهتهم المصاعب الشداد
والبلاء، لجؤوا إلى الله وشرعوا بالعبادة والدعاء، كي يستمدوا القوة من معينها
الأصيل.

1 - راجع تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 32.
120

3 3 - العبادة والتكامل
وكما هو معلوم فإن الإنسان قد بدأ انطلاقته في الحياة من نقطة العدم ولا
يزال يسير نحو المطلق، ولن تتوقف عجلة تكامله (ما دام مداوما على الطريق) كما
أنه يمتلك مقومات السير ويمتاز بقابلية فائقة واستعداد كامل في طلبه للتكامل،
هذا من جهة.
ومن جهة أخرى تعتبر العبادة مدرسة عالية للتربية، لأنها توقظ عقل
الإنسان، وتوجه فكره نحو المطلق، وتغسل غبار الذنوب والغفلة من قلبه وروحه،
وتنمي فيه الصفات الإنسانية الرفيعة، وتقوي إيمانه وتجعله أكثر وعيا وأكبر
مسؤولية.
فلا يمكن للإنسان الواقعي أن يستغني عن هذه المدرسة الراقية، أما الذين
يعتقدون بأن الإنسان قد يصل إلى درجة معينة لا يحتاج عندها إلى العبادة،
فأولئك إما أنهم يعتبرون عملية تكامل الإنسان محدودة وتنتهي بحد معين، أو أنهم
لم يدركوا معنى العبادة حقا.
وللعلامة الطباطبائي (رحمه الله) في تفسير الميزان بيان بهذا الشأن، إليك ملخصه، (إن
كل نوع من أنواع الموجودات له غاية كمالية، وكذلك الإنسان له غاية تكاملية لا
ينالها إلا بالاجتماع المدني، ولهذا فهو اجتماعي بالطبع، وإن تحقق هذا الاجتماع
فسيحتاج أفراد المجتمع إلى أحكام وقوانين يتنظم باحترامها والعمل بها شتات
أمورهم، وترتفع بها اختلافاتهم الضرورية، ويقف بها كل منهم في موقفه الذي
ينبغي له، ويحوز بها سعادته وكماله الوجودية.
وبعبارة أخرى: إن كان المجتمع الإنساني صالحا أمكن لأفراده الوصول إلى
هدفهم النهائي في الكمال، وإن فسد المجتمع تخلف أفراده عن هذا التكامل.
وإن هذه الأحكام والقوانين سواء كانت اجتماعية أو عبادية، لا تكون مؤثرة
121

إلا إذا أخذت من طريق النبوة والوحي السماوي لا غير.
ونعلم أيضا أن الأحكام العبادية تشكل جزءا من هذا التكامل الفردي
والاجتماعي.
وبهذا يتبين أن التكليف الإلهي يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة
الدنيوية، وأن تجويز ارتفاع التكليف ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام والقوانين،
وهذا يوجب فساد المجتمع!
ومن الجدير بالملاحظة أن الأعمال الصالحة والعبادات منبع للملكات
النفسانية الفاضلة فإذا أديت هذه الأعمال بقدر كاف، وقويت تلك الملكات
الفاضلة في نفس الإنسان، فستكون نفسها منبعا جديدا لأعمال صالحة أكثر
وطاعات وعبادات أفضل.
ومن هنا يظهر فساد ما ربما يتوهم أن الغرض من التكليف هو تكميل
الإنسان فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى، وما ذلك إلا مغالطة ليس أكثر، لأن
الإنسان لو تخلف عن التكليف الإلهي فإن المجتمع سيسير نحو الفساد فورا،
فكيف يتسنى للفرد الكامل أن يعيش في هكذا مجتمع!
وكذلك فرضية تخلف الإنسان عند امتلاكه الملكات الفاضلة عن العبادات
وطاعة الله، فإنها تعني تخلف هذه الملكات عن آثارها (1) - فتأمل.
* * *

1 - تفسير الميزان، ج 12، ص 199.
122

1 سورة
1 النحل
1 مكية
1 وعدد آياتها مائة وثمان وعشرون آية
123

1 " سورة النحل "
3 محتويات السورة:
يذهب أكثر المفسرين إلى أن قسما من آيات هذه السورة مكية، وقسمها
الآخر آيات مدنية، في حين يعتبر بعضهم أن آياتها مكية على الإطلاق. وعند
ملاحظة طبيعة السورة المكية والمدنية يتبين لنا أن الرأي الأول أكثر صوابا،
ويعزز ذلك ما تبحثه الآية (41) والذين هاجروا في الله...، والآية (101) ثم
إن ربك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ثم جاهدوا فصبروا... حيث أنها
تناولت بوضوح موضوع الهجرة والجهاد معا.. وكما هو بين فإن الموضوعين
يتناسبان مع الحوادث التي جرت بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة إلى المدينة.
وإذا اعتبرنا الهجرة المشار إليها في الآية (41) هي هجرة المسلمين الأولى
حين هاجر جمع منهم من مكة إلى الحبشة برئاسة جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)،
فيستبعد أن تكون الهجرة والجهاد المشار إليهما في الآية (101) الهجرة الأولى،
ولا تنطبق الآية المباركة إلا على هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة.
بالإضافة إلى أن الآية (126) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به...
قد نزلت في غزوة أحد التي وقعت بعد الهجرة الثانية، وهذا معروف عند
المفسرين.
وقال بعض المفسرين: إن الآيات الأربعين الأول من السورة نزلت في مكة
125

وبقية الآيات نزلت في المدينة، في حين يعتبر البعض الآخر منهم جميع آياتها
مكية سوى الآيات المتعلقة بغزوة أحد (الآيات الثلاثة الأخيرة).
فالمتيقن بخصوص السورة أن آياتها مكية ومدينة، إلا أنه لا يمكن تشخيص
ما هو مكي أو مدني بالدقة الكافية سوى الموارد المذكورة.
وعلى أية حال، فمن خلال ملاحظة السورة يبدو لنا أن بحوثها تتناول ما
تتناوله الآيات المكية تارة مثل: التوحيد، المعاد، محاربة الشرك وعبادة الأصنام،
وتارة أخرى ما تتناوله الآيات المدينة مثل: الأحكام الاجتماعية ومسائل الجهاد
والهجرة.
ويمكننا إجمال محتويات السورة المسبوكة بعناية وإحكام بما يلي:
1 - ذكر النعم الإلهية، وتفصيلها بما يثير دافع الشكر عند كل ذي حس حي،
ليقترب الإنسان من خالق هذه النعم وواهبها.
ومن النعم المذكورة في السورة: نعمة المطر، نور الشمس، أنواع النباتات
والثمار، المواد الغذائية الأخرى، الحيوانات الداجنة بما تقدمه من خدمات
ومنافع للإنسان، مستلزمات وسائل الحياة وحتى نعمة الولد والزوجة، وبعبارة
شاملة (أنواع الطيبات).
ولهذا أطلق البعض عليها (سورة النعم).
وعرفت بسورة النحل لورود تلك الإشارة القصيرة ذات المعاني الجليلة
والعجيبة للنحل، ضمن ما ذكر من النعم الإلهية الواسعة، وبخصوص اعتبار النحل
مصدرا لغذاء مهم من أغذية الإنسان، وباعتبار حياة هذه الحشرة تعبير ناطق
لتوحيد الله.
2 - الحديث عن أدلة التوحيد، عظمة ما خلق الخالق، المعاد، إنذار المشركين
والمجرمين.
3 - تناول الأحكام الإسلامية المختلفة، من قبيل: الأمر بالعدل والإحسان،
126

الهجرة والجهاد، النهي عن الفحشاء والمنكر والظلم والاستبداد وخلف العهد،
بالإضافة إلى الدعوة لشكر الله تعالى على نعمة الجزيلة، وتأتي الإشارة في آيات
عديدة إلى أن إبراهيم (عليه السلام) رجل التوحيد لأنه كان من الشاكرين.
4 - الحديث عن بدع المشركين مع ذكر أمثلة جميلة حية.
5 - وأخيرا تحذير الإنسانية من وساوس الشيطان.
3 فضيلة السورة:
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، في فضل سورة النحل، أنه قال: " من قرأها لم يحاسبه
الله تعالى بالنعم التي أنعمها عليه من دار الدنيا " (1).
فقراءة الآيات - التي تتناول جانبا كبيرا من النعم الإلهية - بتدبر وتفكر مع
وجود العزم على العمل والسير وفق الشكر للمنعم، تكون سبيلا لأن يستعمل
الإنسان كل نعمة بما ينبغي عليه أن يستعمل، فلا يحبس ولا يهمل، ويكون من
الشاكرين.. فإن أصبح كذلك فهل سيتعرض لمحاسبة بعد؟
* * *

1 - مجمع البيان، ج 6، ص 327.
127

2 الآيتان
أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعلى عما
يشركون (1) ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء
من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون (2)
2 التفسير
3 أتى أمر الله:
ذكرنا سابقا أن قسما مهما من الآيات التي جاءت في أول السورة هي آيات
مكية نزلت حينما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخوض صراعا مشتدا مع المشركين وعبدة
الأصنام، وما يمر يوم حتى يطلع أعداء الرسالة بمواجهة جديدة ضد الدعوة
الإسلامية المباركة، لأنها تريد بناء صرح الحرية، بل كل الحياة من جديد.
ومن جملة مواجهاتهم اليائسة قولهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما يهددهم وينذرهم
بعذاب الله: إن كان ذلك حقا فلم لا يحل العذاب والعقاب بنا إذن؟!
ولعلهم يضيفون: وحتى لو نزل العذاب فسنلتجئ إلى الأصنام لتشفع لنا عند
الله في رفع العذاب.. ولم لا يكون ذلك، أو لسن شفيعات؟!..
وأول آية من السورة تبطل أوهام أولئك بقوله تعالى: أتى أمر الله فلا
128

تستعجلوه، وإن اعتقدتم أن الأصنام شافعة لكم عند الله فقد أخطأتم الظن
سبحانه وتعالى عما يشركون.
ف‍ " أمر الله " هنا: أمر العذاب للمشركين، أما الفعل " أتى " فالمراد منه
المستقبل الحتمي الوقوع على الرغم من وقوعه بصيغة الماضي، ومثل هذا كثير في
الأسلوب البلاغي للقرآن.
واحتمل بعض المفسرين أن " أمر الله " إشارة إلى نفس العذاب وليس الأمر
به.
واحتمل بعض آخر أن المراد به يوم القيامة.
ويبدو لنا أن التفسير الذي ذكرناه أقرب من غيره، والله العالم.
وبما أن مستلزمات العدل الإلهي اقتضت عدم العقاب إلا بعد البيان الكافي
والحجة التامة، فقد أضاف سبحانه: ينزل الملائكة بالروح من أمره (1) على من
يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا بناء على هذا الإنذار والتذكير
فاتقون.
أما المقصود من " الروح " في الآية فهناك كلام كثير بين المفسرين في ذلك إلا
أن الظاهر منها هو: الوحي والقرآن والنبوة.. والتي هي مصدر الحياة المعنوية
للبشرية.
وقد فصل بعض المفسرين الوحي عن القرآن وعن النبوة، معتبرا ذلك ثلاثة
تفاسير مستقلة للكلمة ولكن الظاهر رجوع الجميع إلى حقيقة واحدة.
وعلى أية حال فكلمة " الروح " في هذا الموضوع ذات جانب معنوي وإشارة
إلى كل ما هو سبب لإحياء القلوب وتهذيب النفوس وهداية العقول، كما نقرأ في
الآية الرابعة والعشرين من سورة الأنفال: يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله

1 - " من " في عبارة " من أمره " جاءت بمعنى " ب‍ " السببية.
129

وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.. وفي الآية الخامسة عشر من سورة غافر:
يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده.. وفي الآية والثانية الخمسين
من سورة الشورى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما
الكتاب ولا الإيمان.
وجلي أن " الروح " في الآيات المتقدمة ترمز إلى " القرآن " و " الوحي " و
" أمر النبوة ".
وقد وردت " الروح " بمعاني أخر في مواضع من القرآن الكريم، ولكن مع
الأخذ بنظر الاعتبار ما ذكر من قرائن نخلص إلى أن المراد من مفهوم " الروح " في
الآية مورد البحث هو القرآن وما تضمنه الوحي.
وجدير بالملاحظة أن عبارة على من يشاء من عباده لا تعني أن هداية
الوحي والنبوة لا حساب فيها، لأنه لا انفصام ولا ضدية بين مشيئة الله وحكمته،
كما تحدثنا في ذلك الآية (124) من سورة الأنعام: الله أعلم حيث يجعل
سألته.
ولا ينبغي غض الطرف من كون الإنذار من أوائل الأوامر الربانية الموجهة
إلى الأنبياء (عليهم السلام) بدليل عبارة أن أنذروا، لأن من طبيعة الإنذار أن يعقبه انتباه
فنهوض وحركة.
صحيح أن الإنسان طالب للمنفعة ودافع للضرر، ولكن التجربة أظهرت أن
للترغيب أثر بالغ لمن يمتلك أسس وشرائط قبول الهداية، أما من أعمت بصيرتهم
ملهيات الحياة الدنيا فلا ينفع معهم إلا التهديد والوعيد، وفي بداية دعوة النبي كان
من الضروري استخدام أسلوب الانذار الشديد.
* * *
130

2 الآيات
خلق السماوات والأرض بالحق تعلى عما يشركون (3)
خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (4) والأنعم خلقها
لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5) ولكم فيها جمال
حين تريحون وحين تسرحون (6) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم
تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم (7)
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما
لا تعلمون (8)
2 التفسير
3 الحيوان ذلك المخلوق المعطاء:
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن نفي الشرك، جاءت هذه الآيات لتقلع
جذوره بالكامل، وتوجه الإنسان نحو خالقة بطريقين:
الأول: عن طريق الأدلة العقلية من خلال فهم ومحاولة استيعاب ما في
الخلائق من نظام عجيب.
الثاني: عن طريق العاطفة ببيان نعم الله الواسعة على الإنسان، عسى أن
131

يتحرك فيه حس الشكر على النعم فيتقرب من خلاله إلى المنعم سبحانه.
فيقول: خلق السماوات والأرض بالحق.
وتتضح حقانية السماوات والأرض من نظامها المحكم وخلقها المنظم
وكذلك من هدف خلقها وما فيها من منافع.
ثم يضيف: تعالى عما يشركون.
فهل تستطيع الأصنام إيجاد ما أوجده الله؟!
بل هل تستطيع أن تخلق بعوضة صغيرة أو ذرة تراب؟!
فكيف إذن جعلوها شريكة الله سبحانه!!..
والمضحك المبكي في حال المشركين أنهم يعتبرون الله هو الخالق عن علم
وقدرة لهذا النظام العجيب والخلق البديع.. ومع ذلك فهم يسجدون للأصنام!
وبعد الإشارة إلى خلق السماوات والأرض وما فيها من أسرار لا متناهية
يعرج القرآن الكريم إلى بعض تفاصيل خلق الإنسان من الناحية التكوينية
فيقول: خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين.
" النطفة " (في الأصل) بمعنى: الماء القليل، أو الماء الصافي، ثم أطلقت على
قطرات الماء التي تكون سببا لوجود الإنسان بعد تلقيحها.
وحقيقة التعبير يراد به تبيان عظمة وقدرة الله عز وجل، حيث يخلق هذا
المخلوق العجيب من قطرة ماء حقيرة مع ما له من قيمة وتكريم وشرف بين باقي
المخلوقات وعند الله أيضا.
هذا إذا ما اعتبرنا " الخصيم " بمعنى المدافع والمعبر عما في نفسه، كما
تخبرنا الآية (105) من سورة النساء بذلك: ولا تكن للخائنين خصيما كما
ذهب إليه جمع من المفسرين.
وهناك من يذهب إلى تفسير آخر، خلاصته: بقدرة الله التامة خلق الإنسان
من نطفة حقيرة، ولكن هذا المخلوق غير الشكور يقف في كثير من المواضع
132

مجادلا خصيما أمام خالقه، واعتبروا الآية السابعة والسبعين من سورة يس
شاهدا على ما ذهبوا إليه.
إلا أن التفسير الأول كما يبدو - أقرب من الثاني، لأن الآيات أعلاه في مقام
بيان عظمة الله وقدرته، وتتبين عظمته بشكل جلي حين يخلق كائنا شريفا جدا
من مادة ليست بذي شأن في ظاهرها.
وجاء في تفسير علي بن إبراهيم: (خلقه من قطرة من ماء منتن فيكون خصيما
متكلما بليغا) (1).
ثم يشير القرآن الكريم إلى نعمة خلق الحيوانات وما تدر من فوائد كثير
للإنسان فيقول: والأنعام خلقها لكم فيها دف ء منافع ومنها تأكلون.
فخلق الأنعام الدال على علم وقدرة الباري سبحانه، فيها من الفوائد الكثيرة
للإنسان، وقد أشارت الآية إلى ثلاث فوائد:
أولا: " الدف ء " ويشمل كل ما يتغطى به (بالاستفادة من وبرها وجلودها)
كاللباس والأغطية والأحذية والأخبية.
ثانيا: " المنافع " إشارة إلى اللبن ومشتقاته.
ثالثا: " منها تأكلون " أي، اللحم.
ويلاحظ تقديم الملابس والأغطية والمسكن، في عرض منافع الأنعام دون
المنافع الأخرى، وهذا دليل على أهميتها وضروريتها في الحياة.
ويلاحظ أيضا مجئ كلمة " الدف ء " قبل " المنافع " إشارة إلى أن ما تدفع به
الضرر مقدم على ما يجلب لك فيه المنفعة.
ويمكن للبعض ممن يخالفون أكل اللحوم أن يستدلوا بظاهر هذه الآية، حيث
لم يعتبر الباري جل شأنه مسألة أكل لحومها ضمن منافعها، ولهذا نرى قد جاءت

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 39.
133

ومنها تأكلون بعد ذكر كلمة " المنافع "، وأقل ما يستنتج من الآية اعتبارها
لأهمية الألبان أكثر بكثير من اللحوم.
ولم يكتف بذكر منافعها المادية، بل أشار إلى المنافع النفسية والمعنوية
كذلك حين قال: ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون.
" تريحون ": (من مادة الإراحة) بمعنى إرجاع الحيوانات عند الغروب إلى
محل استراحتها، ولهذا يطلق على ذلك المحل اسم (المراح).
و " تسرحون ": (من مادة السروح) بمعنى خروج الحيوانات صباحا إلى
مراعيها.
عبر القرآن بكلمة " جمال " عن تلك الحركة الجماعية للأنعام حين تسرع إلى
مراعيها وتعود إلى مراحها، لما لها من جمال ورونق خاص يغبط الإنسان، والمعبر
عن حقيقة راسخة في عمق المجتمع.
فحركة الإبل إضافة إلى روعتها فإنها تطمئن المجتمع بأن ما تحتاجه من
مستلزمات حياتك ها هو يسير بين عينيك، فتمتع به وخذ منه ما تحتاجه،
ولا داعي لأن ترتبط بهذا أو ذاك فستضعف، وكأنها تخاطبه: فأنت مكتف ذاتيا
بواسطتي.
ف‍ " الجمال " جمال استغناء واكتفاء ذاتي، وجمال إنتاج وتأمين متطلبات أمة
كاملة، وبعبارة أوضح: جمال الاستقلال الاقتصادي وقطع كل تبعية للغير!
والحقيقة التي يدركها القرويون وأبناء الريف أكثر من غيرهم، هي ما تعطيه
حركة تلك الأنعام من راحة نفسية للإنسان، راحة الإحساس بعدم الحاجة
والإستغناء، راحة تأدية إحدى الوظائف الاجتماعية الهامة.
ومن لطيف الإشارة أن بدأت الآية أعلاه بذكر عودة الأنعام إلى مراحها،
حيث الملاحظ عليها في هذه الحال أثديتها ملأى باللبن، بطونها ممتلئة، يشاهد
على وجوهها علائم الرضا والارتياح ولا يرى فيها ذلك الحرص والولع والعجلة
134

التي تظهر عليها حين خروجها في الصباح، بل تسير هادئة مطمئنة نحو محل
استراحتها، ويكفيك الشعور بالغنى من خلال رؤية أثدائها.
ثم يشير تعالى في الآية التي تليها إلى إحدى المنافع المهمة الأخرى فيقول:
وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس وهذا مظهر من
مظاهر رحمة الله عز وجل ورأفته حيث سخر لنا هذه الحيوانات مع ما تملك من
قدرة وقوة إن ربكم لرؤوف رحيم.
" الشق ": (من مادة المشقة)، ولكن بعض المفسرين احتمل أنها بمعنى الشق
والقطع، أي أنكم لا تستطيعون حمل هذه الأثقال وإيصالها إلى مقاصدكم إلا بعد
أن تخسروا نصف قوتكم.
ويبدو أن التفسير الأول أقرب من الثاني.
فالأنعام إذن: تعطي للإنسان ما يلبسه ويدفع عنه الحر والبرد. وكذلك تعطيه
الألبان واللحوم ليتقوت بها. وتترك في نفس الإنسان آثارا نفسية طيبة. وأخيرا
تحمل أثقاله.
وبالرغم مما وصل إليه التقدم التقني في مدنية الإنسان وتهيئة وسائل النقل
الحديثة، إلا أن سلوك كثير من الطرق لا زال منحصرا بالدواب.
ثم يعرج على نوع آخر من الحيوانات، يستفيد الإنسان منها في تنقلاته،
فيقول: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة.
و " زينة " هنا ليست كلمة زائدة أو عابرة بقدر ما تعبر عن واقع الزينة في
مفهومها الصحيح، وما لها من أثر على ظاهر الحياة الاجتماعية.
ولأجل الإيضاح بشكل أقرب نقول: لو قطع شخص طريقا صحراويا طويلا
مشيا على الأقدام، فكيف سيصل مقصده؟ سيصله وهو متعب خائر القوى، ولا
يقوى على القيام بأي نشاط.
أما إذا ما استعمل وسيلة مريحة سريعة في سفره، فإنه - والحال هذه - سيصل
135

إلى مقصده وقد كسب الوقت، ولم يهدر طاقاته، وحافظ على النشاط والقدرة
على قضاء حوائجه... بعد كل هذا، أوليس ذلك زينة؟!
وتأتي الإشارة في ذيل الآية إلى ما سيصل إليه مآل الإنسان في الحصول
على الوسائط النقلية المدنية من غير الحيوانات، فيقول: ويخلق ما لا تعلمون
من المراكب ووسائل النقل.
وبعض قدماء المفسرين اعتبر هذا المقطع من الآية إشارة إلى حيوانات
ستخلق في المستقبل ليستعملها الإنسان في تنقلاته.
وورد في تفسير (المراغي) وتفسير (في ظلال القرآن) أن درك مفهوم هذه
الجملة أسهل لنا ونحن نعيش في عصر السيارة ووسائل النقل السريعة الأخرى.
وعند ما تعبر الآية بكلمة " يخلق " فذلك لأن الإنسان في اختراعه لتلك
الوسائل ليس هو الخالق لها، بل إن المواد الأولية اللازمة للاختراعات، مخلوقة
وموجودة بين أيدينا وما على الإنسان إلا أن يستعمل ما وهبه الله من قدرة على
الاختراع لما أودع فيه من استعداد وقابلية بتشكيل وتركيب تلك المواد على هيئة
يمكن من خلالها أن تعطي شيئا آخر يفيد الإنسان.
3 أهمية الزراعة والثروة الحيوانية:
على الرغم من انتشار الآلات الإنتاجية في جميع مرافق الحياة، كما هو
حاصل في يومنا، إلا أن الزراعة وتربية الحيوانات تبقى متصدرة لقائمة
المنتوجات من حيث الأهمية في حياة الإنسان، لأنهما مصدر الغذاء، ولا حياة
بدونه.
حتى أن الاكتفاء الذاتي في مجالي الزراعة والثروة الحيوانية يعتبر الدعامة
الرئيسية لضمان الاستقلالين الاقتصادي والسياسي إلى حد كبير.
ولذلك نرى شعوب العالم تسعى جاهدة لإيصال زراعتها وثروتها الحيوانية
136

لأعلى المستويات مستفيدة من التقدم التقني الحاصل.
والحاجة لأي من هذين الإنتاجين الأساسيين من الخطورة والأهمية البالغة
ما يجعل دولة عظمي كروسيا تمد يد العوز وتعطي بعض التنازلات السياسية لدول
متباينة معها في الخط السياسي العقائدي لاضطرارها لتأمين احتياجاتها!
وأعطت التعاليم الإسلامية أهمية خاصة للإنتاج الحيواني والزراعة بالحث
والترغيب لغور غمار هذه العملية المعطاءة.
فقد رأينا كيف عرضت الآيات السابقة وبلحن مشوق حركة الأنعام ومنافعها
للترغيب فيها.
وسيأتي الحديث إن شاء الله في الآيات القادمة عن أهمية الزراعة ومنافع
الثمار المختلفة.
ونورد هنا (ومن مصادر مختلفة) بعض الروايات التي تخص موضوعنا وما
جاءت به من تعبيرات جميلة.
1 - عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمته: ما يمنعك من أن
تتخذي في بيتك ببركة؟
فقالت: يا رسول الله ما البركة؟
فقال: شاة تحلب، فإنه من كانت في داره شاة تحلب أو نعجة أو بقرة فبركات
كلهن " (1).
2 - وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال في الغنم: " نعم المال الشاة " (2).
3 - وفي تفسير نور الثقلين، في تفسير الآيات مورد البحث، روي عن أمير
المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال: " أفضل ما يتخذه الرجل في منزله لعياله الشاة، فمن كان

1 - بحار الأنوار، ج 64، ص 130. ورد ذكر النعجة (في هذا الحديث) إضافة إلى الشاة والبقرة، وهي في اللغة: البقر الوحشي
والأغنام الجبلية وأنثى الغنم.
2 - بحار الأنوار، ج 64، ص 129.
137

في منزله شاة قدست عليه الملائكة مرتين في كل يوم ".
ولا ينبغي الغفلة عن أن الكثير من بيوت المدن غير صالحة لتربية الأغنام،
والهدف الأصلي من إشارة الروايات هو إنتاج ما يحتاج إليه الناس على الدوام -
فتأمل.
4 - ويكفينا ما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في أهمية الزراعة: " من وجد ماء
وترابا ثم افتقر فأبعده الله " (1).
وبديهي انطباق هذا الحديث على الفرد والأمة معا، فالشعب الذي لديه
مستلزمات الزراعة بشكل كاف ومع ذلك يمد يده لطلب المساعدة إلى الآخرين،
فهو مبعد عن رحمة الله بلا إشكال.
5 - روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " عليكم بالغنم والحرث فإنهما يروحان
بخير ويغدوان بخير " (2).
6 - وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " ما في الأعمال شئ أحب إلى
الله من الزراعة " (3).
7 - وأخيرا نقرأ في حديث روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ما يلي: " الزارعون
كنوز الأنام يزرعون طيبا أخرجه الله عز وجل، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاما
وأقربهم منزلة، يدعون المباركين " (4).
* * *

1 - بحار الأنوار، ج 23، ص 19.
2 - بحار الأنوار، ج 14، ص 304.
3 - بحار الأنوار، ج 23، ص 20.
4 - وسائل الشيعة، ج 13، ص 194.
138

2 الآيات
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم
أجمعين (9) هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب
ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون
والنخيل والأعنب ومن كل الثمرات إن في ذلك لأية لقوم
يتفكرون (11) وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر
والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لأيت لقوم يعقلون (12)
وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لأية لقوم
يذكرون (13)
2 التفسير
3 كل شئ في خدمة الإنسان!
بعد ذكر مختلف النعم في الآيات السابقة، تشير هذه الآيات إلى نعم أخرى...
فتشير أولا إلى نعمة معنوية عالية في مرماها وعلى الله قصد السبيل أي
عليه سبحانه سلامة الصراط المستقيم وهو الحافظ له من كل انحراف، وقد وضعه
139

في متناول الإنسان.
" القصد ": بمعنى صفاء واستواء الطريق، فيكون معنى " قصد السبيل " الصراط
المستقيم الذي ليس فيه ضلال ولا انحراف (1).
ولكن أي النحوين من الصراط المستقيم هو المراد، التكويني أم التشريعي؟
اختلف المفسرون في ذلك، إلا أنه لا مانع من قصد الجانبين معا.
توضيح:
جهز الله الإنسان بقوى متنوعة وأعطاه من القوى والقابليات المختلفة ما
يعينه على سلوكه نحو الكمال الذي هو الهدف من خلقه.
وكما أن بقية المخلوقات قد أودعت فيها قوى وغرائز توصلها إلى هدفها، إلا
أن الإنسان يمتاز عليها بالإرادة وبحرية الاختيار فيما يريده، ولهذا فلا قياس بين
الخط التصاعدي لتكامل الإنسان وبقية الأحياء الأخرى.
فقد هدى الله الإنسان بالعقل والقدرة وبقية القوى التكوينية التي تعينه للسير
على الصراط المستقيم.
كما أرسل له الأنبياء والوحي السماوي وأعطاه التعليمات الكافية والقوانين
اللازمة للمضي بهدي التشريع الرباني في تكملة مشوار المسيرة، وترك باقي
السبل المنحرفة.
ومن لطيف الأسلوب القرآني جعل الأمر المذكور في الآية فريضة عليه
جل شأنه فقال: على الله، وكثيرا ما نجد مثل هذه الصيغة في الآيات القرآنية،
كما في الآية (12) من سورة الليل إن علينا الهدى، ولو دققنا النظر في سعة
مدلول على الله قصد السبيل وما أودع في الإنسان من هدي تكويني

1 - ذكر بعض كبار المفسرين كالعلامة الطباطبائي في الميزان أن " القصد " بمعنى (القاصد) في قبال " الجائر) أي المنحرف
عن الحق.
140

وتشريعي لأجل ذلك لأدركنا عظمة هذه النعمة وما لها من الفضل على بقية النعم.
ثم يحذر الباري جل شأنه الإنسان من وجود سبل منحرفة كثيرة: ومنها
جائر (1).
وبما أن نعمة الإرادة وحرية الاختيار في الإنسان من أهم عوامل التكامل
فيه، فقد أشارت إليها الآية بجملته قصيرة: ولو شاء لهداكم أجمعين ولا
تستطيعون عندها غير ما يريد الله.
إلا أنه سبحانه لم يفعل ذلك، لأن الهداية الجبرية لا تسمو بالإنسان إلى
درجات التكامل والفخر، فأعطاه حرية الاختيار ليسير في الطريق بنفسه كي
يصل لأعلى ما يمكن الوصول إليه من درجات الرفعة والكمال.
كما تشير الآية إلى حقيقة أخرى مفادها أن سلوك البعض للطريق الجائز
والصراط المنحرف ينبغي أن لا يوجد عند البعض توهما أن الله مغلوب (سبحانه
وتعالى) أمام هؤلاء، بل إن مشيئته جل اسمه ومقتضى حكمته دعت لأن يكون
الإنسان حرا في اختياره ما يريد من السبل.
وفي الآية التالية يعود إلى الجانب المادي بما يثير حس الشكر للمنعم عند
الناس، ويوقد نار عشق الله في قلوبهم بدعوتهم للتقرب أكثر وأكثر لمعرفة
المنعم الحق، فيقول: هو الذي أنزل من السماء ماء ماء فيه سبب الحياة،
وزلالا شفافا خال من أي تلوث لكم منه شراب، وتخرج به النباتات
والأشجار فترعى أنعامكم ومنه شجر فيه تسيمون.
" تسيمون ": (من مادة الإسامة) بمعنى رعي الحيوانات، وكما هو معلوم فإن
الحيوانات تستفيد من النباتات الأرضية وورق الأشجار، و " الشجر " لغة: ذو
معنى واسع يشمل إطلاقه الأشجار وغيرها من النباتات.

1 - ضمير " منها " يعود إلى السبيل. والسبيل مؤنث مجازي.
141

ومما لا شك فيه أيضا أن ماء المطر لا تقتصر فائدته لشرب الإنسان وإرواء
النباتات، بل ومن فوائده أيضا: تطهير الأرض، تصفية الهواء، إيجاد الرطوبة
اللازمة لطراوة جلد الإنسان وتنفسه براحة، وما شابه ذلك.. فالمذكور من فوائده
في هذه الآية لا حصرا وإنما من باب الأهم.
فيكمل الموضوع بقوله: ينبت لكم من الزرع والزيتون والنخيل
والأعناب ومن كل الثمرات.
ولا شك أن خلق هذه الثمار المتنوعة وكل ما هو موجود من المحاصيل
الزراعية لآية للمتفكرين إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون.
" الزرع ": يشمل كل مزروع و " الزيتون " اسم لشجرة معروفة واسم لثمرها
أيضا.
إلا أن بعض المفسرين يذهبون إلى أن " الزيتون " هو اسم الشجرة فقط، واسم
ثمرتها " زيتونة ". في حين أن الآية الخامسة والثلاثين من سورة النور تطلق كلمة
" الزيتونة " على الشجرة.
و " النخيل " تستعمل للمفرد والجمع... و " الأعناب " جمع أعنبة، وهي ثمرة
معروفة.
وهنا يرد سؤال وهو: لماذا اختار القرآن ذكر هذه الثمار دون غيرها
(الزيتون، التمر، العنب)؟ ستقرأ توضيح ذلك في البحوث التفسيرية لهذه الآيات إن
شاء الله.
ثم يشير إلى نعمة تسخير الموجودات المختلفة في العالم للإنسان بقوله:
وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في
ذلك لآيات لقوم يعقلون على عظمة وقدرة الله وعظمة ما خلق.
قلنا في تفسيرنا لآيات سورتي الرعد وإبراهيم، أن المفهوم الواقعي لتسخير
الموجودات للإنسان أن تكون في منفعته، ويكون ذلك من شأنها ووظيفتها مع
142

تمكين الإنسان من الاستفادة منها.
فكل من الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم له نوع وأثر خاص في حياة
الإنسان، وما أجمل عبارة (تسخير الموجودات للإنسان بأمر الله) فبالإضافة لما
تظهره من شرف ورفعة شخصية الإنسان بنظر الإسلام والقرآن، وإعطائه من
الجلال ما يجعله مؤهلا لمقام خليفة الله، فهي تذكرة للإنسان بأن لا يغفل عما أنعم
الله عليه، وباعثة فيه شعور لزوم الشكر لله تعالى من خلال ما يلمس ويرى، عسى
أن يتقرب لحالقه فينال حسن مآبه.
ولهذا يقول تعالى في ذيل الآية: إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
راجع تفسيرنا للآيتين (32 و 33) من سورة إبراهيم للاستزادة في معرفة
أسرار التسخير المذكور.
وإضافة لكل ما تقدم وما ذرأ لكم في الأرض من مخلوقات سخرها
لكم ومختلفا ألوانه من الأغطية والملابس والأغذية والزوجات العفيفات
ووسائل الترفيه، حتى أنواع المعادن وكنوز الأرض وسائر النعم الأخرى إن في
ذلك لآية لقوم يذكرون.
* * *
2 البحوث
3 1 - النعم المادية والمعنوية
احتوت الآيات مورد البحث على ذكر النعم المادية والمعنوية بشكل مترابط
لا يقبل الفصل، إلا أن أسلوب ولحن التعبير يختلف بين النعم المادية والمعنوية،
فبالنسبة للنعم المادية لا نجد موردا يقول فيه القرآن الكريم: إن على الله رزقكم،
لكنه في مورد الهداية يقول: على الله قصد السبيل فيعطيكم كل ما تحتاجونه
تكوينيا وتشريعيا للسير باقتدار في الطريق الإلهي.
143

وحينما يتحدث عن خلق الأشجار والفواكه وعن تسخير الشمس والقمر
نراه سبحانه يضعها في مسير هدف معنوي... إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون
وذلك لإن الأسلوب القرآني - كما هو معروف - لا يتخذ بعدا واحدا في خطابه
للناس.
3 2 - لماذا الزيتون والنخيل والأعناب دون غيرها؟!
يمكننا للوهلة الأولى أن نتصور أن ذكر القرآن للزيتون والتمر والعنب، في
الآيات مورد البحث، لوجودها في المنطقة التي نزل فيها القرآن.. ولكن بملاحظة
الجانب العالمي لرسالة القرآن ومع الاعتقاد ببقائها واستمرارها بالإضافة إلى
التوجه لعمق التعبير القرآني.. يتضح لنا خطل ذلك التصور.
يقول العلماء المتخصصون بالأغذية (ممن صرفوا السنين الطول في البحث
عن فوائد وخواص الأغذية): إن القليل من الفواكه التي تنفع بدن الإنسان من
الناحية الغذائية هي بمستوى هذه الثمار الثلاث.
ويقولون: إن (زيت الزيتون) له قيمة عالية جدا لتأمين السعرات الحرارية
اللازمة للبدن، ولذلك يعتبر من الأغذية المقوية للبدن، وعلى الذين يريدون حفظ
سلامتهم أن يواظبوا على تناول هذا الإكسير.
إن زيت الزيتون ملائم لكبد الإنسان، مؤثر فعال في رفع عوارض الكلى،
والقولنج الكلوي والكبدي واليبوسة.
ولهذا نجد له مدحا كثيرا في الروايات، ففي حديث عن الإمام علي بن
موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال عن الزيتون: " نعم الطعام الزيت، يطيب النكهة، ويذهب
البلغم، ويصفي اللون، ويشد العصب، ويذهب بالوصب، ويطفئ الغضب " (1).

1 - البحار: 66 / 183.
144

والأهم من ذلك كله تسمية القرآن لشجرة الزيتون ب‍ " الشجرة المباركة ".
وللتمر حديث أيضا حيث ثبتت الأهميتين العلاجية والغذائية له من خلال ما
بينه علماء الطب والأغذية.. فقد اتضح وجود الكالسيوم فيه الذي يعتبر العامل
الأساسي لبناء وتقوية العظام، وكذلك الفسفور الذي يعتبر من العناصر الأساسية
في تكون الدماغ، بالإضافة إلى أن التمر يمنع ضعف الأعصاب ومزيل للتعب، كما
أن له دورا في حدة البصر.
وفيه البوتاسيوم الذي له الأهمية البالغة في بناء خلايا الجسم، علاوة على أن
فقدانه يسبب قرحة المعدة.
كما بات من المعروف عند المتخصصين في علم الأغذية أن التمر له الدور
الفعال في عدم الإصابة بمرض السرطان.
وأظهرت الإحصائيات أن المناطق التي يكثر فيها تناول التمر هي أقل
المناطق إصابة بهذا المرض الفتاك. ولهذا نجد أن البدو في الصحاري العربية مع ما
يعانونه من فقر غذائي إلا أنهم لا يصابون بمرض السرطان. ويعزى سبب ذلك إلى
وجود المغنيسيوم في التمر غذائهم الأول.
أما السكر الموجود في التمر فيعتبر من أفضل أنواع السكريات، حتى أنه لا
يسبب ضررا لكثير من المصابين بمرض السكر عند تناوله.
وقد اكتشف العلماء لحد الآن ثلاث عشرة مادة حياتية وخمسة أنواع من
الفيتامينات في التمر، تجعله مصدرا غذائيا غنيا وذا قيمة عالية جدا (1).
ولهذا ورد تأكيد واسع على أهمية هذه المادة الغذائية في الروايات، ومما
روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: " كل التمر فإن فيه شفاء من الأدواء ".
وقد روي أيضا أن طعام أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرا ما كان الخبز والتمر.

1 - أول جامعة وآخر نبي، الجزء السابع، ويختص هذا الجزء بشرح الخواص الغذائية والصحية والعلاجية للتمر والعنب ويطلع
الإنسان من خلاله على أهمية هذين الغذائين.
145

وفي روي أخرى: " بيت لا تمر فيه جياع أهله " (1).
وفي سورة مريم أن الله أطعم مريم عندما ولدت عيسى (عليه السلام)، الرطب، وهو
إشارة إلى أن أفضل غذاء للمرأة حديثة الولادة التمر، وعليه كان تأكيد الروايات
بخصوص تفسير هذه الآية.. إن أفضل طعام لها هو التمر (2).
أما العنب.. فيقول عنه علماء الأغذية: إن ما فيه الفوائد تدعونا إلى القول بأنه
صيدلية طبيعية متكاملة.
إضافة إلى أن خواص العنب شبيهة جدا بخواص حليب الأم (أي أنه غذاء
كامل)، وفائدته ضعف فائدة اللحم، وهو ذو سعرة حرارية عالية، ومقاوم للسموم،
وله أثر علاجي قطعي في تصفية الدم والوقاية من الروماتيزم والنقرس، ويزيد في
الدم، وينظف المعدة والأمعاء، وهو: منشط، مزيل للتعب، مقو للأعصاب، وتعطي
الفيتامينات المختلفة التي يحتويها قوة للإنسان.
وإضافة لكونه مادة غذائية مهمة فله القدرة على مكافحة الميكروبات بدرجة
ملحوظة، حتى أعتبر من العوامل المهمة في مكافحة مرض السرطان والوقاية
منه (3).
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " خير طعامكم الخبز، وخير فاكهتكم
العنب " (4).
ولو أردنا ذكر كل ما أورده علماء التغذية بخصوص الفواكه الثلاث وضمناها
ما جاء بصددها من روايات لخرجنا عن طبيعة التفسير، وإنما كان القصد من هذه

1 - سفينة البحار، ج 1، ص 124.
2 - سفينة البحار،: ج 1، ص 124 كذلك.
3 - أول جامعة وآخر نبي، الجزء السابع.
4 - الإسلام طبيب بلا دواء.
146

الإطالة بيان السبب العلمي الدقيق وراء ذكر هذه الفواكه في الآية المشار إليها،
ولعل أكثر ما ذكر من فوائد كان خافيا على أهل زمان نزول الآية.
3 3 - التفكر والتعقل والتذكر:
رأينا في الآيات المبحوثة أن القرآن دعا الناس بعد ذكر ثلاثة أقسام من
النعم الإلهية إلى التأمل في ذلك، فقال في المورد الأول: إن في ذلك لآية لقوم
يتفكرون، وفي المورد الثاني: لقوم يعقلون وفي الثالث: لقوم يذكرون.
إن الاختلاف الوارد ليس للتصوير الفني في عبارات القرآن، لأن المعروف
عن الأسلوب القرآني إشارته لكل معنى برمز خاص.
ولعل المقصود من ذلك أن النعم الإلهية الموجودة في الأرض من الوضوح ما
يكفي معها التذكر.
أما فيما يخص الزارعة والزيتون والنخيل والأعناب والفاكهة فتحتاج إلى
تركيز الفكر لمعرفة خواصها الغذائية والعلاجية، ولهذا ورد التعبير بالتفكر فيها.
وأما تسخير الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم فيحتاج إلى تفكير أشد
وأعمق من الحالة الأولى، فورد التعبير بالتعقل.
وعلى أية حال، فالقرآن - دوما - يخاطب العلماء والمفكرين والعقلاء،
بالرغم من أن المحيط الذي نزل فيه كان متخوما بالجهل، ومن هنا تتضح لنا عظمة
عبارات القرآن بشكل جلي.
والقرآن بما يحمله يمثل ضربة قاصمة لضيقي الأفق من الذين رفضوا
الأديان كلها لأنهم اصطدموا بوجود أديان خرافية، وعلى أساسها الهش بنوا
بنيانهم المهزوز على اعتبار أن الدين معطل للعقل والعلم وأن الإيمان بالله عز
وجل ناتج عن جهل الإنسان وضعفه!!
147

ومن هذه النداءات الربانية ما نجده في جميع السور القرآنية تقريبا، التي
تتحدث بكل وضوح عن: أن الدين الحق هو وليد التعقل والتفكر وليس وليد
الخيال السارح والجهل الدامس.
وخطاب الإسلام موجه باستمرار إلى علماء وأولي الألباب وليس إلى الجهلة
وذوي الخرافات الباطلة أو إلى أدعياء الثقافة.
* * *
148

2 الآيات
وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا
منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من
فضله ولعلكم تشكرون (14) وألقى في الأرض رواسي أن تميد
بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون (15) وعلمت وبالنجم
هم يهتدون (16) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17) وإن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم (18)
2 التفسير
3 نعمة الجبال والبحار والنجوم:
تبين هذه الآيات قسما آخر من النعم الإلهية غير المحدودة التي تفضل بها
الله عز وجل على الإنسان، فيبدأ القرآن الكريم بذكر البحار، المنبع الحيوي
للحياة، فيقول: وهو الذي سخر البحر.
وكما هو معلوم أن البحار تشكل القسم الأكبر من سطح الكرة الأرضية، وأن
الماء أساس الحياة، ولا زالت البحار باعتبارها المنبع المهم في إدامة الحياة
149

البشرية وحياة جميع الكائنات الحية على سطح الكرة الأرضية.
فما أكبرها من نعمة حين جعلت البحار في خدمة الإنسان...
ثم يشير الباري سبحانه إلى ثلاثة أنواع من منافع البحار: لتأكلوا منه لحما
طريا فقد جعل الله في البحار لحما ليتناوله الإنسان من غير أن يبذل أدنى جهد
في تربية، بل أوجدته ونمته يد القدرة الإلهية، وقد خصه بالطراوة، فمع الأخذ
بنظر الاعتبار أن اللحوم غير الطازجة متوفرة في ذلك الزمان وفي هذا الزمان
على السواء ندرك جيدا أهمية هذه النعمة، وفي ذلك إشارة أيضا إلى أهمية
اللحوم الطازجة.
ومع ما شهدته الحياة البشرية من التقدم والتمدن المدني في كافة أصعدة
الحياة لا زال البحر أحد المصادر الرئيسية للتغذية، ويصاد سنويا مئات الآلاف
من الأطنان من الأسماك الطرية التي أوجدتها ورعتها يد اللطف الإلهية لأجل
الإنسان.
ونجد أنظار العلماء متجهة صوب البحار في قبال ما سيهدد البشرية من خطر
نقص المواد الغذائية في المستقبل جراء الزيادة السكانية الهائلة، آملين خيرا بأن
البحار ستسد مقدارا ملحوظا من ذلك النقص، بواسطة تربية وتكثير أنواع
الأسماك.
ومن جهة أخرى وضعوا عدة مقررات لمنع تلوث مياه البحار للحد من تلف
نسل الحيوانات البحرية، وكل ذلك يوضح ما في الآية المذكورة من مسائل علمية
طرحت على البشرية قبل أربعة عشر قرنا.
ومن فوائد البحار أيضا تلك المواد التجميلية المستخرجة من قاعه:
وتستخرجوا منه حلية تلبسونها.
الحس الجمالي من الأمور الفطرية التي فطر الإنسان عليها وهو الباعث على
إثارة الشعر والفن الأصيل وما شاكلها عنده.
150

وبلا شك، يلعب هذا البعد دورا مهما في حياة البشر، وينبغي العمل على
إشباعه بشكل صحيح وسالم بعيدا عن أي نوع من الإفراط والتفريط..
فلا فرق بالنتيجة بين من غرق في عبادة التجميل والزينة، وبين من أهملها
وعاش حالة الجفاف الجمالي، لأن الأول مارس الإفراط الباعث على تلف
رأسماله وبات سببا في إيجاد الفواصل الطبقية المصاحب لقتل كل ما يمت
للمعنويات بصلة، والثاني مارس التفريط الباعث على الخمود والركود. فالإثنان
معا عملا بما لا ينبغي أن يعمله أي إنسان ذو فطرة سليمة بكافة أبعادها.
ولهذا أوصى الإسلام كثيرا بالتزين المعقول الخالي من أي إسراف مثل: لبس
اللباس الجيد، التطيب بالعطور، استعمال الأحجار الكريمة... الخ.
ثم يتطرق القرآن إلى الفائدة الثالثة في البحار: حركة السفن على سطح
مياهها، كوسيلة مهمة لتنقل الإنسان ونقل ما يحتاجه، فيقول: وترى الفلك
مواخر فيه، وما أجمل ما تقع عليه أنظار راكبي السفينة حين حركتها على سطح
البحار والمحيطات.
وأعطاكم الله هذه النعمة لتستفيدوا منها في التجارة أيضا ولتبتغوا من
فضله (1).
وبعد ذكر هذه النعم التي تستلزم من الإنسان العاقل أن يشكر واهبها، يأتي
في ذيل الآية: ولعلكم تشكرون.
" الفلك ": أي السفينة، وتأتي بصيغتي المفرد والجمع.
" مواخر " جمع " ماخرة " (من مادة مخر) على وزن (فخر) بمعنى شق الماء
يمينا وشمالا، وتطلق على صوت الرياح الشديد أيضا، وباعتبار السفن عند
حركتها تشق الماء بمقدمتها فيطلق عليها اسم (الماخر) أو الماخرة.

1 - ابتدأت عبارة ولتبتغوا من فضله بواو العطف بما يستوجب تقدم المعطوف وهو هنا مقدرا، تقديره " لتنتفعوا بها
ولتبتغوا من فضله ".
151

ونتساءل: من الذي أعطى المواد التي تصنع منها السفن خاصية الطفو على
سطح الماء؟
فالسفينة بما تحمل أثقل من الماء بكثير، ولو لم تكن تلك القوة الدافعة للماء،
هل بإمكاننا العوم على سطح المياه؟
ومن الذي يحرك الرياح على سطح البحر؟
بل من أعطى البخار القوة لتحريك السفينة في مسيرها على سطح الماء؟
أوليس ذلك كله من نعم الله تعالى؟
ومما يكشف عن عظم نعمة البحار أنها: أوسع بكثير من الطرق البرية، أقل
كلفة، أكثر أهلية للحركة، أعظم وسيلة نقلية للبشر، وذلك بملاحظة كبر السفن
المستخدمة في النقل وضخامة ما تحمله.
ثم يأتي الحديث عن الجبال بعد عرض فوائد البحار: وألقى في الأرض
رواسي أن تميد بكم (1).
كما قلنا سابقا فإن الجبال متصلة من جذورها وتقوم بتثبيت الأرض مما
يجعلها مانعا حصينا من الزلازل الأرضية الشديدة الناشئة من الغازات الكامنة في
باطن الأرض والمهددة بالخروج في أية لحظة على شكل زلزال.
إضافة لخاصية الجبال في مد القشرة الأرضية بالمقاومة اللازمة أمام جاذبية
القمر (التي تسبب ظاهرة المد والجزر) ويقلل من أثرها إلى حد كبير.
وللجبال من جانب ثالث القدرة على تقليل شدة حركة الرياح وتوجيه
حركتها، ولو لم تكن الجبال لكن سطح الأرض عرضة للعواصف الشديدة
المستمرة.
ثم يتطرق القرآن الكريم مباشرة إلى نعمة الأنهار، لما بين الجبال والأنهار من

1 - أن تميد بكم على تقدير (لئلا تميد بكم) أو (كراهة أن تميد بكم).
152

علاقة وثيقة حيث تعتبر الجبال المخازن الأصلية للمياه، فيقول: وأنهارا.
ثم يقطع القرآن الكريم الوهم الحاصل عند البعض من أن الجبال حاجز بين
ارتباط الأراضي فيما بينها بالإضافة لكونها مانعا رهيبا أمام حركة النقل، فيقول
وسبلا لعلكم تهتدون (1).
وهذه المسألة ملفتة للنظر حقا، حيث نجد طرق عبور يستطيع أن يتخذها
الإنسان سبيلا لتنقلاته بين أكبر السلاسل الجبلية وعورة في العالم، وقليلا ما
يكون هناك قطع كامل بين المناطق بسبب الجبال.
ثم يضيف قائلا: وعلامات لأن الطريق لوحدها لا يمكنها أن توصل
الإنسان لمقصده دون وجود علامات فارقة ومميزات شاخصة يستهدي بها
الإنسان لسلك ما يوصله لمأربه، ولذا ذكر هذه النعمة.
ومن تلك العلامات: شكل الجبال، الأودية، الممرات، الارتفاع والانخفاض،
لون الأرض والجبال وحتى طبيعة حركة الهواء.
ولمعرفة ما لوجود هذه العلامات من أهمية، يكفينا أن نلقي نظرة إلى حال
الصحاري الواسعة ذات الصفة الواحدة الموجودة في بعض مناطق العالم، حيث
عملية التنقل فيها أمر صعب مستصعب إلى حد كبير، إضافة لخطورته الكبيرة، وكم
هناك من مسافر دخل فيها ولم يعد...
فلو كان سطح الأرض كله على شاكلة الصحاري، كأن تكون الجبال كلها
بشكل وحجم واحد، وحقولها بلون واحد، وأوديتها متشابهة تماما.. فهل كان من
اليسير على الإنسان أن يسير عليها؟!
وأما في حال عدم تشخيص هذه العلامات بسبب ظلمة الليل في أي من

1 - تعتبر هذه الآية إحدى المعجزات العلمية للقرآن الكريم، حيث ذكرت هذا الأمر وبما يحمل من ظواهر علمية في زمن لم
يصل الإنسان لاكتشافه بعد.
ولأجل مزيد من التوضيح راجع كتابنا (القرآن وآخر نبي) - فصل المعجزات العلمية للقرآن.
153

سفر البر أو البحر، فقد جعل الله تعالى علامات في السماء تعوض عن علامات
الأرض في تلك الحال: وبالنجم هم يهتدون.
بطبيعة الحال فهذه إحدى الفوائد الجمة للنجوم، ولو لم يكن لها سوى هذه
الفائدة لكان كافيا لوجودها، خصوصا في زمن لا أسطرلاب فيه ولا مؤشرات
قطبية تعين السفن في تحديد مسيرها وفق خرائط أعدت لذلك الغرض، وقديما
كانت الرحلات تتوقف إذا ما غطيت السماء بالسحب وتلبدت بالغيوم، ومن يجرؤ
على تكملة السفر فسيواجه خطر الموت.
وكما هو معلوم اليوم، فإن النجوم التي تبدو لنا متحركة في السماء عبارة عن
خمسة كواكب، ويطلق عليها اسم السيارات، والسيارات أكثر من خمسة، إلا أن
البقية لا يمكن تشخيصها بالعين المجردة بسهولة، أما بقية النجوم فإنها تحتفظ
بمكانها النسبي، وكأنها لآلئ خيطت على قطعة قماش أسود، وهذه القطعة كأنها
تسحب من إحدى جهاتها فتتحرك بكاملها.
وبعبارة أخرى: إن حركة النجوم الثوابت جمعية، وحركة السيارات انفرادية،
حيث تتغير المسافات بينها وبين الثوابت باستمرار.
إضافة لذلك، فالنجوم الثوابت تشكل فيما بينها أشكالا معينة تعرف ب‍ (الصور
الفلكية) ولها الأثر الكبير في معرفة الاتجاهات الأربعة (الشمال، الجنوب،
الشرق، والغرب).
وبعد أن بين القرآن كل هذه النعم الجليلة والألطاف الإلهية الخفية، راح
يدعو الوجدان الإنساني للحكم في ذلك أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا
تذكرون؟!
وكما اعتدنا عليه من القرآن في أسلوبه التربوي الهادف المؤثر، فقد طرح
مسألة المحاججة بصيغة سؤال يترك الجواب عنه في عهدة الوجدان الحي
للإنسان، مستعينا بتحريك الإحساس الباطني ليجيب من أعماق روحه، ولينشد
154

عشقا بخالقه.
والثابت في ا لواقع النفسي للإنسان، أن التعليم والتربية السليمة يستلزمان
بذل أقصى سعي ممكن لإقناع المقابل بقبول ما يوجه إليه عن قناعة ذاتية، أي
ينبغي إشعاره بأن ما يعطى إليه ما هو في حقيقته إلا انبعاث من داخله وليس فرضا
عليه من الخارج ليتقبلها بكل وجوده ويتبناها ويدافع عنها.
ونجد من الضرورة إعادة ما قلناه سابقا من أن المشركين الذين كانوا
يسجدون للأصنام كانوا يعتقدون أن الله عز وجل هو الخالق، ولهذا يتساءل القرآن
الكريم.. من أحق بالسجود.. خالق كل شئ أم المخلوق؟!
وفي نهاية المطاف، يفند الباري سبحانه مسألة حصر النعم الإلهية بما ذكر،
بقوله: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
إنكم غارقون في النعم الإلهية وفي كل نفس يصعد وينزل آلاف النعم (ولكل
نعمة شكر واجب).
إن كل دقيقة تمر من عمرنا نكون فيها مدينين لفعاليات ملايين الموجودات
الحية في داخل بدننا وملايين الموجودات الحية وغير الحية في خارجه، والتي لا
يمكننا أن نحيا ولو للحظة واحدة بدونها.
ولكن ضبابية الغفلة حالت دون معرفتنا لهذه النعم الجمة التي كلما خطا العلم
الحديث خطوة إلى الأمام اتضحت لنا أبعاد واسعة وانفتحت لنا آفاقا جديدة في
معرفة النعم الإلهية، وكل ما ندركه في هذا المجال قليل جدا مما قدره الباري لنا،
فهل بإمكان المحدود أن يعد ما أعطاه المطلق؟!
ونواجه في هذا المقام سؤالا واستفسارا: كيف إذن نؤدي حق الشكر لله؟ و..
ألسنا مع ما نحن فيه زمرة الجاحدين؟
وقوله تعالى: إن الله لغفور رحيم خير جواب لما واجهنا به.
نعم، فهو سبحانه أرحم وأرأف من أن يؤاخذنا على عدم الاستطاعة في أداء
155

أتم الشكر على نعمه.
ويكفينا من لطفه تعالى بأن يحسبنا من الشاكرين في حال اعتذرنا له
واعترافنا بالعجز عن أداء حق الشكر الكامل.
ولكن هذا لا يمنع من أن نتتبع ونحصي النعم الربانية بقدر المستطاع، لأن
ذلك يزيدنا معرفة لله، وعلما بعالم الخليقة، وآفاق التوحيد الرحبة، كما يزيد من
حرارة عشقه سبحانه في أعماق قلوبنا، وكذا يحرك فينا الشعور المتحسس
بضرورة ووجوب شكر المنعم جل وعلا.
ولهذا نجد أن الأئمة (عليهم السلام) يتطرقون في أقوالهم وأدعيتهم ومناجاتهم إلى النعم
الإلهية ويعدون جوانب منها، عبادة لله وتذكيرا ودرسا للآخرين.
(وقد تناولنا مسألة شكر النعمة وعدم قدرة الإنسان على إحصاء النعم الإلهية
عند بحث الآية الرابعة والثلاثين من سورة إبراهيم).
* * *
2 بحث
3 الطريق، العلامة، القائد:
تحدثت الآيات أعلاه عن الطرق الأرضية بكونها إحدى النعم الإلهية
باعتبارها من أهم وسائل الارتباط في طريق التمدن الإنساني.
ولهذا عند وضع الخطط العمرانية لابد معها من رسم وبناء خطوط الطرق
المناسبة للمكان المقصود، وإلا لا يمكن أن يقام عمران.
ومع هذا، فلا يمكننا حصر البيان القرآني بهذا الجانب فحسب، بل يمكننا
القول بأنه يشمل حتى جوانب الحياة المعنوية للبشرية أيضا، لأن الوصول إلى
هدف مقدس يستلزم سلوك الطريق الصحيح لذلك الهدف.
بالإضافة إلى الأهمية الحيوية الوجود العلامات في تشخيص السبيل من بين
156

كثرة السبل وتشابكها، فاضاعة السبيل الأصلي ممكن في حال عدم وجود ما يدل
عليه من " علامات ".
وخصوصا، ورود تسمية المؤمنين في الآيات القرآنية بالمتوسمين للتأكيد
على ضرورة الانتباه إلى هذه العلامات.
فلكي يستطيعوا تشخيص الحق من الباطل لابد من معرفة المذاهب والسنن
والدعوات المختلفة، بل حتى الأشخاص، وذلك من خلال (العلامات).
وأما مسألة وجود القائد فلا تحتاج لتوضيح وبيان (الموضح لا يوضح).
وقد فسرت " النجم " برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و " العلامات " بالأئمة (عليهم السلام) في روايات
كثيرة وردت عن أهل البيت (عليهم السلام).. وفي بعضها فسر " النعم " و " العلامات " كلاهما
بالأئمة (عليهم السلام)، ونشير هنا إلى نماذج من الروايات:
1 - في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " النجم رسول
الله، والعلامات الأئمة (عليهم السلام) " (1) وورد مثله عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام).
2 - وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية أعلاه أنه قال: " نحن
النجم " (2).
3 - وروي كذلك عن الإمام الرضا (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام): " أنت
نجم بني هاشم " (3).
4 - وفي رواية أخرى: " أنت أحد العلامات " (4).
وكل ذلك يشير إلى التفسير المعنوي لهذه الآيات.

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 45.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
4 - المصدر السابق.
157

* * *
158

2 الآيات
والله يعلم ما تسرون وما تعلنون (19) والذين يدعون من
دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموت غير أحياء
وما يشعرون أيان يبعثون (21) إلهكم إله وحد فالذين
لا يؤمنون بالأخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (22)
لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب
المستكبرين (23)
2 التفسير
3 آلهة لا تشعر!
تناولت الآيات السابقة ذكر صفتين ربانيتين لا تنطبق أية منها على الأصنام
وسائر المعبودات الأخرى غير الله تعالى وهما: (خلق الموجودات، إعطاء النعم)،
أما الآية الأولى أعلاه فتشير إلى الصفة الثالثة للمعبود الحقيقي (وهي العلم)،
فتقول: والله يعلم ما تسرون وما يعلنون.
فلماذا تسجدون للأصنام التي لم تكن هي الخالقة لكم، ولم تمن عليكم بأية
159

نعمة، ولا تعرف عن علنكم شيئا مضافا إلى سركم؟!
فهل يصح عبادة من لا يمتلك مستلزمات المعبود؟!
ثم يعود القرآن إلى مسألة الخالقية بأفق أوسع من الآية السابقة: والذين
يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون.
وقد بحث لحد الآن في عدم صلاحية الأصنام لتكون معبودة لأنها ليست
خالقة. بل والأكثر من ذلك أنها إضافة لكونها مخلوقة فهي فقيرة ومحتاجة في
وجودها، فكيف يلجأ إليها الإنسان لسد حوائجه؟! أوليس ذلك السخف بعينه؟
ومع ذلك كله، فإنها أموات غير أحياء.
أوليس ينبغي أن يكون المعبود حيا (على أقل التقادير) ليكون مطلعا على
حاجات عباده؟
إذن... يلزم توفر صفة " الحياة " للمعبود الحقيقي، وهذا ما لا يتوفر في
الأصنام.
ثم يضيف قائلا عنها: وما يشعرون أيان يبعثون.
فإذا كان الثواب والعقاب بيد الأصنام. فلا أقل من معرفتها بوقت بعث
عبادهن، ومع جهلها بيوم البعث والحساب كيف تكون لائقة للعبادة؟!
وهذه هي الصفة الخامسة التي يجب توفرها في المعبود الحقيقي وتفتقدها
الأصنام.
وقلنا مرارا فيما سبق أن مفهوم الصنم وعبادة الأصنام في المنطق القرآني
أوسع من أن يحدد بالآلهة المصنوعة من الحجر والخشب والمعادن. فكل موجود
نجعله ملجأ لنا مقابل الله عز وجل، ونسلم له أمر مصائرنا، فهو صنم وإن كان
بشرا.
ولهذا فكل ما جاء في الآيات أعلاه يشمل الذين يعبدون الله بألسنتهم،
ولكن في واقع حياتهم مستسلمون لمعبود ضعيف، وقد تبعوه لكونه المخلص لهم
160

من دون الله، بعد أن فقد زمام استقلال المؤمن الحق.
أولئك الذين يعتقدون أن القوى العالمية الكبرى يمكن أن تكون ملجأ لهم في
حياتهم، وإن كانت كافرة بالله وجهنمية فهم من الناحية العملية الواقعية عبدة
للأصنام ومشركين بالله عز وجل، وينبغي محاججتهم ب‍:
هل خلقت لكم هذه المعبودات شيئا؟
هل هي مصدر النعمة؟
أهي مطلعة على شؤونكم الظاهرة والخفية؟
وهل تعلم متى ستبعثون؟
هل بيدها الثواب والعقاب؟
وإن كانت الإجابة بالنفي، فلم تعبدونها من دون الله؟!
وبعد هذه الاستدلالات الحية والواضحة على عدم صلاحية الأصنام
يخلص القرآن إلى النتيجة المنطقية لما ذكر: إلهكم إله واحد.
وبما أن العلاقة بين المبدأ والمعاد مترابطة ربطا لا انفصام فيه، يضيف القرآن
الكريم من غير فاصلة: فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم
مستكبرون (1).
فأدلة التوحيد والمعاد قائمة لمن أراد الحق وطلب الحقيقة، إلا أن سبب عدم
قبول الحق وإنكاره يرجع إلى حالة الاستكبار وعدم التسليم له، ويصبح ملكة في
وجود المنكرين خصوصا بعد أن يصل بهم الحال إلى إنكار الحقائق الحسية
المتوفرة لديهم، وعندها فلا ينفع معهم كلام حق أو دليل شاخص أو منطق سليم.
فالأدلة الحية التي ذكرتها الآيات السابقة بعدم صلاحية الأصنام للعبادة
كافية لكل ذي لب رشيد، إلا أن هناك الكثير ممن لا يقبلها مع مالها من حقيقة

1 - إن حرف الفاء في كلمة " فالذين " للتفريع كما هو معلوم، فيكون المراد: إن إنكار القيامة فرع لإنكار المبدأ.
161

ووضوح!!!
ثم تتطرق الآية الأخيرة إلى علم الله في الغيب والشهادة: لا جرم أن الله
يعلم ما يسرون وما يعلنون.
والآية في واقعها تهديد للكفار وأعداء الحق، بأن الله عز وجل ليس بغافل
عنهم، سرهم وعلانيتهم، وكل سينال جزاءه بما غرفت يداه.
فهم مستكبرون و أنه لا يحب المستكبرين، والاستكبار على الحق من
علامات الجهل بالله عز وجل.
إن كلمة " لاجرم " متكون من " لا " و " جرم " وتستعمل عادة للتأكيد بمعنى
(قطعا)، وأحيانا بمعنى (لابد)، وفي بعض الأحيان تستعمل كقسم مثل: (لا جرم
لأفعلن).
أما كيف أمكن استخراج هذه المعاني من كلمة " لا جرم " فذلك لأن " جرم "
في الأصل بمعنى القطف وقطع الثمار من الأشجار، وعندما تدخل عليها " لا "
يكون مفهومها: أن لا شئ يستطيع قطع هذا الموضوع ومنعه من التحقق، ولهذا
يستفاد منها معاني: قطعا، ولابد، وأحيانا القسم.
* * *
2 بحث
3 من هم المستكبرون؟
وردت كلمة الاستكبار في آيات كثيرة من القرآن الكريم باعتبارها إحدى
الصفات الذميمة الخاصة بالكفار، ولتعطي معنى التكبر عن قبول الحق.
ففي الآية السابقة من سورة نوح: وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا
أصابعهم في أذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا.
وفي الآية الخامسة من سورة المنافقين: وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم
162

رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون.
وكذلك في الآية الثامنة من سورة الجاثية: يسمع آيات الله تتلى عليه ثم
يصر مستكبرا كأن لم يسمعها.
ومن أقبح ألوان التكبر ذلك الذي يقف أمام قبول الحق فيرفضه، لأنه يغلق
على الإنسان جميع سبل الهداية ويتركه يتخبط في متاهات المعاصي والضلال.
ويصف أمير المؤمنين (عليه السلام) الشيطان بأنه: " سلف المستكبرين " (1) لإنه أول من
خطا في طريق مخالفة الحق بعدم تسليمه للحقيقة الربانية التي تقول: إن أدم
أكمل منه.
صحيح أن زهو المال قد يوقع الإنسان في حالة الاستكبار، إلا أن المسألة
أكبر من ذلك وأشمل، فكل رافض لقبول الحق مستكبر وإن كان فقيرا.
ونختم البحث برواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " ومن ذهب يرى أن له
على الآخر فضلا فهو من المستكبرين، فقلت: إنما يرى أن له عليه فضلا بالعافية
إذا رآه مرتكبا للمعاصي؟ فقال: هيهات هيهات! فلعله أن يكون قد غفر له ما أتى
وأنت موقوف تحاسب، أما تلوت قصة سحرة موسى (عليه السلام) " (2).
(حين وقف السحرة يوما في مقابل موسى (عليه السلام) إرضاء لفرعون وطمعا في
جوائزه، ولكنهم انقلبوا فجأة لما تبين لهم الحق واعتنقوه وما هابوا تهديد فرعون،
وبقوا على رفضهم في عديم التسليم للطاغية، فكانت النتيجة أن عفا الله عنهم
ورحمهم).
* * *

1 - نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 48 عن (روضة الكافي).
163

2 الآيات
وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (24)
ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيمة ومن أوزار الذين
يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون (25) قد مكر الذين من
قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من
فوقهم وأتهم العذاب من حيث لا يشعرون (26) ثم يوم
القيمة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشقون
فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على
الكافرين (27) الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا
السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم
تعملون (28) فأدخلوا أبوب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى
المتكبرين (29)
2 سبب النزول
جاء في تفسير مجمع البيان: يروى أنها نزلت في المقتسمين وهم ستة عشر
164

رجلا خرجوا إلى عقاب مكة أيام الحج على طريق الناس على كل عقبة أربعة
منهم ليصدوا الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإذا سألهم الناس عما أنزل على رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: أحاديث الأولين وأباطيلهم.
2 التفسير
3 حمل أوزار الآخرين:
دار الحديث في الآيات السابقة حول عناد المستكبرين واستكبارهم أمام
الحق، وسعيهم الحثيث في التنصل عن المسؤولية وعدم التسليم للحق.
أما في هذه الآيات فيدور الحديث حول منطق المستكبرين الدائم، فيقول
القرآن: وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين فليس هو وحي
إلهي، بل أكاذيب القدماء.
وكانوا يرمون بكلامهم المؤذي هذا إلى أمرين:
الأول: الإيحاء بأن مستوى تفكيرهم وعلميتهم أرقى مما أنزل الله!
الثاني: ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن هو إلا أساطير الأولين قد صيغت بعبارات
جذابة لتنطلي على عوام الناس، وهذا ليس بالجديد، وما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا معيد لما
جاء به الأولون من أساطير.
" الأساطير " (1): جمع أسطورة، وتطلق على الحكايات والقصص الخرافية
والكاذبة، وقد وردت هذه الكلمة تسع مرات في القرآن الكريم نقلا عن لسان
الكفار ضد الأنبياء تبريرا لمخالفتهم الدعوة إلى الله عز وجل.
وفي جميع المواطن ذكروا معها كلمة " الأولين " ليؤكدوا أنها ليست بجديدة
وأن الأيام ستتجاوزها! حتى وصل بهم الحال ليغالوا فيما يقولون، كما جاء عن

1 - يعتبرها البعض جمع الجمع، فالأساطير جمع أسطار، والأساطير جمع سطر.. ويعتبرها البعض الآخر جمعا ليس له مفرد
من جنسه.. إلا أن المشهور ما ذكرناه أعلاه.
165

لسانهم في الآية (31) من سورة الأنفال: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا.
والملاحظ على مستكبري يومنا توسلهم بنفس تلك التهم الباطلة هروبا من
الحق وإضلالا للآخرين، ووصلت بهم الحماقة لأن يعتبروا منشأ الدين من الجهل
البشري، وما الآراء الدينية إلا أساطير وخرافات! حتى أنهم أثبتوا ذلك في كتب
(علم الاجتماع ودونوه بصياغة (علمية) كما يدعون).
أما لو نفذنا في أعماق تفكيرهم لوجدنا صورة أخرى: فهم لم يحاربوا
الأديان والمذاهب الخرافية المجعولة أبدا، فهم مؤسسوها والداعون لنشرها، إنما
محاربتهم للأصالة والدين الحق الذي يوقظ الفكر الإنساني ويحطم الأغلال
الاستعمارية ويقطع دابر المنحرفين عن جادة الصواب.
إنهم يرون عدم انسجام دعوة الدين إلى الأخلاق الحميدة، لأنها تعارض
أهواءهم الطائشة ورغباتهم غير المشروعة.
لذلك يجدون في دعوة الحق مانعا أمام ما يطمحون الحصول عليه، ونراهم
يستعملون مختلف الأساليب لتوهين هذا الدين القيم وإسقاطه من أنظار الآخرين
كي تخلو الساحة لهم ليفعلوا ما يشاؤون.
ومن المؤسف أن طرح بعض الخرافات والأفكار الخاطئة في قالب ديني من
قبل الجهلة، كان بمثابة العامل المساعد في تجري هؤلاء ودفعهم لإلصاق تهمة
الخرافات بالدين. ولابد للمؤمنين الواعين أمام هذه الحال من الوقوف بكل
صلابة أمام الخرافات ليبطلوا هذا السلاح في أيدي أعدائهم ويذكروا هذه الحقيقة
في كل مكان وأن هذه الخرافات لا ترتبط بالدين الحق أبدا ولا ينبغي للداعية
المخلص أن يجعل الخرافات ذريعة لأعداء الدين في محاربته ومحاربتنا، لأن
عملية انسجام التعليمات الربانية مع العقل بحد من المتانة والوضوح لا يفسح أي
مجال لأن توجه إليه هكذا أباطيل.
توضح الآية الأخرى أعمالهم بالقول: ليحملوا أوزارهم كاملة يوم
166

القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الا ساء ما يزرون.
لأن أقوالهم الباطلة لها الأثر السلبي بتضليل أعداد كبيرة من الآخرين. فمن
أسوأ ممن حمل أوزار آلاف البشر إلى وزره! والأكثر من ذلك أن أقوالهم ستركد
في مخيلة من يأتي بعدهم من الأجيال لتكون منبعا لإضلالهم، مما يزيد في حمل
الأوزار باطراد.
وقد جاءت عبارة " ليحملوا " بصيغة الأمر، أما مفهومها فلبيان نتيجة وعاقبة
أعمال أولئك المظللين، كما نقول لشخص ما: لكونك قمت بهذا العمل غير
المشروع فعليك أن تتحمل عاقبة ما فعلت بتذوقك لمرارة عملك القبيح. (واحتمل
بعض المفسرين أن لام (ليحملوا، لام نتيجة).
والأوزار: جمع وزر، بمعنى الحمل الثقيل، وجاءت بمعنى الذنب أيضا،
ويقال للوزير وزير لعظم ما يحمل من مسؤولية.
ويواجهنا السؤال التالي.. لماذا قال القرآن: يحملون من أوزار الذين
يضلونهم ولم يقل كل أوزارهم، في حين أن الروايات تؤكد.. أن " من سن سنة
سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "؟
أجاب بعض المفسرين بوجود نوعين من الذنوب عند المضللين، نوع ناتج
من أتباعهم لأئمة الضلال، والنوع الآخر من أنفسهم، فما يحمله أئمتهم وقادتهم
هو من النوع الأول دون الثاني.
واعتبر البعض الآخر من المفسرين أن " من " في هذه الجملة ليست تبعيضية،
بل جاءت لبيان أن ذنوب الأتباع على عاتق المتبوعين.
وثمة تفسير آخر قد يكون أقرب إلى القبول من غيره، يقول: إن الأتباع
الضالين لهم حالتان من التبعية...
فتارة يكونون أتباعا للمنحرفين على علم وبينة منهم، والتأريخ حافل بهكذا
صور، فيكون سبب الذنب أوامر القادة من جهة، وتصميم الأتباع من جهة أخرى
167

