الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ٧
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
تم
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد السابع
1

شناسامه
2

2 الآيات
ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلما قال
سلم فما لبث أن جاء بعجل حنيذ (69) فلما رأى أيديهم لا تصل
إليه نكره وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى
قوم لوط (70) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق
ومن وراء إسحاق يعقوب (71) قالت يا ويلتي أألد وأنا
عجوز وهذا بعلى شيخا إن هذا لشئ عجيب (72) قالوا
أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركته عليكم أهل البيت
إنه حميد مجيد (73)
2 التفسير
3 جانب من حياة محطم الأصنام:
والآن جاء الدور للحديث عن جانب من حياة " إبراهيم (عليه السلام) " هذا البطل
العظيم الذي حطم الأصنام، وما جرى له مع قومه. طبعا كل ذلك مذكور بتفصيل
أكثر في سور أخرى من القرآن غير هذه السورة، كسورة البقرة، وآل عمران،
والنساء، والأنعام، والأنبياء، وغيرها.
وهنا تذكر الآيات قسما من حياته المرتبطة بقصة " قوم لوط " وعقاب
هؤلاء الجماعة الملوثين بالآثام والعصيان، فتقول في البداية: ولقد جاءت
5

رسلنا إبراهيم بالبشرى.
وهؤلاء الرسل - كما سيتبين من خلال الآيات التالية - هم الملائكة الذين
أمروا بتدمير مدن قوم لوط، ولكنهم قبل ذلك جاؤوا إلى إبراهيم ليسلموه بلاغا
يتضمن بشرى سارة.
أما عن ماهية هذه البشرى فهناك احتمالان، ولا مانع من الجمع بينهما.
الاحتمال الأول: البشرى بتولد إسماعيل وإسحاق، لأن إبراهيم (عليه السلام) لم يرزق
ولدا بعد عمر طويل، في حين كان يتمنى أن يرزق ولدا أو أولادا يحملون لواء
النبوة، فإبلاغهم له بتولد إسماعيل وإسحاق بعد بشارة عظمي.
والاحتمال الثاني: إن إبراهيم كان مستاء مما وجده في قوم لوط من الفساد
والعصيان، فحين أخبروه بأنهم أمروا بهلاكهم سر، وكان هذا الخبر بشرى له.
فحين جاءوا إبراهيم قالوا سلاما فأجابهم أيضا و قال سلام ورحب
بهم فما لبث أن جاء بعجل حنيذ.
" العجل " في اللغة ولد البقر و " الحنيذ " معناه المشوي، واحتمل بعضهم أن
ليس كل لحم مشوي يطلق عليه أنه حنيذ، بل هو اللحم المشوي على الصخور
إلى جنب النار دون أن تصيبه النار، وهكذا ينضج شيئا فشيئا.
ويستفاد من هذه الجملة أن من آداب الضيافة أن يعجل للضيف بالطعام،
خاصة إذا كان الضيف مسافرا، فإنه غالبا ما يكون متعبا وجائعا وبحاجة إلى
طعام، فينبغي أن يقدم له الطعام عاجلا ليخلد إلى الراحة.
وربما يقول بعض المنتقدين: أليس هذا العجل كثيرا على نفر معدود من
الأضياف، ولكن مع ملاحظة أن القرآن لم يذكر عدد هؤلاء الأضياف أولا، وهناك
أقوال في عددهم، فبعض يقول: كانوا ثلاثة، وبعض يقول: أربعة، وبعض يقول:
كانوا تسعة، وبعض قال: أحد عشر، ويحتمل أن يكونوا أكثر من ذلك.
وثانيا: فإن إبراهيم كان له أتباع وعمال وجيران، وهذا الأمر متعارف أن
6

يصنع مثل هذا عند الضيافة ويكون فوق حاجة الأضياف ليأكل منه الجميع..
ولكن حدث لإبراهيم حادث عجيب مع أضيافه عند تقديم العجل الحنيذ
لهم، فقد رآهم لا يمدون أيديهم إلى الطعام، وهذا العمل كان مريبا له وجديدا
عليه، فأحس بالاستيحاش واستغرب ذلك منهم فلما رأى أيديهم لا تصل إليه
نكرهم وأوجس منهم خيفة.
ومن السنن والعادات القديمة التي لا تزال قائمة بين كثير من الناس الذين
لهم التزام بالتقاليد الطيبة للاسلاف. هي أن الضيف إذا تناول من طعام صاحبه
(وبما اصطلح عليه: تناول من ملحه وخبزه) فهو لا يكن له قصد سوء، وعلى هذا
فإن من له قصد سوء مع أحد - واقعا - يحاول ألا يأكل من طعامه " وخبزه
وملحه " ومن هذا المنطلق شك إبراهيم في نياتهم، وأساء الظن بهم، واحتمل أنهم
يريدون به سوءا.
أما الرسل فإنهم لما اطلعوا على ما في نفس إبراهيم، بادروا لرفع ما وقع في
نفسه و قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط.
وفي هذه الحال كانت امرأته " سارة " واقفة هناك فضحكت كما تقول الآية
وامرأته قائمة فضحكت.
هذا الضحك من سارة يحتمل أن يكون لأنها كانت مستاءة من قوم لوط
وفجائعهم، واطلاعها على قرب نزول العذاب عليهم كان سببا لسرورها
وضحكها.
وهناك احتمال آخر وهو أن الضحك كان نتيجة لتعجبها أو حتى
لاستيحاشها أيضا، لأن الضحك لا يختص بالحوادث السارة بل يضحك الإنسان
- أحيانا - من الاستياء وشدة الاستيحاش، ومن أمثال العرب في هذا الصدد " شر
الشدائد ما يضحك ".
أو أن الضحك كان لأن الأضياف لم يتناولوا الطعام ولم تصل أيديهم إليه
7

بالرغم من إعداده وتهيأته لهم.
ويحتمل أيضا أن ضحكها لسرورها بالبشارة بالولد. وإن كان ظاهر الآية
ينفي هذا التفسير، لأن البشرى بإسحاق كانت بعد ضحكها، إلا أن يقال: إنهم
بشروا إبراهيم أولا بالولد، واحتملت سارة أن سيكون الولد منها فتعجبت، وأنه
هل يمكن لامرأة عجوز وفي هذه السن أن يكون لها ولد من زوجها؟ لذلك
سألتهم بتعجب فأجابوها بالقول: نعم، وهذا الولد سيكون منك. والتأمل في
سورة الذاريات بهذا الشأن يؤكد ذلك.
وينبغي الالتفات هنا إلى أن بعض المفسرين يصرون على أن " ضحكت "
مشتقة من " ضحك " بمعنى العادة النسائية وهي " الحيض " وقالوا: إن سارة بعد أن
بلغت سن اليأس أتتها العادة في هذه اللحظة وحاضت، والعادة الشهرية تدل على
إمكان إنجاب الولد، ولذلك فحين بشرت بإسحاق أمكنها أن تصدق ذلك تماما
... وهؤلاء المفسرون استندوا في قولهم إلى لغة العرب، حيث قالوا في هذا
الصدد: ضحكت الأرنب، أي حاضت.
ولكن هذا الاحتمال مستبعد من جهات مختلفة:
أولا: لأنه لم يسمع أن هذه " المادة " استعملت في الإنسان بمعنى الحيض في
اللغة العربية، ولهذا فإن الراغب حين يذكر هذا المعنى في مفرداته يقول بصراحة:
إن هذا ليس تفسير جملة فضحكت كما تصوره بعض المفسرين، بل معناها هو
الضحك المألوف، ولكنها حاضت وهي في حال الضحك أيضا، ولذلك وقع
الخلط بينهما.
ثانيا: إذا كانت هذه الجملة بمعنى حصول العادة النسائية فلا ينبغي لسارة أن
تتعجب من البشرى بالولد " إسحاق " لأنه - والحال هذه - لا غرابة في الإنجاب،
في حين نستفيد من الجمل الأخرى أنها لم تتعجب من الإنجاب فحسب، بل
صرخت وقالت: يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا.
8

وعلى كل حال فإن هذا الاحتمال في الآية يبدو بعيدا جدا.
ثم تضيف الآية أن إسحاق سيعقبه ولد من صلبه اسمه يعقوب: فبشرناها
بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.
الواقع أن الملائكة بشروها بالولد وبالحفيد، فالأول إسحاق والثاني يعقوب،
وكلاهما من أنبياء الله.
ومع التفات " سارة " امرأة إبراهيم إلى كبر سنها وسن زوجها فإنها كانت
آيسة من الولد بشدة، فاستنكرت بصوت عال متعجبة من هذا الأمر و قالت
يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب.
وكان الحق معها، لأنه طبقا للآية (29) من سورة الذاريات، فإنها كانت في
شبابها عاقرا، وحين بشرت بالولد كان عمرها - كما يقول المفسرون وتذكره
التوراة في سفر التكوين - تسعين عاما أو أكثر، أما زوجها إبراهيم (عليه السلام) فكان عمره
مئة عام أو أكثر.
وهنا ينقدح سؤال وهو: لم استدلت سارة على عدم الإنجاب بكبر سنها وكبر
سن زوجها، في حين أننا نعلم أن النساء عادة يصبحن آيسات بعد الخمسين
لانقطاع " الحيض " أو " العادة " واحتمال الإنجاب في هذه المرحلة بالنسبة لهن
ضعيف، أما الرجال فقد أثبتت التجارب الطبيعية أنهم قادرون على الإنجاب
لسنين أطول...؟
والجواب على هذا السؤال واضح: فإن الرجال وإن كانوا قادرين على
الإنجاب، ولكن يضعف احتماله كلما طعنوا في السن ولذا فطبقا للآية (54) من
سورة الحجر نجد إبراهيم نفسه متعجبا من هذه البشرى لكبر سنه، أضف إلى ذلك
فإن سارة من الناحية النفسية لعلها لم تكن في الانفراد بهذه المشكلة (العقم)
وأرادت اقحام زوجها معها.
وعلى كل حال فإن رسل الله أزالوا التعجب عنها فورا وذكروها بنعم الله
" الخارقة للعادة " عليها وعلى أسرتها ونجاتهم من الحوادث الجمة، فالتفتوا إليها
9

و قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت (1)....
ذلك الرب الذي نجي إبراهيم من مخالب نمرود الظالم، ولم يصبه سوء وهم
في قلب النار، هو ذلك الرب الذي نصر إبراهيم محطم الأصنام - وهو وحيد -
على جميع الطواغيت، وألهمه القدرة والاستقامة البصيرة.
وهذه الرحمة الإلهية لم تكن خاصة بذلك اليوم فحسب، بل هي مستمرة في
أهل هذا البيت، وأي بركة أعظم من وجود رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة
الطاهرين (عليهم السلام) في هذه الأسرة وفي هذا البيت بالذات.
واستدل بعض المفسرين بهذه الآية على أن الزوجة تعد من " أهل البيت "
أيضا، ولا يختص هذا العنوان بالولد والأب والأم. وهذا الاستدلال صحيح طبعا،
وحتى مع غض النظر عن الآية هذه، فإن كلمة " أهل " من حيث المحتوى تصح
بهذا المعنى، ولكن لا مانع أبدا أن يخرج جماعة من أهل بيت النبوة من الناحية
المعنوية بسبب انحرافهم من أهل البيت " وسيأتي فريد من الإيضاح والشرح في
هذا الصدد إن شاء الله ذيل الآية 33 من سورة الأحزاب ".
وقال ملائكة الله لمزيد التأكيد على بشارتهم وكلامهم في شأن الله إنه
حميد مجيد.
الواقع إن ذكر هاتين الصفتين لله تعالى على الجملة السابقة، لأن كلمة
" حميد " تعني من له أعمال ممدوحة وتستوجب الثناء والحمد، وقد جاء صفة لله
ليشير إلى نعمه الكثيرة على عباده ليحمد عليها، وأما كلمة " مجيد " فتطلق على
من يهب النعم حتى قبل استحقاقها.
ترى هل من العجيب على رب له هذه الصفات أن يعطي مثل هذه النعمة
العظيمة... أي الأبناء الصالحين لنبيه الكريم؟!
* * *

1 - إن جملة " رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت " يمكن أن تكون خبرية، وهي حال، كما يمكن أن تكون بمعنى الدعاء
أيضا، ولكن الاحتمال الأول أقرب.
10

2 الآيات
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في
قوم لوط (74) إن إبراهيم لحليم أوه منيب (75) يإبرهيم أعرض
عن هذا إنه، قد جاء أمر ربك وإنهم آتاهم عذاب غير
مردود (76)
2 التفسير
رأينا في الآيات السابقة أن إبراهيم عرف فورا أن أضيافه الجدد لم يكونوا
أفرادا خطرين أو يخشى منهم، بل كانوا رسل الله على حد تعبيرهم، ليؤدوا
وظيفتهم التي أمروا بها في قوم لوط.
ولما ذهب الهلع والخوف عن إبراهيم من أولئك الأضياف، ومن ناحية
أخرى فقد بشروه بالوليد السعيد، شرع فورا بالتفكير في قوم لوط الذين أرسل
إليهم هؤلاء الرسل " الملائكة " فأخذ يجادلهم ويتحدث معهم في أمرهم فلما
ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (1).

1 - كلمة " روع " على وزن " نوع " معناها " الخوف والوحشة " وكلمة " روع " على وزن " نوح " معناها " الروح " أو قسم
منها الذي هو محل الخوف ومركزه، لمزيد الإيضاح تراجع المعاجم اللغوية.
11

وهنا يمكن أن ينقدح هذا السؤال، وهو: لم تباحث إبراهيم (عليه السلام) مع رسل الله
وجادلهم في قوم آثمين ظالمين - كقوم لوط - وقد أمروا بتدميرهم، في حين أن
هذا العمل لا يتناسب مع نبي - خاصة إذا كان إبراهيم (عليه السلام) في عظمته وشأنه؟
لهذا فإن القرآن يعقب مباشرة في الآية عن شفقة إبراهيم وتوكله على الله
فيقول إن إبراهيم لحليم أواه منيب (1).
في الواقع هذه الكلمات الثلاث المجملة جواب على السؤال المشار إليه
آنفا. وتوضيح ذلك: إن هذه الصفات المذكورة لإبراهيم تشير إلى أن مجادلته
كانت ممدوحة، وذلك لأن إبراهيم لم يتضح له أن أمر العذاب صادر من قبل الله
بصورة قطعية، بل كان يحتمل أنه لا يزال لهم حظ في النجاة، ويحتمل أنهم
سيرتدون عن غيهم ويتعظون، ومن هنا فما زال هناك مجال للشفاعة لهم... فكان
راغبا في تأخير العذاب والعقاب عنهم، لأنه كان حليما، ومشفقا وأواها ومنيبا
إلى الله.
فما ذكره البعض من أن مجادلة إبراهيم إذا كانت مع الله فلا معنى لها، وإذا
كانت مع رسله فهم أيضا لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا من أنفسهم، فعلى كل حال
فالمجادلة هذه غير صحيحة - مجانب للصواب.
والجواب: أنه لا كلام في الحكم القطعي، أما لو كان الحكم غير قطعي فمع
تغيير الظروف وتبدل الأوضاع يمكن تغييره، لأن طريق الرجوع لا زال مفتوحا،
وبتعبير آخر: فإن الأوامر في هذه الحالة مشروطة لا مطلقة.
وأما من احتمل أن المجادلة كانت مع الرسل في شأن نجاة المؤمنين،
واستشهدوا على هذا القول بالآيتين (31) و (32) من سورة العنكبوت ولما
جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا

1 - " الحليم " مشتق من " الحلم " وهو: الأناة والصبر في سبيل الوصول إلى هدف مقدس، والأواه في الأصل: كثير
التحسر والآه سواء من الخوف من المسؤولية التي يحملها أو من المصائب، والمنيب من الإنابة أي الرجوع.
12

ظالمين، قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته
كانت من الغابرين.
فهذا الاحتمال غير صحيح أيضا، ولا ينسجم مع الآية التي تأتي بعدها وهي
محل وتقول الآية التالية: إن الرسل قالوا لإبراهيم - مباشرة - أن أعرض عن
اقتراحك لأن أمر ربك قد تحقق والعذاب نازل لا محالة.
يا إبراهيم اعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير
مردود.
والتعبير ب‍ " ربك " لا يدل على أن هذا العذاب خلو من الطابع الانتقامي
فحسب، بل يدل أيضا على أنه علامة لتربية العباد وإصلاح المجتمع الإنساني.
وما نقرؤه في بعض الروايات أن إبراهيم (عليه السلام) قال لرسل الله: إذا كان بين
هؤلاء القوم مئة مؤمن فهل يعذب المؤمنون؟ قالوا: لا. فقال: إذا كان بينهم
خمسون مؤمنا؟ فقالوا: لا أيضا. قال: فإذا كان بينهم ثلاثون مؤمنا؟ قالوا: لا. قال:
فإذا كان بينهم عشرة؟ قالوا: لا. قال: فإذا كان بينهم خمسة؟ قالوا: لا. قال: فإذا
كان بينهم مؤمن واحد؟ قالوا: لا. قال: فإن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها
لننجينه وأهله إلا امرأته (1)... الخ.
فمثل هذه الرواية لا تدل بوجه مطلق على أن المجادلة اقتصرت على هذا
الكلام، بل كان ذلك منه بالنسبة إلى المؤمنين، وهو شئ آخر غير مجادلته عن
الكفار. ومن هنا يتضح أن الآيات التي وردت في سورة العنكبوت لا تنافي هذا
التفسير أيضا " فتدبر ".
* * *

1 - راجع تفسير البرهان، ص 226، ج 2.
13

2 الآيات
ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال
هذا يوم عصيب (77) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل
كانوا يعملون السيئات قال يقوم هؤلاء بناتي هن أطهر
لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل
رشيد (78) قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم
ما نريد (79) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن
شديد (80)
2 التفسير
3 قوم لوط وحياة الخزي:
مرت في آيات من سورة الأعراف إشارة إلى شئ من مصير قوم لوط،
وفسرنا ذلك في محله، وهنا يتناول القرآن الكريم - وبمناسبة ما ذكره من قصص
الأنبياء وأقوامهم وبما ورد في الآيات المتقدمة عن قصة لوط وقومه - قسما آخر
من حياة هؤلاء القوم المنحرفين الضالين ليتابع بيان الهدف الأصلي ألا وهو
سعادة المجتمع الإنساني ونجاته بأسره.
14

يبين القرآن الكريم في هذا الصدد أولا... أنه لما جاءت رسلنا لوطا طار
هلعا وضاق بهم ذرعا وأحاط به الهم من كل جانب ولما جاءت رسلنا لوطا
سيئ بهم وضاق بهم ذرعا.
وقد ورد في الروايات الإسلامية أن لوطا كان في مزرعته حيث فوجئ
بعدد من الشباب الوسيمين الصباح الوجوه قادمون نحوه وراغبون في النزول
عنده ولرغبته باستضافتهم من جهة، ولعلمه بالواقع المرير الذي سيشهده في
مدينته الملوثة بالإنحراف الجنسي من جهة أخرى، كل ذلك أوجب له الهم...
ومرت هذه المسائل على شكل أفكار وصور مرهقة في فكره، وتحدث مع
نفسه وقال هذا يوم عصيب.
لاحتمال الفضيحة والتورط في مشاكل عويصة كلمة (سيئ) مشتقة من
ساء، ومعناها عدم الارتياح وسوء الحال، و " الذرع " تعني " القلب " على قول،
وقال آخرون: معناها " الخلق " فعلى هذا يكون معنى ضاق بهم ذرعا أن قلبه
أصيب بتأثر شديد لهؤلاء الأضياف غير المدعوين في مثل هذه الظروف الصعبة.
ولكن بحسب ما ينقله " الفخر الرازي " في تفسيره عن " الأزهري " أن الذرع
في هذه الموارد يعنى " الطاقة " وفي الأصل معناه الفاصلة بين أذرع البعير أثناء
سيره.
وطبيعي حين يحمل البعير أكثر من طاقته فإنه يضطر إلى تقريب خطواته
وتقليل الفاصلة بين خطواته، وبهذه المناسبة وبالتدريج استعمل هذا المعنى في
عدم الارتياح والاستثقال من الحوادث.
ويستفاد من بعض كتب اللغة ككتاب (القاموس " أن هذا التعبير إنما يستعمل
في شدة الحادثة بحيث يجد الإنسان جميع الطرق بوجهه موصدة.
وكلمة " عصيب " مشتقة من " العصب " على زنة " الكلب " ومعناه ربط
الشئ بالآخر وشده شدا محكما، وحيث أن الحوادث الصعبة تشد الإنسان
15

وكأنها تسلبه راحته فيظل مبلبل الأفكار سميت " عصيبة " وتطلق العرب على
الأيام شديدة الحر أنها عصيبة أيضا.
وعلى كل حال، فإن لوطا لم يجد بدأ من أن يأتي بضيوفه إلى البيت ويقوم
بواجب الضيافة ولكنه حدثهم في الطريق - عدة مرات - أن أهل هذه المدينة
منحرفون وأشرار ليكونوا على حذر منهم.
ونقرأ في إحدى الروايات أن الله سبحانه أمر ملائكته أن لا يعذبوا قوم لوط
حتى يعترف لوط عليهم ثلاث مرات، ومعنى ذلك أنه حتى في تنفيذ حكم الله
بالنسبة لقوم ظالمين لابد من تحقق موازين عادلة في المحاكمة، وقد سمع رسل
الله شهادة لوط في قومه ثلاث مرات أثناء الطريق (1).
وورد في بعض الروايات أن لوطا أخر ضيوفه كثيرا حتى حلول الليل،
فلعله يستطيع أن يحفظ ماء وجهه من شرور قومه، ويقوم بواجب الضيافة دون
أن يساء إلى أضيافه. ولكن ما عسى أن يفعل الإنسان إذا كان عدوه داخل بيته،
وكانت امرأة لوط امرأة كافرة وتساعد قومه الظالمين، وقد اطلعت على ورود
هؤلاء الأضياف إلى بيتها، فصعدت إلى أعلى السطح وصفقت بيديها أولا، ثم
بإشعال النار وتصاعد الدخان أعلمت جماعة من هؤلاء القوم بأن طعمة دسمة
قد وقعت في " الشباك " (2).
يقول القرآن الكريم في هذا الصدد وجاءه قومه يهرعون إليه (3) وكانت
حياة هؤلاء القوم مسودة وملطخة بالعار ومن قبل كانوا يعملون السيئات
فكان من حق لوط أن يضيق ذرعا يصرخ مما يرى من شدة استيائه و قال يا
قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فأنا مستعد أن أزوجهن إياكم فاتقوا الله ولا