فيقع على عاتق القادة قسم من المسؤولية المترتبة على هذه الذنوب " ولا يقلل
من وزر الأتباع شئ ".
وتارة أخرى تكون التبعية نتيجة الاستغفال والوقوع تحت شراك وساوس
المنحرفين من دون حصول الرغبة عند المتبوعين فيما لو أدركوا حقيقة الأمر،
وهو ما يشاهد في عوام الناس عند الكثير من المجتمعات البشرية، (وقد يسلك
طريق الضلال بعنوان التقرب إلى الله).. وفي هذه الحال يكون وزر ذنوبهم على
عاتق مضليهم بالكامل، ولا وزر عليهم إن لم يقصروا بالتحقق من الأمر.
ولا شك أن المجموعة الأولى التي سارت في طريق الضلال عن علم وبينة
من أمرها سوف لا يخفف من ذنوبهم شئ مع ما يلحق أئمتهم من ذنوبهم.
وهنا يلزم ملاحظة أن التعبير " بغير علم " في الآية ليس دليلا على الغفلة
الدائمة للمضللين، ولا يعبر عن سقوط المسؤولية - في جميع الحالات - على غير
المطلعين بحال وشأن أئمة السوء والضلالة بل يشير إلى سقوط عوام الناس
لجهلهم بشكل أسرع من علمائهم في شراك أو شباك المضللين.
ولهذا نرى القرآن في آيات أخرى لا يبرئ هؤلاء الأتباع ويحملهم قسطا
من المسؤولية كما في الآيتين (47 و 48) من سورة غافر: وإذ يتحاجون في
النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا
نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد.
ثم تذكر الآية الأخرى أن تهمة وصف الوحي الإلهي بأساطير الأولين ليست
بالأمر المستجد: قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر
عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون.
مع أن بعض المفسرين قد ذهب بالآية إلى قصة " النمرود " وصرحه الذي أراد
من خلاله محاربة رب السماء! والبعض الآخر فسرها بقصة " بخت نصر ".. إلا أن
الظاهر من مفهوم الآية شمول جميع مؤامرات ودسائس المستكبرين وأئمة
168

الضلال.
ومن لطيف دقة العبارة القرآنية، أن الآية أشارت إلى أن الله عز وجل لا يدمر
البناء العلوي للمستكبرين فحسب، بل سيدمره من القواعد لينهار بكله عليهم.
وقد يكون تخريب القواعد وإسقاط السقف إشارة إلى أبنيتهم الظاهرية، من
خلال الزلازل والصواعق لتنهار على رؤوسهم، وقد يكون إشارة إلى قلع جذور
تجمعاتهم وأحزابهم بأمر الله عز وجل، بل لا مانع من شمول الأمرين معا.
ومما يلفت النظر أن القرآن ذكر كلمة " السقف " بعد ذكر " من فوقهم "،
ف‍ " السقف " عادة في الطرف الأعلى من البناء، فما الذي استلزم ذكر " من
فوقهم "؟ ويمكن حمله للتأكيد، وكذلك لبيان أن السقوط سيتحقق بوجودهم أسفله
لهلاكهم، حيث أن السقوط قد يحدث بوجود أصحاب الدار أو عدم وجودهم.
وقدم لنا التأريخ قديمه وحديثه بوضوح صورا شتى للعقاب الإلهي، فإحكام
الطغاة والجبابرة لما يعيشون ويتمتعون في كنفه من حصون وقلاع، إضافة
لخططهم المحبوكة كي يستمر لهم ولنسلهم الحال، وما قاموا به من تهيئة وإعداد كل
مستلزمات بقاء قدرة التسلط ودوام نظام الحكم.. كل ذلك لا يعبر في الحقيقة إلا
عن ظواهر خاوية من كل معاني القدرة والاقتدار والدوام، حيث تحكي لنا قصص
التاريخ أن هؤلاء يأتيهم العذاب الإلهي وهم بذروة ما يتمتعون به، وإذا بالقلاع
والحصون تتهاوى على رؤوسهم فيفنون ولا تبقى لهم باقية.
وعذابهم في الحياة الدنيا لا يعني تمام الجزاء، بل تكملته ستكون يوم الجزاء
الأكبر ثم يوم القيامة يخزيهم.
فيسألهم الله تعالى: ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم أي
تجادلون وتعادون فيهم (1)، فلا يتمكنون من الإجابة، ولكن: قال الذين أوتوا

1 - تشاقون: من مادة الشقاق، بمعنى المخالفة والعداء، وأصلها من (شق، أي قطعه نصفين).
169

العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين.
ويظهر من خلال ذلك أن المتحدثين يوم القيامة هم العلماء، ولا ينبغي في
ذلك المحضر المقدس الحديث بالباطل.
وإذا رأينا في بعض الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) التأكيد على أن العلماء في
ذلك المحضر هم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) لأنهم أفضل وأكمل مصداق لذلك (1).
ونعاود الذكر لنقول: إن المقصود من السؤال والجواب في يوم القيامة ليس
لكشف أمر خفي، بل هو نوع من العذاب الروحي، وذلك إحقاقا للمؤمنين الذين
لاقوا اللوم والتوبيخ الشديدين في الحياة الدنيا من المشركين المغرورين.
ويصف ذيل الآية السابقة حال الكافرين بالقول: الذين تتوفاهم الملائكة
ظالمي أنفسهم.
لأن ممارسة الظلم في حقيقتها ظلم للنفس قبل الآخرين، لأن الظالم يتلف
ملكاته الوجدانية، ويهتك حرمة الصفات الفطرية الكامنة فيه.
بالإضافة إلى أن الظلم متى ما شاع وانتشر في أي مجتمع، فالنتيجة الطبيعية
له أن يعود على الظالمين أنفسهم ليشملهم الحال.
أما حين تحين ساعة الموت ويزول حجاب الغفلة عن العيون فألقوا
السلم ما كنا نعمل من سوء.
لماذا ينكرون عملهم القبيح؟ فهل يكذبون لأن الكذب أصبح صفة ذاتية لهم
من كثرة تكراره، أم يريدون القول: إننا نعلم سوء أعمالنا، ولكننا أخطأنا ولم تكن
لدينا نوايا سيئة فيه؟؟.
يمكن القول بإرادة كلا الأمرين.
ولكن الجواب يأتيهم فورا: إنكم تكذبون فقد ارتكبتم ذنوبا كثيرة: بلى إن

1 - راجع تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 50.
170

الله عليم بما كنتم تعملون حتى بنياتكم.
وليس المقام محلا للإنكار أو التبرير.. فأدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها
فلبئس مثوى المتكبرين.
* * *
2 بحثان
3 1 - السنة سنتان.. حسنة وسيئة:
القيام بأي عمل يحتاج بلا شك إلى مقدمات كثيرة، وتعتبر السنن السائدة في
المجتمع سواء كانت حسنة أم سيئة من ممهدات الأرضية الفكرية والاجتماعية
التي تساعد القائد (سواء كان مرشدا أم مضلا) للقيام بدوره بكل فاعلية، وحتى أنه
قد يفوق دور الموجهين وواضعي السنن على جميع العاملين في بضع الأحيان.
ولهذا لا يمكن فصل دور واضعي السنن عن العاملين بتلك السنن، فهم شركاء
في العمل الصالح إذا ما سنوا سنة حسنة، وشركاء في جرم المنحرفين إذا ما سنوا
لهم سنة سيئة.
وقد اهتم القرآن الكريم، وكذا الأحاديث الشريفة كثيرا بمسألة السنة الحسنة
والسنة السيئة وواضعيها.
كما طالعتنا الآيات أعلاه بأن المستكبرين المضلين يحملون أوزارهم
وأوزار الذين يضلونهم (دون أن ينتقص من أوزارهم شئ).
وهذا الأمر من الأهمية بمكان حتى قال عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الدال على الخير
كفاعله " (1).
وفي تفسير هذه الآية روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أيما داع دعا إلى الهدى

1 - وسائل الشيعة، ج 11، ص 436.
171

فاتبع، فله مثل أجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، وأيما داع دعا إلى
ضلالة فاتبع عليه، فإن عليه مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم
شيئا " (1).
وكذلك روي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: " من استن بسنة عدل فاتبع كان له أجر
من عمل بها، من غير أن ينتقص من أجورهم شئ، ومن استن سنة جور فاتبع كان
عليه مثل وزر من عمل به، من غير أن ينتقص من أوزارهم شئ " (2).
وثمة روايات أخرى تحمل نفس هذا المضمون رويت عن الأئمة
الأطهار (عليهم السلام) وقد جمعها الشيخ الحر العاملي (قدس سره)، في المجلد الحادي عشر من كتابه
الموسوم بالوسائل (كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب السادس
عشر).
وفي صحيح مسلم ورد حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرفوعا عن المنذر بن جرير
عن أبيه قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدر النهار قال: فجاءه قوم حفاة عراة
مجتابي النمار أو العباء ومتقلدي السيوف... فتمعر وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما رأى
بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى وخطب فقال: يا
أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة... إن الله عليكم رقيبا
والآية التي في الحشر اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله،
تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره (حتى
قال) ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل
قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام ثياب حتى رأيت
وجه رسول الله يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من سن في الإسلام
سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ،

1 - مجمع البيان، في تفسير الآية مورد البحث.
2 - وسائل الشيعة، ج 11، ص 437.
172

ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من
غير أن ينقص من أوزارهم شئ " (1).
وهنا، يواجهنا سؤال.. كيف تنسجم هذه الروايات مع ما يعاضدها من آيات
مع الآية (164) من سورة الأنعام ولا تزر وازرة وزر أخرى؟
وتتضح الإجابة من خلال ملاحظة أن هؤلاء ليسوا عن ذنوب الآخرين بل
عن ذنوبهم فقط، ولكنهم من خلال اشتراكهم في تحقق ذنوب الآخرين يشاركوهم
فيها، اي ان تلك الذنوب تعتبر من ذنوبهم بهذا اللحاظ.
3 2 - التسليم بعد فوات الأوان:
قليل أولئك الذين ينكرون الحقيقة بعد رؤيتها في مرحلة الشهود، ولهذا نجد
المذنبين والظالمين يظهرون الإيمان فورا بعد أن تزال عن أعينهم حجب الغفلة
والغرور وحصول العين البرزخية في حال ما بعد الموت، كما بينت لنا الآيات
السابقة فألقوا السلم.
وغاية ما في الأمر أن الكل مستسلم، ولكن الحديث يختلف من بعض إلى
بعض، فقسم منهم يتبرأ من أعماله القبيحة بقولهم: ما كنا نعمل من سوء أي
إنهم من كثرة ممارستهم للكذب فقد اختلط بلحمهم ودمهم والتبس عليهم الأمر
تماما، فمع علمهم بعدم فائدة الكذب في ذلك المشهد العظيم ولكنهم يكذبون!
ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أن هناك من يكذب حتى في يوم القيامة،
كما في الآية الثالثة والعشرين من سورة الأنعام: قالوا والله ربنا ما كنا
مشركين!
وقسم آخر يظهر الندامة ويطلب العودة إلى لحياة الدنيا لإصلاح أمره، كما

1 - صحيح مسلم، ج 2، ص 704 (باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة).
173

جاء في الآية (12) من سورة السجدة.
وقسم يكتفي بإظهار الإيمان كفرعون، كما جاء في الآية (90) من سورة
يونس.
وعلى أية حال.. سوف لا تقبل كل تلك الأقوال لأنها قد جاءت في غير وقتها
بعد أن انتهت مدتها، ولا أثر لهكذا إيمان صادر عن اضطرار.
* * *
174

2 الآيات
وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين
أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار
المتقين (30) جنت عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهر لهم
فيها ما يشاءون كذلك يجزى الله المتقين (31) الذين تتوفاهم
الملائكة طيبين يقولون سلم عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم
تعملون (32)
2 التفسير
3 عاقبة المتقين والمحسنين:
قرأنا في الآيات السابقة أقول المشركين حول القرآن وعاقبة ذلك، والآن
فندخل مع المؤمنين في اعتقادهم وعاقبته.. فيقول القرآن: وقيل للذين اتقوا
ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا.
وروي في تفسير القرطبي: كان يرد الرجل من العرب مكة في أيام الموسم
فيسأل المشركين عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقولون: ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون..
175

ويسأل المؤمنين فيقولون: أنزل الله عليه الخير والهدى.
ما أجمل هذا التعبير وأكمله " خيرا " خير مطلق يشمل كل: صلاح، سعادة،
رفاه، تقدم مادي ومعنوي، خير للدنيا والآخرة، خير للإنسان الفرد والمجتمع،
وخير في: التربية والتعليم، السياسة والاقتصاد، الأمن والحرية... والخلاصة: خير
في كل شئ (لأن حذف المتعلق يوجب عموم المفهوم).
وقد وصفت الآيات القرآنية القرآن الكريم بأوصاف كثيرة مثل: النور،
الشفاء، الهداية، الفرقان (يفرق الحق عن الباطل)، الحق، التذكرة، وما شابه ذلك..
ولكن في هذه الآية وردت صفة " الخير " التي يمكن أن تكون مفهوما عاما جامعا
لكل تلك المفاهيم الخاصة.
والفرق واضح في نعت القرآن بين المشركين والمؤمنين، فالمؤمنون قالوا:
" خيرا " أي أنزل الله خيرا، وبذلك يظهر اعتقادهم بأن القرآن وحي إلهي (1).
بينما نجد المشركين عندما قيل لهم ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أساطير
الأولين وهذا إنكار واضح لكون القرآن وحي إلهي (2).
وتبين الآية مورد البحث نتيجة وعاقبة ما أظهره المؤمنون من اعتقاد، كما
عرضت الآيات السابقة عاقبة ما قاله المشركين من عقاب دنيوي وأخروي،
ومادي ومعنوي مضاعف: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة.
وقد أطلق الجزاء بال‍ " حسنة " كما أطلقوا القول " خيرا "، ليشمل كل أنواع
الحسنات والنعم في الحياة الدنيا، بالإضافة إلى: ولدار الآخرة خير ولنعم دار
المتقين.
وتشارك عبارة " نعم دار المتقين " الإطلاق مرة أخرى وكلمة " خيرا "، لأن
الجزاء بمقدار العمل كما وكيفا.

1 - خيرا: مفعول لفعل محذوف تقديره (أنزل الله).
2 - أساطير الأولين: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره (هذه أساطير الأولين).
176

فيتضح لنا مما قلنا إن الآية للدين أحسنوا إلى آخرها تعبر عن كلام الله
عز وجل، ويقوى هذا المعنى عند مقابلتها مع الآيات السابقة.
واحتمل بعض المفسرين أن الظاهر من الكلام يتضمن احتمالين:
الأول: أنه كلام الله.
الثاني: أنه استمرار لقول المتقين.
ثم تصف الآية التالية - بشكل عام - محل المتقين في الآخرة بالقول:
جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون.
فهل ثمة أوسع وصفا من هذا أم أشمل مفهوما لبيان نعم الجنة.
حتى أن التعبير يبدو أوسع مما ورد في الآية (71) من سورة الزخرف
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فالحديث في الآية عن ما تشتهيه
الأنفس، في حين الحديث في الآية مورد البحث عن مطلق الإشاءة ما
يشاؤون.
واستفاد بعض المفسرين من تقديم لهم فيها على ما يشاؤون
الحصر، أي يمكن للإنسان أن يحصل على كل ما يشاء في الجنة فقط دون الدنيا.
وقلنا أن الآيات مورد البحث توضح كيفية حياة وموت المتقين مقارنة مع ما
ورد في الآيات السابقة حول المشركين والمستكبرين، وقد مر علينا هناك أن
الملائكة عندما تقبض أرواحهم يكون موتهم بداية لمرحلة جديدة من العذاب
والمشقة، ثم يقال لهم " ادخلوا أبواب جهنم.. ".
وأما عن المتقين: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين طاهرين من كل
تلوثات الشرك والظلم والاستكبار، ومخلصين من كل ذنب - يقولون سلام
عليكم السلام الذي هو رمز الأمن والنجاة.
ثم يقال لهم: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون.
والتعبير عن موتهم ب‍ تتوفاهم يحمل بين طياته اللطف، ويشير إلى أن
177

الموت لا يعني الفناء والعدم أو نهاية كل شئ، بل هو مرحلة انتقالية إلى عالم
آخر.
وفي تفسير الميزان: أن في هذه الآية ثلاثة مسائل:
1 - طهارة المؤمنين من خبث الظلم.
2 - يقولون لهم سلام عليكم وهو تأمين قولي لهم.
3 - ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وهو هداية لهم إليها.
وهذه المواهب الثلاث هي التي ذكرت في الآية (82) من سورة الأنعام
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
* * *
178

2 الآيات
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك
فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون (33) فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به
يستهزءون (34) وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من
دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ
كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلغ
المبين (35) ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله
واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت
عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عقبة
المكذبين (36) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من
يضل وما لهم من نصرين (37)
2 التفسير
3 البلاغ المبين.. وظيفة الأنبياء:
يعود القرآن الكريم مرة أخرى ليعرض لنا واقع وأفكار المشركين
179

والمستكبرين ويقول بلهجة وعيد وتهديد: ماذا ينتظرون؟ هل ينظرون إلا أن
تأتيهم الملائكة أي ملائكة الموت فتغلق أبواب التوبة أمامهم حيث لا سبيل
للرجوع بعد إغلاق صحائف الأعمال!
أو هل ينتظرون أن يأتي أمر الله بعذابهم: أو يأتي أمر ربك حيث تغلق
أبواب التوبة أيضا ولا سبيل عندها للإصلاح.
فأي فكر يسيرهم، وأي عناد ولجاجة تحكمهم؟!
كلمة " الملائكة " وإن كانت ترمز إلى عنوان عام، إلا أنها في هذا الموقع يقصد
منها ملائكة قبض الأرواح انسجاما مع الآيات السابقة التي كانت تتحدث عنهم.
أما عبارة يأتي أمر ربك فمع قبولها لاحتمالات كثيرة في تفسيرها، إلا
أن المعنى الراجح هو نزول العذاب، لورود هذا المعنى بالخصوص في آيات
مختلفة من القرآن.
ومجموع الجملتين يعني تقريع المستكبرين بأن المواعظ الإلهية وتذكير
الأنبياء إن كانت لا توقظكم من غفلتكم فإن الموت والعذاب الإلهي سيوقظكم،
ولكن حينئذ لا ينفعكم ذلك الإيقاظ.
ثم يضيف: إن هؤلاء ليس أول من كانوا على هذه الحال والصفة وإنما
كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
وسوف يلاقون نتيجة ما كسبت أيديهم من أعمال.
والآية تؤكد مرة أخرى على حقيقة عود الظلم والاستبداد والشر على الظالم
المستبد الشرير في آخر المطاف، لأن الفعل القبيح يترك آثاره السيئة على روح
ونفسية فاعله، فيسود قبله ويلوث روحه فيفقده الأمان والاطمئنان.
ثم يذكر عاقبة أمرهم بقوله: فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما
كانوا به يستهزؤن.
" حاق بهم ": بمعنى أصابهم، إلا أن بعض المفسرين كالقرطبي وفريد وجدي
180

في تفسير لهذه الآية اعتبر معناها (أحاط بهم).
ويمكن الجمع بين المعنيين، فيكون المعنى: نزول العذاب عليهم، وكذلك
محيطا بهم.
وعلى أية حال، فتعبير الآية ب‍ فأصابهم سيئات ما عملوا يؤكد مرة
أخرى على عودة الأعمال على فاعلها سواء في الدنيا أو في الآخرة، وتتجسم له
بصور شتى، وتعذبه وتؤلمه وليس غير ذلك (1).
وتشير الآية التالية إلى أحد أقوال المشركين الخاوية، فتقول: وقال الذين
أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من
دونه من شئ.
إن قولهم ولا حرمنا إشارة إلى بعض أنواع الحيوانات التي حرم لحومها
المشركون في عصر الجاهلية، والتي أنكرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشدة.
والخلاصة: أنهم أرادوا الادعاء بأن كل ما عملوه من عبادة للأصنام إلى
تحليل وتحريم الأشياء، إنما كان وفقا لرضا الله تعالى وبإذنه!
ولعل قولهم يكشف عن وجود عقيدة (الجبر) ضمن ما كانوا به يعتقدون،
معتبرين كل ما يصدر منهم إن هو إلا من القضاء المحتوم عليهم (كما فهم ذلك جمع
كثير من المفسرين).
وثمة احتمال آخر: إنهم لم يقولوا ذلك اعتقادا منهم بالجبر، وإنما أرادوا
الاحتجاج على الله سبحانه، وكأنهم يقولون: إن كانت أعمالنا لا ترضي الله تعالى
فلماذا لم يرسل إلينا الأنبياء لينهونا عما نقوم به، فسكوته وعدم منعه ما كنا نعمل
دليل على رضاه.
وهذا الاحتمال ينسجم مع ذيل الآية والآيات التالية.

1 - وعلى هذا، فلا داعي لتقدير كلمة " جزاء " قبل " سيئات " في الآية.
181

ولهذا يقول تعالى مباشرة: كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل
إلا البلاغ المبين... يعني.
أولا: أن تقولوا أن الله سكت عن أعمالنا! فإن الله قد بعث إليكم الأنبياء،
ودعوكم إلى التوحيد ونفي الشرك.
ثانيا: إن وظيفة الله تعالى والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس هي هدايتكم بالجبر، بل باراءتكم
السبيل الحق والطريق المستقيم، وهذا ما حصل فعلا.
أما عبارة كذلك فعل الذين من قبلهم فمواساة لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأن لا
يحزن ويثبت في قبال ما يواجه من قبل المشركين، وأن الله معه وناصره.
وبعد ذكر وظيفة الأنبياء (البلاغ المبين)، تشير الآية التالية باختصار جامع
إلى دعوة الأنبياء السابقين، بقولها: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا.
" الأمة ": من الأم بمعنى الوالدة، أو بمعنى: كل ما يتضمن شيئا آخر في دخله،
(ومن هنا يطلق على جماعة تربطها وحدة معينة من حيث الزمان أو المكان أو
الفكر أو الهدف " أمة ".
ويتأكد هذا المعنى من خلال دراسة جميع موارد استعمال هذه الكلمة في
القرآن والبالغة (64) موردا.
ويبين القرآن محتوى دعوة الأنبياء (عليهم السلام)، بالقول: أن اعبدوا الله واجتنبوا
الطاغوت (1).
فأساس دعوة جميع الأنبياء واللبنة الأولى لتحركهم هي الدعوة إلى التوحيد
ومحاربة الطاغوت، وذلك لأن أسس التوحيد إذا لم تحكم ولم يطرد الطواغيت
من بين المجتمعات البشرية فلا يمكن إجراء أي برنامج إصلاحي.
" الطاغوت ": (كما قلنا سابقا) صيغة مبالغة للطغيان.. أي التجاوز والتعدي

1 - تقدير هذه الجملة: ليقولوا لهم اعبدوا..
182

وعبور الحد، فتطلق على كل ما يكون سببا لتجاوز الحد المعقول، ولهذا يطلق
اسم الطاغوت على الشيطان، الصنم، الحاكم المستبد، المستكبر وعلى كل مسير
يؤدي إلى غير طريق الحق.
وتستعمل الكلمة للمفرد والجمع أيضا وإن جمعت أحيانا ب‍ (الطواغيت).
ونعود لنرى ما وصلت إليه دعوة الأنبياء (عليهم السلام) إلى التوحيد من نتائج، فالقرآن
الكريم يقول: فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة.
وهنا علت أصوات من يعتقد بالجبر استنادا إلى هذه الآية باعتبارها المؤيدة
لعقيدتهم!
ولكن قلنا مرارا إن آيات الهداية والضلال إذا جمعت وربط فيما بينها فلن
يبقى هناك أي إبهام فيها، ويرتفع الالتباس من أنها تشير إلى الجبر ويتضح تماما
أن الإنسان مختار في تحكيم إرادته وحريته في سلوكه أي طريق شاء.
فالهداية والإضلال الإلهيين إنما يكونا بعد توفر مقدمات الأهلية للهداية أو
عدمها في أفكار وممارست الإنسان نفسه، وهو ما تؤكده الكثير من آيات القرآن
الكريم.
فالله عز وجل (وفق صريح آيات القرآن) لا يهدي الظالمين والمسرفين
والكاذبين ومن شابههم، أما الذين يجاهدون في سبيل الله ويستجيبون
للأنبياء (عليهم السلام) فمشمولون بألطافه عز وجل ويهديهم إلى صراطه المستقيم ويوفقهم
إلى السير في طريق التكامل، بينما يوكل القسم الأول إلى أنفسهم حتى تصيبهم
نتائج أعمالهم بضلالهم عن السبيل.
وحيث أن خواص الأفعال وآثارها - الحسنة منها أو القبيحة - من
الله عز وجل، فيمكن نسبة نتائجها إليه سبحانه، فتكون الهداية والإضلال إلهيين.
فالسنة الإلهية اقتضت في البداية جعل الهداية التشريعية ببعث الأنبياء ليدعوا
الناس إلى التوحيد ورفض الطاغوت تماشيا مع الفطرة الإنسانية، ومن ثم فمن
183

يبدي اللياقة والتجاوب مع الدعوة فردا كان أم جماعة يكون جديرا باللطف
الإلهي وتدركه الهداية التكوينية.
نعم، فها هي السنة الإلهية، لا كما ذهب إليه الفخر الرازي وأمثاله من أنصار
مذهب الجبر من أن الله يدعوا الناس بواسطة الأنبياء، ومن ثم يخلق الإيمان
والكفر جبرا في قلوب الأفراد (من دون أي سبب) والعجيب أنه لإجمال للتساؤل
ولا يسمح في الاستفهام عن سبب ذلك من الله عز وجل.
فما أوحش ما نسبوا إليه سبحانه.. إنما صورة لا تتفق مع العقل والعاطفة
والمنطق؟!
والتعبير الوارد في الآية مورد البحث يختلف في مورد الهداية والضلال، ففي
مسألة الهداية، يقول: فمنهم من هدى الله، أما بالنسبة للقسم الثاني، فلا
يقول: إن الله أضلهم، بل إن الضلالة ثبتت عليهم والتصقت بهم: ومنهم من
حقت عليه الضلالة.
وهذا الاختلاف في التعبير يمكن أن يكون إشارة لما في بعض الآيات
الأخرى، والمنسجم مع ما ورد من روايات.. وخلاصته:
إن القسم الأعظم من هداية الإنسان يتعلق بالمقدمات التي خلقها الله تعالى
لذلك، فقد أعطى تعالى: العقل، وفطرة التوحيد، وبعث الأنبياء، وإظهار الآيات
التشريعية والتكوينية، ويكفي الإنسان أن يتخذ قراره بحرية وصولا للهدف
المنشود.
أما في حال الضلال فالأمر كله يرجع إلى الضالين أنفسهم، لأنهم اختاروا
السير خلاف الوضعين التشريعي والتكويني الذي جعلهم الله عليه، وجعلوا حول
الفطرة حجابا داكنا وأغفلوا قوانينها، وجعلوا الآيات التشريعية والتكوينية وراء
ظهورهم، وأغلقوا أعينهم وصموا أذانهم أمام دعوة الأنبياء (عليهم السلام)، فكان أن آل المآل
بهم إلى وادي التيه والضلال.. أوليس كل ذلك منهم؟
184

والآية (79) من سورة النساء تشير إلى المعنى المذكور بقولها: ما أصابك
من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك.
وروي في أصول الكافي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، في إجابته
على سؤال لأحد أصحابه حول مسألة الجبر والاختيار، أنه قال: " أكتب: بسم الله
الرحمن الرحيم قال علي بن الحسين، قال الله عز وجل: يا ابن آدم بمشيئتي كنت
أنت الذي تشاء، وبقوتي أديت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك
سميعا بصيرا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك،
وذلك أني أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني " (1).
وفي نهاية الآية يصدر الأمر العام لأجل إيقاظ الضالين وتقوية روحية
المهتدين، بالقول: فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
فالآية دليل ناطق على حرية إرادة الإنسان، فإن كانت الهداية والضلال
أمرين إجباريين، لم يكن هناك معنى للسير في الأرض والنظر إلى عاقبة
المكذبين، فالأمر بالسير بحد ذاته تأكيد على اختيار الإنسان في تعيين مصيره
بنفسه وليس هو مجبر على ذلك.
وثمة بحوث كثيرة وشيقة في القرآن الكريم بخصوص مسألة السير في
الأرض مع التأمل في عاقبة الأمور، وقد شرح ذلك مفصلا في تفسيرنا للآية
(137) من سورة آل عمران.
الآية الأخير من الآيات مورد البحث تؤكد التسلية لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبيان ما
وصلت إليه حال الضالين: إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل
وما لهم من ناصرين.
" تحرص " من مادة (حرص)، وهو طلب الشئ بجدية وسعي شديد.

1 - أصول الكافي، ج 1، ص 160 (باب الجبر والقدر - الحديث 12).
185

بديهي، أن الآية لا تشمل كل المنحرفين، لأن الشمول يتعارض مع وظيفة
النبي (هداية وتبليغ)، وللتاريخ شواهد كثيرة على ما لهداية الناس وإرشادهم من
أثر بالغ، وكم أولئك الذين انتشلوا من وحل الضلال ليصبحوا من خلص أنصار
الحق، بل ودعاته.
فعليه.. تكون الجملة المتقدمة خاصة بمجموعة معينة من الضالين الذين
وصل بهم العناد واللجاجة في الباطل لأقصى درجات الضلال، وأصبحوا غرقى
في بحر الاستكبار والغرور والغفلة والمعصية فأغلقت أمامهم أبواب الهداية،
فهؤلاء لا ينفع معهم محاولات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهديهم حتى وإن طالت المدة لأنهم قد
انحرفوا عن الحق بسبب أعمالهم إلى درجة أنهم باتوا غير قابلين للهداية.
ومن الطبيعي أن لا يكون لهكذا أناس من ناصرين وأعوان، لأن الناصر
لا يتمكن من تقديم نصرته وعونه إلا في أرضية مناسبة ومساعدة.
وهذا التعبير أيضا دليل على نفي الجبر، لأن الناصر إنما ينفع سعيه فيما لو كان
هناك تحرك من داخل الإنسان نحو الصلاح والهداية فيعينه ويأخذ بيده - فتأمل.
ولعل استعمال " ناصرين " بصيغة الجمع للإشارة إلى أن المؤمنين على العكس
من الضالين، لهم أكثر من ناصر، فالله تعالى ناصرهم و... الأنبياء، وعباد الله
الصالحين، وملائكة الرحمة كذلك.
ويشير القرآن الكريم إلى هذه النصرة في الآية (51) من سورة المؤمن: إنا
لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
وكذلك في الآية (30) من سورة فصلت: إن الذين قالوا ربنا الله ثم
استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم
توعدون.
* * *
186

2 بحثان
3 1 - ما هو البلاغ المبين؟
رأينا في الآيات مورد البحث أن الوظيفة الرئيسية للأنبياء هي البلاغ المبين
فهل على الرسل إلا البلاغ المبين.
أي لابد من الدعوة علنا، وإذا كانت ثمة ظروف موضوعية تستدعي من
الأنبياء أن تكون دعوتهم سرية، فهذا لا يكون إلا لمدة محدودة، لإن الأسلوب
السري في عصر دعوة الأنبياء (عليهم السلام) غير مستساغ من قبل المجتمع، فلا يكون له
الأثر المطلوب والحال هذه.
فلابد للدعوة إذن من الإعلان السليم القاطع المصحوب بالتخطيط والتدبير
كشرط أساسي في إنجاح الدعوة بين المجتمع.
وبمطالعة تأريخ جميع الأنبياء (عليهم السلام) نرى أنهم كانوا يعلنون دعوتهم ببيان
صريح معلن، بالرغم من قلة الناصر من قومهم بالذات.
وهذا هو خط جميع دعاة الحق (من الأنبياء وغيرهم).. فهم: لا يداهنون في
دعوتهم أبدا ولا يجاملون الباطل وأهله، متحملين كل عواقب هذه الصراحة
والقاطعية.
3 2 - لكل أمة رسول
عند قوله عز وجل: ولقد بعثنا في كل أمة رسول يواجهنا السؤال التالي:
لو كان لكل أمة رسول لظهر الأنبياء في جميع مناطق العالم، ولكن التأريخ لا
يحكي لنا ذلك، فيكف التوجيه؟!
وتتضح الإجابة من خلال الالتفات إلى أن الهدف من بعث الأنبياء لإيصال
الدعوة الإلهية إلى أسماع كل الأمم، فعلى سبيل المثال.. عندما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
مكة أو المدينة لم يكن في بقية مدن الحجاز الأخرى نبي، ولكن رسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
187

كانوا يصلون إليها وبوصولهم يصل صوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها أسماع الجميع،
بالإضافة إلى كتبه ورسائله العديدة التي أرسلها إلى الدول المختلفة (إيران، الروم،
الحبشة) ليبلغهم الرسالة الإلهية).
وها نحن اليوم كأمة قد سمعنا دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرغم من بعد الشقة
التاريخية بيننا وبينه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك بواسطة العلماء الرساليين الذين حملوا رسالته
إلينا عبر القرون.. ولا يقصد من بعثة رسول لكل أمة إلا هذا المعنى.
* * *
188

2 الآيات
وأقسموا بالله جهد أيمنهم لا يبعث الله من يموت بلى
وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (38) ليبين لهم
الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كذبين (39)
إنما قولنا لشئ إذا أردنه أن نقول له كن فيكون (40)
2 سبب النزول
ذكر المفسرون في شأن نزول الآية الأولى (الآية 38) أن رجلا من المسلمين
كان له دين على مشرك فتقاضاه فكان تتعلل في بتسديده، فتأثر المسلم بذلك،
فوقع في كلامه القسم بيوم القيامة وقال: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا، فقال
المشرك: وإنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت وأقسم بالله، لا يبعث الله من يموت.
فأنزل الله الآية (1).
فأجاب الله فيها الرجل المشرك وأمثاله، وعرض المعاد بدليل واضح، وكان
حديث الرجلين سببا لطرح هذه المسألة من جديد.

1 - مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
189

2 التفسير
3 المعاد و.. نهاية الاختلافات:
تعرض الآيات أعلاه جانبا من موضوع " المعاد " تكميلا لما بحث في
الآيات السابقة ضمن موضوع التوحيد ورسالة الأنبياء.
فتقول الآية الأولى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت.
وهذا الإنكار الخالي من الدليل والذي ابتدؤوه بالقسم المؤكد، ليؤكد بكل
وضوح على جهلهم، ولهذا يجيبهم القرآن بقوله: بلى وعدا عليه حقا ولكن
أكثر الناس لا يعلمون.
إن الكلمات الواردة في المقطع القرآني مثل " بلى "، " وعدا "، " حقا " لتظهر
بكل تأكيد حتمية المعاد.
وعموما - ينبغي مواجهة من ينكر الحق بحجم ما أنكر بل وأقوى، كي يمحو
الأثر النفسي السئ للنفي القاطع، ولابد من إظهار أن نكران الحق جهل حتى
يمحى أثره تماما ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ثم يتطرق القرآن الكريم إلى ذكر أحد أهداف المعاد وقدرة الله عز وجل
على ذلك، ليرد الاشتباه القائل بعدم إعادة الحياة بعد الموت، أو بعبثية المعاد..
فيقول: ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا
كاذبين في إنكارهم للمعاد وبأن الله لا يبعث من يموت!
لأن ذلك عالم الشهود، عالم رفع الحجب وكشف الغطاء، عالم تجلي
الحقائق، كما نقرأ في الآية (22) من سوره ق: لقد كنت في غفلة من هذا
فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد.
وفي الآية (9) من سورة الطارق: يوم تبلى السرائر أي تظهر وتعلن.
وكذا الآية (48) من سورة إبراهيم: وبرزوا الله الواحد القهار.
ففي يوم الشهود وكشف السرائر وإظهارها لا معنى فيه لاختلاف العقيدة،
190

وإن كان من الممكن أن يقوم بعض المنكرين اللجوجين بإطلاق الأكاذيب في
بعض مواقف يوم القيامة لأجل تبرئة أنفسهم، إلا أن ذلك سيكون أمرا استثنائيا
عابرا.
وهذا يشبه إلى حد ما إنكار المجرم لجريمته ابتداءا عند المحاكمة، ولكنه
سرعان ما ينهار ويرضخ للحقيقة عندما تعرض عليه مستمسكات جريمته المادية
التي لا تقبل إدانة غيره أبدا، وهكذا فإن ظهور الحقائق في يوم القيامة يكون
أوضح وأجلى من ذلك.
ومع أن أهداف حياة ما بعد الموت (عالم الآخرة) عديدة وقد ذكرتها الآيات
القرآنية بشكل متفرق مثل: تكامل الإنسان، إجراء العدالة الإلهية، تجسيد هدف
الحياة الدنيا، الفيض واللطف الإلهيين وما شابه ذلك.. إلا أن الآية مورد البحث
أشارت إلى هدف آخر غير الذي ذكر وهو: رفع الاختلافات وعودة الجميع إلى
التوحيد.
ونعتقد أن أصل التوحيد من أهم الأصول التي تحكم العالم، وهو شامل
يصدق على: ذات وصفات وأفعال الله عز وجل، عالم الخليقة والقوانين التي
تحكمه، وكل شئ في النهاية يجب أن يعود إلى هذا الأصل.
ولهذا فنحن نعتقد بوجود نهاية لكل ما تعانيه البشرية على الأرض - الناشئة
من الاختلافات المنتجة للحروب والصدامات - من خلال قيام حكومة واحدة
تحت ضلال قيادة الإمام المهدي " عجل الله تعالى فرجه الشريف " لأنه يجب في نهاية الأمر
رفع ما يخالف روح عالم الوجود (التوحيد).
أما اختلاف العقيدة فسوف لا يرتفع من هذه الدنيا تماما لوجود عالم الحجب
والأستار، ولا ينتهي إلا يوم البروز والظهور (يوم القيامة).
فالرجوع إلى الوحدة وانتهاء الخلافات العقائدية من أهداف المعاد الذي
أشارت إليه الآية مورد البحث.
191

وثمة آيات قرآنية كثيرة كررت مسألة أن الله عز وجل سيحكم بين الناس
يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (1).
ثم يشير القرآن إلى الفقرة الثانية من بيان حقيقة المعاد، للرد على من يرى
عدم امكان إعادة الإنسان من جديد إلى الحياة من بعد موته: إنما قولنا لشئ إذا
أردناه أن نقول له كن فيكون.
فمع هذه القدرة التامة.. هل ثمة شك أو ترديد في قدرته عز وجل على إحياء
الموتى؟!
ولعل لا حاجة لتبيان أن " كن " إنما ذكرت لضرورة اللفظ، وإلا لا حاجة في
أمر الله ل‍ " كن " أيضا، فإرادته سبحانه وتعالى كافية في تحقيق ما يريد.
ولو أردنا أن نضرب مثلا صغيرا ناقصا من حياتنا (و لله المثل الأعلى)،
فنستطيع أن نشبهه بانطباع صورة الشئ في أذهاننا لمجرد إرادته، فإننا لا نعاني
من أية مشكلة في تصور جبل شامخ أو بحر متلاطم أو روضة غناء، ولا نحتاج في
ذلك لجملة أو كلمة نطلقها حتى نتخيل ما نريد، فبمجرد إرادة التصور تظهر الصورة
في ذهننا.
ونقرأ سوية الحديث المروي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام).. إن صفوان
بن يحيى سأله: أخبرني عن الإرادة من الله تعالى ومن الخلق، فقال: " الإرادة من
المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأما من الله عز وجل فإرادته
إحداثه لا غير ذلك، لأنه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه
وهي من صفات الخلق، فإرادة الله تعالى هي الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن
فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف كذلك كما أنه بلا
كيف " (2).
* * *

1 - راجع الآيات: (55) آل عمران، (48) المائدة، (164) الأنعام، (92) النحل و (69) الحج.
2 - عيون الأخبار، ج 1، ص 119.
192

2 الآيتان
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في
الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (41) الذين
صبروا وعلى ربهم يتوكلون (42)
2 سبب النزول
ذكر بعض المفسرين في شأن نزول الآية الأولى (41): نزلت في المعذبين
بمكة مثل صهيب وعمار وبلال وخباب وغيرهم مكنهم الله في المدينة، وذكر أن
صهيبا قال لأهل مكة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم
أضركم فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له
أحدهم: ربح البيع يا صهيب.
ويروى أن أحد الخلفاء كان إذا أعطى أحدا من المهاجرين عطاءا قال له:
خذ هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما أخره لك أفضل. ثم تلى هذه الآية (1).

1 - مجمع البيان، ذيل الآية 41.
193

2 التفسير
3 ثواب المهاجرين:
قلنا مرارا: إن القرآن الكريم يستخدم أسلوب المقايسة والمقارنة كأهم
أسلوب للتربية والتوجيه، فما يريد أن يعرضه للناس يطرح معه ما يقابله
لتتشخص الفروق ويستوعب الناس معناه بشكل أكثر وضوحا.
فنرى في الآيات السابقة الحديث عن المشركين ومنكري يوم القيامة،
وينتقل الحديث في الآيات مورد البحث إلى المهاجرين المخلصين، ليقارن بين
المجموعتين ويبين طبيعتهما..
فيقول أولا: والذين هاجروا في الله من بعدما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا
حسنة أما في الآخرة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.
ثم يصف في الآية التالية المهاجرين المؤمنين الصالحين بصفتين، فيقول:
الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون.
* * *
2 بحوث
1 - كما هو معروف فإن للمسلمين هجرتين، الأولى: كانت محدودة نسبيا
(هجرة جمع من المسلمين على رأسهم جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة)، والثانية:
الهجرة العامة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين من مكة إلى المدينة.
وظاهر الآية يشير إلى الهجرة الثانية، كما يؤيد ذلك شأن النزول.
وقد بحثنا أهمية دور الهجرة في حياة المسلمين في الماضي والحاضر
واستمرار هذا الأمر في كل عصر وزمان بشكل مفصل ضمن تفسيرنا للآية (100)
من سورة النساء، والآية (75) من سورة الأنفال.
وعلى أية حال، فللمهاجرين مقام سام في الإسلام، وقد اهتم النبي
194

الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بهم كثيرا وكذا المسلمون من بعد، وذلك لأنهم جعلوا حياتهم المادية
وما يملكون في خدمة الدعوة الإسلامية المباركة، مما حدا بالبعض أن يعرض
حياته للمخاطر، والبعض الآخر ترك كل أمواله (كصهيب) معتبرا نفسه رابحا في
هذه الصفقة المباركة.
ولو لم تكن تلك التضحيات لأولئك المهاجرين لما سمح المحيط الفاسد في
مكة وتحكم الشياطين عليها بأن يخرج صوت الإسلام ليعم أسماع الجميع، ولكتم
الصوت وقبر في صدور المؤمنين إلى الأبد، ولكن المهاجرين بتحولهم المدروس
الواعي وهجرتهم المباركة لم يفتحوا مكة فحسب، وإنما أوصلوا صوت الإسلام
إلى أسماع العالم، فأصبحت الهجرة سنة إسلامية تجري على مر التأريخ إذا ما
واجهت ما يشبه ظروف مكة قبل الهجرة.
2 - التعبير ب‍ هاجروا في الله من دون ذكر كلمة " سبيل " إشارة إلى ذروة
الإخلاص الذي كان يحملونه أولئك المهاجرون الأول، فهم هاجروا لله وفي
سبيله وطلبا لرضاه وحماية لدينه ودفاعا عنه، وليس لنجاتهم من القتل أو طلبا
لمكاسب مادية أخرى.
3 - وتظهر لنا جملة من بعدما ظلموا عدم ترك الميدان فورا، بل لابد
من الصبر والتحمل قدر الإمكان.
أما عندما يصبح تحمل العذاب من العدو باعثا على زيادة جرأته وجسارته،
وإضعاف المؤمنين.. فهنا تجب الهجرة لأجل كسب القدرة اللازمة وتهيئة خنادق
المواجهة المحكمة، ويستمر بالجهاد على كافة الأصعدة من موقع أفضل، حتى
تنتهي الحال إلى نصر أهل الحق في الساحات العسكرية والعلمية والتبليغية...
4 - أما قوله تعالى: لنبوئنهم في الدنيا حسنة " نبوئنهم " من (بوأت له
مكانا) أي هيأته له ووضعته فيه - فيشير إلى أن المهاجرين في الله وإن كانوا
ابتداء يفتقدون إلى الإمكانيات المادية المستلزمة للمواجهة، إلا أنهم في النهاية -
195

حتى في الجانب الدنيوي - منتصرون (1).
فلماذا بعد ذلك يتحمل الإنسان ضربات الأعداء المتوالية ويموت منها
ذليلا؟! لماذا لا يهاجر وبكل شجاعة ليجاهد عدوه من موضع جديد فيأخذ منه
حقه؟!
وقد عرض هذا الموضوع بوضوح أكثر في الآية (100) من سورة النساء،
حيث تقول: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة.
5 - إن سبب انتخاب صفتين للمهاجرين " الصبر " و " التوكل " واضح، لما
يواجه من ظروف صعبة ومتعبة، تحتاج الثبات والصبر على مرارة تلك الظروف
في الدرجة الأولى، ثم الاعتماد الكامل على الله سبحانه وتعالى. وأساسا فإن
الإنسان لو افتقد في الحوادث العصبية والشدائد القاسية المعتمد المطمئن والسند
المعنوي المحكم، فإن الصبر والاستقامة والثبات تكون مستحيلة.
وقال البعض: إن انتخاب " الصبر " هنا، لأن ابتداء السير في طريق الهجرة إلى
الله يحتاج إلى المقاومة والثبات أمام رغبات النفس، أما انتخاب " التوكل "
فلأجل أن نهاية السير هي الانقطاع عن كل شئ غير الله عز وجل وارتباط به.
وعلى هذا، تكون الصفة الأولى لأول الطريق والثانية لآخره (2).
وعلى أية حال.. فلا سبيل إلى الهجرة الخارجية دون الهجرة الباطنية، فعلى
الإنسان أن يقطع علائقه المادية الباطنية أولا بهجرته نحو الفضائل الأخلاقية،
ليستطيع أن يهاجر ويترك دار الكفر - مع كل ما له فيها - منتقلا إلى دار الإيمان.
* * *

1 - " لنبوئنهم ": في الأصل من (بوأ) بمعنى تساوي أجزاء مكان ما.. على عكس " نبوء " على وزن (مبدأ) بمعنى عدم تساوي
أجزاء المكان. وعلى هذا ف‍ " بوأت له مكانا " أي ساويت له مكانا، ثم بمعنى هيأته له.
2 - التفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآية مورد البحث.
196

2 الآيتان
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون (42) بالبينات والزبر وأنزلنا إليك
الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (43)
2 التفسير
3 اسألوا إن كنتم لا تعلمون!
بعد أن عرض القرآن في الآيتين السابقتين حال المهاجرين في سياق حديثه
عن المشركين، يعود إلى بيان المسائل السابقة فيما يتعلق بأصول الدين من خلال
إجابته لأحد الإشكالات المعروفة، حين يتقول المشركون: لماذا لم ينزل الله
ملائكة لإبلاغ رسالته؟... أو يقولون: لم لم يجهز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقدرة خارقة ليجبرنا
على ترك أعمالنا!؟..
فيجيبهم الله عز وجل بقوله: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي
إليهم.
نعم. فإن أنبياء الله (عليهم السلام) جميعهم من البشر، وبكل ما يحمل البشر من غرائز
وعواطف إنسانية، حتى يحس بالألم ويدرك الحاجة كما يحس ويدرك الآخرون.
197

في حين أن الملائكة لا تتمكن من إدراك هذه الأمور جيدا والاطلاع على ما
يدور في أعماق الإنسان بوضوح.
إن وظيفة الأنبياء إبلاغ رسالة السماء والوحي الإلهي، وإيصال دعوة الله إلى
الناس والسعي الحثيث وبالوسائل الطبيعية لتحقيق أهداف الوحي، وليس
باستعمال قوى إلهية خارقة للسنن الطبيعية لإجبار الناس بقبول الدعوة وترك
الانحرافات، وإلا فما كان هناك فخر للإيمان ولا كان هناك تكامل.
ثم يضيف القول (تأكيدا لهذه الحقيقة): فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون.
" الذكر ": بمعنى العلم والاطلاع، و " أهل الذكر " له من شمولية المفهوم بحيث
يستوعب جميع العالمين والعارفين في كافة المجالات. وإذا فسر البعض كلمة
" أهل الذكر " في هذا المورد بمعنى (أهل الكتاب)، فهو لا يعني حصر هذا المصطلح
بمفهوم معين، وما تفسيرهم في واقعة إلا تطبيق لعنوان كلي على أحد مصاديقه.
لأن السؤال عن الأنبياء والمرسلين السابقين وهل أنهم من جنس البشر وذوي
رسالات ووظائف ربانية، يجب أن يكون من علماء أهل الكتاب.
وبالرغم من عدم وجود الوفاق التام بين علماء اليهود والنصارى من جهة
والمشركين من جهة أخرى، إلا أنهم مشتركون في مخالفتهم للإسلام، ولهذا فيمكن
أن يكون علماء أهل الكتاب مصدرا جيدا بالنسبة للمشركين في معرفة أحوال
الأنبياء السابقين.
يقول الراغب في مفرداته: إن الذكر على معنيين، الأول: الحفظ. والثاني:
التذكر واستحضار الشئ في القلب. ولذلك قيل: الذكر ذكران، ذكر بالقلب وذكر
باللسان.. ولذا رأينا أن الذكر يطلق على القرآن لأنه يعرض الحقائق ويكشفها.
198

ثم تقول الآية التالية: بالبينات والزبر (1).
" البينات ": جمع بينة، بمعنى الدلائل الواضحة. ويمكن أن تكون هنا إشارة
إلى معاجز وأدلة إثبات صدق الأنبياء (عليهم السلام) في دعوتهم.
" الزبر ": جمع زبور، بمعنى الكتاب.
فالبينات تتحدث عن دلائل إثبات النبوة، والزبر إشارة إلى الكتب التي
جمعت فيها تعليمات الأنبياء.
ومن ثم يتوجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس
ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون، ليبين للناس مسؤوليتهم تجاه آيات ربهم
الحق.
فدعوتك ورسالتك ليست بجديدة من الناحية الأساسية، وكما أنزلنا على
الذين من قبلك من الرسل كتبا ليعلموا الناس تكاليفهم الشرعية، فقد أنزلنا عليك
القرآن لتبين تعاليمه ومفاهيمه، وتوقظ به الفكر الإنساني ليسيروا في طريق الحق
بعد شعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم، وليتجهوا صوب الكمال (وليس
بطريق الجبر والقوة).
2 بحث
3 من هم أهل الذكر؟
ذكرت الروايات الكثيرة المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) أن " أهل الذكر " هم
الأئمة المعصومون (عليهم السلام)، ومن هذه الروايات:

1 - أعطى المفسرون احتمالات متعددة في الفعل الذي تتعلق به عبارة بالبينات والزبر... فقال بعضهم: إنها متعلقة ب‍ " لا
تعلمون " كما قلنا وهو ينسجم مع ظاهر الآيات، وبملاحظة أن الفعل (علم) يتعدى بالباء وبدونها، وقال بعض آخر: أنها متعلقة
بجملة تقديرها " أرسلنا " وهي في الأصل " أرسلناهم بالبينات والزبر "، وقال آخرون: إنها متعلقة بجملة " وما أرسلنا " في
الآية السابقة، وقال غيرهم: إنها متعلقة بجملة " نوحي إليهم "، والواضح أن جميع الآراء المطروحة كل منها يحدد مفهوما معينا
للآية، ولكنها في المجموع العام فالتفاوت غير كبير فيما بينها.
199

روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في جوابه عن معنى الآية أنه قال:
" نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون " (1).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية أنه قال: " الذكر القرآن وآل الرسول
أهل الذكر وهم المسؤولون " (2).
وفي روايات أخرى: أن " الذكر " هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و " أهل الذكر " هم أهل
البيت (عليهم السلام) (3).
وثمة روايات متعددة أخرى تحمل نفس هذا المعنى.
وفي تفاسير وكتب أهل السنة روايات تحمل نفس المعنى أيضا، منها:
ما في التفسير الاثني عشري: روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، قال:
هو محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) هم أهل الذكر والعقل والبيان (4).
فهذه ليست هي المرة الأولى في تفسير الروايات للآيات القرآنية ببيان أحد
مصاديقها دون أن تقيد مفهوم الآية المطلق.
وكما قلنا ف‍ " الذكر " يعني كل أنواع العلم والمعرفة والاطلاع، و " أهل الذكر "
هم العلماء والعارفون في مختلف المجالات، وباعتبار أن القرآن نموذج كامل
وبارز للعلم والمعرفة أطلق عليه اسم " الذكر "، وكذلك شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو
مصداق واضح لل‍ " ذكر " والأئمة المعصومون باعتبارهم أهل بيت النبوة ووارثوا
علمه (صلى الله عليه وآله وسلم) فهم (عليهم السلام) أفضل مصداق ل‍ " أهل الذكر ".

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 55.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 56.
3 - تفسير نور الثقلين، ج 3 ص 55 و 56.
4 - إحقاق الحق، ج 3، ص 428 - والمقصود من تفسير الاثني عشر، هو تفاسير كل من: أبي يوسف، ابن حجر، مقاتل بن
سليمان، وكيع بن جراح، يوسف بن موسى، قتادة، حرب الطائي، السدي، مجاهد، مقاتل بن حيان، أبي صالح ومحمد بن موسى
الشيرازي.
وروي حديث آخر عن جابر الجعفي في تفسير الآية، في كتاب الثعلبي أنه قال: لما نزلت هذه الآية قال علي (عليه السلام): " نحن أهل
الذكر " - راجع المصدر أعلاه -.
200

وهذا لا ينافي عمومية مفهوم الآية، ولا ينافي مورد نزولها أيضا (علماء أهل
الكتاب) ولهذا اتجه علماؤنا في الفقه والأصول عند بحثهم موضوع الاجتهاد
والتقليد إلى ضرورة ووجوب أتباع العلماء لمن ليست له القدرة على استنباط
الأحكام الشرعية، ويستدلون بهذه الآية على صحة منحاهم.
وقد يتساءل فيما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في كتاب (عيون
أخبار الرضا (عليه السلام)): أن علماء في مجلس المأمون قالوا في تفسير الآية: إنما عني
بذلك اليهود والنصارى، فقال الرضا (عليه السلام): " سبحان الله وهل يجوز ذلك، إذا يدعونا
إلى دينهم ويقولون: إنه أفضل من الإسلام... " ثم قال: " الذكر رسول الله ونحن
أهله " (1).
وتتلخص الإجابة بقولنا: إن الإمام قال ذلك لمن كان يعتقد أن تفسير الآية
منحصر بمعنى الرجوع إلى علماء أهل الكتاب في كل عصر وزمان، وبدون شك
أنه خلاف الواقع، فليس المقصود بالرجوع إليهم على مر العصور والأيام، بل لكل
مقام مقال، ففي عصر الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) لابد من الرجوع إليه على
أساس إنه مرجع علماء الإسلام ورأسهم.
وبعبارة أخرى: إذا كانت وظيفة المشركين في صدر الإسلام لدى سؤالهم عن
الأنبياء السابقين وهل أنهم من جنس البشر هي الرجوع إلى علماء أهل الكتاب
لا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا لا يعني أن على جميع الناس في أي عصر ومصر أن
يرجعوا إليهم، بل يجب الرجوع إلى علماء كل زمان.
وعلى أية حال.. فالآية مبينة لأصل إسلامي يتعين الأخذ به في كل مجالات
الحياة المادية والمعنوية، وتؤكد على المسلمين ضرورة السؤال فيما لا يعلمونه
ممن يعلمه، وأن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون.

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 57.
201

وعلى هذا فإن " مسألة التخصص " لم يقررها القرآن الكريم ويحصرها في
المسائل الدينية بل هي شاملة لكل المواضيع والعلوم المختلفة، ويجب أن يكون
من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.
وينبغي التنويه هنا إلى ضرورة الرجوع إلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه
في اختصاصه، بالإضافة إلى توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع
طبيبا متخصصا - على سبيل المثال - غير مخلص في عمله؟!
ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلى جانب الاجتهاد والأعلمية،
أي لابد لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلى علميته في المسائل
الإسلامية.
* * *
202

2 الآيات
أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض
أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون (44) أو يأخذهم في
تقلبهم فما هم بمعجزين (45) أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم
لرءوف رحيم (46)
2 التفسير
3 لكل ذنب عقابه:
ثمة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل
الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأسلوب.
فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النبوة
والمعاد، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.
فتبتدأ القول: أفأمن الذين مكروا السيئات من الذين حاكوا الدسائس
المتعددة حسبا منهم لإطفاء نور الحق والإيمان أن يخسف بهم الأرض.
فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق
القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون، كما حصل مرارا لأقوام سابقة؟!
203

" مكروا السيئات ": بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم
المشؤمة السيئة، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وما مارسوه من إيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.
" يخسف ": من مادة " خسف "، بمعنى الاختفاء، ولهذا يطلق على اختفاء نور
القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف)، يقال (بئر مخسوف) للذي اختفى ماؤه،
وعلى هذا يسمى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفا.
ثم يضيف: أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في
تقلبهم أي عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات.
فما هم بمعجزين.
وكما قلنا سابقا، فإن " معجزين " من الإعجاز بمعنى إزالة قدرة الطرف
الآخر، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.
أو أن العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي
ومقرونا بالإنذار المتكرر: أو يأخذهم على تخوف.
فاليوم مثلا، يصاب جارهم ببلاء، وغدا يصاب أحد أقربائهم، وفي يوم آخر
تتلف بعض أموالهم... والخلاصة، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو
الأخرى، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك، وإلا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.
إن العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه
المجموعة، والله عز وجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين فإن ربكم لرؤوف
رحيم.
ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب
الإلهي:
الأول: الخسف.
الثاني: العقاب المفاجئ الذي يأتي الإنسان على حين غرة من أمره.
الثالث: العذاب الذي يأتي الإنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في
204

ذلك.
الرابع: العذاب والعقاب التدريجي.
والمسلم به أن نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف، وإن وردت
جميعها بخصوص الذين مكروا السيئات لعلمنا أن أفعال الله لا تكون إلا
بحكمة وعدل.
وهنا.. لم نجد رأيا للمفسرين - في حدود بحثنا - حول هذا الموضوع، ولكن
يبدو أن النوع الأول من العقاب يختص بأولئك المتآمرين الذين هم في صف
الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف الله تعالى به الأرض وجعله عبرة
للناس، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.
أما النوع الثاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم،
فيأتيهم العذاب الإلهي بغتة وهم لا يشعرون.
والنوع الثالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة
إلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة، حتى وإن كانت بارتكاب الجرائم والجنايات
وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم الله تعالى وهم على تلك الحالة (1).
وأما النوع الرابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم
وذنوبهم إلى حيث اللا رجعة، فيعذبهم الله بالتخويف. أي يحذرهم بإنزال العذاب
الأليم في أطرافهم فإن استيقظوا فهو المطلوب، وإلا فسينزل العذاب عليهم
ويهلكهم.
وعلى هذا، فإن ذكر الرأفة والرحمة الإلهية ترتبط بالنوع الرابع من الذين
مكروا السيئات، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع الله ولم يخربوا جميع جسور
العودة.
* * *

1 - مع أن " التقلب " لغة، بمعنى التردد والذهاب والمجئ، مطلقا ولكن في هكذا موارد - كما قال أكثر المفسرين وتأييد
الروايات لذلك - بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال - فتأمل.
205

2 الآيات
أو لم يروا ما خلق الله من شئ يتفيؤا ظلله عن اليمين
والشمائل سجدا لله وهم داخرون (47) ولله يسجد ما في
السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم
لا يستكبرون (48) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما
يؤمرون (49)
2 التفسير
3 سجود الكائنات لله عز وجل:
تعود هذه الآيات مرة أخرى إلى التوحيد بادئة ب‍: أولم يروا إلى ما خلق
الله من شئ يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون (1).
أي: ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات الله يمينا وشمالا
لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!
ويقول البعض: إن العرب تطلق على الظلال صباحا اسم (الظل) وعصرا

1 - داخر: في الأصل من مادة (دخور) أي: التواضع.
206

(الفئ)، وإذا ما نظرنا إلى تسمية (الفئ) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إشارة
لطيفة لحقيقة.. إن أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أن تزول ولا يعدو كونها
كالظل عند العصر.
ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال، وإن كلمة
الفئ استعملت للجميع.. فيستفاد من ذلك: أن الفئ هنا ذو معنى واسع يشمل كل
أنواع الظلال.
فعندما يقف الإنسان وقت طلوع الشمس متجها نحو الجنوب فإنه سيرى
شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق، فتقع ظلال جميع الأشياء
المجسمة على يمينه (جهة الغرب)، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو
الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة
(اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق،
ثم تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.
وهنا.. يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يمينا وشمالا بعنوانها
مظهرا لعظمته جل وعلا واصفا حركتها بالسجود والخضوع.
3 أثر الظلال في حياتنا:
مما لا شك فيه أن لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا، ولعل الكثير منا غير
ملتفت إلى هذه الحقيقة، فوضع القرآن الكريم إصبعه على هذه المسألة ليسترعي
الانتباه لها.
للظلال (التي هي ليست سوى عدم النور) فوائد جمة:
1 - كما أن لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا، فكذلك الظلال، لأنها تقوم
بعملية تعديل شدة الحرارة لأشعة الشمس.
إن الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر، وبدون
207

الظلال فسيحترق كل شئ أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدة
طويلة.
2 - وثمة موضوع مهم آخر وربما على خلاف تصور معظم الناس، ألا وهو:
إن النور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء، بل لابد من اقتران الظل بالنور
لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.
وبعبارة أخرى: إن النور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا
يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل، فإنه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك
الجسم وهو غارق بالنور.،
أي: كما أنه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القاتمة، فكذا الحال بالنسبة
للنور التام، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النور والظلمة (النور والظلال).
وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدا في مشاهدة وتشخيص ومعرفة
الأشياء وتمييزها - فتأمل.
وثمة ملاحظة أخرى في الآية: وهي: ورود " اليمين " بصيغة المفرد في حين
جاءت الشمال بصيغة الجمع " شمائل ".
فالاختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين
الذي يقف مواجها للجنوب ثم يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب
حين يختفي في أفق الشرق (1).
واحتمل المفسرون أيضا: مع أن كلمة (اليمين) مفردا إلا أنه يمكن أن يراد بها
الجمع في بعض الحالات، وهي في هذه الآية تدل على الجمع (2).
وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع، أما في الآية التالية
فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجا عاما شاملا لكل الموجودات المادية وغير

1 - تفسير القرطبي، ضمن تفسير الآية.
2 - تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 7، ص 110.
208

المادية، وفي أي مكان، فتقول: ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من
دابة والملائكة وهم لا يستكبرون، مسلمين لله ولأوامره تسليما كاملا.
وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة، وما نؤديه من سجود على
الأعضاء السبعة ما هو إلا مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.
وبما أن جميع مخلوقات الله في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامة
لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإن جميع المخلوقات في حالة سجود
له جل وعلا، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين، وكلها مظهرة لعظمة
وعلم وقدرة الباري عز وجل، ولتدلل على أنها آية على غناه وجلاله.. والخلاصة:
كلها دليل على ذاته المقدسة.
" الدابة ": بمعنى الموجودات الحية، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات
الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية
المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.
وقد احتمل البعض: عبارة " من دابة " قيد ل‍ " ما في الأرض " فقط، أي: إن
الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.
ويبدو ذلك بعيدا بناء على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى ومن
آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة.
صحيح أن السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية، ولكن
تخصيص الإشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.
وبما أن مفهوم الآية يشمل كلا من: الإنسان العاقل المؤمن، والملائكة،
والحيوانات الأخرى، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود
الاختياري والتشريعي وكذا التكويني الاضطراري.
أما الإشارة إلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأن الدابة تطلق على
الكائنات الحية ذات الجسم المادي فقط، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب،
209

ولكن ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم " الدابة ".
وروي في حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن لله تعالى ملائكة في السماء
السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى،
لا تقطر من دموعهم قطرة إلا صارت ملكا، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم
وقالوا: ما عبدناك حق عبادتك " (1).
أما جملة وهم لا يستكبرون فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا
يداخلها أي استكبار عند سجودها وخضوعها لله عز وجل.
ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرة وتأكيدا لنفي حالة
الاستكبار عنهم: يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون.
كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة: لا
يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ويستفاد من هذه الآية بوضوح.. أن علامة نفي الاستكبار شيئان:
أ - الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون أي اعتراض، وهو
وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.
ب - ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك..
وهذا انعكاس للأول، وهو التحقيق العيني له.
ومما لا ريب فيه أن عبارة من فوقهم ليست إشارة إلى العلو الحسي
والمكاني، بل المراد منها العلو المقامي، لأن الله عز وجل فوق كل شئ مقاما.
كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام: وهو القاهر فوق عباده،
وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف: وإنا فوقهم قاهرون حينما أراد
فرعون أن يظهر قدرته وقوته!
* * *

1 - مجمع ذيل البيان، ذيل الآية المبحوثة.
210

2 الآيات
وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله وحد فإياي
فارهبون (50) وله ما في السماوات والأرض وله الدين
واصبا أفغير الله تتقون (51) وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا
مسكم الضر فإليه تجأرون (52) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا
فريق منكم بربهم يشركون (53) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا
فسوف تعلمون (54)
2 التفسير
3 دين حق ومعبود واحد:
تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيبا لبحث التوحيد ومعرفة الله عن
طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة، لتتضح الحقيقة من خلال
المقارنة بين الموضوع، ويبتدأ ب‍: وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله
واحد فإياي فارهبون.
وتقديم كلمة " إياي " يراد بها الحصر كما في " إياك نعبد " أي: يجب الخوف
211

من عقابي لا غير.
ومن الملفت للنظر أن الآية أشارت إلى نفي وجود معبودين في حين أن
المشركين كانوا يعبدون أصناما متعددة.
ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى إحدى النقاط التالية أو إلى جميعها:
1 - إن الآية نفت عبادة اثنين، فكيف بالأكثر؟!
وبعبارة أخرى: إنها بينت الحد الأدنى للمسألة ليتأكد نفي الأكثر، وأي عدد
ننتخبه (أكثر من واحد) لابد له أن يمر بالاثنين.
2 - كل ما يعبد من دون الله جمع في واحد، فتقول الآية: أن لا تعبدوها مع
الله، ولا تعبدوا إلهين (الحق والباطل).
3 - كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين:
الأول: خالق العالم، أي الله عز وجل وكانوا يؤمنون به.
والثاني: الأصنام، واعتبروها واسطة بينهم وبين الله، واعتبروها كذلك منبعا
للخير والبركة والنعمة.
4 - يمكن أن تكون الآية ناظرة إلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إله
للخير وآخر للشر، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطئ، إلا إن
عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الألهة!
وينقل المفسر الكبير العلامة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها
عن بعض الحكماء: (نهاك ربك أن تتخذ إلهين فاتخذت آلهة، عبدت: نفسك
وهواك، وطبعك ومرادك، وعبدت الخلق فأنى تكون موحدا).
ثم يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات...
فيقول أولا وله ما في السماوات والأرض فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا
تملك شيئا، أم لمن له ما في السماوات والأرض؟
ثم يضيف: وله الدين واصبا.
212

فعندما يثبت أن عالم الوجود منه، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية
فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضا، ولا تكون طاعة إلا له
سبحانه.
" واصب ": من " الوصوب "، بمعنى الدوام. وفسرها البعض بمعنى (الخالص)
(ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصا لم يكن له الدوام. أما الذين اعتبروا " الدين "
هنا بمعنى الطاعة، فقد فسروا " واصبا " بمعنى الواجب، أي: يجب إطاعة الله فقط.
ونقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن شخصا سأله عن قول الله وله
الدين واصبا قال: " واجبا " (1).
والواضح أن هذه المعاني متلازمة جميعها.
ثم يقول في نهاية الآية: أفغير الله تتقون.
فهل يمكن للأصنام أن تصد عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى
تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!
هذا.. وما بكم من نعمة فمن الله.
فهذه الآية تحمل البيان الثالث بخصوص لزوم عبادة الله الواحد جل وعلا،
وأن عبادة الأصنام إن كانت شكرا على نعمة فهي ليست بمنعمة، بل الكل بلا
استثناء منعمون في نعم الله تعالى، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.
وعلاوة على ذلك... ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون.
فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعا للضر وحلا للمعضلات، فهذا من الله وليس
من غيره، وهو ما تظهره ممارساتكم عمليا حين إصابتكم بالضر، فلمن تلتجئون؟
إنكم تتركون كل شئ وتتجهون إلى الله.
وهذا البيان الرابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

1 - تفسير البرهان، ج 2، ص 373.
213

" تجأرون ": من مادة (الجؤار) على وزن (غبار)، بمعنى صوت الحيوانات
والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم، ثم استعملت كناية في كل الآهات غير
الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.
إن اختيار هذه العبارة هنا إشارة إلى أنه عندما تتراكم عليكم الويلات ويحل
بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الاستغاثة اللا اختيارية.. وأنتم بهذه
الحال، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟! فلماذا إذن في حياتكم الاعتيادية
وعندما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجؤون إلى الأصنام؟!
نعم. فالله سبحانه يمسع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم
البلاء ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون بالعود إلى
الأصنام!
وفي الحقيقة... فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس،
إلا أن حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال
الاعتيادية.
ولكن، عندما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقا
من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون، فيدعون الله مخلصين بكامل وجودهم،
فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب، (لاحظوا أن الآية قالت:
كشف الضر أي: رفع أغطية البلاء).
ولكن.. عندما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إلى شاطئ الأمان،
تعاودون من جديد على الغفلة والغرور، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام
مجددا!
وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة
بالأدلة المنطقية: ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون.
ويشبه ذلك بتوجيه النصائح والإرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا
214

الأسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي
فيقال له: مع كل ما قلنا لك... إفعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم
آجلا.
وعلى هذا فتكون اللام في " ليكفروا " يراد به التهديد، وكذا " تمتعوا " أمر يراد
به التهديد أيضا، أما مجئ الفعل الأول بصيغة الغائب " ليكفروا " والثاني بصيغة
المخاطب " تمتعوا "، فكأنه افترض غيابهم أولا فقال: ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم،
وعند تهديدهم يلتفت إليهم ويقول: تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم
الذي تدركون فيه عظم خطأكم وسترون عاقبة أعمالكم.
والآية (30) من سورة إبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض: قل
تمتعوا فإن مصيركم إلى النار (1)
* * *

1 - احتمل جمع من المفسرين: أن " ليكفروا " غاية ونتيجة للشرك والكفر الذي نسب إليهم في الآية التي قبلها، فيكون المعنى
أنهم بعد إنجائهم من الضر تركوا طريق التوحيد وساروا في طريق الشرك ليكفروا بنعم الله وينكرونها.
215

2 الآيات
ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقنهم تالله لتسئلن
عما كنتم تفترون (55) ويجعلون لله البنت سبحانه ولهم ما
يشتهون (56) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو
كظيم (57) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على
هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (58) للذين
لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز
الحكيم (59)
2 التفسير
3 عندما كانت ولادة البنت عارا!
بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثا استدلالية في نفي الشرك وعبادة
الأصنام، تأتي هذه الآيات لتتناول قسما من بدع المشركين وصورا من عاداتهم
القبيحة، لتضيف دليلا آخرا على بطلان الشرك وعبادة الأصنام، فتشير الآيات إلى
ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين:
216

وتقول أولا: ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم (1).
وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم
من المحاصيل الزراعية، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام:
وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا
لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم
ساء ما يحكمون.
ثم يضيف القرآن الكريم قائلا: تالله لتسئلن عما كنتم تفترون.
وسيكون بعد السؤال اعتراف لا مفر منه ثم الجزاء والعقاب، وعليه فما
تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة، وله عقاب أخروي لأنكم
أسأتم الظن بالله واتجهتم إلى غيره.
أما البدعة الثانية فكانت: ويجعلون لله البنات سبحانه من التجسم ومن
هذه النسبة. ولهم ما يشتهون أي: إنهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوا إلى
الله، ويعتبرون البنات عارا وسببا للشقاء!
وإكمالا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثالثة: وإذا بشر
أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم (2).
ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل يتوارى من القوم من سوء ما بشر به.
ولم ينته المطاف بعد، ويغوص في فكر عميق: أيمسكه على هون أم يدسه

1 - ذكر المفسرون رأيين في تفسير " ما لا يعلمون " وضميرها:
الأول: أن ضمير " لا يعلمون " يعود إلى المشركين أي أن المشركين يجعلون للأصنام نصيبا وهم لا يعلمون لها خيرا وشرا
(وهذا ما انتخبناه من تفسير).
والثاني: إن الضمير يعود إلى نفس الأصنام، أي يجعلون للأصنام نصيبا في حين أنها لا تدرك، لا تعقل، لا تعلم!
والتفسير الثاني يظهر نوعا من التضاد بين عبارات الآية، لأن " ما " تستعمل عادة لغير العاقل و " يعلمون " تستعمل للعاقل عادة.
أما في التفسير الأول ف‍ " ما " تعود على الأصنام و " يعلمون " على عبدتها.
2 - الكظيم: تطلق على الإنسان الممتلئ غضبا.
217

في التراب.
وفي ذيل الآية، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله: ألا ساء ما
يحكمون.
وأخيرا يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوثات، ألا هو عدم
الإيمان بالآخرة: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو
العزيز الحكيم.
فكلما اقترب الإنسان من العزيز الحكيم انعكس في روحه نور صفاته العليا
من العلم والقدرة والحكمة وابتعد عن الخرافات والبدع والأفعال القبيحة.
وكلما ابتعد عنه تعالى غرق بقدر ذلك البعد في ظلمات الجهل والضعف
والذلة والقبائح.
فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر الله وعن
محكمته العادلة في الآخرة، أما ذكر الله والآخرة فدافع أصيل للإحساس
بالمسؤولية ومحاربة الجهل والخرافة، وعامل قدرة وقوة وعلم للإنسان.
* * *
2 بحوث
3 1 - لماذا اعتبروا الملائكة بناتا لله؟
تطالعنا الكثير من آيات القرآن الكريم بأن المشركين كانوا يقولون بأن
الملائكة بنات الله جل وعلا، أو أنهم كانوا يعتبرون الملائكة إناثا دون نسبتها إلى
الله..
كما في الآية (19) من سورة الزخرف: وجعلوا الملائكة الذين هم عباد
الرحمن إناثا، وفي الآية (40) من سورة الإسراء: أفأصفاكم ربكم بالبنين
واتخذ من الملائكة إناثا.
218

يمكن أن تكون هذه الاعتقادات بقايا خرافات الأقوام السابقة التي وصلت
عرب الجاهلية، أو ربما يحصل هذا الوهم بسبب ستر الملائكة عنهم وحال
الاستتار أكثر ما يختص بحال النساء، ولهذا تعتبر العرب الشمس مؤنثا مجازيا
والقمر مذكرا مجازيا أيضا، على اعتبار أن قرص الشمس لا يمكن للناظر إليه أن
يديم النظر لأنه يستر نفسه بقوة نوره، أما قرص القمر فظاهر للعين ويسمح للنظر
إليه مهما طالت المدة.
وثمة احتمال آخر يذهب إلى الكناية عن لطافة الملائكة، والإناث أكثر من
الذكور لطافة.
وعلى أية حال.. فهذه إحدى ترسبات الخرافات القديمة التي تكلست في
مخيلة البشرية حتى وصلت للبعض ممن يعيش في يومنا هذا، ولا تختص هذه
الخرافة بقوم دون آخر لأننا نلاحظ وجودها في أدبيات عدد من لغات العالم!
فنرى الأديب مثلا حينما يريد وصف جمال امرأة ينعتها بالملائكة، وذاك الفنان
الذي يريد أن يعبر عن الملائكة فيجعلها بهيئة النساء، في حين أن الملائكة لا
تملك جسما ماديا حتى يمكننا أن نصفه بالمذكر أو المؤنث.
3 2 - لماذا شاع وأد البنات في الجاهلية؟
الوأد في واقعه أمر رهيب، لأن الفاعل يقوم بسحق كل ما بين جوانحه من
عطف ورحمة، ليتمكن من قتل إنسان برئ ربما هو من أقرب الأشياء إليه من
نفسه!
والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا!
فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوى حتى للدفاع عن نفسه؟ بل كيف
يدفن الإنسان فلذة كبده وهي حية؟!
وهذا ليس بالأمر إلهين، فأي إنسان ومهما بلغت به الوحشية لا يقدم على
219

هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدمات اجتماعية ونفسية واقتصادية
عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك...
يقول المؤرخون: إن بداية وقوع هذا العمل القبيح كانت على أثر حرب
جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب،
وبعد مضي فترة من الزمن تم الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إلا
أن بعضا من الأسيرات ممن تزوجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع
الأعداء ورفضن الرجوع إلى قبيلتهن، فصعب الأمر على آبائهن بعد أن أصبحوا
محلا للوم والشماتة، حتى أقسم بعضهم أن يقتل كل بنت تولد له كي لا تقع مستقبلا
أسيرة بيد الأعداء!
ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن
الشرف والناموس وحيثية العائلة الكاذبة.. فكانت النتيجة: ظهور بدعة وأد البنات
القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتى أصبحت سنة جاهلية، ولفظاعتها فقد
أنكرها القرآن الكريم بشدة بقوله: وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت (1).
وثمة احتمال آخر يذهب إلى دور الطبيعة الإنتاجية للأولاد الذكور، والنزوع
إلى الطبيعة الاستهلاكية عند الإناث، وماله من أثر على الحياة الاجتماعية
والاقتصادية، فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهم ينفعهم في القتال والغارات وفي
حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد، في حين أن البنات لسن كذلك.
ومن جانب آخر.. فقد سببت الحروب والنزاعات القبلية قتل الكثير من
الرجال والأولاد مما أدى لاختلال التوازن في نسبة الإناث إلى الذكور، حتى
وصل وجود الولد الذكر عزيزا ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له
مولود ذكرا، وينزعج ويتألم عند ولادة البنت.. ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه

1 - سورة التكوير، 9.
220

بعض المفسرون) أن الرجل في الجاهلية يغيب نفسه عن داره عند قرب وضع
زوجته لئلا تأتيه بنت وهو في الدار!
وإذا ما أخبروه بأن المولود ذكر فيرجع إلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه،
ولكن الويل كل الويل والثبور فيما لو أخبروه بأن المولود بنتا ويمتلئ غيظا
وغضبا (1).
وقصة " الوأد " ملأى بالحوادث المؤلمة...
منها: ما روي أن رجلا جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعلن إسلامه، وجاءه يوما
فسأله: إني أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله
تواب رحيم "، قال: يا رسول الله إن ذنبي عظيم قال: " ويلك مهما كان ذنبك عظيما
فعفو الله أعظم منه "، قال: لقد سافرت في الجاهلية سفرا بعيدا وكانت زوجتي
حبلى وعندما عدت بعد أربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتا في الدار،
فقلت لها: ابنة من هذه؟ قالت: ابنة جارنا. فظننت أنها سترحل عن دارنا بعد ساعة،
فلم تفعل، ثم قلت لزوجتي: أصدقيني من هذه البنت؟ قالت: ألا تذكر أني كنت
حاملة عندما سافرت، إنها ابنتك. فنمت تلك الليلة مغتما، أنام واستيقظ، حتى
اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إلى فراش ابنتي فأخرجتها
وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إلى حائط النخل، فتبعتني حتى اقتربنا من
الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك، وعندما إنتهيت من ذلك
وضعتها في وسط الحفرة.. وهنا فاضت عينا رسول الله بالدمع.. ثم وضعت يدي
اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى، فأخذت تصرخ
وتدافع بيديها ورجليها وتقول: أبي ما تصنع بي!؟ ثم أصاب لحيتي بعض التراب
فرفعت يدها تمسحه عنها، وأدمت ذلك حتى دفنتها.