1 - مجمع البيان، في شرح الآية آنفة الذكر.
2 - الميزان، ج 10، ص 362.
3 - " يهرعون " مشتقة من الإهراع ومعناها السياقة الشديدة، فكأنما تسوق غريزة هؤلاء إياهم بشدة إلى أضيافه.
16

تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد يصدكم عن هذه الأعمال المخزية
وينصحكم بالإقلاع عنها.
ولكن هؤلاء القوم المفسدين أجابوا لوطا بكل وقاحة وعدم حياء و قالوا
لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد.
وهنا وجد لوط هذا النبي العظيم نفسه محاصرا في هذه الحادثة المريرة
فنادي و قال لو أن لي بكم قوة أو سند من العشيرة والأتباع والمعاهدين
الأقوياء حتى أتغلب عليكم أو آوي إلى ركن شديد.
* * *
3 ملاحظات
1 - العبارة التي قالها لوط عند هجوم القوم على داره وأضيافه - هؤلاء
بناتي هن أطهر لكم فتزوجوهن إن شئتم فهن حلال لكم ولا ترتكبوا الإثم و
الذنب وقد - أثارت هذه العبارة بين المفسرين عدة أسئلة:
أولا: هل المراد من هؤلاء بناتي بنات لوط على وجه الحقيقة والنسب؟!
في حين أن عددهن - وطبقا لما ينقل التاريخ - ثلاث أو اثنتان فحسب، فكيف
يعرض تزويجهن على هذه الجماعة الكثيرة؟!
أم أن المراد من قوله هؤلاء بناتي بنات " القبيلة " والمدينة، وعادة ينسب
كبير القوم ورئيسهم بنات القبيلة إليه ويطلق عليهن " بناتي ".
الاحتمال الثاني يبدو ضعيفا لأنه خلاف الظاهر.
والصحيح هو الاحتمال الأول، لأن الذين هجموا على داره وأضيافه كانوا
ثلة من أهل القرية لا جميعهم فاقترح عليهم لوط ذلك الاقتراح، أضف إلى ذلك
أن لوطا كان يريد أن يبدي منتهى إيثاره وتضحيته لحفظ ماء وجهه وليقول لهم:
إني مستعد لتزويجكم من بناتي لتقلعوا عن آثامكم وتتركوا أضيافي فلعل هذا
17

الإيثار المنقطع النظير يردعهم ويوقظ ضمائرهم الذي غطته السيئات.
ثانيا: هل يجوز تزويج النبات المؤمنات أمثال بنات لوط من الكفار حيى
يقترح عليهم لوط ذلك؟!
وقد أجيب على هذا السؤال من طريقين.
الأول: إن مثل هذا الزواج في مذهب لوط - كما كان في بداية الإسلام - لم
يكن محرما، ولذلك فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زوج ابنته زينب من أبي العاص قبل أن
يسلم، ولكن هذا الحكم نسخ بعدئذ (1).
الثاني: إن المراد من قول لوط (عليه السلام) كان زواجا مشروطا بالإيمان، أي هؤلاء
بناتي فتعالوا وآمنوا لأزوجهن إياكم.
ويتضح أن الإشكال على النبي لوط - من أنه كيف يزوج بناته المطهرات من
جماعة أوباش - غير صحيح، لإن عرضه عليهم ذلك الزواج كان مشروطا
بالإيمان وليثبت منتهى علاقته بهدايتهم.
2 - ينبغي الالتفات إلى أن كلمة " أطهر " لا تعني بمفهومها أن عملهم
المخزي والسئ كان " طاهرا " ولكن الزواج من البنات " أطهر "، بل هو تعبير
شائع في لسان العرب - ولغات أخرى - في المفاضلة والمقايسة بين أمرين، مثلا
يقال لمن يسوق بسرعة رعناء " الوصول المتأخر خير من عدم الوصول أبدا " أو
" الاعراض من الطعام المشكوك أفضل من إلقاء الإنسان بيده إلى التهلكة " ونقرأ
في بعض الروايات مثلا أن الإمام الصادق (عليه السلام) حين يشعر بالخطر الشديد
و " التقية " من خلفاء بني العباس يقول " والله لئن أفطر يوما من شهر رمضان أحب
إلي من أن تضرب عنقي " (2).
مع أنه لا القتل محبوب ولا هو أمر حسن بنفسه، ولا عدم الوصول أبدا، ولا

1 - انظر الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وتفسير مجمع البيان في هذا الصدد.
2 - وسائل الشيعة، الجزء 7، ص 95، كتاب الصوم باب 57.
18

أمثالهما.
3 - تعبير لوط أليس منكم رجل رشيد في آخر كلامه مع قومه
المنحرفين يكشف عن هذه الحقيقة، وهي أن وجود رجل - ولو رجل واحد
رشيد - بين قوم ما وقبيلة ما يكفي لردعهم من أعمالهم المخزية، أي لو كان فيكم
رجل عاقل ذو لب ورشد لما قصدتم بيتي ابتغاء الاعتداء على ضيفي!
هذا التعبير يوضح بجلاء أثر " الرجل الرشيد " في قيادة المجتمعات
الإنسانية، وهو الواقع الذي وجدنا نماذج كثيرة منه على امتداد التاريخ.
4 - من العجيب أن هؤلاء القوم المنحرفين الضالين قالوا للوط: ما لنا في
بناتك من حق وهذا التعبير كاشف عن غاية الانحراف في هذه الجماعة، أي أن
مجتمعا منحرفا ملوثا بلغ حدا من العمى بحيث يرى الباطل حقا والحق باطلا!!
فالزواج من البنات المؤمنات الطاهرات لا يعد حقا عندهم، وعلى العكس
من ذلك يعد الانحراف الجنسي عندهم حقا.
إن الاعتياد والتطبع على الإثم والذنب يكون في مراحله النهائية والخطرة
عندما يتصور أن أسوأ الأعمال وأخزاها هي " حق عند صاحبها " وأن أنقى
الاستمتاع الجنسي وأطهره أمر غير مشروع.
5 - ونقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآيات المتقدمة أن
المقصود بالقوة هو القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن " الركن الشديد " هم أصحابه
الذين عددهم (313) شخصا (1).
وقد تبدو هذه الرواية عجيبة وغريبة إذ كيف يمكن الاعتقاد أن لوطا كان
يتمنى ظهور مثل هذا الشخص مع أصحابه المشار إليهم آنفا.
ولكن التعرف على الروايات الواردة في تفسير آيات القرآن حتى الآن
يعطينا مثل هذا الدرس، وهو أن قانونا كليا يتجلى غالبا في مصداقه البارز، ففي

1 - تفسير البرهان، ج 2، ص 228.
19

الواقع إن لوطا كان يتمنى أن يجد قوما ورجالا لديهم تلك القدرة والقوة الروحية
والجسمية الكافية لإقامة حكومة العدل الإلهية... كما هي موجودة في أصحاب
المهدي " عجل الله فرجه الشريف " الذين يشكلون حكومة عالمية حال ظهور الإمام
المهدي " عجل الله فرجه الشريف " وقيامه، لينهض بهم ويواجه الانحراف والفساد فيزيله
عن بكرة أبيه ويبير هؤلاء القوم الذين لا حياء لهم.
* * *
20

2 الآيات
قالوا يلوط إنا رسل ر بك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك
بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها
ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب (81) فلما
جاء أمرنا جعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من
سجيل منضود (82) مسومة عند ربك وما هي من الظالمين
ببعيد (83)
2 التفسير
3 عاقبة الجماعة الظالمة:
وأخيرا حين شاهد الملائكة رسل الله الأضياف ما عليه لوط من
العذاب النفس كشفوا " ستارا " عن أسرار عملهم و قالوا يا لوط إنا رسل ربك
لن يصلوا إليك.
الطريف هنا أن ملائكة الله لم يقولوا: لن يصلنا سوء وضرر، بل قالوا: لن
يصلوا إليك يا لوط فيؤذوك ويسيؤوا إليك!
وهذا التعبير إما لأنهم كانوا يحسبون أنهم غير منفصلين عن لوط لأنهم
21

أضيافه على كل حال، وهتك حرمتهم هتك لحرمة لوط. أو لأنهم أرادوا أن يفهموا
لوطا بأنهم رسل الله، وأن عدم وصول قومه إليهم بالإساءة أمر مسلم به، بل حتى
لوط نفسه الذي هو رجل من جنس أولئك لن يصلوا إليه بسوء، وذلك بلطف الله
وفضله.
نقرأ في الآية (37) من سورة القمر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا
أعينهم وهذه الآية تدل على أن هؤلاء الجماعة الذين أرادوا السوء بأضياف
لوط، فقدوا بصرهم بإذن الله، فلم يستطيعوا الهجوم عليهم. ونقرأ في بعض
الروايات - أيضا - أن أحد الملائكة غشى وجوههم بحفنة من التراب فعموا
جميعا.
وعلى كل حال، فاطلاع لوط (عليه السلام) على حال أضيافه ومأموريتهم نزل كالماء
البارد على قلبه المحترق وأحس بلحظة واحدة أن ثقلا كبيرا من الغم والحيرة قد
أزيل عن قلبه، وأشرقت عيناه بالسرور والبهجة، وعلم أن مرحلة الغم والحيرة
أشرفت على الانتهاء، ودنا زمن السرور والنجاة من مخالب هؤلاء القوم
المنحرفين المتوحشين.
ثم أمر الأضياف لوطا - مباشرة - أن يرحل هو وأهله من هذه البلدة وقالوا:
فأسر بأهلك بقطع من الليل (1).
ولكن كونوا على حذر ولا يلتفت منكم أحد إلى الوراء إلا امرأتك
فإنه مصيبها ما أصابهم لتخلفها عن أمر الله وعصيانهم مع العصاة الظلمة.
وفي قوله تعالى: لا يلتفت منكم أحد عند المفسرين احتمالات عديدة.
الأول: لا ينظر أحد إلى ورائه مديرا وجهه إلى الخلف.
الثاني: لا تفكروا بما تركتم خلفكم من الأموال ووسائل المعاش، إنما عليكم

1 - " أسر " مشتق من " الإسراء " وهو المسير ليلا، وذكر الليل في الآية من باب توكيد الموضوع، والقطع معناه ظلمة
الليل، إشارة إلى أن يتحرك والناس نيام أو مشغولون عنه بالشراب وحلك الليل ليخرج وهم في غفلة عنه.
22

أن تنجوا أنفسكم من الهلاك.
الثالث: لا يتخلف منكم أحد عن هذه القافلة الصغيرة.
الرابع: إن الأرض ستضطرب حال خروجكم وستبدأ مقدمات العذاب
فاهربوا بسرعة ولا تلتفتوا إلى الوراء...
ولكن لا مانع من الجمع بين هذه الاحتمالات كلها في الآية (1).
وخلاصة الأمر فإن آخر ما قاله رسل الله - أي الملائكة - للوط (عليه السلام): إن
العذاب سينزل قومه صباحا. ومع أول شعاع للشمس سيحين غروب حياة
هؤلاء: إن موعدهم الصبح.
ونقرأ في بعض الروايات أن الملائكة حين وعدوا لوطا بنزول العذاب
صباحا، سأل لوط الملائكة لشدة ما لقيه من قومه مما ساءه، وجرح قلبه وملأه
هما وغما أن يعجلوا عليهم بالعذاب في الحال فإن الأفضل الإسراع، ولكن
الملائكة طمأنوه وسروا عنه بقولهم: أليس الصبح بقريب.
وأخيرا دنت لحظة العذاب وتصرمت ساعات انتظار لوط النبي (عليه السلام)، وكما
يقول القرآن الكريم فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة
من سجيل منضود.
وكلمة " سجيل " فارسية الأصل، وهي مركبة من " سنك " ومعناها الحجارة
و " گل " ومعناها الطين، فعلى هذا هي شئ صلبا كالحجارة ولا رخوا كالزهرة،

1 - في قوله إلا امرأتك هذا الاستثناء من أي جملة هو؟ للمفسرين احتمالان: " الأول " إنه يعد استثناء من لا
يلتفت منكم أحد ومفهومها أن لوطا وأهله بما فيهم امرأته تحركوا للخروج من المدينة ولم يلتفت منهم أحد كما أمرهم
الرسل، إلا امرأة لوط فإنها بحكم علاقتها بقوم لوط وتأثرها على مصيرهم، وقفت لحظة ونظرت إلى الوراء، وطبقا لبعض
الروايات أصابها حجر من الأحجار التي كانت تهوي على المدينة فقتلت به. " الثاني " إنه استثناء من جملة فأسر
بأهلك فيكون معناها أن جميع أهله ذهبوا معه ولكن امرأته بقيت في المدينة ولم يأخذها لوط معه، ولكن الاحتمال
الأول أنسب.
23

وإنما هي برزخ " وسط " بينهما.
و " المنضود " من مادة " نضد " ومعناه كون الشئ مصفوفا وموضوعا بشكل
متتابع ومتراكم، أي إن هذا المطر كان متتابعا سريعا إلى درجة حتى كأن هذه
الأحجار تتراكب بعضها فوق بعض فتكون " منضودة ".
ولكن هذه الأحجار ليست أحجارا عادية، بل هي أحجار فيها علامات
عند الله مسومة عند ربك.
ولا تتصوروا أن هذه الأحجار مخصوصة بقوم لوط، بل وما هي من
الظالمين ببعيد.
هؤلاء القوم المنحرفون ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم، لعبوا بمصير أمتهم
كما هزأوا بالإيمان والأخلاق الإنسانية، وكلما نصحهم نبيهم باخلاص وحرقة
قلب لم يسمعوا له وسخروا منه، وبلغت صلافتهم وعدم حيائهم حدا أنهم أرادوا
الاعتداء على ضيوف زعيمهم ويهتكوا حرمتهم.
هؤلاء الذين كانوا قد قلبوا كل شئ يجب أن تنقلب مدينتهم عليهم، ولا
يكفي أن يغدو عليها سافلها، بل ليمطروا بوابل من الأحجار تدمر كل شئ من
" معالم الحياة " هناك ولا يبقى منهم سوى صحراء موحشة وقبور مظلمة تحت
ركام الأحجار الصغيرة.
وهل أن الذين ينبغي معاقبتهم هم قوم لوط فحسب؟ قطعا لا. فكل جماعة
منحرفة وأمة ظالمة ينتظرها مثل هذا المصير، فتارة تكون تحت وابل الأحجار،
وأخرى تحت ضربات القنابل المحرقة، وحينا تحت ضغط الاختلافات
الاجتماعية القاتلة، وأخيرا فإن لكل شكلا من العذاب وصورة معينة.
* * *
24

2 ملاحظات
3 1 - لم كان العذاب صباحا؟
ملاحظة الآيات المتقدمة تثير في ذهن القارئ هذا السؤال، وهو أي أثر
للصبح في هذا الأمر، ولم لم ينزل العذاب في قلب الليل البهيم؟!
ترى هل كان ذلك لأن الجماعة الذين هجموا على دار لوط فعموا وعادوا
إلى قومهم وحدثوهم بما جرى لهم، فحينئذ فكر أولئك بما حدث! وإن الله أمهلهم
إلى الصباح لعلهم ينتبهون ويتوبون؟
أو أن الله لم يرد الاغارة عليهم في الليل، ولذلك فقد أمر الملائكة أن ينتظروا
حتى يحين الصباح؟!
لم يرد في كتب التفسير شئ من هذا، ولكن ما ذكرناه آنفا احتمالات
تستحق المطالعة.
3 2 - لم قلب الله عاليها سافلها؟
قلنا: إن العذاب ينبغي أن يتناسب مع الإثم، وحيث أن هؤلاء القوم قلبوا كل
شئ عن طريق الانحراف الجنسي فإن الله جعل مدنهم عاليها سافلها أيضا،
وحيث كانوا دائما يتقاذفون بالكلمات البذيئة فيما بينهم، فإن الله أمطرهم
بحجارة لتتهاوى على رؤوسهم أيضا.
3 3 - لماذا الوابل من الأحجار؟!
وهل كان إمطارهم بالأحجار الصغيرة قبل انقلاب المدن، أو كان مقترنا
ومتزامنا معها، أو بعدها؟!
هناك أقوال بين المفسرين، والآيات القرآنية لم تصرح بشئ في هذا الشأن
أيضا، لأن الجملة عطفت بالواو، وهي لمطلق العطف ولا يستفاد منها الترتيب.
25

ولكن بعض المفسرين - كصاحب المنار - يعتقد أن مطر الاحجار إما أن
يكون قبل أن يقلب عاليها سافلها، أو مقترن مع القلب، وذلك لينال بعض الافراد
الذين التجأوا إلى زاوية أو معزل ولم يدفنوا تحت الأنقاض جزاءهم العادل ولا
تبقى لهم فرصة للهروب.
والرواية التي تقول: إن امرأة لوط حين سمعت الصوت والتفتت لترى ما
حدث أصابها حجر في الحال فقتلها، هذه الرواية تدل على أن الأمرين " القلب
ووابل المطر " حدثا مقترنين.
ولكن لو تجاوزنا عن ذلك فما يمنع أن يكون وابل الأحجار - لتشديد
العذاب - بعد قلب المدن عاليها سافلها، لتتوارى أرضهم وتنمحي آثارها تماما.
3 4 - لماذا العلامة المتميزة؟!
قلنا: إن جملة مسومة عند ربك تفهمنا هذه المسألة الدقيقة، وهي أن
هذه الأحجار كانت ذوات علائم خاصة ومميزة عند الله سبحانه... ولكن كيف
كانت علاماتها؟ هناك أقوال بين المفسرين... فقال بعضهم: كان في هذه الأحجار
علامات تدل على أنها ليست كسائر الأحجار " العادية " بل هي خاصة لنزول
العذاب الإلهي لئلا تختلط مع سقوط الأحجار الأخرى، ولذا قال آخرون: إن هذه
الأحجار لم يكن لها شبه مع أحجار الأرض بل تدل مشاهدة وضعها على أنها
أحجار سماوية نزلت إلى الكرة الأرضية من خارجها.
وقال آخرون: هي علامات في علم الله، إن كل حجر منها يصيب شخصا
بعلامته أو يستهدف نقطة معينة، وهي إشارة إلى دقة الحساب في عقاب الله
وجزائه بحيث يعلم أي شخص يصيبه أي حجر! وليس المسألة اعتباطية.
26

3 5 - تحريم الانحراف الجنسي
يعد الميل الجنسي إلى المماثل " سواء وقع ذلك بين الرجال أو بين النساء "
من الذنوب الكبيرة في الإسلام، وقد جعل الإسلام لكل من الحالتين حدا
شرعيا.
فالحد الشرعي في " اللواط " هو القتل فاعلا كان الرجل أم مفعولا. وهناك
طرق مبينة لهذا القتل في الفقه الإسلامي، ويجب أن يعول على طرق معتبرة
وقطعية لإثبات هذا الذنب وردت في الفقه الاسلامي وروايات المعصومين في
هذا المجال. فلا يكفي لإقامة الحد الشرعي - وهو القتل هنا - حتى إقرار المذنب
على نفسه ثلاث مرات، بل يجب أن يقر على نفسه أربع مرات على الأقل.
وأما الحد على المرأة في عملية المساحقة فيكون بعد الإقرار بالذنب على
نفسها أربع مرات، أو شهادة أربعة شهود " وبالشرائط المذكورة في الفقه " مئة
جلدة، وقال بعض الفقهاء، إذا كانت المرأة التي تقوم بهذا العمل الشنيع ذات بعل
فحدها القتل.
وإقامة هذه الحدود لها شرائط دقيقة ذكرت في كتب الفقه الإسلامي.
والروايات التي تذم الميل الجنسي إلى المماثل والمنقولة عن قادة الإسلام
كثيرة ومذهلة والمطالع لهذه الروايات يحس أن قبح هذا الذنب ليس له مثيل بين
الذنوب.
نقرأ مثلا من هذه الروايات رواية عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لما
عمل قوم لوط ما عملوا بكت الأرض إلى ربها حتى بلغت دموعها السماء، وبكت
السماء حتى بلغت دموعها العرش، فأوحى الله إلى السماء أن أحصبيهم وأوحى إلى
الأرض أن اخسفي بهم " (1).
ونقرأ في حديث للإمام الصادق أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من جامع غلاما جاء

1 - تفسير البرهان، ج 2، ص 231.
27

يوم القيامة جنبا لا ينقيه ماء الدنيا، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له جهنم وساءت
مصيرا. ثم قال: إن الذكر يركب الذكر فيهتز العرش لذلك " (1).
ونقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) ".... والعامل على هذا من الرجال إذا بلغ
أربعين سنة لم يتركه، وهم بقية سدوم. أما إني لست أعني بهم أنهم بقيتهم أنهم
ولدهم، ولكنهم من طينتهم، قال: قلت: سدوم التي قلبت، قال: هي أربع مدائن
" سدوم وصريم والدما وغميرا "... أو [ولدنا وعمورا] الخ.... (2).
ونقرأ في رواية أخرى عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " سمعت رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء
بالرجال " (3).
3 فلسفة تحريم الميول الجنسية لأمثالها
بالرغم من أن العالم الغربي ملئ بالانحرافات الجنسية، وأن هذه الأعمال
السيئة قد باتت متعارفة بحيث سمع أن بعض الدول كبريطانيا وطبقا لقانون صدر
بكل وقاحة من المجلس النيابي " البرلمان " فيها يجوز هذا الموضوع " اللواط أو
السحاق " ولكن شيوع هذه المنكرات لا يخفف من قبحها ومن مفاسدها
الأخلاقية والاجتماعية والنفسية.
بعض أتباع المذاهب المادية الذين تلوثوا بمثل هذه المنكرات يقولون: نحن
لا نجد محذورا طبيا في هذا الامر.
ولكنهم لم يلتفتوا لي أن كل انحراف جنسي له أثره السلبي في روحية
الإنسان وبنائه النفسي يفقده توازنه.