1 - تفسير الفخر الرازي، ج 20، ص 55.
221

فقال رسول الله وهو يمسح دموعه: " لولا أن سبقت رحمة الله غضبه لعجل
الله لك العذاب " (1).
وكذلك ما روي في (قيس بن عاصم) أحد أشرف ورؤساء قبيلة بني تميم في
الجاهلية، وقد أسلم عند ظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، جاء يوما إلى النبي وقال له: أن آباءنا
كانوا يدفنون بناتهم أحياءا، وقد دفنت أنا (12) بنتا، وعندما ولدت لي زوجتي
البنت الثالثة عشر أخفت أمرها وادعت أنها ماتت عند الولادة، ثم أودعتها
آخرين، وعندما علمت بذلك بعد مدة، أخذتها إلى مكان بعيد ودفنتها حية دون أن
أعتني ببكائها وتضرعها.
فتأذى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك فقال ودموعه جارية: " من لا يرحم لا يرحم " ثم
التفت إلى قيس وقال: " إن لك يوما سيئا "، فقال قيس: ما أفعل لتكفير ذنبي؟ فقال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " حرر من العبيد بعدد ما وأدت " (2).
وروي أيضا أن (صعصعة بن ناجية) جد الفرزدق الشاعر المعروف، وكان
رجلا شريفا حرا فقيل: إنه كان في الجاهلية يحارب الكثير من العادات القبيحة
حتى أنه اشترى (360) بنتا من آبائهن كي ينقذهن من القتل، وقد أعطى يوما دابته
مع بعيرين لأب كان يريد قتل ابنته.
وقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات مرة (في ما معناه): ما أحسن ما صنعت وأجرك
عند الله.
وقال الفرزدق فخرا بعمل جده:
ومنا الذي منع الوائدات * فأحيا الوئيد فلم توئد (3)
وسنرى كيف أن الإسلام قد أصم تلك الفواجع العظام، واعتبر للمرأة مكانة ما
كانت تحظى بها من قبل على مر العصور.

1 - القرآن يواكب الدهر، ج 2، ص 314 (مضمونا).
2 - الجاهلية والإسلام، ص 632.
3 - قاموس الرجال، ج 5، ص 125 (مضمونا).
222

3 3 - دور الإسلام في إعادة اعتبار المرأة:
لم يكن احتقار المرأة مختصا بعرب الجاهلية، فلم تلق المرأة أدنى درجات
الاحترام والتقدير حتى في أكثر الأمم تمدنا في ذلك الزمان، وكانت المرأة غالبا
ما يتعامل معها باعتبارها بضاعة وليست إنسانا محترما، ولكن عرب الجاهلية
جسدوا تحقير المرأة بأشكال أكثر قباحة ووحشية من غيرهم، حتى أنهم ما كانوا
يدخلونهن في الأنساب كما نقرأ ذلك في الشعر الجاهلي المعروف:
بنونا بنو آبائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وكانوا أيضا لا يورثون النساء، ولم يجعلوا لتعدد الزوجات حدا، وعملية
الزواج أو الطلاق أسهل من شربة الماء عندهم.
وعندما ظهر الإسلام حارب بشدة هذه المهانة من كافة أبعادها، وبالخصوص
مسألة اعتبار ولادة البنت عارا، حتى وردت الروايات الكثيرة التي تؤكد على أن
البنت باب من أبواب رحمة الله للعائلة.
وأولى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الاحترام ما جعل الناس في
عجب من أمره، حيث كان (صلى الله عليه وآله وسلم) مع ما يحظى به من شرف ومقام، كان يقبل يد
الزهراء (عليها السلام)، وعندما يعود من السفر يذهب إليها قبل أي أحد. وعندما يريد السفر
كان بيت فاطمة الزهراء (عليها السلام) آخر بيت يودعه.
وحينما أخبر بولادة الزهراء (عليها السلام)، رأى الإنقباض في وجوه أصحابه فقال
على الفور: " ما لكم! ريحانة أشمها، ورزقها على الله عز وجل " (1).
وفي حديث أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " نعم الولد البنات، ملطفات، مجهزات، مؤنسات،
مفليات " (2).
وفي حديث آخر: " من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان
كحامل الصدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإنه من فرح ابنته

1 - وسائل الشيعة، ج 15 ص 102.
2 - وسائل الشيعة، ج 15، ص 100.
223

فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل " (1).
فالاحترام الذي أولاه الإسلام للمرأة قد أعاد لها شخصيتها الضائعة بين
حوالك الجاهلية، وحررها من العادات البالية، وأنهى عصر تحقيرها.
وإن كان غور هذا الموضوع يستلزم التفصيل فسنتطرق إلى ذلك في تفسيرنا
للآيات المناسبة له، ولكن ما يحز في النفوس ولا يمكن السكوت عنه ما يشاهد
في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية من آثار لنفس ذلك التوجه الجاهلي الموبوء،
فإلى الآن نرى الكثير من العوائل تفرح وتسر عندما يأتيها مولود ذكر، وتتأسف
وتتأفف عندما تكون المولودة بنتا! وعلى أقل التقادير ترجح ولادة الولد على
البنت!.
من الممكن أن تكون الظروف الخاصة اقتصاديا واجتماعيا، المرتبطة بوضع
المرأة في مجتمعاتنا، عاملا على وجود عادات وحالات خاطئة، إلا أنه ينبغي
على المؤمنين المخلصين مكافحة هذا النمط من التفكير واقتلاع جذوره
الاجتماعية والاقتصادية، فالإسلام لا يقبل من أتباعه بعد (14) قرن العود إلى
أفكار الجاهلية المقيتة.. فهذا السلوك في واقعه نوع من الجاهلية الثانية.
ولا ينبغي أن تأخذنا التصورات السارحة فنرى عن بعد أن المرأة قد نالت
مناها في عالم الغرب وأنها تحظى من الاحترام والتحرر ما تحسد عليه! فالحياة
العملية في الغرب تؤكد بما لا يقبل الشك أن المرأة هناك محتقرة، وقد جعلت لعبة
مبتذلة ووسيلة رخيصة لإشباع الشهوات أو وسيلة إعلان للبضائع
والمنتوجات (2).
* * *

1 - مكارم الأخلاق، ص 54.
2 - ومن جميل الصدف أن كتب هذا البحث في اليوم العشرين من جمادى الثانية سنة 1401، وهو يوم ولادة فاطمة
الزهراء (عليها السلام).
224

2 الآيات
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة
ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا
يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (60) ويجعلون لله ما
يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لاجرم أن
لهم النار وأنهم مفرطون (61) تالله لقد أرسلنا إلى أمم من
قبلك فزين لهم الشيطان أعملهم فهو وليهم اليوم ولهم
عذاب أليم (62) وما أنزلنا عليك الكتب إلا لتبين لهم الذي
اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (63)
2 التفسير
3 وسعت رحمته غضبه:
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن جرائم المشركين البشعة في وأدهم
للبنات، يطرق بعض الأذهان السؤال التالي: لماذا لم يعذب الله المذنبين بسرعة
نتيجة لما قاموا به من فعل قبيح وظلم فجيع؟!
225

والآية الأولى (61) تجيب بالقول: ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك
عليها من دابة (1).
" الدابة ": يراد بها كل كائن حي، ويمكن أن يراد بها هنا (الإنسان) خاصة
بقرينة (بظلمهم).
أي: إن الله لو يؤاخذ الناس على ما ارتكبوه من ظلم لما بقي إنسان على
سطح البسيطة.
ويحتمل أيضا إرادة جميع الكائنات الحية، لعلمنا بأن هذه الكائنات إنما
خلقت وسخرت للإنسان كما يقول القرآن في الآية (29) من سورة البقرة: هو
الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا، فعندما يذهب الإنسان فسينتفي سبب
وجود الكائنات الأخرى وينقطع نسلها.
وهنا يواجهنا السؤال التالي: لو نظرنا إلى سعة مفهوم الآية وعموميتها فإنها
تدل في النتيجة على أنه لا يوجد على الأرض إنسان غير ظالم، فالكل ظالم كل
حسب قدره وشأنه، ولو نزل العذاب الفوري السريع والحال هذه لما بقي إنسان
على سطح الأرض... مع إننا نعلم أن هناك من لا يصدق عليه هذا المعنى، فالأنبياء
والأئمة المعصومون (عليهم السلام) خارجون عن شمولية هذا المعنى، بل في كل زمان
ومكان ثمة من تزيد حسناته على سيئاته من الصالحين المخلصين والمجاهدين
ممن لا يستحقون العذاب المهلك أبدا..
والجواب على ذلك أن الآية تبين حكما نوعيا وليس حكما عاما شاملا
للجميع ونظير ذلك كثير في الأدب العربي.
ومن الشواهد على ذلك: الآية (32) من سورة فاطر حيث تقول: ثم أورثنا
الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنه سابق

1 - إن ضمير " عليها " يعود إلى " الأرض " وإن لم يرد لها ذكر في الآيات المتقدمة لوضوح الأمر، ونظائر ذلك كثيرة في لغة
العرب.
226

بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير.
فنرى الآية تتطرق إلى ثلاثة أقسام: ظالم، صاحب ذنوب خفيفة، وسابق
بالخيرات.. ومن المسلم به أن القسم الأول هو المقصود في الآية مورد البحث
دون القسمين الآخرين، ولا عجب من تعميم الآية، لأن هذا القسم يشكل القسم
الأكبر من المجتمعات البشرية.
ويتضح من خلال ما ذكر أن الآية لا تنفي عصمة الأنبياء، أما من يعتقد
بخلاف ذلك فقد غفل عن القرائن الموجودة في العبارة من جهة، ولم يلتفت إلى ما
توحي إليه بقية الآيات القرآنية بهذا الخصوص.
ويضيف القرآن الكريم قائلا: ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء
أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
بل يدركهم الموت في نفس اللحظة المقررة.
* * *
2 بحث
3 ما هو الأجل المسمى؟
للمفسرين بيانات كثيرة بشأن المراد من " الأجل المسمى " ولكن بملاحظة
سائر الآيات القرآنية، ومن جملتها الآية (2) من سورة الأنعام، والآية (34) من
سورة الأعراف، يبدو أن المراد منه وقت حلول الموت، أي: إن الله عز وجل يمهل
الناس إلى آخر عمرهم المقرر لهم إتماما للحجة عليهم، ولعل من ظلم يعود إلى
رشده ويصلح شأنه فيكون ذلك العود سببا لرجوعه إلى بارئه الحق وإلى العدالة.
ويصدر أمر الموت بمجرد انتهاء المهلة المقررة، فيبدأ بعقابهم من بداية
اللحظات الأولى لما بعد الموت.
ولأجل المزيد من الإيضاح حول مسألة (الأجل المسمى) راجع ذيل الآية
227

رقم (2) من سورة الأنعام وكذا ذيل الآية (34) من سورة الأعراف.
* * *
ويعود القرآن الكريم ليستنكر بدع المشركين وخرافاتهم في الجاهلية
(حول كراهية المولود الأنثى والاعتقاد بأن الملائكة إناثا، فيقول: ويجعلون لله
ما يكرهون.
فهذا تناقض عجيب - وكما جاء في الآية (22) من سورة النجم تلك إذا
قسمة ضيزى فإن كانت الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون
البنات أمرا حسنا، فلماذا تكرهون ولادتها؟! وإن كانت شيئا سيئا فلماذا
تنسبونها إلى الله؟!
ومع كل ذلك.. وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى.
فبأي عمل تنتظرون حسنى الثواب؟! أبوأدكم بناتكم؟! أم بافترائكم على
الله؟!...
وجاءت " الحسنى " (وهي مؤنث أحسن) هنا بمعنى أفضل الثواب أو أفضل
العواقب، وذلك ما يدعيه أولئك المغرورون الضالون لأنفسهم مع كل ما جاؤوا به
من جرائم!
وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: كيف يقول عرب الجاهلية بذلك وهم لا
يؤمنون بالمعاد؟
والجواب: أنهم لم ينكروا المعاد مطلقا، وإنما كانوا ينكرون المعاد الجسماني،
ويستوعبون مسألة عودة الإنسان إلى حياته المادية مرة أخرى.
إضافة إلى إمكان اعتبار قولهم قضية شرطية، أي: إن كان هناك معاد حقا
فسيكون لنا في عالمه أفضل الجزاء! وهكذا هو تصور كثير من الجبابرة
والمنحرفين فبالرغم من بعدهم عن الله تعالى يعتبرون أنفسهم أقرب الناس إليه،
ويتشدقون بادعاءات هزيلة مدعاة للسخرية!
228

واحتمل بعض المفسرين أيضا أن " الحسنى " تعني نعمة الأولاد الذكور،
لأنهم يعتبرون البنات سوءا وشرا، والبنين نعمة وحسنى.
إلا أن التفسير الأول يبدو أكثر صوابا، ولهذا يقول القرآن، وبلا فاصلة:
لاجرم أن لهم النار، أي: أنهم ليسوا فاقدين لحسن العاقبة فقط، بل و " لهم
النار " و إنهم مفرطون أي: من المتقدمين في دخول النار.
والمفرط: من فرط، على وزن (فقط) بمعنى التقدم.
وربما يراود البعض منا الاستغراب عند سماعة لقصة عرب الجاهلية في
وأدهم للبنات، ويسأل: كيف يصدق أن نسمع عن إنسان ما يدفن فلذة كبده بيده
وهي على قيد الحياة؟!..
وكأن الآية التالية تجيب على ذلك: تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك
فزين لهم الشيطان أعمالهم.
نعم، فللشيطان وساوس يتمكن من خلالها أن يصور أقبح الأعمال وأشنعها
جميلة في نظر البعض بحيث يعتبرها مجالا للتفاخر! كما كانوا يعتبرون وأد البنات
شرفا وفخرا وحفظا لناموس وكرامة القبيلة! مما يحدو ببعض المغفلين لأن يتفاخر
بالقول: لقد دفنت ابنتي اليوم بيدي كي لا تقع غدا أسيرة في يد الأعداء!
فإن كان الشيطان يزين أقبح الأعمال مثل وأد البنات بنظر بعض الناس بهذه
الحال، فحال بقية الأعمال معلوم.
ونرى في يومنا الكثير من أعمال الناس التي سيطر عليها زخرف الشيطان،
فراحوا ينعتون سرقاتهم وجرائمهم بعبارات تبدو مقبولة فيخفون حقيقتها في طي
زخرف القول.
ثم يضيف القرآن: إن مشركي اليوم على سنة من سبقهم من الماضين من
الذين زينوا أعمالهم بزخرف ما أوحى لهم الشيطان فهو وليهم اليوم،
يستفيدون مما يعطيهم إياه.
229

ولهذا.. ولهم عذاب أليم.
وللمفسرين بيانات كثيرة في تفسير فهو وليهم اليوم ولعل أوضحها ما
قلناه أعلاه، أي: إنها إشارة إلى أن المشركين في عصر الجاهلية إنما هم على
خطى الأمم المنحرفة السابقة، والشيطان رائد مسيرتهم والموجه لهم كما كان
للماضين (1).
ويحتمل تفسيرها أيضا بأن المقصود من فهو وليهم اليوم أنه لا تزال
بقايا الأمم المنحرفة السابقة موجودة إلى اليوم، ولا زالوا يعملون بطريقتهم
المنحرفة، والشيطان وليهم كما كان سابقا.
وتبين آخر آية من الآيات مورد البحث هدف بعث الأنبياء، ولتؤكد حقيقة:
أن الأقوام والأمم لو اتبعت الأنبياء وتخلت عن أهوائها ورغباتها الشخصية لما
بقي أثر لأي خرافة وانحراف، ولزالت تناقضات الأعمال، فتقول: وما أنزلنا
عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه هدى ورحمة لقوم يؤمنون.
ليخرج وساوس الشيطان من قلوبهم، ويزيل حجاب النفس الأمارة بالسوء
عن الحقائق لتظهر ناصعة براقة، ويفضح الجنايات والجرائم المختفية تحت
زخرف القول، ويمحو أي أثر للاختلافات الناشئة من الأهواء، فيقضى على
القساوة بنشر نور الرحمة والهداية ليعم الجميع في كل مكان.
* * *

1 - ولكن لازم هذا التفسير وجود اختلاف في ضمير (أعمالهم) وضمير (وليهم)، فالأول يعود إلى الأمم السالفة، والثاني إلى
المشركين في صدر الإسلام. ويمكن حل هذا المشكل بتقدير جملة، وهي ان تقول: هؤلاء يتبعون الأمم الماضية. (فتأمل).
230

2 الآيات
والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن
في ذلك لأية لقوم يسمعون (64) وإن لكم في الأنعم لعبرة
نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا
للشاربين (65) ومن ثمرت النخيل والأعنب تتخذون منه
سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لأية لقوم يعقلون (66)
2 التفسير
3 المياه، الثمار، الأنعام:
مرة أخرى، يستعرض القرآن الكريم النعم والعطايا الإلهية الكثيرة، تأكيدا
لمسألة التوحيد ومعرفة الله، وإشارة إلى مسألة المعاد، وتحريكا لحس الشكر
لدى العباد ليتقربوا إليه سبحانه أكثر، ومن خلال هذا التوجيه الرباني تتضح علاقة
الربط بين هذه الآيات وما سبقها من آيات.
فالآية الأخيرة من الآيات السابقة تناولت مسألة نزول القرآن وما فيه من
حياة لروح الإنسان، وبنفس السياق تأتي الآية الأولى من الآيات مورد البحث
لتتناول نزول الأمطار وما فيها من حياة لجسم الإنسان: والله أنزل من السماء
231

ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون.
لقد تناولت آيات قرآنية كثيرة مسألة إحياء الأرض بواسطة نزول الأمطار
من السماء، فكم من أرض يابسة أو ميتة أحيانا أو أصابها الجفاف فأخرجها عن
مجال الاستفادة من قبل الإنسان، ونتيجة لما وصلت إليه من وضع قد يخيل
للإنسان أنها أرض غير منبتة أصلا، ولا يصدق بأنها ستكون أرض معطاء مستقبلا
- ولكن، بتوالي سقوط المطر عليها وما يبث عليها من أشعة الشمس، ترى وكأنها
ميت قد تحرك حينما تدب فيه الروح من جديد، فتسري في عروقها دماء المطر
وتعادلها الحياة، فتعمل بحيوية ونشاط وتقدم أنواع الورود والنباتات، ومن ثم
تتجه إليها الحشرات والطيور وأنواع الحيوانات الأخرى من كل جانب،
وبذلك... تبدأ عجلة الحياة على ظهرها بالدوران من جديد.
وخلاصة المقال أنه سيبقى الإنسان مبهوتا أمام تحول الأرض الميتة إلى
مسرح جديد للحياة، وهذا بحق من أعظم عجائب الخلقة.
وهذا المظهر من مظاهر قدرة وعظمة الخالق عز وجل يدلل بما لا يقبل الشك
على إمكان المعاد، وما ارتداء الأموات لباس الحياة الجديد إلا أمر خاضع لقدرته
سبحانه.
وإن نعمة الأمطار (التي لا يتحمل الإنسان أي قسط من أمر إيجادها) دليل
آخر على قدرة وعظمة الخالق سبحانه.
وبعد ذكر نعمة الماء (الذي يعتبر الخطوة الأولى على طريق الحياة) يشير
القرآن الكريم إلى نعمة وجود الأنعام، وبخصوص ما يؤخذ منها من اللبن كمادة
غذائية كثيرة الفائدة، فيقول: وأن لكم في الأنعام لعبرة.
وأية عبرة أكثر من أن: نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا
خالصا سائغا للشاربين.
" الفرث " لغة: بمعنى الأغذية المهضومة في المعدة والتي بمجرد وصولها إلى
232

الأمعاء تزود البدن بمادتها الحياتية، بينما يدفع الزائد منها إلى الخارج.. فما يهضم
من غذاء داخل المعدة يسمى " فرثا " وما يدفع إلى الخارج يسمى (روثا).
ونعلم بأن جدار المعدة لا يمتص إلا مقدارا قليلا من الغذاء (كبعض المواد
السكرية) والقسم الأكبر منه ينتقل إلى الأمعاء كي يمتص الدم ما يحتاجه منه.
وكما نعلم أيضا بأن اللبن يترشح من غدد خاصة داخل ثدي الإناث، ومادته
الأصلية تؤخذ من الدم والغدد الدهنية.
فهذه المادة الناصعة البياض ذات القوة الغذائية العالية تنتج من الأغذية
المهضومة المخلوطة بالفضلات، ومن الدم.
والعجب يكمن في استخلاص هذا النتاج الخالص الرائع من عين ملوثة!
وبعد حديثه عن الأنعام وألبانها يتناول القرآن ذكر النعم النباتية، فيقول:
ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك
لآية لقوم يعقلون.
" السكر " لغة، له معاني مختلفة، إلا أنه هنا بمعنى: المسكرات والمشروبات
الكحولية (وهو المعنى المشهور من تلك المعاني).
ومما لا يقبل الشك أن القرآن لا يجيز في هذه الآية صنع المسكرات من
التمر والعنب أبدا، وإنما جاء ذكر المسكرات هنا لمقابلته ب‍ رزقا حسنا
وكاشارة صغير لتحريم الخمر ونبذه. وعلى هذا.. فلا حاجة للقول بأن هذه الآية
نزلت قبل تحريم الخمر أو أنها تشير إلى تحليله، بل حقيقة التعبير القرآني يشير
إلى التحريم، ولعل الآية كانت تمثل الإنذار الأول للتحريم.
وقد تبدو العبارة وكأنها جملة اعتراضية بين قوسين داخل الآية القرآنية.
* * *
233

2 بحوث
3 1 - كيف يتكون اللبن؟
يقول القرآن الكريم في ذلك كما في الآيات أعلاه: إنه يخرج من بين
" فرث " - الأغذية المهضومة داخل المعدة - و " دم ".
وقد أثبت ذلك فيزيولوجيا: حيث أنه عندما يتم هضم الغذاء داخل المعدة
ويكون جاهزا للامتصاص ينتشر داخل المعدة والأمعاء بشكل واسع وأمام
الملايين من العروق الشعيرية، فتمتص منه العناصر المفيدة المطلوبة لتوصلها إلى
تلك الشجرة ذات الجذور التي تنتهي عروقها عند عروق الثدي.
عندما تتناول المرأة الحامل الغذاء تنتقل عصارته إلى الدم الذي يجري في
عروقها حتى يصل نهاية العروق المجاورة لعروق الجنين ليتغذى الجنين بهذه
الطريقة ما دام في بطن أمه، وعندما ينفصل عن أمه يتحول طريق تغذيته إلى
الثدي.. وهنا لا تستطيع الأم أن تصل دمها إلى دم ولدها، ولذلك ينبغي تصفية
الغذاء وتغيير حالته بما ينسجم والوضع الجديد للطفل، وهنا... يتكون اللبن من
بين فرث ودم، أي: من بين ما تتناوله الأم الذي يتحول إلى فرث وما ينتقل من
مواده إلى الدم ليتكون منه اللبن.
فاللبن في حقيقة.. شئ وسط بين الفرث والدم، فلا هو دم مصفى ولا هو
غذاء مهضوم، وهو أعلى من الثاني ودون الأول!
علما بأن الثدي يستفيد من الحوامض الأمينية المخزونة في البدن فقط في
صناعة المواد البروتينية للبن.
وثمة مكونات أخرى للبن لا توجد في الدم وإنما تنتجها غدد خاصة في
الثدي (كالكازوئين).
والبعض الآخر من المكونات يأتي من ترشح بلازما الدم مباشرة: ويدخل
في تكوين اللبن من دون أي تغيير (كالفيتامينات وملح الطعام والفوسفات).
234

أما سكر اللاكتوز الموجود في اللبن فيؤخذ من السكر الموجود في الدم بعد
أن تجري عليه الغدد الخاصة في الثدي التغييرات اللازمة لتحويله إلى نوع جديد
من السكر.
ومع أن إنتاج اللبن يكون عن طريق جذب المواد الغذائية بواسطة الدم، ومن
خلال الارتباط المباشر بين الدم وغدد الثدي، إلا أننا لا نلاحظ أي أثر لرائحة
الفرث أو لون الدم فيه، بل يبدأ اللبن بالترشح من ثدي الأم بلون جديد ورائحة
خاصة به.
ومن لطيف ما ينقل عن العلماء المتخصصين أن إنتاج لتر واحد من اللبن في
الثدي يحتاج بما لا يقل عن عبور (500) لتر من الدم خلال الثدي ليستطيع من
امتصاص المواد اللازمة لإنتاج اللبن، كما يلزم لإنتاج لتر واحد من الدم عبور
مواد غذائية كثيرة من الأمعاء... وبهذا يتضح لنا معنى من بين فرث ودم
كاملا (1).
3 2 - أهم ما في اللبن من مواد غذائية
اللبن ملئ بالمواد الغذائية المختلفة التي تشكل مع بعضها مجموعة عذائية
كاملة.
فالمواد المعدنية في اللبن، عبارة عن: الصوديوم، البوتاسيوم، الكالسيوم،
المغنيسيوم، النحاس، قليل من الحديد بالإضافة إلى الفسفور والكلور وغيرها.
ويوجد في اللبن كذلك غاز الأوكسجين وحامض الكاربونيك.
أما المواد السكرية فموجودة بكمية كافية على شكل (لاكتوز).
والفيتامينات المحلولة في اللبن عبارة عن: فيتامين ب، پ، آ، د.

1 - مقتبس من كتابي: الكيمياء الحياتية والطبية، وأول جامعة وآخر نبي، الجزء السادس.
235

وقد أثبت العلم الحديث أن الحيوان الذي يتغذى بشكل جيد يكون لبنه
حاويا لكافة أنواع الفيتامينات، وأصبح بديهيا أن اللبن الطازج يعتبر غذاء كاملا.
ولا يمكن لنا تفصيل ذلك في هذا البحث المختصر.
ولعل ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: " ليس يجزي مكان الطعام والشراب
إلا اللبن " إشارة لهذا السبب.
ونقرأ في روايات أخرى عن اللبن أنه يزيد في عقل الإنسان، ويحد النظر،
ويرفع النسيان، ويقوي القلب والظهر (كما أصبح معلوما أن هذه الآثار لها ارتباط
وثيق بما في اللبن من مواد حياتية) (1).
3 3 - اللبن.. غذاء خالص وسهل الهضم
لقد أكدت الآيات أعلاه على ميزتين مهمتين للبن - كونه " خالصا "، و " سائغا "
أي لذيذا وسريع الهضم - وكما هو المعروف عن اللبن من كونه غذاء كثير الفائدة
على الرغم من قلة حجمه. و " خالص " أي خال من المواد الزائدة وبذات الوقت
فهو سهل الهضم بالشكل الذي جعل ملائما لأي إنسان وعلى مختلف الأعمار -
منذ الطفولة حتى الشيخوخة - ولهذا يعتمده المرضى كغذاء ملائم ومفيد ومقبول،
وبالخصوص ما له من أثر فعال بالنسبة لنمو العظام، ولهذا يوصى بالإكثار من
تناوله في حالات كسور العظام وما شابهها.
ومن جملة معاني الخلوص هو (الربط)، ولعل البعض اعتمد على هذا المعنى
فيما جاء في التعبير القرآني " خالصا "، واعتبارهم من كون " خالصا " إشارة إلى
تأثير اللبن الخالص في بناء وربط العظام.
وكذا نجد في الإحكام الإسلامية الواردة حول الرضاعة ما يشير إلى هذا

1 - لزيادة التفصيل، يراجع كتاب أول جامعة وآخر نبي - الجزء السادس.
236

المعنى بوضوح.
ويقول الفقهاء: إن الطفل لو رضع من غير أمه حتى اشتدت عظامه وزاد لحمه
فإن مرضعته ستحرم عليه (وما يتبع ذلك في من يعود إليه النسب).
ويقولون أيضا: إن (15) رضاعة متوالية، أو رضاعة يوم وليلة متصلة، يؤدي
إلى هذه الحرمة أيضا.
ولو جمعنا القولين، ألا ينتج أن التغذية باللبن يوم وليلة لها أثر في تقوية
العظام وزيادة اللحم!؟
وينبغي الالتفات إلى أن التوجيهات الإسلامية أكدت كثيرا على لبن " اللباء "
هو أو ما ينزل من اللبن بعد الولادة، حتى لتقول بعض كتب الفقه إن حياة الطفل
مرهونة به، ولهذا اعتبر إعطاء الطفل من حليب اللباء واجبا (1).
ولعل ما في الآية (7) من سورة القصص حول موسى (عليه السلام) يتعلق بهذا
الموضوع أيضا وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في
اليم.
* * *

1 - شرح اللمعة، كتاب النكاح، أحكام الأولاد ومنها الرضاع.
237

2 الآيتان
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن
الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل
ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء
للناس إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون (69)
2 التفسير
3 وأوحى ربك إلى النحل!
انتقل الأسلوب القرآني بهاتين الآيتين من عرض النعم الإلهية المختلفة
وبيان أسرار الخليقة إلى الحديث عن " النحل " وما يدره من منتوج (العسل)
ورمز إلى ذلك الالهام الخفي بالوحي الإلهي إلى النحل: أن اتخذي من الجبال
بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون.
وفي الآية المباركة جملة تعبيرات تستدعي التوقف والدقة:
3 1 - ما هو " الوحي "
" الوحي " في الأصل (كما يقول الراغب في مفرداته) بمعنى الإشارة السريعة،
238

ثم بمعنى الالقاء الخفى.
وقد جاءت كلمة " الوحي " في القرآن الكريم لترمز إلى عدة أشياء، ولكنها
بالنتيجة تعود لذلك المعنى، منها:
وحي النبوة: حيث نلاحظ وروده في القرآن بهذا المعنى كثيرا. كما في الآية
(51) من سورة الشورى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا....
ومنها: الوحي بمعنى " الإلهام " سواء كان الملهم منتبها لذلك (كما في
الإنسان وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم (1)،
أو مع عدم انتباه الملهم كالإلهام الغريزي (كما في النحل) وهو ما ورد في الآية
مورد البحث.
ومن المعروف أن الوحي في هذا المورد يعني الأمر الغريزي والباعث
الباطني الذي أودعه الله في الكائنات الحية.
ومنها: أن الوحي بمعنى الإشارة، كما ورد في قصة زكريا في الآية (11) من
سورة مريم فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا.
ومنها أيضا: إيصال الرسالة بشكل خفي، كما في الآية (112) من سورة
الأنعام يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
3 2 - هل يختص الإلهام الغريزي بالنحل؟
وإذا كان وجود الغرائز (الإلهام الغريزي) غير منحصر بالنحل دون جميع
الحيوانات، فلماذا ورد ذكره في الآية في النحل خاصة؟
والإجابة على السؤال تتضح من خلال المقدمة التالية: إن الدراسة الدقيقة
التي قام بها العلماء بخصوص حياة النحل، قد أثبتت أن هذه الحشرة العجيبة لها

1 - القصص، 7.
239

من التمدن والحياة الاجتماعية المدهشة ما يشبه لحد كبير الجانب التمدني عند
الإنسان وحياته الاجتماعية، من عدة جهات.
وقد توصل العلماء اليوم لاكتشاف الكثير من أسرار حياة هذه الحشرة والتي
أوصلتهم بقناعة تامة إلى توحيد الخالق والإذعان لربوبيته سبحانه وتعالى.
وأشار القرآن الكريم إلى ذلك الإعجاز بكلمة " الوحي " ليبين أن حياة النحل
لا تقاس بحياة الأنعام، وليدفعنا للتعمق في عالم أسرار هذه الحشرة العجيبة،
ولنتعرف من خلالها على عظمة وقدرة خالقها، ولعل " الوحي " هو التعبير الرمزي
الذي اختصت به هذه الآية نسبة إلى الآيات السابقة.
3 3 - المهمة الأولى في حياة النحل:
وأول مهمة أمر بها النحل في هذه الآية هي: بناء البيت، ولعل ذلك إشارة إلى
أن اتخاذ المسكن المناسب بمثابة الشرط الأول للحياة، ومن ثم القيام ببقية
الفعاليات، أو لعله إشارة إلى ما في بيوت النحل من دقة ومتانة، حيث أن بناء
البيوت الشمعية والسداسية الأضلاع، والتي كانت منذ ملايين السنين وفي أماكن
متعددة ومختلفة، قد يكون أعجب حتى من عمليه صنع العسل (1).
فكيف تضع هذه المادة الشمعية الخاصة؟ وكيف تبني الخلايا السداسية بتلك
الهندسة الدقيقة؟ وبيوت النحل ذات هيئة وأبعاد محسوبة بدقة فائقة وذات زوايا
متساوية تماما، ومواصفاتها تخلو من أية زيادة أو نقصان..
فقد اقتضت الحكمة الربانية من جعل بيوت النحل في أفضل صورة وأحسن
اختيار وأحكم طبيعة، وسبحان الله خالق كل شئ.

1 - عرف لحد الآن (4500) نوعا من النحل الوحشي، والعجيب أنها في حال واحدة من حيث: الهجرة، بناء الخلايا، المكان،
تناول رحيق الأزهار، أول جامعة، الجزء الخامس.
240

3 4 - أين مكان النحل:
وقد عينت الآية المباركة مكان بناء الخلايا في الجبال، وبين الصخور
وانعطافاتها المناسبة، وبين أغصان الإشجار، وأحيانا في البيوت التي يصنعها لها
الإنسان.
ويستفاد من تعبير الآية أن خلايا النحل يجب أن تكون في نقطة مرتفعة من
الجبل أو الشجرة أو البيوت الصناعية ليستفاد منها بشكل أحسن.
ويذكر القرآن الكريم في الآية التالية المهمة الثانية للنحل: ثم كلي من كل
الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا.
" الذلل ": (جمع ذلول) بمعنى التسليم والانقياد.
ووصف الطرق بالذلل لأنها قد عينت بدقة لتكون مسلمة ومنقادة للنحل في
تنقله، وسنشير إلى كيفية ذلك قريبا.
وأخيرا يعرض القرآن المهمة الأخيرة للنحل (كنتيجة لما قامت به من مهام
سابقة): يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك
لآية لقوم يتفكرون في طبيعة حياتها وما تعطيه من غذاء للإنسان (فيه شفاء)،
وهو دليل على عظمة وقدرة الباري عز وجل.
* * *
2 بحوث
وفي الآية جملة بحوث قيمة أخرى:
3 1 - مم يتكون العسل؟
يمتص النحل بعض المواد السكرية الخاصة الموجودة في مياسم الأوراد،
ويقول خبراء النحل: إن عمل النحل في واقعه لا ينحصر بأخذ المادة السكرية
241

فقط، بل يتعدى ذلك في بعض الأحيان للاستفادة من بعض أجزاء الورود
الأخرى، وكذا الحال مع الأثمار، وهو ما يشير إليه القرآن بقوله: من كل
الثمرات.
وقد نقل قول عالم البيئة (مترلينك) بما يوضح التعبير القرآني بشكل أوضح:
(لو قدر أن تفنى أنواع النحل - الوحشي والأهلي - فإن مائة ألف نوع من النباتات
والثمار والأوراد ستفنى، أي أن تمدننا سيفنى أيضا) (1). ذلك لأن دور النحل في
نقل حبوب اللقاح من ذكر الأشجار إلى مياسم إناثها من الأهمية بحيث يجعل
بعض العلماء يعتقدون أن ذلك أهم من إنتاج العسل نفسه.
والحقيقة أن ما يتناوله النحل من أنواع الثمار إنما هو بالقوة لا بالفعل، ولهذا
فهو يساهم في عملية تكوينها، فما أشمل وأدق التعبير القرآني من كل
الثمرات!
3 2 - السبل المذللة!
لقد توصل العلماء المتخصصون بدراسة حياة النحل إلى ما يلي: تخرج في
كل صباح مجموعة من النحل لمعرفة أماكن وجود الأوراد وتعيينها، ثم تعود إلى
الخلية لتخبر بقية النحل عن أماكن الورود والجهات التي ينبغي التوجه إليها،
ومقدار الفاصلة بين الورود والخلية.
ويستعمل النحل أحيانا لأجل تعيين طرق وصوله إلى الأوراد علامات
خاصة كأن يشخص طبيعة الروائح المنتشرة على طول الطريق أو ما شابه ذلك،
وذلك لضمان عدم إضاعة الطريق ذهابا وإيابا.

1 - أول جامعة، الجز الخامس، ص 55.
242

ولعل عبارة فاسلكي سبل ربك ذللا إشارة لهذه الحركة.
3 3 - أين يصنع العسل؟
ربما، إلى الآن يوجد من يتصور بأن النحل يمتص رحيق الأوراد ويجمعه في
فمه ثم يخزنه في الخلية، وهذا خلاف الواقع، فالنحلة تجمع الرحيق في حفر
خاصة داخل بدنها يطلق عليها علميا اسم (الحوصلة) وهي بمثابة معامل
مختبرات كيمياوية خاصة تقوم بعمليات تحويل وتغيير مختلفة لرحيق الأزهار،
حتى يصل إلى إنتاج العسل، الذي تقوم النحلة بإخراجه وجمعه في الخلية.
والمدهش أن سورة النحل مكية، وكما هو معلوم بأن مكة منطقة جافة ليس
فيها نحل لعدم توفر النباتات والأوراد التي يحتاجها ومع ذلك فالقرآن الكريم
يتحدث بكل دقة عن النحل ويشير إلى أدق أعماله (إنتاج العسل): يخرج من
بطونها شراب مختلف ألوانه.
3 4 - ألوان العسل المختلفة
تتفاوت ألوان العسل وفقا لتنوع الأوراد التي يؤخذ رحيقها منها.. فيبدو
أحيانا بلون البن القاتم، وأحيانا أخرى يكون أصفر اللون، أو أبيض فضي، أوليس
له لون، وتارة تراه شفافا، وتارة أخرى ذهبي أو تمري وقد تراه مائلا إلى
السواد!
ولهذا التفاوت في اللون حكمة بالغة قد تبينت أخيرا مفادها: إن للون الغذاء
أثر بالغ في تحريك رغبة الإنسان إليه.
وهذه الحقيقة ما كانت خافية على القدماء أيضا، فكانوا يعتنون بإظهار لون
الغذاء المشهي لدرجة كانوا يضيفون إليه بعض المواد تحصيلا لما يريدون كإضافة
الزعفران وما شابهه.
243

ولهذا الموضوع بحوث مفصلة في كتب التغذية لا يسمح لنا المجال بعرضها
كاملة خوفا من الابتعاد عن مجال التفسير.
3 5 - العسل.. والشفاء من الأمراض:
كما نعلم بأن للنباتات والأوراد استعمالات علاجية فعالة لكثير من
الأمراض، ولا زلنا نجهل الكثير من فوائدها على الرغم من كثرة ما عرفناه،
والشئ المهم في موضوعنا ما توصل إليه العلماء من خلال تجاربهم التي أكدت
على أن للنحل من المهارة بحيث أنه في علمية صنعه للعسل لم يبذر فيما تحويه
النباتات والأوراد من خواص علاجية، فالنحل ينقل تلك الخواص بالكامل
ويجعلها في العسل!
وقد صرح العلماء بكثير من تلك الخواص الوقائية والعلاجية والمقوية.
فالعسل: سريع الامتصاص من قبل الدم، ولهذا فهو غذاء مقو ومؤثر جدا في
تكوين الدم.
والعسل: يقي المعدة والأمعاء من العفونة.
والعسل: رافع لليبوسة.
وهو علاج ضد الأرق (على أن لا يتناول الكثير منه، لأن الإكثار منه يقلل
النوم).
وللعسل: أثر مهم في رفع التعب وتشنج العضلات.
والعسل: يقوي الشبكية العصبية للأطفال (إذا ما أطعمت الأم أثناء الحمل).
ويرفع نسبة الكالسيوم في الدم.
ونافع لتقوية الجهاز الهضمي (وبالخصوص لمن أبتلي بنفخ البطن).
وبما أنه سريع الاحتراق فهو يعمل على توليد الطاقة بسرعة فائقة بالإضافة
لترميمه للقوى.
والعسل أيضا: مقو للقلب، مساعد في علاج أمراض الرئة، نافع للإسهال
244

لخاصيته في قتل المكروبات.
ويعتبر العسل عاملا مهما من عوامل معالجة قرحة المعدة والأثنى عشري.
وهو دواء نافع لعلاج الروماتيزم، ونقصان قوة نمو العضلات، ورفع الآلام
العصبية.
وبالإضافة إلى ذلك فهو نافع في رفع السعال وعامل مهم لتصفية الصوت.
والخلاصة: إن خواص العسل العلاجية أكثر من أن يحيط بها هذا المختصر.
ومع ذلك كله فإنه يدخل في صناعة الأدوية لتلطيف الجلد وللتجميل،
ويستعمل لطول العمر، ولعلاج ورم الفم واللسان والعين، ويستعمل أيضا لمعالجة
الإرهاق، وتشقق الجلد، وما شابه ذلك.
أما المواد والفيتامينات الموجودة في العسل فكثيرة جدا. وفيه من المواد
المعدنية: الحديد، الفسفور، البوتاسيوم، اليود، المغنيسيوم، الرصاص، النحاس،
السلفور، النيكل، الصوديوم وغيرها.
ومن المواد الآلية فيه: الصمغ، حامض اللاكتيك، حامض الفورميك، حامض
السيتريك والتاتاريك والدهون العطرية.
أما ما يحويه من الفيتامينات، ففيه: فيتامينات (أ، ب، ث، د، ك)
(,, C, D, K).
ويعتقد البعض باحتوائه على فيتامين (پ ب) (P) أيضا.
وأخيرا: فالعسل علاج لصحة وجمال الإنسان.
وصرحت الروايات كذلك بخواص العسل العلاجية، وورد الكثير عن أمير
المؤمنين (عليه السلام) والإمام الصادق (عليه السلام) وبعض الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من أنهم قالوا: " ما
استشفى الناس بمثل العسل " (1).

1 - وسائل الشيعة، ج 17، ص 73 إلى 75.
245

وبرواية أخرى: " لم يستشف مريض بمثل شربة عسل " (1).
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من شرب العسل في كل شهر مرة يريد ما
جاء به القرآن، عوفي من سبعة وسبعين داءا " (2).
وثمة أحاديث أخرى حول أهمية العسل في علاج آلام البطن.
ونذكر أن لكل حكم عام أو قاعدة كلية استثناء، ولهذا فقد ورد النهي عن
تناول العسل في بعض الحالات النادرة.
3 6 - للناس:
ومما يجذب النظر أن خبراء النحل يرون كفاية امتصاص وردتين أو ثلاث
لسد جوع النحلة، إلا أنها تحط على (250) وردة في كل ساعة (كمعدل) ولأجل
ذلك تقطع مسافة كليومترات، وعلى الرغم من قصر عمر النحلة، إلا أنها تنتج كمية
لا بأس بها من العسل، وقد لا يصدق كثرة ما تنتجه قياسا لما تعيشه من عمر،
ولكن ما تقوم به من مثابرة وعمل دؤوب لا يعرف الكلل والملل قد هيأها لأن
تقوم بهذا العمل الكبير العجيب.
وكل ذلك السعي وتلك المثابرة ليس في واقعه لملء بطنها بقدر ما عبر عنه
القرآن الكريم ب‍ للناس.
3 7 - ملاحظات مهمة بخصوص العسل:
أثبت العلم الحديث أن العسل من المواد الغذائية التي تبقى على الدوام
طازجة وسالمة ومحافظة على كل ما تحويه في فيتامينات مهما طالت المدة لأنه
من المواد غير القابلة للفساد.
ويعزو العلماء سبب ذلك لوجود نسبة البوتاسيوم الوافية فيه المانع من نمو

1 - المصدر السابق.
2 - سفينة البحار، ج 2، ص 190.
246

الجراثيم، بالإضافة لاحتوائه على بعض المواد المقاومة للعفونة كحامض
الفورميك فمضافا لكون العسل مانع من نمو الجراثيم، فهو قاتل لها أيضا ولهذا
السبب فقد استعمله المصريون القدماء في عملية التحنيط.
ويقول العلماء: لا ينبغي حفظ العسل في أواني فلزية.
ويقول القرآن في هذا الجانب:... من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما
يعرشون، أي: إن بيوت النحل لا ينبغي أن تكون إلا بين الأحجار والأخشاب.
وملاحظة مهمة أخرى: للاستفادة من خواصه الصحية والعلاجية ينبغي عدم
تعريضه لحرارة الطبخ. يعتقد البعض أن تعبير القرآن بكلمة " شراب " إشارة لهذه
المسألة، فهو من المشروبات وليس من المأكولات كي يعرض لحرارة الطبخ.
وثمة ملاحظة أخرى: على الرغم مما تسببه لسعة النحل من ألم، إلا أن لهذا
أثر علاجي أيضا، ومع ذلك ونتيجة لطبع النحل اللطيف فإنه لا يلسع أحدا بلا
سبب، بل نحن ندفعه إلى ذلك ونضطره ليلسعنا عن علم أو جهل.
ومن الأسباب التي تدفع النحل للسع الإنسان: عدم ارتياحه للروائح
الكريهة، وعندما يقترب الإنسان من الخلية لجني نتاج النحل فهي لا تلسعه إلا إذا
كانت يده ملوثة أو أن في لباسه رائحة كريهة، أو عندما يمد الإنسان يده إلى خلية
ما وبدون أن يغسل يده يمدها إلى خلية أخرى، فإن نحل الثانية ستسرع في لسعه
لأنه قد نقل إليها رائحة خلية أجنبية!
وعلى الرغم من أن اللسع يحمل أهدافا دفاعية، إلا أنه بالنسبة للنحل يعني
الانتحار لأنه بمجرد أن تقوم النحلة باللسع فإنها قد كتبت على نفسها مصير
الموت!
وقد وضع العلماء المتخصصون برنامجا معينا لمعالجة الأمراض كالروماتيزم
والملاريا والآلام العصبية وغيرها عن طريق لسعات النحل، والا فإن لسع النحل
قد يؤدي إلى آلام مؤذية تصل في بعض حالاتها إلى مخاطر كبيرة.
وقد يتحمل الإنسان لسعة أو عدة لسعات، ولكن الأمر حينما يصل إلى (200
247

- 300) لسعة فإن ذلك سيؤدي إلى التسمم واضطرابات في القلب، وإذا ما وصل
العدد إلى (500) لسعة فسوف يؤدي إلى شلل الجهاز التنفسي، وربما يؤدي إلى
الموت.
3 8 - عجائب حياة النحل
كان القدماء يعرفون القدر اليسير عن حياة النحل، أما اليوم ونتيجة لدراسات
العلماء الواسعة فقد تبين أن للنحل حياة منظمة جدا ويتخللها: تقسيم أعمال،
توزيع مسؤوليات وبرنامج عمل دقيق جدا.
ومدينة النحل: أكثر المدن نظافة، وأكثرها نظاما، كلها عمل.. إنها مدينة على
خلاف كل مدن البشر، فليس فيها بطالة ولا فقر، والكل يعيش حياة تمدن جميل...
وكل أفراد المدينة يخضعون لقوانينها ولا ترى مخالفا للضوابط القانونية ولا
مقصرا في عمله إلا ما ندر، وإذا ما حدث ذلك كأن تذهب إحدى النحلات إلى
وردة كريهة الرائحة وتمتص رحيقها، فإنها ستخضع للتفتيش عند أعتاب المدينة
ثم تحاكم في محكمة صحراوية، والإعدام بالموت هو المعروف عن ارتكاب مثل
هذه الأخطاء!
يقول (مترلينك) عالم البيئة البلجيكي الذي أجري العديد من الدراسات حول
حياة النحل والنظام العجيب الذي يحكم مدنها: إن ملكة النحل (أو على الأصح أم
الخلية) لا تعيش في مدينتها، كما نتصور من سلطتها وإصدارها الأوامر، بل هي
كسائر أفراد هذه المدينة في إطاعتها للقواعد والأنظمة الكلية السائدة إننا لا نعلم
كيف وضعت هذه القوانين والأنظمة، وننتظر أن نفهم هذا الأمر يوما ما، ونعرف
واضع هذه المقررات، إلا أننا نسميه مؤقتا (روح الخلية)!!
إن الملكة تطيع روح الخلية شأنها شأن بقية الأفراد.
إننا لا نعلم أين توجد روح هذه الخلية؟ وفي أي فرد من سكنة مدينة النحل
قد حلت؟
إلا أننا نعلم أن روح الخلية ليست شبيهة بغريزة الطيور، ونعلم أيضا أن روح
248

الخلية ليست عادة وإرادة عمياء تحكم عنصر ونوع النحل، إن روح الخلية تقوم
بتحديد وظيفة كل فرد من أفراد الخلية وفق استعداده، وتوجه كل واحد منها نحو
عمل معين.
إن روح الخلية تأمر النحل المهندس والبناء والعامل ببناء البيوت، وهي التي
تأمر سكنة المدينة جميعا بالهجرة منها في يوم معين وساعة معينة، وتتجه نحو
حوادث ومشاق غير معلومة من أجل تحصيل مسكن ومأوى جديد!
إننا لا نستطيع أن نفهم في أي مجمع شورى قد طرحت قوانين مدينة النحل
التي وضعتها روح الخلية واتخذ قرارها بتنفيذها، من يصدر الأمر بالحركة في
اليوم المعين؟
نعم، إن في الخلية مقدمات هجرة من أجل إطاعة الإله الذي بيده مصير
النحل (1).
إن العالم المذكور قد واجه الإبهام في فهم هذه المسألة، لما علقت في ذهنه
من ترسبات الفكر المادي!
ولكننا نفهم بيسر من أين جاءت تلك القوانين والبرامج؟ ومن الآمر بها؟
وذلك من خلال الاستهداء بنور القرآن.
ما أجمل ما عبر عنه القرآن حين قوله: وأوحى ربك إلى النحل!
أو هل ثمة تعبير أوسع وأشمل وأنطق من هذا؟!
لم نذكر فيما قلناه عن النحل إلا النزر اليسير لأن منهج التفسير لا يسمع لذا
بمواصلة هذا الموضوع (2).
ونظن كفاية هذا القدر للمتفكر السائر نحو معرفة عظمة الله: إن في ذلك
لآية لقوم يتفكرون.

1 - تلخيص من كتاب (النحل)، تأليف مترلينك.
2 - اعتمدنا في بحثنا عن النحل وخواص العسل على جملة كتب منها: أول جامعة وآخر نبي، والنحل، تأليف مترليتك،
وعجائب عالم الحيوانات.
249

* * *
250

2 الآيات
والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر
لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير (70) والله فصل
بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم
على ما ملكت أيمنهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله
يجحدون (71) والله جعل لكم من أنفسكم أزوجا وجعل لكم
من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل
يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون (72)
2 التفسير
3 سبب اختلاف الأرزاق:
بينت الآيات السابقة قسما من النعم الإلهية المجعولة في عالمي النبات
والحيوان، لتكون دليلا حسيا لمعرفته جل شأنه، وتواصل هذه الآيات مسألة
إثبات الخالق جل وعلا بأسلوب آخر، وذلك بأن تغيير النعم خارج عن اختيار
الإنسان، وذلك كاشف بقليل من الدقة والتأمل على وجود المقدر لذلك.
251

فيبتدأ القول ب‍ والله خلقكم ثم يتوفاكم.
فمنه الممات كما كانت الحياة منه، ولتعلموا بأنكم لستم خالقين لأي من
الطرفين (الحياة والموت).
ومقدار عمركم ليس باختياركم أيضا، فمنكم من يموت في شبابه أو في
كهولته ومنكم من يرد إلى أرذل العمر (1).
ونتيجة هذا العمر الموغل في سني الحياة لكي لا يعلم بعد علم شيئا (2).
فيكون كما كان في مرحلة الطفولة من الغفلة والنسيان وعدم الفهم.. نعم
ف‍ إن الله عليم قدير فكل القدرات بيده جل وعلا، وعطاؤه بما يوافق الحكمة
والمصلحة، وكذا أخذه لا يكون إلا عندما يلزم ذلك.
ويواصل القرآن الكريم استدلاله في الآية التالية من خلال بيان أن مسألة
الرزق ليست بيد الإنسان وإنما.. والله فضل بعضكم على بعض في الرزق
فأصحاب الثروة والطول غير مستعدين لإعطاء عبيدهم منها ومشاركتهم فيها
خوفا أن يكونوا معهم على قدم المساواة: فما الذين فضلوا بردي رزقهم على
ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء.
واحتمل بعض المفسرين أن الآية تشير إلى بعض أعمال المشركين الناتجة
عن حماقتهم، حينما كانوا يجعلون لآلهتهم من الأصنام سهما من مواشيهم
ومحاصيلهم الزراعية، بالرغم من عدم وجود أي أثر لتلك الأحجار والأخشاب

1 - " أرذل ": من (رذل) بمعنى الحقارة وعدم المرغوبية، والمقصود من " أرذل العمر ": السنين المتقدمة جدا من عمر الإنسان
حيث الضعف والنسيان، ولا يستطيع تأمين احتياجاته الأولية، ولهذا سماها القرآن بأرذل العمر، وقد اعتبر بعض المفسرين أنها
تبدأ من عمر (75) عاما، وبعض آخر من (90) وآخرون اعتبروها من (95).. والحق أنها لا تحدد بعمر، وإنما تختلف من شخص
لآخر.
2 - عبارة لكي لا يعلم بعد علم شيئا يمكن أن تكون غاية ونتيجة للسنين المتقدمة من حياة الإنسان، فيكون مفهومها
أن دماغ الإنسان وأعصابه في هذه السنين تفقد القدرة على التركيز والحفظ فيسيطر على الإنسان النسيان والغفلة. ويمكن أن
يكون معناها العلة، أي أن الله تعالى يوصل الإنسان إلى هذا العمر لكي يصاب بالنسيان، فيفهم الناس بأنهم لا يملكون شيئا من
أنفسهم.
252

على حياتهم! بل كان الأولى بهم لو التفتوا إلى خدمهم وعبيدهم ليعطوهم شيئا
جزاء ما يقدمونه لهم من خدمات ليل نهار!...
3 هل التفاضل في الرزق من العدالة؟!...
وهنا يواجهنا سؤال يطرح نفسه: هل أن إيجاد التفاوت والاختلاف في
الأرزاق بين الناس، ينسجم مع عدالة الله عز وجل ومساواته بين خلقه، التي
ينبغي أن تحكم نظام المجتمع البشري؟
لأجل الإجابة، ينبغي الالتفات إلى الملاحظتين التاليتين:
1 - إن الاختلاف الموجود بين البشر في جانب الموارد المادية يرتبط
بالتباين الناشئ بين الناس جراء اختلاف استعدادتهم وقابليتهم من واحد لآخر.
والتفاوت في الاستعدادين الجسمي والروحي يستلزم الاختلاف في مقدار
ونوعية الفعالية الاقتصادية للأفراد، مما يؤدي إلى زيادة وارد بعض وقلة وارد
البعض الآخر.
ولا شك أن بعض الحوادث والاتفاقات لها دخل في اشراء بعض الناس، الا
أنه لا يمكن أن نعول عليها عند البحث لأنها ليست أكثر من استثناء، أما الضابط في
أكثر الحالات فهو التفاوت الموجود في كمية وكيفية السعي (ومن الطبيعي أن بحثنا
يتناول المجتمع السليم والبعيد عن الظلم والاستغلال، ولا نقصد به تلك
المجتمعات المنحرفة التي تركت قوانين التكوين والنظام الإنساني جانبا وانزلقت
في طرق الظلم والاستغلال).
وقد يساورنا التعجب حينما نجد بعض الفاقدين لأي مؤهل أو استعداد
يتمتعون برزق وافر وجيد، ولكننا عندما نتجرد عن الحكم من خلال الظواهر
ونتوغل في أعماق مميزات ذلك البعض جسميا ونفسيا وأخلاقيا، نجد أنهم
يتمتعون بنقاط قوة أوصلتهم إلى ذلك (ونكرر القول بأن بحثنا ضمن إطار مجتمع
253

سليم خال من الاستغلال).
وعلى أية حال.. فالتفاوت بين دخل الأفراد ينبع من التفاوت
بالاستعدادات، وهو من المواهب والنعم الإلهية أيضا، وإن أمكن أن يكون بعض
ذلك اكتسابيا، فالبعض الآخر غير اكتسابي قطعا. فإذن وجود التفاوت في
الأرزاق أمر غير قابل للإنكار من الناحية الاقتصادية، ويتم ذلك حتى داخل
المجتمعات السليمة.. إلا إذا افترضنا وجود مجموعة أفراد كلهم في هيئة واحدة
من حيث: الشكل، اللون، الاستعداد ولا يعتريهم أي اختلاف! وإذا ما افترضنا
حدوث ذلك فإنه بداية المشاكل والويلات!
2 - لو نظرنا إلى بدن إنسان ما، أو إلى هيكل شجرة أو باقة ورد، فهل سنجد
التساوي بين أجزاء كل منها ومن جميع الجهات؟
وهل أن قدرة ومقاومة واستعداد جذور الشجرة مساوية لقدرة ومقاومة
واستعداد أوراق الوردة الظريفة؟ وهل أن عظم قدم الإنسان لا يختلف عن شبكية
عينه؟
وهل من الصواب أن نعتبر كل ذلك شيئا واحدا؟!
ولو تركنا الشعارات الكاذبة والفارغة من أي معنى، وافترضنا تساوي الناس
من جميع النواحي، فنملأ الأرض بخمسة مليارات من الأفراد ذوي: الشكل
الواحد، الذوق الواحد، الفكر الواحد، بل والمتحدين في كل شئ كعلبة السجائر..
فهل نستطيع أن نضمن أن حياة هؤلاء ستكون جيدة؟ ستكون الإجابة بالنفي قطعا،
وسيحرق الجميع بنار التشابه المفرط والرتيب الكئيب، لأن الكل يتحرك في جهة
واحدة، والكل يريد شيئا واحدا، ويحبون غذاءا واحدا، ولا يرغبون إلا بعمل
واحد!
وبديهيا ستكون حياة كهذه سريعة الانقراض، ولو افترض لها الدوام، فإنها
ستكون متعبة ورتيبة وفاقدة لكل روح. وبعبارة أشمل سوف لا يبعدها عن الموت
254

بون شاسع.
وعلى هذا فحكمة وجود التفاوت في الاستعدادات المستتبعة لهذا التفاوت
قد ألزمتها ضرورة حفظ النظام الاجتماعي، وليكون التفاوت في الاستعدادات
دافعا لتربية وإنماء الاستعدادات المختلفة للأفراد. ولا يمكن للشعارات الكاذبة أن
تقف في وجه هذه الحقيقة التي يفرضها الواقع الموضوعي أبدا.
ولا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام أننا نريد منه إيجاد مجتمع طبقي أو نظام
استغلالي واستعماري، لا. أبدا.. وإنما نقصد بالاختلافات التفاوت الطبيعي بين
الأفراد (وليس المصطنع) الذي يعاضد بعضه الآخر ويكمله (وليس الذي يكون
حجر عثرة في طريق تقدم الأفراد ويدعو إلى التجاوز والتعدي على الحقوق).
إن الاختلاف الطبقي (والمقصود من الطبقات هنا: ذلك المفهوم الاصطلاحي
الذي يعني وجود طبقة مستغلة وأخرى مستغلة) لا ينسجم مع نظام الخليقة أبدا،
ولكن الموافق لنظام الخليقة هو ذلك التفاوت في الاستعدادات والسعي وبذل
الجهد، والفرق بين الأمرين كالفرق بين السماء والأرض - فتأمل.
وبعبارة أخرى، إن الاختلاف في الاستعدادات ينبغي أن يوظف لخدمة
مسيرة البناء، كما في اختلاف طبيعة أعضاء بدن الإنسان أو أجزاء الوردة، فمع
تفاوتها إلا أنها ليست متزاحمة، بل إن البعض يعاضد البعض الآخر وصولا للعمل
التام على أكمل وجه.
وخلاصة القول: ينبغي أن لا يكون وجود التفاوت والاختلاف في
الاستعدادات وفي الدخل اليومي للأفراد دافعا لسوء الاستفادة وذلك بتشكيل
مجتمع طبقي (1).
ولهذا يقول القرآن الكريم في ذيل الآية مورد البحث: أفبنعمة الله

1 - لقد بحثنا بشكل مفصل موضوع فلسفة الاختلاف في الاستعدادات والفوائد الناتجة عن ذلك في ذيل الآية (32) من سورة
النساء - فيراجع.
255

يجحدون.
وذلك إشارة إلى أن هذه الاختلافات في حالتها الطبيعية (وليس الظالمة
المصطنعة) إنما هي من النعم الإلهية التي أوجدها لحفظ النظام الاجتماعي
البشري.
وتبدأ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث بلفظ الجلالة " الله " كما كان في
الآيتين السابقتين، ولتتحدث عن النعم الإلهية في إيجاد القوى البشرية، ولتتحدث
عن الأرزاق الطيبة أيضا تكميلا للحلقات الثلاثة من النعم المذكورة في آخر
ثلاث آيات، حيث استهلت البحث بنظام الحياة والموت، ثم التفاوت في الأرزاق
والاستعدادات الكاشف لنظام (تنوع الحياة) لتنتهي بالآية مورد البحث، حيث
النظر إلى نظام تكثير النسل البشري و.. الأرزاق الطيبة.
وتقول الآية: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا لتكون سكنا
لأرواحكم وأجسادكم وسببا لبقاء النسل البشري.
ولهذا تقول وبلا فاصلة: وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة.
" الحفدة " بمعنى (حافد) وهي في الأصل بمعنى الإنسان الذي يعمل بسرعة
ونشاط دون انتظار أجر وجزاء، أما في هذه الآية - كما ذهب إلى ذلك أكثر
المفسرين - فالمقصود منها أولاد الأولاد، واعتبرها بعض المفسرين بأنها خاصة
بالإناث دون الذكور من الأولاد.
ويعتقد قسم آخر من المفسرين: أن " بنون " تطلق على الأولاد الصغار،
و " الحفدة " تطلق على الأولاد الكبار الذين يستطيعون إعانة ومساعدة آبائهم.
واعتبر بعض المفسرين أنها شاملة لكل معين ومساعد، من الأبناء كان أم من
غيرهم (1).

1 - وفي هذه الحال يجب أن لا تكون " حفدة " معطوفة على " بنين " بل على " أزواجا "، ولكن هذا العطف خلاف الظاهر الذي
يشير إلى عطفها على " بنين " - فتأمل.
256

ويبدو أن المعنى الأول (أولاد الأولاد) أقرب من غيره، بالرغم مما تقدم من
سعة مفهوم " حفدة " في الأصل.
وعلى أية حال فوجود القوى الإنسانية من الأبناء والأحفاد والأزواج
للإنسان من النعم الإلهية الكبيرة التي أنعمها جل اسمه على الإنسان، لأنهم يعينون
ماديا ومعنويا في حياته الدنيا.
ثم يقول القرآن الكريم: ورزقكم من الطيبات.
" الطبيات " هنا لها من سعة المفهوم بحيث تشمل كل رزق طاهر نظيف، سواء
كان ماديا أو معنويا، فرديا أو اجتماعيا.
وبعد كل العرض القرآني لآثار وعظمة قدرة الله، ومع كل ما أفاض على
البشرية من نعم، نرى المشركين بالرغم من مشاهدتهم لكل ما أعطاهم مولاهم
الحق، يذهبون إلى الأصنام ويتركون السبيل التي توصلهم إلى جادة الحق
أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون.
فما أعجب هذا الزيغ! وأية حال باتوا عليها! عجبا لهم وتعسا لنسيانهم
مسبب الأسباب، وذهابهم لما لا ينفع ولا يضر ليقدسوه معبودا!!!
* * *
2 بحثان
3 1 - أسباب الرزق:
على الرغم مما ذكر بخصوص التفاوت من حيث الاستعداد والمواهب عند
الناس، إلا أن أساس النجاح يمكن في السعي والمثابرة والجد، فالأكثر سعيا أكثر
نجاحا في الحياة والعكس صحيح.
ولهذا جعل القرآن الكريم ارتباطا بين ما يحصل عليه الإنسان وبين سعيه،
257

فقال بوضوح: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (1).
ومن الأمور المهمة والمؤثرة في مسألة استحصال الرزق الالتزام بالمبادي
من قبيل: التقوى، الأمانة، إطاعة القوانين الإلهية والالتزام بأصول العدل، كما
أشارت إلى ذلك الآية (96) من سورة الأعراف: ولو أن أهل القرى آمنوا
واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض.
وكما في الآيتين (2 و 3) من سورة الطلاق: ومن يتق الله يجعل له مخرجا
ويرزقه من حيث لا يحتسب.
وكما أشارت الآية (17) من سورة التغابن بخصوص أثر الإنفاق في سعة
الرزق -: إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم.
ولعلنا لا حاجة لنا بالتذكير أن فقدان فرد أو جمع من الناس يضر بالمجتمع
ولهذا فحفظ سلامة الأفراد وإعانتهم يعود بالنفع على كل الناس (بغض النظر عن
الجوانب الإنسانية والروحية لذلك).
وخلاصة القول إن اقتصاد المجتمع إن بني على أسس التقوى والصلاح
والتعاون والإنفاق فالنتيجة أن ذلك المجتمع سيكون قويا مرفوع الرأس، أما لو
بني على الاستغلال والظلم والاعتداء وعدم الاهتمام بالآخرين، فسيكون
المجتمع متخلفا اقتصاديا وتتلاش فيه أواصر الحياة والاجتماعية.
ولذلك فقد أعطت الأحاديث والروايات أهمية استثنائية للسعي في طلب
الرزق المصحوب بالتقوى، وحتى روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " لا
تكسلوا في طلب معايشكم، فإن آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها " (2).
وروي عنه أيضا: " الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله " (3).

1 - سورة النجم، 39.
2 - الوسائل، ج 12، ص 48.
3 - الوسائل، ج 12، ص 43.
258

وحتى أن الأمر قد وجه إلى المسلمين بالتبكير في الخروج لطلب الرزق (1)
وذكر أن من جملة من لا يستجاب لهم الدعاء أولئك الذين تركوا طلب الرزق
على ما لهم من استطاعة، انزووا في زوايا بيوتهم يدعون الله أن يرزقهم!
وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل عن الآيات القرآنية والروايات التي تؤكد
على أن الرزق بيد الله، وذم السعي فيه، فكيف يتم تفسير ذلك؟!
وللاجابة نذكر الملاحظتين التاليتين:
1 - دقة النظر والتحقق في المصادر الإسلامية يوضح أن الآيات أو الروايات
التي يبدو التضاد في ظاهر ألفاظها - سواء في هذا الموضوع أو غيره - إنما ينتج
من النظرة البسيطة السطحية، لأن حقيقة تناولها لموضوع ما إنما يشمل جوانب
متعددة من الموضوع، فكل آية أو رواية إنما تنظر إلى بعد معين من أبعاد
الموضوع، فتوهم غير المتابع بوجود التضاد.
فحيث يسعى الناس بولع وحرص نحو الدنيا وزخرف الحياة المادية،
ويقومون بارتكاب كل منكر للوصول إلى ما يريدونه، تأتي الآيات والروايات
لتوضح لهم تفاهة الدنيا وعدم أهمية المال.
وإذا ما ترك الناس السعي في طلب الرزق بحجة الزهد، تأتيهم الآيات
والروايات لتبين لهم أهمية السعي وضرورته.
فالقائد الناجح والمرشد الرشيد هو الذي يتمكن من منع انتشار حالتي
الإفراط والتفريط في مجتمعه.
فغاية الآيات والروايات التي تؤكد على أن الرزق بيد الله هي غلق أبواب
الحرص والشره وحب الدنيا والسعي بلا ضوابط شرعية، وليس هدفها إطفاء شعلة

1 - الوسائل، ج 12، ص 50.
259

الحيوية والنشاط في الإعمال والاكتساب وصولا لحياة كريمة ومستقلة.
وبهذا يتضح تفسير الروايات التي تقول: إن كثيرا من الأرزاق إن لم تطلبوها
تطلبكم.
2 - إن كل شئ من الناحية العقائدية تنتهي نسبته إلى الله عز وجل، وكل
موحد يعتقد أن منبع وأصل كل شئ منه سبحانه وتعالى، ويردد ما تقوله الآية
(26) من سورة آل عمران: بيدك الخير إنك على كل شئ قدير.
وينبغي عدم الغفلة عن هذه الحقيقة وهي أن كل شئ من سعي ونشاط وفكر
وخلاقية الإنسان إنما هي في حقيقتها من الله عز وجل.
ولو توقف لطف الله (فرضا) عن الإنسان - ولو للحظة واحدة - لما كان ثمة
شئ اسمه الإنسان.
ويقول الإنسان الموحد حينما يركب وسيلة: " سبحان الذي سخر لنا هذا ".
وعندما يحصل على نعمة ما، يقول: " وما بنا من نعمة فمنك " (1).
ويقول عندما يخطو في سبيل الإصلاح - كما هو حال الأنبياء في طريق
هدايتهم للناس -: وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب (2).
وإلى جانب كل ما ذكر فالسعي والعمل الصحيح البعيد عن أي إفراط أو
تفريط، هو أساس كسب الرزق، وما يوصل إلى الإنسان من رزق بغير سعي وعمل
إنما هو ثانوي فرعي وليس بأساسي، ولعل هذا الأمر هو الذي دفع أمير
المؤمنين (عليه السلام) في كلماته القصار في تقديم ذكر الرزق الذي يطلبه الإنسان على
الرزق الذي يطلب الإنسان، حيث قال: " يا ابن آدم، الرزق رزقان: رزق تطلبه،
ورزق يطلبك " (3).