1 - وسائل الشيعة، ج 14، ص 249.
2 - وسائل الشيعة، ج 14، ص 253.
3 - وسائل الشيعة، ج 14، ص 255.
28

توضيح ذلك، أن الإنسان الطبيعي والسليم يميل إلى المخالف من جنسه، أي
أن الرجل يميل إلى المرأة، والمرأة تميل إلى الرجل، وهذا الميل ن أشد الغرائز
المتجذرة فيه، والضامن لبقاء نسله، فأي عمل يؤدي إلى تحوير هذا الميل
الطبيعي عن مساره فسيوجد نوعا من المرض والانحراف النفسي في الإنسان.
فالرجل الذي يميل إلى نظيره من جنسه، ليس رجلا كاملا، وقد عد هذا
الانحراف في كتب الأمور الجنسية " هموسكواليسيم " أي الميل الجنسي
للمماثل من أهم الانحرافات.
والاستمرار على هذا العمل وإدامته يميت في الفرد الميل الجنسي إلى
المخالف. والشخص الذي يسلم نفسه لممارسة هذا العمل معه يشعر شيئا فشيئا
" بإحساسات المرأة " ويورث هذا العمل الطرفين " الفاعل والمفعول " ضعفا
مفرطا في الجنس حتى أنه لا يستطيع بعد مدة على المعاشرة الطبيعية مع جنسه
المخالف.
ومع ملاحظة أن الإحساسات الجنسية [بالنسبة للرجل والمرأة] لها تأثيرها
في أعضاء بدن كل منهما، كما أن لها تأثيرها على روحية كل منهما وأخلاقه.
تتضح أن فقدان الإحساسات الطبيعية إلى أي درجة سيؤثر على روح الإنسان
وجسمه حتى أنه من الممكن أن يبتلى الأفراد هؤلاء بالضعف الجنسي الذي
يؤدي إلى عدم القدرة على الإنجاب والتوليد.
وهؤلاء الأشخاص - غالبا - ليسوا أصحاء من الناحية النفسية، ويحسون
في داخلهم أنهم غرباء عن أنفسهم وغرباء عن مجتمعهم... ويفقدون بالتدريج
القدرة على الإرادة التي هي أساس لكم نجاح وشرط من شروطه، ويتكرس في
روحهم نوع من الاضطراب والقلق.
وإذا لم يصمموا على إصلاح أنفسهم فورا، ولم يستعينوا عند الضرورة
والحاجة بالطبيب النفسي أو الطبيب الجسمي فسيغدو هذا العمل عندهم عادة
29

يصعب تركها، فمن وعلى كل حال، فإن أي وقت لترك هذا العمل القبيح لا يعد
خارجا عن أوانه، بل لابد من التصميم الجاد.
ولا ريب أن الحيرة والاضطراب النفسي قد يجر هؤلاء إلى استعمال المواد
المخدرة والمشروبات الكحولية، كما يجرهم إلى انحرافات أخلاقية أخرى،
وهذا بنفسه شقاء عظيم.
الطريف أننا نقرأ في الروايات الإسلامية عبارة موجزة وذات معنى كبير
تشير إلى هذه المفاسد، ومن هذه الروايات ما نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن رجلا
سأله: لم حرم الله اللواط؟ فقال سلام الله عليه: " من أجل أنه لو كان إيتان الغلام
حلالا لاستغني الرجال عن النساء وكان فيه قطع النسل وتعطيل الفروج وكان في
اجازة ذلك فساد كبير " (1).
وما يجدر ذكره أن أحد العقوبات الشرعية لهذا العمل أن الإسلام حرم
الزواج من أخت المفعول وأمه وبنته على الفاعل، أي إذا تحقق اللواط قبل
الزواج فعندئذ يحرم الزواج منهن حرمة مؤبدة.
وآخر ما ينبغي التذكير به هنا من المسائل الدقيقة، أن جر الأفراد إلى مثل
هذا الانحراف الجنسي له أسباب وعلل مختلفة، حتى من ضمنها أحيانا طريقة
التعامل والمعاشرة من قبل الوالدين مع أبنائهما، أو الغفلة عنهم وعدم مراقبة من
معهم من بني جنسهم، وطريقة معاشرتهم ومنامهم معا في بيت واحد، كل ذلك له
أثره الفاعل في هذا التلوث والانحراف.
نحن نقرأ في أحوال قوم لوط أن سبب انحرافهم وتلوثهم بهذا الذنب أنهم
كانوا قوما بخلاء، ولما كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمر بها قوافل الشام
ولم يكونوا ليرغبوا في استضافة العابرين من المسافرين، كانوا يوحون إليهم
بداية الأمر أنهم يريدون أن يعتدوا عليهم جنسيا ليفر منهم الضيوف والمسافرون،

1 - وسائل الشيعة، ج 14، ص 252.
30

ولكن هذا العمل أصبح بالتدريج مألوفا عندهم ونما عندهم الانحراف الجنسي
وبلغ عملهم حدا أنهم تلوثوا بالآثام من قرنهم إلى قدمهم (1).
وربما جر المزاح غير المناسب بين الذكور أو بين الإناث إلى هذا الانحراف،
فعلى كل حال، ينبغي ملاحظة هذه المسائل بدقة إنقاذ المنحرفين والملوثين بهذا
الذنب بسرعة، ويطلب من الله التوفيق في هذا السبيل.
3 أخلاق قوم لوط:
ونقرأ في الروايات والتواريخ الإسلامية أعمالا سيئة كانت عند قوم لوط
سوى الانحراف الجنسي المشار إليه، ومن هذه الأعمال ما ورد في " سفينة
البحار " حيث نقرأ ما يلي:
... قبل كانت مجالسهم، تشتمل على أنواع المناكير مثل الشتم والسخف
والصفع والقمار وضرب المخراق وخذف الأحجار على من مر بهم، وضرب
المعازف والمزامير وكشف العورات (2).
وواضح أن الانحراف في مثل هذه البيئة وأعمال السوء تأخذ أبعادا جديدة
كل يوم، وبغض النظر عن قبح الأعمال السيئة - أساسا - تبلغ الحال درجة لا يرى
عندها أي عمل في نظر تلك البيئة سيئا أو منكرا.
ويوجد في عصر تقدم العلوم من هم أشقى من قوم لوط حيث يسلكون
نفس ذلك السبيل وقد تصل أعمال هؤلاء المخزية إلى درجة ننسى عندها أعمال
قوم لوط....
* * *

1 - البحار، ج 12، ص 147.
2 - سفينة البحار، ص 517.
31

2 الآيات
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من
إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني
أخاف عليكم عذاب يوم محيط (84) ويقوم أوفوا المكيال
والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في
الأرض مفسدين (85) بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما
أنا عليكم بحفيظ (86)
2 التفسير
3 مدين بلدة شعيب...
مع انتهاء قصة قوم لوط تصل النوبة إلى قوم شعيب وأهل مدين، أولئك
الذين حادوا عن طريق التوحيد وهاموا على وجوههم في شركهم وعبادة
الأصنام، ولم يعبدوا الأصنام فحسب، بل الدرهم والدينار والثروة والمال، ومن
أجل ذلك فإنهم لوثوا تجارتهم الرابحة وكسبهم الوفير بالغش والبخس والفساد.
في بداية القصة تقول الآيات وإلى مدين أخاهم شعيبا وكلمة " أخاهم "
كما أشرنا إليها سابقا تستعمل في مثل هذا التعبير لبيان منتهى المحبة من قبل
32

الأنبياء لقومهم، لا لأنهم أفراد قبيلته وقومه فحسب، بل إضافة إلى ذلك فإنه يريد
الخير لهم. ويتحرق قلبه عليهم، فمثله مثل الأخ الودود.
و " مدين " على وزن " مريم " اسم لمدينة شعيب وقبيلته، وتقع المدينة شرق
خليج العقبة، وأهلها من أبناء إسماعيل، وكانوا يتاجرون مع أهل مصر ولبنان
وفلسطين.
ويطلق اليوم على مدينة " مدين " اسم " معان " ولكن بعض الجغرافيين
أطلقوا اسم مدين على الساكنين بين خليج العقبة وجبل سيناء.
وورد في التوراة أيضا اسم " مديان " ولكن تسمية لبعض القبائل، وطبيعي
أن اطلاق الاسم على المدينة وأهلها أمر رائج (1).
هذا النبي وهذا الأخ الودود المشفق على قومه - كأي نبي في أسلوبه
وطريقته في بداية الدعوة - دعاهم أولا إلى ما هو الأساس والعماد والمعتقد وهو
" التوحيد " وقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
لأن الدعوة إلى التوحيد دعوة إلى هزيمة جميع " الطواغيت " والسنن
الجاهلية ولا يتيسر أي إصلاح اجتماعي أو أخلاقي بدونه.
ثم أشار إلى أحد المفاسد الاقتصادية التي هي من افرازات عبادة الأصنام
والشرك، وكانت رائجة عند أهل مدين يومئذ جدا، وقال: ولا تنقصوا المكيال
أي حال البيع والشراء.
و " المكيال " و " الميزان " من أدوات الوزن يعرف بهما وزن المبيع ومقداره،
ونقصانه يعني عدم إيفاء حقوق الناس والبخس في البيع.
ورواج هذين الأمرين بينهم يدل على عدم النظم والحساب والميزان في
أعمالهم ونموذجا للظلم والجور والإجحاف في ذلك المجتمع الثري.
ويشير هذا النبي العظيم بعد هذا الأمر إلى علتين:

1 - أعلام القرآن، ص 573.
33

العلة الأولى: هي قوله إني أراكم بخير.
يقول أولا: إن قبول نصحي يكون سببا لتفتح أبواب الخير عليكم وتقديم
التجارة وهبوط سطح القيمة واستقرار المجتمع.
ويحتمل أيضا في تفسير هذه الجملة إني أراكم بخير أن شعيبا يقول لهم:
إني أراكم منعمين وفي خير كثير، فعلى هذا لا مدعاة لعبادة الأصنام وإضاعة
حقوق الناس والكفر بدلا من الشكر على نعم الله سبحانه.
وثانيا: وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط بسبب إصراركم على الشرك
والتطفيف في الوزن وكفران النعمة... الخ.
وكلمة " محيط " جاءت صفة ليوم، أي يوم شامل ذو إحاطة، وشمول اليوم
يعني شمول العذاب والعقاب في ذلك اليوم، وهذا التعبير فيه إشارة إلى عذاب
الآخرة كما يشير إلى عقاب الدنيا الشامل.
فعلى هذا لا أنتم بحاجة إلى مثل هذه الأعمال، ولا ربكم غافل عنكم،
فينبغي اصلاح أنفسكم عاجلا.
والآية الأخرى تؤكد على نظامهم الاقتصادي، فإذا كان شعيب قد نهى قومه
عن قلة البيع والبخس في المكيال، فهنا يدعوهم إلى إيفاء الحقوق والعدل
والقسط حيث يقول: ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط.
ويجب أن يحكم هذا الأصل " وهو إقامة القسط والعدل، وإعطاء كل ذي
حق حقه " على مجتمعكم بأسره.
ثم يخطو خطوة أوسع ويقول: ولا تبخسوا الناس أشياءهم و " البخس "
ومعناه في اللغة التقليل، وجاء هنا بمعنى الظلم أيضا. ويطلق على الأراضي
المزروعة دون سقي " إنها بخس " لأن ماءها قليل، حيث تعتمد على ماء المطر
فحسب، أو أن هذه الأراضي قليلة الإنتاج بالنسبة إلى الأراضي الزراعية
الأخرى.
34