1 - من أدعية التعقيبات لصلاة العصر، كما في كتب الدعاء.
2 - سورة هود، 88.
3 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 379.
260

3 2 - مواساة الآخرين:
أشارت الآيات إلى بخل كثير من الناس ممن لم يتبعوا سلوك وهدي الأنبياء
والأئمة (عليهم السلام)، وقد أكدت الروايات في تفسيرها لهذه الآيات على المساواة
والمواساة ومنها: ما جاء في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل الآية: " لا يجوز
الرجل أن يخص نفسه بشئ من المأكول دون عياله " (1).
وروي أيضا عن أبي ذر أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول عن العبيد: " إنما هم
إخوانكم فاكسوهم مما تكسون واطعموهم مما تطعمون " فما رؤي عبده بعد ذلك
إلا ورداؤه رداءه وإزاره إزاره من غير تفاوت (2).
والذي نستفيده من الروايات المذكورة والآية المبحوثة حين تقول: فهم
فيه سواء أن الإسلام يوصي بمراعاة المساواة كبرنامج أخلاقي بين أفراد
العائلة الواحدة ومن يكون تحت التكفل قدر الإمكان، وأن لا يجعلوا لأنفسهم
فضلا عليهم.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 68.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 68
261

2 الآيتان
ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من
السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون (73) فلا تضربوا
لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون (74)
2 التفسير
3 لا تجعلوا لله شبيها:
تواصل هاتان الآيتان بحوث التوحيد السابقة، وتشير إلى موضوع الشرك،
وتقول بلهجة شديدة ملؤها اللوم والتوبيخ: ويعبدون من دون الله ما لا يملك
لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا.
وليس لا يملك شيئا فقط، بل ولا يستطيعون أن يخلقوا شيئا.
وهذه إشارة إلى المشركين بأن لا أمل لكم في عبادتكم للأصنام، لأنها
لا تضركم ولا تنفعكم وليس لها أي أثر على مصيركم، فالرزق مثلا والذي به تدور
عجلة الحياة سواء كان من السماء (كقطرات المطر وأشعة الشمس وغير ذلك) أو
ما يستخرج من الأرض، إنما هو خارج عن اختيار الأصنام، لأنها موجودات
فاقدة لأية قيمة ولا تملك الإرادة، وإن هي إلا خرافات صنعتها العصبية الجاهلية
262

ليس إلا.
وجملة لا يستطيعون سبب لجملة " لا يملكون " أي: إنها لا تملك شيئا
من الأرزاق لعدم استطاعتها الملك، فكيف بالخلق!
ثم تقول الآية التالية كنتيجة لما قبلها: فلا تضربوا لله الأمثال وذلك
إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون.
قال بعض المفسرين: إن عبارة فلا تضربوا لله الأمثال تشير إلى منطق
المشركين في عصر الجاهلية (ولا يخلو عصرنا الحاضر من أشباه أولئك
المشركين) حيث كانوا يقولون: إنما نعبد الأصنام لأننا لا نمتلك الأهلية لعبادة
الله، فنعبدها لتقربنا إلى الله! وإن الله مثل ملك عظيم لا يصل إليه إلا الوزراء
والخواص، وما على عوام الناس إلا أن تتقرب للحاشية والخواص لتصل إلى
خدمة الله!!
هذا الانحراف في التوجه والتفكير، والذي قد يتجسم أحيانا على هيئة أمثال
منحرفة، إنما هو من الخطورة بمكان بحيث يطغى على كل الانحرافات الفكرية.
ولذا يجيبهم القرآن الكريم قائلا: فلا تضربوا لله الأمثال التي هي من
صنع أفكاركم المحدودة ومن صنع موجودات (ممكنة الوجود) ومليئة
بالنواقص.
وإنكم لو أحطتم علما بعظمة وجوده الكريم وبلطفه ورحمته المطلقة، لعرفتم
أنه أقرب إليكم من أنفسكم ولما جعلتم بينكم وبينه سبحانه من واسطة أبدا.
فالله الذي دعاكم لأن تدعوه وتناجوه، وفتح لكم أبواب دعائه ليل نهار،
لا ينبغي أن تشبهوه بجبار مستكبر لا يتمكن أي أحد من الوصول إليه ودخول
قصره إلا بعض الخواص فلا تضربوا لله الأمثال.
لقد أكدنا في بحوثنا السابقة حول صفات الله عز وجل: أن منزلق التشبيه
يعتبر من أخطر المنزلقات في طريق معرفة صفاته سبحانه وتعالى، ولا ينبغي
263

مقايسة صفاته سبحانه بصفات العباد، لأن الباري جلت عظمته وجود مطلق، وكل
الموجودات بما فيها الإنسان محدودة، فهل يمكن تشبيه المطلق بالمحدود؟!
وإذا ما اضطررنا إلى تشبيه ذاته المقدسة بالنور وما شابه ذلك فينبغي أن
لا يغيب عن علمنا بأن هذا التشبيه ناقص على أية حال، وأنه لا يصدق إلا من
جهة واحدة دون بقية الجهات - فتأمل.
وبما أن أكثر الناس قد غفلوا عن هذه الحقيقة، وكثيرا ما يقعون في وادي
التشبيه الباطل والقياس المرفوض فيبتعدون عن حقيقة التوحيد، فلذا نجد القرآن
الكريم كثيرا ما يؤكد على هذه المسألة، فمرة يقول كما في الآية (4) من سورة
التوحيد، ولم يكن له كفوا أحد، وأخرى كما في الآية (11) من سورة
الشورى: ليس كمثله شئ، وثالثة كما في الآية مورد البحث: فلا تضربوا
لله الأمثال.
ولعل عبارة إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، في ذيل الآية مورد البحث،
تشير إلى أن أغلب الناس في غفلة عن أسرار صفات الله.
* * *
264

2 الآيات
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن
رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل
يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (75) وضرب الله
مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على
موله أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر
بالعدل وهو على صرط مستقيم (76) ولله غيب السماوات
والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن
الله على كل شئ قدير (77)
2 التفسير
3 مثلان للمؤمن والكافر!
ضمن التعقيب على الآيات السابقة التي تحدثت عن: الإيمان، الفكر،
المؤمنين، الكافرين والمشركين، تشخص الآيات مورد البحث حال المجموعتين
(المؤمنين والكافرين) بضرب مثلين حيين وواضحين
265

يشبه المثال الأول المشركين بعبد مملوك لا يستطيع القيام بأية خدمة
لمولاه، ويشبه المؤمنين بإنسان غني، يستفيد الجميع من إمكانياته.. ضرب
الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ.
والعبد ليس له قدرة تكوينية لأنه أسير بين قبضة مولاه ومحدود الحال في
كل شئ، وليس له قدرة تشريعية أيضا لأن حق التصرف بأمواله (إن كان له مال)
وكل ما يتعلق به هو بيد مولاه، وبعبارة أخرى إنه: عبد للمخلوق، ولا يعني ذلك إلا
الأسر والمحدودية في كل شئ.
أما ما يقابل ذلك فالانسان المؤمن الذي يتمتع بأنواع المواهب والرزق
الحسن: ومن رزقناه منا رزقا حسنا والإنسان الحر مع ما له من إمكانيات
واسعة وهو ينفق منه سرا وجهرا فاحكموا: هل يستوون.
قطعا، لا.. فإذن: الحمد لله.
الله الذي يكون عبده حر وقادر ومنفق، وليس الأصنام التي عبادها أسرى
وعديمو القدرة ومحددون بل أكثرهم لا يعلمون (1).
ثم يضرب مثلا آخر لعبدة الأصنام والمؤمنين والصادقين، فيشبه الأول
بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شئ، ويشبه الآخر بإنسان حر يأمر بالعدل وهو
على صراط مستقيم: وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ
وهو كل على مولاه (2) ولهذا.. أينما يوجهه لا يأت بخير.
وعلى هذا فيكون له أربع صفات سلبية:
أبكم (لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر منذ الولادة).

1 - المثال المذكور عبارة عن تشبيه للمؤمن والكافر (على ضوء تفسيرنا)، إلا أن جمعا من المفسرين ذهب إلى أن العبد
المملوك يرمز إلى الأصنام، وأن المؤمن الحر المنفق إشارة إلى الله سبحانه وتعالى (ويبدو لنا أن هذا التشبيه بعيد).
2 - يقول الراغب في مفرداته: الأبكم هو الذي يولد أخرس، فكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم، ويقال: بكم عن الكلام،
إذا أضعف عنه لضعف عقله فصار كالأبكم.
266

وعاجز لا يقدر على شئ.
وكل على مولاه.
وأينما يوجهه لا يأت بخير.
مع أن الصفات المذكورة علة ومعلول لبعضها الآخر ولكنها ترسم صورة
إنسان سلبي مائة في المائة حيث أن وجوده لا ينم عن أي خير أو بركة إضافة
لكونه " كل " على أهله ومجتمعه.
ف‍ هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم؟!
وأما الرجل الآخر في مثل الآية فهو صاحب دعوة مستمرة إلى العدل وسائر
على الصراط المستقيم، وما هاتان الصفتان إلا مفتاح لصفات أخرى متضمنة لها،
فصاحب هاتين الصفتين: لسانه ناطق، منطقه محكم، إرادته قوية، شجاع وشهم،
لأنه لا يمكن أن يتصور لداعية العدل أن يكون: أبكم، جبانا وضعيفا! ولا يمكن أن
يكون من هو على صراط مستقيم إنسانا عاجزا أبله وضعيف العقل، بل ينبغي أن
يكون ذكيا، نبيها، حكيما وثابتا.
وتظهر المقايسة بين هذين الرجلين ذلك البون الشاسع بين الاتجاهين
الفكريين المختلفين لعبدة الأصنام من جهة، وعباد الله عز وجل من جهة أخرى،
وما بينهم من تفاوت تربوي وعقائدي.
كما رأينا من ربط القرآن في بحوثه المتعلقة بالتوحيد ومحاربة الشرك مع
بحث المعاد ومحكمة القيامة الكبرى، نراه هنا يتناول الإجابة على إشكالات
المشركين فيما يخص المعاد، فيقول لهم: لله غيب السماوات والأرض.
وكأن الآية جواب على الإشكال العالق في أذهان وألسنة منكري المعاد
الجسماني بقولهم: إننا إذا متنا وتبعثرت ذرات أجسامنا بين التراب، فمن يقدر
على جمعها؟! وإذا ما افترضنا أن هذه الذرات قد جمعت وعدنا إلى الحياة، فمن
سيعلم بأعمالنا التي طوتها يد النسيان فنحاسب عليها؟!
267

وبعبارة مختصرة تجيب الآية على كل أبعاد السؤال، فالله عز وجل " يعلم
غيب السماوات والأرض " فهو حاضر في كل زمان ومكان، وعليه فلا يخفى عليه
شئ أبدا، ولا مفهوم لقولهم إطلاقا، وكل شئ يعلمه تعالى شهودا، وأما تلك
العبارات والأحوال فإنما تناسب وجودنا الناقص لا غير.
ثم يضيف قائلا: وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب (1).
وهذا المقطع القرآني يشير إلى رد إشكال آخر كان يطرحه منكرو المعاد
بقولهم: من له القدرة على المعاد ومن يتمكن من انجاز هذا الأمر العسير؟!
فيجيبهم القرآن، بأن هذا الأمر يبدو لكم صعبا لأنكم ضعفاء، أما لصاحب
القدرة المطلقة فهو من السهولة والسرعة بحيث يكون أسرع مما تتصورون، وإن
هو إلا كلمح البصر منكم.
وبعد أن شبه قيام الساعة بلمح البصر، قال: أو هو أقرب، أي: إن التشبيه
بلمح البصر جاء لضيق العبارة واللغة، وإنما هو من السرعة بما لا يلحظ فيه
الزمان أساسا، وما ذلك الوصف إلا لتقريبه لأذهانكم من حيث أن لمح البصر هو
أقصر زمان في منطقكم.
وعلى أية حال، فالعبارتان إشارة حية لقدرة الله عز وجل المطلقة،
وبخصوص مسألتي المعاد والقيامة، ولهذا يقول الباري في ذيل الآية: إن الله
على كل شئ قدير.
* * *
2 بحوث
3 1 - الإنسان بين الحرية والأسر

1 - لمح: (على وزن مسح) بمعنى ظهور البرق، ثم جاءت بمعنى النظر السريع، وينبغي الانتباه إلى أن " أو " هنا بمعنى (بل).
268

إن مسألة التوحيد والشرك ليست مسألة عقائدية ذهنية صرفة كما يتوهم
البعض وذلك لما لها من آثار بالغة على كافة أصعدة الحياة، بل وأن بصماتها لتراها
شاخصة على كافة مرافق ومناحي الحياة - فالتوحيد إذا دخل قلبا أحياه وغرس
فيه عوامل الرشد والكمال، لأنه بتوسيع أفق نظر وتفكير الإنسان بشكل يجعله
مرتبطا بالمطلق.
والشرك على العكس من ذلك تماما، حيث يجعل الإنسان يعيش في دوامة
عالم محدود، وتتقاذف كيانه تلك الأصنام الحجرية والخشبية، أو ميول وشهوات
الأصنام البشرية الضعيفة، فيختزل فكر وإدراك وقدرة وسعي الإنسان في دائرة
تلك الأبعاد الضيقة التقاذف.
وقد صورت الآيات تصويرا دقيقا لهذا الواقع، وجمعته في مثال تقريبا
للأذهان وقالت: إن المشرك في حقيقة أبكم وممارساته تنم عن خطل تفكيره
وفقدانه للمنطق السليم، وقد قيد الشرك إمكانياته فجعله خواء لا يقوى على القيام
بأي شئ فانسلخت منه حريته بعد أن أسلم نفسه أسيرا في يد الخرافات
والأوهام.
وبسبب هذه الصفات المذمومة فهو كل على المجتمع، لأنه يستهين بكرامة
وعزة المجتمع من خلال تسليم مقدراته بيد الأصنام أو المستعمرين.
وهو تابع أبدا ما دام لم يتحرر من ربقة الشرك، ولن يذوق طعم الحرية
والاستقلال الحق إلا بعد أن يتوجه إلى التوحيد بصدق.
ونتيجة لمتبنياته الفكرية الضالة فلن يخترق طريقا إلا ضاع به، ولن يجد
الخير أينما حط أينما يوجهه لا يأت بخير.
فكم هي الفاصلة بين ذلك الخرافي، ضيق الأفق، الأسير، العاجز.. وبين هذا
الحر، الشجاع، الذي لا يكتفي بنهج خط العدل، بل يدعو إليه ليعم كل الناس؟!
الشخص الذي يمتلك الفكر المنطقي المنسجم مع نظام التوحيد الحاكم على
269

الخليقة يسير دوما على صراط مستقيم، وهذا السير سيوصله بأقرب وأسرع
طريق إلى الهدف المنشود دون أن يفني ذخائر وجوده في طرق الضلال
والانحراف.
وخلاصة القول: فالتوحيد والشرك ليسا أمرا عقائديا ذهنيا بحتا، بل نظام
كامل لكل الحياة، وبرنامج واسع يشمل: فكر، أخلاق وعواطف الإنسان ويتناول
كذلك حياته الفردية، الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والثقافية.
لو وضعنا مقايسة بين عرب الجاهلية المشركين والمسلمين في صدر الإسلام
لوجدنا الفرق الواضح بين المسيرين...
الأشخاص الذين كانوا في: جهل، تفرقة، انحطاط، ولا يعرفون إلا محيطا
محدودا مملوءا بالفقر والفساد، نراهم قد أصبحوا وكلهم: وحدة، علم، قدرة.. حتى
أصبح العالم المتمدن في ذلك الزمان تحت تأثيرهم وقدرتهم.. كل ذلك بسبب
تغيير سير خطواتهم من الشرك إلى التوحيد.
3 2 - دور العدل والاستقامة في حياة الإنسان
من الملفت للنظر إشارة الآيات إلى الدعوة للعدل والسير على الصراط
المستقيم من بين صفات وشؤون الموحدين، لتبيان ما لهذين الأمرين من أهمية
في خصوص الوصول إلى المجتمع الإنساني السعيد، وهو ما يتم من خلال امتلاك
برنامج صحيح بعيد عن أي انحراف يمينا أو شمالا (لا شرقي ولا غربي)، ومن ثم
الدعوة لتنفيذ ذلك البرنامج المبني على أصول العدل، كما وينبغي أن لا يكون
البرنامج وقتيا ينتهي بانقضاء المدة، بل كما يقول القرآن: يأمر بالعدل (حيث
يعطي الفعل المضارع معنى الاستمرار) برنامج مستمر ودائمي.
270

3 3 - أما الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)
الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) بخصوص تفسير هذه الآية تذكر أن:
" الذي يأمر بالعدل أمير المؤمنين والأئمة صلوات الله عليهم " (1).
وذكر بعض المفسرين: أن جملة من يأمر بالعدل نزلت في: حمزة
وعثمان بن مظعون أو في عمار.
و أبكم في: أبي بن مخلف وأبي جهل ومن شابههم.
وكل ذلك إنما هو من جهة بيان مصاديق مهمة وواضحة للآية، ولا يمكن بأية
حال أن يكون سببا للحصر، مع ملاحظة أن التفاسير التي تناولت الآيات المبحوثة
مبينة على أساس بيان الفرق بين المشركين والمؤمنين، وليس بين الأصنام وبين
الله عز وجل.
* * *

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 70.
271

2 الآيات
والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل
لكم السمع والأبصر والأفئدة لعلكم تشكرون (78) ألم يروا
إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في
ذلك لأيت لقوم يؤمنون (79) والله جعل لكم من بيوتكم
سكنا وجعل لكم من جلود الأنعم بيوتا تستخفونها يوم
ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها
أثاثا ومتاعا إلى حين (80) والله جعل لكم مما خلق ظللا
وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر
وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم
تسلمون (81) فإن تولوا فإنما عليك البلغ المبين (82) يعرفون
نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون (83)
2 التفسير
3 أنواع النعم المادية والمعنوية:
يعود القرآن الكريم مرة أخرى بعرض جملة أخرى من النعم الإلهية كدرس
272

في التوحيد ومعرفة الله، وأول ما يشير في هذه الآيات المباركات إلى نعمة العلم
والمعرفة ووسائل تحصيله.. ويقول: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا
تعلمون شيئا.
فمن الطبيعي أنكم في ذلك المحيط المحدود المظلم تجهلون كل شئ، ولكن
عندما تنتقلون إلى هذا العالم فليس من الحكمة أن تستمروا على حالة الجهل،
ولهذا فقد زودكم الباري سبحانه بوسائل إدراك الحقائق ومعرفة الموجودات
وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. لكي يتحرك حس الشكر للمنعم في
أعماقكم من خلال إدراككم لهذه النعم الربانية الجليلة لعلكم تشكرون.
* * *
2 ملاحظات
وهنا نطرح الملاحظات التالية:
3 1 - بداية الإدراك عند الإنسان
تصرح الآية بوضوح بأن الإنسان حين يولد فإنه لا يدرك من الأشياء شيئا،
وكل ما يدركه إنما هو بعد الولادة وبواسطة الحواس التي منحه الله إياه.
ويواجهنا الإشكال التالي: إن الإنسان مزود بجملة من العلوم الفطرية
كالتوحيد ومعرفة الله، بالإضافة إلى بعض البديهيات مثل (عدم اجتماع النقيضين،
الكل أكبر من الجزء، حسن العدل، قبح الظلم... الخ) وكل هذه العلوم قد أودعت
في قلوبنا وتولدت معنا.. فكيف يقول القرآن إن الإنسان حين يخرج من محيط
الجنين ليس له من العلم شيئا؟
وهل علمنا بوجودنا (والذي هو علم حضوري) لم يكن فينا وإنما نكتسبه
عن طريق السمع والبصر والفؤاد؟
وللإجابة على هذا الإشكال، نقول: إن العلوم البديهية والضرورية والفطرية
273

لم تكن في الإنسان بصورة فعلية حين ولادته، وإنما على شكل استعداد ووجود
بالقوة.
وبعبارة أخرى: إننا عند الولادة نكون في غفلة عن كل شئ حتى عن أنفسنا
التي بين جنبينا، إلا أن مسألة إدراك الحقائق تكمن فينا بصورة القوة لا الفعل،
وبالتدريج تحصل لأعيننا قوة النظر ولآذاننا قوة السمع ولعقولنا القدرة على
الإدراك والتجزئة والتحليل، فننعم بهذه العطايا الإلهية الثلاث التي بواسطتها
نستطيع أن ندرك كثيرا من التصورات ونودعها في العقل لكي ننشئ منها مفاهيم
كلية، ومن ثم نصل إلى الحقائق العقلية بطريق (التعميم) و (التجريد).
وتصل قدرتنا الفكرية إلى إدراك أنفسنا (باعتبارها علما حضوريا) ومن ثم
تتحرر العلوم التي أودعت فينا قوة لتصبح علوما بالفعل، ونجعل بعد ذلك من
العلوم البديهية والضرورية سلما للوصول إلى العلوم النظرية وغير البديهية.
وعلى هذا.. فالعموم والكلية التي نطقت بها الآية (من أننا لا نعلم شيئا عند
الولادة) ليس لها استثناء ولا تخصيص.
3 2 - نعمة وسائل المعرفة
مما لا شك فيه عدم امكانية استيعاب ودخول العالم الخارجي في وجودنا،
والحاصل الفعلي هو رسم صورة الشئ الخارجي المراد في الذهن وبواسطة
الوسائل المعينة لذلك، وعليه.. فمعرفتنا بالعالم الخارجي تكون عن طريق أجهزة
خاصة منها السمع والبصر.
وتنقل هذه الآلات والأجهزة كل ما تلتقطه من الخارج لتودعه في أذهاننا
وعقولنا، ونقوم بواسطة العقل والفكر بعملية التجزئة والتحليل..
ولذلك بينت الآية مسألة عدم علم الإنسان المطلق حين الولادة: وجعل
لكم السمع والأبصار والأفئدة لكي تحصلوا على حقائق الوجود وتدركوها.
274

ونشاهد تقديم ذكر السمع على البصر في الآية مع ما للعين من عمل أوسع من
السمع، ولعل ذلك لسبق الأذن في العمل على العين بعد الولادة، حيث أن العين
كانت في ظلام دامس (في رحم الأم) ونتيجة لشدة أشعة النور (بعد الولادة) فإنها
لا تستطيع العمل مباشرة بسبب حساسيتها، وإنما تتدرج في اعتيادها على
مواجهة النور حتى تصل للحالة الطبيعية المعتادة، ولذا نجد الوليد في بداية أيامه
الأولى مغلق العين. أما بخصوص الأذن.. فثمة من يعتقد بأن لها القدرة على
السماع (قليلا أو كثيرا) وهي في عالم الأجنة وأنها تسمع دقات قلب الأم وتعتاد
عليها!
أضف إلى ذلك أن الإنسان إنما يرى بعينه الأشياء الحسية فقط، في حين أن
الأذن تعتبر وسيلة للتربية والتعليم في جميع المجالات، فالإنسان يصل بواسطة
سماع الكلمات إلى معرفة جميع الحقائق سواء ما كان منها في دائرة الحس أو ما
كان خارجها، وليس للعين هذه السعة، وصحيح أن الإنسان يمكنه تحصيل العلم
بواسطة القراءة، إلا أن القراءة ليست عامة لكل الناس وسماع الكلمات أمر عام.
أما سبب ورود " السمع " بصيغة المفرد و " الأبصار " بصيغة الجمع، فقد بيناه
عند تفسيرنا للآية (7) من سورة البقرة.
وثمة ملاحظة أخرى ينبغي ذكرها تتعلق بكلمة " الفؤاد "، فقد جاءت هنا
بمعنى القلب (العقل) الذي يعيش حالة التوقد، وبعبارة أخرى: يعيش حالة التفسير
والتحليل والابتكار.
يقول الراغب في مفرداته: (الفؤاد كالقلب، لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه
معنى التفؤد أي التوقد). ومن المسلم به أن هذا الموضوع يحصل للإنسان بعد
حصوله على تجارب كافية.
وعلى أية حال، فآلات المعرفة وإن لم تنحصر بهذه الأجهزة الثلاث، إلا أنها
أفضل الأجهزة جميعا، لأن علم الإنسان إما أن يكون عن طريق التجربة أو عند
275

طريق الاستدلالات العقلية، ولا تجربة بدون السمع والبصر، ولا استدلالات عقلية
من غير الفؤاد (العقل).
3 3 - لعلكم تشكرون
تعتبر نعمة أجهزة تحصيل العلم من أفضل النعم التي وهبها الله للإنسان، فلا
يقتصر دور العين والأذن (مثلا) على النظر إلى آثار الله في خلقه، والاستماع إلى
أحاديث أنبياء الله وأوليائه، وتفهم ذلك وتدركه بالتحليل والاستنتاج، بل إن كل
خطوة نحو التكامل والتقدم مرتبطة ارتباطا وثيقا بهذه الوسائل الثلاثة.
وغاية إعطاء هذه الوسائل إنما تستوجب شكر الواهب، لأنه من خلالها
يمكن الحصول على العلم والمعرفة اللذين بهما امتاز الإنسان عن غيره من
الحيوانات.
ومما لا شك فيه أن الإنسان ليقف عاجزا أمام حق شكر المولى وليس له إلا
الاعتذار.
وتستمر الآية التالية في بيان أسرار عظمة الله عز وجل في علم الوجود،
وتقول: ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء.
" الجو " لغة: هو الهواء (كما ذكره الراغب في مفرداته)، أو ذلك الجزء من
الهواء البعيد عن الأرض (كما ورد في تفسير مجمع البيان وتفسير الميزان وكذلك
تفسير الآلوسي).
وبما أن الأجسام تنجذب إلى الأرض طبيعيا فقد وصف القرآن الكريم حركة
الطيور في الهواء بالتسخير، أي: أن الباري سبحانه قد جعل في أجنحة الطيور قوة،
وفي الهواء خاصية، تمكنان الطيور من الطيران في الجو على رغم قانون الجاذبية.
ويضيف قائلا: ما يمسكهن إلا الله.
صحيح أن ثمة أمور مجتمعة تعطي للطيور إمكانية التحليق والطيران، مثل:
276

الخاصية الطبيعية للأجنحة، قدرة عضلات الطيور، هيكل الطير بالإضافة إلى
خواص الهواء الملائمة.. ولكن، من الذي خلق هذه الهيئة وتلك الخواص؟
ومن الذي أقر هذا النظام الدقيق؟
فهل هي الطبيعة العمياء، أم من يعلم بجميع الخواص الفيزيائية للأجسام
وأحاط علمه المطلق بكل هذه الأمور؟؟
فإذا ما رأينا نسبة هذه الأمور إلى الله، لأن منبع وجودها منه تعالى، وأمثال
هذا التعبير في نسبة الأسباب والعلل إلى الله كثيرة في القرآن الكريم.
وفي نهاية الآية، يأتي قوله عز من قائل: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون
أي إنهم ينظرون إلى هذه الأمور بعين باصرة وأذن سميعة ويتفكرون فيما يرون
ويسمعون، وبذلك يقوى إيمانهم ويرسخ أكثر فأكثر.
* * *
2 بحوث
3 1 - أسرار تحليق الطيور في السماء
إننا لا نشعر بأهمية الكثير من عجائب عالم الوجود لاعتيادنا على كثرة
مشاهدتها ولعدم انشغالنا بالتدقيق العلمي عند المشاهدة، حتى باتت هذه العادة
كحجاب يغطي تلك العظمة، ولو استطاع أي منا رفع ذلك الحجاب عن ذهنه لرأى
العجائب الكثيرة من حوله.
وتحليق الطيور في السماء لا تبتعد عن هذه الحقيقة، فحركة جسم ثقيل
بخلاف قانون الجاذبية من دون أية صعوبة، وارتفاعه بسرعة حتى ليغيب عن
أعيننا في لحظات لأمر يدعو إلى التأمل والدراسة.
ولو دققنا النظر في بناء جسم الطائر لوجدنا ذلك الترابط الدقيق بين كل
صفاته وحالاته التي تساعده على الطيران، فهيكله العام مدبب ليقلل من مقاومة
277

الهواء على بدنه لأقصى حد ممكن، وريشه خفيف مجوف، وصدره مسطح يمكنه
من ركوب أمواج الهواء، وطبيعة أجنحته الخاصة تمنحه القوة الرافعة (1) التي
تساعده على الارتفاع، وكذلك الطبيعة الخاصة لذيل الطائر التي تعينه على تغيير
اتجاه طيرانه وسرعة التحول يمينا وشمالا وأعلى وأسفل (كذيل الطائرة)، وذلك
التناسق الموجود بين النظر وبقية الحواس التي تشترك جميعا في عملية
الطيران... وكل ذلك يعطي للطائر إمكانية الطيران السريع.
ثم إن طريقة تناسل الطير (وضع البيض)، وعملية تربية الجنين ونموه تجري
خارج رحم الأم مما يرفع عنها حالة الحمل والتي تعيق (بلا شك) عملية الطيران..
وثمة أمور كثيرة تعتبر من العوامل المؤثرة فيزيائيا في عملية الطيران.
وكل ما ذكر يكشف عن وجود علم وقدرة فائقين لخالق ومنظم بناء وحركة
هذه الكائنات الحية، وكما يقول القرآن: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.
إن عجائب الطيور لأكثر من أن تسطر في كتاب أو عدة كتب، فهناك مثلا
الطيور المهاجرة وما يكتنف رحلاتها من عجائب، وحياة هذه الطيور مبنية على
التنقل بين أرجاء المعمورة المختلفة حتى أنها لتقطع المسافة ما بين القطبين
الشمالي والجنوبي على طولها، وتعتمد في تعيين اتجاهات رحلاتها على إشارات
رمزية تمكنها من عبور الجبال والأودية والبحار، ولا يعيق تحركها رداءة الجو أو
حلكة الظلام في الليالي التي يتيه فيها حتى الإنسان وبما يملك.
ومن غريب ما يحدث في رجلاتها أنها: قد تنام أحيانا بين عباب السماء

1 - " القوة الرافعة ": اصطلاح فيزيائي حديث يستعمل في حقل الطائرات، وخلاصته: أن الجسم إذا كان له سطحين متفاوتين
بالاستواء (كجناح الطائرة حيث سطحه الأسفل مستويا والأعلى محدبا) وتحرك أفقيا فستتولد فيه قوة خاصة ترفعه إلى
الأعلى، تنشأ من ضغط الهواء على سطحه الأسفل والذي يكون أكثر منه على السطح الأعلى، لأن الأسفل مساحته أصغر،
والسطح العلوي أوسع مساحة، وهذا ما تعتمد عليه حركة الطائرات.. وإذا ما دققنا النظر في أجنحة الطيور فسنرى هذه الظاهرة
بوضوح - فتأمل.
وعموما، ينبغي القول: ما بناء الطائرات إلا تقليد لأجسام الطيور في جوانب مختلفة!
278

وهي طائرة! وقد تستغرق بعض رحلاتها عدة أسابيع دون توقف ليل نهار وبدون
أن يتخلل تلك المدة أية فترة لتناول الطعام! حيث أنها تناولت الطعام الكافي قبل
بدأها حركة الرحيل (بإلهام داخلي) ويتحول ذلك الطعام إلى دهون تدخرها في
أطراف بدنها!
وثمة أسرار كثيرة تتعلق في: بناء الطير لعشه، تربية أفراخه، كيفية التحصن من
الأعداء، كيفية تحصيل الغذاء اللازم، تعاون الطيور فيما بينها بل ومع غير جنسها
أيضا... إلخ، ولكل مما ذكر قصة طويلة.
نعم، وكما تقول الآية المباركة: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.
3 2 - ترابط الآيات:
لا شك أن هناك ترابطا بين الآية أعلاه والتي تتحدث عن كيفية طيران الطيور
وما قبلها من الآيات يتمثل في الحديث عن نعم الله عز وجل في عالم الخليقة،
وعن أبعاد عظمته وقدرته سبحانه وتعالى، ولكن لا يبعد أن يكون ذكر تحليق
الطيور بعد ذكر آلات المعرفة يحمل بين طياته إشارة لطيفة في تشبيه تحليق هذه
الطيور في العالم المحسوس بتحليق الأفكار في العالم غير المحسوس، فكل منها
يحلق في فضائه الخاص وبما لديه من آلات.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في خطبته الشقشقية: " ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي
الطير ".
وكذا في كلماته (عليه السلام) القصار في بيان فضيلة مالك الأشتر (رحمه الله)، ذلك القائد
الشجاع: " لا يرتقيه الحافر، ولا يوفي عليه الطائر " (1).
وعد في هذه السورة خمسين نعمة كلها تدعو إلى معرفة الله جل وعلا

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 443.
279

وتدفع إلى شكره، ولذلك ذهب البعض لتسميتها ب‍ (سورة النعم).
وتستمر الآيات في الإشارة إلى النعم الإلهية حتى نصل إلى الآية الثالثة
(مورد البحث) لتقول: والله جعل لكم من بيوتكم سكنا.
وحقا إن هذه النعمة المباركة من أهم النعم، فلولاها لم يمكن التمتع بغيرها.
" البيوت ": جمع بيت، مأخوذ من (البيتوتة): وهي في الأصل بمعنى التوقف
ليلا، وأطلقت كلمة (بيت) على الحجرة أو الدار لحصول الاستفادة منهما للسكن
ليلا.
ويلزمنا هنا التنويه بالملاحظة التالية: إن القرآن الكريم لم يقل: إن الله جعل
بيوتكم سكنا لكم، وإنما ذكر كلمة (من) التبعيضية أولا وقال: من بيوتكم
وذلك لدقة كلام الله التامة في التعبير، حيث أن الدار أو الحجرة الواحدة تلحقها
مرافق أخرى كالمخزن والحمام وغيرها.
وبعد أن تطرق القرآن الكريم إلى ذكر البيوت الثابتة عرج على ذكر البيوت
المتنقلة فقال: وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا (1).
وهي من الخفة بحيث تستخفونها يوم ظعنكم - أي رحيلكم - ويوم
إقامتكم.
بل وجعل لكم: ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى
حين.
وكما هو معلوم فإن الشعر الذي يحمله بدن الحيوان بعضه خشن تماما كشعر
الماعز ويطلق عليه (شعر)، وجمعه (أشعار)، وبعضه الآخر أقل خشونة بقليل وهو
(الصوف) وجمعه (أصواف)، (والوبر) أقل نعومة من الصوف وجمعه (أوبار)،

1 - إن صناعة الخيام من الجلود قليلة في عصرنا المعاش، ولكن الآية المباركة أرادت أن تظهر أن هذا النوع من الخيام كان من
أفضل الأنواع في تلك الأزمان، واختص بالذكر دون بقية الأنواع ربما لكونها أكثر مأمنا أمام عواصف الصحراء الحارقة في
الحجاز.
280

وبديهي أن الاختلاف الحاصل في طبيعته وخشونته يؤدي إلى تنوع الاستفادة
منها، فمن بعضها تصنع الخيام، ومن البعض الآخر يصنع اللباس، ومن الثالث
الفرش وهكذا...
أما عن المقصود ب‍ " الأثاث " و " المتاع " في الآية فقد ذكر المفسرون لذلك
جملة احتمالات.
قال بعضهم: " الأثاث " بمعنى الوسائل المنزلية، وهي في الأصل من (أث)
بمعنى الكثرة والتجمع، وأطلقت على الوسائل والأدوات المنزلية لكثرتها عادة.
ويطلق " المتاع " على كل ما يتمتع به الإنسان ويستفيد منه (فالمصطلحان
إشارة إلى شئ واحد من جهتين مختلفتين).
ومع ملاحظة ما ذكر فاستعمال المصطلحين على التوالي يمكن أن يشير إلى
هذا المعنى: إنكم تستطيعون أن تهيئوا من أصوافها وأوبارها وأشعارها وسائل
بيتية كثيرة تتمتعون بها.
واحتمل البعض ومنهم " الفخر الرازي ": " الأثاث " بمعنى الأغطية والملابس،
و " المتاع بمعنى الفرش، إلا أنه لم يذكر أي دليل لتفسيره.
واحتمل " الآلوسي " في (روح المعاني): " الأثاث " إشارة إلى الوسائل
المنزلية، و " المتاع " إشارة إلى الوسائل المستخدمة في التجارة.
ويبدو أن ما قلناه أولا أقرب من الجميع.
وذكرت وجوه عديدة في تفسير إلى حين ولكن الظاهر من مقصودها
هو: استفيدوا من هذه الوسائل في هذا العالم حتى نهاية الحياة فيه، وهو إشارة إلى
عدم خلود الحياة في هذا العالم وما فيه من وسائل ولوازم وأن كل ما فيه محدود.
3 3 - الظلال، المساكن، الأغطية:
ويشير القرآن الكريم إلى نعمة أخرى بقوله: والله جعل لكم مما خلق
281

ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا.
" الأكنان ": جمع (كن) بمعنى وسائل التغطية والحفظ، ولهذا فقد أطلقت على
المغارات وأماكن الاختفاء وفي الجبال.
ونرى إطلاق كلمة " الظلال " في الآية لتشمل كل الظلال، سواء كانت ظلال
الأشجار أو المغارات الجبلية أو ظل أي شئ آخر، باعتبارها إحدى النعم الإلهية
(وحقيقة الأمر كذلك)، فكما يحتاج الإنسان إلى النور في حياته فكثيرا ما يحتاج
إلى الظل كذلك، لأن النور إذا ما استمر في اشراقه فسوف تكون الحياة مستحيلة،
ويكفينا أن نلمس ما لظل الكرة الأرضية (والمسمى بالليل) على حياتنا، وكذلك
دور الظلال الأخرى خلال النهار في مختلف الأمكنة والحالات.
وكأن ذكر نعمة " الظلال " و " أكنان الجبال " بعد ذكر نعمة " المسكن "
و " الخيام " في الآية السابقة، للإشارة إلى: أن طوائف الناس لا تخرج عن إحدى
ثلاثة.. واحدة تعيش في المدن والقرى وتستفيد من بناء البيوت لسكناها،
وأخرى تعيش الترحال والتنقل فتحمل معها الخيام، وثالثة أولئك الذين يسافرون
وليس معهم مستلزمات المأوى.. ولم يترك الباري جل شأنه المجموعة الثالثة
تعيش حالة الحيرة من أمرها، بل في طريقهم الظلال والمغارات لتقيهم.
وقد لا يدرك سكنة المدن ما لوجود المغارات الجبلية من أهمية، ولكن
عابري الصحاري والمسافرين العزل والرعاة وكل من حرم من نعمة البيوت
الثابتة أو السيارة (مؤقتا أو دائما) عندما يكونون تحت سطوة حرارة الصيف
اللاهبة أو تحت وطأة زمهرير الشتاء القارص، سيعرفون عندها أهمية تلك
المغارات، وخصوصا كونها باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، وهي ملاذ ينجي
من موت قريب - في بعض الأحيان - للإنسان أو الحيوانات.
وبعد ذكر القرآن الكريم لنعمة الظلال الطبيعية والصناعية، ينتقل لذكر
ملابس الإنسان فيقول: وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر، وثمة ألبسة أخرى
282

تستعمل لحفظ أبدانكم في الحروب وسرابيل تقيكم بأسكم.
" السرابيل ": جمع " سربال " (على وزن مثقال)، بمعنى الثوب من أي جنس
كان (على ما يقول الراغب في مفرداته)، ويؤيده في ذلك أكثر المفسرين، ولكن
البعض منهم قد اعتبر معنى السربال هو: لباس وغطاء لبدن الإنسان، إلا أن
المشهور هو المعنى الأول.
وكما هو معلوم، فإن فائدة الألبسة لا تنحصر في حفظ الإنسان من الحر
والبرد، بل تلبس الإنسان ثوب الكرامة وتقي بدنه من الأخطار الموجهة إليه، فلو
تعرى الإنسان لكان أكثر عرضه للجراحات وما شابهها، واستناد الآية المباركة
على الخاصية الأولى دون غيرها لأهميتها المميزة.
ولعل ذكر خصوص الحر في الآية جاء تماشيا مع ما شاع في لغة العرب من
ذكر أحد المتضادين اختصارا، فيكون الثاني واضحا بقرينة وجود الأول، أو لأن
المنطقة التي نزل فيها القرآن الكريم كان دفع الحر فيها ذا أهمية بالغة عند أهلها.
وثمة احتمال آخر: أن يكون ذلك بلحاظ خطورة الإصابة بمرض ضربة
الشمس المعروفة، وبتعبير آخر: إن تحمل الإنسان لحر أشعة الشمس الشديدة أقل
من تحمله ومقاومته للبرد، لأن حرارة البدن الداخلية يمكن لها أن تعين الإنسان
على تحمل البرودة لحد ما.
وفي ذيل الآية.. يقول القرآن مذكرا: كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم
تسلمون أي تطيعون أمره.
وطبيعي جدا أن يفكر الإنسان بخالق النعم، خصوصا عند تنبهه للنعم
المختلفة التي تحيط بوجوده، وأن ضميره سيستيقظ ويتجه نحو المنعم قاصدا
زيادة معرفته به إذا ما امتلك أدنى درجات حسن الشكر.
ومع أن بعض المفسرين قد حصروا لكلمة " النعمة " في الآية ببعض النعم:
كنعمة الخلق، وتكامل العقل، أو التوحيد، أو نعمة وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن معنى
283

الكلمة أوسع من ذلك، ليشمل كل النعم (المذكور منها أو غير المذكور)، وما
التخصيص في حقيقته إلا من قبيل التفسير بالمصداق الواضح.
وبعد ذكر هذه النعم الجليلة.. يقول عز وجل أنهم لو اعرضوا ولم يسلموا
للحق فلا تحزن ولا تقلق، لأن وظيفتك ابلاغهم: فأن تولوا فإنما عليك البلاغ
المبين.
ومع كل ما يمتلكه المتكلم من منطق سليم ومدعم بالاستدلال الحق
والجاذبية، إلا أنه لا يؤثر في المخاطب مالم يكن مستعدا لاستماع وقبول كلام
المتكلم، وبعبارة أخرى: إن (قابلية المحل) شرط في حصول التأثر.
وعلى هذا، فإن لم يسلم لك أصحاب القلوب العمياء ومن امتاز بالتعصب
والعناد، فذلك ليس بالأمر الجديد، وما عليك إلا أن تصدع ببلاغ مبين وأن لا
تقصر في ذلك والمراد من هذا المقطع القرآني هو مواساة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسليته.
وتكميلا للحديث.. يضيف القرآن الكريم القول: يعرفون نعمه الله ثم
ينكرونها.
فعلة كفرهم ليست في عدم معرفتهم بالنعم الإلهية وإنما بحملهم تلك الصفات
القبيحة التي تمنعهم من الإيمان كالتعصب الأعمى والعناد في معاداة الحق،
وتقديم منافعهم المادية على كل شئ، وتلوثهم بمختلف الشهوات، بالإضافة إلى
مرض التكبر الغرور.
ولعل ما جاء في آخر الآية وأكثرهم الكافرون إشارة لهذه الأسباب
المذكورة.
وقد جذبت كلمة " أكثرهم " انتباه واهتمام المفسرين وراحوا يبحثون في
سبب ذكرها... حتى توصل المفسرون إلى أسباب كثيرة كل حسب زاوية اهتمامه
في البحث، ولكن ما ذكرناه يبدو أقرب من كل ما ذكروه، وخلاصته: إن أكثرية
284

الكفار هم من أهل التعصب والعناد، والذين كفروا نتيجة جهلهم أو غفلتهم
فهم القلة قياسا إلى أولئك.
ويشاهد في القرآن الكريم مقاطع قرآنية تطلق الكفر على ذلك النوع
الناشئ من التكبر والعناد، ومنها ما يتحدث عن الشيطان كما جاء في الآية (34)
من سورة البقرة أبى واستكبر وكان من الكافرين.
واحتمل البعض: أن المقصودين ب‍ " أكثرهم " من تمت عليهم الحجة في قبال
أقلية لم تتم عليهم الحجة بعد، وهذا المعنى يمكن أن يعود إلى المعنى الأول.
* * *
2 بحثان
3 1 - كلمات المفسرين
ما نطالعه في كلمات المفسرين المتعددة بخصوص تفسير نعمة الله في
الآية لا يعدو غالبا من قبيل التفسير بالمصداق، في حين أن مفهوم " نعمة الله " من
السعة بحيث يشمل جميع النعم المادية والمعنوية، حتى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتبر أحد
المصاديق الحية لنعمه سبحانه وتعالى.
وروايات أهل البيت (عليهم السلام) تؤكد على أن المقصود ب‍ " نعمة الله " هو وجود
الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " نحن والله نعمة الله التي أنعم بها
على عباده، وبنا فاز من فاز " (1).
فواضح أن السعادة والنجاح لا يمكن إدراكهما إلا عن طريق قادة الحق وهم

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 72.
285

الأئمة عليهم السلام فوجودهم إذن من أوضح وأفضل النعم الإلهية (وقد
ذكر هنا لأنه أحد المصاديق الجلية لنعم الله سبحانه).
3 2 - صراع الحق مع الباطل
لقد توقف بعض المفسرين عند كلمة " ثم " من قوله تعالى: يعرفون نعمة
الله ثم ينكرونها، لأن استعمالها عادة كأداة عطف مع وجود فاصلة بين أمرين،
ولذلك فثمة فاصلة بين معرفتهم لنعم الله وبين إنكارهم للنعم، فقالوا: إن الهدف
من هذا التعبير تبيان ما ينبغي عليهم من الاعتراف بالتوحيد بعد معرفتهم بنعمة
الله، وكان عليهم أن يذعنوا لذلك الاعتراف، إلا أنهم ساروا في طريق الباطل!
فاستبعد القرآن عملهم وعبر عن ذلك بكلمة " ثم ".
ونحتمل أن " ثم " هنا إشارة إلى معنى خفي، خلاصته: أن دعوة الحق عندما
تتوغل إلى دواخل الروح الإنسانية عن طريق أصولها المنطقية السليمة، فإنها
ستصطدم مع عوامل السلب والإنكار الموجود فيه أحيانا، فيستغرق ذلك الجدال
أو الصراع الداخلي مدة تتناسب مع حجم قوة وضعف تلك العوامل، فإن كانت
عوامل النهي والإنكار أقوى فإنها ستغلبها بعد مدة.. وعبر القرآن عن تلك الحالة
بكلمة " ثم ".
والآيتان (64 و 65)، من سورة الأنبياء ضمن عرضهما لقصة إبراهيم (عليه السلام)
تتحدثان عن قوة احتجاج نبي الله إبراهيم (عليه السلام) بعد أن حطم أصنامهم جميعها إلا
كبيرها مما تركهم في الوهلة الأولى يغوصون في تفكير عميق، مما حدا بهم لأن
يلوموا أنفسهم وكادوا أن يهتدوا إلى الحق لولا وجود تلك الرواسب من العوامل
السلبية في نفوسهم (التعصب، الكبر، العناد) التي أمالت كفة انحرافهم على قبول
دعوة الحق، فعادوا من جديد إلى ما كانوا عليه، ولوصف تلك الحالة نرى القرآن
قد استعمل كلمة " ثم " أيضا: فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم
نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
286

وعلى هذا فمعنى " الكافرون " يتوضح بشكل أدق عند وجود كلمة " ثم ".
* * *
287

2 الآيات
ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا
ولا هم يستعتبون (84) وإذا رأى الذين ظلموا العذاب
فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون (85) وإذا رأى الذين أشركوا
شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من
دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون (86) وألقوا إلى الله
يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون (87) الذين كفروا
وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا
يفسدون (88) ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم
وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتب تبينا
لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89)
2 التفسير
3 عندما تغلق الأبواب أمام المجرمين:
بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة جحود منكري الحق وعدم
288

اعترافهم بالنعم الإلهية، يتطرق في هذه الآيات إلى جانب من العقاب الإلهي
الشديد الذي ينتظر أولئك في عالم الآخرة، لينبه الغافل من سباته، فعسى أن يعيد
النظر في مواقفه المنحرفة قبل فوات الأوان، فيقول أولا: ويوم نبعث من كل
أمة شهيدا (1).
وهل ثمة حاجة إلى شاهد مع وجود علم الله المطلق؟
قد يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال عند قراءة الآية، وتتضح الإجابة على
ذلك من خلال التدقيق في الملاحظة التالية: إن الأمور غالبا ما يقصد فيها الجانب
النفسي والروحي، والإنسان كلما أيقن بوجود الشهود والمراقبين عليه من قبل
الله سبحانه ازداد في محاسبة نفسه، وأقل ما يمكن أن يذكر بهذا الصدد ما سيصيبه
من خجل يوم مواجهتهم مع ما اقترفت يداه.
وبخصوص تلك المحكمة، تأتي الآية لتقول: ثم لا يؤذن للذين كفروا.
وهل من الممكن أن لا يأذن الله للمجرمين في الدفاع عن أنفسهم؟
نعم، وذلك لعدم الحاجة للسان في ذلك اليوم العظيم، لأن الجوارح من رجل
وأذن وعين وكذلك الجلد، بل وحتى الأرض التي أطاع الإنسان عليها أو عصى،
كلها ستشهد عليه، ويمكن استفادة هذا المعنى من آيات قرآنية أخرى كالآية
(65) من سورة يس والآية (36) من سورة المرسلات.
بل ويزاد على عدم السماح لهم بالكلام ب‍ ولا هم يستعتبون (2).
لأن هناك محل مواجهة نتائج الأعمال وليس يوم العمل والإصلاح، وهم
حينها كالثمرة المقطوفة التي انتهى زمن نموها.

1 - أل‍ " يوم " هنا ظرف متعلق بفعل مقدر، وأصل العبارة: (وليذكروا) أو (واذكروا).
2 - يستعتبون: من الاستعتاب، وهي في الأصل من (العتاب) وهو التحدث بلهجة شديدة ولوم، فيكون مفهوم الاستعتاب،: أن
يطلب المذنب من صاحب الحق عقابه فيصبح سببا لسكون غضبه وحصول رضاه، ولهذا اعتبر البعض، أن الاستعتاب بمعنى
الاسترضاء.. في حين أن حقيقة مفهومه ليس الاسترضاء وإنما هو لازم له.
289

وتشرح الآية التالية حال الظالمين بعد انتهاء مرحلة حسابهم ودخولهم في
العذاب، وكيف أنهم يطلبون تخفيف شدة العذاب تارة، ويطلبون إمهالهم مدة تارة
أخرى، فتقول: وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم
ينظرون.
والآيتان أشارتا إلى أربع مراحل لأهوال المجرمين (وهو ما نشاهد شبيهه
في حياتنا الدنيا):
المرحلة الأولى: سعي المجرم للتنصل والتزوير لتبرئة نفسه، وإن لم يحصل
على هدفه يسعى إلى المرحلة التالية.
المرحلة الثانية: يستعتب صاحب الحق ويمتص غضبه وصولا لرضاه، وإذا لم
ينفعه ذلك ينتقل إلى المرحلة الثالثة.
المرحلة الثالثة: يطلب تخفيف العذاب، فيقول: عاقبني ولكن خفف العذاب!
وإن لم يستجاب له لعظم ذنبه فإنه سيطلب الطلب الأخير...
المرحلة الرابعة: يطلب الإمهال والتأجيل، وهو المحاولة الأخيرة للنجاة من
العقاب...
إلا أن القرآن الكريم يجيب عن طلبات المجرمين بعدم حصول إذن الدفاع
عنهم، ولا يمكنهم تحصيل رضا المولى جل وعلا، ولا يخفف عنهم العذاب، ولا
هم ينظرون، لأن أعمالهم من القباحة وذنوبهم من العظمة تسد كل أبواب
الاستجابة.
وفي الآية التالية.. يستمر الحديث عن عاقبة المشركين، وكيف أنهم
سيحشرون في جهنم مع ما أشركوا من معبوداتهم الحجرية والبشرية، فتقول الآية
المباركة واصفة حالهم: وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء
شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك، فهذه المعبودات هي التي وسوست لنا
للوقوع في درك العمل القبيح، وهي شريكنا في الجرم أيضا، فارفع عنا بعض
290

العذاب واجعله لها!
وعندها... تبدأ تلك الأصنام بالتكلم (بإذن الله): فألقوا إليهم القول إنكم
لكاذبون، فلم نكن شركاء لله، ومهما وسوسنا لكم فلا نستحق حمل بعض
أوزاركم.
* * *
وهنا ينبغي التذكير ببعض الملاحظات:
1 - إن استعمال كلمة " شركاءهم " بدلا من " شركاء الله " للدلالة على أن
الأصنام ما كانت في حقيقتها شريكة لله عز وجل، بل إن عبدة الأصنام والمشركين
هم الذين نسبوها بهذا النسب خيالا وكذبا، فمن الحري أن تنسب لهم وليس إلى
الله سبحانه.
ويؤيد ذلك ما مر علينا فيما سبق من تخصيص عبدة الأصنام بعض مواشيهم
ومحصولاتهم الزراعية مشاركة بينهم وبين الأصنام أي أنهم جعلوا الأصنام
شريكة لهم في هذه الانعام.
2 - يستفاد من الآية أن الأصنام تحضر عرصة يوم القيامة أيضا، وليس
المعبودات البشرية فقط كفرعون والنمرود.
والآية (98) من سورة الأنبياء: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب
جهنم تؤيد ذلك.
3 - وتظهر الآية قول المشركين يوم القيامة من أنهم كانوا يعبدون هذه
الأصنام: هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك وهذا القول يتضمن
صدقهم في قولهم فلا معنى لتكذيب الأصنام لهم في هذه المقولة.
ولكن من الممكن أن يكون التكذيب بمعنى عدم لياقة الأصنام لأن تكون
معبودة من دون الله. أو أن المشركين قد أضافوا جملة أخرى مفادها أن هذه
المعبودات قد دعتنا ووسوست لنا لنعبدها، فتكذبهم الأصنام بأنها لا تملك القدرة
291

أصلا على الوسوسة والإيحاء.
4 - لعل ورود جملة فألقوا إليهم القول بدل " قالوا لهم " لعدم قدرة
الأصنام على التكلم بنفسها، فيكون قولها عبارة عن إلقاء من قبل الله فيها، أي أن
الله عز وجل يلقي إليها، وهي بدورها تلقية إلى المشركين.
وتأتي الآية التالية لتبين أن الجميع بعد أن يقولوا كل ما عندهم، ويسمعوا
جواب قولهم، سيتوجهون إلى حالة أخرى... وألقوا إلى الله السلم (1)
مسلمين لله، مذعنين لعظمته جل وعلا، لأن غرور وتعصب الجاهلين قد أزيل
برؤية الحق الذي لا مفر من تصديقه والإذعان إليه.
وفي هذه الأثناء، وحيث كل شئ جلي كوضوح الشمس.. وضل عنهم
ما كانوا يفترون. فتبطل كذبتهم بوجود شريك لله، وكذلك يبطل ادعاؤهم
بشفاعة الأصنام لهم عند الله، عندما يلمسون عدم قدرة الأصنام للقيام بأي
عمل، بل ويرونها محشورة معهم في نار جهنم!.
وبهذا المقدار من الآيات كان الحديث منصبا حول انحراف المشركين
الضالين وغرقهم في درك الشرك، دون أن يدعوا الآخرين إلى ما هم فيه.. وبعد
ذلك ينتقل القرآن الكريم إلى الكافرين من الذين لم يكتفوا بأن يكونوا كافرين،
وإنما كانوا يبذلون أقصى جهودهم لإضلال الآخرين! فيقول: الذين كفروا
وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون.
فهم شركاء في جرم الآخرين إضافة لما عليهم من تبعات أعمالهم، لأنهم
كانوا عاملا مؤثرا للفساد على الأرض وإضلال خلق الله بالصد عن سبيله.
وذكرنا مرارا وانطلاقا من منطق الاجتماع الإسلامي أن من يسن سنة (حسنة
أم سيئة) فهو شريك العاملين بها ثوابا أو عقابا، والحديث المشهور يبين لنا هذا

1 - احتمل بعض المفسرين كصاحب الميزان: أن إظهار التسليم هنا كان من جانب عبدة الأصنام فقط دون الأصنام، ويؤيد
ذلك ما ورد في ذيل الآية.
292

المعنى بوضوح: " من استن بسنة عدل فاتبع كان له أجر من عمل بها من غير أن
ينتقص من أجورهم شئ ومن استن سنة جور فاتبع كان عليه مثل وزر من عمل
بها من غير أن ينتقص من أوزارهم شئ ".
وعلى أية حال، فالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة توضح مسؤولية
الرؤساء والموجهين أمام الله وأمام الناس.
وتتناول الآية أيضا مسألة وجود الشهيد في كل أمة (والذي ذكر قبل آيات
معدودة)، ولمزيد من التوضيح يقول القرآن الكريم: ويوم نبعث في كل أمة
شهيدا عليهم من أنفسهم.
ووجود هؤلاء الشهود، وعلى الخصوص من الأشخاص الذين ينهضون لهذه
المهمة من وسط نفس الأمم، لا يتعارض مع علم الله تعالى وإحاطته بكل شئ،
بل هو للتأكيد على مراقبة أعمال الناس، وللتنبيه على وجود المراقبة الدائمة
بشكل قطعي.
ومع أن عموم الحكم في هذه الآية يشمل المجتمع الإسلامي والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
إلا أن القرآن الكريم في مقام التأكيد قال: وجئنا بك شهيدا على هؤلاء.
وقيل إن المقصود ب‍ " هؤلاء " المسلمون الذين يعيشون في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الرقيب والناظر والشاهد على أعمالهم، ومن الطبيعي أن يكون ثمة
شخص آخر يأتي بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكمل طريقه فيكون شهيدا على الأمة (وهو من
وسطها)، وينبغي أن يكون طاهرا من كل ذنب وخطيئة، ليتمكن من إعطاء الشهادة
حقها.
ولهذا.. اعتمد بعض المفسرين (من علماء الشيعة والسنة) على كون الآية
بمثابة الدليل على وجود شاهد، حجة، عادل، في كل عصر وزمان. وضرورة
وجود الإمام المعصوم في كل زمان، وهذا المنطق يتفق مع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)
دون غيرهم من المذاهب الإسلامية.
293

ولعل لهذا السبب عرض الفخر الرازي في تفسيره عند مواجهته لهذا الإشكال
توجيها لا يخلو من إشكال أيضا حيث قال: (فحصل من هذا أن عصرا من
الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس، وذلك الشهيد لابد أن يكون غير جائز
الخطاء وإلا لافتقر إلى شهيد آخر، ويمتد ذلك إلى غير النهاية، وذلك باطل، فيثبت
أنه لابد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم، وذلك يقتضي أن يكون إجماع
الأمة حجة) (1).
لو أن الفخر الرازي تجاوز قليلا حدود عقائده لم يكن ليسقط في هكذا
تناقض وعناد فاحش. لأن القرآن يقول: يوم يبعث في كل أمة شهيدا عليهم
من أنفسهم وليس مجموع الأمة شاهدا على كل فرد من أفراد الأمة.
وكما ذكرنا عند تفسيرنا للآية (41) من سورة النساء أن هناك احتمالين
آخرين في تفسير " هؤلاء ":
الأول: أن " هؤلاء " إشارة إلى شهداء الأمم السابقة من الأنبياء (عليهم السلام)
والأوصياء، فيكون النبي شاهدا على هذه الأمة وشاهدا على الأنبياء السابقين
أيضا.
الثاني: المقصود من الشاهد هنا هو الشاهد العملي، أي: شخص يكون وجوده
قدوة وميزانا لتمييز الحق من الباطل.
(والمزيد من الإيضاح، راجع ذيل الآية (41) من سورة النساء).
وبما أن جعل الشاهد فرع لوجود برنامج كامل وجامع للناس بما تتم فيه
الحجة عليهم، ويصح فيه مفهوم النظارة والمراقبة، لذا يقول القرآن بعد ذلك
مباشرة: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى
للمسلمين.

1 - تفسير الفخر الرازي، ج 30، ص 98.
294

* * *
2 بحثان
3 1 - القرآن تبيان لكل شئ:
من أهم ما تطرقت له الآيات المباركات هو أن القرآن مبين لكل شئ.
" تبيان " (بكسر التاء أو فتحها) له معنى مصدري (1)، ويمكن الاستدلال
بوضوح على كون القرآن بيانا لكل شئ من خلال ملاحظة سعة مفهوم " كل
شئ "، ولكن بملاحظة أن القرآن كتاب تربية وهداية للإنسان وقد نزل للوصول
بالفرد والمجتمع - على كافة الأصعدة المادية والمعنوية - إلى حال التكامل
والرقي، يتضح لنا أن المقصود من " كل شئ " هو كل الأمور اللازمة للوصول إلى
طريق التكامل، والقرآن ليس بدائرة معارف كبيرة وحاوية لكل جزئيات العلوم
الرياضية والجغرافية والكيميائية والفيزيائية... الخ، وإنما القرآن دعوة حق لبناء
الإنسان، وصحيح أنه وجه دعوته للناس لتحصيل كل ما يحتاجونه من العلوم،
وصحيح أيضا أنه قد كشف الستار عن الكثير من الأجزاء الحساسة في جوانب
علمية مختلفة ضمن بحوثه التوحيدية والتربية، ولكن ليس ذلك الكشف هو
المراد، وإنما توجيه الناس نحو التوحيد والتربية الربانية التي توصل الإنسان إلى
شاطئ السعادة الحقة من خلال الوصول لرضوانه سبحانه.
ويشير القرآن الكريم تارة إلى جزئيات الأمور والمسائل، كما في بيانه
لأحكم كتابة العقود التجارية وسندات القرض، حيث ذكر (18) حكما في أطول
أية قرآنية وهي الآية (282) من سورة البقرة (2).

1 - نقل " الآلوسي " في (روح المعاني) عن بعض الأدباء: أن جميع المصادر على وزن (تفعال) تفتح تاؤها إلا مصدرين
" تبيان " و " تلقاء ". ويعتبرها بعض مصدرا، وبعض آخر يعتبرها اسم مصدر.
2 - راجع ذيل تفسير الآية (282) من سورة البقرة.
295

وتارة أخرى يعرض القرآن المسائل الحياتية للإنسان بصورها الكلية، كما
في الآية التي ستأتي قريبا، حيث يقول: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء
ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وكذلك عموم مفهوم الوفاء بالعهد في الآية (34) من سورة الإسراء: إن
العهد كان مسؤولا، وعموم مفهوم الوفاء بالعقد في الآية الأولى من سورة
المائدة: أوفوا بالعقود، ولزوم أداء حق الجهاد كما جاء في الآية (78) من
سورة الحج: وجاهدوا في الله حق جهاده وكمفهوم إقامة القسط والعدل كما
جاء في الآية (45) من سورة الحديد: ليقوم الناس بالقسط، وعموم مفهوم
رعاية النظم في كل الأمور في الآيات (7، 8، 9) من سورة الرحمن: والسماء
رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا
الميزان وعموم مفهوم الامتناع عن فعل الفساد في الأرض كما في الآية (85)
من سورة الأعراف: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، بالإضافة إلى
الدعوة للتدبر والتفكر والتعقل التي وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم،
وأمثال هذه التوجيهات العامة كثيرة في القرآن، لتكون للإنسان نبراسا وهاجا
في كافة مجالات الفكر والحياة والإنسان.. وكل ذلك يدلل بما لا يقبل التردد أو
الشك على أن القرآن الكريم فيه تبيان لكل شئ.
بل وحتى فروع هذه الأوامر الكلية لم يهملها الباري سبحانه، وإنما عين لها
من يؤخذ منه التفاصيل، كما تبين لنا ذلك الآية (7) من سورة الحشر: وما أتاكم
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.
والإنسان كلما سبح في بحر القرآن الكريم وتوغل في أعماقه، واستخرج
برامجا وتوجيهات توصله إلى السعادة، اتضحت له عظمة هذا الكتاب السماوي
وشموله.
ولهذا، فمن استجدى القوانين من ذا وذاك وترك القرآن، فهو لم يعرف
296

القرآن، وطلب من الغير ما هو موجود عنده.
وإضافة لتشخيص الآية المباركة مسألة أصالة واستقلال تعاليم الإسلام في
كل الأمور، فقد حملت المسلمين مسؤولية البحث والدراسة في القرآن الكريم
باستمرار ليتوصلوا لاستخراج كل ما يحتاجونه.
وقد أكدت الروايات الكثيرة على مسألة شمول القرآن ضمن تطرقها لهذه
الآية وما شابهها من آيات.
منها: ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن الله تبارك وتعالى أنزل في
القرآن تبيان كل شئ حتى والله ما ترك شيئا تحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع
عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه " (1).
وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " إن الله تبارك وتعالى لم
يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل لكل شئ
حدا، وجعل عليه دليلا يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا " (2).
وجاء في الروايات الشريفة الإشارة إلى هذه المسألة أيضا. وهي أنه مضافا
إلى ظواهر القرآن وما يفهمه منها العلماء وسائر الناس، فإن باطن القرآن بمثابة
البحر الذي لا يدرك غوره، وفيه من المسائل والعلوم ما لا يدركها إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأوصياؤه بالحق، ومن هذه الروايات ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " ما
من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عز وجل، ولكن لا تبلغه عقول
الرجال " (3).
إن عدم إدراك العامة لهذا القسم من العلوم القرآنية الذي يمكننا تشبيهه
ب‍ (عالم اللاشعور) لا يمنع من التحرك في ضوء (عالم الشعور) وعلى ضوء ظاهرة

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 74.
2 - المصدر السابق.
3 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 75.
297

والاستفادة منه.
3 2 - مراحل الهداية الأربع
إن الآية أعلاه ذكرت أربعة تعابير متلازمة حسب تسلسلها لتوضيح الهدف
من نزول القرآن:
1 - تبيانا لكل شئ.
2 - هدى.
3 - رحمة.
4 - بشرى للمسلمين.
ولو أمعنا النظر لوجدنا ثمة ارتباطا منطقيا واضحا بين هذه التعابير، فكل منها
يرمز إلى مرحلة معينة، المرحلة الأولى في مسير الهداية تستلزم البيان والتعليم،
وبعدها تأتي مرحلة الهداية، ومن ثم تأتي العمل الموجب للرحمة، وأخيرا
البشرى بثواب الله لمن آمن وعمل صالحا وسرور جميع السائرين على طريق
الحق.
* * *
298

2 الآية
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى
وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم
تذكرون (90)
2 التفسير
3 أكمل برنامج اجتماعي:
بعد أن ذكرت الآيات السابقة أن القرآن فيه تبيان لكل شئ، جاءت هذه
الآية المباركة لتقدم نموذجا من التعليمات الإسلامية في شأن المسائل
الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية، وقد تضمنت الآية ستة أصول مهمة، الثلاث
الأول منها ذات طبيعة إيجابية ومأمور بالعمل بها، والبقية ذات صفة سلبية منهي
عن ارتكابها.
فتقول في البدء: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.
وهل يمكن تصور وجود قانون أوسع وأشمل من " العدل "؟!
فالعدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود، وحتى
السماوات والأرض فهي قائمة على أساس العدل بالعدل قامت السماوات
299

والأرض.
والمجتمع الإنساني الذي هو جزء صغير في كيان هذا الوجود الكبير، لا
يقوى أن يخرج عن قانون العدل، ولا يمكن تصور مجتمع ينشد السلام يحظى
بذلك دون أن تستند أركان حياته على أسس العدل في جميع المجالات.
ولما كان المعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شئ في مكانه المناسب،
فالانحراف والإفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدي على حقوق الآخرين، ما
هي إلا صور لخلاف أصل العدل.
فالإنسان السليم هو ذلك الذي تعمل جميع أعضاء جسمه بالشكل الصحيح
(بدون أية زيادة أو نقصان). ويحل المرض فيه وتتبين عليه علائم الضعف
والخوار بمجرد تعطيل أحد الأعضاء، أو تقصيره في أداء وظيفته.
ويمكن تشبيه المجتمع ببدن إنسان واحد، فإنه سيمرض ويعتل إن لم يراع
فيه العدل.
ومع ما للعدالة من قدرة وجلال وتأثير عميق في كل الأوقات - الطبيعية
والاستثنائية - في عملية بناء المجتمع السليم، إلا أنها، ليست العامل الوحيد الذي
يقوم بهذه المهمة، ولذلك جاء الأمر ب‍ " الإحسان " بعد " العدل " مباشرة ومن غير
فاصلة.
وبعبارة أوضح: قد تحصل في حياة البشرية حالات حساسة لا يمكن معها
حل المشكلات بالاستعانة بأصل العدالة فقط، وإنما تحتاج إلى إيثار وعفو
وتضحية، وذلك ما يتحقق برعاية أصل " الإحسان ".
وعلى سبيل المثال: لو أن عدوا غدارا هجم على مجتمع ما، أو وقعت زلزلة
أو فيضان أو عواصف في بعض مناطق البلاد، فهل من الممكن معالجة ذلك
بالتقسيم العادل لجميع الطاقات والأموال، وتنفيذ سائر القوانين العادية؟! هنا لابد
من تقديم التضحية والبذل والإيثار لكل من يملك القدرة المالية، الجسمية،
300

الفكرية، لمواجهة الخطر وإزالته، وإلا فالطريق مهيأ أمام العدو لإهلاك المجتمع
كله، أو أن الحوادث الطبيعية ستدمر أكبر قدر من الناس والممتلكات.
والأصلان يحكمان نظام بدن الإنسان أيضا بشكل طبيعي، ففي الأحوال
العادية تقوم جميع الأعضاء بالتعاضد فيما بينها، وكل منها يؤدي ما عليه من
وظائف بالاستعانة بما تقوم به بقية الأعضاء (وهذا هو أصل العدالة).
ولكن.. عندما يصاب أحد الأعضاء بجرح أو عطل يسبب في فقدانه القدرة
على أداء وظيفته، فإن بقية الأعضاء سوف لن تنساه، لأنه توقف عن عمله، بل
تستمر في تغذيته ودعمه... الخ، (وهذا هو الإحسان).
وفي المجتمع كذلك، حيث ينبغي للمجتمع السليم أن يحكمه هذان الأصلان.
وما جاء في الروايات وفي أقوال المفسرين، من بيانات مختلفة في الفرق
بين العدل والإحسان، لعل أغلبها يشير إلى ما قلناه أعلاه.
فعن علي (عليه السلام) أنه قال: " العدل: الإنصاف، والإحسان: التفضل " (1) وهذا ما
أشرنا إليه.
وقال البعض: إن العدل: أداء الواجبات، والإحسان: أداء المستحبات.
وقال آخرون: إن العدل: هو التوحيد، والإحسان: هو أداء الواجبات.
(وعلى هذا التفسير يكون العدل إشارة إلى الاعتقاد، والإحسان إشارة إلى
العمل).
وقال بعض: العدالة: هي التوافق بين الظاهر والباطن، والإحسان: هو أن
يكون باطن الإنسان أفضل من ظاهره.
واعتبر آخرون: أن العدالة ترتبط بالأمور العملية، والإحسان بالأمور،
الكلامية.

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 231.
301

وكما قلنا فإن بعض هذه التفاسير ينسجم تماما مع التفسير الذي قدمناه
أعلاه، وبما أن البعض الآخر لا ينافيه فيمكن والحال هذه الجمع بينهما.
أما مسألة إيتاء ذي القربى فتندرج ضمن مسألة " الإحسان " حيث أن
الإحسان يشمل جميع المجتمع، بينما يخص هذا الأمر جماعة صغيرة من
المجتمع الكبير وهم ذوو القربى، وبلحاظ أن المجتمع الكبير يتألف من
مجموعات، فكلما حصل في هذه المجموعات انسجام أكثر، فإن أثره سيظهر
على كل المجتمع، والمسألة تعتبر تقسيما صحيحا للوظائف والمسؤوليات بين
الناس، لأن ذلك يستلزم من كل مجموعة أن تمد يد العون إلى أقربائها (بالدرجة
الأولى) مما سيؤدي لشمول جميع الضعفاء والمعوزين برعاية واهتمام
المتمكنين من أقربائهم.
وعلى ما نجده في بعض الأحاديث من أن المقصود ب‍ " ذي القربى " هم أهل
بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذريته من الأئمة (عليهم السلام)، والمقصود ب‍ إيتاء ذي القربى هو أداء
الخمس، فإنه لا يقصد منه تحديد مفهوم الآية أبدا، بل هو أحد مصاديق المفهوم
الواضحة، ولا يمنع إطلاقا من شمول مفهوم الآية الواسع.
لو اعتبرنا مفهوم " ذي القربى " بمعنى مطلق الأقرباء، سواء كانوا أقرباء العائلة
والنسب، أو أقرباء من وجوه أخرى، فسيكون للآية مفهوم أوسع ليشمل حتى
الجار والأصدقاء وما شابه ذلك (ولكن المعروف في ذلك قربى النسب).
ولإعانة المجموعات الصغيرة (الأقرباء) بناء محكم من الناحية العاطفية،
إضافة لما لها من ضمانة تنفيذية.
وبعد ذكر القرآن الكريم للأصول الإيجابية الثلاثة يتطرق للأصول المقابلة
لها (السلبية) فيقول: وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وتحدث المفسرون كثيرا حول المصطلحات الثلاثة " الفحشاء "، " المنكر "،
" البغي "، إلا أن ما يناسب معانيها اللغوية بقرينة مقابلة الصفات مع بعضها الآخر
302

يظهر أن " الفحشاء ": إشارة إلى الذنوب الخفية، و " المنكر ": إشارة إلى الذنوب
العلنية، و " البغي ": إشارة إلى كل تجاوز عن حق الإنسان، وظلم الآخرين
والاستعلاء عليهم.
قال بعض المفسرون (1): إن منشأ الانحرافات الأخلاقية ثلاث قوى: القوة
الشهوانية، القوة الغضبية، والقوة الوهمية الشيطانية.
أما القوة الشهوانية فإنما ترغب في تحصيل اللذائذ الشهوانية والغرق في
الفحشاء، والقوة الغضبية تدفع الإنسان إلى فعل المنكرات وإيذاء سائر الناس،
وأما القوة الوهمية الشيطانية فتوجد في الإنسان الإستعلاء على الناس والترفع
وحب الرياسة والتقدم والتعدي على حقوق الآخرين.
وأشار الباري سبحانه في المصطلحات الثلاثة أعلاه إلى طغيان غرائز
الإنسان، ودعا إلى طريق الحق والهداية ببيان جامع لكل الانحرافات الأخلاقية.
وفي آخر الآية المباركة يأتي التأكيد مجددا على أهمية هذه الأصول الستة:
يعظكم لعلكم تذكرون.
3 أشمل آيات الخير والشر:
إن محتوى هذه الآية المباركة له من قوة التأثير ما جعل كثيرا من الناس
يصبحون مسلمين على بينة من أمرهم، وها هو " عثمان بن مظعون " أحد أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: (كنت أسلمت استحياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكثرة ما
كان يعرض علي الإسلام، ولم يقر الإسلام في قلبي، فكنت ذات يوم عنده حال
تأمله، فشخص بصره نحو السماء كأنه يستفهم شيئا، فلما سري عنه سألته عن
حاله فقال: نعم، بينا أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية إن

1 - التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 20، ص 104.
303

الله يأمر بالعدل والإحسان وقرأها علي إلى آخرها، فقر الإسلام في قلبي.
وأتيت عمه أبا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش، اتبعوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ترشدوا،
فإنه لا يأمركم إلا بمكارم الأخلاق، وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه
الآية فقال: إن كان محمد قاله فنعم ما قال، وإن قاله ربه فنعم ما قال) (1).
ونقرأ في حديث آخر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة
فقال: (يا ابن أخي (2) أعد، فأعاد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الوليد: إن له لحلاوة، وإن عليه
لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسلفه لمغدق، وما هو قول البشر) (3).
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " جماع التقوى في قوله تعالى: إن الله يأمر
بالعدل والإحسان (4).
ونستفيد من هذه الأحاديث - وأحاديث أخرى أن الآية تعتبر دستور عمل
إسلامي عام، وتمثل أحد مواد القانون الأساسي للإسلام في كل زمان ومكان،
حتى روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه كان يقرأ الآية المباركة قبل الانتهاء من خطبة
الجمعة ثم يقول بعدها: " اللهم اجعلنا ممن يذكر فتنفعه الذكرى " (5) ثم ينزل من
على المنبر.
فإحياء الأصول الثلاثة " العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى "، ومكافحة
الانحرافات الثلاث " الفحشاء والمنكر، والبغي " على صعيد العالم كفيل بأن يجعل
الدنيا عامرة بالخير، وهادئة من كل اضطراب، وخالية من أي سوء وفساد، وإذا
روي عن ابن مسعود (الصحابي المعروف) قوله: (هذه الآية أجمع آية في كتاب
الله للخير والشر) فهو للسبب الذي ذكرناه.

1 - مجمع البيان، ذيل تفسير الآية مورد البحث.
2 - قال هذا لأنه عم أبي جهل وكلاهما من قريش.
3 - مجمع البيان: ذيل تفسير الآية مورد البحث.
4 - نور الثقلين، ج 3، ص 78.
5 - الكافي على ما نقل عنه تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 77.
304

ويذكرنا محتوى الآية المباركة بالحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله:
" صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي، وإذا فسدا فسدت أمتي، فقيل: يا رسول
الله، من هما؟ قال: الفقهاء والأمراء ".
وذكر المحدث القمي في (سفينة البحار) حديثا بعد نقله لهذا الحديث مرويا
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " تكلم النار يوم القيامة ثلاثة: أميرا، وقارئا، وذا
ثروة من المال، فتقول للأمير: يا من وهب الله له سلطانا فلم يعدل، فتزدرده كما
تزدرد الطير حب السمسم، وتقول للقارئ: يا من تزين للناس وبارز الله
بالمعاصي، فتزدرده، وتقول للغني: يا من وهب الله له دنيا كثيرة واسعة فيضا
وسأله الحقير اليسير قرضا، فأبى إلا بخلا، فتزدرده؟
وقد بحثنا موضوع العدالة باعتبارها ركنا إسلاميا مهما جدا ضمن تفسيرنا
للآية (8) من سورة المائدة.
* * *
305

2 الآيات
وأوفوا بعهد الله إذا عهدتم ولا تنقضوا الأيمن بعد
توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما
تفعلون (91) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكثا
تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة
إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيمة ما كنتم فيه
تختلفون (92) ولو شاء الله لجعلكم أمة وحدة ولكن يضل
من يشاء ويهدى من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون (93)
ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها
وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب
عظيم (94)
2 سبب النزول
يقول المفسر الكبير العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) في شأن نزول أول
306

آية من هذه الآيات أنها نزلت في الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الإسلام (وكان من
المحتمل أن ينقض بعضهم البيعة لقلة المسلمين وكثرة الأعداء)، فقال سبحانه
مخاطبا لهم لا يحملنكم قلة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة).
2 التفسير
3 الوفاء بالعهد دليل الإيمان:
بعد أن عرض القرآن الكريم في الآية السابقة بعض أصول الإسلام الأساسية
(العدل، والإحسان، وما شابههما)، يتناول في هذه الآيات قسما آخر من تعاليم
الإسلام المهمة (الوفاء بالعهد والأيمان).
يقول أولا: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ثم يضيف: ولا تنقضوا
الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون.
إن ظاهر معنى " عهد الله " - مع كثرة ما قال المفسرون فيه - هو: العهود التي
يبرمها الناس مع الله تعالى (وبديهي أن العهد مع النبي عهد مع الله أيضا)، وعليه
فهو يشمل كل عهد إلهي وبيعة في طريق الإيمان والجهاد وغير ذلك.
بل إن التكاليف الشرعية التي يعلنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي من نوع من العهد الإلهي
الضمني، وكذا الحال بالنسبة للتكاليف العقلية، لأن إعطاء العقل والإدراك من الله
عز وجل للإنسان إنما يرافقه عهد ضمني، وهكذا يدخل الجميع في المفهوم الواسع
لعهد الله.
أما مسألة " الأيمان " (جمع يمين، أي: القسم) التي وردت في الآية - والتي
عرض فيها المفسرون آراء كثيرة - فلها معنى واسع، ويتضح ذلك عند ملاحظة
مفهوم الجملة حيث أنه يشمل العهود التي يعقدها الإنسان مع الله عز وجل،
بالإضافة إلى ما يستعمله من أيمان في تعامله مع خلق الله.
وبعبارة أخرى: يدخل بين إطار هذه الجملة كل عهد يبرم تحت اسم الله
307

وباستعمال صيغة القسم، وما يؤكد ذلك ما تبعها من عبارة تفسيرية تأكيدية وقد
جعلتم الله عليكم كفيلا.
ونتيجة القول: أن جملة أوفوا بعهد الله خاصة، وجملة لا تنقضوا
الأيمان عامة.
وحيث أن الوفاء بالعهد أهم الأسس في ثبات أي مجتمع كان، تواصل الآية
التالية ذكره بأسلوب يتسم بنوع من اللوم والتوبيخ، فتقول: ولا تكونوا كالتي
نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا (1).
والآية تشير إلى (رايطة) تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهلية،
وكانت هي وعاملاتها يعملن من الصباح حتى منتصف النهار في غزل ما عندهن
من الصوف والشعر، وبعد أن ينتهين من عملهن تأمرهن بنقض ما غزلن، ولهذا
عرفت بين قومها ب‍ (الحمقاء).
فما كانت تقوم به (رايطة) لا يمثل عملا بالا ثمر - فحسب - بل هو الحماقة
بعينها، وكذا الحال بالنسبة لمن يبرم عهدا مع الله وباسمه، ثم يعمل على نقضه، فهو
ليس بعابث فقط، وإنما هو دليل على انحطاطه وسقوط شخصيته.
ثم يضيف القرآن الكريم قائلا: تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون
أمة هي أربى من أمة (2)، أي لا تنقضوا عهودكم مع الله بسبب أن تلك
المجموعة أكبر من هذه فتقعوا في الخيانة الفساد.
وهذا دليل على ضعف شخصية الفرد، أو نفاقه وخيانته حينما يرى كثرة أتباع

1 - " أنكاث ": جمع (نكث) على وزن (قسط) بمعنى حل خيوطه الصوف والشعر بعد برمها، وتطلق أيضا على اللباس الذي
يصنع من الصوف والشعر، وأما محل إعرابها في الآية فهو (حال) للتأكيد على قول البعض، فيما اعتبرها آخرون (مفعولا ثانيا)
لفعل " نقضت " أي (جعلت غزلها أنكاثا).
2 - " الدخل ": (على وزن الدغل)، بمعنى الفساد والتقلب ومنها أخذ معنى (الداخل)، وينبغي الالتفات إلى أن جملة
تتخذون أيمانكم - على ما قلناه من تفسير - جملة حالية، إلا أن بعض المفسرين اعتبرها جملة استفهامية، والتفسير
الأول يوافق ظاهر الآية.
308

المخالفين فيترك دينه القويم وينخرط في المسالك الباطلة التي يتبعها الأكثرية.
واعلموا إنما يبلوكم الله به.
واليوم الذي تكونون فيه كثرة وأعداءكم قلة ليس بيوم اختبار وامتحان، بل
امتحانكم في ذلك اليوم الذي يقف فيه عدوكم أمامكم وهو يزيدكم عددا بأضعاف
مضاعفة وأنتم قلة.
وعلى أية حال.. ستتضح النتيجة في الآخرة ليلاقي كل فرد جزاءه العادل:
وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون من هذا الأمر وغيره.
والآية التالية تجيب على توهم غالبا ما يطرق الأذهان عند الحديث عن
الامتحان الإلهي والتأكيد على الالتزام بالعهود والوظائف، وخلاصته: هل أن الله
لا يقدر على إجبار الناس جميعا على قبول الحق؟ فتقول: ولو شاء الله
لجعلكم أمة واحدة.
" أمة واحدة " من حيث الإيمان والعمل على الحق بشكل إجباري، ولكن
ذلك سوف لا يكون خطوة نحو التكامل والتسامي ولا فيه أفضلية للإنسان في
قبوله الحق، وعليه فقد جرت سنة الله بترك الناس أحرارا ليسيروا على طريق
الحق مختارين.
ولا تعني هذه الحرية بأن الله سيترك عباده ولا يعينهم في سيرهم، وإنما بقدر
ما يقدمون على السير والمجاهدة سيحصلون على التوفيق والهداية والسداد منه
جل شأنه، حتى يصلوا لهدفهم، بينما يحرم السائرون على طريق الباطل من هذه
النعمة الربانية، فتراهم كلما طال المقام بهم ازدادوا ضلالا.
ولهذا يواصل القرآن الكريم القول ب‍: ولكن يضل من يشاء ويهدي من
يشاء.
ولكن الهداية الإلهية أو الإضلال لا تسلب المسؤولية عنكم، حيث أن
الخطوات الأولى على عواتقكم، ولهذا يأتي النداء الرباني: ولتسئلن عما كنتم
309

تعملون.
وتشير هذه العبارة إلى نسبة أعمال البشر إلى أنفسهم، وتؤكد على تحميلهم
مسؤولية تلك الأعمال، وتعتبر من القرائن الواضحة في تفسير مفهوم الهداية
والإضلال الإلهيين وأن أيا منهما لا يستبطن صفة الإجبار أبدا.
وقد بحثنا هذا الموضوع سابقا (راجع تفسير الآية (26) من سورة البقرة).
وتأكيدا على مسألة الوفاء بالعهد والثبات في الإيمان (باعتبار ذلك من
العوامل المهمة في ثبات المجتمع) يقول القرآن: ولا تتخذوا أيمانكم دخلا
بينكم أي وسيلة للخداع والنفاق، لأن في ذلك خطرين كبيرين:
الأول: فتزل قدم بعد ثبوتها، لأن من يبرم عهدا أو يطلق قسما ونيته أن
لا يفي بذلك فسوف لا يعول عليه الناس ولا يثقون به، ومثله كمن وضع قدمه
على أرض قد بدت له أنها صلبة ومحكمة، إلا أنها زلقة في الواقع، وستكون سببا
في انزلاقه وسقوطه.
الثاني: وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله في هذه الدنيا ولكم
عذاب عظيم في الآخرة.
من الآثار السلبية لنقض العهود والأيمان شياع سوء ظن الناس وتنفرهم من
الدين الحق، وتشتت الصفوف وفقدان الثقة حتى لا يرغب الناس في الإسلام، وإن
عقدوا معكم عهدا فسوف لا يجدون أنفسهم ملزمين بالوفاء به، وهذا ما يؤدي
لمساوي، ومفاسد كثيرة وبروز حالة التخلف في الحياة الدنيا.
وأما على صعيد الحياة الأخرى فإنه سيكون سببا للعقاب بالعذاب الإلهي.
* * *
310

2 بحثان
3 1 - فلسفة احترام العهد
كما هو معلوم فإن الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع تمثل أهم دعائم رسوخ
المجتمع، بل من دعائم تشكيل المجتمع وإخراجه من حالة الآحاد المتفرقة
وإعطائه صفة التجمع، وبالإضافة لكون أصل الثقة المتبادلة يعتبر السند القويم
للقيام بالفعاليات الاجتماعية والتعاون على مستوى واسع.
والعهد والقسم من مؤكدات حفظ هذا الارتباط وهذه الثقة، وإذا تصورنا
مجتمعا كان نقض العهد فيه هو السائد، فمعنى ذلك انعدام الثقة بشكل عام في ذلك
المجتمع، وعندها سوف يتحول المجتمع إلى آحاد متناثرة تفتقد الارتباط والقدرة
والفاعلية الاجتماعية.
ولهذا نجد أن الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة تؤكد باهتمام بالغ على
مسألة الوفاء بالعهد والأيمان، وتعتبر نقضها من كبائر الذنوب.
وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أهمية هذا الموضوع في الإسلام والجاهلية
واعتبره من أهم المواضيع في قوله عند عهده لمالك الأشتر " فإنه ليس من فرائض
الله شئ الناس أشد عليه اجتماعا من تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم
الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من
عواقب الغدر " (1).
ونجد في أحكام الحرب الإسلامية أن إعطاه الأمان من قبل فرد واحد من
جيش المسلمين لشخص أو كتيبة من كتائب العدو يوجب مراعاة ذلك على كل
المسلمين!
يقول المؤرخون والمفسرون: من جملة الأمور التي جعلت الكثير من الناس

1 - نهج البلاغة، الرسالة 53.
311

في صدر الإسلام يعتنقون هذا الدين الإلهي العظيم هو التزام المسلمين الراسخ
بالعهود والمواثيق ورعايتهم لأيمانهم.
وما لهذا الأمر من أهمية بحيث دفع سلمان الفارسي لأن يقول: (تهلك هذه
الأمة بنقض مواثيقها) (1).
أي أن الوفاء بالعهد والميثاق كما أنه يوجب القدرة والنعمة والتقدم، فنقضهما
يؤدي إلى الضعف والعجز والهلاك.
ونجد في التأريخ الإسلامي أن المسلمين عندما غلبوا جيش الساسانيين في
عهد الخليفة الثاني وأسروا الهرمزان قائد جيش فارس، وجاؤوا به إلى عمر، قال
له عمر: ما حجتك وما عذرك في انتقاضك مرة بعد أخرى؟
فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك.
قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماء فأتى به في قدح غليظ.
فقال: لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا! فأتى به في إناء يرضاه..
فقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب.
فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه...
فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش..
فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به.
فقال عمر له: إني قاتلك.
فقال: قد أمنتني.
فقال: كذبت.
قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين قد أمنته.
فقال عمر: يا أنس، أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور، والبراء بن مالك! ولله لتأتين

1 - مجمع البيان، في تفسير الآية (94).
312

بمخرج أو لأعاقبنك.
قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني، ولا بأس عليك حتى تشربه..
وقال له من حوله مثل ذلك...
فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا أن تسلم فأسلم (1).
3 2 - ما لا يقبل في نقض العهود:
إن قبح نقض العهد الشناعة بحيث لا أحدا على استعداد لأن يتحمل
مسؤوليته بصراحة إلا النادر من الناس حتى أن ناقض العهد يلتمس لذلك اعذارا
وتبريرات مهما كانت واهية لتبرير فعلته. وقد ذكرت لنا الآيات أعلاه نموذجا
لذلك.. فبعض المسلمين يتذرعون بحجج واهية ككثرة الأعداء وقلة المؤمنين
للتنصل من عهودهم مع الله والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتكون مواقفهم متزلزلة، في حين أن
الأكثرية من حيث العدد لا تمثل القدرة والقوة في واقع الحال، وانتصار القلة
المؤمنة على الكثرة غير المؤمنة من الشواهد المعروفة في تأريخ البشرية، ثم إن
حصول القدرة والقوة للأعداء - على فرض حصولها - لا تسوغ لأن تكون مبررا
مقبولا لنقض العهد، ولو دققنا النظر في الأمر لرأينا في واقعه أنه نوع من الشرك
والجهل بالله عز وجل.
وقد تجسد هذا الموضوع بعينه في عصرنا الحاضر ولكن بصورة أخرى..
فقسم من الدول الإسلامية الصغيرة في الظاهر قد تنصلت عن أداء وظائفها
في نصرة المؤمنين لخوفها من الدول الاستعمارية الكبرى، فتقدم في حساباتها
قدرة البشر الهزيلة على قدرة الله المطلقة، وتلتجئ إلى غير الله وتخشى غيره،
وتنقض عهدها مع بارئها، وكل ذلك من بقايا الشرك وعبادة الأصنام.
* * *

1 - الكامل في التاريخ، ج 2، ص 594.
313

2 الآيات
ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم
إن كنتم تعلمون (95) ما عندكم ينفد وما عند الله باق
ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (96)
من عمل صلحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة
طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (97)
2 سبب النزول
نقل المفسر الكبير العلامة الطبرسي عن ابن عباس قوله: إن رجلا من
حضرموت يقال له عيدان الأشرع قال: يا رسول الله، إن امرأ القيس الكندي
جاورني في أرضي فاقتطع من أرضي فذهب بها مني، والقوم يعلمون إني
لصادق، ولكنه أكرم عليهم مني، فسأل رسول الله امرأ القيس عنه فقال: لا أدري
ما يقول، فأمره أن يحلف. فقال عيدان: إنه فاجر لا يبالي أن يحلف، فقال: إن لم
يكن لك شهود فخذ بيمينه، فلماذا قام ليحلف أنظره فانصرفا فنزل قوله:
ولا تشتروا بعهد الله... الآيتان فلما قرأهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال امرؤ
القيس: أما ما عندي فينفد وهو صادق فيما يقول، لقد اقتطعت أرضه ولم أدر كم
هي، فليأخذ من أرضي ما شاء ومثلها معها بما أكلت من ثمرها، فنزل فيه من
عمل صالحا... الآية.
314

2 التفسير
3 ثمن الحياة الطيبة:
جاءت الآية الأولى من هذه الآيات لتؤكد على قبح نقض العهد مرة أخرى
ولتبين عذرا آخرا من أعذار نقض العهد الواهية، فحيث تطرقت الآيات السابقة
إلى عذر الخوف من كثرة الأعداء تأتي هذه الآية لتطرح ما للمصلحة الشخصية
(المادية) من أثر سلبي على حياة الإنسان.
ولهذا تقول: ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا.
أي إن قيمة الوفاء بعهد الله لا تدانيها قيمة، ولو استلمتم زمام ملك الدنيا
بأسرها فإنه لا يساوي قيمة لحظة واحدة من الوفاء بعهد الله.
وتضيف الآية المباركة للدلالة على هذا الأمر: إنما عند الله هو خير لكم
إن كنتم تعلمون.
ويبين القرآن في الآية التالية سبب الأفضلية بقوله: ما عندكم ينفد وما
عند الله باق لأن المنافع المادية وإن بدت كبيرة في الظاهر، إلا أنها لا تعدو أن
تكون فقاعات على سطح ماء، في حين أن الجزاء والثواب الإلهي النابع من ذات
الله المطلقة والمقدسة أعلى وأفضل من كل شئ.
ثم يضيف قائلا: ولنجزين الذين صبروا أجرهم - وعلى الأخص في
الثبات على العهد والأيمان - بأحسن ما كانوا يعملون.
إن التعبير ب‍ " أحسن " دليل على أن أعمالهم الحسنة ليست بدرجة واحدة،
فبعضها حسن والبعض الآخر أحسن، ولكن الله تعالى يجزي الجميع بأحسن ما
كانوا يعملون، وهو ذروة اللطف والرحمة الربانية، كما لو مثلنا لذلك في مثل من
حياتنا كأن يعرض بائع أنواعا من البضائع المتفاوتة في النوعية، فقسم منها بضائع
جيدة، وقسم آخر بضائع رديئة، والبقية بين الاثنين، فيأتي مشتري ليأخذ الجميع
بسعر النوعية الجيدة!
315

ولا تخلو جملة ولنجزين الذين صبروا... من الإشارة إلى أن الصبر
والثبات في السير على طريق الطاعة، وخصوصا حفظ العهود والإيمان هي من
أفضل أعمال الإنسان.
وقد روي عن علي (عليه السلام) قوله: " الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير
في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه " (1).
ثم يبين القرآن الكريم بعد ذلك - على صورة قانون عام - نتائج الأعمال
الصالحة المرافقة للإيمان التي يؤديها الإنسان وبأية صورة كانت في هذه الدنيا
وفي الآخرة، فيقول: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه
حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
وعليه، فالمقياس هو الأعمال الصالحة الناتجة عن الإيمان بلا قيد أو شرط،
من حيث السن أو الجنس أو المكانة الاجتماعية أو ما شابه ذلك في هذا الأمر.
و " الحياة الطيبة " في هذه الدنيا هي النتاج الطبيعي للعمل الصالح النابع من
الإيمان، أي أن المجتمع البشري سيعيش حينها حياة هادئة مطمئنة ملؤها الرفاه
والسلم والمحبة والتعاون، بل وكل ما يرتبط بالمجتمع من المفاهيم الإنسانية، وفي
أمان من الآلام الناتجة عن الاستكبار والظلم والطغيان وعبادة الأهواء والأنانية
التي تملأ الدنيا ظلاما وظلامات.
وعلاوة على كل ما تقدم فإن الله سيجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون (كما
تقدم تفسيره).
* * *

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 82.
316

2 بحوث
3 1 - منابع الخلود
إن طبيعة الحياة في هذا العالم المادي هي الفناء والهلاك، فأقوى الأبنية وأكثر
الحكومات دواما وأشد البشر قدرة لا يعدون أن يصيروا في نهاية أمرهم إلى
الضعف فالفناء، وكل شئ معرض للتلف بلا استثناء في هذا الأمر.
أما لو تمكنت الكائنات من أن توجد لها ارتباطا على نحو ما مع الذات
الإلهية المقدسة، وتبقى تعمل لأجلها وفي سبيلها، فإنها والحال هذه ستصطبغ
بصبغة الخلود، لأن ذات الله المقدسة أبدية وأزلية وكل من ينتسب إليه يحصل
على صبغة الأبدية.
فالأعمال الصالحة أبدية، الشهداء لهم حياة أبدية، والأنبياء والعلماء
المخلصون والمجاهدون في سبيل الله يبقى ذكرهم خالدا في ذاكرة التاريخ..
لأنهم يحملون الصبغة الإلهية.
ولهذا، تذكرنا الآيات أعلاه وتدعونا لأن ننقذ ذخائر وجودنا من الفناء،
ونودعها في صندوق لا تطاله يد الزمان ولا تفنيه الليالي والأيام.
فهلموا لبذل الطاقات في سبيل الله وفي خدمة خلق الله، وكسب رضا
الباري، لتصبح من مصاديق عند الله ولتكون باقية بمقتضى ما عند الله
باق.
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث:
صدقة جارية، علم ينتفع به، وولد صالح يدعو له " (1).
وعن علي (عليه السلام) أنه قال: " شتان ما بين عملين: عمل تذهب لذته وتبقى تبعته،
وعمل تذهب مؤنته ويبقى أجره " (2).

1 - إرشاد الديلمي.
2 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 121.
317

3 2 - التساوي بين الرجل والمرأة
مما لا شك فيه أن بين الرجل والمرأة تفاوت واختلاف من الناحيتين
الجسمية والروحية، وهذا الفرق هو الذي جعلهما مختلفين في وظائفها وشؤونهما
الاجتماعية، إلا أن طبيعة الاختلاف الموجود لا تنعكس على الشخصية
الإنسانية، ولا توجد اختلافا في مقامهما عند الله عز وجل، فهما في هذا الجانب
متساويان ومتكافئان، ويحكم شخصية أي منهما مقياس واحد ألا وهو الإيمان
والعمل الصالح والتقوى، وإمكانية تحصيل ذلك لأي منهما متساوية.
إن الآيات أعلاه قد بينت هذه الحقيقة بكل وضوح لتخرس الأفواه المشككة
في الطبيعة الإنسانية للمرأة في الماضي والحاضر، ولترد بقوة أولئك الذين يعطون
للمرأة مقاما أقل ورتبة أنزل من الناحية الإنسانية نسبة إلى الرجل، وقد أعلنت
الآيات المنطق الإسلامي في هذه المسألة الاجتماعية المهمة، فقالت: إن الإسلام
خلافا لقاصري الفكر ليس دين الرجال، فهو يخص المرأة بنفس القدر الذي
يخص الرجل.
فمن عمل صالحا وهو مؤمن رجلا كان أو امرأة، فله الحياة الطيبة: وسينال
ثواب الله تعالى من غير تمايز في الجنس، ولا تفاضل بينهما إلا من خلال ما
يتفوق أي منهما على الآخر من حيث الإيمان والعمل الصالح.
3 3 - جذور العمل الصالح ترتوي من الإيمان
العمل الصالح: مصطلح له من سعة المفهوم ما يضم بين طياته جميع الأعمال
الإيجابية والمفيدة والبناءة على كافة أصعدة الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية
والسياسية والعسكرية... الخ.
ويشمل: الاختراع الذي يبذل فيه العالم جهده سنوات طويلة من أجل خدمة
318

الإنسانية.. جهاد الشهيد الذي حمل روحه على كفه وخاض ساحة الصراع بين
الحق والباطل فبذل دمه الشريف في سبيل الله.. الآلام التي تتحملها الأم المؤمنة
عند الولادة وما تواجه من صعاب في تربية أبنائها.. وتشمل ما يعانيه العلماء في
تحرير كتبهم الثمينة.
وتشمل أيضا: أعظم الأعمال، كحمل رسالة النبوة.. وأقل وأصغر الأعمال،
كرفع حجر صغير من طريق المارة، نعم، فكل ما ذكره يدخل ضمن مفهوم العمل
الصالح.
والحال هذه.. يواجهنا " السؤال " الآتي: لماذا قيد العمل الصالح بشرط
الإيمان، في حين يمكن أداؤه بدون هذا الشرط، والساحة البشرية فيها كثير من
الشواهد التي تحكي ذلك؟
و " الجواب " ينصب على تبيان مسألة واحدة، ألا وهي (الباعث الإيماني)،
فإن لم يحرز هذا الباعث فغالبا ما تكون الأعمال المنجزة ملوثة (وقد تشذ عن
هذه القاعدة العامة بعض المتفرقات هنا وهناك)، وأما إذا ارتوت جذور شجرة
العمل الصالح من ماء التوحيد والإيمان بالله، فنادرا ما يصيب هذا العمل آفات
مثل: العجب، والرياء، الغرور، التقلب، المنة... الخ، ولذلك نرى القرآن الكريم غالبا
ما يربط بين هذين الأمرين، لما لارتباطهما من واقعية.
ونوضح المسألة في مثال: لو افترضنا أن شخصين أرادا بناء مستشفى،
أحدهما يدفعه الباعث الإلهي لخدمة خلق الله، والآخر هدفه التظاهر بالعمل
الصالح والحصول على السمعة والمكانة الاجتماعية المرموقة.
وفي النظرة الأولى وبتفكير سطحي يمكننا أن نقول - إن المستشفى ستقام،
وسيستفيد الناس من عملهما على السواء، وصحيح أن أحدهما سيحصل على
الثواب، الإلهي والآخر لا يحصل عليه، ولكن ظاهر عمليهما لا اختلاف فيه.
وكما قلنا فإن هذا القول ناتج عن رؤية سطحية للموضوع، أما لو أمعنا النظر
319

لرأينا أنهما مختلفان من جهات متعددة، فعلى سبيل المثال: إن الشخص الأول
سينتخب مكانا لمستشفاه يكون قريبا من أكثر طبقات المنطقة فقرا وحرمانا،
ولربما تكون في محلة غير معروفة ومنزوية، أما الشخص الثاني فإنه سيبحث عن
منطقة أكثر شهرة حتى وإن كانت حاجتها للمستشفى قليلة جدا.
وسيسعى الشخص الأول في انتخاب مواد البناء وطريقته بما يلحظ فيه
المستقبل البعيد، ويحكم أساس البناء ليصمد البناء لسنين طويلة، أما الشخص
الآخر فإنه سيحاول أن يسرع في البناء وتعجيل افتتاح المستشفى ويكثر الضجيج
والإعلام لينال مراده. وسيجد الأول في إحكام باطن العمل في حين أن الثاني
سيهتم بمظهره ورونقه. وعند انتخاب الأقسام الطبية، الأطباء، الممرضين وسائر
احتياجات المستشفى، فثمة اختلاف كبير بين الشخصين، فاختلاف النية يترك
أثره على جميع مراحل وشؤون العمل وبعبارة أخرى: إن العمل يصطبغ بصبغة
النية.
3 4 - ما هي الحياة الطيبة؟
لقد ذكر المفسرون في معنى الحياة الطيبة تفاسير عديدة:
فبعض فسرها ب‍: الرزق الحلال.
وبعض ب‍: القناعة والرضا بالنصيب.
وبعض ب‍: الرزق اليومي.
وبعض ب‍: العبادة مع الرزق الحلال.
وبعض ب‍: التوفيق لطاعة أوامر الله... وما شابه ذلك.
ولعله لا حاجة بنا للتذكير بأن مفهوم الحياة الطيبة من السعة بحيث يشمل كل
ما ذكروه وغيره، فالحياة الطيبة بجميع جهاتها، وخالية من التلوثات والظلم
والخيانة والعداوة والذل وكل ألوان الآلام والهموم، وفيها ما يجعل حياة الإنسان
320

صافية كماء زلال.
وبملاحظة تعبير الآية عن الجزاء الإلهي وفق أحسن الأعمال، ليفهم من ذلك
أن الحياة الطيبة ترتبط بعالم الدنيا بينما يرتبط الجزاء بالأحسن بعالم الآخرة.
وعندما سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قوله تعالى: فلنحيينه حياة طيبة،
قال: " هي القناعة " (1).
ولا شك أن هذا التفسير لا يعني حصر معنى الحياة الطيبة بالقناعة، بل هو بيان
لأحد مصاديقها الواضحة جدا، حيث أن الإنسان لو أعطيت له الدنيا بكاملها
وسلبت منه روح القناعة فإنه - والحال هذه - سيعيش دائما في عذاب وألم
وحسرة، وبعكس ذلك، فإذا امتلك الإنسان القناعة وترك الحرص والطمع، فإنه
سيعيش مطمئنا راضيا على الدوام.
وقد ورد في روايات أخرى تفسير الحياة الطيبة بمعنى الرضا بقسم الله،
وهذا المعنى قريب الأفق مع القناعة.
وينبغي أن لا نعطي لهذه المفاهيم صفة تخديرية أبدا، وإنما الهدف الواقعي من
بيان الرضا والقناعة هو القضاء على الحرص والطمع واتباع الهوى في نفس
الإنسان، التي تعتبر من العوامل المؤثرة في إيجاد الاعتداءات والاستغلال
والحروب وإراقة الدماء، والمسببة للذل والأسر.
* * *

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 229.
321

2 الآيات
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98)
إنه ليس له سلطن على الذين آمنوا وعلى ربهم
يتوكلون (99) إنما سلطنه على الذين يتولونه والذين هم به
مشركون (100)
2 التفسير
3 إقرأ القرآن هكذا:
لم يفت ذاكرتنا ما ورد قبل عدة آيات أن القرآن تبيانا لكل شئ ثم تم
البحث عن قسم من أهم الأوامر الإلهية في القرآن.
وتبين الآيات مورد البحث طريقة الاستفادة من القرآن وتتطرق إلى كيفية
تلاوته، فكثافة المحتوى القرآني لا تكفي وحدها لتوجيهنا، ولابد من رفع
الحجب المخيمة على وجودنا وإزالتها عن محيط فكرنا وروحنا، كي نتمكن من
تحصيل هذا المحتوى الثر الغني.
ولهذا يقول القرآن: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم.
ولا يقصد من الإستعاذة الاكتفاء بذكر بل ينبغي لها أن تكون مقدمة لتحقيق
وإيجاد الحالة الروحية المطلوبة.. حالة: التوجه إلى الله عز وجل، الانفصال عن
322

هوى النفس والعناد المانع للفهم والدرك الصحيح للإنسان، البعد عن التعصبات
والغرور وحب الذات ومحورية الذات التي تضغط على الإنسان ليسخر كل شئ
(حتى كلام الله) في تحقيق رغباته المنحرفة.
وإن لم تتحقق للإنسان هذه الحالة فسيتعذر عليه إدراك الحقائق القرآنية،
وربما سيجعل القرآن وسيلة لتبرير آرائه ورغباته الملوثة بالشرك بواسطة " تفسير
بالرأي ".
وتأتي الآية التالية لتكون دليلا على ما جاء في الآية التي قلبها: إنه ليس
له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون، لأنهم يعتبرون
أمر الشيطان واجب الطاعة دون أمر الله!
* * *
2 بحوث
3 1 - موانع المعرفة
مع كل ما للحقيقة من ظهور ووضوح فإنها لا تلحظ إلا بعين باصرة، وبعبارة
أخرى، ثمة شرطان لمعرفة الحقائق:
الأول: وضوح الحقيقة.
الثاني: وجود وسيلة للنظر إليها وإدراكها.
فهل يمكن للأعمى أن يرى قرص الشمس يوما ما مع البقاء على حالة
العمى؟ وهل يمكن للأصم أن يسمع نغمات هذا العالم الجميلة؟ فكذا الحال
بالنسبة لفاقد البصيرة الثاقبة والأذن السميعة، فإنه محروم من رؤية جلال الحق،
ومحروم من سماع آياته الرائعة.
ولكن، لماذا يفقد الإنسان قدرته على المعرفة؟!
323

لأنه قد أوجد الأحكام المسبقة الخاطئة عنده، وسمح للأهواء النفسية
والتعصبات العمياء المتطرفة أن تتغلب على توجهه، ووقع في أسر الذات والغرور،
ولوث صفاء قلبه وطهارة روحه بأمور قد جعلها موانع أمام فهم وإدراك الحقائق.
وجاء في الحديث الشريف: " لولا أن الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم
لنظروا إلى ملكوت السماوات ".
فأول شرط ينبغي تحقيقه لمن رام السير على طريق الحق هو تهذيب النفس
وامتلاك التقوى، وبدون ذلك يقع الإنسان في ظلمات الوهم فيضل الطريق.
ويشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة ب‍ هدى للمتقين.
وكم من أناس طلبوا آيات القرآن بتعصب وعناد وأحكام مسبقة (فردية أو
اجتماعية) وحملوا القرآن بما يريدون لا بما يريده القرآن، فازدادوا ضلالا بدلا
من أن يكون القرآن هاديا لهم (وطبيعي أن القرآن بآياته وحقائقه الناصعة لا
يكون وسيلة للإضلال، ولكن أهواءهم وعنادهم هو الذي جرهم لذلك) والآيتان
(124 و 125) من سورة التوبة تبين لنا هذه الحالة بكل وضوح: أما الذين
آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم
رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون.
فالمقصود بالآية عدم الاكتفاء بذكر (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بل ينبغي
أن نجعل من هذا الذكر فكرا، ومن الفكر حالة داخلية، وعندما نقرأ آية نستعيذ بالله
من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا، أو أن تحول بيننا وبين كلام
الله جل وعلا.
3 2 - لماذا يكون التعوذ " من الشيطان الرجيم "؟
" الرجيم ": من (رجم)، بمعنى الطرد، وهو في الأصل بمعنى الرمي بالحجر ثم
استعمل في الطرد.
324

ونلاحظ ذكر صفة طرد الشيطان من دون جميع صفاته، للتذكير بتكبره على
أمر الله حين أمره بالسجود والخضوع لآدم، وإن ذلك التكبر الذي دخل الشيطان
بات بمثابة حجاب بينه وبين إدراك الحقائق، حتى سولت له نفسه أن يعتقد
بأفضليته على آدم وقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
فكان ذلك العناد والغرور سببا لتمرده على أمر الله عز وجل مما أدى لكفره
ومن ثم طرده من الجنة.
وكأن القرآن الكريم يريد أن يفهمنا باستخدامه كلمة " الرجيم " بضرورة
الاحتياط والحذر من الوقوع في حالة التكبر والغرور والتعصب عند تلاوة آيات
الله الحكيم، لكي لا نقع بما وقع به الشيطان من قبل، فنهوى في وحل الكفر بدلا
من إدراك وفهم الحقائق القرآنية.
3 3 - بين لوائي الحق والباطل
قسمت الآيات أعلاه الناس إلى قسمين: قسم يرزح تحت سلطة الشيطان
وقسم خارج عن هذه السلطة، وبينت صفتين لكل من هذين القسمين:
فالذين هم خارج سلطة الشيطان: مؤمنون ومتوكلون على الله عز وجل، أي
أنهم من الناحية الاعتقادية عباد لله، ومن الناحية العملية يعيشون مستقلين عن كل
شئ سوى الله، ويتوكلون عليه لا على البشر أو على الأهواء والتعصبات.
أما الذين يرزحون تحت سلطة الشيطان، فقائدهم الشيطان يتولونه
وهو مشركون، لأن أعمالهم تشير إلى تبعيتهم للشيطان وأوامره كشريك لله جل
وعلا.
وثمة من يسعى لأن يكون من القسم الأول، ولكن ابتعاده عن المربين
الإلهيين، أو الضياع في محيط فاسد، أو أي أسباب أخرى، تؤدي إلى سقوطه في
وحل القسم الثاني.
325

وعلى أية حال، فالآية تؤكد حقيقة أن سلطة الشيطان ليست إجبارية على
الإنسان، ولا يتمكن من التأثير على الإنسان من دون أن يمهد الإنسان السبيل
لدخول الشيطان في نفسه، ويعطيه إجازة المرور من بوابة قلبه.
3 4 - آداب تلاوة القرآن:
كل شئ يحتاج إلى برنامج معين ولا يستثنى كتاب عظيم - كالقرآن الكريم -
من هذه القاعدة، لذلك فقد ذكر في القرآن بعض الآداب والشروط لتلاوة كلام الله
والاستفادة من آياته:
1 - يقول تعالى أولا: لا يمسه إلا المطهرون، ويمكن أن يشير هذا التعبير
إلى الطهارة الظاهرية، كأن يكون مس كتابة القرآن مشروط بالطهارة والوضوء،
وكذا الإشارة إلى إمكان تيسر الوصول لفهم محتوى آيات القرآن من خلال تطهير
النفس من الرذائل الأخلاقية، لأن الصفات القبيحة تمنع من مشاهدة جمال الحق
باعتبارها حجابا مظلما بين الإنسان والحقائق.
2 - يجب الإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل الشروع بتلاوة آيات الله
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم.
وعندما سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن طريقة العمل بهذا القول، يروى أنه قال:
" قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ".
وفي رواية أخرى، عند تلاوته عليه السلام لسورة الحمد قال: " أعوذ بالله
السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أن يحضرون ".
وكما قلنا، فإن التلفظ - فقط - في الإستعاذة لا يغني من الحق شيئا، مالم تنفذ
الإستعاذة إلى أعماق الروح بشكل ينفصل فيه الإنسان عند التلاوة عن إرادة
الشيطان، ويقترب من الصفات الإلهية، لترتفع عن فكره موانع فهم كلام الحق،
وليرى جمال الحقيقة بوضوح تام.
326

فالاستعاذة بالله من الشيطان - إذن - لازمة قبل الشروع بالتلاوة، ومستمرة
مع التلاوة إلى آخرها وإن لم يكن ذلك باللسان.
3 - تجب القراءة ترتيلا، أي مع التفكر والتأمل ورتل القرآن ترتيلا (1).
وفي تفسير هذه الآية روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن القرآن لا يقرأ
هزرمة ولكن يرتل ترتيلا، إذا مررت بآية فيها ذكر النار وقفت عندها وتعوذت
بالله من النار " (2).
4 - وقد ورد الأمر بالتدبر والتفكر في القرآن إضافة إلى الترتيل. حيث جاء
في الآية (82) من سورة النساء: أفلا يتدبرون القرآن.
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنهم
كانوا يأخذون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخر حتى
يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.
وفي حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " اعربوا القرآن والتمسوا غرائبه " (3).
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " لقد تجلى الله لخلقه في كلامه
ولكنهم لا يبصرون " (4). (ولكن ذوي الضمائر الحية والعلماء المؤمنين،
يستطيعون رؤية جماله المتجلي في كلامه جل وعلا).
5 - على الذين يستمعون إلى تلاوة القرآن أن ينصتوا إليه بتفكر وتأمل
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا إليه وانصتوا لعلكم ترحمون (5).
وثمة أحاديث شريفة تحث على قراءة القرآن بصوت حسن، لما له من فعل
مؤثر في تحسس مفاهيمه، ولكن المجال لا يسمح لنا بتفصيل ذلك (6).

1 - سورة المزمل، 4.
2 - بحار الأنوار، ج 89، ص 106.
3 - المصدر السابق.
4 - بحار الأنوار، ج 92، ص 107.
5 - الأعراف، 204.
6 - مزيد من الاطلاع.. راجع بحار الأنوار، ج 9، ص 190 وما بعدها.
327

* * *
328

2 الآيات
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما
أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101) قل نزله روح القدس من
ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى
للمسلمين (102) ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان
الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103) إن
الذين لا يؤمنون بأيت الله لا يهديهم الله ولهم عذاب
أليم (104) إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بأيت الله
وأولئك هم الكاذبون (105)
2 سبب النزول
يقول ابن عباس: (كانوا يقولون: يسخر محمد بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر
وغدا يأمرهم بأمر، وإنه لكاذب، يأتيهم بما يقول من عند نفسه).
2 التفسير
الافتراء!
تحدثت الآيات السابقة أسلوب الاستفادة من القرآن الكريم، وتتناول
329

الآيات مورد البحث جوانب أخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن، وتبتدئ
ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية
المباركة، فتقول: وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل فهذا التغيير
والتبديل يخضع لحكمة الله، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل، ولكن المشركين
لجهلهم قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون.
وحقيقة الأمر أن المشركين لم يتوصلوا بعد لإدراك وظيفة القرآن وما يحمل
من رسالة، ولم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أن القرآن في صدد بناء مجتمع
إنساني جديد يسوده التطور والتقدم والحرية والمعنوية العالية... نعم، فأكثرهم لا
يعلمون.
فبديهي والحال هذه أن يطرأ على وصفة الدواء الإلهي لنجاة هؤلاء المرضى
التغيير والتبديل تدرجا مع ما يعيشونه، فما يعطون اليوم يكمله الغد.. وهكذا حتى
تتم الوصفة الشاملة.
فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن، دفعهم
للاعتقاد بأن أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحمل بين ثناياها التناقض أو الافتراء على الله
عز وجل! وإلا لعلموا أن النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظمة
على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إلا
به.
فالنسخ في أحكام مجتمع يعيش حالة انتقالية بين مرحلتين يعتبر من
الضروريات العملية والواقعية، فالتحول والانتقال بالناس من مرحلة إلى أخرى لا
يتم دفعة واحدة، بل ينبغي أن يمر بمراحل انتقالية دقيقة.
أيمكن معالجة مريض مزمن في يوم واحد؟
أو شفاء رجل مدمن على المخدرات لسنوات عديدة في يوم واحد؟ أوليس
التدرج في المعالجة من أسلم الأساليب؟
330

وبعد الإجابة على هذه الأسئلة لا يبقى لنا إلا أن نقول: ليس النسخ سوى
برنامج مؤقت في مراحل انتقالية.
(لقد بحثنا موضوع النسخ في تفسير الآية (36) من سورة البقرة - فراجع).
وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع، وللتأكيد عليه تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن:
قل نزله روح القدس من ربك بالحق.
" روح القدس " أو (الروح المقدسة) هو أمين الوحي الإلهي " جبرائيل
الأمين "، وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزل بأمر الله تعالى على النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء الناسخ منها أو المنسوخ.
فكل الآيات حق، وهدفها واحد يتركز في توجيه الإنسان ضمن التربية
الربانية له، وظروف وتركيبة الإنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة
والمنسوخة في العملية التربوية.
ولهذا، جاء في تكملة الآية المباركة: ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى
للمسلمين.
يقول صاحب تفسير الميزان: إن تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين
والهدى والبشرى للمسلمين إنما هو لما بين الإيمان والإسلام من الفرق، فالإيمان
للقلب ونصيبه التثبيت في العلم والإذعان، والإسلام في ظاهر العمل ومرحلة
الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأن الغاية هي الجنة
والسعادة.
وعلى أية حال، فلأجل تقوية الروح الإيمانية والسير في طريق الهدى
والبشرى لابد من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة، وبالتدريج يحل البرنامج النهائي
الثابت محلها، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإلهية.
وبعد أن فند القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة أخرى، أو على
الأصح لذكر افتراء آخر لمخالفي نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: ولقد نعلم أنهم
331

يقولون إنما يعلمه بشر.
اختلف المفسرون في ذكر اسم الشخص الذي ادعى المشركون أنه كان يعلم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...
فعن ابن عباس: أنه رجل يدعى (بلعام) كان يصنع السيوف في مكة: وهو من
أصل رومي وكان نصرانيا.
واعتبره بعضهم: غلاما روميا لدى بني حضرم واسمه (يعيش) أو (عائش)
وقد أسلم وأصبح من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقال آخرون: إن معلمه غلامين نصرانيين أحدهما اسمه (يسار) والآخر
(جبر) وكان لهما كتاب بلغتهما يقرءانه بين مدة وأخرى بصوت عال.
واحتمل بعضهم: أنه (سلمان الفارسي)، في حين أن سلمان الفارسي التحق
بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة وأسلم على يديه هناك، وأن هذه التهم التي أطلقها
المشركون كانت في مكة، أضف إلى ذلك كون القسم الأعظم من سورة النحل مكي
وليس مدنيا.
وعلى أية حال، فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترون، بقوله:
لسان الذي يلحدون (1) إليه أعجمي (2) وهذا لسان عربي مبين.
فإن كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أن معلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لألفاظ القرآن
هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئا فهذا في منتهى السفة، إذ كيف
يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها
أصحاب اللغة أنفسهم، حتى أن القرآن تحداهم بإتيان سورة من مثله فما

1 - يلحدون: من الإلحاد بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل، وقد يطلق على أي انحراف، والمراد هنا: إن الكاذبين يريدون
نسبة القرآن إلى إنسان ويدعون بأنه معلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!
2 - الإعجام والعجمة لغة: بمعنى الإبهام، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من
غيرهم، وباعتبار أن العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.
332

استطاعوا، ناهيك عن عدد الآيات؟!
وإن كانوا يقصدون أن المحتوى القرآني هو من معلم أجنبي.. فرد ذلك أهون
من الأول وأيسر، إذ أن المحتوى القرآني قد صب في قالب كل عباراته وألفاظه
من القوة بحيث خضع لبلاغته وإعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب، وهذا ما
يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أي
إنسان، وليس لذلك أهلا سوى الله عز وجل وسبحانه عما يشركون.
وبنظرة تأملية فاحصة نجد في محتوى القرآن أنه يمتلك المنطق الفلسفي
العميق في إثبات عقائده، وكذا الحال بالنسبة لتعاليمه الأخلاقية في تربية روح
الإنسان وقوانينه الاجتماعية المتكاملة، وأن كل ما في القرآن هو فرق طاقة
المستوى الفكري البشري حقا.. ويبدو لنا أن مطلقي الافتراءات المذكورة هم
أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون، ولكنها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس
البسطاء من الناس ليس إلا.
والحقيقة أن المشركين لم يجدوا من بينهم من ينسبون إليه القرآن، ولهذا
حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شيئا ونسبوا إليه القرآن،
عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء.
أضف إلى ذلك كله أن تاريخ حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يسجل له اتصالات دائمة مع
هذه النوعيات من البشر، وإن كان (على سبيل الفرض) صاحب القرآن موجودا
ألا يستلزم ذلك اتصال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به وباستمرار؟ إنهم حاولوا التشبث لا أكثر،
وكما قيل: (الغريق يتشبث بكل حشيش).
إن نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإعجازي أمر واضح، ولم يتوقف
تفوقه حتى في عصرنا الحاضر حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات
التمدن الإنساني، والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوة الفكر البشري
المعاصر.
333

نعم، فمع كل ما وصلت إليه البشرية من قوانين وأنظمة ما زال القرآن هو
المتفوق وسيبقى.
وذكر سيد قطب في تفسيره: أن جمعا من الماديين في روسيا عندما أرادوا
الانتقاص من القرآن في مؤتمر المستشرقين المنعقد في سنة (1954 م) قالوا: إن
هذا الكتاب لا يمكن أن ينتج من ذهن إنسان واحد " محمد " بل يجب أن يكون
حاصل سعي جمع كثير من الناس بما لا يصدق كونهم جميعا من جزيرة العرب،
وإنما يقطع باشتراك جمع منهم من خارج الجزيرة (1).
ولقد كانوا يبحثون - وفقا لمنطقهم الإلحادي - عن تفسير مادي لهذا الأمر من
جهة، وما كانوا يعقلون أن القرآن نتاج إشراقة عقلية لإنسان يعيش في شبه
الجزيرة العربية من جهة أخرى، مما اضطرهم لأن يطرحوا تفسيرا مضحكا وهو:
اشتراك جمع كثير من الناس - في تأليف القرآن - من داخل شبه الجزيرة العربية
وخارجها!! على أن التاريخ ينفي ما ذهبوا إليه جملة وتفصيلا.
وعلى أية حال، فالآية المباركة دليل الإعجاز القرآني من حيث اللفظ
والمضمون، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه
وعباراته ما يفوق قدرة أي إنسان. (قد كان لنا بحث مفصل في الإعجاز القرآني
تناولناه في تفسير الآية (23) من سورة البقرة - فراجع).
وبلهجة المهدد المتوعد يبين القرآن الكريم أن حقيقة هذه الاتهامات
والانحرافات ناشئة من عدم انطباع الإيمان في نفوس هؤلاء، فيقول: إن الذين
لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم.
لأنهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إلا العذاب الإلهي، لما باتوا عليه من
التعصب والعناد والعداء للحق.

1 - في ضلال القرآن، ج 5، ص 282.
334

وفي آخر الآية يقول: إن الأشخاص الذين يتهمون أولياء الله هم الكفار:
إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون، فهم
الكاذبون وليس أنت يا محمد، لأنهم مع ما جاءهم من آيات بينات وأدلة قاطعة
واضحة ولكنهم يستمرون في إطلاق الافتراءات والأكاذيب.
فأية أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين
المتعطشين للحقائق!
* * *
2 بحوث
3 1 - قبح الكذب في المنظور الإسلامي
الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف، وقد جعلت الكاذبين
بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإلهية.
ومع أن موضوع الآية هو الكذب والافتراء على الله والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أن الآية
تناولت قبح الكذب بصورة إجمالية.
ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإسلامية إفاضات خاصة لمسألة
الصدق والنهي عن الكذب، وإليكم نماذج مختصرة ومفهرسة لجوانب الموضوع:
الصدق والأمانة من علائم الإيمان وكمال الإنسان، حتى أن دلالتهما على
الإيمان أرقى من دلالة الصلاة.
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل
وسجوده، فإن ذلك شئ قد اعتاده ولو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى
صدق حديثه وأداء أمانته " (1).

1 - سفينة البحار، مادة (صدق)، نقلا عن الكافي.
335

فذكر الصدق مع الأمانة لاشتراكهما في جذر واحد، وما الصدق إلا الأمانة
في الحديث، وما الأمانة إلا الصدق في العمل.
3 2 - الكذب منشأ جميع الذنوب:
وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب..
فعن علي (عليه السلام) أنه قال: " الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة " (1).
وعن الباقر (عليه السلام) أنه قال: " إن الله عز وجل جعل للبشر أقفالا، وجعل مفاتيح
تلك الأقفال الشراب، والكذب شر من الشراب " (2).
وعن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال: " جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل
مفتاحها الكذب " (3).
فالعلاقة بين الكذب وبقية الذنوب تتلخص في كون الكاذب لا يتمكن من
الصدق، لأنه سيكون موجبا لفضحه، فتراه يتوسل بالكذب عادة لتغطية آثار ذنوبه.
وبعبارة أخرى: إن الكذب يطلق العنان للإنسان للوقوع في الذنوب، والصدق
يحده.
وقد جسد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الحقيقة بكل وضوح عندما جاءه رجل وقال له: يا
رسول الله، إني لا أصلي وأرتكب القبائح وأكذب، فأيها أترك أولا؟.
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الكذب "، فتعهد الرجل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يكذب
أبدا.
فلما خرج عرضت له نية منكر فقال في نفسه: إن سألني رسول الله غدا عن
أمري، ماذا أقول له! فإن أنكرت كان كاذبا، وإن صدقت جرى علي الحد. وهكذا

1 - مشكاة الأنوار للطبرسي، ص 157.
2 - أصول الكافي، ج 2، ص 254.
3 - جامع السعادات، ج 2، ص 233.
336

ترك الكذب في جميع أفعاله القبيحة حتى تورع عنها جميعا.
ولذا.. فترك الكذب طريق لترك الذنوب.
3 3 - الكذب منشأ للنفاق:
لأن الصدق يعني تطابق اللسان مع القلب، في حين أن الكذب يعني عدم
تطابق اللسان مع القلب، وما النفاق إلا الاختلاف بين الظاهر والباطن.
والآية (77) من سورة التوبة تبين لنا ذلك بوضوح: فأعقبهم نفاقا في
قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون.
3 4 - لا انسجام بين الكذب والإيمان:
وإضافة إلى الآية المباركة فثمة أحاديث كثيرة تعكس لنا هذه الحقيقة
الجلية...
فقد روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل: يكون المؤمن جبانا؟ قال: " نعم "، قيل:
ويكون بخيلا؟ قال: " نعم "، قيل: يكون كذابا؟ قال: " لا " (1).
ذلك لأن الكذب من علائم النفاق، وهو لا يتفق مع الإيمان.
وبهذا المعنى نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه أشار لهذا المعنى واستدل عليه
بالآية مورد البحث.
3 5 - الكذب يرفع الاطمئنان:
إن وجود الثقة والاطمئنان المتبادل من أهم ما يربط الناس فيما بينهم،
والكذب من الأمور المؤثرة في تفكيك هذه الرابطة لما يشيعه من خيانة وتقلب،

1 - جامع السعادات، ج 2، ص 322.
337

ولذلك كان تأكيد الإسلام على أهمية الالتزام بالصدق وترك الكذب.
ومن خلال الأحاديث الشريفة نلمس بكل جلاء نهي الأئمة (عليهم السلام) عن مصاحبة
مجموعة معينة من الناس، منهم الكذابون لعدم الثقة بهم.
فعن علي (عليه السلام) أنه قال: " إياك ومصادقة الكذاب، فإنه كالسراب يقرب عليك
البعيد ويبعد عليك القريب " (1).
والحديث عن قبح الكذب وفلسفته، والأسباب الداعية إليه من الناحية
النفسية، وطرق مكافحته، كل ذلك يحتاج إلى تفصيل طويل لا يمكن لبحثنا
استيعابه، ولمزيد من الاطلاع راجع كتب الأخلاق (2).
* * *

1 - نهج البلاغة، الكمات القصار، رقم 37.
2 - راجع كتابنا (الحياة على ضوء الأخلاق).
338

2 الآيات
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من
الله ولهم عذاب عظيم (106) ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا
على الآخرة وأن الله لا يهدى القوم الكافرين (107) أولئك
الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصرهم وأولئك هم
الغافلون (108) لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون (109) ثم إن
ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جهدوا وصبروا إن
ربك من بعدها لغفور رحيم (110) يوم تأتى كل نفس تجدل
عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون (111)
2 سبب النزول
ذكر بعض المفسرون في شأن نزول الآية الأولى من هذه الآيات أنها: نزلت
في جماعة أكرهوا - وهو: عمار وأبوه ياسر وأمة سمية وصهيب وبلال وخباب -
عذبوا وقتل أبو عمار وأمه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، ثم أخبر سبحانه
339

بذلك رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال قوم: كفر عمار. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا: " إن عمارا ملئ إيمانا من
قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه دمه ".. وجاء عمار إلى رسول الله وهو
يبكي، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما وراءك "؟ فقال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت
منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح عينيه ويقول: " إن عادوا
لك فعد لهم بما قلت "، فنزلت الآية.
2 التفسير
3 المرتدون عن الإسلام:
تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين
والكفار وما كانوا يقومون به، فتتناول الآيات فئة أخرى من الكفرة وهم
المرتدون.
حيث تقول الآية الأولى: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه
مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله، ولهم
عذاب عظيم.
وتشير الآية إلى نوعين من الذين كفروا بعد إيمانهم:
النوع الأول: هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه،
ولكنهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوه من أعداء الإسلام، فيعلنون براءتهم من
الإسلام وولاءهم للكفر، على أن ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان، وأما قلوبهم
فتبقى ممتلئة بالإيمان.
فهذا النوع يكون مشمولا بالعفو الإلهي بلا ريب، بل لم يصدر منهم ذنب،
لأنهم قد مارسوا التقية التي أحلها الإسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للاستفادة
منها في طريق خدمة دين الله عز وجل.
النوع الثاني: هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقة، ويغيرون
340

مسيرتهم ويتخلون عن إيمانهم، فهؤلاء يشملهم غضب الله عز وجل وعذابه
العظيم.
ويمكن أن يكون " غضب الله " إشارة إلى حرمانهم من الرحمة الإلهية
والهداية في الحياة الدنيا، و " العذاب العظيم " إشارة إلى عقابهم في الحياة
الأخرى.. وعلى أية حال، فما جاء في الآية من وعيد للمرتدين هو في غاية
الشدة.
وتتطرق الآية التالية إلى أسباب ارتداد هؤلاء، فتقول: ذلك بأنهم استحبوا
الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين الذين يصرون على
كفرهم وعنادهم.
وخلاصة المقال: حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت
للخطر المؤقت، فندموا على إسلامهم لشدة حبهم لدنياهم، وعادوا خاسئين إلى
كفرهم.
وبديهي أن من لا يرغب في الإيمان ولا يسمح له بالدخول إلى أعماق نفسه،
لا تشمله الهداية الإلهية، لأن الهداية تحتاج إلى مقدمات كالسعي للحصول على
رضوانه سبحانه والجهاد في سبيله، وهذا مصداق لقوله عز وجل في آخر سورة
العنكبوت: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا.
وتأتي الآية الأخرى لتبين سبب عدم هدايتهم، فتقول: أولئك الذين طبع
الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم بحيث أنهم حرموا من نعمة الرؤية والسمع
وادراك الحقائق: وأولئك هم الغافلون.
وكما قلنا سابقا فإن ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على
إدراك الإنسان للحقائق وعلى عقله ورؤيته السليمة، وتدريجيا يسلب منه سلامة
الفكر، وكلما ازداد في غيه كلما اشتدت حجب الغفلة على قلبه وسمعه وبصره،
حتى يؤول به المآل إلى أن يصبح ذا عين ولكن لا يرى بها، وذا أذن وكأنه لا يسمع
341

بها، وتغلق أبواب روحه من تقبل أية حقيقة، فيخسر الحس التشخيصي والقدرة
على التمييز، والتي تعتبر من النعم الإلهي العالية.
" الطبع " هنا: بمعنى " الختم "، وهو إشارة إلى حالة الإحكام المطلق، فلو أراد
شخص مثلا أن يغلق صندوقا معينا بشكل محكم كي لا تصل إليه الأيدي فإنه يقوم
بربطه بالحبال وغيرها، ومن ثم يقوم بوضع ختم من الشمع على باب الصندوق
للاطمئنان من عبث العابثين.
ثم تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم، فتقول: لا جرم أنهم في الآخرة هم
الخاسرون.
وهل هناك من هو أتعس حالا من هذا الإنسان الذي خسر جميع طاقاته
وامكاناته لنيل السعادة الدائمة باتباعه هوى النفس.
وبعد ذكر الفئتين السابقتين، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى
بالإيمان، والذين ينقلبون إلى الكفر مرة أخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم، فبعد
ذلك تتطرق الآية التالية إلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدوعون في دينهم، فتقول:
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من
بعدها لغفور رحيم (1).
فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد، ولكن الآية تشير إلى من كان
مشركا في البداية ثم أسلم، فعليه يكون المقصود به هو (المرتد الملي) وليس
(المرتد الفطري) (2).
وتأتي الآية الأخيرة لتقدم تذكيرا عاما بقولها: يوم تأتي كل نفس تجادل

1 - ضمير " بعدها " - وكما يقول كثير من المفسرين - يعود إلى " الفتنة "، في حين ذهب البعض من المفسرين إلى أنه يعود إلى
الهجرة والجهاد والصبر المذكورة سابقا.
2 - المرتد الفطري: هو الذي يولد من أبوين مسلمين ثم يرتد عن الإسلام بعد قبوله إياه، والمرتد الملي: يطلق على من
انعقدت نطفته من أبوين غير مسلمين ثم قبل الإسلام، وارتد عنه بعد ذلك.
342

عن نفسها (1) لتنقذها من العقاب والعذاب.
فالمذنبون أحيانا ينكرون ما ارتكبوه من ذنوب إنكارا تاما فرارا من الجزاء
والعقاب، والآية (23) من سورة الأنعام تنقل لنا قولهم: والله ربنا ما كنا
مشركين، وعندما لا يلمسون أية فائدة لإنكارهم يتجهون بإلقاء اللوم على
أئمتهم وقادتهم، ويقولون: ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من
النار (2).
ولكن.. لا فائدة من كل ذلك.. وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا
يظلمون.
* * *
2 بحثان
3 1 - التقية وفلسفتها:
امتاز المسلمون الأوائل الذين تربوا على يد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بروح مقاومة عظيمة
أمام أعدائهم، وسجل لنا التأريخ صورا فريدة للصمود والتحدي، وها هو " ياسر "
لم يلن ولم يدخل حتى الغبطة الكاذبة على شفاه الأعداء، وما تلفظ حتى بعبارة
خالية من أي أثر على قلبه مما يطمح الأعداء أن يسمعوها منه، مع أن قلبه مملوءا
ولاء وإيمانا بالله تعالى وحبا وإخلاصا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصبر على حاله رغم مرارتها
فنال شرف الشهادة، ورحلت روحه الطاهرة إلى بارئها صابرة محتسبة تشكو إليه
ظلم وجور أعداء دين الله.

1 - اختلاف القول بخصوص متعلق " يوم " جار بين المفسرين.. فبعضهم يذهب إلى أنه متعلق بفاعل مستتر والتقدير هو
" ذكرهم يوم القيامة "، واعتبره آخرون متعلقا بفعل الغفران والرحمة المأخوذان من الغفور الرحيم في الآية السابقة،
(ولكننا نرجح التفسير الاحتمال الأول لشموله).
2 - الأعراف، 38.
343

وها هو ولدة " عمار " الذي خرجت منه كلمة بين صفير الأسواط وشدة الآلام
تنم عن حالة الضعف ظاهرا، وبالرغم من اطمئنانه بإيمانه وتصديقه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا
أنه اغتم كثيرا وارتعدت فرائصه حتى طمأنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحلية ما فعل به حفظا
للنفس، فهدأ.
ويطالعنا تأريخ (بلال) عندما اعتنق الإسلام راح يدعو له ويدافع عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فشد عليه المشركون حتى أنهم طرحوه أرضا تحت لهيب الشمس
الحارقة، وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرة كبيرة على صدره وهو بتلك الحال،
وطلبوا منه أن يكفر بالله ولكنه أبى أن يستجيب لطلبهم وبقي يردد: أحد أحد، ثم
قال: أقسم بالله لو علمت قولا أشد عليكم من هذا لقلته.
ونقرأ في تاريخ (حبيب بن زيد) أنه لما أسره مسيلمة الكذاب فقد سأله: هل
تشهد أن محمدا رسول الله؟
قال: نعم.
ثم سأله: أتشهد أني رسول الله؟
فأجابه ساخرا: إني لا أسمع ما تقول! فقطعوه إربا إربا (1).
والتأريخ الإسلامي حافل بصور كهذه، خصوصا تأريخ المسلمين الأوائل
وتأريخ أصحاب الأئمة (عليهم السلام).
ولهذا قال المحققون: إن ترك التقية وعدم التسليم للأعداء في حالات كهذه،
عمل جائز حتى لو أدى الأمر إلى الشهادة، فالهدف سام وهو رفع لواء التوحيد
وإعلاء كملة الإسلام، وخاصة في بداية دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان لهذا الأمر
أهمية خاصة.
ومع هذا، فالتقية جائزة في موارد، وواجبة في موارد أخرى، وخلافا لما

1 - في ظلال القرآن، ج 5، ص 284.
344

يعتقده البعض فإن التقية (في مكانها المناسب) ليست علامة للضعف، ولا هي
مؤشر للخوف من تسلط الأعداء، ولا هي تسليم لهم، بقدر ما هي نوع من
المراوغة المحسوبة لحفظ الطاقات الإنسانية وعدم التفريط بالأفراد المؤمنين
مقابل موضوعات صغيرة وقليلة الأهمية.
ومما تعارف عليه عند كل الشعوب أن تلجأ الأقليات المجاهدة والمحاربة
إلى أسلوب العمل السري غالبا، وذلك لحفظ حياة الأفراد وتهيئة الظروف
لإكثارهم، فتشكل مجموعات سرية وتضع لأنفسها برامجا غير معلنة على غيرهم،
حتى أن البعض من أفرادهم يحاول أن يتنكر حتى في زيه، وإذا ما تم اعتقالهم من
قبل السلطة المعادية لمبادئهم فيحاولون جهد الإمكان إخفاء حقيقة أمرهم كي
لا تخسر المجموعة كل طاقاتها، ولتكون قادرة على مواصلة الطريق بالبقية
المتبقية منهم.
والعقل لا يجيز في ظروف كهذه أن تعلن المجموعة المجاهدة قليلة العدد عن
نفسها، لكي لا يعرفها العدو بسهولة وهو القادر على القضاء عليها بما يملك من
بطش وتسلط.
فالتقية قبل أن تكون برنامجا إسلاميا هي أسلوب عقلاني ومنطقي، ينفذه
ويعمل به من يعيش صراعا مع عدو قوي متمكن منه.
ولذا فقد ورد تعبير (الترس) عن التقية في الأحاديث الشريفة، فعن الإمام
الصادق (عليه السلام) أنه قال: " التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن " (1).
(لاحظوا أن التقية هنا شبهت بالترس، والترس إنما يستعمل في ميادين
الحرب والقتال مع الأعداء لحفظ القوى الثائرة).
وإذا رأينا أن الأحاديث الشريفة تعتبر التقية علامة للدين والإيمان وتقدرها

1 - وسائل الشيعة، ج 11، الحديث (6) من الباب (24) من أبواب الأمر بالمعروف.
345

بتسعة أعشار الدين، فإنما هو للسبب المذكور.
والمجال - في هذا الكتاب - لا يسع للخوض في تفصيل موضوع التقية، وكل
ما أردنا بيانه هو أن من يستنكر التقية ويذمها إنما هو جاهل بشروطها وفلسفتها.
وثمة حالات تحرم فيها التقية، حينما يكون حفظ النفس فيها سببا لزوال
الدين نفسه، أو قد تؤدي التقية لحدوث فساد عظيم، فيجب والحال هذه كسر طوق
التقية واستقبال كل خطر يترتب على ذلك (1).
3 2 - المرتد الفطري والملي و.. المخدوعين:
لا يواجه الإسلام الذين لا يعتنقون الإسلام من (أهل الكتاب) بالشدة
والقسوة وإنما يدعوهم باستمرار ويتحدث معهم بالمنطق السليم، فإذا لم يقتنعوا
وراموا البقاء على ديانتهم فيعطون الأمان والتعهد بحفظ أموالهم وأرواحهم
ومصالحهم المشروعة بعد أن يعلنوا قبول شرط أهل الذمة في عهدهم مع
المسلمين.
أما الذين يقبلون الإسلام ومن ثم يرتدون عنه فيواجهون بشدة وعنف، لأن
عملا كهذا يؤدي إلى أضرار فادحة تصيب المجتمع الإسلامي، وهو بمثابة نوع من
الحرب ضد الحكومة الإسلامية، وغالبا ما يصدر مثل هذا العمل مستبطنا النية
السيئة بإيصال أسرار المجتمع الإسلامي (ونقاط القوة والضعف) ليد الأعداء
المتربصين للمسلمين الدوائر.
فلهذا، من انعقدت نطفته وكان أبواه مسلمين عند انعقاد النطفة (مسلم الولادة)
ثم تثبت المحكمة الإسلامية بأنه قد ارتد عن الإسلام يباح دمه، تقسم أمواله على
ورثته، تبين عنه زوجته، وظاهرا لا تقبل توبته، أي أن هذه الأحكام الثلاثة تجري

1 - لأجل المزيد من الإيضاح في مسألة التقية وأحكامها وفلسفتها وأدلتها، راجعوا كتابنا (القواعد الفقهية)، الجزء الثالث.
346

في حقه على كل حال، ولكن إذا ندم وتاب صادقا، فإن توبته ستقبل عند الله
تعالى (وتوبة المرأة تقبل على الإطلاق).
وإذا ارتد إنسان ما عن الإسلام ولم يكن مسلما بالولادة، يتعين عليه التوبة،
فإن تاب قبلت توبته وينجو من العقاب.
وقد ينظر للحكم السياسي الصادر بحق المرتد الفطري على أن فيه نوعا من
الخشونة والقسوة وفرضا للعقيدة وسلبا لحرية الفكر، ولكن حقيقة هذه الأحكام
تختص بمن يظهر عقائده المخالفة أو يدعو لها ولا تطال من يعتقد باعتقادات
مخالفة ولكنه لم يظهرها للناس، لأن الدعوة للعقائد المخالفة تمثل في واقعها حربا
للنظام الاجتماعي الموجود، وعليه فلا تكون الخشونة والحال هذه عبثا، ولا
تتنافى وحرية الفكر والاعتقاد، وكما قلنا فإن شبيه هذا القانون موجود في كثر من
دول الغرب والشرق مع بعض الاختلافات.
وينبغي الالتفات إلى أن قبول الإسلام يجب أن يكون طبقا للمنطق، والذي
يولد من أبوين مسلمين وينشأ بين أحضان بيئة إسلامية، فمن البعيد عدم ادراكه
محتوى الإسلام، ولهذا يكون ارتداده وعدوله عن الإسلام أشبه بالخيانة منه من
عدم إدراك الحقيقة، ولذلك فهو يستحق ما خط في حقه من عقاب.
على أن الأحكام عادة لا تخصص لشخص أو شخصين وإنما يلحظ فيها
المجموع العام (1).

1 - اختلف المفسرون بخصوص جملة " من كفر بالله... "، فاعتبرها بعضهم: شرحا وتوضيحا للجملة السابقة لها وأنها بدل
لعبارة " الذين لا يؤمنون بآيات الله "، فيما اعتبرها آخرون: بدلا لكلمة " كاذبون "، وقال بعضهم: أنها مبتدأ محذوف الخبر
ويقدروها ب‍ " من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم "، فجزاء الشرط محذوف لدلالة الجملة
التالية على ذلك.
وثمة احتمال رابع (ويبدو أفضل الاحتمالات) وهو: أنها مبتدأ، وخبرها في نفس الآية وغير ومحذوف، أما عبارة " لكن من
شرح للكفر صدرا " فهي توضيح جديد للمبتدأ لوقوع جملة استثنائية بينها وبين خبرها، وهذا النوع من التعبير كثير الاستعمال
حتى في غير اللغة العربية - فتأمل.
347

* * *
348

2 الآيات
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها
رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس
الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (112) ولقد جاءهم رسول
منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون (113) فكلوا مما
رزقكم الله حللا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه
تعبدون (114)
2 التفسير
3 الذين كفروا فأصابهم العذاب
قلنا مرارا: إن هذه السورة هي سورة النعم، النعم المادية والمعنوية وعلى
كافة الأصعدة، وقد مر ذكر في آيات متعددة من هذه السورة المباركة.
وتصور لنا الآيات أعلاه عاقبة الكفر بالنعم الإلهية على شكل مثل واقعي.
ويبتدأ التصوير القرآني بضرب مثل لمن لم يشكر نعمة الله عليه: ضرب
الله مثلا قرية كانت آمنة لا تضطر إلى هجرة إجبارية، بل تعيش في أمن
349

وأمان (مطمئنة) ومضافا إلى ذلك يأتيها رزقها رغدا من كل مكان.
ولكن حالها قد تبدل في النهاية فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس
الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وإضافة لاستكمال نعم الله المادية عليهم، فقد أضاف لهم من النعم المعنوية
ما يستقر به حالهم في الدنيا، ويدام لهم ذلك في الآخرة، فبعث بين ظهرانيهم رسل
وأنبياء وأرسلت إليهم التعاليم السماوية ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه.
فكانت النتيجة أن: فأخذهم العذاب وهم ظالمون.
وإنكم حين تطلعون على هذه النماذج الواقعية من الأمم السابقة، فاعتبروا
بها ولا تنهجوا طريق أولئك الغافلين الظالمين من الكافرين بأنعم الله فكلوا مما
رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون.
* * *
2 بحوث
3 1 - أهو مثال أم حدث تاريخي؟
لقد عبرت الآيات أعلاه عند حديثها عن تلك المنطقة العامرة بكثرة النعم،
والتي أصاب أهلها بلاء الجوع والخوف نتيجة كفرهم بأنعم الله، عبرت عن ذلك
بكلمة " مثلا " وبذات الوقت فإن الآية استخدمت الأفعال بصيغة الماضي، مما
يشير إلى وقوع ما حدث فعلا في زمن ماض، وهنا حصل اختلاف بين المفسرين
في الهدف من البيان القرآني، فقسم قد احتمل أن الهدف هو ضرب مثال عام،
وذهب القسم الثاني إلى أنه لبيان واقعة تأريخية معينة.
وتطرق مؤيدو الاحتمال الثاني إلى تحديد المنطقة التي حدثت فيها هذه
الواقعة. فذهب بعضهم أنها أرض مكة، ولعل يأتيها رزقها رغدا من كل
مكان تدعو إلى تقوية هذا الاحتمال، لأنه دليل على أن هذه المنطقة مجدبة،
350

وما تحتاج إليه يأتيها من خارجها، وما جاء في الآية (57) من سورة القصص
يجبى إليه ثمرات كل شئ يعضد هذا المعنى، خصوصا وأن المفسرين قد
قطعوا بأنها إشارة إلى مكة المكرمة.
ويرد هذا الزعم بعدم معرفة حادثة كهذه في تأريخ مكة على ما للحادثة من
وضوح، فغير معروف عن مكة أنها عاشت أياما رغيدة ومن ثم جاءها القحط
والجوع!
وقال بعض آخر: حدثت هذه القصة لجمع من بني إسرائيل في منطقة ما،
وأنهم ابتلوا بالقحط والخوف على أثر كفرانهم بنعم الله.
وما يؤيد ذلك ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن قوما في بني
إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم
يستنجون بها فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها ويأكلونها وهو
قول الله " ضرب الله مثلا... (1).
ورويت روايات أخرى قريبة من هذا المضمون عن الإمام الصادق (عليه السلام)
وتفسير علي بن إبراهيم مما لا يمكن الاعتماد الكامل على أسانيدها، وإلا لكانت
المسألة واضحة (2).
وثمة احتمال آخر وهو أن الآية تشير إلى قوم " سبأ " الذين عاشوا في اليمن،
وقد ذكر القرآن الكريم قصتهم في الآيات (15 - 19) من سورة سبأ، وكيف أنهم
كانوا يعيشون على أرض ملؤها الثمار والخيرات في أمن وسلام، حتى أصابهم
الغرور والطغيان والاستكبار وكفران النعم الإلهية، فأهلكهم الله وشتت جمعهم
وجعلهم عبرة للآخرين.
وجملة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ليست دليلا قاطعا على أنها لم

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 91 (لاحظ بأن الرواية عن تفسير العياشي، وأحاديثه مرسلة).
2 - المصدر السابق.
351

تكن عامرة بذاتها، لأنه من الممكن أن يقصد ب‍ " كل مكان " أطرافها وضواحيها،
وكما هو معروف فإن المحاصيل الزراعية لإقليم كبير تنتقل إلى المدينة أو القرية
المركزية في تلك المنطقة.
وينبغي التذكير مرة أخرى بعدم وجود المانع من شمولية إشارة الآية إلى كل
ما ذكر من احتمالات.
وعلى أية حال، فليس ثمة مشكلة مهمة في تفسير هذه الآية وذلك لكثرة
المناطق التي أصابها مثل هذه العاقبة عبر التاريخ.
وإذا كان عدم الاطمئنان الكافي في تعيين محل المنطقة قد دفع بعض
المفسرين إلى اعتبار الموضوع مثالا عاما مجردا وليس منطقة معينة، فظاهر
الآيات مورد البحث لا يناسب ذلك التفسير، بل يشير إلى وجود منطقة معينة
وحادثة تأريخية.
3 2 - الرابطة ما بين الأمن والرزق الكثير
ذكرت الآيات ثلاث خصائص لهذه المنطقة العامرة المباركة:
الخاصية الأولى: الأمن.
الخاصية الثانية: الاطمئنان في إدامة الحياة.
الخاصية الثالثة: جلب الأرزاق والمواد الغذائية الكثيرة إليها.
وترتبط هذه الخواص فيما بينها ترابطا عليا وحسب تسلسلها، فكل خاصية
ترتبط بما قبلها ارتباط علة ومعلول، فلو فقد الأمن لما اطمأن الإنسان على إدامة
حياته في مكانه المعين، وإذا فقد الاثنان فلا رغبة حقيقية لأحد على الإنتاج
وتحسين الوضع الاقتصادي هناك.
فالآية تقدم درسا عمليا لمن يرغب في بلاد عامرة وحرة ومستقلة، فقبل كل
شئ لابد من توفير حالة الأمن، ومن ثم بعث الاطمئنان في قلوب الناس
352

بخصوص مستقبل وجودهم في تلك المنطقة، ومن بعد ذلك يأتي دور تحريك
عجلة الاقتصاد.
فبهذه النعم المادية الثلاثة تصل المجتمعات إلى درجة تكامل حياتها المادية
فقط، ووصولا للحياة المتكاملة من كافة الجوانب (ماديا ومعنويا) تحتاج
المجتمعات إلى نعمة الإيمان والتوحيد، ولهذا فقد جاء بعد ذكر هذه النعم: ولقد
جاءهم رسول منهم.
3 3 - لباس الجوع والخوف
ذكرت الآيات في بيان عاقبة الكافرين بنعم الله، قائلة: فأذاقها الله لباس
الجوع والخوف فمن جهة: شبهت الجوع والخوف باللباس، ومن جهة أخرى:
عبرت ب‍ " أذاقها " بدلا من (ألبسها).
وحمل هذا التفاوت في التعبير المفسرين إلى التوقف والتأمل في الآية...
فالتعبير يحمل بين طياته إشارة لطيفة، فمثلا:
قال ابن الراوندي لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللباس؟
قال ابن الأعرابي: لا بأس ولا لباس يا أيها النسناس، هب أنك تشك أن
محمدا ما كان نبيا أما كان عربيا!! (1).
وعلى أية حال، فالتعبير إشارة إلى أن القحط والخوف كانا من الشدة وكأنهما
لباس قد أحاط بأبدانهم من كل الجهات، وأبدانهم في تماس معه، ومن جهة أخرى
فقد وصلت حالة لمسهم للخوف والقحط كأنهم يتذوقونه بألسنتهم.
وهو تعبير عن أشد حالات الخوف ومنتهى حالات الفقر والذي يمكن أن
يصيب جميع وجود الإنسان.