وإذا توسعنا في معنى هذه الكلمة ومفهوم الجملة وجدناها دعوة إلى رعاية
جميع الحقوق الفردية والاجتماعية ولجميع الملل والنحل، ويظهر " بخس الحق "
في كل محيط وعصر وزمان بشكل معين حتى بالمساعدة دون عوض أحيانا،
والتعاون وإعطاء قرض معين (كما هي طريقة المستعمرين في عصرنا).
ونجد في نهاية الآية أن شعيبا يخطو خطوة أخرى أوسع ويقول لقومه: ولا
تعثوا في الأرض مفسدين.
فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الناس والاعتداء
على حقوق الآخرين، والفساد أيضا يقع في الإخلال بالموازين والمقاييس
الاجتماعية، ويقع أيضا ببخس الناس أشياءهم وأموالهم، وأخيرا يقع الفساد
على الحيثيات بالاعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس.
وجملة لا تعثوا معناها " لا تفسدوا " بدلالة ذكر مفسدين بعدها لمزيد
التوكيد على هذا الموضوع.
إن الآيتين المتقدمتين تعكسان هذه الواقعية بجلاء، وهي أنه بعد الاعتقاد
بالتوحيد والنظر الفكري الصحيح، ينظر إلى الاقتصاد السليم بأهمية خاصة، كما
تدلان على أن الإخلال بالنظام الاقتصادي سيكون أساسا للفساد الوسيع في
المجتمع.
ثم يخبرهم أن زيادة الثروة - التي تصل إلى أيديكم عن طريق الظلم
واستثمار الآخرين - ليست هي السبب في غناكم، بل ما يغنيكم هو بقية الله
خير لكم إن كنتم مؤمنين.
التعبير ب‍ بقية الله إما لأن الربح الحلال القليل المترشح عن أمر الله فهو
" بقية الله " وإما لأن الحصول على الرزق الحلال باعث على دوام نعم الله وبقاء
البركات... وإما لأنه يشير إلى الجزاء والثواب المعنوي الذي يبقى إلى الأبد. فإن
الدنيا فانية وما فيها لا محاله فان، وتشير الآية (46) من سورة الكهف:
والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا إلى هذا المضمون
35

أيضا. والتعبير بقوله: إن كنتم مؤمنين إشارة إلى أن هذه الواقعية لا يعرفها إلا
المؤمنون بالله وحكمته وفلسفة أوامره.
ونقرأ في روايات متعددة في تفسير بقية الله أن المراد بها وجود المهدي
عجل الله فرجه الشريف، أو بعض الأئمة الآخرين، ومن هذه الروايات ما نقل عن
الإمام الباقر (عليه السلام) في كتاب إكمال الدين:
" أول ما ينطق به القائم (عليه السلام) حين يخرج هذه الآية بقية الله خير لكم إن كنتم
مؤمنين ثم يقول: أنا بقية الله وحجته وخليفته عليكم، فلا يسلم عليه مسلم إلا
قال: السلام عليك يا بقية الله في أرضه " (1).
وقد قلنا مرارا إن آيات القرآن بالرغم من نزولها في موارد خاصة، إلا أنها
تحمل مفاهيم جامعة وكلية، بحيث يمكن أن تكون أثر مصداقا في العصور
والقرون التالية وتنطبق على مجال أوسع أيضا.
صحيح أن المخاطبين في الآية المتقدمة هم قوم شعيب، والمراد من بقية
الله هو الربح ورأس المال الحلال أو الثواب الإلهي، إلا أن كل موجود نافع باق
من قبل الله للبشرية، ويكون أساس سعادتها وخيرها يعد بقية الله أيضا.
فجميع أنبياء الله ورسله المكرمين هم بقية الله وجميع القادة الحق الذين
يبقون بعد الجهاد المرير في وجه الأعداء فوجودهم في الأمة يعد بقية الله
وكذلك الجنود المقاتلون إذا عادوا إلى ذويهم من ميدان القتال بعد انتصارهم على
الأعداء فهم " بقية الله " ومن هنا فإن " المهدي الموعود " (عليه السلام) آخر إمام وأعظم قائد
ثوري بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجلى مصاديق بقية الله وهو أجدر من سواه بهذا
اللقب، خاصة أنه الوحيد الذي بقي بعد الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
وفي نهاية الآية - محل البحث - نقرأ على لسان شعيب وما أنا عليكم
بحفيظ إذ وظيفته هي البلاغ وليس مسؤولا على " إجبار " أحد أبدا.
* * *

1 - نقلا عن تفسير الصافي، في شرح المتقدمة.
36

2 الآيات
قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا
أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لانت الحليم الرشيد (87)
قال يقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقني منه
رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهكم عنه إن أريد
إلا الأصلح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
وإليه أنيب (88) ويقوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل
ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صلح وما قوم لوط
منكم ببعيد (89) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم
ودود (90)
2 التفسير
3 المنطق الواهي:
والآن فلنر ما كان رد القوم اللجوجين إزاء نداء هذا المصلح السماوي
" شعيب ".
37

فبما إنهم كانوا يتصورون أن عبادة الأصنام من آثار سلفهم الصالح، ودلالة
على أصالة ثقافتهم، وكانوا لا يرفعون اليد عن الغش في المعاملة وتحقيق الربح
الوفير عن هذا الطريق قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد
آباؤنا ونترك حريتنا في التصرف بأموالنا فلا نستطيع الاستفادة منها أو أن
نفعل في أموالنا ما نشاء إن هذا بعيد منك إنك أنت الحليم الرشيد؟!
وهنا ينقدح هذا السؤال وهم لم سألوه عن الصلاة وأظهروا اهتمامهم بها؟!
قال بعض المفسرين: كان ذلك لأن شعيبا كان يكثر من صلاته ويقول
للناس:
إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكرات.
ولكن هؤلاء الأغبياء الذين لم يعرفوا السر والعلاقة بين الصلاة وترك
المنكرات، كانوا يسخرون من شعيب وكانوا يقولون له: أهذه الأذكار والأوراد
والحركات التي تقوم بها تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ونهمل سنة السلف وثقافتنا
التقليدية أو أن نسلب اختيارنا من التصرف بأموالنا كيف شئنا؟!
واحتمل البعض أن " الصلاة " إشارة إلى العقيدة والدين، لأنها عبارة عن
المظهر البارز للدين.
وعلى كل حال لو كان أولئك يفكرون جيدا لأدركوا هذا الأمر الواقعي وهو
أن الصلاة توقظ في الإنسان الإحساس بالمسؤولية والتقوى ومخافة الله ومعرفة
الحقوق، وتذكره بالله وبمحكمة عدل الله، وتنفض عن قلبه غبار حب الذات
وعبادة الذات! وتصرفه عن هذه الدنيا المحدودة والملوثة إلى عالم ما وراء
الطبيعة، إلى عالم الصالحات وتزكية النفس، ولذلك فهي تخلصه من الشرك
وعبادة الأصنام والتقليد الأعمى للسلف الجاهل وبخس الناس أشياءهم، وعن
أنواع الغش والخداع... الخ.
كما ينقدح هنا سؤال آخر، وهو: إن قولهم لشعيب إنك لأنت الحليم
38

الرشيد هل كان كلاما واقعيا من منطلق الإيمان به، أم هو على سبيل الاستهزاء
والسخرية؟!
احتمل المفسرون الوجهين ولكن مع ملاحظة أسلوب سؤالهم أصلاتك
تأمرك الذي يستبطن الاستهزاء، يظهر أن هذه الجملة على نحو الاستهزاء، وهي
إشارة إلى أن الإنسان الحليم الرشيد هو من لم يتعجل القول أو الرأي في أمر دون
أن يسبر غوره ويعرف كنهه، والإنسان العاقل الرشيد هو من لم يسحق سنن قومه
تحت رجليه ويسلب حريتهم في التصرف بأموالهم، فيظهر أنك لم تسبر غور
الأمور وليس لديك عقل حصيف وفكر عميق، لأن الفكر العميق والعقل يوجبان
على الإنسان ألا يرفع يده عن طريقة السلف، ولا يسلب من الآخرين الاختيار
وحرية العمل.
ولكن شعيبا رد على من اتهمه بالسفه وقلة العقل بكلام متين و قال يا قوم
أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا (1).
إنه يريد أن يفهم قومه أن في عمله هذا هدفا معنويا وإنسانيا وتربويا، وأنه
يعرف حقائق لا يعرفها قومه، والإنسان دائما عدو ما جهل.
ومن الطريف أنه في هذه الآيات يكرر عبارة يا قوم وذلك ليعبئ
عواطفهم لقبول الحق وليشعرهم بأنهم منه وأنه منهم، سواء أكان المقصود بالقوم
القبيلة أو الطائفة أو الجماعة أو الأسرة، أم كان المقصود الجماعة التي كان يعيش
وسطهم ويعد جزءا منهم.
ثم يضيف هذا النبي العظيم قائلا: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم
عنه فلا تتصوروا أنني أقول لكم لا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تنقصوا
المكيال، وأنا أبخس الناس أو أنقص المكيال، أو أقول لكم لا تعبدوا الأوثان وأنا

1 - ينبغي الالتفات إلى أن جزاء الجملة الشرطية محذوف هنا وتقديره هكذا، أفأعدل مع ذلك عما أنا عليه من عبادته
وتبليغ دينه.
39

أفعل ذلك كله، كلا فإنني لا أفعل شيئا من ذلك أبدا.
ويستفاد من هذه الجملة أنهم كانوا يتهمون شعيبا بأنه كان يريد الربح لنفسه،
ولهذا فهو ينفي هذا الموضوع صراحة ويقول تعقيبا على ما سبق إن أريد إلا
الإصلاح ما استطعت.
وهذا هو هدف الأنبياء جميعا، حيث كانوا يسعون إلى إصلاح العقيدة،
وإصلاح الأخلاق، وإصلاح العمل، وإصلاح العلائق والروابط الاجتماعية
وأنظمتها وما توفيقي إلا بالله للوصول إلى هذا الهدف.
وعلى هذا فإنني، ولأجل أداء رسالتي والوصول إلى هذا الهدف الكبير
عليه توكلت وإليه أنيب.
وأسعى للاستعانة به على حل المشاكل، وأتوكل عليه في تحمل الشدائد في
هذا الطريق، وأعود إليه أيضا.
ثم ينبههم إلى مسألة أخلاقية، وهي أنه كثيرا ما يحدث للإنسان أنه لا يعرف
مصالحه وينسى مصيره، وذلك بسبب بغضه وعدائه بالنسبة لشخص آخر أو
التعصب الأعمى واللجاجة في شئ ما، فيقول لهم ويا قوم لا يجرمنكم
شقاقي فتبتلوا بما ابتلى به غيركم و أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو
قوم هود أو قوم صالح وما حدث لقوم لوط من البلاء العظيم حيث أمطرهم الله
بحجارة من سجيل منضود وقلب مدنهم فجعل عاليها سافلها وما قوم لوط
منكم ببعيد فلا زمانهم بعيد عنكم كثيرا، ولا مكان حياتهم، كما أن أعمالكم
وذنوبكم لا تقل عن أعمالهم وذنوبهم أيضا.
و " مدين " التي كانت موطن شعيب لم تكن بعيدة عن موطن قوم لوط، لأن
الموطنين كلاهما كانا من مناطق " الشامات " وإذا كان بينهما فاصل زمني، فلم
يكن الفاصل بالمقدار الذي يستدعي نسيان تأريخه، وأما من الناحية العملية
فالفرق كبير بين الانحراف الجنسي الذي كان عليه قوم لوط والانحراف
40

الاقتصادي الذي كان عليه قوم شعيب، لكن كليهما يتشابهان في توليد الفساد في
المجتمع والإخلال بالنظام الاجتماعي وإماتة الفضائل الخلقية وإشاعة
الانحراف، ومن هنا نجد في الروايات أحيانا مقارنة الدرهم الربوي المرتبط -
بالطبع - بالمسائل الاقتصادية بالزنا الذي هو تلوث جنسي (1).
ثم يأمر شعيب قومه الضالين بشيئين هما في الواقع ما كان يؤكد عليه جميع
الأنبياء المتقدمين.
الأول: قوله: واستغفروا ربكم أي لتطهروا من الذنوب وتجتنبوا الشرك
وعبادة الأوثان والخيانة في المعاملات.
والثاني: قوله: ثم توبوا إليه أي ارجعوا إليه.
والواقع أن الاستغفار توقف في مسير الذنب وغسل النفس، والتوبة عودة
إلى الله الكمال المطلق.
واعلموا أنه مهما يكن الذنب عظيما والوزر ثقيلا فإن طريق العودة إليه
تعالى مفتوح وذلك لأن ربي رحيم ودود.
وكلمة " الودود " صيغة مبالغة مشتقة من الود ومعناه المحبة، وذكر هذه
الكلمة بعد كلمة " رحيم " إشارة إلى أن الله يلتفت بحكم رحمته إلى المذنبين
التائبين، بل هو إضافة إلى ذلك يحبهم كثيرا لأن رحمته ومحبته هما الدافع لقبول
الاستغفار وتوبة العباد.
* * *

1 - ينبغي ذكر هذه المسألة أيضا وهي أن جملة لا يجرمنكم ذات احتمالين:
الأول: بمعنى لا يحملنكم، ففي هذه الصورة تكون على النحو التالي لا يجرمن فعل و شقاقي فاعله، و " كم " الضمير
المتصل بالفعل مفعول به أول و أن يصيبكم مصدر مؤول مفعول ثان فيكون معنى الآية: يا قوم لا يحملنكم شقاقي
(مخالفتكم إياي) أن يصيبكم مصير كمصير قوم نوح وأمثالهم من الأقوام المذكورين.
الاحتمال الثاني: أن لا يجرمنكم أي لا يجرنكم إلى الذنب والإجرام، ففي هذه الصورة تكون الجملة على النحو
التالي، و " لا يجرمن " فعل و شقاقي فاعله و " كم " مفعوله و أنى يصيبكم نتيجته، ويكون معنى الآية كما ذكرناه
في المتن.
41

2 الآيات
قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا
ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز (91) قال
يقوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا
إن ربى بما تعملون محيط (92) ويقوم اعملوا على مكانتكم
إني عمل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو
كذب وارتقبوا إني معكم رقيب (93)
2 التفسير
3 التهديدات المتبادلة بين شعيب وقومه:
إن شعيبا هذا النبي العظيم الذي لقب بخطيب الأنبياء (1) لخطبة المعروفة
والواضحة، والتي كانت أفضل دليل أمين للحياة المادية والمعنوية لهذه الجماعة،
واصل محاججته لقومه بالصبر والأناة والقلب المحترق، ولكن تعالوا لنرى كيف
رد عليه هؤلاء القوم الضالون؟!
لقد أجابوه بأربع جمل كلها تحكي عن جهلهم ولجاجتهم:

1 - سفينة البحار، مادة: شعيب.
42

فأولها: أنهم قالوا: يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول... فكلامك أساسا
ليس فيه أول ولا آخر، وليس فيه محتوى ولا منطق قيم لنفكر فيه ونتدبره وليس
لديك شئ نجعله ملاكا لعملنا، فلا ترهق نفسك أكثر! وامض إلى قوم غيرنا...
والثانية: قولهم وإنا لنراك فينا ضعيفا فإذا كنت تتصور أنك تستطيع
إثبات كلماتك غير المنطقية بالقدرة والقوة فأنت غارق في الوهم.
والثالثة: هي أنه لا تظن أننا نتردد في القضاء عليك بأبشع صورة خوفا منك
ومن بأسك، ولكن احترامنا لعشيرتك هو الذي يمنعنا من ذلك ولولا رهطك
لرجمناك!
والطريف أنهم عبروا عن قبيلة شعيب: ب‍ " الرهط " وهذه الكلمة تطلق في
لغة العرب على الجماعة التي مجموع أنصارها ثلاثة إلى سبعة، أو عشرة، أو على
قول. وهو الحد الأكثر - تطلق على أربعين نفرا.
وهم يشيرون بذلك إلى أن قبيلتك تتمتع بالقوة الكافية مقابل قوتنا، ولكن
تمنعنا أمور أخرى، وهذا يشبه قول القائل: لولا هؤلاء الأربعة من قومك
وأسرتك لأعطيناك جزاءك بيدك. في حين أن قومه وأسرته ليسوا بأربعة، بل
المراد بيان هذه المسألة، وهي أنهم لا أهمية لقدرتهم في نظر القائل.
وقولهم الأخير: وما أنت علينا بعزيز فمهما كانت منزلتك في عشيرتك،
ومهما كنت كبيرا في قبيلتك إلا أنه لا منزلة لك عندنا لسلوكك المخالف
والمرفوض.
ولكن شعيبا دون أن يتأثر بكلماتهم الرخيصة واتهاماتهم الواهية أجابهم
بمنطقه العذب وبيانه الشائق متعجبا وقال: يا قوم أرهطي أعز عليكم من
الله أفتذروني من أجل رهطي وقبيلتي التي لا تتجاوز عدة أنفار ولا ينالني
منكم سوء، فلم لا تصغون لكلامي في الله؟ وهل يمكن أن نقارن عدة أفراد بعظمة
43

الله سبحانه... وأنتم لم تهابوه وتوقروه واتخذتموه وراءكم ظهريا (1).
وفي الختام يقول لهم: لا تظنوا أن الله غافل عنكم أو أنه لا يرى أعمالكم ولا
يسمع كلامكم، بل إن ربي بما تعلمون محيط.
إن المتحدث البليغ هو من يستطيع أن يعرف موقفه من بين جميع المواقف
إلى الطرف المقابل ويشخصه من خلال أحاديثه.
فحيث أن المشركين من قوم شعيب هددوه في آخر كلامهم بالرجم، وأبرزوا
قوتهم أمامه، كان موقف شعيب من تهديداتهم على النحو التالي: ويا قوم
اعملوا على مكانتكم (2) إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه
وارتقبوا إني معكم رقيب (3). أي انتظروا لتنتصروا علي بقواكم وجماعتكم
وأموالكم، وأنا منتظر أيضا أن يصيبكم الله بعذابه ويهلككم جميعا.
* * *

1 - هناك في اللغة العربية أسلوب يستعمل عند عدم الاعتناء بشئ ما وذلك على نحو الكناية فيقال مثلا " جعلته تحت
قدمي " أو يقال مثلا " جعلته دبر أذني " أو " جعلته وراء ظهري " أو " جعلته ظهريا " و " الظهر " على زنة " قهر "، والياء بعده
ياء النسبة وإنما كسرت الظاء فذلك لما يطرأ على الاسم المنسوب من تغيرات.
2 - المكانة: مصدر أو اسم مصدر ومعناه القدرة على الشئ.
3 - الرقيب: معناه الحافظ والمراقب وهو مشتق في الأصل من الرقبة وإنما سمي بذلك لأنه يكون حافظا على رقبة
شخص ما " كناية عن أنه مراقب على روحه " أو يحرك الرقبة ليؤدي دور الرقابة والحفظ.
44

2 الآيتان
ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا
وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديرهم
جاثمين (94) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت
ثمود (95)
2 التفسير
3 عاقبة المفسدين في مدين:
قرأنا في قصص الأقوام السابقين مرارا، أن الأنبياء كانوا في المرحلة الأولى
يدعونهم إلى الله ولم يألوا جهدا في النصيحة والإبلاغ وبيان الحجة، وفي
المرحلة التي بعدها حيث لم ينفع النصح للجماعة ينذرها نبيها ويخوفها من
عذاب الله، ليعود إلى طريق الحق من فيه الاستعداد ولتتم الحجة عليهم، وفي
المرحلة الثالثة، وبعد أن لم يغن أي شئ مما سبق - تبدأ مرحلة التصفية وتطهير
الأرض، وينزل العقاب فيزيل الأشواك من الطريق.
وفي شأن قوم شعيب - أي أهل مدين - وصل الأمر إلى المرحلة النهائية
أيضا، إذ يقول القرآن الكريم فيهم: ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا
45

معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة.
" الصيحة " كما قلنا سابقا معناها في اللغة كل صوت عظيم، والقرآن الكريم
يحكي عن هلاك أقوام متعددين بالصيحة السماوية، هذه الصيحة يحتمل أن
تكون صاعقة من السماء أو ما شابهها، وكما بينا في قصة ثمود " قوم هود " قد
تبلغ الأمواج الصوتية حدا بحيث تكون سببا لهلاك جماعة من الناس.
ثم يعقب القرآن فيقول: فأصبحوا في ديارهم جاثمين أي: أجسادا هامدة
بلا روح، لتبقى أجسادهم هناك عبرة لمن اعتبر...
وهكذا طوي سجل وطومار حياتهم كأن لم يغنوا فيها. وانطفأ بريق كل
شئ، فلا ثروة ولا قصور ولا ظلم ولا زينة كل ذلك تلاشى وانعدم.
وكما كانت نهاية عاد وثمود - وقد حكى عنهما القرآن - فهو يقول عن نهاية
مدين أيضا ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود.
وواضح أن المقصود من كلمة " مدين " أهل مدين الذين كانوا بعيدين عن
رحمة الله وكانوا من الهالكين.
3 دروس تربوية في قصة شعيب:
إن أفكار الأنبياء والوقائع التي جرت للأقوام السابقة تستلهم منها الأجيال
التي بعدها، لأن تجارب حياة أولئك الأقوام هي التي تمخضت عن عشرات
السنين أو مئات السنين... ثم نقلت إلينا في عدة صفحات من " التاريخ " وكل فرد
منا يستطيع أن يستلهم العبر في حياته.
قصة هذا النبي العظيم " شعيب " فيها دروس كثيرة، ومن هذه الدروس ما
يلي:
46