1 - تفسير الفخر الرازي، ج 20، ص 128.
353

فكما أن نعمة الأمن والرفاه قد غطت كامل وجودهم في البداية، فها هم وقد
حال بهم الأمر لأن يحل الفقر والخوف محلها في آخر مطافهم نتيجة لكفرانهم بنعم
الله سبحانه.
3 4 - أثر كفران النعمة في تضييع المواهب الإلهية
رأينا في الرواية المتقدمة كيف راح أولئك المرفهون بتطهير أجسادهم
بواسطة المواد الغذائية بعد أن تسلطت عليهم الغفلة وساورهم الغرور، حتى
ابتلاهم الله بالقحط والخوف.
وعرض الحادثة ما هو إلا تنبيه للناس ولكل الأمم الغارقة بالنعم الإلهية،
على أن الإسراف والتبذير وتضييع النعم لا ينجو من عقوبة وغرامة ثقيلة الوقع.
وهو تنبيه أيضا للذين يرمون نصف غذائهم (الزائد عن الحاجة) في أكياس
الأوساخ دائما.
وهو تنبيه كذلك لأولئك الذين يهيئون غذاء يكفي لعشرين شخصا، وليس لهم
من الضيوف إلا أربعة، ولا يصل الزائد منه إلى بطون الجياع من الناس.
وهو تنبيه للذين يجمعون المواد الغذائية في بيوتهم لاستعمالهم الخاص،
ويملؤون مخازنهم انتظارا لارتفاع سعرها في الأسواق حتى يفسد ويذهب هباء
من غير أن يستفيدوا من بيعها بسعر مناسب قبل فسادها.
نعم، فلا يخلو أي عمل مما ذكر من عقوبة إلهية، وأقل ما يعاقبون به هو سلب
تلك النعم عنهم.
وتتضح أهمية المسألة إذا علمنا أن المواد الغذائية على سطح الكرة الأرضية
محددة بنسبة، فأي إفراط في أي نوع من المواد يؤدي إلى حرمان نسبة من البشر
من تلك المواد.
ولذلك جاء التأكيد الشديد حول هذه المسألة في الأحاديث الشريفة، حتى
354

روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: " كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه
شئ من الطعام تعظيما له، إلا أن يمصها، أو يكون إلى جانبه صبي فيمصها، قال:
فإني أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم، ثم قال: إن أهل قرية
ممن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا، فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا
إلى شئ من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة، قال عليه
السلام: فلما فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دوابا أصغر من الجراد فلم تدع لهم
شيئا خلقه الله إلا أكلته من شجر أو غيره، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي
كانوا يستنجون به، فأكلوه، وهي القرية التي قال الله تعالى: ضرب الله مثلا
قرية كانت آمنة مطمئنة إلى قوله: بما كانوا يصنعون (1)
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 91 و 92
355

2 الآيات
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير
الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم (115)
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلل وهذا
حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله
الكذب لا يفلحون (116) متع قليل ولهم عذاب أليم (117) وعلى
الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (118) ثم إن ربك للذين عملوا
السوء بجهلة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من
بعدها لغفور رحيم (119)
2 التفسير
3 لا يفلح الكاذبون:
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم الإلهية ومسألة شكر النعمة، تأتي
الآيات أعلاه لتتحدث عن آخر حلقات الموضوع وتطرح مسألة المحرمات
356

الواقعية وغير الواقعية لتفصل بين الدين الحق وبين البدع التي أحدثت في دين
الله، وتشرع بالقول: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير
الله به (1).
وقد بحثنا موضوع تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير بالتفصيل في تفسيرنا
للآية (173) من سورة البقرة.
إن تلوث هذه المواد الثلاث بات اليوم ليس خافيا على أحد، فالميتة مصدر
لأنواع الجراثيم، والدم من أكثر مكونات البدن تقبلا للتلوث بالجراثيم، وأما لحم
الخنزير فيعتبر سببا للإصابه بالكثير من الأمراض الخطرة، وفوق كل ذلك (وكما
قلنا في تفسيرنا لسورة البقرة) فتناول لحم الخنزير والدم له الأثر الخطير على
الحالة النفسية والأخلاقية للإنسان، بسبب التأثير الحاصل منهما على هرمونات
البدن، (و الميتة بسبب عدم ذبحها وخروج دمها فإن أضرار التلوث تتضاعف
فيها).
أما فلسفة تحريم ما يذبح لغير الله (حيث كانوا بدلا من ذكر اسم الله عند
الذبح يذكرون أسماء أصنامهم أو لا يتلفظون بشئ) فليست صحية، بل هي
أخلاقية ومعنوية، حيث نعلم بعدم كفاية علة التحليل والتحريم في الإسلام
بملاحظة الجانب الصحي للموضوع، بل من المحرمات ذات جانب معنوي صرف،
وحرمت بلحاظ تهذيب الروح والنظر إلى الجنبة الأخلاقية، وقد يأتي التحريم في
بعض الحالات حفظا للنظام الاجتماعي.
فتحريم أكل لحم ما لم يذكر عليه اسم الله إنما كان بلحاظ أخلاقي. فمن جهة
يكون التحريم حربا على الشرك وعبادة الأصنام، ومن جهة أخرى يكون دعوة
إلى خالق هذه النعم.

1 - أهل: من الإهلال، مأخوذ من الهلال، بمعنى إعلاء الصوت عند رؤية الهلال، وباعتبار أن المشركين كانوا إذا ذبحوا
حيواناتهم للأصنام صرخوا عاليا بأسماء أصنامهم، فقد عبر عنه ب‍ " أهل ".
357

ويستفاد من المحتوى العام للآية والآيات التالية أن الإسلام يوصي
بالاعتدال في تناول اللحوم، فلا يكون المسلم كالذين حرموا على أنفسهم تناول
اللحم واكتفوا بالأغذية النباتية، ولا كالذين أحلوا لأنفسهم أكل اللحوم أيا كانت
كأهل الجاهلية والبعض ممن يدعي التمدن في عصرنا الحاضر، ممن يجيزون أكل
كل لحم (كالسحالي والسرطان وأنواع الديدان).
3 جواب على سؤال:
وهنا يأتي السؤال التالي.. ذكرت الآية المباركة أربعة أقسام من الحيوانات
المحرمة الأكل أو أجزائها، والذي نعلمه أن المحرم من اللحوم أكثر مما ذكر، حتى
أن بعض السور القرآنية ذكرت من المحرمات أكثر من أربعة أقسام (كما في الآية
(3) من سورة المائدة).
فلماذا حددت الآية أربعة أشياء فقط؟
وجواب السؤال - كما قلنا في تفسير الآية (145) من سورة الأنعام -: أن
الحصر الموجود في الآية هو حصر إضافي، أي أن المقصود من استعمال " إنما "
في هذه الآيات لنفي وإبطال البدع التي كان يقول بها المشركون في تحريم بعض
الحيوانات، وكأن القرآن يقول لهم: هذه الأشياء حرام، لا ما تقولون!
وثمة احتمال آخر، وهو أن تكون هذه المحرمات الأربعة هي المحرمات
الأصلية أو الأساسية، حيث أن " المنخنقة " المذكورة في آية (3) من سورة المائدة
داخلة في إحدى الأقسام الأربعة (الميتة).
أما المحرمات الأخرى من أجزاء الحيوانات أو أنواعها - كالوحوش - فتأتي
في الدرجة الثانية، ولذا أتى حكم تحريمها بطريق سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليه فيمكن
أن يكون الحصر في الآية حصرا حقيقيا - فتأمل.
وفي نهاية الآية سياقا مع الأسلوب القرآني عند تناوله ذكرت الحالات
358

والموارد الاستثنائية، يقول: فمن اضطر كأن يكون في صحراء ولا يملك غذاء
غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم.
" باغ " أو الباغي: (من البغي) بمعنى " الطلب "، ويأتي هنا بمعنى طلب اللذة أو
تحليل ما حرم الله.
" عاد " أو العادي، (من العدو) أي " التجاوز "، ويأتي هنا بمعنى أكل المضطر
لأكثر من حد الضرورة.
وورد تفسير (الباغي) في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) بأنه (الظالم)، و (العادي)
بمعنى (الغاصب)، وجاء - أيضا - الباغي: هو الذي يخرج على إمام زمانه،
والعادي، هو السارق.
وإشارة الروايات المذكورة يمكن حملها على الاضطرار الحاصل عند
السفر، فإذا سافر شخص ما طلبا للظلم والغصب والسرقة ثم اضطر إلى أكل هذه
اللحوم المحرمة فسوف لا يغفر له ذنبه، حتى وإن كان لحفظ حياته من الهلاك
المحتم.
وعلى أية حال، فلا تنافي بين ما ذهبت إليه التفاسير وبين المفهوم العام للآية،
حيث يمكن جمعها.
وتأتي الآية التالية لتطرح موضوع تحريم المشركين لبعض اللحوم بلا سبب
أو دليل، والذي تطرق القرآن إليه سابقا بشكل غير مباشر، فتأتي الآية لتطرحه
صراحة حيث تقول: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا
حرام لتفتروا على الله الكذب (1).
أي إن ما جئتم به ليس إلا كذبة صريحة أطلقتها ألسنتكم في تحليلكم أشياء
بحسب ما تهوى أنفسكم، وتحريمكم لأخرى! (إشارة إلى الأنعام التي حرمها

1 - وهكذا أصل تركيب جملة ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: اللام:.. لام التعليل، " ما " في " لما تصف "..
مصدرية، و " الكذب ".. مفعول ل‍ " تصف ".. فتكون العبارة: (لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لتوصيف ألسنتكم الكذب).
359

البعض على نفسه، والبعض الآخر حللها لنفسه بعد أن جعل قسما منها لأصنامه).
فهل أعطاكم الله حق سن القوانين؟ أم أن أفكاركم المنحرفة وتقاليدكم
العمياء هي التي دفعتكم لإحداث هذه البدع؟.. أوليس هذا كذبا وافتراءا على
الله؟!
وجاء في الآية (136) من سورة الأنعام بوضوح: وجعلوا لله مما ذرأ من
الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم
فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون.
ويستفاد كذلك من الآية (148) من سورة الأنعام: سيقول الذين أشركوا
لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ أنهم كانوا يجعلون
لأنفسهم حق التشريع في التحليل والتحريم، ويظنون أن الله يؤيد بدعهم! (وعلى
هذا فكانوا يضعون البدعة أولا ويحللون ويحرمون ثم ينسبون ذلك إلى الله
فيكون افتراءا آخر) (1).
ويحذر القرآن في آخر الآية بقوله: إن الذين يفترون على الله الكذب لا
يفلحون لأن من مسببات الشقاء الأساسية الكذب والافتراء على أي إنسان،
فكيف به إذا كان على الله عز وجل!؟ فلا أقل والحال هذه من مضاعفة آثاره
السيئة.
وتوضح الآية التالية ذلك الخسران، فتقول: متاع قليل ولهم عذاب أليم.
ويمكن أن تكون متاع قليل إشارة إلى أجنة الحيوانات الميتة التي كانوا
يحللونها لأنفسهم ويأكلون لحومها، أو إشارة إلى إشباعهم حب الذات وعبادتها
بواسطة جعل البدع، أو أنهم بتثبيت الشرك وعبادة الأصنام في مجتمعهم
يتمكنون أن يحكموا على الناس مدة من الزمن، وكل ذلك متاع قليل سيعقبه

1 - ولذا جاء ذكر افتراءهم في الآية مسبوقا باللام ليكون نتيجة وغاية لبدعهم - فتأمل.
360

عذاب أليم.
ويطرح السؤال التالي: لماذا حرمت على اليهود محرمات إضافية؟
الآية التالية كأنها جواب على السؤال المطروح، حيث تقول: وعلى الذين
هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل.
وهو إشارة إلى ما ذكر من الآية (146) من سورة الأنعام: وعلى الذين
هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت
ظهور هما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون.
ذي ظفر: هي الحيوانات ذات الظفر الواحد كالخيل.
ما حملت ظهورهما: الشحوم التي في منطقة الظهر منها.
الحوايا: الشحوم التي على أطراف الأمعاء والخاصرتين.
وحقيقة هذه المحرمات الإضافية العقاب والجزاء لليهود جراء ظلمهم،
ولذلك يقول القرآن الكريم في آخر الآيات مورد البحث: وما ظلمناهم ولكن
كانوا أنفسهم يظلمون.
وكذلك ما جاء في الآيتين (160 و 161) من سورة النساء: فبظلم من
الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا
وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل.
فكان تحريم قسما من اللحوم على اليهود ذا جنبة عقابية دون أن يكون
للمشركين القدرة على الاحتجاج في ذلك.
وما حرمه المشركون إن هو إلا بدعة نشأت من خرافاتهم وأباطيلهم، لأن ما
فعلوه ما كان جاريا لا عند اليهود ولا عند المسلمين (ويمكن أن تكون إشارة
الآية تؤدي إلى هذا المعنى وهو إنكم فعلتم ما لا يتفق مع أي كتاب سماوي).
وفي آخر آية من الآيات مورد البحث، وتمشيا مع الأسلوب القرآني، يبدأ
القرآن بفتح أبواب التوبة أمام المخدوعين من الناس والنادمين من ضلالهم،
361

فيقول: ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا
ان ربك من بعدها لغفور رحيم.
ويلاحظ في هذه الآية جملة أمور:
أولا: اعتبرت علة ارتكاب الذنب " الجهالة "، والجاهل المذنب يعود إلى
طريق الحق بعد ارتفاع حالة الجهل، وهؤلاء غير الذين ينهجون جادة الضلال
على علم واستكبار وغرور وتعصب وعناد منهم.
ثانيا: إن الآية لا تحدد موضوع بالتوبة القلبية والندم، بل تؤكد على أثر التوبة
من الناحية العملية وتعتبر الإصلاح مكملا للتوبة، لتبطل الزعم القائل بإمكان مسح
آلاف الذنوب بتلفظ " أستغفر الله "، وتؤكد على وجوب إصلاح الأمور عمليا،
وترميم ما أفسد من روح الإنسان أو المجتمع بارتكاب تلك الذنوب، للدلالة إلى
التوبة الحقيقية لا توبة لقلقة اللسان.
ثالثا: التأكيد على شمول الرحمة الإلهية والمغفرة لهم، ولكن بعد التوبة
والإصلاح: إن ربك من بعدها لغفور رحيم.
وبعبارة أخرى إن مسألة قبول التوبة لا يكون إلا بعد الندم والإصلاح، وقد
ذكر ذلك في ثلاثة تعابير:
أولا: باستعمال الحرف " ثم ".
ثانيا: " من بعد ذلك ".
ثالثا: " من بعدها ".
لكي يلتفت المذنبون إلى أنفسهم ويتركوا ذلك التفكير الخاطئ بأن يقولوا:
نرجو لطف الله وغفرانه ورحمته، وهم على ارتكاب الذنوب دائمون.
* * *
362

2 الآيات
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120)
شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وآتيناه
في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122) ثم أوحينا
إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123) إنما
جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم
يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون (124)
2 التفسير
3 كان إبراهيم لوحده أمة!
كما قلنا مرارا بأن هذه السورة هي سورة النعم، وهدفها تحريك حس الشكر
لدى الإنسان بشكل يدفعه لمعرفة خالق وواهب هذه النعم.
والآيات تتحدث عن مصداق كامل للعبد الشكور لله، ألا وهو " إبراهيم " بطل
التوحيد، وأول قدوة للمسلمين عامة وللعرب خاصة.
والآيات تشير إلى خمس من الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها
363

إبراهيم (عليه السلام).
1 - إن إبراهيم كان أمة.
وقد ذكر المفسرون أسبابا كثيرة للتعبير عن إبراهيم (عليه السلام) بأنه " أمة " وأهمها
أربع:
الأول: كان لإبراهيم شخصية متكاملة جعلته أن يكون أمة بذاته، وشعاع
شخصية الإنسان في بعض الأحيان يزداد حتى ليتعدى الفرد والفردين
والمجموعة فتصبح شخصيته تعادل شخصية أمة بكاملها.
الثاني: كان إبراهيم (عليه السلام) قائدا وقدوة حسنة ومعلما كبيرا للإنسانية، ولذلك
أطلق عليه أمة لأن " أمة " اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس
وتنصاع له.
وثمة ارتباط معنوي خاص بين المعنيين الأول والثاني، حيث أن الذي يكون
بمرتبة إمام صدق واستقامة لأمة ما، يكون شريكا لهم في أعمالهم وكأنه نفس تلك
الأمة.
الثالث: كان إبراهيم (عليه السلام) موحدا في محيط خال من أي موحد، فالجميع كانوا
يخوضون في وحل الشرك وعبادة الأصنام، فهو والحال هذه " أمة " في قبال أمة
المشركين (الذين حوله).
الرابع: كان إبراهيم (عليه السلام) منبعا لوجود أمة، ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة " أمة ".
ولا مانع من أن تحمل هذه الكلمة القصيرة الموجزة كل ما ذكر ما معان
كبيرة..
نعم فقد كان إبراهيم أمة وكان إماما عظيما، وكان رجلا صانع أمة، وكان
مناديا بالتوحيد وسط بيئة اجتماعية خالية من أي موحد (1).

1 - وفي الروايات عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن عبد المطلب: " يبعث يوم القيامة أمة وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء " لأنه كان
مدافعا عن التوحيد في بيئة الشرك وعبادة الأصنام. (سفينة البحار، ج 2، ص 139).
364

وقال الشاعر:
ليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد
2 - صفته الثانية في هذه الآيات: أنه كان قانتا لله.
3 - وكان دائما على الصراط المستقيم سائرا على طريق الله، طريق الحق
حنيفا.
4 - ولم يك من المشركين بل كان نور الله يملأ كل حياته وفكره، ويشغل
كل زوايا قلبه.
5 - وبعد كل هذه الصفات، فقد كان شاكرا لأنعمه.
وبعد عرض الصفات الخمسة يبين القرآن الكريم النتائج المهمة لها، فيقول:
1 - اجتباه للنبوة وإبلاغ دعوته.
2 - وهداه إلى صراط مستقيم وحفظه من كل انحراف، لأن الهداية لا
تأتي لأحد عبثا، بل لابد من توفر الاستعداد والأهلية لذلك.
3 - وآتيناه في الدنيا حسنة.
" الحسنة " في معناها العام كل خير وإحسان، من قبيل منح مقام النبوة مرورا
بالنعم المادية حتى نعمة الأولاد وما شابهها.
4 - وأنه في الآخرة لمن الصالحين.
ومع أن إبراهيم كان على رأس الصالحين في الدنيا، فإنه سيكون منهم في
الآخرة كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم، وهذه دلالة على عظمة مقام الصالحين
بأن يحسب إبراهيم (عليه السلام) على ما له من مقام سام كأحدهم في دار الآخرة، ولم لا
يكون ذلك وقد طلب إبراهيم (عليه السلام) ذلك من ربه حين قال: رب هب لي حكما
وألحقني بالصالحين (1).

1 - سورة الشعراء، 83.
365

5 - وختمت عطايا الله عز وجل لإبراهيم (عليه السلام) لما ظهر منه من صفات متكاملة
بأن جعل دينه عاما وشاملا لكل ما سيأتي بعده من زمان - وخصوصا للمسلمين
- ولم يجعل دينه مختصا بعصر أهل زمانه، فقال الله عز وجل: ثم أوحينا إليك
أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا (1).
ويأتي التأكيد مرة أخرى: وما كان من المشركين.
وبملاحظة الآيات السابقة يبدو لنا هذا السؤال: إن كان دين الإسلام هو نفس
دين إبراهيم وأن المسلمين يتبعون سنن إبراهيم (عليه السلام) في كثير من المسائل ومنها
احترام يوم الجمعة، فلماذا اتخذ اليهود يوم السبت عيدا لهم بدلا من الجمعة
ويعطلون فيه أعمالهم؟
إن آخر آية من الآيات مورد البحث تجيب على السؤال المذكور حين تقول:
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه أي أن السبت وما حرم في السبت
كان عقوبة لليهود، وقد اختلفوا فيه أيضا، فمنهم من قبله ومنهم من أهمله.
وتقول بعض الروايات: أن موسى (عليه السلام) دعا قومه بني إسرائيل لاحترام يوم
الجمعة وتعطيل أعمالهم فيه، وهو دين إبراهيم (عليه السلام)، إلا إنهم تعللوا، واختاروا يوم
السبت، فجعله الله عطلة لهم ولكن بضيق وشدة، ولهذا لا ينبغي الاعتماد على
تعطيل يوم السبت، لأنه إنما كان استثنائيا وذا طابع جزائي، وأفضل دليل على هذا
الأمر أن اليهود أنفسهم اختلفوا في يومهم المنتخب هذا، فبعض احترمه وبعض
آخر خالف ذلك وأدام العمل والكسب فيه حتى أصابهم عذاب الله.
وثمة احتمال آخر أن تكون إشارة الآية مرتبطة ببدع المشركين في موضوع
الأغذية الحيوانية، لأن الآيات السابقة تطرقت لذلك من خلال إجابتها على

1 - " الحنيف ": بمعنى الذي يترك الانحراف ويتجه إلى الاستقامة والصلاح، وبعبارة أخرى، يغض نظره عن الأديان والأوضاع
المنحرفة ويتوجه نحو صراط الله المستقيم، الدين الموافق للفطرة، ولهذا يسمى الصراط المستقيم، فالتعبير بالحنيف يحمل بين
طياته إشارة خفية إلى أن التوحيد هو دين الفطرة.
366

تساؤل: لماذا لم يحرم في الإسلام ما كان محرما في دين اليهود؟ فجاء الجواب أن
ذلك كان عقابا لهم، فيطرح السؤال مرة أخرى حول عدم حرمة صيد الأسماك يوم
السبت في الأحكام الإسلامية في حين أنه محرم على اليهود.. فيكون الجواب بأنه
كان عقابا لليهود أيضا.
وعلى أية حال، فثمة ارتباط بين هذه الآيات والآيات (163 - 166) من
سورة الأعراف التي تتحدث الحديث عن " أصحاب السبت "، حيث عرضت
قصتهم، وكيف أن صيد السمك قد حرم عليهم في يوم السبت، ومخالفة قسم منهم
لهذا الأمر، والعقاب الشديد الذي نزل عليهم بعد ذلك الامتحان الإلهي.
وينبغي الالتفات إلى أن " السبت " في الأصل بمعنى تعطيل الأعمال
للاستراحة، ولذلك سمي يوم السبت، لأن اليهود كانوا يعطلون أعمالهم فيه، وبقي
هذا الاسم مستعملا حتى بعد مجئ الإسلام، إلا أنه لا عطلة فيه.
ويقول القرآن الكريم في آخر الآية: وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة
فيما كانوا فيه يختلفون.
وكما أشرنا سابقا فإن إحدى خصائص يوم القيامة إنهاء الاختلافات على
كافة الأصعدة، والعودة إلى التوحيد المطلق، لأن يوم القيامة هو يوم: البروز،
الظهور، كشف السرائر والبواطن، وكشف الغطاء ويوم رفع الحجب.
* * *
367

2 الآيات
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجدلهم
بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو
أعلم بالمهتدين (125) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به
ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا
بالله ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون (127) إن الله
مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)
2 التفسير
3 عشرة قواعد أخلاقية.. سلاح داعية الحق:
حملت آيات السورة بين طياتها أحاديث كثيرة ومتنوعة، فقد تناولت
المشركين واليهود وأصناف المخالفين بشكل عام، تارة بلهجة لينة وأخرى
بأسلوب تقريع شدة، وخصوصا الآيات السابقة لما لها من عمق وشدة أكثر مما
سبقها من الآيات المباركات.
أما الآيات أعلاه والتي تمثل خاتمة بحوث وأحاديث سورة النحل، فتبين
368

أهم الأوامر الأخلاقية الأساسية التي ينبغي التحصن بها عند مواجهة المخالفين
على أساس منطقي، كما وتبين كيفية العقاب والعفو وأسلوب الصمود أمام
مؤامرتهم وما شابه ذلك.
ويمكن تسمية ذلك بالأصول التكتيكية ومنهج المواجهة في الإسلام ضد
المخالفين، كما وينبغي العمل به كقانون كلي شامل لكل زمان ومكان.
ويتلخص هذا البرنامج الرباني بعشرة أصول، تم ترتيبها وفقا لتسلسل
الآيات مورد البحث:
1 - أدع إلى سبيل ربك بالحكمة:
" الحكمة ": بمعنى العلم والمنطق والاستدلال، وهي في الأصل بمعنى (المنع)
وقد أطلقت على العلم والمنطق والاستدلال لقدرتها على منع الإنسان من الفساد
والانحراف...
فأول خطوة على طريق الدعوة إلى الحق هي التمكن من الاستدلال وفق
المنطق السليم، أو النفوذ إلى داخل فكر الناس ومحاولة تحريك وإيقاظ عقولهم،
كخطوة أولى في هذا الطريق.
2 - والموعظة الحسنة:
وهى الخطوة الثانية في طريق الدعوة إلى الله، بالاستفادة من عملية تحريك
الوجدان الإنساني، وذلك لما للموعظة الحسنة من أثر دقيق وفاعل على عاطفة
الإنسان وأحاسيسه، وتوجيه مختلف طبقات الناس نحو الحق.
وفي الحقيقة فإن " الحكمة " تستثمر البعد العقلي للإنسان، و " الموعظة
الحسنة " تتعامل مع البعد العاطفي له (1).

1 - قال بعض المفسرين في الفرق ما بين الحكمة، والموعظة الحسنة، المجادلة بالتي هي أحسن: أن الحكمة إشارة إلى
الأدلة القطعية.. الموعظة الحسنة إشارة إلى الأدلة الظنية.. والمجادلة بالتي هي أحسن إشارة إلى الأدلة التي تهدف إلى إفحام
المخالفين من خلال إلزامهم بما به يقبلون. (إلا أن ما أوردناه أعلاه يبدو أكثر مناسبة للمقصود).
369

إن تقييد " الموعظة " بقيد " الحسنة " لعله إشارة إلى أن النصيحة والموعظة إنما
تؤدي فعلها على الطرف المقابل إذا خليت من أية خشونة أو استعلاء وتحقير التي
تثير فيه حس العناد واللجاجة وما شابه ذلك.
فكم من موعظة أعطت عكس ما كان يؤمل بها بسبب أسلوب طرحها الذي
يشعر الطرف المقابل بالحقارة والإهانة كأن تكون الموعظة امام الآخرين
ومقرونة بالتحقير، أو يستشم منها رائحة الاستعلاء في الواعظ، فتأخذ الطرف
المقابل العزة بالإثم ولا يتجاوب مع تلك الموعظة.
وهكذا يترتب الأثر الإيجابي العميق للموعظة إذا كانت " حسنة ".
3 - وجادلهم بالتي هي أحسن.
الخطوة الثالثة تختص بتخلية أذهان الطرف المخالف من الشبهات العالقة فيه
والأفكار المغلوطة ليكون مستعدا لتلقي الحق عند المناظرة.
وبديهي أن تكون المجادلة والمناظرة ذات جدوى إذا كانت بالتي هي
أحسن، أي أن يحكمها الحق والعدل والصحة والأمانة والصدق، وتكون خالية
من أية إهانة أو تحقير أو تكبر أو مغالطة، وبعبارة شاملة: أن تحافظ على كل
الأبعاد الإنسانية السليمة عند المناظرة.
وفي ذيل الآية الأولى، يقول القرآن: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله
وهو أعلم بالمهتدين.
فالآية تشير إلى أن وظيفتكم هي الدعوة إلى طريق الحق بالطرق الثلاثة
المتقدمة، أما مسألة من الذي سيهتدي ومن سيبقى على ضلاله، فعلم ذلك عند الله
وحده سبحانه.
وثمة احتمال آخر في مقصود هذه الجملة وهو بيان دليل للتوجيهات الثلاث
المتقدمة، أي: إنما أمر سبحانه بهذه الأوامر الثلاثة لأنه يعلم الكيفية التي تؤثر
بالضالين لأجل توجيههم وهدايتهم.
370

4 - انصب الحديث في الأصول الثلاثة حول البحث المنطقي والأسلوب
العاطفي والمناقشة المعقولة مع المخالفين، وإذا حصلت المواجهة معهم ولم
يتقبلوا الحق وراحوا يعتدون، فهنا يأتي الأصل الرابع: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل
ما عوقبتم به.
5 - ولئن صبرتم لهو خير للصابرين:
وتقول الروايات: إن الآية نزلت في معركة (أحد) عندما شاهد رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شهادة عمه حمزة بن عبد المطلب المؤلمة (حيث لم يكتف العدو بقتله بل
شق صدره بوحشية وقساوة فظيعة وأخرج كبده أو قلبه وقطع أذنه وأنفه) وتأذى
النبي لذلك كثيرا وقال: " اللهم لك الحمد وإليك وأنت المستعان على ما أرى " ثم
قال: " لئن ظفرت لأمثلن ولأمثلن ولأمثلن " وعلى رواية أخرى أنه قال: " لأمثلن
بسبعين منهم " فنزلت الآية: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم
لهو خير للصابرين فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أصبر أصبر " (1).
ربما كانت تلك اللحظة من أشد لحظات حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنه تمالك زمام
أمور نفسه واختار الطريق الثاني، طريق العفو والصبر.
ويحكي لنا التأريخ ما قام به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حين فتح مكة، فما أن وطأت
أقدام المسلمين المنتصرة أرض مكة حتى أصدر نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم) العفو العام عن
أولئك الجفاة، فوفى بوعده الذي قطعه على نفسه في معركة أحد (2).
وحري بالإنسان إذا أراد أن ينظر إلى أعلى نموذج حي في العواطف
الإنسانية، أن يضع قصتي أحد وفتح مكة نصب عينيه ليقارن ويربط بينهما.
ولعل التأريخ لا يشهد لأية أمة منتصرة عوملت بمثل ما عامل به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - تفسير العياشي، وتفسير الدر المنثور في تفسير الآية (على ما ذكره تفسير الميزان).
2 - يلاحظ في بعض الروايات إن القول بالمثلة بأكثر من واحد عند الظفر كان من بعض المسلمين (راجع تفسير التبيان، ج 6،
ص 440).
371

والمسلمون مشركي مكة عند انتصارهم عليهم، على الرغم من أن المسلمين كانوا
من أبناء تلك البيئة التي نفذ شعور الانتقام والحقد فيها ليتوغل ويركد في أعماق
المجتمع، بل وكانت الأحقاد تتوارث جيلا بعد جيل إلى حد كان عدم الانتقام يعد
عيبا كبيرا لا يمكن ستره!
ومن ثمار عفو وسماحة الإسلام أن اهتزت تلك الأمة الجاهلة العنيدة من
أعماقها واستيقظت من نوم غفلتها، وراح أفرادها كما يقول عنهم القرآن الكريم:
يدخلون في دين الله أفواجا.
6 - واصبر وما صبرك إلا بالله:
والصبر إنما يكون مؤثرا وفاعلا إذا قصد به رضوانه تعالى ولا يلحظ فيه أي
شئ دون ذلك.
وهل يتمكن أي إنسان من الصبر على الكوارث المقطعة للقلب من غير هدف
معنوي وبدون قوة إلهية ويتحمل الالآم دون فقدان الإتزان!؟.. نعم، ففي سبيل
رضوان الله كل شئ يهون وما التوفيق إلا منه عز وجل.
7 - وإذا لم ينفع الصبر في التبليغ والدعوة إلى الله، ولا العفو والتسامح، فلا
ينبغي أن يحل اليأس في قلب المؤمن أو يجزع، بل عليه الاستمرار في التبليغ
بسعة صدر وهدوء أعصاب أكثر، ولهذا يقول القرآن الكريم في الأصل السابع:
ولا تحزن عليهم.
لأن الحزن والتأسف على عدم إيمان المعاندين يترك أحد أثرين على
الإنسان، فإما أن يصيبه اليأس الدائم، أو يدفعه إلى الجزع والغضب وضعف
التحمل، فالنهي عن الحزن عليهم يحمل في واقعه نهيا للأمرين معا، فينبغي
للعاملين في طريق الدعوة إلى الله.. عدم الجزع وعدم اليأس.
8 - ولا تك في ضيق مما يمكرون.
فمهما كانت دسائس العدو العنيد واسعة ودقيقة وخطرة فلا ينبغي لك ترك
372

الميدان، لظنك أن قد وقعت في زاوية ضيقة وحصار محكم، بل لابد من التوكل
على الله، وسوف تفشل كل الدسائس وتبطل مفعولها بقوة الإيمان والثبات
والمثابرة والعقل والحكمة.
وآخر آية من سورة النحل تعرض الأمرين التاسع والعاشر، حيث تقول:
9 - إن الله مع الذين اتقوا:
التقوى في جميع أبعادها وبمفهومها الواسع، ومنها: التقوى في مواجهة
المخالفين بمراعاة أصول الأخلاق الإسلامية عند المواجهة، فمع الأسير لابد من
مراعاة أصول المعاملة الإسلامية، ومع المنحرف ينبغي مراعاة الإنصاف والأدب
والتورع عن الكذب والإتهام، وفي ميدان القتال لابد من التعامل على ضوء
التعليمات العسكرية وفق الموازين والضوابط الإسلامية، فمثلا: ينبغي عدم
الهجوم على العزل من الأعداء، عدم التعرض للأطفال والنساء والعجزة، ولا
التعرض للمواشي والمزارع لأجل إتلافها، ولا يقطع الماء على العدو... وخلاصة
القول: تجب مراعاة أصول العدل مع العدو والصديق (وطبيعي أن تخرج بعض
الموارد عن هذا الحكم استثناءا وليس قاعدة).
10 - والذين هم محسنون.
أكد القرآن الكريم في كثير من آياته البينات بأن يقابل المؤمن إساءة الجاهل
بالإحسان، عسى أن يخجل الطرف المقابل أو يستحي من موقفه المتشنج، وبهذه
السلوكية الرائعة قد ينتقل ذلك الجاهل من ألد الخصام إلى أحسن الأصدقاء
ولي حميم!
وإذا عمل بالإحسان في محله المناسب، فإنه أفضل أسلوب للمواجهة،
والتأريخ الإسلامي يرفدنا بعينات رائعة في هذا المجال.. ومنها: موقف معاملة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع مشركي مكة بعد الفتح، معاملة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ل‍ (وحشي) قاتل
حمزة، معاملته (صلى الله عليه وآله وسلم) لأسرى معركة بدر الكبرى، معاملته (صلى الله عليه وآله وسلم) مع من كان يؤذيه
373

بمختلف السبل من يهود زمانه.. ونجد شبيه معاملة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الآخرين قد
تجسدت عمليا في حياة علي (عليه السلام) وسائر الأئمة (عليهم السلام)، وكل ذلك يكشف لنا بوضوح
أهمية الإحسان في حياة الإنسان من وجهة نظر الإسلام.
ومن دقيق العبارة في هذا المجال ما نجده في نهج البلاغة ضمن الخطبة
المعروفة بخطبة همام، ذلك الرجل الزاهد العابد الذي طلب من أمير المؤمنين (عليه السلام)
أن يصف له المتقين، حيث اكتفى أمير المؤمنين (عليه السلام) بذكر الآية المباركة من
مجموع القرآن وقال: إتق الله وأحسن إن الله مع الذين اتقوا والذين هم
محسنون (1).
ولكن السائل العاشق للحق لم يرو عطشه بهذا البيان المختصر، مما اضطر
الإمام (عليه السلام) أن يعرض له بيانا أكثر تفصيلا حتى استخرجت من فمه الشريف أكمل
خطبة في وصف المتقين، حوت على أكثر من مائة صفة لهم، إلا أن جوابه
المختصر يبين أن الآية المباركة مختصر جامع لكل صفات المتقين.
وبنظرة تأملية ممعنة إلى الأصول العشرة المذكورة، تتبين لنا جميع الخطوط
الأصلية والفرعية لأسلوب مواجهة المخالفين، وأن هذه الأصول إنما احتوت كل
الأسس المنطقية والعاطفية والنفسية والتكتيكية، وكل ما يؤدي للنفوذ إلى أعماق
نفوس المخالفين للتأثير الايجابي فيها.
ومع ذلك... فالاكتفاء بالمنطق والاستدلال في مواجهة الأعداء وفي كل
الظروف لا يقول به الإسلام ولا يقره، بل كثيرا ما تدعو الضرورة لدخول الميدان
عمليا في مواجهة الأعداء حتى يلزم الأمر في بعض الأحيان المقابلة بالمثل
والتوسل بالقوة في قبال استعمال القوة من قبل الأعداء، وبالتدابير المبيتة في قبال
ما يبيتون أمور، ولكن أصول العدل والتقوى والأخلاق والإسلامية يجب أن

1 - نهج البلاغة، خطبة 193.
374

تراعى في جميع الحالات.
ولو عمل المسلمون وفق هذا البرنامج الشامل لساد الإسلام كل أرض
المعمورة أو معظمها على أقل التقادير.
3 خاتمة مقال سورة النحل " سورة النعم ":
مما يلفت النظر في السورة المباركة - كما قلنا سابقا - ذكرها لكثير من النعم
الإلهية، المادية منها والمعنوية، الظاهرية والباطنية، الفردية والاجتماعية، مما
دعت المفسرين لأن يطلقوا عليها اسم (سورة النعم).
وبملاحظة ودراسة آيات السورة تظهر لنا في حدود الأربعين نعمة من النعم
الكبيرة والصغيرة متوزعة بين طياتها، وسنذكر أدناه فهرسا لهذه النعم مع التأكيد
على أن الهدف من ذكرها إنما هو لأمرين:
الأول: تعليم درس التوحيد وبيان عظمة الخالق.
الثاني: تقوية حب وتعلق الإنسان بخالقه وتحريك غريزة الشكر لديه.
1 - خلق السماوات.
2 - والأرض.
3 - والأنعام خلقها.
4 - الاستفادة من صوفها وجلدها لكم فيها دف ء.
5 - ومنافع.
6 - منها تأكلون.
7 - الاستفادة من جمال الاستقلال الاقتصادي ولكم فيها جمال.
8 - وتحمل أثقالكم - والخيل والبغال والحمير لتركبوها.
9 - الهداية إلى الصراط المستقيم وعلى الله قصد السبيل.
10 - وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب.
375

11 - إن شاء المراعي ومنه شجر وفيه تسيمون.
12 - ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل
الثمرات.
13 - وسخر لكم الليل والنهار.
14 - والشمس والقمر.
15 - والنجوم.
16 - وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه.
17 - وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه
حلية تلبسونها.
18 - وترى الفلك مواخر فيه.
19 - وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم.
20 - وأنهارا.
21 - وسبلا.
22 - وعلامات لمعرفة الطرق.
23 - وبالنجم هم يهتدون في معرفة الطرق ليلا.
24 - والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها.
25 - نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا
للشاربين.
26 - ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا.
27 - العسل فيه شفاء للناس.
28 - والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا.
29 - وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة.
30 - ورزقكم من الطيبات بمعناها الواسع.
376

31 - وجعل لكم السمع.
32 - والأبصار.
33 - والأفئدة.
34 - والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وهي البيوت الثابتة.
35 - وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا وهي البيوت المتحركة.
36 - ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين.
37 - نعمة الظلال والله جعل لكم مما خلق ظلالا.
38 - نعمة وجود الملاجئ الآمنة في الجبال وجعل لكم من الجبال
أكنانا.
39 - وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر.
40 - وسرابيل تقيكم بأسكم أي: في الحروب.
وجاء في خاتمة هذه النعم: كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون.
3 الهدف من ذكر النعم:
لا حاجة للتنبيه على أن ذكر النعم الإلهية الواردة في القرآن الكريم لا يقصد
منها إلقاء المنة أو كسب الوجاهة وما شابه ذلك، فشأن الباري أجل وأسمى من
ذلك وهو الغني ولا غني سواه. ولكن ذكرها جاء ضمن أسلوب تربوي مبرمج
يهدف لإيصال الإنسان إلى أرقى درجات الكمال الممكنة من الناحيتين المادية
والمعنوية. وأقوى دليل على ذلك ما جاء في أواخر كثير من الآيات السابقة من
عبارات والتي تصب - مع كثرتها وتنوعها - في نفس الاتجاه التربوي المطلوب.
فبعد ذكر نعمة تسخير البحار، يقول القرآن في الآية (14): لعلكم
تشكرون.
وبعد بيان نعمة الجبال والأنهار والسبل، يقول في الآية (15): لعلكم
377

تهتدون.
وبعد بيان أعظم النعم المعنوية (نعمة نزول القرآن) تأتي الآية (44)
لتقول: لعلهم يتفكرون.
وبعد ذكر نعمة آلات المعرفة المهمة (السمع والبصر والفؤاد)، تقول الآية
(78): لعلكم تشكرون.
وبعد الإشارة إلى إكمال النعم الإلهية، تقول الآية (81): لعلكم تسلمون.
وبعد ذكر جملة أمور في مجال العدل والإحسان ومحاربة الفحشاء والمنكر
والظلم، تأتي الآية (90) لتقول: لعلكم تذكرون.
والحقيقة أن القرآن الكريم قد أشار إلى خمسة أهداف من خلال ما ذكر في
الموارد الستة أعلاه:
1 - الشكر.
2 - الهداية.
3 - التفكر.
4 - التسليم للحق.
5 - التذكر.
ومما لا شك فيه أن الأهداف الخمسة مترابطة فيما بينها ترابطا وثيقا
فالإنسان يبدأ بالتفكر، وإذا نسي تذكر، ثم يتحرك فيه حس الشكر لواهب النعم
عليه، فيفتح الطريق إليه ليهتدي، وأخيرا يسلم لأوامر مولاه.
وعليه، فالأهداف الخمسة حلقات مترابطة في طريق التكامل، وإذا سلك
السالك ضمن الضوابط المعطاة لحصل على نتائج مثمرة وعالية.
وثمة ملاحظة، هي أن ذكر النعم الإلهية بشكليها الجمعي والفردي إنما يراد
بها بناء الإنسان الكامل.
إلهي! أحاطت نعمك بكل وجودنا، فغرقنا في بحر عطاياك، ولكننا لم نعرفك
بعد.
378

إلهي! هب لنا بصرا وبصيرة نرى بهما طريق معرفتك وحبك، ووفقنا للسير في
مراضيك وأوصلنا إلى منزل الشاكرين حقا.
اللهم! أنت تعلم بحوائجنا دون غيرك، وتعلم أكثر منا لما نريد، فمن علينا
لنكون كما تحب، واجعلنا خيرا مما يظن الناس إنك سميع مجيب.
* * *
379

1 سورة
1 الإسراء
1 مكية
1 وعدد آياتها مائة واحدى عشرة آية
381

1 " سورة الإسراء "
قبل الدخول في تفسير هذه السورة من المفيد الانتباه إلى النقاط الآتية:
3 أولا: أسماء السورة ومكان النزول:
بالرغم من أن الاسم المشهور لهذه السورة هو " بني إسرائيل " إلا أن لها أسماء
أخرى مثل " الإسراء " و " سبحان " (1).
ومن الواضح أن ثمة علاقة تصل بين أي اسم من أسماء السورة وبين
محتواها ومضمونها، فهي " بني إسرائيل " لأن هناك قسما مهما في بداية السورة
ونهايتها يرتبط بالحديث عن بني إسرائيل.
وإذا قلنا أنها سورة " الإسراء " فإن ذلك يعود إلى الآية الأولى فيها التي
تتحدث عن إسراء (ومعراج) النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأما تسميتها ب‍ " سبحان " فإن ذلك يعود إلى الكلمة الأولى في السورة
المباركة.
ولكن الروايات التي تتحدث عن فضيلة هذه السورة، تطلق عليها " بني
إسرائيل " فقط. ولهذا السبب فإن معظم المفسرين يقتصرون على هذا الاسم، وقد

1 - تفسير الآلوسي، ج 15، ص 2.
383

اختاروه دون غيره.
وبالنسبة لمكان نزول السورة، فمن المشهور أن جميع آياتها مكية، ومما
يؤيد ذلك أن مضمون السورة ومفاهيمها يناسب بشكل كامل مضمون ومحتوى
وسياق السور المكية، هذا بالرغم من أن المفسرين يعتقد بأن هناك مقطعا من
السورة قد نزل في المدينة، ولكن المشهور ما شاع بين المفسرين من مكية تمام
السورة.
3 ثانيا: فضيلة سورة الإسراء:
وردت في فضيلة سورة الإسراء وأجرها أحاديث كثيرة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وعن الإمام الصادق (عليه السلام).
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: " من قرأ سورة بني إسرائيل في كل ليلة جمعة
لم يمت حتى يدرك القائم ويكون من أصحابه ".
وبالنسبة لثواب قراءة سور القرآن الكريم والروايات التي تتحدث عن
فضائلها، ينبغي أن يلاحظ أن ملاك الأمر لا يتعلق بمجرد القراءة وحسب، وإنما -
كما قلنا مرارا - أن التلاوة ينبغي أن تقترن بالتفكر في معانيها والتأمل في
مفاهيمها، وينبغي أن يعقب ذلك جميعا العمل بها، وتحويلها إلى قواعد يسترشدها
الإنسان المسلم في سلوكه.
خصوصا وإننا نقرأ في واحدة من الروايات التي تتحدث عن فضيلة هذه
السورة ما نصه: " فرق قلبه عند ذكر الوالدين ". أي أن هناك أثر ترتب على
القراءة، وقد تمثل هنا بموجة من الأحاسيس النبيلة والحب والمودة للوالدين.
إذا، ألفاظ القرآن تملك ولا شك قيمة واحتراما بحد ذاتها، إلا أن هذه الألفاظ
هي مقدمة للوعي الفكري الصحيح، كما أن الوعي الفكري الإيماني الصحيح هو
مقدمة للعمل الصالح.
384

3 ثالثا: خطوط عامة في محتوى السورة:
لقد أشرنا إلى مكية السورة وفق القول المشهور بين المفسرين، لذا فإن
محتوى السورة يوافق خصوصيات السور المكية، من قبيل تركيزها على قضية
التوحيد والمعاد، ومواجهة إشكاليات الشرك والظلم والانحراف.
وبالامكان فرز المحاور المهمة الآتية التي يدور حولها مضمون السورة:
أولا: الإشارة إلى أدلة النبوة الخاتمة وبراهينها، وفي مقدمتها معجزة القرآن
وقضية المعراج.
ثانيا: ثمة بحوث في السورة ترتبط بقضية المعاد وما يرتبط به من حديث
عن صحيفة الأعمال، وقضية الثواب والعقاب المترتب على نتيجة الجزاء.
ثالثا: تتحدث السورة في بدايتها ونهايتها عن قسم من تاريخ بني إسرائيل
الملئ بالأحداث.
رابعا: تتعرض السورة إلى حرية الاختيار لدى الإنسان وأن الإنسان غير
مجبر في أعماله، وبالتالي فإن على الإنسان أن يتحمل مسؤولية تلك الحرية من
خلال تحمله لمسؤولية أعماله سواء كانت حسنة أو سيئة.
خامسا: تبحث السورة قضية الحساب والكتاب في هذه الدنيا، لكي يعي
الإنسان قضية الحساب والكتاب على أعماله وأقواله في اليوم الآخر.
سادسا: تشير إلى الحقوق في المستويات المختلفة، خصوصا فيما يتعلق
بحقوق الأقرباء، وبالأخص منهم الأم والأب!
سابعا: تتعرض السورة إلى حرمة " الإسراف "، و " التبذير "، و " البخل "، و " قتل
الأبناء "، و " الزنا "، و " أكل مال اليتيم "، و " البخس في المكيال "، و " التكبر "، و " إراقة
الدماء ".
ثامنا: في السورة بحوث حول التوحيد ومعرفة الله تعالى
تاسعا: تواجه السورة مواقف العناد المكابرة إزاء الحق، وأن الذنوب تتحول
385

إلى حجب تمنع الإنسان من رؤية الحق.
عاشرا: تركز السورة على أفضلية الإنسان على سائر الموجودات.
أحد عشر: تؤكد السورة على تأثير القرآن الكريم في معالجة الأشكال
المختلفة من الأمراض الأخلاقية والاجتماعية.
ثاني عشر: تبحث السورة في المعجزة القرآنية وعدم تمكن الخصوم
وعجزهم عن مواجهة هذه المعجزة.
ثالث عشر: تحذر السورة المؤمنين من وساوس الشيطان وإغواءاته،
وتنبههم إلى المسالك التي ينفذ من خلالها إلى شخصية المؤمن.
رابع عشر: تتعرض السورة إلى مجموعة مختلفة من القضايا والمفاهيم
والتعاليم الأخلاقية.
خامس عشر: أخيرا تتعرض السورة إلى مقاطع من قصص الأنبياء (عليهم السلام)
ليتسنى للإنسان استكناه الدروس والعبر من هذه القصص.
في كل الأحوال تعكس سورة الإسراء في مضمونها ومحتواها العقائدي
والأخلاقي والاجتماعي لوحة متكاملة ومتناسقة لسمو وتكامل البشر في
المجالات المختلفة.
والجميل في السورة أنها تبدأ ب‍ " تسبيح الله " - جل جلاله - وتنتهي ب‍
" الحمد والتكبير ". والتسبيح هو تنزيه عن كل عيب ونقص، والحمد علامة على
تحقق صفات الفضيلة وتمثلها في ذاته العليا المقدسة، بينما التكبير هو رمز الشرف
والعظمة.
* * *
386

2 الآية
سبحن الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو
السميع البصير (1)
2 التفسير
3 معراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
الآية الأولى في سورة الإسراء تتحدث عن إسراء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي سفره ليلا
من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى (في القدس الشريف).
وقد كان هذا السفر " الإسراء " مقدمة لمعراجه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السماء. وقد لوحظ في هذا
السفر أنه تم في زمن قياسي حيث أنه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة إلى
وسائل نقل ذلك الزمن ولهذا كان أمرا اعجازيا وخارقا للعادة.
السورة المباركة تبدأ بالقول: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى.
وقد كان القصد من هذا السفر الليلي الإعجازي هو لنريه من آياتنا.
ثم ختمت الآية بالقول: إنه هو السميع البصير. وهذه إشارة إلى أن الله
387

تبارك وتعالى لم يختر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يصطفه لشرف الإسراء والمعراج إلا بعد
أن اختبر استعداده (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا الشرف ولياقته لهذا المقام، فالله تبارك وتعالى سمع
قول رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورأى عمله وسلوكه فاصطفاه للمقام السامي الذي اختاره له
في الإسراء والمعراج.
واحتمل بعض المفسرين في قوله تعالى: إنه هو السميع البصير أن
يكون تهديدا لمنكري هذا الإعجاز، وأن الله تبارك وتعالى محيط بما يقولون
وبما يفعلون، وبما يمكرون!
وبالرغم من أن هذه الآية تنطوي على اختصار شديد، إلا أنها تكشف عن
مواصفات هذا السفر الليلي " الإسراء " الإعجازي من خلال ما ترسمه له من أفق
عام يمكن تفصيله بالشكل الآتي:
أولا: إن تعبير " أسرى " في الآية يشير إلى وقوع السفر ليلا، لأن " الإسراء "
في لغة العرب يستخدم للدلالة على السفر الليلي، فيما يطلق على السفر النهاري
كلمة " سير ".
ثانيا: بالرغم من أن كلمة " ليلا " جاءت في الآية تأكيدا لكلمة " أسرى " إلا
أنها تريد أن تبين أن سفر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تم في ليلة واحدة فقط على الرغم من
أن المسافة بين المسجد الحرام وبيت المقدس تقدر بأكثر من مائة فرسخ،
وبشروط مواصلات ذلك الزمان، كان إنجاز هذا السفر يتطلب أياما بل وأسابيع،
لا أن يقع في ليلة واحدة فقط!
ثالثا: إذا كان مقام العبودية هو أسمى مقام يبلغه الإنسان في حياته، فإن الآية
قد كرمت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإطلاق وصف العبودية عليه، فقالت " عبده " للدلالة
على مراقي الطاعة والعبودية التي قطعها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لله تبارك وتعالى حتى
استحق شرف " الإسراء " حيث لم يسجد جبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لشئ سوى الله،
ولم يطع (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عداه، وقد بذل كل وسعه، وخطا كل خطوة في سبيل مرضاته
388

تعالى.
رابعا: تفيد كلمة " عبد " في الآية، أن سفر الإسراء قد وقع في اليقظة، وأن
رسول الله سافر بجسمه وروحه معا، وأن الإسراء لم يكن سفرا روحانيا معنويا
وحسب، لأن الإسراء إذا كان بالروح - وحسب - فهو لا يعدو أن يكون رؤيا في
المنام، أو أي وضع شبيه بهذه الحالة، ولكن كلمة " عبد " في الآية تدلل على أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد سافر بجسمه وروحه، لأن " عبد " معنى يطلق على الروح
والجسد معا.
أما الأشخاص الذين لا يستطيعون هضم معجزة الإسراء والمعراج، ولم
تستطع عقولهم أن تتعامل مع هذه المعجزة كما هي، فقد عمدوا إلى توجيهها بعنوان
الإسراء الروحي في حين أنه لو قال شخص لآخر: إني نقلتك إلى المكان الفلاني
فإن المفهوم الصريح للمعنى لا يمكن تأويله باحتمال أن هذا الأمر قد تم في حالة
النوم، أو أنه تعبير عن حالة معنوية تمتزج بأبعاد من الوهم والتخيل.
خامسا: لقد كان مبتدأ هذا السفر (الذي كان مقدمة للمعراج كما سنثبت ذلك
في محله) هو المسجد الحرام في مكة المكرمة، ومنتهاه المسجد الأقصى في
القدس الشريف.
بالطبع هناك كلام كثير للمفسرين عن المكان الدقيق الذي انطلق منه رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيما إذا كان هذا المكان بيت أحد أقربائه (باعتبار أن المسجد الحرام
قد يطلق أحيانا ومن باب التعظيم على مكة المكرمة بأجمعها) أو أنه انطلق من
جوار الكعبة، ولكن ظاهر الآية بلا شك يفيد أن المنطلق في سفر الإسراء كان من
المسجد الحرام.
سادسا: لقد كان الهدف من هذا السفر الإعجازي أن يشاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
آيات العظمة الإلهية، وقد استمر سفر الإسراء إلى المعراج صعودا في السماوات
لتحقيق هذا الغرض، وهو أن تمتلئ روح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر بدلائل العظمة
389

الربانية، وآيات الله في السماوات، ولتجد روحه السامية في هذه الآيات زخما
إضافيا يوظفه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هداية الناس إلى رب السماوات والأرض!
وبذلك فإن سفر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رحلة الإسراء والمعراج لم يكن - كما
يتصور البعض ذلك - بهدف رؤية الله تبارك وتعالى ظنا منهم أنه تعالى يشغل
مكانا في السماوات!!!
وبالرغم من أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عارفا بعظمة الله سبحانه، وكان عارفا
أيضا بعظمة خلقه، ولكن " متى كان السماع كالرؤية؟! ".
ونقرأ في سورة (النجم) التي تلت سورة الإسراء وتحدثت عن المعراج قوله
تعالى: لقد رأى من آيات ربه الكبرى.
سابعا: إن تعبير الآية باركنا حوله تفيد بأنه علاوة على قدسية المسجد
الأقصى، فإن أطرافه أيضا تمتاز بالبركة والأفضلية على ما سواها. ويمكن أن
يكون مراد الآية البركة الظاهرية المتمثلة بما تهبه هذه الأرض الخصبة الخضراء
من مزايا العمران والأنهار والزراعة.
ويمكن أن تحمل البركة على قواعد الفهم المعنوي فتشير حين ذاك إلى ما
تمثله هذه الأرض في طول التأريخ، من كونها مركزا للنبوات الإلهية، ومنطلقا
لنور التوحيد، وأرضا خصبة للدعوة إلى عبودية الله.
ثامنا: إن تعبير إنه هو السميع البصير إشارة إلى أن إكرام الله
لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعجزة الإسراء والمعراج لم يكن أمرا عفويا عابرا، بل هو بسبب
استعدادات رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) وقابلياته العظيمة التي تجلت في أقواله وأفعاله،
هذه الأقوال والأفعال التي يعرفها الله ويحيط بها.
تاسعا: إن كلمة " سبحان " إشارة إلى أن سفر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإسراء
والمعراج دليل آخر على تنزيه الله تبارك وتعالى من كل عيب ونقص.
عاشرا: كلمة " من " في قوله تعالى: من آياتنا إشارة إلى عظمة آيات
390

الله بحيث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - على علو مقامه واستعداده الكبير - لم ير من هذه
الآيات خلال سفره الإعجازي سوى جزء معين منها.
المعراج:
من المعروف والمشهور بين علماء الإسلام أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان
في مكة! أسرى به الله تبارك وتعالى بقدرته من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى، ومن هناك صعد به إلى السماء " المعراج " ليرى آثار العظمة الربانية
وآيات الله الكبرى في فضاء السماوات، ثم عاد (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفس الليلة إلى مكة
المكرمة.
والمعروف المشهور أيضا أن سفر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإسراء والمعراج قد تم
بجسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وروحه معا.
ولكن العجيب ما يحاوله البعض من توجيه معراج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمعراج
الروحي والذي هو حالة شبيهة بالنوم أو " المكاشفة الروحية " ولكن هذا التوجيه -
كما أشرنا - لا ينسجم اطلاقا مع ظواهر الآيات، بل هو مخالف لها، إذ يدل الظاهر
على أن القضية تمت بشكل جسمي حسي.
في كل الأحوال تبقى هناك مجموعة أسئلة تثار حول قضية المعراج يمكن
أن نلخصها بالشكل الآتي:
1 - كيفية المعراج من وجهة نظر القرآن والتأريخ والحديث.
2 - آراء علماء الإسلام شيعة وسنة حول هذه القضية.
3 - الهدف من المعراج.
4 - إمكانية المعراج من وجهة نظر العلوم المعاصرة.
بالرغم من أن الإجابة المفصلة على هذه الأسئلة هي خارج نطاق بحثنا
التفسيري، إلا أننا سنعالج هذه النقاط باختصار يناسب ذوق القارئ الكريم. إن
391

شاء الله:
3 المعراج في القرآن والحديث:
في كتاب الله سورتان تتحدثان عن المعراج:
السورة الأولى هي سورة " الإسراء " التي نحن الآن بصددها، وقد أشارت
إلى القسم الأول من سفر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (أي أشارت لإسراءه (صلى الله عليه وآله وسلم) من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى) وقد استتبع الإسراء بالمعراج.
السورة الثانية التي أشارت للمعراج هي سورة " النجم " التي تحدثت عنه
في ست آيات هي: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة
المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات
ربه الكبرى.
هذه الآيات تفيد حسب أقوال المفسرين أن الإسراء والمعراج تما في حالة
اليقظة، وإن قوله تعالى: ما زاغ البصر وما طغى هو إثبات آخر لصحة هذا
القول.
في الكتب الإسلامية المعروفة هناك عدد كبير جدا من الأحاديث والروايات
التي جاءت حول قضية المعراج، حتى أن الكثير من علماء الإسلام يذهب إلى
" تواتر " حديث المعراج أو اشتهاره، وعلى سبيل المثال نعرض للنماذج الآتية:
يقول الشيخ " الطوسي " في تفسير (التبيان) ما نصه: " إنه عرج به في تلك
الليلة إلى السماوات حتى بلغ سدرة المنتهى في السماء السابعة، وأراه الله من
آيات السماوات والأرض ما ازداد به معرفة ويقينا، وكان ذلك في يقظته (صلى الله عليه وآله وسلم)
دون منامه " (1).

1 - تفسير " التبيان "، للشيخ الطوسي، المجلد السادس، ص 446.
392

أما العلامة " الطبرسي " في تفسيره المعروف " مجمع البيان " فيقول: " وما
قاله بعضهم أن ذلك كان في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان،
وقد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج، في عروج نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السماء،
ورواها كثير من الصحابة... [إذ أنه (صلى الله عليه وآله وسلم)] صلى المغرب في المسجد الحرام ثم
أسري به في ليلته ثم رجع فصلى الصبح في المسجد الحرام. وقال الأكثرون وهو
الظاهر من مذاهب أصحابنا والمشهور في أخبارهم، أن الله تعالى صعد بجسمه
إلى السماء حيا سليما حتى رأى ما رأى من ملكوت السماوات بعينه، ولم يكن
ذلك في المنام " (1).
أما العلامة " المجلسي " فيقول في (بحار الأنوار) ما نصه: " أعلم أن
عروجه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بيت المقدس ثم إلى السماء في ليلة واحدة بجسده الشريف، مما
دلت عليه الآيات والأخبار المتواترة من طرق الخاصة والعامة، وإنكار أمثال
ذلك أو تأويلها بالعروج الروحاني أو بكونه في المنام ينشأ إما من قلة التتبع في
آثار الأئمة الطاهرين أو من ضعف اليقين " (2).
ثم يردف العلامة المجلسي قائلا: " لو أردت استيفاء الأخبار الواردة في هذا
الباب لصار مجلدا كبيرا " (3).
ومن علماء السنة قام منصور علي ناصف الأزهري المعاصر بجمع أحاديث
المعراج في كتابه المعروف باسم " التاج ".
أما الفخر الرازي - المفسر الإسلامي المعروف - فيقول بعد ذكره لسلسلة من
الاستدلالات على إمكان الوقوع العقلي للمعراج، ما يلي: " من وجهة نظر الحديث
تعتبر أحاديث المعراج من الروايات المشهورة في صحاح أهل السنة، ومفاد هذه

1 - مجمع البيان، المجلد الثالث، ص 395.
2 - بحار الأنوار، الطبعة الحديثة المجلد 18، ص 289.
3 - المصدر السابق، ص 291.
393

الأحاديث إسراء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة إلى بيت المقدس، وعروجه من بيت
المقدس إلى السماء ".
أما الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وهو من متعصبي علماء الوهابية
والذي يشغل الآن منصب رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة
والإرشاد، فيقول في كتابه " التحذير من البدع ": " ليس من شك في أن الإسراء
والمعراج هي من العلامات الكبيرة على صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلو مقامه ومنزلته "
إلى أن يقول: " نقلت أخبار متواترة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن الله تبارك وتعالى أخذ
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وفتح له أبواب السماء " (1).
ولكن ينبغي أن نلاحظ هنا أن من بين الروايات الواردة في قضية المعراج
ثمة أحاديث ضعيفة ومجعولة لا يمكن القبول بها مطلقا.
لذلك نرى أن المفسر الإسلامي الكبير، الشيخ الطبرسي عمد في ذيل تفسير
هذه الآية مورد البحث إلى تقسيم الأحاديث الواردة في المعراج إلى أربع فئات
هي:
1 - ما يقطع بصحته لتواتر الأخبار به وإحاطة العلم بصحته، ومثله أنه أسري
به على الجملة.
2 - ما ورد في ذلك مما تجوزه العقول ولا تأباه الأصول، فنحن نجوزه ثم
نقطع على أن ذلك كان في يقظته دون منامه، ومثله ما شاهده من آيات ربه في
السماوات.
3 - ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول إلا أنه يمكن تأويلها على وجه
يوافق المعقول، نحو ما روي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى قوما في الجنة يتنعمون فيها، وقوما في
النار يعذبون فيها، فهو يحمل على أنه رأى صفتهم أو أسماءهم.

1 - التحذير من البدع، ص 7.
394

4 - ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله إلا على التعسف البعيد فالأولى أن لا
نقبله، نحو ما قيل من أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كلم الله سبحانه جهرة، ورآه وقعد معه على
سريره... مما يوجب ظاهره التشبيه والله سبحانه وتعالى يتقدس عن ذلك (1).
هناك أيضا اختلافات بين المؤرخين المسلمين حول تاريخ وقوع المعراج،
إذ يقول البعض: أنه حصل في السنة العاشرة للبعثة في ليلة السابع والعشرين من
شهر رجب، والبعض يقول: إنه عرج به (صلى الله عليه وآله وسلم) في (17) رمضان من السنة الثانية
عشرة للبعثة المباركة. وبعض ثالث قال: إن المعراج وقع في أوائل البعثة.
ولكن في كل الأحوال، فإن الاختلاف في تأريخ وقوع المعراج لا ينفي أصل
الحادثة.
من المفيد أيضا أن نذكر أن عقيدة المعراج لا تقتصر على المسلمين، بل هناك
ما يشابهها في الأديان الأخرى، بل إنا نرى في المسيحية أكثر مما قيل في معراج
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ يقول أولئك كما في الباب السادس من إنجيل " مرقس " والباب
(24) من إنجيل " لوقا " والباب (21) من إنجيل (يوحنا) أن عيسى بعد أن صلب
وقتل ودفن نهض من مدفنه وعاش بين الناس أربعين يوما قبل أن يعرج إلى
السماء ليبقى هناك في عروج دائم! ونستفيد من مؤدى بعض الروايات أن بعض
الأنبياء السابقين عرج بهم إلى السماء أيضا.
3 هل كان المعراج جسديا أم روحيا؟
إن ظاهر الآيات القرآنية الواردة في أوائل سورة الإسراء، وكذلك سورة
النجم (كما فصلنا أعلاه) تدلل على وقوع المعراج في اليقظة، ويؤكد هذا الأمر
كبار علماء الإسلام من الشيعة والسنة.

1 - مجمع البيان، المجلد الثالث، ص 395.
395

وتشهد التواريخ الإسلامية أيضا على صدق هذا الموضوع، ونقرأ في التأريخ
أن المشركين أنكروا بشدة قضية المعراج عندما تحدث بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وأخذوها عليه ذريعة للإستهزاء به، مما يدل بوضوح على أن الرسول لم يدع
الرؤية أو المكاشفة الروحية أبدا، وإلا لما استتبع القضية كل هذا الضجيج.
أما ما ورد عن الحسن البصري أنه (كان في المنام رؤيا رآها) أو عن عائشة
أنه: (والله ما فقد جسد رسول الله ولكن عرج بروحه)، فيبدو أن لذلك منظور
سياسي، لإخماد الضجة التي أثيرت حول قضية المعراج.
3 هدف المعراج:
اتضح لنا من خلال البحوث الماضية، أن هدف المعراج لم يكن تجوالا
للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في السماوات للقاء الله كما يعتقد السذج، وكما نقل بعض العلماء
الغربيين - ومع الأسف - لجهلهم أو لمحاولتهم تحريف الإسلام أمام الآخرين،
ومنهم (غيور غيف) الذي يقول في كتاب (محمد رسول ينبغي معرفته من جديد،
ص 120)، (بلغ محمد في سفر معراجه إلى مكان كان يسمع فيه صوت قلم الله،
ويفهم أن الله منهمك في تدوين حساب البشر! ومع أنه كان يسمع صوت قلم الله
إلا أنه لم يكن يراه! لأن أحدا لا يستطيع رؤية الله وإن كان رسولا).
وهذا يظهر أن القلم كان من النوع الخشبي! الذي يهتز ويولد أصواتا عند
حركته على الورق!! وأمثال هذه الخرافات والأوهام.
كلا. فالهدف كان مشاهدة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأسرار العظمة الإليهة في أرجاء
عالم الوجود، لا سيما العالم العلوي الذي يشكل مجموعة من براهين عظمته،
وتتغذى بها روحه الكريمة وتحصل على نظرة وإدراك جديدين لهداية البشرية
وقيادتها.
ويتضح هذا الهدف بشكل صريح في الآية الأولى من سورة الإسراء، والآية
396

(18) من سورة النجم.
وهناك رواية أيضا منقولة عن الإمام الصادق (عليه السلام) في جوابه على سبب
المعراج. أنه قال (عليه السلام): " إن الله لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكنه عز
وجل أراد أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته، ويكرمهم بمشاهدته، ويريه
من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه " (1).
3 المعراج والعلوم العصرية:
كان بعض الفلاسفة القدماء يعتقد بنظرية " الأفلاك البطليموسية التسعة " والتي
تكون على شكل طبقات البصل في إحاطتها بالأرض، لذلك فقد أنكر المعراج
بمزاعم علمية تقوم على أساس الإيمان بنظرية الهيئة البطليموسية والتي بموجبها
يلزم خرق هذه الأفلاك ومن ثم التئامها ليكون المعراج ممكنا (2).
ولكن مع انهيار قواعد نظرية الهيئة البطليموسية أصبحت شبهة خرق والتئام
الأفلاك في خبر كان، وضمتها يد النسيان، ولكن التطور المعاصر في علم الأفلاك
أدى إلى إثارة مجموعة من الشبهات العلمية التي تقف دون إمكانية المعراج
علميا، وهذه الشبهات يمكن تلخيصها كما يلي:
أولا: إن أول ما تواجه الذي يريد أن يجتاز المحيط الفضائي للأرض إلى
عمق الفضاء هو وجوب الانفلات من قوة الجاذبية الأرضية، ويحتاج الإنسان
للتخلص من الجاذبية إلى وسائل استثنائية تكون معدل سرعتها على الأقل (40)
ألف كيلومتر في الساعة.
ثانيا: المانع الآخر يتمثل في خلو الفضاء الخارجي من الهواء، الذي هو
القوام في حياة الإنسان.

1 - تفسير البرهان، المجلد 2، ص 200.
2 - بعض القدماء يعتقد بعدم إمكان خرق هذه الأفلاك ثم التئامها.
397

ثالثا: المانع الثالث يتمثل بالحرارة الشديدة الحارقة (للشمس) والبرودة
القاتلة، وذلك بحسب موقع الإنسان في الفضاء من الشمس.
رابعا: هناك خطر الإشعاعات الفضائية القاتلة كالأشعة الكونية والأشعة ما
وراء البنفسجية وأشعة إكس، إذ من المعروف أن الجسم يحتاج إلى كميات ضئيلة
من هذه الإشعاعات، وهي بهذا الحجم لا تشكل ضررا على جسم الإنسان
ووجود طبقة الغلاف الجوي يمنع من تسربها بكثرة إلى الأرض.، ولكن خارج
محيط الغلاف الجوي تكثر هذه الإشعاعات إلى درجة تكون قاتلة.
خامسا: هناك مشكلة فقدان الوزن التي يتعرض لها الإنسان في الفضاء
الخارجي، فمن الممكن للإنسان أن يتعود تدريجيا على الحياة في أجواء انعدام
الوزن، إلا أن انتقاله مرة واحدة إلى الفضاء الخارجي - كما في المعراج - هو أمر
صعب للغاية، بل غير ممكن.
سادسا: المشكلة الأخيرة هي مشكلة الزمان، حيث تؤكد علوم اليوم على أنه
ليست هناك وسيلة تسير أسرع من سرعة الضوء، والذي يريد أن يجول في
سماوات الفضاء الخارجي يحتاج إلى سرعة تكون أسرع من سرعة الضوء!
3 في مواجهة هذه الأسئلة:
أولا: في عصرنا الحاضر، وبعد أن أصبحت الرحلات الفضائية بالاستفادة من
معطيات العلوم أمرا عاديا، فإن خمسا من المشاكل الست الآنفة تنتفي، وتبقى -
فقط - مشكلة الزمن. وهذه المشكلة تثار فقط عند الحديث عن المناطق الفضائية
البعيدة جدا.
ثانيا: إن المعراج لم يكن حدثا عاديا، بل أمر إعجازي خارق للعادة ثم
بالقدرة الإلهية. وكذلك الحال في كافة معجزات الأنبياء وهذا يعني عدم استحالة
المعجزة عقلا، أما الأمور الأخرى فتتم بالاستناد إلى القدرات الإلهية.
398

وإذا كان الإنسان قد استطاع باستثمار لمعطيات العلوم الحديثة أن يوفر
حلولا للمشكلات الآنفة الذكر، مثل مشكلة الجاذبية والأشعة وانعدام الوزن وما
إلى ذلك، حتى أصبح بمستطاعه السفر إلى الفضاء الخارجي.. فألا يمكن لله -
خالق الكون، صاحب القدرات المطلقة - أن يوفر وسيلة تتجاوز المشكلات
المذكورة؟!
إننا على يقين من أن الله تبارك وتعالى وضع في متناول رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) مركبا
مناسبا صانه فيه عن كل المخاطر والأضرار في معراجه نحو السماوات، ولكن ما
اسم هذا المركب هل هو " البراق " أو " رفرف "؟ وعلى أي شكل وهيئة كان؟ كل
هذه أمور غامضة بالنسبة لنا، ولكنها لا تتعارض مع يقيننا بما تم، وإذا أردنا أن
نتجاوز كل هذه الأمور فإن مشكلة السرعة التي بقيت - لوحدها - تحتاج إلى حل،
فإن آخر معطيات العلم المعاصر بدأت تتجاوز هذه المشكلة بعد أن وجدت لها
حلولا مناسبة بالرغم مما يؤكده " إنشتاين " في نظريته من أن سرعة الضوء هي
أقصى سرعة معروفة اليوم.
إن علماء اليوم يؤكدون أن الأمواج الجاذبة لا تحتاج إلى الزمن، وهي تنتقل
في آن واحد من طرف من العالم إلى الطرف الآخر منه وهناك احتمال مطروح
بالنسبة للحركة المرتبطة بتوسع الكون (من المعروف أن الكون في حالة اتساع
وأن النجوم والمنظومات السماوية تبتعد عن بعضها البعض بحركة سريعة) إذ
يلاحظ أن الأفلاك والنجوم والمنظومات الفضائية تبتعد عن بعضها البعض وعن
مركز الكون إلى أطرافه، بسرعة تتجاوز سرعة الضوء!
إذن، بكلام مختصر نقول: إن المشكلات الآنفة ليس فيها ما يحول عقلا دون
وقوع المعراج، ودون التصديق به، والمعراج بذلك لا يعتبر من المحالات العقلية،
بل بالإمكان تذليل المشكلات المثارة حوله بتوظيف الوسائل والقدرات المناسبة.
وبذلك فالمعراج لا يعتبر أمرا غير ممكن لا من وجهة الأدلة العقلية، ولا من
399

وجهة معطيات وموازين العلوم المعاصرة. وهو بالإضافة إلى ذلك أمر إعجازي
خارق للعادة. لذلك، إذا قام الدليل النقلي السليم عليه فينبغي قبوله والإيمان
به (1).
وأخيرا.. هناك إشارت أخرى حول المعراج سنقف عليها أثناء الحديث عن
سورة النجم إن شاء الله.
* * *

1 - للمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب: " الكل يريد أن يعرف " والذي يبحث في قضية المعراج وشق القمر بالإضافة إلى
قضايا أخرى.
400

2 الآيات
وآتينا موسى الكتب وجعلناه هدى لبنى إسرائيل ألا
تتخذوا من دوني وكيلا (2) ذرية من حملنا مع نوح إنه كان
عبدا شكورا (3) وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتب
لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4) فإذا جاء
وعد أولهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا
خلل الديار وكان وعدا مفعولا (5) ثم رددنا لكم الكرة
عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا (6) إن
أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد
الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول
مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7) عسى ربكم أن يرحمكم وإن
عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (8)
2 التفسير
بعد أن أشارت الآية الأولى في السورة إلى معجزة إسراء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلا من
401

المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كشفت آيات السورة الأخرى، عن موقف
المشركين والمعارضين لمثل هذه الأحداث، وأبانت استنكارهم لها، وعنادهم
إزاء الحق، في هذا الاتجاه انعطفت الآية الأولى - من الآيات مورد البحث - على
قوم موسى، ليقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن تأريخ النبوات واحد، وإن موقف
المعاندين واحد أيضا، وأنه ليس من الجديد أن يقف الشرك القرشي موقفه هذا
منك، وبين يديك الآن تأريخ بني إسرائيل في موقفهم من موسى (عليه السلام).
تقول الآية أولا: وآتينا موسى الكتاب.
وصفة هذا الكتاب أنه: وجعلناه هدى لبني إسرائيل والكتاب الذي تعنيه
الآية هنا هو " التوراة " الذي نزل على موسى (عليه السلام) هدى لبني إسرائيل.
ثم تشير الآية إلى الهدف من بعثة الأنبياء بما فيهم موسى (عليه السلام) فتقول:
ألا تتخذوا من دوني وكيلا (1).
إن التوحيد في العمل هو واحد من معالم أصل التوحيد، وهو علامة على
التوحيد العقائدي. الآية تقول: لا تتكئ على أحد سوى الله، وإن أي اعتماد على
غيره دلالة على ضعف الإيمان بأصل التوحيد. إن أسمى معاني التجلي في هداية
الكتب السماوية، هو اشتعال نور التوحيد في القلوب والانقطاع عن الجميع
والاتصال بالله تعالى.
ومن أجل أن تحرك الآية التالية عواطف بني إسرائيل وتحفزهم لشكر النعم
الإلهية عليهم، خصوصا نعمة نزول الكتاب السماوي، فإنها تضع لهم نموذجا
للعبد الشكور فتقول: ذرية من حملنا مع نوح (2) ولا تنسوا: إنه كان عبدا

1 - من وجهة التركيب النحوي يقول بعض المفسرين: إن تقدير جملة ألا تتخذوا من دوني وكيلا هو: لئلا تتخذوا..
وبعضهم قال: " أن " زائدة، وجملة " قلنا لهم " تقديرها: " وقلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا ".
2 - إن جملة: ذرية من حملنا مع نوح جملة ندائية وفي التقدير تكون: يا ذرية من حملنا مع نوح. أما ما احتمله
البعض من أن " ذرية " هي بدل عن " وكيلا " أو مفعول ثان ل‍ " تتخذوا " فهو بعيد، ولا يتسق مع جملة إنه كان عبدا
شكورا.
402

شكورا.
والآية تخاطب بني إسرائيل بأنهم أولاد من كان مع نوح، وعليهم أن يقتدوا
ببرنامج أسلافهم وآبائهم في الشكر لأنعم الله.
" شكور " صيغة مبالغة بمعنى " كثير الشكر "، وأما كون بني إسرائيل ذرية من
كان مع نوح، فإن ذلك قد يعود إلى أن من في الأرض جميعا، بعد طوفان نوح،
ومنهم بنو إسرائيل، هم كلهم من سلالة الأبناء الثلاثة لنوح، أي " سام " و " حام "
و " يافث " كما ورد في كتب التاريخ، ومما لا شك فيه أن كل أنبياء الله شكورون،
ولكن الأحاديث تعطي ميزة خاصة لنوح الذي كان دائم الشكر على كل نعمة ففي
كل شربة ماء، أو وجبة غذاء، أو وصول نعمة أخرى له فإنه يذكر الله فورا ويشكره
على نعمائه.
وفي حديث عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) نقرأ قولهما إن نوحا كان يقرأ هذا
الدعاء في كل صباح ومساء، " اللهم إني أشهدك أن ما أصبح أو أمس بي من نعمة
في دين أو دنيا فمنك، وحدك لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر بها علي حتى
ترضى، وبعد الرضا ".
ثم أضاف الإمام: " هكذا كان شكر نوح " (1).
بعد هذه الإشارة تدخل الآيات إلى تاريخ بني إسرائيل الملئ بالأحداث،
فتقول: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن
علوا كبيرا.
كلمة " قضاء " لها عدة معان، إلا أنها استخدمت هنا بمعنى " إعلام " أما
المقصود من " الأرض " في الآية - بقرينة الآيات الأخرى هي ارض فلسطين
المقدسة التي يقع المسجد الأقصى المبارك في ربوعها.

1 - يراجع تفسير مجمع البيان أثناء تفسير الآية.
403

الآية التي تليها تفصل ما أجملته من إشارة إلى الإفسادين الكبيرين لبني
إسرائيل والحوادث التي تلي ذلك على أنها عقوبة إلهية فتقول: فإذا جاء وعد
أولاهما وارتكبتم ألوان الفساد والظلم والعدوان بعثنا عليكم عبادا لنا أولي
بأس شديد.
وهؤلاء القوم المحاربون الشجعان يدخلون دياركم للبحث عنكم:
فجاسوا خلال الديار.
وهذا الأمر لا مناص منه: وكان وعدا مفعولا.
ثم تشير بعد ذلك إلى أن الإلطاف الإلهية ستعود لتشملكم، وسوف تعينكم
في النصر على أعدائكم، فتقول: ثم رددنا لكم الكرة عليكم وأمددناكم
بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا (1).
وهذه المنة واللطف الإلهي بكم على أمل أن تعودوا إلى أنفسكم وتصلحوا
أعمالكم وتتركوا القبائح والذنوب لأنه: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن
أسأتم فلها.
إن الآية تعبر عن سنة ثابتة، إذ أن محصلة ما يعمله الإنسان من سوء أو خير
تعود إليه نفسه، فالإنسان عندما يلحق أذى أو سوءا بالآخرين، فهو في الواقع
يلحقه بنفسه، وإذا عمل للآخرين، فإنما فعل الخير لنفسه، أما بنو إسرائيل، فهم مع
الأسف لم توقظهم العقوبة الأولى، ولا نبهتهم عودة النعم الإلهية مجددا، بل تحركوا
باتجاه الإفساد الثاني في الأرض وسلكوا طريق الظلم والجور والغرور والتكبر.
تقول الآية في وصف المشهد الثاني أنه حين يحين الوعد الإلهي سوف
تغطيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء إلى درجة أن آثار الحزن والغم
تظهر على وجوهكم: فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم.

1 - " نفير " اسم جمع وهي بمعنى مجموعة من الرجال، وقال بعض: هي من " نفر ". و " نفر " في الأصل على وزن " عفو " تعني
الارتحال والإقبال على شئ. ولذلك يطلق على الجماعة المستعدة للتحرك باتجاه شئ بأنها في حالة " نفير ".
404

بل ويأخذون منكم حتى بيت المقدس: وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول
مرة.
وهم لا يكتفون بذلك، بل سيحتلون جميع بلادكم ويدمرونها عن آخرها:
وليتبروا ما علوا تتبيرا وفي هذه الحالة فإن أبواب التوبة الإلهية مفتوحة:
عسى ربكم أن يرحمكم.
وإن عدتم عدنا أي إن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة،
وإن عدتم للإفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي
الآخرة مصيركم جهنم: وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (1).
* * *
2 ملاحظات
3 الأولى: الإفسادان التأريخيان لبني إسرائيل:
تحدثت الآيات أعلاه عن فسادين اجتماعيين كبيرين لبني إسرائيل، يقود
كل منهما إلى الطغيان والعلو، وقد لاحظنا أن الله سلط على بني إسرائيل عقب كل
فساد رجال أشداء شجعانا يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوهم وطغيانهم، هذا مع
استثناء الجزاء الأخروي الذي أعده الله لهم.
وبالرغم من اتساع تاريخ بني إسرائيل، وتنوع الأحداث والمواقف فيه، إلا
أن المفسرين يختلفون في كل المرات التي يتحدث القرآن فيها عن حدث أو
موقف من تاريخ بني إسرائيل وعلى سبيل التدليل على هذه الحقيقة تتعرض فيما
يلي للنماذج الآتية:
أولا: يستفاد من تاريخ بني إسرائيل بأن أول من هجم على بيت المقدس

1 - " حصير " مشتقة من " حصر " بمعنى الحبس، وكل شئ ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم " حصير ". ويقال للحصير
العادية حصيرا لأن خيوطها وموادها نسجت إلى بعضها البعض.
405

وخربه هو ملك بابل " نبوخذ نصر " حيث بقي الخراب ضاربا فيه لسبعين عاما، إلى
أن نهض اليهود بعد ذلك لإعماره وبنائه. أما الهجوم الثاني الذي تعرض له، فقد
كان من قبل قيصر الروم " أسييانوس " الذي أمر وزيره " طرطوز " بتخريب بيت
المقدس وقتل بني إسرائيل. وقد تم ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.
وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إليهما الآيات أعلاه هما
نفس حادثتي " نبوخذ نصر " و " أسييانوس " لأن الأحداث الأخرى في تاريخ بني
إسرائيل لم تفن جمعهم، ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرة، ولكن نازلة (نبوخذ
نصر) ذهبت بجمعهم وسؤددهم إلى زمن " كورش " حيث اجتمع شملهم مجددا
وحررهم من أسر بابل وأعادهم إلى بلادهم وأعانهم في تعمير بيت المقدس، إلى
أن غلبتهم الروم وظهرت عليهم، وذهبت قوتهم وشوكتهم (1).
لقد استمر بنو إسرائيل في مرحلة الشتات والتشرد إلى أن أعانتهم القوى
الدولية الاستعمارية المعاصرة في بناء كيان سياسي لهم من جديد.
ثانيا: أما " الطبري " فينقل في تفسيره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المراد في
الفساد الأول هو قتل بني إسرائيل لزكريا (عليه السلام) ومجموعة أخرى من الأنبياء (عليهم السلام)،
وأن المقصود من الوعد الأول، هو الانتقام الإلهي من بني إسرائيل بواسطة (نبوخذ
نصر) وأما المراد من الفساد الثاني فهو الفوضى والاضطراب الذي قام به
" بنو إسرائيل " بعد تحريرهم من بابل بمساعدة أحد ملوك فارس، وما قاموا به من
فساد. أما الوعد الثاني، فهو هجوم " أنطياخوس " ملك الروم عليهم.
وبالرغم من انطباق بعض جوانب هذا التفسير مع التفسير الأول، إلا أن راوي
الحديث الذي يعتمد عليه " الطبري " غير ثقة، بالإضافة إلى عدم تطابق تاريخ
" زكريا " و " يحيى " مع تاريخ " نبوخذ نصر " و " أسييانوس أو أنطياخوس " إذا

1 - يراجع تفسير الميزان، ج 13، ص 44 فما فوق.
406

يلاحظ أن " نبوخذ نصر " عاصر " أرميا " أو " دانيال " النبي كما يرى بعض
المؤرخين، وقيامه قد تم في حدود (600) سنة قبل زمان يحيى (عليه السلام)، لذلك كيف
يقال: إن قيام نبوخذ نصر كان للانتقام من دم يحيى (عليه السلام)؟!
ثالثا: وقال آخرون: إن بيت المقدس شيد في زمن داود وسليمان (عليهما السلام)، وقد
هدمه " نبوخذ نصر " وهذا هو المقصود من إشارة القرآن إلى الوعد الأول. أما
المرة الثانية، فقد بني فيها بيت المقدس على عهد ملوك الأخمنيين ليقوم بعد ذلك
" طيطوس " الرومي بهدمه وخرابه (الملاحظ أن " طيطوس " يطابق " طرطوز "
الذي ذكر في التفسير السابق) وقد بقي على خرابه إلى عصر الخليفة الثاني عندما
فتح المسلمون فلسطين (1). والملاحظ في هذا التفسير أنه لا يفترق كثيرا عما ورد
في مضمون التفسيرين أعلاه.
رابعا: في مقابل التفاسير الآنفة والتفاسير الأخرى التي تتشابه في مضمون
آرائها مع هذه التفاسير، نلاحظ أن هناك تفسيرا آخر يورده " سيد قطب " في
تفسيره " في ظلال القرآن " يختلف فيه مع كل ما ورد، حيث يرى أن الحادثتين لم
تقعا في الماضي، بل تتعلقان في المستقبل، فيقول: " فأما إذا عاد بنو إسرائيل إلى
الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية وإن عدتم عدنا ثم يقول:
" ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة
كلها. ثم عادوا إلى الإفساد وسلط الله عليهم عبادا آخرين، حتى كان العصر
الحديث فسلط عليهم " هتلر " ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة " إسرائيل "
التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلطن الله عليهم من يسومهم
سوء العذاب، تصديقا لوعد الله القاطع، وفاقا لسنته التي لا تتخلف... وإن غدا
لناظره قريب!) (2).

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 7، ص 209.
2 - سيد قطب، في ظلال القرآن، ج 4، ص 2214 الطبعة العاشرة.
407

ولكن الاعتراض الأساسي الذي يرد على هذا التفسير، هو أن أيا منهما لم
ينته بدخول القوم المنتصرين (على اليهود) إلى بيت المقدس حتى يخربوه؟
خامسا: الاحتمال الأخير الذي ورده البعض في تفسير الإفسادين الكبيرين لبني
إسرائيل، يرتبط بأحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يقول هؤلاء: إن قيام
الحزب الصهيوني وتشكيل دولة لليهود باسم " إسرائيل " في قلب العالم الإسلامي
مثل الإفساد والطغيان والعلو الأول لهم، وبذلك فإن وعي البلاد الإسلامية لخطر
هؤلاء الشعوب الإسلامية في ذلك الوقت إلى التوحد وتطهير بيت المقدس وقسما
آخر من مدن وقرى فلسطين، حتى أصبح المسجد الأقصى خارج نطاق احتلالهم
بشكل كامل.
أما المقصود من الإفساد الثاني حسب هذا التفسير، فهو احتلال اليهود مجددا
للمسجد الأقصى بعد أن حشدت " إسرائيل " قواها واستعانت بالقوى الدولية
الاستعمارية في شن هجومها الغادر (عام 1967).
وبهذا الشكل يكون المسلمون اليوم في انتظار النصر الثاني على بني
إسرائيل، ليخلصوا المسجد الأقصى من دنس هؤلاء ويقطعوا دابرهم عن كل
الأرض الإسلامية. وهذا ما وعد به المسلمون من فتح ونصر آت بلا ريب (1).
بالطبع هناك تفاسير وآراء أخرى في الموضوع صرفنا النظر عنها، ولكن
ينبغي أن يلاحظ أن في حال اعتماد التفسيرين الرابع والخامس، ينبغي أن نحمل
الأفعال الماضية في الآية على معنى الفعل المضارع. وهذا ممكن في أدب اللغة
العربية، وذلك إذا جاء الفعل بعد حرف من حروف الشرط.
ولكن يستفاد من ظاهر قوله تعالى: ثم رددنا لكم الكرة عليهم
وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن الإفساد الأول على الأقل -

1 - يلاحظ هذا الرأي العدد (12) السنة (12) من مجلة " عقيدة ا لإسلام " وقد كتب البحث في عددين إبراهيم الأنصاري.
408

والانتقام الإلهي من بني إسرائيل كان قد وقع في الماضي.
وإذا أردنا أن نتجاوز كل ذلك، فينبغي أن نلتفت إلى أن قوله تعالى: بعثنا
عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد تفيد في أن الرجال الذين سيؤدبون " بني
إسرائيل " على فسادهم وعلوهم وطغيانهم، هم رجال مؤمنون، شجعان حتى
استحقوا لقب العبودية. ومما يؤكد هذا المعنى الذي غفلت عنه معظم التفاسير، هو
كلمة " وبعثنا " و " لنا ".
ولكنا مع ذلك، لا نستطيع الادعاء أن كلمة " بعث " تستخدم فقط في مورد
خطاب الأنبياء والمؤمنين، بل هي تستخدم في غير هذه الموارد أيضا، ففي قصة
هابيل وقابيل يقول القرآن الكريم: فبعث الله غرابا يبحث في الأرض (1).
وكذلك الحال في كلمة " عباد " أو " عبد " فهي تطلق في بعض الأحيان على
الأفراد غير الصالحين من المذنبين وغيرهم، كما في الآية (58) من الفرقان في
قوله تعالى: وكفى به بذنوب عباده خبيرا والآية (27) من سورة الشورى،
حيث يقول تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض وفي
خصوص المخطئين والمنحرفين نقرأ في الآية (118) من سورة المائدة قوله
تعالى: إن تعذبهم فإنهم عبادك.
ولكنا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر - وإن لم تقم قرينة خلاف ذلك - أن العباد
الذين بعثهم الله للانتقام من بني إسرائيل هم من العباد المؤمنين الصالحين.
وخلاصة البحث: إن هذه الآيات تتحدث عن فسادين كبيرين لبني إسرائيل،
وكيف أن الله تبارك وتعالى لم يهمل هؤلاء، بل أذاقهم جزاءهم في الدنيا، وبقي
عليهم جزاء الآخرة وحسابها، والدرس الذي نستفيده والإنسانية جمعاء هو أن
الله تعالى لا يهمل الظالمين ولا يسكت على ظلمهم بل علينا أن نعتبر ونتعظ من

1 - المائدة، 31.
409

دروس التاريخ وأحوال الأمم الماضية.
3 الثانية: تحمل الإنسان لتبعات أعماله:
الآيات الآنفة تشير إلى قاعدة مهمة، وهي أن أعمال الإنسان سواء كانت
حسنة أم قبيحة فإن مردودها يعود إليه. صحيح أن الآيات تتحدث عن بني
إسرائيل، ولكن القاعدة من الشمول والعموم بحيث تشمل كافة البشر على مر
التاريخ (1).
إن الحياة والتاريخ يعكسان لنا الكثير من تلك النماذج التي أسست أعمالا
وسننا سيئة، وسنت قوانين ظالمة ومبتدعة، ولكنها في النهاية، كانت ضحية ما
سنت وابتدعت وأسست، وكانت نهايتها ونهاية من يلوذ بها الوقوع في نفس
الحفرة التي حفرتها للآخرين، وبذلك نالت جزاءها بما اقترفت أيديها. إن
خصوصية هذا الأمر تتضح أكثر بالنسبة لأعمال الفساد وعلى الأخص العلو
والاستكبار، فإن الإنسان لابد وأن يذوق في هذه الدنيا جزاء ما اقترف من
أسباب العلو والاستكبار والإفساد.
ولهذا السبب بالذات رأينا أن بني إسرائيل لاقوا جزاءهم السريع في الدنيا،
من دون أن يعني ذلك انتفاء العقاب الأخروي إذ عاشوا طويلا واقع الشتات
والتشرد، وذاقوا الكثير من السوء والمصائب. إننا اليوم نعيش مظاهر من فساد بني
إسرائيل وعلوهم وطغيانهم، فهم قد اغتصبوا أرض الآخرين وطردوهم منها،
وأذاقوا أهلها ألوان القتل والبطش والإرهاب، وروعوا الأبناء وسبوا النساء، بل لم
يحترموا حتى بيوت الله في بيت المقدس!

1 - نقرأ في الآية: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها بينما كان ينبغي أن يكون التعبير " عليها " لأن الإساءة
لا تكون في فائدة ونفع الإنسان بل هي في ضرره! إن السبب في ذلك يعود إلى ضرورات التنسيق بين قسمي الجملة، أو قد
يكون ذلك بسبب أن اللام هنا استخدمت بمعنى التخصيص لا بمعنى النفع والضرر. بعض المفسرين احتمل أيضا أن تكون اللام
بمعنى " إلى ".
410

إن هؤلاء يتعاملون مع العالم بدون رعاية أي شكل من أشكال القانون أو
الضوابط والمعايير الدولية، فإذا قام - مثلا - فدائي فلسطيني بإطلاق رصاصة
عليهم، فإنهم بدلا عنها يقومون بقصف وتخريب المخيمات السكنية للاجئين،
ومدارس الأطفال، والمستشفيات. وهم في مقابل خسارتهم لقتيل واحد، يقومون
بحصد المئات من الأنفس البريئة ويفجرون عددا كبيرا من البيوت.
إن هؤلاء يتجاهرون بعدم التزامهم، بل بعدائهم لكل قرارات المنظمات
الدولية، والكل يعرف أن جرأتهم في مواجهة العالم إنما كانت وما زالت مستمدة
من دعم القوى الاستعمارية الدولية لهم - وفي الطليعة منها أمريكا - من دون أن
يعني دعم هذه القوى لهم تبريرا لما يمتازون هم به من خصائص انحرافية ذاتية
في الفكر والأخلاق، واستعداد قبلي للعلو والطغيان والفساد.
إنهم بعلوهم وفسادهم عليهم أن ينتظروا أولئك الذين وصفهم القرآن بقوله:
عبادا لنا أولي بأس شديد حيث ينالون جزاءهم، وهو وعد إلهي قاطع في
قرآنه الكريم.
3 الثالثة: تطبيق الآيات على أحداث التاريخ الإسلامي:
في روايات عدة نرى انطباق الآيات أعلاه على بعض أحداث التاريخ
الإسلامي حيث يشير بعضها إلى أن الفساد الأول والثاني هو قتل الإمام علي بن
أبي طالب (عليه السلام)، والعدوان على جنازة الإمام الحسن (عليه السلام). وبعضها تشير إلى أن
المقصود من قوله تعالى: بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد هو الإشارة
إلى الإمام المهدي (عليه السلام) وأصحابه.
وفي روايات أخرى نقرأ أن المقصود، هو نهضة مجموعة من المسلمين قبل
411

ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) (1).
من الواضح أن هذه الأحاديث لا تفسر الآيات تفسيرا لفظيا، لأن الآيات
تتحدث بصراحة عن بني إسرائيل، ولكنها تتحدث عن التشابه بين نهج هؤلاء
(بني إسرائيل) ونهج ما يقع على شبههم وحالتهم في أحداث التأريخ الإسلامي.
وهكذا ننتهي إلى نتيجة مؤداها أن الآيات وإن تحدثت عن خصوصيات بني
إسرائيل، إلا أنها تتسع في مفهومها لترتفع إلى مستوى القاعدة الكلية، والسنة
المستمرة في تأريخ البشرية بما يطويه من حياة شعوب وأمم.
* * *

1 - يلاحظ نور الثقلين، ج 3، ص 138.
412

2 الآيات
إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين
الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (9) وأن الذين
لا يؤمنون بالأخرة أعتدنا لهم عذابا أليما (10) ويدع الإنسان
بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا (11) وجعلنا الليل
والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة
لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب
وكل شئ فصلنه تفصيلا (12)
2 التفسير
3 أقصر الطرق للهداية والسعادة:
الآيات السابقة تحدثت عن بني إسرائيل وكتابهم السماوي " التوراة " وكيف
تخلفوا عن برنامج الهداية الإلهية ليلقوا بعض جزائهم في هذه الحياة الدنيا،
والباقي مدخر ليوم القيامة.
وفي هذا المقطع من الآيات، انتقل الحديث إلى القرآن الكريم، الكتاب
413

السماوي للمسلمين، وآخر حلقة في الكتب السماوية، فقال تعالى أولا: إن
هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
" أقوم " صيغة تفضيل مشتقة من " قيام " حيث يكون الإنسان فيها على أحسن
حالاته حينما يريد أن يشرع بعمل ما، لذلك فإن " القيام " كناية عن أفضل الصيغ
التي ينجز فيها الإنسان الأعمال التي يباشرها، أو يستعد لمباشرتها.
" الاستقامة " مشتقة أيضا من مادة " قيم " وهي بمعنى الاعتدال والاستواء
والثبات.
وبما أن " أقوم " هي " أفعل تفضيل " بمعنى الأكثر ثباتا واستقامة واعتدالا،
فإن معنى الآية أعلاه، هو أن القرآن الكريم يمثل أقصر وأفضل طرق الاستقامة
والثبات والهداية وبهذا فإن الطريق القويم.
من وجهة نظر العقائد والأفكار، يتمثل بالعقائد الواضحة، القابلة للهضم
والإدراك والفهم، والتي تكون أساسا للعمل، وتعبئة الطاقات الإنسانية باتجاه
الإعمار والبناء. العقيدة الأقوم هي العقيدة الخالية من الخرافات والأوهام، وهي
التي توائم بين الإنسان وعالم الوجود والطبيعة من حوله.
العقيدة الأقوم من هذه الزاوية، هي التي توافق بين الاعتقاد والعمل، والظاهر
والباطن، الفكر والمنهج، وتدفع الإنسان والجميع نحو الله.
أما الأقوم من وجهة نظر القوانين الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية
والسياسية، التي تسود المجتمع، فهي تلك التي تربي في المجتمع الإنساني
الجوانب المادية والمعنوية وتدفع الجميع نحو التكامل والاتساق.
والأقوم من وجهة النظر العبادية والأخلاقية، هو كل ما يجعل الإنسان في
المركز الوسط بين الإفراط والتفريط، ويجعله في موقع الاعتدال بين الإسراف
والبخل، بين الاستضعاف والاستكبار.
وأخيرا فإن المنهج الأقوم بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة، هو كل ما
414

يدفعها إلى إقامة العدل، والدعوة إلى إشاعة الإنصاف، ومواجهة الظلم والظالمين.
نعم، إن القرآن هو الطريق الأقوم في كل تلك المستويات الآنفة الذكر، وهو
الأسلوب الأقوم في كل جوانب الحياة والوجود، وعلى كافة القضايا والصعد.
ولكنا هنا نقف مع نقطة حساسة، وهي إذا كان القرآن هو الأقوم، أي " أفعل
تفضيل " فمعنى ذلك تفوقه في ميزات العدل وصفات الهداية والاستقامة ليس على
سائر المذاهب والعقائد الوضعية وحسب، وإنما على سائر الأديان والشرائع
السابقة عليه أيضا.
وإزاء المفهوم الذي تطرحه هذه النقطة نرى أنفسنا بحاجة إلى إثارة الحديث
على النحو الآتي.
أولا: إذ كانت أطراف المقايسة هي الأديان السماوية الأخرى، فلا شك أن
كل دين وشريعة منها كانت أفضل وأقوم لوقتها وزمانها، ولكن وفق قانون التكامل
الذي وصلت البشرية بمقتضاه إلى أقصى حالات رشدها وتكاملها، في زمن
الرسالة الإسلامية الخاتمة والنبوة الخاتمة، فإن القرآن الكريم يعبر تبعا لذلك عن
أرقى وأقوم مضامين الهداية والاستقامة الاعتدال.
ثانيا: أما إذا كان طرف المقايسة هو المذاهب والعقائد الوضعية، فمن الطبيعي
جدا أن يكون القرآن كتاب السماء الواصل إلينا من الله ذي العلم المطلق، هو
الأقوم والأظهر عليها، لأن العقائد الوضعية مهما بلغت مزاياها فهي نتاج الفهم
المحدود للبشر.
ثالثا: أشرنا في غير مكان إلى أن " أفعل تفضيل " لا يدل دائما على أن
الموضوع لابد وأن يكون طرفا للمقايسة، كما في قوله تعالى: أفمن يهدي إلى
الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى (1).

1 - يونس، 35.
415

وعلى هامش هذه النقطة ينبغي أن لا يفوتنا أن تعبير " أقوم " في الآية الآنفة
يشير إلى أن الإسلام هو آخر أديان السماء، وأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو آخر
الأنبياء.
وكيفية ذلك، هو أن أقوم بوصفها أفعل تفضيل، تمثل أعلى درجات التفضيل،
ولأن الآية لا تذكر الطرف الآخر في المقايسة والذي يكون القرآن أقوم بالنسبة
إليه، وطالما أن حذف المتعلق يدل على العموم كما يقول الأصوليون، فينتج أن
الإسلام آخر الأديان، وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الرسل، لأنه ليس بعد صيغة تفضيل
" أقوم " من درجة في التفضيل.
بعد ذلك تشير الآيات إلى موقف الناس في مقابل الكتاب الأقوم، هذا
الموقف الذي ينقسم فيه الناس إلى فئتين، فالأولى يكون حالها كما يقول تعالى:
ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا.
أما الفئة الثانية فيكون مصيرها تبعا لموقفها كما يقول تعالى: وأن الذين لا
يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما.
وإذا كان استخدم " بشارة " واضح هنا بالنسبة للمؤمنين، فهو بالنسبة لغيرهم
من غير المؤمنين يقع على معنى السخرية والاستهزاء، أو أنه بشارة للمؤمنين أيضا
تخبرهم عن حال غير المؤمنين (1).
ضمنا الآية تشير باختصار بليغ إلى جزاء المؤمنين وثوابهم فتقول: أن لهم
أجرا كبيرا أما غير المؤمنين فإن لهم بنفس صورة الإيجاز القرآني البليغ
عذابا أليما وهذا الاختصار البليغ يطوي في كلا مجاليه صورا تفصيلية من
الثواب والعقاب.
أما لماذا اقتصرت الآية في غير المؤمنين على صفة عدم إيمانهم بالآخرة

1 - في نهاية الآية (138) من سورة النساء قلنا: إن " بشارة " مشتقة أصلا من " البشرة " بمعنى الوجه. والملاحظ أن صحيفة
الوجه وبشرته كالمرآة تعكس كل خبر إذا كان سارا أو سيئا بشكل إيحاءات معينة.
416

دون غيرها من الصفات والأعمال. في الواقع يمكن أن يكون ذلك بسبب أن
الإيمان بالآخرة هو صمام أمان يضبط الإنسان عن ارتكاب المعاصي والذنوب.
ثم إن إنكار القيامة يعتبر إنكارا لوجود الله تعالى، وإلا كيف يستقيم للإنسان أن
يؤمن بالله العادل الحكيم ولا يؤمن بوجود آخرة يحاسب فيها الإنسان على
أعماله وينال حسابه العادل!؟
ثم إن حديث الآية هو عن العقاب والثواب وهو يتناسب مع الحديث عن
الإيمان باليوم الآخر.
الآية التي بعدها تنساق في نفس اتجاه البحث وتشير إلى إحدى العلل المهمة
لعدم الإيمان وتقول بأن عجلة الإنسان وتسرعه وعدم اطلاعه على الأمور
وإحاطته بها تسوقه إلى أن يساوي في جهده بين دعائه بالخير وطلبه، وبين دعائه
بالشر وطلبه له!
تقول الآية: ويدع الإنسان بالشر دعائه بالخير.
لماذا؟: وكان الإنسان عجولا.
إن كلمة " دعا " هنا تنطوي على معنى واسع يشمل كل طلب ورغبة للإنسان،
سواء أعلن عنها بلسانه وكلامه، أو سعى إليها بعمله وجهده وسلوكه.
إن استعجال الإنسان واندفاعه في سبيل تحصيل المنافع لنفسه، تقوده إلى
النظرة السطحية للأمور بحيث أنه لا يحيط الأشياء بالدراسة الشاملة المعمقة مما
يفوت عليه تشخيص خيره الحقيقي ومنفعته الواقعية، وهكذا بنتيجة تعجله
واندفاعه المضطرب يضيع عليه وجه الحقيقة، ويتغير مضمونها بنظره، فيقود نفسه
باتجاه الشر والأعمال السيئة الضارة.
وهكذا ينتهي الإنسان - نتيجة سوء تشخيصه واضطراب مقياسه في رؤية
الخير والحقيقة - إلى أن يطلب من الله الشر، تماما كما يطلب منه الخير، وأن
يسعى وراء الأعمال السيئة، كسعيه وراء الأعمال الحسنة. وهذا الاضطراب
417

وفقدان الموازين هي أسوأ بلاء يصاب به الإنسان ويحول بينه وبين السعادة
الحقيقية.
ما أكثر الناس الذين يضعون أنفسهم - بسبب من عجلتهم واندفاعاتهم
المضطربة - على حافة الخطر ومشارف الضلال، وهم يظنون أنهم يسيرون نحو
الأمن والاستقرار والهداية. إن مثل هؤلاء كمن هو غارق بالسوء والقبائح وهو
يفتخر بما هو فيه!!
إن نتيجة العجلة والتسرع والإندفاع الأهوج لن تكون أحسن من هذه العاقبة.
من هنا يتضح - كما أشرنا سابقا - أن معنى " دعا " لا يقتصر لا على الرغبات
التي يظهرها الإنسان على لسانه، ولا على تلك الرغبات التي يسعى لتحقيقها
بسلوكه وبما يبذل لها من جهد، وإنما المعنى يشمل محصلة الاثنين معا. وأما ما
ذهب إليه بعض المفسرين من حصر المعنى في أحدهما فليس ثمة دليل عليه.
أما ما يظهر من بعض الروايات من اقتصار المعنى على الدعاء اللفظي، فإن
ذلك من قبيل بيان المصداق لا كل المفهوم من قبيل الرواية التي يقول فيها الإمام
الصادق (عليه السلام): " وأعرف طريق نجاتك وهلاكك، كي لا تدعو الله بشئ عسى فيه
هلاكك، وأنت تظن أن فيه نجاتك، قال الله تعالى: ويدع الإنسان بالشر دعائه
بالخير وكان الإنسان عجولا.
من هنا يتبين أن أفضل طريق لوصول الإنسان إلى الخير والسعادة، هو أن
يكون الفرد في كل خطوة وموقف على غاية قصوى من الدقة والحيطة والحذر،
وأن يتجنب الاندفاع والعجلة والتسرع، ويدرس الموقف من جميع جوانبه،
ويجانب الأحكام المتعجلة الممزوجة بالهوى والعاطفة، وأن يستعين بالله العزيز
ويستمده القوة والعون.
الآية التي بعدها تتحدث عن تعاقب الليل والنهار ومنافع هذا التعاقب، لتجعل
من هذا الشاهد مثالا على معرفة الله والتمعن بآياته، والمثال أيضا يفيد معنى
418

التأمل والهدوء ويدعو إلى محاذرة التعجل والتسرع.
الآية تقول أولا: وجعلنا الليل والنهار آيتين ثم: فمحونا آية الليل
وجعلنا آية النهار مبصرة. ولنا في ذلك هدفان: الأول: لتبتغوا فضلا من
ربكم حيث تنطلقون نهارا في الكسب والعمل والمعاش مستثمرين العطايا
الإلهية، وتنعمون ليلا بالراحة والهدوء والاستقرار. والهدف الثاني فهو:
ولتعلموا عدد السنين والحساب لكي لا تبقى شبهة لأحد وكل شئ
فصلناه تفصيلا.
بين المفسرين كلام كثير حول المقصود من " آية الليل " و " آية النهار " وفيما
إذا كان ذلك كناية عن نفس الليل والنهار، أم أن المقصود من " آية الليل " القمر،
ومن " آية النهار " الشمس (1).
ولكن التدقيق في الآية يكشف عن رجاحة التفسير الأول، خصوصا وأن
المقصود من قوله تعالى: وجعلنا الليل والنهار آيتين هو أن كل واحد منهما
علامة على إثبات وجود الله، أما محو آية الليل فهو تمزيق ظلمة الليل وحجب
الظلمة فيه بواسطة نور النهار، الذي يكشف ما كان مستورا بظلمة الليل.
وإذا كانت آيات أخرى في القرآن [آية (5) من سورة يونس] تفيد أن الغاية
من خلق الشمس والقمر هو تنظيم الحساب إلى سنين وأشهر، فليس ثمة تنافي
بين الآيتين، إذ من الممكن أن تنتظم حياة الإنسان وحسابه على أساس الليل
والنهار، وعلى أساس الشمس والقمر من دون أي تناف بين الاثنين.
في نهج البلاغة نقرأ للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قوله: " وجعل
شمسها آية مبصره لنهارها، وقمرها آية ممحوه من ليلها، وأجراهما في مناقل
مجراهما، وقدر سيرهما في مدارج درجهما، ليميز بين الليل والنهار بهما، وليعلم

1 - في الحالة الأولى تكون الإضافة " إضافية بيانية " أما في الثالثة فتكون الإضافة " إضافة اختصاصية ".
419

عدد السنين والحساب بمقاديرهما " (1).
إن كلام الإمام هنا لا ينافي التفسير الأول، لأن حساب السنين يمكن أن
يكون على أساس الأيام والليالي، كما يمكن أن يتم ذلك على أساس الشمس
والقمر.
* * *
2 بحوث
3 أولا: هل الإنسان عجول ذاتا؟
إن الإنسان لا يوصف في القرآن بوصف " العجول " وحسب، وإنما هناك
أوصاف أخرى أطلقها على الإنسان مثل " ظلوم " و " جهول " و " كفور " و " هلوع "
و " مغرور ".
ولكن السؤال هنا، هو أن هذه الأوصاف تتعارض مع التعليمات القرآنية التي
تتحدث عن الفطرة النظيفة الطاهرة للإنسان، فكيف إذن نوائم بين الحالتين؟
بعبارة أخرى: إن الإنسان من وجهة نظر الإسلام هو أفضل الموجودات
وأكرمها حتى أنه استحق مقام الخلافة عن الله، في الأرض، وهو معلم الملائكة
وأفضل منها، فكيف - إذن - يتسق هذا الطرح مع الأوصاف السيئة الآنفة التي
نقرؤها عن الإنسان في القرآن؟
إن الإجابة على هذا السؤال يمكن أن نختصرها بجملة واحدة، وهي أن
شخصية الإنسان هي كما تقوم آنفا من السمو والرفعة، ولكن بشرط أن تتم تربيته
وتكون رعايته من قبل القادة الربانيين، وإلا ففي غير هذه الصورة، فسيتسافل
نحو أسوأ الأحوال، ويغرق في الهوى والشهوات، ويخسر القابليات العظيمة

1 - نهج البلاغة، خطبة الأشباح، رقم (91).
420

الموجودة فيه بالقوة لتظهر بدلا عنها الجوانب السلبية.
لذلك إذا تحقق الشرط السابق (تربية الإنسان على يد القادة الإلهيين) فإن
الجوانب الإيجابية في الإنسان هي التي تظهر، وهي التي تطبعه بطابعها وبعكس
ذلك تظهر الصفات السلبية، لذلك نقرأ في الآيات 19 - 24 من سورة المعارج
قوله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير
منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون. ويمكن للقارئ أن يعود
إلى تفسير الآية (12) من سورة يونس لأجل المزيد من التفاصيل حول
الموضوع.
3 ثانيا: أضرار العجلة
إن تعلق الإنسان واندفاعه نحو موضوع معين، والتفكير السطحي المحدود،
والهوى والاضطراب، وحسن الظن أكثر من الحد الطبيعي إزاء أمر ما، كلها عوامل
للعجلة في الأعمال. ثم إن الاقتصار على بحث المقدمات بشكل سطحي سريع
ومرتجل لا يكفي في التوصل إلى حقيقة الأمر، وعادة تؤدي العجلة والتسرع في
الأعمال إلى الخسران والندامة!
وقد قرأنا في الآيات أعلاه أن عجلة الإنسان تقوده إلى أن يطلب الشر لنفسه
ويسعى إليه، بنفس الحالة والسرعة التي يطلب فيها الخير ويسعى إليه!
إننا لا نستطيع أن نحصي ما أصاب الإنسان على طول التاريخ جراء
استعجاله وتسرعه، وفي التجربة الحياتية الخاصة لأي واحد منا ثمة ما يكفي
لنتعلم دروس العجلة والتسرع من خلال النتائج المرة التي جنيناها.
إن " التثبت " و " التأني " هي الصفات التي تقابل العجلة، ففي حديث عن
رسول الله نقرأ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنما أهلك الناس العجلة، ولو أن الناس تثبتوا لم يهلك
421

أحد " (1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قوله (عليه السلام): " مع التثبت تكون
السلامة، ومع العجلة تكون الندامة " (2).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " إن الأناة من الله والعجلة من الشيطان " (3).
طبعا هناك باب في الروايات الإسلامية بعنوان " تعجيل فعل الخير " ففي
حديث عن رسول الله نقرأ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله يحب من الخير ما يعجل " (4).
إن الروايات في هذا المجال كثيرة، والمقصود منها هي السرعة في مقابل
الإهمال والتأخير غير الموجه، والاتكاء إلى الأعذار والتسويف باليوم وغدا، التي
غالبا ما تؤدي إلى ظهور المشاكل في الأعمال، وشاهد هذا الكلام هو الحديث
الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من هم بشئ من الخير فليعجله فإن كل شئ فيه
تأخير فإن للشيطان فيه نظرة " (5).
لذلك نقول: نعم للجدية والسرعة في الأعمال، ولكن لا.. للعجلة والتسرع.
وبعبارة أخرى: إن العجلة المذمومة هي التي تكون أثناء البحث والدراسة
لمعرفة جوانب العمل المختلفة، أما السرعة والعجلة الممدوحتان فهما اللتان
يكونان بعد اتخاذ قرار الشروع بالعمل، والتصميم على التنفيذ، لذلك نقرأ في
الروايات " سارعوا في عمل الخير " أي بعد أن يثبت أن هذا العمل خير فلا مجال
للتأخير والتسويف.
3 ثالثا: دور العدد والحساب في حياة الإنسان:

1 - سفينة البحار، ج 1، ص 129.
2 - المصدر السابق.
3 - سفينة البحار، ج 1، ص 129
(1) و (2) أصول الكافي، ج 1، كتاب الإيمان والكفر، باب تعجيل فعل الخير.
5 - المصدر السابق.
422

كل عالم الوجود يدور حول محور العدد والحساب، ولا نظام في هذا العالم
بدون حساب، وطبيعي أن الإنسان الذي هو جزء من هذه المجموعة لا يستطيع
العيش من دون حساب وكتاب.
لهذا السبب تعتبر الآيات القرآنية وجود الشمس والقمر أو الليل والنهار
واحدة من نعم الله تعالى، لأنها الأساس في تنظيم الحساب في حياة الإنسان. إن
شيوع الفوضى وفقدان الحياة للاتساق والنظم يؤدي إلى دمار الحياة وفنائها.
والظريف أن الآية تتحدث عن فائدتين لنعمة الليل والنهار: الأولى: ابتغاء فضل
الله والتي تعني التكسب والعمل المفيد المثمر. والثانية: معرفة عدد السنين
والحساب.
وقد يكون الهدف من ذكر الاثنين إلى جنب بعضهما البعض يعود إلى أن
(ابتغاء فضل الله) لا يتم بدون الاستفادة من (الحساب والكتاب) وقد لا يكون
هذا المعنى واضحا في العصور الماضية، أما في عصرنا فهو واضح كالشمس.
إن عالمنا اليوم، هو عالم الأرقام والأعداد والإحصاء، فإلى جانب كل
مؤسسة ومنظمة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو عملية أو ثقافية،
ثمة مؤسسة إحصائية.
وهكذا نستفيد من الإشارة القرآنية أن القرآن لا يبلى بالزمان، بل كلما مر
عليه الزمان تجددت معانيه وتجلت آفاقه (1).
* * *

1 - لنا كلام مفصل حول الموضوع أثناء الحديث عن الآية (5) من سورة يونس.
423

2 الآيات
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم
القيمة كتبا يلقه منشورا (13) اقرأ كتبك كفى بنفسك اليوم
عليك حسيبا (14) من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل
فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين
حتى نبعث رسولا (15)
2 التفسير
3 أربعة أصول إسلامية مهمة:
لقد تحدثت الآيات القرآنية السابقة عن القضايا التي تتصل بالمعاد
والحساب، لذلك فإن الآيات التي نبحثها الآن تتحدث عن قضية " حساب
الأعمال " التي يتعرض لها البشر، وكيفية ومراحل إنجاز ذلك في يوم المعاد
والقيامة حيث يقول تعالى: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه.
" الطائر " يعني الطير. ولكن الكلمة هنا تشير إلى معنى آخر كان سائدا
ومعروفا بين العرب، إذ كانوا يتفألون بواسطة الطير، وكانوا يعتمدون في ذلك على
طبيعة الحركة التي يقوم بها الطير. فمثلا إذا تحرك الطير من الجهة اليمنى، فهم
425

يعتبرون ذلك فألا حسنا وجميلا. أما إذا تحرك الطير من اليسرى فإن ذلك في
عرفهم وعاداتهم علامة الفأل السئ، أو ما يعرف بلغتهم بالتطير، من هنا فإن هذه
الكلمة غالبا ما كانت تعني الفأل السئ في حين أن كلمة التفؤل (عكس التطير)
كانت تشير إلى الفأل الجميل الحسن.
وفي الآيات القرآنية ورد مرارا أن " التطير " هو بمعنى الفأل السئ حيث
يقول تعالى في الآية (131) من سورة الأعراف: وإن تصبهم سيئة يطيروا
بموسى ومن معه وفي الآية (47) من سورة النمل نقرأ أيضا: قالوا اطيرنا بك
وبمن معك والآية تحكي خطاب المشركين من قوم صالح (عليه السلام) لنبيهم.
بالطبع عندما نقرأ الأحاديث والروايات الإسلامية نراها تنهى عن " التطير "
وتجعل " التوكل على الله " طريقا وأسلوبا لمواجهة هذه العادة.
وفي كل الأحوال فإن كلمة " طائر " في الآية التي نبحثها، تشير إلى هذا
المعنى بالذات، أو أنها على الأقل تشير إلى مسألة " الحظ وحسن الطالع " التي
تقترب في أفق واحد مع قضية التفؤل الحسن والسئ، إن القرآن - في الحقيقة -
يبين أن التفؤل الحسن والسئ أو الحظ النحس والجميل، إنما هي أعمالكم لا
غير، والتي ترجع عهدتها إليكم وتتحملون على عاتقكم مسؤولياتها.
إن تعبير الآية الكريمة، بكلمتي " ألزمناه " و " في عنقه " تدلان بشكل قاطع
على أن أعمال الإنسان والنتائج الحاصلة عن هذه الأعمال لا تنفصل عنه في
الدنيا ولا في الآخرة، وهو بالتالي، وفي كل الأحوال عليه أن يكون مسؤولا عنها،
إذ أن الملاك هو العمل دون غيره.
بعض المفسرين ذكروا في إطلاق معنى كلمة " طائر " على الأعمال الإنسانية
أنها تعني أن الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة للإنسان كالطير الذي يطير من بين
جنباته، لذلك شبهوها (أي الأعمال) بالطائر.
وفي كل الأحوال، اختلف المفسرون في معنى كلمة طائر في هذه الآية،
426

وقد أوردوا في ذلك مجموعة احتمالات منها أن " الطائر " بمعنى " حصيلة ما
يجنيه الإنسان من أعماله الحسنة والسيئة "، أو أن الطائر بمعنى " الدليل
والعلامة "، وبعضهم قال: إن معناه " صحيفة أعمال الإنسان " بينما ذهب البعض
الآخر إلى أن معنى " الطائر " هو " اليمن والشؤم ".
ولكن الملاحظ في هذه التفسيرات جميعا، أن بعضها يرجع إلى نفس التفسير
الذي ذكرناه في البداية، كما أن بعضها الآخر بعيد عن معنى الآية.
يقول القرآن بعد ذلك: ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. ومن
الوضح أن المقصود من " الكتاب " في الآية الكريمة هي صحيفة الأعمال لا غير.
وهي نفس الصحيفة الموجودة في هذه الدنيا والتي تثبت فيها الأعمال، ولكنها
هنا (في الدنيا) مخفية عنا ومكتومة، بينما في الآخرة مكشوفة ومعروفة.
إن التعبير القرآني في كلمتي " نخرج " و " منشورا " يشير إلى هذا المعنى، إذ
نخرج وننشر ما كان مخفيا ومكتوما.
وبالنسبة الصحيفة الأعمال وحقيقتها وما يتعلق بها، فسيأتي البحث عنها في
نهاية هذه الآيات.
في هذه اللحظة يقال للإنسان: اقرأ كتابك، وكفى بنفسك اليوم عليك
حسيبا يعني أن المسألة - مسألة المصير - بدرجة من الوضوح والعلنية
والانكشاف، بحيث أن كل من يرى صحيفة الأعمال هذه سيحكم فيها على الفور
- مهما كان مجرما - لماذا؟ لأن صحيفة الأعمال هذه - كما سيأتي - هي مجموعة
من آثار الأعمال أو هي نفس الأعمال، وبالتالي فلا مجال لانكارها فإذا سمعت -
أنا - صوتي من شريط مسجل، أو رأيت صورتي وهي تضبط قيامي ببعض
الأعمال الحسنة أو السيئة، فهل أستطيع أن أنكر ذلك؟ كذلك صحيفة الأعمال في
يوم القيامة، بل هي أكثر حيوية ودقة من الصورة والصوت!
الآية التي بعدها توضح أربعة أحكام أساسية فيما يخص مسألة الحساب
427

والجزاء على الأعمال، وهذه الأحكام هي:
1 - أولا تقرر أن من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه حيث تعود النتيجة
عليه.
2 - ثم تقرر أيضا أن ومن ضل فإنما يضل عليها.
وقرأنا نظير هذين الحكمين في الآية السابعة من هذه السورة في قوله
تعالى: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها.
3 - ثم تنتقل الآية لتقول: ولا تزر وازرة وزر أخرى.
" الوزر " بمعنى الحمل الثقيل. وأيضا تأتي بمعنى المسؤولية، لأن المسؤولية -
أيضا - حمل معنوي ثقيل على عاتق الإنسان، فإذا قيل للوزير وزيرا، فإنما هو
لتحمله المسؤولية الثقيلة على عاتقه من قبل الناس أو الأمير والحاكم.
طبعا هذا القانون الكلي الذي تقرره آية ولا تزر وازرة وزر أخرى لا
يتنافى مع ما جاء في الآية (25) من سورة النحل التي تقول: ليحملوا أوزارهم
كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون
لأن هؤلاء بسبب تضليلهم للآخرين يكونون فاعلين للذنب أيضا، أو يعتبرون
بحكم الفاعلين له، ولذلك فهم في واقع الأمر يتحملون أوزارهم وذنوبهم، وبتعبير
آخر: فإن " السبب " هنا هو في حكم " الفاعل " أو " المباشر ".
كذلك مرت علينا روايات متعددة حول مسألة السنة السيئة والسنة الحسنة،
والتي كان مؤداها يعني أن من سن سنة سيئة أو حسنة فإنه سيكون له أجر من
نصيب العاملين بها، وهو شريكهم في جزائها وعواقبها، وهذا الأمر هو الآخر لا
يتنافى مع قاعدة ولا تزر وازرة وزر أخرى لأن المؤسس للسنة، يعتبر في
الحقيقة أحد اجزاء العلة التامة للعمل، وهو بالتالي شريك في العمل والجزاء.
4 - الحكم الرابع يتمثل في قوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث
رسولا يقوم ببيان التكليف وإلقاء الحجة.
428

هناك نقاش بين المفسرين حول نوع العذاب المقصود هنا، وهل هو نوع من
أنواع العذاب الذي يقع في الدنيا أو في الآخرة، أم المقصود به هو عذاب
" الإستيصال " الذي يعني العذاب الشامل المدمر كطوفان نوح مثلا؟
إن ظاهر الآية الكريمة يدل على الإطلاق، وهو بالتالي يشمل كل أنواع
العذاب.
وهناك نقاش آخر - أيضا - بين المفسرين حول قاعدة وما كنا معذبين
حتى نبعث رسولا وهل أن الحكم فيها يخص المسائل الشرعية التي يعتمد
فهمها على الأدلة النقلية فقط، أو أنه يشمل جميع المسائل العقلية والنقلية في
الأصول والفروع؟
في الواقع، إذا أردنا العمل بظاهر الآية الذي يفيد الإطلاق، فينبغي القول أنها
تشمل جميع الأحكام العقلية والنقلية، سواء ارتبطت بأصول أو فروع الدين.
ومفهوم هذا الكلام أنه حتى في المسائل العقلية البحتة التي يقطع " العقل المستقل "
بحسنها وقبحها مثل حسن العدل وقبح الظلم، فإنه ما لم يأت الأنبياء، ويؤيدون
حكم العقل بحكم النقل، فإن الله تبارك وتعالى لا يجازي أحدا بالعذاب. للطفه
ورحمته بالعباد.
ولكن هذا الموضوع مستبعد وضعيف الاحتمال، لأنه يصطدم مع قاعدة أن
المستقلات العقلية لا تحتاج إلى بيان الشرع، وحكم العقل في إتمام الحجة في
هذه الموارد يعتبر كافيا ومجزيا، لذلك فلا طريق أمامنا إلا أن نستثني المستقلات
العقلية عن مجال عمل القاعدة المذكورة.
وإذا لم نستثن ذلك فسيكون معنى العذاب في هذه الآية هو " عذاب
الإستيصال " وسيكون المفاد الأخير للمعنى هو أن الله سبحانه وتعالى لرحمته
ولطفه بالعباد لا يهلك الظالمين والمنحرفين إلا بعد أن يبعث الأنبياء، وتستبين
جميع طرق السعادة والهداية، حتى تطابق حجة الشرع حجة العقل المستقل، وتتم
الحجة بذلك من طريقي العقل والنقل (فتأمل ذلك).
429

* * *
2 بحوث
3 1 - التفؤل والتطير
التفؤل والتطير كانا موجودين بين جميع الأمم ولا يزالان كذلك. ويظهر أن
مصدرهما هو عدم القدرة على اكتشاف الحقائق، والغفلة عن علل الحوادث.
وعلى أية حال، ليست هناك آثار طبيعية فعلية لهذين الأمرين، ولكن لهما آثارا
نفسية، إذ (التفاؤل) يبعث على الأمل بينما " التطير " يؤدي إلى اليأس والعجز.
ولأن الإسلام يؤكد دائما على الأمور الإيجابية، ويدفعها مشجعا إياها، لذا
فإنه لم ينه عن (التفاؤل) ولكنه أدان وبشدة " التطير " حتى أنه في بعض الروايات
اعتبر ذلك من الشرك، إذ جاء الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " الطيرة شرك " وقد بحثنا
هذا الموضوع بشكل مفصل في نهاية الآية (131) من سورة الأعراف (1).
الظريف في الأمر أن الإسلام يقوم دائما بتوجيه مثل هذه الأمور الوهمية
ويحاول توظيفها في مجراها الصحيح والبناء، حتى يمكن الاستفادة منها.
فمثلا مما هو شائع بين الناس أن الزوجة الفلانية قدمها خير، بينما الأخرى
قدمها في بيت زوجها شر ونحس، وكذلك شائع أن الزوجة الفلانية ومنذ أن دخلت
بيت زوجها حصل كذا وكذا (خيرا أم شرا) بينما واقع الحال إن هذه الأمور خرافية
وهمية، لكن الإسلام أعطى بعضها - من خلال توجيهه - شكلا بناءا ومضمونا
تربويا، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) نقرأ: " من شؤم المرأة غلاء مهرها وشدة
مؤنتها " (2). وفي حديث آخر عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ: " أما الدار فشؤمها

1 - يراجع التفسير " الأمثل " عند تفسير قوله تعالى: فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه، وإن تصيبهم سيئة يطيروا بموسى
ومن معه، ألا إنما طائرهم عند الله، ولكن أكثرهم لا يعلمون، (الأعراف 131).
2 - راجع وسائل الشيعة، ج 3، ص 104.
430

ضيقها وخبث جيرانها " (1).
لاحظوا بدقة كيف يستخدم الإسلام نفس الألفاظ التي كان الناس
يستخدمونها في مفاهيم خرافية ووهمية، يوظفها في مفاهيم واقعية وبأسلوب
تربوي بناء، ولاحظوا أيضا، كيف أن الأفكار التي كانت تنتهي إلى طريق مغلق،
جاء الإسلام ووجهها نحو طريق الهداية والإصلاح.
أخيرا وقبل أن ننتقل إلى الملاحظة الثانية نختم حديثنا بكلام لرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطابق ما قلناه آنفا؟ إذا روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " اللهم لا خير إلا خيرك، ولا
طير إلا طيرك ولا رب غيرك ".
3 2 - صحيفة أعمال الإنسان العجيبة:
لقد تحدثت آيات قرآنية وروايات عديدة عن صحيفة أعمال الإنسان. وكل
هذه الآيات والروايات تؤكد على أن جميع الأعمال وجزئياتها وتفصيلاتها تكون
مدونة في صحيفة الأعمال، وفي يوم البعث والقيامة، يستلم الإنسان صحيفة عمله
بيمينه إذا كان محسنا ويتناولها بشماله إذا كان مسيئا. ففي الآية (19) من سورة
الحاقة نقرأ! فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه وفي الآية
(25) من نفس السورة نقرأ قوله تعالى حكاية عن الإنسان الخاسر: وأما من
أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه. وفي الآية (49) من سورة
الكهف نقرأ قوله تعالى: ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه
ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها،
ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا.
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)، يتعلق بالآية - مورد البحث - اقرأ

1 - راجع سفينة البحار، ج 1، ص 680.
431

كتابك... قال: " يذكر العبد جميع ما عمل، وما كتب عليه، حتى كأنه فعله تلك
الساعة، فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها " (1).
وهنا يطرح هذا السؤال، عن ماهية هذه الصحيفة وكيفيتها؟
مما لا شك فيه أنها ليست من جنس الكتب والورق والصحف العادية، لذا فإن
بعض المفسرين قالوا بأن صحيفة الأعمال ليست سوى " روح الإنسان " والتي
تكون جميع الأعمال مثبتة فيها (2) لأن أي عمل نعمله سيكون له أثر في روحنا
شئنا أم أبينا.
وقد تكون صحيفة الأعمال، هي أعضاء جسمنا وجلودنا، والأعظم من ذلك
هو أن الصحيفة قد تكون متضمنة في الأرض والهواء والفضاء الذي يحيطنا والذي
نعيش فيه، لأن هذه المفردات هي وعاء أعمالنا، فترتسم الأعمال في أفق الأرض
الهواء والوجود الذي حولنا، هذا الوجود الذي تنحت في ذراته أعمالنا أو آثارها
وعلى الأقل.
وإذا كانت هذه الآثار غير محسوسة اليوم، ولا يمكن دركها في الحياة الدنيا
هذه، إلا أن ذلك - بدون شك - لا يعني عدم وجودها، فعندما نرزق بصرا جديدا
آخر (في يوم القيامة) فسوف يكون بإمكاننا أن نرى جميع هذه الأمور، ونقرؤها.
على أن استخدام الآية الكريمة لتعبير (اقرأ) ينبغي أن لا يغير من تفكيرنا شيئا
إزاء ما ذهبنا إليه آنفا، لأن كلمة " اقرأ " تتضمن مفهوما واسعا، وتدخل الرؤيا
بمفهومها الواسع هذا، فنحن مثلا وفي تعابيرنا العادية التي نستخدمها يوميا نقول:
قرأت في عيني فلان ما الذي يريد أن يفعله، أو أننا عرفنا من نظرتنا إلى فلان، بقية
القصة، وعرفنا بقية العمل الذي يريد أن يفعله. كما أننا في عالم اليوم أخذنا

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 144.
2 - يراجع تفسير الصافي في شأن تفسير هذه الآية.
432

نستخدم كلمة " اقرأ " بخصوص الأشعة التي تؤخذ للمرضى، هذا بالرغم من أن
الأشعة، هي صورة تخضع للمشاهدة لا للقراءة، وهذا المثال والأمثلة التي سبقته
تؤكد ما ذهبنا إليه أن المشاهدة تدخل في إطار المعنى الواسع للقراءة.
وقد تقدم في الآيات السابقة أن تفصيلات صحيفة الأعمال هذه، لا يمكن
إنكارها بأي وجه، لأن الآثار الحقيقية الموضوعية (أي الخارجية) والتكوينية
للعمل تشبه كثيرا الصوت المسجل للإنسان، أو الصورة المأخوذة له، أو بصمات
أصابعة، وأيا من هذه الآثار لا يجد الإنسان إلى نكرانها سبيلا!
3 3 - البرئ لا يؤخذ بجريرة المذنب:
في منطق العقل وتوجيهات الأنبياء (عليهم السلام) لا يمكن معاقبة البرئ بسبب
جريمة المذنب، وهذا تماما عكس ما هو شائع بين عامة الناس من خلال المثل
الذي يقول (يحرق الأخضر واليابس معا)، وكمثل على ذلك، نرى أن في كل
المدن والمناطق التي كانت في حدود نبوة النبي لوط (عليه السلام)، لم تكن هناك سوى
عائلة مؤمنة واحدة، ولكن عندما نزل العذاب على قوم لوط (عليه السلام) أنجى الله تلك
العائلة، وكتب لها سبيل الخلاص من العذاب العام، وهكذا لم تؤخذ هذه العائلة
المؤمنة البريئة بجريرة القوم المذنبين.
وتتحدث الآية، من مجموع الآيات التي نحن بصددها، بصراحة عن هذه
القاعدة، فتقول: ولا تزر وازرة وزر أخرى. وإذا صادف أن وجدنا من بين
الأحاديث غير المعتبرة، أمورا تعارض هذا القانون الإسلامي العام. فيجب ترك
تلك الأحاديث أو توجيهها.
وفي هذا الاتجاه، أمامنا رواية تقول: إن الشخص الميت يتعذب ببكاء الحي،
(وهنا يحتمل، ومن باب توجيه الحديث، أن يكون الغرض من العذاب، هو ليس
العذاب الإلهي، بل الأذى الذي يصيب الميت من ذلك عندما تطلع روحه على
433

جزع الأهل والأقرباء).
ويتضح هنا - أيضا - مصير عقيدة الأشخاص الذين يقولون: إن أبناء الكفار
يحشرون مع آبائهم في نار جهنم لبطلانه إسلاميا ولمنافاته لقاعدة ولا تزر
وازرة وزر أخرى، وإن الذرية لا تؤاخذ بجريرة الآباء، وهي بالتالي لا تعاقب
بسبب ذنوب الأب والأم. ولهذا السبب بالذات، فقد قلنا بأن الأبناء غير الشرعيين
(أولاد الزنا) ليست لهم من جريرة غيرهم عليهم شئ، وأنهم بمنأى عن الذنب
وأن أبواب السعادة أمامهم مفتوحة، إذا أرادوا هم ذلك، بالرغم من اعترافنا
بصعوبة تربيتهم!
3 4 - قاعدة " أصل البراءة " وآية! ما كنا معذبين:
في علم الأصول، وفي بحث " البراءة " استدلوا بقوله تعالى: وما كنا
معذبين حتى... على أن فهم الآية يوضح أن المسائل التي لا يمكن للعقل
إدراكها أو القطع بها، لا يعاقب عليها الإنسان حتى يبعث الله الرسل والأنبياء
ليبينوا الأحكام والتكاليف والوظائف. وهذا بحد ذاته دليل على عدم العقاب في
الأمور التي لم تقم الحجة عليها، وقاعدة " أصل البراءة " لا تعني شيئا غير هذا،
أي لا عقاب بدون حجة من العقل أو النقل.
أما قول البعض: إن مفاد " العذاب " في الآية أعلاه، هو " عذاب الاستئصال "
مثل طوفان نوح، فلا دليل على ذلك، بل - كما قلنا - إن اطلاق الآية ينفي ذلك،
وهي تشمل بالتالي كل عذاب وعقاب.
* * *
434

2 الآيتان
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق
عليها القول فدمرناها تدميرا (16) وكم أهلكنا من القرون من
بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا (17)
2 التفسير
3 مراحل العقاب الإلهي:
إن موضوع البحث في هذه الآيات يكمل ما كنا بصدد بحثه في نهاية الآيات
السابقة، ولكن بصورة أخرى، إذ تقول الآية الكريمة: وإذا أردنا أن نهلك قرية
أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (1). إن الآيات
التي كنا قبل قليل بصدد بحثها، كانت تتحدث عن أن العقاب الإلهي لا يمكن أن
ينزل بساحة شخص أو مجموعة أو أمة، من دون أن تكون هناك حجة وبيان
للتكليف من قبل الرسل والأنبياء (عليهم السلام)، والآية التي نحن بصددها الآن، تتحدث
عن نفس هذا الأصل، ولكن بطريقة أخرى.
صحيح أن المفسرين وضعوا إحتمالات متعددة لتفسير هذه الآية، إلا أننا

1 - بالرغم من أن كلمة " قول " لها معنى واسع، ولكنها هنا تعني إعطاء الأمر بالعذاب.
435

نعتقد بأنه لا يوجد سوى تفسير واحد واضح لهذه الآية، يمكن تبيانه من مؤدى
ظاهرها، وهذا التفسير هو: إن الله لا يعاقب أو يؤاخذ أحدا بالعذاب، قبل أن يتم
الحجة عليه، وقبل أن يتضح ويستبين تكليفه، ففي البداية يضع الله تعليماته
وأوامره أمام الناس، فإذا التزموا بها وأطاعوا فستنالهم سعادة الدنيا والآخرة. أما
إذا عصوا وخالفوا ولم يلتزموا الأوامر والنواهي الربانية، فسيحيق بهم العذاب،
ويؤدي إلى هلاكهم.
وإذا تأملنا الآية، ودققنا النظر فيها بشكل صحيح، فسنرى أن هناك أربع
مراحل لهذا البرنامج الرباني، هي:
1 - مرحلة الأوامر والنواهي.
2 - مرحلة الفسق والمخالفة.
3 - مرحلة استحقاق المجازاة.
4 - مرحلة الهلاك.
والملاحظ هنا، أن المراحل الأربع هذه، معطوفة على بعضها البعض بواسطة
" فاء " التفريع.
هنا يطرح هذا السؤال: لماذا كان المأمورون في الآية الكريمة هم المترفين
دون غيرهم؟ (1).
في الإجابة على السؤال المثار، لابد من الإشارة إلى ملاحظة تعتبر مهمة في
توضيح المعنى، وهي أن المترفين هم وجهاء القوم، ورؤساء المجتمع - طبعا هذه
القاعدة تخص المجتمعات المريضة - والآخرون تبع لهم.
إضافة إلى ذلك، فإن التعبير في الآية الكريمة ينطوي على إشارة مهمة، هي
أن أغلب المفاسد الاجتماعية تنبع من المترفين، أصحاب الأموال، البعيدين عن

1 - مترفون، من مادة رفاه، وتعني المتنعمين وذوي الأموال الكثيرة الناسين لله تعالى.
436

الله تعالى، والذين يعيشون حياة مترفة بعيدة عن الشرع مملوءة بالأهواء
والمفاسد، وهم بذلك لا يفقهون شيئا عن تلك المفردات التي تتحدث عن الأخلاق
والإنسانية والإصلاح. ولهذا السبب بالذات، وبحكم موقعهم، كان المترفون دائما
في الصفوف الأولى، في مواجهة دعوات الأنبياء والرسل، وكانوا يعتبرون دعوات
الأنبياء - القائمة على أساس العدل وحماية المستضعفين - ضدهم.
لهذه الأسباب ذكر هؤلاء بالخصوص لأنهم أساس الفساد. على أية حال،
هذه الآية بمثابة تحذير لكل المؤمنين كي ينتبهوا، ولا يسلموا زمام أمورهم
وحكوماتهم بيد المترفين والأغنياء الغارقين بالشهوات، وألا يتبعونهم، لأن
هؤلاء يجرون مجتمعهم نحو الهلاك.
الآية التي بعدها تشير إلى نماذج بهذا الخصوص، على أنها أصل عام،
وقاعدة سارية، إذ تقول: وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وفقا لهذه
القاعدة والسنة، ثم تضيف بعد ذلك: وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا
أي إن ظلم وذنوب فرد أو مجموعة لا يمكنها أن تكون خافية على العين البصيرة
التي لا تنام لرب العالمين.
" قرون " جمع " قرن " وهي تعني الجماعة التي تعيش في عصر واحد، ثم
أطلقت فيما بعد على مجموع العصر الواحد.
أما بصدد عدد سنين القرن الواحد، فهناك آراء مختلفة، فقسم أعتبر القرن
(40) سنة، وآخرون قالوا: ثمانين، والبعض الثالث، قال: إن القرن مائة عام، أخيرا
فقد اعتبر البعض أن القرن هو مائة وعشرون عاما. وفي كل الأحوال لابد من
الإشارة هنا إلى أن الحكم في هذه القضية يخضع لطبيعة الاتفاق العرفي الذي
ينعقد حولها. ومن هنا فقد اتفق في عصرنا الراهن على أن كل مائة سنة تعتبر قرنا
437

واحدا (1).
أما لماذا أكدت الآية على القرون من بعد نوح (عليه السلام) فقد يكون ذلك بسبب أن
الحياة قبل نوح (عليه السلام) كانت حياة بسيطة، والاختلافات التي تقسم المجتمعات إلى
مترف ومستضعف، كانت بسيطة وضئيلة، لذلك فالعذاب الإلهي لم يشملهم
بكثرة.
أما عن سبب ذكر كلمتي " خبير " و " بصير " معا، فإن ذلك يعود إلى المعنى
المراد، إذ " الخبير " تعني العلم والإحاطة بالنية والعقيدة، أما " بصير " فدلالة على
رؤية الأعمال. لذلك فإن الله تبارك وتعالى يعلم بواطن الأعمال والنيات، ويحيط
بنفس الأعمال، ومثل هذه القدرة لا يمكنها بحال أن تظلم أحدا، ولا أن يضيع حق
أحد في ظل حكومتها.
* * *

1 - في نهاية الآية (13) من سورة يونس أشرنا إلى هذا الموضوع.
438

2 الآيات
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم
جعلنا له جهنم يصلها مذموما مدحورا (18) ومن أراد
الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم
مشكورا (19) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما
كان عطاء ربك محظورا (20) انظر كيف فضلنا بعضهم على
بعض وللآخرة أكبر درجت وأكبر تفضيلا (21)
2 التفسير
3 طلاب الدنيا والآخرة:
لقد تحدثت الآيات السابقة عن الذين عصوا أوامر الله تعالى، وكيفية
هلاكهم، لذا فإن هذه الآيات - التي نحن بصددها الآن - تشير إلى سبب التمرد
على شريعة الله، والعصيان لأوامره، وهذا السبب هو حب الدنيا، إذ يقول تعالى:
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم
يصلها مذموما مدحورا.
439

" العاجلة " تعني النعم الزائلة، أو الدنيا الزائلة.
والظريف في الآية، أنها لا تقول: إن من يسعى وراء الدنيا، ويجعلها كل همه،
يحصل على كل ما يريد، بل هي قيدت ذلك بشرطين هما:
أولا: سيحصل على جزء مما يريده، وأن هذا الجزء هو المقدار الذي نريده
نحن، أي (ما نشاء).
والشرط الثاني الذي يقيد رغبة الساعي إلى الدنيا، فهو: إن جميع الأشخاص
- رغم سعيهم الدنيوي - لا يحصلون على هذا المقدار، وإنما قسم منهم سيحصل
على جزء من متاع الدنيا. وهذا معنى قوله: لمن نريد.
وبناءا على ذلك، فلا كل طلاب الدنيا يحصلون عليها، ولا أولئك الذين
يحصلون على شئ منها، يحصلون على ما يريدون. ومسير الحياة اليومية يوضح
لنا هذين الشرطين، إذ ما أكثر الذين يكدون ليلا ونهارا ولكنهم لا يحصلون على
شئ.
وما أكثر الذين لهم أمنيات كبيرة وطموحات متعددة ومشاريع بعيدة، ولكن
لا يحصلون إلا على القليل منها.
وفي هذا تحذير الدنيا إنكم إذا تصورتم بأنكم ستصلون إلى أهدافكم عن
طريق بيع الآخرة بالدنيا، فهذا خطأ واشتباه كبير، حيث أنكم في بعض الأحيان
قد لا تحققون أي هدف، وفي أحيان أخرى قد تحققون بعض أهدافكم.
وعادة ما تكون للإنسان آمال كبيرة ومتعددة، لا يمكن إشباعها في هذه
الدنيا المادية المحدودة، فلو أعطيت الدنيا كلها إلى شخص واحد، فقد لا يقتنع بها!
أما الأشخاص الذين يكدون ولا يصلون إلى شئ، فلذلك أسباب مختلفة، إذ
قد يكون هناك أمل في إنقاذهم، والله بذلك يحبهم وييسر سبل الهداية لهم. أو
يكون السبب أنهم إذا وصلوا إلى مرحلة ما من أهدافهم ورغباتهم، فسيطغون
ويؤذون خلق الله، ويضيقون عليهم الخناق.
440

" يصلى " مشتقة من " صلى " وهي تعني إشعال النار، وأيضا تعني الحرق
بالنار، والمقصود منها هنا هو المعنى الثاني.
والجدير بالانتباه هنا، أن عاقبة هذه المجموعة من الناس، والتي هي نار
جهنم، قد تم تأكيدها في الآية، بكلمتي مذموما و مدحورا إذ التعبير
الأول يأتي بمعنى اللوم، بينما الثاني يعني الابتعاد عن رحمة الخالق، وفي الحقيقة
إن نار جهنم تمثل العقاب الجسدي لهم، أما " مذموم " و " مدحور " فهما عقاب
الروح، لأن المعاد هو للروح وللجسد، والجزاء والعقاب يكون للإثنين معا.
بعد ذلك تنتقل الآيات إلى توضيح وضع المجموعة الثانية ومصيرها،
وبقرينة المقابلة وهي أسلوب قرآني مميز - يتوضح الموضوع أكثر إذ يقول
تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن، فأولئك كان سعيهم
مشكورا.
بناءا على ذلك هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إلى السعادة الأبدية، هي:
أولا: إرادة الإنسان: وهي الإرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية، ولا تكون
مرتبطة باللذات الزائلة والنعم غير الثابتة، والأهداف المادية، فالإرادة القوية
والروحية العالية تجعلان من الإنسان حرا طليقا غير مرتبط بالدنيا.
ثانيا: هذه الإرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري
والروحي للإنسان، بل إنها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإنساني، وتدفعه
للحركة، وببذل كل ما يستطيع من السعي في هذا المجال (يجب الملاحظة، بأن
كلمة " سعيها " قد جاءت في الآية الكريمة للتأكيد. وهي تعني أن على الإنسان أن
يبذل أقصى ما يستطيع من السعي في سبيل الآخرة).
ثالثا: إن كل ما سبق من حديث عن الإرادة في النقطتين السابقتين، ينبغي أن
يقترن بالإيمان، الإيمان الثابت القوي. لأن أي تصميم وجهد، إذا أريد له أن يثمر
يجب أن تكون أهدافه صحيحة، ومصدر هذه الأهداف هو الإيمان بالله لا غير.
441

صحيح أن السعي وبذل الجهد للآخرة لا يمكن أن يكون بدون إيمان، حيث
أن مفهوم الإيمان داخل ضمنه، ولكن يجب عدم الاكتفاء بهذا المقدار من الدلالة
الإلتزامية للإيمان، بل وينبغي التوسع في شرط الإيمان، بحكم أن (الإيمان) يعتبر
أمرا أساسيا، وركنا مهما في هذا الطريق.
والملاحظ هنا، أن الآية تخاطب عبيد الدنيا بالقول: جعلنا له جهنم بينما
عندما تنتقل إلى طلاب الآخرة وعشاقها ومريدها، فهي تخاطبهم بالقول:
فأولئك كان سعيهم مشكورا. إن استخدام هذا التعبير أشمل وأجمل من
استخدام أي تعبير آخر، مثل (جزاءهم الجنة) لأن الشكر من أي شخص هو
بمقدار شخصيته ومكانته لا بمقدار العمل الذي تم، لذا فإن شكر الله لسعي عباده
يتناسب مع ذاته اللامتناهية، ونعمه المادية والمعنوية وما نتصوره وما نعجز عن
تصوره.
وبالرغم من أن بعض المفسرين قد فسروا كلمة " مشكورا " في هذه الآية
بمعنى " الأجر المضاعف " (1). أو بمعنى " قبول العمل " (2)، إلا أنه من الواضح أن
كلمة " مشكورا " لها معنى أوسع من هذه المعاني جميعا.
وقد يتوهم البعض ويلتبس عليه الأمر، ظانا أن نعم الدنيا هي من نصيب
عبيدها وطلابها فقط، وأن طلاب الآخرة وأهلها محرومون منها، لذلك فإن الآية
التي بعدها تقف أمام هذا اللبس، وتمنع هذا الظن، عندما تقول: كلا نمد هؤلاء
من عطاء ربك لتضيف بعدها بقليل: وما كان عطاء ربك محظورا.
نمد هنا من " الإمداد " بمعنى الزيادة.
الآية التي بعدها تشير إلى أصل مهم في هذا الخصوص وتقول: كما أن السعي
في هذه الدنيا متفاوت، وتتفاوت معه الأجور، فكذلك الأمر في الآخرة: ولكن

1 - يراجع في هذا الشأن تفسير القرطبي، ج 6، ص 3852.
2 - راجع تفسير الصافي عند الحديث عن هذه الآية.
442

التفاوت الدنيوي محدود، لأن الدنيا هي نفسها محدودة، وأما الآخرة - ولكونها
غير محدودة - فإن تفاوتها غير محدود، إذ يقول تعالى: أنظر كيف فضلنا
بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا.
قد يقول قائل هنا، إننا نرى في هذه الدنيا أفرادا يحصلون على أرباح كثيرة
بدون أي سعي أو جهد.
الجواب: إن وجود هؤلاء يعبر عن حالات استثنائية لا يمكن اعتبارها قاعدة
في مقابل الأصل الكلي، المتمثل في الجهد والسعي ودورهما في نجاح الإنسان
وتوفيقه. وبذلك فإن هذه الاستثناءات الثانوية لا تنافي الأصل الأساسي.
وأخيرا، وقبل أن ننتقل إلى الملاحظات، ينبغي أن ننبه إلى أن السعي وبذل
الجهد لا يتعلقان بالكمية والمقدار فقط، ففي بعض الأحيان يكون السعي القليل ذو
الكيفية العالية أكثر أثرا من السعي الكثير والكيفية الدانية.
* * *
2 بحوث
3 أولا: هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟
في الواقع إننا نرى في كثير من الآيات القرآنية مدحا وتمجيدا للدنيا
وبإمكاناتها المادية، ففي بعض الآيات اعتبر المال خيرا (سورة البقرة آية 180).
وفي آيات كثيرة وصفت العطايا والمواهب المادية بأنها فضل الله وابتغوا من
فضل الله (1). وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى: خلق لكم ما في الأرض
جميعا (2). وفي آيات كثيرة أخرى وصفت نعم الدنيا بأنها مسخرة لنا سخر
لكم.

1 - الجمعة، 10.
2 - البقرة، 29.
443

وإذا أردنا أن نجمع كل الآيات التي تهتم بالإمكانات المادية وتؤكد عليها،
وتجعلها في سياق واحد، فستكون أمامنا مجموعة كبيرة منها.
ولكن، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية، فإن القرآن
الكريم استخدم تعابير أخرى تحقرها وتحط منها بقوة، إذ نقرأ في سورة النساء،
آية (94)، قوله تعالى: تبتغون عرض الحياة الدنيا وفي مكان آخر نقرأ قوله
تعالى: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (1). وفي سورة العنكبوت آية (64)،
نقرأ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب أما في الآية (37) من سورة النور،
فإنا نلتقي مع قوله تعالى: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
هذه المعاني المزدوجة إزاء النعم والمواهب المادية، يمكن ملاحظتها أيضا
في الأحاديث والروايات الإسلامية، فالدنيا في وصف لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)
هي " مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء
الله " (2).
وفي جانب آخر، نرى أن الأحاديث والروايات الإسلامية تعتبر الدنيا دار
الغفلة والغرور، وما شابه ذلك.
والسؤال هنا: هل تتعارض هذه المجاميع من الآيات والروايات فيما بينها؟
في الواقع، عندما تلام الدنيا، فإن اللوم ينصب على أولئك الناس الذين لا
هدف لهم ولاهم سواها. من هنا نقرأ في الآية (29) من سورة النجم قوله تعالى:
ولم يرد إلا الحياة الدنيا. وبعبارة أخرى، فإن الذم الذي يرد للدنيا يقصد به
الأشخاص الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. ولا يتناهون عن أي منكر وجريمة في
سبيل الوصول إلى أهدافهم المادية، وفي هذا السياق نقرأ في الآية (38) من
سورة التوبة: أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة.

1 - الحديد، 20.
2 - نهج البلاغة، باب الكلمات القصار، جملة رقم 131.
444

ثم إن الآيات التي نبحثها تشهد على ما نقول، إذ أن قوله تعالى: من كان
يريد العاجلة... هو خطاب لأولئك الذين يستهدفون هذه الحياة العادية الزائلة،
ويقفون عندها.
وعادة فإن استخدام تعابير " المزرعة " أو " المتجر " وما شاكلهما في تشبيه
الحياة الدنيا ووصفها، يعتبر دليلا حيا على هذا الموضوع.
وخلاصة القول: إنه إذا تمت الاستفادة من مواهب الدنيا وعطاياها التي تعتبر
من النعم الإلهية، ويعتبر وجودها ضروريا في نظام الخلق والوجود، وتمت
الاستفادة في سعادة الإنسان الأخروية وتكامله المعنوي، فإن ذلك يعتبر أمرا
جيدا، وتمتدح معه الدنيا. أما إذا اعتبرناها هدفا لا وسيلة، وأبعدناها عن القيم
المعنوية والإنسانية، عندها سيصاب الإنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي
والظلم.
وما أجمل وصف الإمام علي (عليه السلام) للدنيا حينما يقول: " من أبصر بها بصرته،
ومن أبصر إليها أعمته " (1). وفي أن الفرق بين الدنيا المذمومة والدنيا الممدوحة،
هو نفس الفرق الذي نستفيده، بين " إليها " و " بها "، إذ تعني الأولى أن الدنيا هدف،
بينما تعني الثاني أنها مجرد وسيلة!
3 ثانيا: دور السعي في تحقيق المكاسب:
هذه ليست المرة الأولى التي يشيد فيها القرآن بالسعي والجهد ودورهما في
تحقيق المكاسب، وبعكسه يحذر الأشخاص العاطلين والكسالى بأن السعادة
الأخروية لا يمكن ضمانها بالكلام المجرد، والتظاهر بالإيمان، بل الطريق يتمثل
بالسعي وبذل الجهود.

1 - يراجع نهج البلاغة، الخطبة رقم (82).
445

وهذه الحقيقة واضح مفادها في الكثير من الآيات القرآنية. ففي سورة
المدثر. آية (38) نقرأ كل نفس بما كسبت رهينة وآية أخرى تقول: وأن
ليس للإنسان إلا ما سعى. وفي آيات كثيرة أخرى، يأتي العمل الصالح بعد
ذكر الإيمان حتى لا يتوهم أحد ويظن بأنه يستطيع الوصول إلى مرحلة ما بدون
سعي وجهد، فمواهب الدنيا المادية لا يمكن استحصالها بدون سعي وجهد،
فكيف إذن بالسعادة الأخروية الخالدة!!؟
3 ثالثا: الإمدادات الإلهية:
" نمد " مشتقة من كلمة " إمداد " وهي تعني إيصال المعونة، يقول الراغب
الأصفهاني في كتاب " المفردات " أن: كلمة " إمداد " غالبا ما تستعمل في
المساعدات المفيدة والمؤثرة. أما كلمة " مد " فإنها تستعمل في الأشياء المكروهة
وغير المقبولة.
على أية حال، نقرأ في الآيات التي نبحثها، أن الله سبحانه وتعالى يضع
جزءا من نعمه في خدمة الجميع، إذ يستفيد منها المحسنون والمسيئون، وهذه
النعم غالبا ما تكون من النوع الذي يتوقف استمرار الحياة عليه.
بتعبير آخر: هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإلهية التي تشمل
فيوضاتها جميع الناس، المؤمن والكافر. ولكن ما وراء ذلك هناك نعم لا تحصى
تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم.
* * *
446

2 الآيات
لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا (22)
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسنا إما يبلغن
عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما
وقل لهما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة
وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا (24) ربكم أعلم بما في
نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا (25)
2 التفسير
3 أحكام إسلامية مهمة:
الآيات التي نحن بصدد بحثها هي بداية لسلسلة من الأحكام الإسلامية
الأساسية، والتي تبدأ بالدعوة إلى التوحيد والإيمان، التوحيد الذي يعتبر الأساس
والأصل لكل النشاطات الإيمانية، والأعمال الحسنة والبناءة. والآيات عندما
تنحو هذا المنحى فهي بذلك تتصل مع مضمون البحث في الآيات السابقة، التي
كانت تتحدث عن الناس السعداء الذين أقاموا حياتهم على دعائم ثلاث هي:
447

الإيمان، السعي والعمل ووضع الآخرة ومنازلها نصب أعينهم.
وتعتبر هذه الآيات - أيضا - تأكيدا ثانيا لدعوة القرآن إلى أفضل السبل
وأكثرها استقامة. في البداية تبدأ هذه الآيات بالتوحيد وتقول: لا تجعل مع الله
إلها آخر إنها لم تقل: لا تعبد مع الله إلها آخر، بل تقول: لا تجعل هذا اللفظ
أشمل وأوسع، إذ هو يعني: لا تجعل معبودا آخر مع الله لا في العقيدة، ولا في
العمل، ولا في الدعاء، ولا في العبودية. بعد ذلك توضح الآية النتيجة القاتلة
للشرك: فتقعد مذموما مخذولا.
إن استعمال كلمة " القعود " تدل على الضعف والعجز، فمثلا يقال: قعد به
الضعف عن القتال. ومن هذا التعبير يمكن أن نستفيد أن للشرك ثلاثة آثار سيئة
جدا في وجود الإنسان، هي:
1 - الشرك يؤدي إلى الضعف والعجز والذلة، في حين أن التوحيد هو أساس
الحركة والنهوض والرفعة.
2 - الشرك موجب للذم واللوم، لأنه خط انحرافي واضح في قبال منطق
العقل، ويعتبر كفرا واضحا بالنعم الإلهية، لذا فالشخص الذي يسمح لنفسه بهذا
الانحراف يستحق الذم.
3 - الشرك يكون سببا في أن يترك الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى الأشياء
التي يعبدها، ويمنع عنه حمايته، وبما أن هذه المعبودات المختلفة والمصطنعة لا
تملك حماية أي إنسان أو دفع الضرر عنه، ولأن الله لا يحمي مثل هؤلاء، لذا
فإنهم يصبحون " مخذولين " أي بدون ناصر ومعين.
إن هذا المعنى يتضح بشكل آخر في آيات قرآنية أخرى، إذ نقرأ مثلا في
الآية (41) من سورة العنكبوت: مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل
العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
بعد تبيان هذا الأصل التوحيدي، تشير الآيات إلى واحدة من أهم توجيهات
448

الأنبياء (عليهم السلام) للإنسان، فالآية - بعد أن تؤكد مرة أخرى على التوحيد - تقول:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا.
كلمة " قضاء " لهم مفهوم توكيدي أكثر من كلمة " أمر " وهي تعني القرار والأمر
المحكم الذي لا نقاش فيه. وهذا أول تأكيد في هذه القضية. أما التأكيد الثاني الذي
يدل على أهمية هذا القانون الإسلامي، فهو ربط التوحيد الذي يعتبر أهم أصل
إسلامي، مع الإحسان إلى الوالدين.
أما التأكيدان الثالث والرابع فهما يتمثلان في معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة
" إحسان " والتي تشمل كل أنواع الإحسان. وكذلك معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة
" والدين " إذ هي تشمل الأم والأب، سواء كانا مسلمين أو كافرين.
أما التأكيد الخامس فهو يتمثل بمجئ كلمة " إحسانا " نكرة لتأكيد أهميتها
وعظمتها (1).
ومن الضروري الانتباه إلى هذه الملاحظة، وهي أن الأمر عادة ما ينصب
على الأمور الإيجابية، بينما جاء هنا في مفاد السلب والنفي (وقضى... ألا
تعبدوا...) فما هو يا ترى سبب ذلك؟
من الممكن أن نقول: إن جملة وقضى... تتضمن تقديرا جملة إيجابية،
يمكن أن نقدرها بالقول: وقضى ربك أن تعبده، ولا تعبد أي شئ سواه. أو من
الممكن أن تكون جملة ألا تعبد إلا إياه التي تتضمن " النفي والإثبات "
جملة إيجابية واحدة، إذ هي تحصر العبادة بالله دون غيره ثم تنتقل إلى أحد
مصاديق هذه العبادة متمثلا بالإحسان إلى الوالدين فتقول: إما يبلغن عندك
الكبر أحدهما أو كلاهما بحيث يحتاجان إلى الرعاية والإهتمام الدائم. فلا

1 - يعتقد البعض أن كلمة " إحسان " تتعدى غالبا ب‍ " إلى " مثل قولنا " أحسن إليه ". وفي بعض الأحيان قد تتعدى بالباء. وقد
يكون هذا التعبير لإظهار المباشرة، أي إظهار المحبة والاحترام مباشرة وبدون أي واسطة. وهذا في الواقع تأكيد سادس في هذه
القضية.
449

تبخل عليها بأي شكل من إشكال المحبة واللطف ولا تؤذيهما أو تجرح
عواطفهما بأقل إهانة حتى بكلمة " اف ": فلا تقل لهما أف ولا تنهر هما (1) بل:
وقل لهما قولا كريما وكن أمامهما في غاية التواضع وأخفض لهما جناح الذل
من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.
3 الأهمية الاستثنائية لاحترام الوالدين:
إن الآيتين السابقتين توضحان جانبا من التعامل الأخلاقي الدقيق،
والاحترام الذي ينبغي أن يؤديه الأبناء للوالدين:
1 - من جانب أشارت الآية إلى فترة الشيخوخة، وحاجة الوالدين في هذه
الفترة إلى المحبة والاحترام أكثر من أي فترة سابقة، إذ الآية تقول: إما يبلغن
عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف. من الممكن أن يصل الوالدان
إلى مرحلة يكونان فيها غير قادرين على الحركة دون مساعدة الآخرين، وقد لا
يستطيعون بسبب الكهولة رفع الخبائث عنهم، وهنا يبدأ الاختبار العظيم للأبناء،
فهل يعتبرون وجود مثل هذين الوالدين دليل الرحمة، أو أنهم يحسبون ذلك
بلاءا ومصيبة وعذابا.. هل عندهم الصبر الكافي لاحترام مثل هؤلاء الآباء
والأمهات، أم أنهم يوجهون الإهانات ويسيئون الأدب لهم، ويتمنون موتهم؟!
2 - من جانب آخر.. تقول الآية: فلا تقل لهما أف بمعنى لا تظهر عدم
ارتياحك أو تنفرك منهم ولا تنهرهما ثم تؤكد مرة أخرى على ضرورة
التحدث معهم بالقول الكريم، إذ اللسان مفتاح إلى القلب وقل لهما قولا كريما.
3 - من جانب ثالث تأمر الآية بالتواضع لهم، هذا التواضع الذي يكون

1 - هناك قولان حول " إما " في جملة " إما يبلغن " فالفخر الرازي في تفسيره يذهب إلى أنها مركبة من " إن " الشرطية و " ما "
الشرطية، وهي بذلك تفيد التأكيد. أما البعض الآخر كصاحب " الميزان " مثلا، فيرى أنها مركبة من " إن " الشرطية و " ما " الزائدة،
التي جاءت هنا لتسمع ل‍ " إن " الشرطية بالدخول على الفعل المؤكد بنون التوكيد.
450

علامة المحبة، ودليل الود لهم: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة.
4 - أخيرا تنتهي الآيات، إلى توجيه الإنسان نحو الدعاء لوالديه وذكرهم
بالخير سواء كانا أمواتا أم أحياء، وطلب الرحمة الربانية لهما جزاء لما قاما به من
تربية وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.
إضافة إلى ما ذكرناه، فثمة ملاحظة لطيفة أخرى يطويها التعبير القرآني، هذه
الملاحظة خطاب للإنسان يقول: إذ أصبح والداك مسنين وضعيفين وكهلين لا
يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما، فلا تنس أنك عندما كنت صغيرا كنت
على هذه الشاكلة أيضا، ولكن والديك لم يقصرا في مداراتك والعناية بك، لذا فلا
تقصر أنت في مداراتهم ومحبتهم.
وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين
واحترامهم والتواضع لهم، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان،
وعن قصد وعلم في أحيان أخرى، لذا فإن الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى
هذا المعنى بالقول: ربكم أعلم بما في نفوسكم. وهذه إشارة إلى أن علم الله
ثابت وأزلي وأبدي وبعيد عن الاشتباهات، بينما علمكم أيها الناس لا يحمل
هذه الصفات! لذلك فإذا طغى الإنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام
الوالدين والإحسان إليهم، ولكن بدون قصد وعن جهل، ثم تاب بعد ذلك وأناب،
وندم على ما فعل وأصلح، فإنه سيكون مشمولا لعفو الله تعالى: إن تكونوا
صالحين فإنه كان للأوابين غفورا.
" أواب " مشتقة من " أوب " على وزن " قوم " وهي تعني الرجوع مع الإرادة،
في حين أن كلمة " رجع " تقال للرجوع مع الإرادة أو بدونها، لهذا السبب يقال
للتوبة " أوبة " لأن حقيقة التوبة تنطوي على الرجوع عن الأمر (المنكر)، إلى الله،
مع الإرادة.
وبما أن كلمة " أواب " هي صيغة مبالغة، لذا فإنها تقال للأشخاص الذين كلما
451

أذنبوا رجعوا إلى خالقهم. وقد تكون صيغة المبالغة في " أواب " هي إشارة إلى
تعدد عوامل العودة والرجوع إلى الله. فالإيمان بالله أولا، والتفكير بحكمة يوم
الجزاء والقيامة ثانيا، والضمير الحي ثالثا، والتفكير بعواقب ونتائج الذنوب رابعا،
كل هذه العوامل تعمل سوية لأجل عودة الإنسان من طريق الانحراف، نحو الله.
* * *
2 بحوث
3 أولا: احترام الوالدين في المنطق الإسلامي
بالرغم من أن العاطفة الإنسانية ومعرفة الحقائق، يكفيان لوحدهما لاحترام
ورعاية حقوق الوالدين، إلا أن الإسلام لا يلتزم الصمت في القضايا التي يمكن
للعقل أن يتوصل فيها بشكل مستقل، أو أن تدل عليها العاطفة الإنسانية المحضة،
لذلك تراه يعطي التعليمات اللازمة إزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما،
بحيث لا يمكن لنا أن نلمس مثل هذه التأكيدات في الإسلام إلا في قضايا نادرة
أخرى.
وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إلى هذا المعنى:
ألف: في أربع سور قرآنية ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد التوحيد مباشرة،
وهذا الاقتران يدل على مدى الأهمية يوليها الإسلام للوالدين.
ففي سورة البقرة آية (83) نقرأ: لا تعبدون إلا إياه وبالوالدين إحسانا.
وفي سورة النساء آية (36) نقرأ قوله تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به
شيئا وبالوالدين إحسانا. أما الآية (151) من سورة الأنعام فإنها تقول: ألا
تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا. وفي الآية التي نبحثها نقرأ قوله تعالى:
وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا.
ب - إن مسألة احترام الوالدين ورعاية حقهما من المنزلة بمكان، حتى أن
452

القرآن والأحاديث والروايات الإسلامية، تؤكدان معا على الإحسان للوالدين
حتى ولو كانا مشركين، إذ نقرأ في الآية (15) من سورة لقمان: وإن جاهداك
على أن تشرك بي ما ليس لك به علم، فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا.
ج - رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إلى منزلة شكر الله تعالى، إذ
تقول الآية (14) من سورة لقمان: أن أشكر لي ولوالديك.
وهذا دليل على عمق وأهمية حقوق الوالدين في منطق الإسلام وشريعته،
بالرغم من أن نعم الله التي يشكرها الإنسان لا تعد ولا تحصى.
د - القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إهانة للوالدين، ولا يجيز ذلك، ففي حديث
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " لو علم الله شيئا هو أدنى من أف لنهى عنه، وهو من
أدنى العقوق، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحد النظر إليهما " (1).
ه‍ - بالرغم من أن الجهاد يعتبر من أهم التعاليم الإسلامية، إلا أن رعاية
الوالدين تعتبر أهم منه، بل لا يجوز إذا أدى الأمر إلى أذية الوالدين، بالطبع هذا إذا
لم يكن الجهاد واجبا عينيا، وإذ توفر العدد الكافي من المتطوعين له.
في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أن رجلا جاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له،
إني أحب الجهاد، وصحتي جيدة، ولكن لي أم لا ترتاح لذلك، فماذا أفعل،
فأجابه (صلى الله عليه وآله وسلم): " إرجع فكن مع والدتك فوالذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير
من جهاد في سبيل الله سنة " (2).
ولكن عندما يجب الجهاد وجوبا عينيا، وتصبح بلاد الإسلام في خطر يلزم
الجميع بالحضور ولا تقبل جميع الأعذار حينئذ بما فيها عدم رضاء الوالدين.
وما قلناه عن الجهاد ينطبق كذلك على الواجبات الكفائية الأخرى، وكذلك
المستحبات.

1 - يلاحظ: جامع السعادات، النراقي، ج 2، ص 258.
2 - جامع السعادات، ج 2، ص 260.
453

و - عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إياك وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة توجد من
ميسرة ألف عام ولا يجدها عاق " (1).
هذا التعبير ينطوي على إشارة لطيفة، إذ أن مثل هؤلاء الأشخاص (العاقين)
ليسوا لا يدخلون الجنة وحسب، بل إنهم يبقون على مسافة بعيدة جدا منها ولا
يستطيعون الإقتراب منها.
وينقل " سيد قطب " حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء فيه: " عن بريده عن أبيه،
أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فرأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله: هل أديت
حقها؟ فأجابه (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا، ولا بزفرة واحدة ".
ويقصد بالزفرة الواحدة الوجعة الواحدة، أو الطلقة الواحدة، التي تغشى الأم
حين الولادة والوضع (2).
إذا أردنا نطلق العنان للقلم في هذا المجال، فسيطول بنا المقام ونبتعد عن
التفسير، لكن - بصراحة - يجب أن نعترف بأن كل ما يقال في هذا المجال فهو
قليل، لأن للوالدين حق العيش والحياة على الولد.
في نهاية هذه الفقرة، أشير إلى أن الوالدين - في بعض الأحيان - يقترحان
على الأبناء أشياء غير منطقية وحتى غير شرعية، طبعا في مثل هذه الحالات لا
تجب الطاعة، ولكن من الأفضل أن يتسم التعامل معهما بالهدوء والمنطق، وأن تتم
عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأحسن وجه.
أخيرا نختم الكلام بحديث عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال فيه: إن رجلا جاء النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله عن حق الأدب على ابنه، فأجابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: " لا يسميه باسمه،
ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله، ولا يستسب له " (3) (اي لا يفعل شيئا يؤدي

1 - جامع السعادات، ج 2، ص 257.
2 - في ظلال القرآن، ج 4، ص 2222، الطبعة العاشرة.
3 - نور الثقلين، ج 3، ص 149.
454

إلى أن يسب الناس والديه).
3 ثانيا: بحث حول كلمة " قضى ":
" قضى " أصلها من كلمة " قضاء " بمعنى الفصل في شئ ما، إما بالعمل وإما
بالكلام. وقال بعض: إن معناها هو وضع نهاية لشئ ما، وفي الواقع فإن المعنيين
متقاربان. وبما أن الفصل ووضع النهاية لهما معاني واسعة، لذا فإن هذه الكلمة لها
استخدامات في مفاهيم مختلفة، فالقرطبي في تفسيره مثلا ذكر لها ستة معان هي:
* " قضى " بمعنى " أمر " كما في قوله تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا
إياه.
* " قضى " بمعنى " خلق " كما في قوله آية (12) من سورة فصلت
فقضاهن سبع سماوات في يومين.
* " قضى " بمعنى " حكم " كما في الآية (72) من سورة طه فاقض ما أنت
قاض.
* " قضى " بمعنى الانتهاء من شئ، ومثله الآية (41) من سورة يوسف
قضي الأمر الذي فيه تستفتيان.
* " قضى " بمعنى " أراد " كما في سورة آل عمران آية (47): إذا قضى أمرا
فإنما يقول له كن فيكون.
* " قضى " بمعنى " عهد " كما في الآية (44) من القصص: إذ قضينا إلى
موسى الأمر (1).
وقد أضاف أبو الفتوح الرازي إلى هذه المعاني قوله:
* " قضى " بمعنى " الإخبار والإعلام " مثل قوله تعالى: وقضينا إلى بني

1 - تفسير القرطبي، ج 6، ص 3853.
455

إسرائيل في الكتاب (1).
ونستطيع أن نضيف إلى هذا المعنى، معنى آخر تكون فيه " قضى " بمعنى
" الموت " كما في آية (15) من سورة القصص فوكزه موسى فقضى عليه.
المهم هنا، أن بعض المفسرين وضع أكثر من (13) معنى لكلمة في القرآن
الكريم (2).
ولكن لا يمكن اعتبار كل هذه معاني متعددة لكلمة " قضى " لأنها تنتهي إلى
مفهوم واحد. لذلك فإن أغلب المعاني المذكورة أعلاه هي من باب اختلاط
المصداق بالمفهوم. لأن كل واحدة منها، ما هي في واقعها إلا مصداقا للمفهوم
الكلي والجامع المتمثل في " الفصل ووضع النهاية " فالقاضي بحكمه يضع نهاية
للدعوى، والخالق يضع نهاية لما خلق، والمخبر بأخباره يضع نهاية لما يريد أن
يوضحه. ولكن لا يمكن الإنكار أن بعض هذه المصاديق، ومن كثرة الاستخدام قد
وضعت معان جديدة لكلمة " قضاء " مثل الحكم أو إعطاء الأوامر.
3 ثالثا: بحث حول معنى كلمة " أف ":
أصل " أف " كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر وما يجري مجراهما، ويقال
ذلك لكل مستخف به استقذارا له. ويمكن أن نشتق منه فعلا، كمثل قولنا: قد أففت
لكذا، إذا قلت ذلك استقذارا له. (مفردات الراغب صفحة 19).
بعض المفسرين مثل " القرطبي " في الجامع، و " الطبرسي " في " مجمع البيان "
قالوا: " أف " و " تف " في الأصل بمعنى وسخ الظفر حيث أنه ملوث وتافه أيضا،
وينقل الرازي عن الأصمعي أن " الأف " وسخ الأذن، و " التف " وسخ الظفر، حتى
توسع المعنى ليشمل كل ما يتأذى منه، وتذكر اللفظة أيضا عند كل مكروه يصل

1 - تفسيره أبو الفتوح الرازي، ج 7، ص 188.
2 - وجوه القرآن للتفليسي، ص 235.
456

إليهم (1).
وهناك معان أخرى لكلمة " أف " منها أنها تعني الشئ القليل، أو الأذى من
الرائحة الكريهة.
البعض الآخر قال: إن أصل هذه الكلمة مأخوذ من " الصوت " الذي يخرج
من الفم عندما ينفخ الإنسان لتنظيف بدنه أو ملابسه من الغبار الموجود عليها،
وهذا الصوت يشبه كلمة " أوف " أو " أف " وقد أستفيد منها فيما بعد للتعبير عن
التنفر وعدم الراحة من الأشياء الصغيرة بالخصوص.
وخلاصة الذي ذكرناه أعلاه، وبالإضافة إلى قرائن أخرى يمكن القول بأن
هذه الكلمة هي في الأصل " اسم صوت " والمقصود بالصوت هنا ما يصدره
الإنسان من فمه عندما يتذمر أو ينفخ لإزالة شئ ما. ثم بعد ذلك تحول " اسم
الصوت " إلى كلمة يمكن اشتقاق الأفعال منها، وبذلك تكون المعاني التي ذكرناها
مصاديق لهذا المفهوم العام والشامل.
ومنتهى الكلام هنا، أن الآية تريد أن تقول بعبارة قصيرة وفصيحة وبليغة. إن
احترام الوالدين ورعاية حقوقهما مهمان للغاية، بحيث لا يجوز تجاوز الحدود
أمامهما أو إيذاؤهما حتى بمستوى ما تحمله كلمة " أف " من معنى.
* * *

1 - التفسير الكبير، الفخر الرازي، ج 2، ص 188.
457

2 الآيات
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر
تبذيرا (26) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان
الشيطان لربه كفورا (27) وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من
ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا (28) ولا تجعل يدك
مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما
محسورا (29) إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان
بعباده خبيرا بصيرا (30)
2 التفسير
3 رعاية الاعتدال في الإنفاق والهبات:
مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر من سلسلة الأحكام الإسلامية
الأساسية، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين، والإنفاق بشكل عام
ينبغي أن يكون بعيدا عن كل نوع من أنواع الإسراف والتبذير، حيث تقول الآية
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا.
458

" تبذير " من " بذر " وهي تعني بذر البذور، إلا أنها هنا تخص الحالات التي
يصرف فيها الإنسان أمواله بشكل غير منطقي وفاسد. بتعبير آخر: إن التبذير هو
هدر المال في غير موقعه ولو كان قليلا، بينما إذا صرف في محله فلا يعتبر تبذيرا
ولو كان كثيرا. ففي تفسير العياشي، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، نقرأ قوله: " من أنفق
شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر ومن أنفق في سبيل الله فهو مقتصد " (1).
وينقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضا أنه دعا برطب (لضيوفه) فاقبل بعضهم
يرمي بالنوى، فقال: " لا تفعل إن هذا من التبذير، وإن الله لا يحب الفساد " (2).
وفي مكان آخر نقرأ، أن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: ما
هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " نعم وإن كنت على نهر
جار " (3).
وبالنسبة لذوي القربى هناك كلام كثير بين المفسرين، هل هم عموم القربى؟
أو المقصود بهم قربى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره هو المخاطب بالآية؟
في الأحاديث الكثيرة التي سنقرؤها وفي الملاحظات التي سنقف عندها
سنعرف بأن ذوي القربى هم قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعض الروايات تشير إلى أن
الآية تتحدث عن قصة فدك التي أعطاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنته فاطمة الزهراء (عليها السلام).
ولكن مخاطبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمة " وآت " لا تعتبر دليلا على اختصاص هذا
الحكم به، لأن جميع الأحكام الواردة في هذه المجموعة من الآيات كالنهي عن
الإسراف ومداراة السائل والمسكين، والنهي عن البخل، هي أحكام عامة بالرغم
من أنها تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهناك نقطة ينبغي الالتفات إليها، وهي مجئ النهي عن التبذير والإسراف،

1 - يراجع تفسير الصافي عند بحث هذه الآية.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
459

بعد إعطاء الأمر بأداء حق الأقرباء والمساكين حتى لا يقع الإنسان تحت تأثير
عاطفة القرابة أو الصداقة فيعطي لهذا المسكين أو ابن السبيل أو القريب أكثر
مما يستحق أو يتحمل، فيعتبر ذلك إسرافا وتبذيرا، وهما مذمومان دائما.
الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير إن المبذرين كانوا اخوان
الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا.
أما كيف كفر الشيطان بنعم ربه، فهذا واضح، لأن الله أعطاه قدرة وقوة
واستعدادا وذكاءا خارقا للعادة، ولكن الشيطان استفاد من هذه الأمور في غير
محلها، أي في طريق إغواء الناس وإبعادهم عن الصراط المستقيم.
أما كون المبذرين إخوان الشياطين، فذلك لأنهم كفروا بنعم الله، إذ وضعوها
في غير مواضعها. ثم إن استخدام " إخوان " تعني أن أعمالهم متطابقة ومتناسقة مع
أعمال الشيطان، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما متشابهة، أو أنهم قرناء
وجلساء للشيطان في الجحيم، كما توضح ذلك الآية (39) من سورة الزخرف بعد
أن تشرك الشيطان والمذنب في العذاب: ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في
العذاب مشتركون.
أما لماذا جاءت كلمة شيطان هنا بصيغة الجمع " شياطين "؟ قد يعود ذلك إلى
أن لكل إنسان غافل عن خالقه وربه، شيطان قرين له، كما نرى هذا المعنى
واضحا في الآية (36) و (38) من الزخرف: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض
له شيطانا فهو له قرين.. حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين
فبئس القرين.
ثم أن الإنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحيانا، وفي هذه الحالة ترسم
الآية الكريمة طريقة التصرف بالنحو الآتي: إما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من
ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا.
" ميسور " مشتقة من " يسر " وهي بمعنى الراحة والسهولة، أما هنا فلها مفهوم
460

واسع، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالاحترام والمحبة، وإذا فسرها
البعض بمعنى الوعد للمستقبل فإن ذلك أحد مصاديقها.
نقرأ في الروايات، أنه بعد نزول هذه الآية، كان إذا جاء شخص محتاج إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والرسول لا يملك شيئا لإعطائه، قال له (صلى الله عليه وآله وسلم): " يرزقنا الله
وإياكم من فضله " (1).
وقديما عندما كان السائل يطرق الباب، ويطلب منا شيئا لا نستطيع إعطاءه
إياه، نقول له " العفو " وذلك تأكيدا على أن لهذا السائل حق علينا يطالبنا به، وإذا
كنا لا نملك قضاء حاجته وإعطاءه حقه، فإننا نطلب منه العفو.
الاعتدال هو شرط في كل الأمور بما فيها الإنفاق ومساعدة الآخرين، لذلك
تنتقل الآية للقول: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك. وهذا تعبير جميل يفيد
أن الإنسان ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة، لا أن يكون مثل البخلاء وكأن أيديهم
مغلولة إلى أعناقهم بخلا وخشية من الإنفاق. ولكن في نفس الوقت تقرر الآية أن
بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء،
حتى لا ينتهي المصير إلى الملامة والابتعاد عن الناس: ولا تبسطها كل البسط
فتقعد ملوما محسورا.
و " تقعد " مشتقة من " قعود " وهي كناية عن التوقف عن العمل. أما تعبير
" ملوم " فهو يشير إلى أن عاقبة الإسراف لا تؤدي إلى توقف الإنسان عن عمله
ونشاطه وحسب، وإنما تؤدي إلى إيقاع لوم الناس عليه.
" محسور " مشتقة من كلمة " حسر " وهي في الأصل تعني خلع الملابس رفع
الثوب وإظهار بعض البدن من تحته، لذا يقال للمقابل الذي لم يلبس الخوذة
والدرع، بأنه " حاسر ". وأيضا يقال للحيوان الذي يتعب من كثرة المشي بأنه

1 - يراجع تفسير مجمع البيان، عند تفسير الآية.
461

" حسير " أو " حاسر " بسبب استنفاذ طاقته وقدرته.
وقد توسع هذا المفهوم فيما بعد بحيث أصبح يطلق على كل إنسان عاجز عن
الوصول إلى هدفه بأنه " حسير " أو " محسور " أو " حاسر ".
أما كلمة " الحسرة " والتي تعني الغم والحزن، فهي مشتقة من هذه الكلمة،
وتطلق على الإنسان الفاقد لقابلية حل المشاكل بسبب الضعف.
وكذلك بالنسبة للإنفاق، فهو إذا تجاوز الحد المقرر بحيث يستنفذ طاقة
الإنسان، فإنه يؤدي إلى أن يصاب صاحبه بالغم والحزن بسبب الضعف عن أداء
واجباته ومسؤولياته، وينقطع اتصاله وارتباطه بالناس.
وبعض الروايات التي تتحدث عن سبب نزول الآية تؤكد هذا المعنى، إذ أنها
تتحدث أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يوما في بيته فجاءه سائل يسأله إعطاءه ملابس،
ولما لم يكن مع الرسول ما يعطي السائل، فقد خلع لباسه وأعطاه إياه، الأمر الذي
أدى إلى بقاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في البيت وعدم خروجه في ذلك الوقت للصلاة.
وقد كان هذا الحادث سببا لتقولات الكفار المنافقين، الذين قالوا: إن الرسول
نائم، أو إنه في لهو أنساه صلاته. وبذلك أدى هذا العمل إلى إيقاع اللوم شماتة
الأعداء والانقطاع عن الأصحاب، وأصبح بذلك مصداقا للملوم والمحسور،
عندها نزلت الآية أعلاه تنهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تكرار هذا العمل.
أما عن التضاد القائم بين هذا الأمر ومسألة " الإيثار " فسنبحثه في
الملاحظات القادمة إن شاء الله.
بعض الروايات تتحدث عن أن سبب نزول الآية، هو أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان
يعطي ما يوجد في بيت المال إلى المحتاج بحيث إذا جاءه محتاج آخر، فلن يجد
شيئا يعطيه له، فيلوم ذلك المحتاج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويؤذيه، لذلك صدرت التعليمات
بأن لا ينفق كل ما في بيت المال لمواجهة هذه المشكلات.
سؤال: لماذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق
462

عليهم؟ أليس من الأفضل أن يعطيهم الله ما يريدون حتى لا يحتاجون إلى إنفاقنا؟
الجواب: تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال: إن ربك
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا. إنه اختبار لنا، فالله
قادر على كل شئ، ولكنه يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية
والعطاء. إضافة إلى ذلك، إذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة
فإن ذلك يقود إلى الطغيان والتمرد إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، لذلك
من المفيد أن يبقوا في حد معين من الحاجة. هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان.
من ناحية أخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإنسان بمقدار السعي وبذل
الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين)، وهكذا تقتضي
المشيئة الإلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاء، وهذا دليل الحكمة، إذ تقضي
الحكمة بزيادة رزق من يسعى ويبذل الجهد، بينما تقضي بتضييقه لمن هو أقل
جهدا وسعيا.
العلامة الطباطبائي ينظر للعلاقة بين هذه الآية والتي قبلها في ضوء احتمال
آخر فيقول في تفسير الميزان: " إن هذا دأب ربك وسنته الجارية، يبسط الرزق
لمن يشاء ويقدر لمن يشاء، فلا يبسطه كل البسط، ولا يمسك عنه كل الإمساك
رعاية لمصلحة العباد، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا أو ينبغي لك أن تتخلق بخلق الله
وتتخذ طريق الاعتدال وتتجنب الإفراط والتفريط " (1).
* * *
2 بحوث
3 أولا: من هم المقصودون بذي القربى؟

1 - تفسير الميزان، ج 13، ص 84.
463

كلمة ذي القربى تعني الأرحام والمقربين، وهناك كلام بين المفسرين،
حول المقصود بها، إذ هل هو المعنى العام أو الخاص؟ ويمكن أن نلاحظ هنا
بعض هذه الآراء:
* البعض يعتقد أن المخاطب بالآية جميع المؤمنين والمسلمين، والغرض هو
الحث على أداء حقوق الأقرباء.
* البعض الآخر يرى أن المخاطب في الآية هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والغرض هو
إيصال حقوق أقرباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كخمس الغنائم، أو غيرها مما يتعلق بها الخمس.
أو بصورة عامة تأدية كل الحقوق التي لهم في بيت المال.
لذلك نرى في روايات عديدة عند الشيعة والسنة إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إلى
فاطمة (عليها السلام) بعد نزول هذه الآية، ووهبها فدكا (1).
ففي مصادر السنة مثلا نقرأ عن أبي سعيد الخدري ا لصحابي المعروف: " لما
نزل قوله تعالى: وآت ذا القربى حقه أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة فدكا " (2).
ويستفاد من بعض الروايات، أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أثناء سيره إلى
الشام بعد واقعة كربلاء، استدل بهذه الآية وآت ذا القربى حقه في التعريف
بنفسه وأهل بيته وعيال أبيه الحسين (عليه السلام)، بأنهم المعنيين بقوله تعالى، فيما كان
أهل الشام يغمطونهم هذا الحق! (3).
ولكن - كما أشرنا سابقا - ليس هناك تعارض بين هذين التفسيرين، فالكل

1 - فدك أرض معمورة وخصبة، كانت بالقرب من خبير وعلى بعد (140) كم عن المدينة المنورة، وفدك بعد خبير كانت
مركزا لاستقرار يهود الحجاز [يراجع كتاب: مراصد الاطلاع. موضوع فدك]. وبعد أن استسلم اليهود للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدون
حرب، أعطى الرسول هذه الأرض إلى فاطمة الزهراء (عليها السلام) وذلك وفقا للوقائع التأريخية الثابتة لدى الجميع، لكنها صودرت بعد
وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأسباب سياسية وبقيت في أيدي الخلفاء إلى أن أعادها عمر بن عبد العزيز أيام خلافته إلى العلويين.
2 - نقل هذا الحديث " البذار " و " أبو يعلى " و " ابن أبي حاتم " و " ابن مردويه " عن " أبي سعيد " [لاحظ كتاب ميزان الاعتدال
المجلد الثاني صفحة (288) وكنز العمال المجلد الثاني صفحة (158)] وقد ورد هذا الحديث أيضا في تفسير مجمع البيان
للشيخ الطبرسي عند حديثه عن هذه الآية، وفي الدر المنثور أيضا وقد أخرجه عن طريق السنة والشيعة معا.
3 - راجع تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 255.
464

مكلفون بإيتاء حقوق ذوي القربى، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي اعتبر قائدا للأمة
الإسلامية مكلف أيضا بالعمل بهذه المسؤولية الكبيرة، فأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم
في الواقع من أوضح مصاديق القربى له (صلى الله عليه وآله وسلم). والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في طليعة المخاطبين
بالآية الكريمة. لهذا السبب وهب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حقوق ذوي القربى لهم، فأعطى
فاطمة فدكا، وأجرى عليهم الأخماس وغير ذلك، حيث كانت الزكاة أموالا عامة
محرمة على أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقرباه.
3 ثانيا: مصائب الإسراف والتبذير:
لا ريب في أن النعم الموجودة على الكرة الأرضية كافية لساكنيها، بشرط
واحد، هو أن لا يبذروا هذه النعم بلا سبب، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا
إفراط أو تفريط، والا فإن هذه النعم ليست غير متناهية حتى لو أسئ استثمارها
والتصرف بها. وقد يؤدي الإسراف والتبذير في منطقة معينة إلى الفقر في منطقة
أخرى، أو إن إسراف وتبذير الناس في هذا الزمان يسبب فقر الأجيال القادمة.
وفي ذلك اليوم الذي لم تكن فيه الأرقام والإحصاءات في متناول الإنسان،
حذر الإسلام من مغبة الإسراف والتبذير في نعم الله على الأرض. لذلك فالقرآن
أدان في أماكن كثيرة وبشدة المسرفين والمبذرين.
ففي الآيتين (141) من الأنعام و (31) من الأعراف نقرأ قوله تعالى: ولا
تسرفوا إنه لا يحب المسرفين.
أما في غافر (43) فنقرأ: وإن المسرفين هم أصحاب النار.
والآية (51) من الشعراء تنهى عن طاعة المسرفين: ولا تطيعوا أمر
المسرفين.
أما الآية (83) من يونس فتجعل الإسراف صفة فرعونية: وإن فرعون
لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين.
465

والهداية ممنوعة عن المسرفين كما هو مفاد الآية (28) من سورة غافر:
إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب.
وأخيرا تتحدث الآية (9) من سورة الأنبياء عن مصيرهم: وأهلكنا
المسرفين.
وقد رأينا في الآية التي نبحثها أن الله تعالى جعل المسرفين إخوان
الشياطين. والإسراف بمعناه الواسع هو الخروج وتجاوز الحد في أي عمل يقوم به
الإنسان، ولكنها عادة تستخدم في المصروفات.
ومن آيات القرآن نفسها نستفيد أن الإسراف هو في مقابل التقتير، بينما
هناك طريق ثالث هو منزلة بين الأمرين، كما في الآية (67) من سورة الفرقان:
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما.
3 ثالثا: الفرق بين الإسراف والتبذير:
في الواقع لا يوجد هناك بحث واضح عند المفسرين في التفاوت الموجود
بين الإسراف والتبذير، ولكن عند التأمل بأصل هذه الكلمات في اللغة، يتبين أن
الإسراف هو الخروج عن حد الاعتدال، ولكن دون أن نخسر شيئا، فمثلا نلبس
ثيابا ثمينا بحيث أن ثمنه يعادل أضعاف سعر الملبس الذي نحتاجه، أو أننا نأكل
طعاما غاليا بحيث يمكننا إطعام عدد كبير من الفقراء بثمنه. كل هذه أمثلة على
الإسراف، وهي تمثل خروجنا عن حد الاعتدال، ولكن من دون أن نخسر شيئا.
أما كلمة " تبذير " فهي تعني الصرف الكثير، بحيث يؤدي إلى إتلاف الشئ
وتضييعه، فمثلا نهئ طعام عشرة أشخاص لشخصين، كما يفعل ذلك بعض
الجهلاء ويعتبرون ذلك فخرا، حيث يرمون الزائد في المزابل.
ولكن بالرغم من هذا التمييز، لا بد من القول بأن كثيرا ما تستخدم هاتين
الكلمتين للتدليل على معنى واحد، وقد تتابعان في الجملة الواحدة لغرض التأكيد.
466

فالإمام علي في نهج البلاغة يقول: " ألا إن إعطاء المال في غير حقه تبذير
وإسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس
ويهينه عند الله ".
وفي الآيات التي بحثناها رأينا أن الإسلام يحث كثيرا على عدم الإسراف
والتبذير إلى درجة أنه نهى عن الإسراف في ماء الوضوء حتى إذا كان ذلك قرب
نهر جار، وحتى في نوى التمر. وعالم اليوم الذي بدأ يتحسس الضائقة في بعض
الموارد. أخذ يهتم بهذه الفكرة، حتى بات يستفيد من كل شئ، فهو مثلا يستفيد
من فضولات المنازل في صنع السماد، ومن ماء المجاري لسقي المزروعات، لأنه
أحس أن المصادر الطبيعية محدودة، لذا لا يمكن التفريط بها بسهولة، وإنما ينبغي
الاستفادة منها ضمن ما يعرف ب‍ " دورة المصادر الطبيعية ".
3 رابعا: هل ثمة تعارض بين الاعتدال في الإنفاق والإيثار؟
مع الأخذ - بنظر الاعتبار - الآيات أعلاه والتي تؤكد ضرورة الاعتدال في
الإنفاق، يثار سؤال مؤداه، إن في سورة الدهر مثلا، وآيات أخرى، وفي مجموعة
من الأحاديث والروايات، ثمة إشادة بالمؤثرين الذين يؤثرون غيرهم على
أنفسهم في أحلك الساعات وأشد الظروف ويعطون ما يملكون للآخرين، فكيف
يا ترى نوفق بين هذين المفهومين؟
إن الدقة في سبب نزول هذه الآيات مع قرائن أخرى تفيدنا في الوقوف على
جواب هذا السؤال، إذ يكون الأمر بمراعاة الاعتدال في المجالات التي يكون
فيها العطاء والهبات الكثيرة سببا لاضطراب الإنسان في حياته أو بمصطلح
القرآن يصبح فيها ملوما محسورا وكذلك إذا كان الإيثار سببا في التضييق
على أبنائه أو أنه يهدد تركيبة عائلته. وإذا لم يقع أي من هذين المحذورين، فإن
الإيثار يعتبر أفضل السبل، نضيف إلى ذلك أن الاعتدال في الإنفاق يعتبر حكما
عاما، بينما الإيثار يعتبر حكما خاصا يرتبط بمصاديق خاصة، وليس ثمة تضاد
467

بين الاثنين.
* * *
468

2 الآيات
ولا تقتلوا أولدكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن
قتلهم كان خطأ كبيرا (31) ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة
وساء سبيلا (32) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطنا فلا يسرف في
القتل إنه كان منصورا (33) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي
أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان
مسؤولا (34) وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم
ذلك خير وأحسن تأويلا (35)
2 التفسير
3 ستة أحكام مهمة:
في متابعة للأحكام الإسلامية التي أثارتها الآيات السابقة، تتحدث هذه
الآيات عن ستة أحكام إسلامية أخرى وردت في ست آيات، بعبارات قصيرة
ومعان كبيرة، تأخذ بلباب القلوب.
469

أولا: تشير الآية إلى عمل قبيح وجاهلي هو من أعظم الذنوب، فتنهى عنه:
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق فرزق هؤلاء ليس عليكم نحن نرزقكم
وإياهم أما علة الحكم فهي: إن قتلهم كان خطأ كبيرا.
هذه الآية تفيد أن الوضع الاقتصادي للعرب في الجاهلية كان صعبا وسيئا.
بحيث أنهم كانوا يقتلون أبناءهم في بعض الأحيان خوف العيلة والفقر.
وهناك كلام بين المفسرين فيما إذا كان العرب في الجاهلية يدفنون البنات أحياء
وحسب، أو أنهم كانوا يقتلون الأبناء أيضا خوفا من الفقر!
البعض يعتقد أن الآيات تتحدث عن دفن البنت وهي حية، هذا العمل الذي
كان شائعا في الجاهلية لسببين:
الأول: يتمثل في الخوف من وقوعهن في الأسر أثناء الحروب، الأمر الذي
يجعل الأعراض والنواميس تحت رحمة العدو.
أما الثاني: فيعود إلى خوفهم من الفقر وعدم تمكنهم من توفير المؤونة للبنات
اللاتي لا يقمن بعمل إنتاجي، ويقتصر دورهن على الاستهلاك فقط. صحيح أن
الولد في مطلع حياته لا ينتج، لكنه في عرف عرب الجاهلية يعتبر رأسمالا ثمينا،
لا يمكن التفريط به.
البعض الآخر من المفسرين يعتقد أن هناك نوعين من القتل، النوع الأول
يشمل البنات، لحفظ الناموس حسب اعتقادهم الخاطئ. أما النوع الثاني فسببه
الفقر. وهو يشمل البنات والبنين معا.
ظاهر الآية يدل على هذا المعنى، لوجود ضمير الجمع المذكر في الآية في
" قتلهم " وهذا الضمير يطلق في اللغة العربية على الولد والبنت معا، وبالتالي فإنه
يستبعد اختصاصه بالبنات وحدهن.
أما ما يقال من أن الولد قادر على الإنتاج، ويعتبر وجوده رأسمالا للمستقبل،
فهذا صحيح في حال وجود القدرة المالية، أما في حالة عدم القدرة على تأمين
470

حياة هؤلاء الأولاد فالرأي الثاني هو الأصح لهذا الدليل.
المهم أن هذا التصرف الجاهلي يرتبط بعقيدة وهمية تقول: إن الأب والأم
هما الرازقان، بينما الله سبحانه وتعالى يقول: اطردوا هذا التفكير الشيطاني من
أذهانكم وابذلوا سعيكم ووسعكم والله يؤمن رزقكم ورزقهم.
وفي الوقت الذي نستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع
البشري، فإن عصرنا الحاضر - وفي أكثر مجتمعاته رقيا وتقدما - يعيد تكرار هذه
الجريمة ولكن بأسلوب آخر، إذ أن العمليات الواسعة في إسقاط الجنين وقتله
خوفا من الضائقة المالية وازدياد عدد السكان، هي نموذج آخر للقتل، (للمزيد
راجع تفسير الآية (151) من سورة الإنعام).
إن تعبير " خشية إملاق " إشارة لطيفة إلى الدافع الوهمي الشيطاني ورفضه،
حيث يفيد التعبير أن الوهم ومجرد الخوف هو الذي يتحكم بهذا السلوك المحرم.
لا الدوافع الحقيقية.
كما يجب الانتباه إلى أن " كان " في كان خطأ كبيرا هي فعل ماض، يفيد
هنا التأكيد على أن قتل الأبناء يعتبر من الذنوب العظيمة التي كانت معروفة، منذ
القدم بين البشر، وأن الفطرة الإنسانية السليمة تحمل دوافع الرفض والادانة لمثل
هذا السلوك الذي لا يختص بزمان معين دون غيره.
ثانيا: الآية التي بعدها تشير إلى ذنب عظيم آخر هو الزنا ولا تقربوا الزنا
إنه كان فاحشة وساء سبيلا وفي هذا التعبير القرآني تمت الإشارة إلى ثلاث
نقاط:
ألف - لم تقل الآية: لا تزنوا، بل قالت: لا تقربوا هذا العمل الشائن، وهذا
الأسلوب في النهي فضلا عما يحمله من تأكيد، فإنه يوضح أن هناك مقدمات تجر
إلى الزنا ينبغي تجنبها وعدم مقاربتها، فخيانة العين تعتبر واحدة من المقدمات،
والسفور والتعري مقدمة أخرى، الكتب السيئة والأفلام الملوثة والمجلات
471

الفاسدة ومراكز الفساد كل واحدة منها تعتبر مقدمة لهذا العمل.
كذلك فإن الخلوة بالأجنبية (يعني خلوة المرأة والرجل الأجنبي عليها في
مكان واحد ولوحدهما) يعتبر عاملا في إثارة الشهوة.
وأخيرا فإن امتناع الشباب عن الزواج خاصة مع ملاحظة الصعوبات
الموضوعة أمام الطرفين، هي من العوامل التي قد تؤدي إلى الزنا. والآية نهت عن
كل ذلك بشكل بليغ مختصر، ولكنا نرى في الأحاديث والروايات نهيا مفصلا عن
كل واحدة من هذه المقدمات.
ب - إن جملة إنه كان فاحشة بتأكيداتها الثلاثة المستفادة من " إن "
والفعل الماضي " كان " وكلمة " فاحشة " تكشف عن فظاعة هذا الذنب.
ج - إن جملة ساء سبيلا توضح حقيقة أن هذا العمل " الزنا " يؤدي إلى
مفاسد أخرى في المجتمع.
3 فلسفة تحريم الزنا:
يمكن الإشارة إلى خمسة عوامل في فلسفة تحريم الزنا، وهي:
1 - شياع حالة الفوضى في النظام العائلي، وانقطاع العلاقة بين الأبناء
والآباء، هذه الرابطة التي تختص بكونها سببا للتعارف الاجتماعي، بل إنها تكون
سببا لصيانة الأبناء، ووضع أسس المحبة الدائمة في مراحل العمر المختلفة، والتي
هي ضمانة الحفاظ على الأبناء.
إن العلاقات الاجتماعية القائمة في أساس العلاقات العائلية ستتعرض
للانهيار والتصدع إذا شاع وجود الأبناء غير الشرعيين " أبناء الزنا "، وللمرء أن
يتصور مصير الأبناء فيما إذا كانوا ثمرة للزنا، ومقدار العناء الذي يتحملونه في
حياتهم من لحظة الولادة وحتى الكبر.
وعلاوة على ذلك، فإنهم سيحرمون من الحب الأسري الذي يعتبر عاملا في
472

الحد الجريمة من في المجتمع الإسلامي، وحينئذ يتحول المجمتع الإنساني بالزنا
إلى مجتمع حيواني تغزوه الجريمة والقساوة من كل جانب.
2 - إن إشاعة الزنا في جماعة ما، ستقود إلى سلسلة واسعة من الانحرافات
أساسها التصرفات الفردية والاجتماعية المنحرفة لذوي الشهوات الجامحة. وما
ذكر في هذا الصدد من القصص عن الجرائم والانحرافات المنبعثة عن مراكز
الفحشاء والزنا في المجتمعات يوضح هذه الحقيقة، وهي أن الانحرافات الجنسية
تقترن عادة بأبشع ألوان الجرائم والجنايات.
3 - لقد أثبت العلم ودلت التجارب على أن إشاعة الزنا سبب لكثير من
الأمراض والمآسي الصحية وكل المعطيات تشير إلى فشل مكافحة هذه الأمراض
من دون مكافحة الزنا أصلا. (يمكن أن تلاحظ موجات مرض الإيدز في
المجتمعات المعاصرة، ونتائجها الصحية والنفسية المدمرة).
4 - إن شياع الزنا غالبا ما يؤدي إلى محاولة إسقاط الجنين وقطع النسل، لأن
مثل هؤلاء النساء " الزانيات " لا يرضين بتربية الأطفال، وعادة ما يكون الطفل
عائقا كبيرا أمام الانطلاق في ممارسة هذه الأعمال المنحرفة، لذلك فهن يحاولن
إسقاط الجنين وقطع النسل.
أما النظرية التي تقول، بأن الدولة يمكنها - من خلال مؤسسات خاصة - جمع
الأولاد غير الشرعيين وتربيتهم والعناية بهم، فإن التجارب أثبتت فشل هذه
المؤسسات في تأدية أهدافها، إذ هناك صعوبات التربية، وهناك النظرة
الاجتماعية لهؤلاء، ثم هناك ضغوطات العزلة والوحدة وفقدان محبة الوالدين
وعطفهما، كل هذه العوامل تؤدي إلى تحويل هذه الطبقة من الأولاد إلى قساة
وجناة وفاقدي الشخصية.
5 - يجب أن لا ننسى أن هدف الزواج ليس إشباع الغريزة الجنسية وحسب،
بل المشاركة في تأسيس الحياة على أساس تحقيق الاستقرار الفكري والأنس
473

الروحي للزوجين. وأما تربية الأبناء والتعامل مع قضايا الحياة، فهي آثار طبيعية
للزواج، وكل هذه الأمور لا يمكن لها أن تثمر من دون أن تختص المرأة بالرجل
وقطع دابر الزنا وأشكال المشاعية الجنسية.
في حديث عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول: " في الزنا ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما اللاتي في
الدنيا، فيذهب بنور الوجه، ويقطع الرزق، ويسرع الفناء. وأما اللواتي في الآخرة،
فغضب الرب، وسوء الحساب، والدخول في النار، أو الخلود في النار " (1).
ثالثا: الحكم الآخر الذي تشير إليه الآية التي بعدها، هو احترام دماء البشر،
وتحريم قتل النفس حيث تقول: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.
إن احترام دماء البشر وحرمة قتل النفس تعتبر من المسائل المتفق عليها في
كل الشرائع السماوية وقوانين البشر، فقتل النفس المحترمة لدى الجميع من
الذنوب الكبيرة، إلا أن الإسلام أعطى أهمية استثنائية لهذه المسألة بحيث اعتبر
من يقتل إنسانا فكأنما قتل الناس جميعا، كما في الآية (32) من سورة المائدة
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا. بل
نستفيد من بعض الآيات القرآنية أن جزاء قتل النفس بغير حق هو الخلود في
النار، وأن هؤلاء الذين يتورطون في دم الأبرياء يخرجون عن ربقة الإيمان، ولا
يمكن أن يخرجوا من هذه الدنيا مؤمنين: ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه
جهنم خالدا فيها (2). وحتى في الإسلام فإن الذين يشهرون السلاح بوجه الناس
ينطبق عليهم عنوان " محارب " وهذا الصنف له عقوبات شديدة مفصلة في
المصنفات الفقهية، وقد أشرنا إلى بعضها أثناء الحديث عن الآية (33) من سورة
المائدة.

1 - تفسير مجمع البيان، ج 6، ص 414.
2 - النساء، 93.
474

إن الإسلام يحاسب على أقل أذى ممكن أن يلحقه الإنسان بالآخرين،
فكيف بقضية القتل وإراقة الدماء؟! وهنا نستطيع أن نقول - باطمئنان -: إننا لا نرى
أي شريعة غير الإسلام أعطت هذه الحرمة الاستثنائية لدم الإنسان، بالطبع هناك
حالات ينتفي معها احترام دم الإنسان، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إنزال
العقوبة به، لذلك فإن الآية بعد أن تثبت حرمة الدم كأصل، تشير للاستثناء بالقول:
إلا بالحق.
وفي حديث معروف عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني
المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة " (1).
أما القاتل فتكون نهايته معلومة بالقصاص، الذي يؤمن استمرار الحياة
واستقرارها، وإذا لم يعط الحق لأولياء دم المقتول بالقصاص من القاتل، فإن القتلة
سيتجرأون على المزيد من القتل والإخلال بالأمن الاجتماعي.
أما الزاني المحصن، فإن قتله في قبال واحد من أعظم الذنوب قباحة، وهو
يساوى سفك الدم الحرام في المرتبة.
أما قتل المرتد فيمنع الفوضى والإخلال في المجتمع الإسلامي، وهذا الحكم
- كما أشرنا سابقا - هو حكم سياسي، لأجل حفظ النظام الاجتماعي في قبال
الأخطار التي تهدد كيان النظام الإسلامي ووحدة أمنه الاجتماعي، والإسلام -
عادة - لا يفرض على أحد قبول الانتماء إليه، ولكن إذا اقتنع أحد بالإسلام
واعتنقه، وأصبح جزاءا من المجتمع الإسلامي، واطلع على أسرار المسلمين، ثم
أراد بعد ذلك الإرتداد عن الإسلام مما يؤدي عملا إلى تضعيف وضرب قواعد
المجتمع الإسلامي، فإن حكمه سيكون القتل (2) بالشرائط المذكورة في الكتب

1 - صحيح البخاري ومسلم نقلا عن تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 323.
2 - هناك بحث مفصل في نهاية الآية (106) من سورة النحل، من التفسير الأمثل حول الإرتداد، وفلسفة العقوبات الشديدة
للمرتد.
475

الفقهية.
إن حرمة دم الإنسان في الإسلام لا تختص بالمسلمين وحسب، بل تشمل
غير المسلمين أيضا من غير المحاربين، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة
مسالمة، فإن دماءهم - أيضا - وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز
عليها.
تشير الآية بعد ذلك إلى إثبات حق القصاص بالمثل لولي القتيل فتقول:
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا. ولكن في نفس الوقت ينبغي
لولي المقتول أن يلتزم حد الاعتدال ولا يسرف فلا يسرف في القتل إنه كان
منصورا إذ ما دام ولي الدم يتحرك في الحدود الشرعية فإنه سيكون موردا
لنصرة الله تعالى.
والنهي عن الإسراف تشير إلى واقع كان سائدا في الجاهلية، واليوم أيضا
يمكن مشاهدة نماذج لها، فحين يقتل فرد من قبيلة معينة، فإنها تقوم بهدر الكثير
من الدماء البريئة من قبيلة القاتل.
أو أن يقوم أولياء الدم بقتل أناس أبرياء أو الذين لا يستطيعون الدفاع عن
أنفسهم. كأن يكون المقتول شخصا معروفا وذا منزلة اجتماعية، فإن أهله وفق
الأعراف الجاهلية، سوف لن يكتفوا بحد القصاص الشرعي، بل يقتلون فردا
معروفا ومكافئا في منزلته الاجتماعية للمقتول من قبيلة القاتل حتى وإن لم يكن
له أي دور في عملية القتل. (1)
وعصرنا الحاضر، شهد من التجاوز في الإسراف وهدر دماء الأبرياء ما
غسل معه عار أهل الجاهلية، فهذه إسرائيل اليوم تقوم بحجة قتل أحد جنودها
بإلقاء القنابل والصواريخ على رؤوس النساء والأطفال الفلسطينيين الأبرياء،

1 - يراجع تفسير الآلوسي (روح المعاني) أثناء حديثه عن هذه الآية.
476

وتعمد إلى هدم ديارهم.
كذلك شهدت سنوات الحرب الظالمة التي شنها النظام البعثي على الجمهورية
الإسلامية أسواء أنواع العدوان على دماء الأبرياء والإسراف في القتل.
إن رعاية العدالة - حتى في عقاب القاتل - تعتبر مهمة إسلاميا، لذلك نقرأ في
وصية الإمام علي (عليه السلام)، بعد أن اغتاله عبد الرحمن بن ملجم المرادي قوله: " يا بني
عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا
لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه، ضربة بضربة،
ولا تمثلوا بالرجل " (1).
رابعا: الآية التي بعدها تشير إلى حفظ مال اليتيم، والملاحظ أن الآية
استخدمت نفس أسلوب الآية التي سبقتها، فلم تقل: لا تأكلوا مال اليتيم وحسب،
وإنما قالت: ولا تقربوا مال اليتيم.
وفي هذا التعبير تأكيد على حرمة مال اليتيم. ولكن قد تكون هذه الآية حجة
لبعض الجهلاء الذين سيتركون مال اليتامى يهدر ويكون عرضة للحوادث بدون
أن يكون عليه قيم، لذلك استثنت بقوله: إلا بالتي هي أحسن. وبناء على هذا
الاستثناء يمكن التصرف بأموال اليتامى بشرط حفظ هذه الأموال، وتنميتها
وتكثيرها. وهذا الوضع يستمر إلى أن يبلغ اليتيم سن الرشد ويستطيع فكريا
واقتصاديا أن يكون قيما على نفسه وأمواله حتى يبلغ أشده.
" أشد " مأخوذة من " شد " على وزن " جد " وهي بمعنى " العقدة المحكمة " ثم
توسع المعنى فيما بعد ليشمل أي نوع من القوة الروحية والجسمية. والمقصود من
كلمة " أشد " في الآية هو الوصول إلى مرحلة البلوغ. ولكن ليس البلوغ الجسمي
وحسب، وإنما الرشد الفكري والقدرة الاقتصادية التي تؤهل اليتيم لأن يحفظ

1 - نهج البلاغة، مجموعة الرسائل، الرقم (47).
477

أمواله. اختيار كلمة " أشد " في الآية هو لتحقيق كل هذه المعاني مجتمعة، والتي
يمكن اختيارها بالتجربة.
الأيتام ظاهرة طبيعية في أي مجتمع، ووجودهم يكون تبعا لحوادث مختلفة
يمر بها المجتمع، والدوافع الإنسانية تفرض رعاية هؤلاء اليتامى من قبل الخيرين
والمحسنين في المجتمع، والإسلام يحث على رعاية الأيتام، وقد تحدثنا عن هذا
الأمر مفصلا في الآية (2) من سورة النساء.
والشئ الذي نريد أن نضيفه هنا هو أن بعض الروايات والأحاديث
الإسلامية وسعت في مفهوم اليتيم ليشمل الأفراد الذين انقطعوا عن إمامهم
وقائدهم، ولا يصل صوت الحق إليهم. وهذا المعنى نوع من التوسع في المفهوم
واستفادة معنوية من حكم مادي.
خامسا: تشير الآية بعد ذلك إلى الوفاء بالعهد فتقول: وأوفوا بالعهد إن
العهد كان مسؤولا. إن الكثير من العلاقات الاجتماعية وخطوط النظام
الاقتصادي والمسائل السياسية قائمة على محور العهود، بحيث إذا ضعف هذا
المحور وانهارت الثقة بين الناس، فسينهار النظام الاجتماعي وستحل الفوضى،
ولهذا السبب تؤكد الآيات القرآنية - بقوة - على قضية الوفاء بالعهود.
" العهد " له معان واسعة، فهو يشمل العهود والمواثيق الخاصة بين الأفراد في
القضايا الاقتصادية والمعاشية، وفي العمل والزواج، وهو يشمل أيضا المواثيق
والمعاهدات بين الحكومات والشعوب، وفوق ذلك فإن العهد يشير إلى ميثاق
الأمم مع الله ورسوله وكتبه، وكذلك العكس، أي التزام هؤلاء بالعهد أمام
الناس (1).
سادسا: آخر حكم من الأحكام الستة، يتصل بالعدل في الوزن والكيل

1 - بالنسبة لأهمية الوفاء بالعهد والقسم لدينا بحث مفصل حول الموضوع يمكن مراجعته في بحث الآيات 91 - 94 من سورة
النحل.
478

ورعاية حقوق الناس في ذلك ومحاربة التطفيف في الميزان حيث تقول الآية
الكريمة: وأوفوا الكيل إذا كلتم، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ذلك خير
وأحسن تأويلا.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - أضرار التطفيف في الكيل:
أول ملاحظة ينبغي الانتباه إليها هنا، هي أن القرآن الكريم أكد مرارا على
ضرورة الوزن للناس بالقسطاس، وحذر من البخس والتطفيف في الميزان حتى
أنه اعتبر ذلك في موضع، مرادفا لنظام الخلق في عالم الوجود، حيث نقرأ في
الآيتين (7، 8) من سورة الرحمن، قوله تعالى: والسماء رفعها ووضع الميزان،
أن لا تطغوا في الميزان. والآية تشير إلى أن مسألة بخس الناس والتطفيف في
الميزان ليست مسألة صغيرة، بل هي كبيرة وتدخل في صميم أصول العدالة
والنظام المهيمن على عالم الوجود برمته.
في مكان آخر، وبأسلوب أكثر قوة، يهدد القرآن المطففين، بقوله، كما في
سورة المطففين (1 - 4): ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس
يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون
ليوم عظيم.
بعض الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن كانوا يحاربون التطفيف بعد
الشرك مباشرة، كما حصل لشعيب مع قومه، ولما لم يلتفتوا إلى تعليمات نبيهم
نالهم العذاب الأليم. (تراجع القصة في نهاية آية 85 من سوره آل عمران).
وعادة، فإن الحق والعدل والنظام والحساب، كل هذه الأمور تعتبر أصولا
أساسية للحياة، بل وتدخل في نظام الوجود والخلق، لذلك فابتعاد الناس عن هذا
479

الأصل - خصوصا بالنسبة لبخس الكيل والتطفيف في الميزان - يؤدي إلى إنزال
ضربة شديدة بالثقة التي تعتبر جوهر استقرار التعامل الاقتصادي بين الناس.
ومع الأسف فإننا نرى - في بعض الأحيان - أن غير المسلمين، ولأغراض
كسب الثقة بأنفسهم وتجارتهم، يلتزمون بشكل دقيق بالمواصفات والأرقام
المتفق عليها، بينما يتجاوز بعض المسلمين هذه الحدود! وهذه إشارة على أن
طريق الدنيا أيضا يمر من خلال عدم الخيانة والغش.
وينبغي أن يلاحظ هنا أن هؤلاء الذين يخلون بالميزان ويطففون الكيل
مسؤولون أمام المشتري مسؤولية حقوقية، لذلك فإن توبتهم لا تتم إلا برد الحقوق
المغصوبة إلى أهلها، وإذا تعذر عليهم ذلك، فينبغي لهم إعطاء ما يساويها إلى
الفقراء والمحتاجين بعنوان رد مظالم عن الأصحاب الحقيقيين.
3 2 - ما هو حكم التطفيف وبخس الكيل؟
الجدير بالملاحظة أن حكم التطفيف وبخس الكيل، قد يعمم بحيث يشمل كل
أشكال التقصير المتعمد في الأعمال والوظائف المختلفة، فمن التطفيف من لا ينجز
عمله كاملا، والمعلم الذي لا يدرس بشكل جيد، والموظف الذي لا يلتزم بأوقات
عمله وهو غير حريص عليه. ولكن الألفاظ المستخدمة في هذه الآية لا تفيد
معنى هذا التعميم، فهي من التوسعة العقلية إلا أن قوله تعالى: والسماء رفعها
ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان يشير إلى هذا التعميم.
3 3 - ما هو معنى " قسطاس "؟
" قسطاس " بكسر القاف أو ضمها على وزن " مقياس " وأحيانا تقاس على
وزن " قرآن " بمعنى " الميزان " والبعض يعتبرها كلمة رومية، بينما البعض يرى
بأنها كلمة عربية. وهناك من يقول بأنها مركبة من كلمتين هما " قسط " بمعنى العدل
480

و " طاس " بمعنى كفة الميزان. أما البعض الآخر فيقول بأن كلمة " قسطاس " تطلق
على الميزان الكبير، بينما كلمة " ميزان " تطلق على الموازين الصغيرة (1).
وفي كل الأحوال، فإن (القسطاس المستقيم) تعني الميزان الصحيح والسالم
والعادل بدون نقيصة أو زيادة.
والطريف هو أن هناك رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام)، تفسر هذه الكلمة بقوله:
" هو الميزان الذي له لسان " (2).
وذلك لأنه مع عدم وجود اللسان لا يستطيع الميزان أن يوضح حركة الكفتين
بشكل دقيق، أما مع وجوده فإن أقل حركة للكفتين تنعكس على اللسان، وبهذا
الشكل يمكن رعاية العدل كاملا.
* * *

1 - تلاحظ تفاسير الميزان، والفخر الرازي، ومجمع البيان في تفسير الآية مورد البحث.
2 - يراجع تفسير الصافي، أثناء تفسير هذه الآية.
481