3 1 - أهمية المسائل الاقتصادية
قرأنا في هذه القصة أن شعيبا دعا قومه بعد التوحيد إلى الحق والعدالة في
الأمور المالية والتجارية، وهذا نفسه يدل على أن المسائل الاقتصادية في
المجتمع لا يمكن تجاوزها وتهميشها. كما يدل على أن الأنبياء لم يؤمروا
بالمسائل الأخلاقية فحسب، بل كانت دعوتهم تشكل " الإصلاح "... إصلاح
الوضع الاجتماعي غير الجيد، وإصلاح الوضع الاقتصادي كذلك، حيث كانت
هذه الأمور من أهم الأمور - عند الأنبياء - بعد التوحيد.
3 2 - لا ينبغي التضحية بالأصالة من أجل التعصب
كما قرأنا في هذه القصة فإن أحد العوامل التي دعت إلى سقوط هؤلاء في
أحضان الشقاء أنهم نسوا الحقائق لحقدهم وعدائهم الشخصي، في حين أن
الإنسان العاقل والواقعي ينبغي أن يتقبل الحق من كل أحد حتى ولو كان من
عدوه.
3 3 - الصلاة تدعو إلى التوحيد والتطهير
لقد سأل شعيبا قومه أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل
في أموالنا ما نشاء وأن نترك الغش وعدم إيفاء الميزان حقه. فلعلهم كانوا
يتصورون متساءلين: إن هذه الأذكار والأدعية ما عسى أن تؤثر في هذه الأمور؟
على حين أننا نعرف أن أقوى علاقة ورابطة هي العلاقة الموجودة بين الصلاة
وهذه الأمور، فإذا كانت الصلاة بمعناها الواقعي أي مع حضور الانسان بجميع
وجوده أمام الله فإن هذا الحضور معراج التكامل وسلم الصعود في تربية روحه
ونفسه، والمطهر لصدأ ذنوبه ورين قلبه وهذا الحضور يقوي إرادته ويجعل عزمه
راسخا وينزع عنه غروره وكبرياءه.
47

3 4 - النظرة الذاتية (الأنانية) رمز للجمود!
لقد كان قوم شعيب - كما عرفنا في الآيات السابقة - أفرادا أنانيين
و " ذاتيين " إذ كانوا يتصورون أنفسهم ذوي فهم، وأن شعيبا يجهل الأمور!! وكانوا
يسخرون منه ويعدون كلامه بلا محتوى ويرونه ضعيفا، وهذه النظرة الضيقة
والأنانية صيرت سماء حياتهم مظلمة ورمت بهم إلى هاوية الهلاك.
ليس الإنسان وحده - بل حتى الحيوان - إذا كان " أنانيا " ذا نظرة ضيقة فإنه
سيتوقف في الطريق!!
يقال إن فارسا وصل إلى نهر وأراد عبوره ولكنه لاحظ بتعجب أن الفرس
غير مستعدة أن تعبر النهر الصغير والقليل العمق، وكلما ألح على الفرس لكي تعبر
لم يفلح، فمر به رجل حكيم، فقال له: حرك ماء النهر ليذهب فإن المشكلة
ستنحل. ففعل ذلك فعبرت الفرس النهر بكل هدوء!! فسأل الحكيم عن السر في
ذلك، فقال: حين كان الماء صافيا كانت صورة الفرس في الماء فلم يرق للفرس
أن تطأ نفسها، وحين اختلط الماء بالطين ذهبت الصورة ونسيت الفرس صورتها
فعبرت بكل بساطة!
3 5 - تلازم الإيمان والعمل
لا يزال الكثيرون يتصورون أنه يمكن للمسلم أن يكون بالعقيدة وحدها
مسلما حتى وإن يقم بأي عمل، وما يزال الكثيرون يريدون من الدين ألا يكون
مانعا لرغباتهم وميولهم، ويريدون أن يكونوا أحرارا بوجه مطلق.
قصة شعيب تدلنا على أن قومه كانوا يريدون مثل هذا المنهج، لذلك كانوا
يقولون له: نحن غير مستعدين أن نترك ما كان عليه السلف من عبادة الأصنام،
ولا نفقد حريتنا في التصرف بأموالنا ما نشاء.
لقد نسي أولئك أن ثمرة شجرة الإيمان - أساسا - هي العمل، وكان نهج
48

الأنبياء أن يصلحوا الانحرافات العملية للإنسان ويسددوا خطواته، وإلا فإن
شجرة بلا ثمر وورق وفائدة عملية لا تستحق إلا أن تحرق!
نحن اليوم - وللأسف - نرى بعض المسلمين قد غلب عليهم هذا الطراز من
الفكر، وهو أن الإسلام عبارة عن عقائد جافة لا تتعدى حدود المسجد، فما داموا
في المسجد فهي معهم، وإذا خرجوا ودعوها فيه!! فلا تجد أثرا لإسلامهم في
السوق أو الإدارات أو المحيط.
إن السير في كثير من الدول الإسلامية - حتى الدول التي كانت مركزا
لانتشار الإسلام - يكشف لنا هذا الواقع المرير، وهو أن الإسلام منحصر في حفنة
من " الاعتقادات وعدد من العبادات عديمة الروح " لا تجد فيها أثرا عن المعرفة
والعدالة الاجتماعية والنمو الثقافي والأخلاق الإسلامية....
ولكن - لحسن الحظ - نرى في ضمن هذه الصحوة الاسلامية ولا سيما بين
الشباب تحرك نحو الإسلام الصحيح والممازجة بين الإيمان والعمل، فلا تكاد
تسمع في هذا الوسط مثل هذا الكلام " ما علاقة الإسلام بأعمالنا؟! " أو أن
" الإسلام مرتبط بالقلب لا بالحياة والمعاش " وما إلى ذلك.
الأطروحة التي نسمعها من بعض المنحرفين بقولهم: نحن نستوحي عقيدتنا
من الإسلام واقتصادنا من ماركس، هي شبيهة بطريقة تفكير قوم شعيب الضالين
وهي محكومة مثلها أيضا، ولكن هذا الانفصال أو التفرقة بين العمل والإيمان
كان موجودا منذ القدم ولا يزال، وينبغي أن نكافح مثل هذا التفكير!
3 6 - الملكية غير المحدودة أساس الفساد
لقد كان قوم شعيب واقعين في مثل هذا الخطأ حيث كانوا يتصورون أنه من
الخطأ القول بتحديد التصرف بالأموال من قبل مالكيها، ولذلك تعجبوا من شعيب
وقالوا له: أمثلك وأنت الحليم الرشيد يمنعنا من التصرف بأموالنا ويسلب حريتنا
49

منها، إن هذا الكلام سواء كان على نحو الحقيقة والواقع، أم كان على نحو
الاستهزاء، يدل على أنهم كانوا يرون تحديد التصرف بالمال دليلا على عدم العقل
والدارية.
في حين أنهم كانوا على خطأ كبير في تصورهم هذا... إذ لو كان الناس
أحرارا في التصرف بأموالهم لعم المجتمع الفساد والشقاء، فيجب أن تكون
الأمور المالية تحت ضوابط صحيحة ومحسوبة كما عرضها الأنبياء على الناس،
وإلا فستجر الحرية المطلقة المجتمع نحو الانحراف والفساد.
3 7 - هدف الأنبياء هو الإصلاح
لم يكن هذا الشعار: إن أريد إلا الإصلاح شعار شعيب فحسب، بل هو
شعار جميع الأنبياء وكل القادة المخلصين، وإن أعمالهم وأقوالهم شواهد على
هذا الهدف. فهم لم يأتوا لإشغال الناس، ولا لغفران الذنوب، ولا لبيع الجنة، ولا
لحماية الأقوياء وتخدير الضعفاء من الناس، بل كان هدفهم الإصلاح بالمعنى
المطلق والوسيع للكلمة... الإصلاح في الفكر، الإصلاح في الأخلاق، الإصلاح
في النظم الثقافية والاقتصادية والسياسية للمجتمع، والإصلاح في جميع أبعاد
المجتمع.
وكان اعتمادهم ودعامتهم على تحقق هذا الهدف هو الله فحسب ولهذا لم
يخافوا من التهديدات والمؤامرات كما قال شعيب وما توفيقي إلا بالله عليه
توكلت وإليه أنيب.
* * *
50

2 الآيات
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطن مبين (96) إلى فرعون
وملأه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد (97) يقدم
قومه يوم القيمة فأوردهم النار وبئس الورد المورود (98)
وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيمة بئس الرفد المرفود (99)
2 التفسير
3 البطل المبارز لفرعون:
بعد انتهاء قصة شعيب وأهل مدين، يشير القرآن الكريم إلى زاوية من قصة
موسى ومواجهته لفرعون وهذه القصة هي القصة السابعة من قصص الأنبياء في
هذه السورة.
تحدث القرآن الكريم عن قصة موسى (عليه السلام) وفرعون وبني إسرائيل أكثر من
مائة مرة.
وخصوصية قصة موسى (عليه السلام) بالنسبة لقصص الأنبياء - كشعيب وصالح وهود
ولوط (عليهم السلام) التي قرأناها في ما سبق - هي أن أولئك الأنبياء (عليهم السلام) واجهوا الأقوام
الضالين، لكن موسى (عليه السلام) واجه إضافة إلى ذلك حكومة " ديكتاتور " طاغ مستبد
51

هو فرعون الجبار.
وأساسا فإن الاصلاح ينبغي أن يبدأ من الأصل والمنبع، وطالما هناك
حكومات فاسدة فلن يبصر أي مجتمع وجه السعادة، وعلى القادة الإلهيين في
مثل هذه المجتمعات أن يدمروا مراكز الفساد قبل كل شئ.
ولكن ينبغي الالتفات إلى أننا نقرأ في هذا القسم من قصة موسى زاوية
صغيرة فحسب ولكنها في الوقت ذاته تحمل رسالة كبيرة للناس جميعا.
يقول القرآن الكريم أولا: ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين.
" السلطان " بمعنى التسلط، يستعمل تارة في السلطة الظاهرية، وأحيانا في
السلطة المنطقية، السلطة التي تحاصر المخالف في طريق مسدود بحيث لا يجد
طريقا للفرار.
ويبدو في الآية المتقدمة أن " السلطان " استعمل في المعنى الثاني، والمراد ب‍
" الآيات " هي معاجز موسى الجليلة، وللمفسرين احتمالات أخرى في هاتين
الكلمتين.
وعلى كل حال فإن موسى أرسل بتلك المعجزات القاصمة وذلك المنطق
القوي إلى فرعون وملئه.
وكما قلنا مرارا فإن كلمة " الملأ " تطلق على الذين يملأ مظهرهم العيون
بالرغم من خلو المحتوى الداخلي، وفي منطق القرآن تطلق هذه الكلمة غالبا
على الوجوه والأشراف والأعيان الذين يحيطون بالمستكبرين وبالقوى الظالمة
.. إلا أن جماعة فرعون الذين وجدوا منافعهم مهددة بالخطر بسبب دعوة موسى،
فإنهم لم يكونوا مستعدين للاستجابة.. لمنطقه الحق ومعجزاته فاتبعوا أمر
فرعون. ولكن فرعون ليس من شأنه هداية الناس إلى الحياة السعيدة أو ضمان
نجاتهم وتكاملهم: وما أمر فرعون برشيد.
إن هذا نجاح فرعون هذا لم يحصل بسهولة، فقد استفاد من كل أنواع السحر
52

والخداع والتآمر والقوى لتقدم أهدافه وتحريك الناس ضد موسى (عليه السلام)، ولم يترك
في هذا السبيل أي نقطة نفسية بعيدة عن النظر، فتارة كان يقول: إن موسى يريد
أن يخرجكم من أرضكم. (1)
وأخرى كان يقول: إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض
الفساد. (2) فيحرك مشاعرهم وأحاسيسهم المذهبية.
وأحيانا كان يتهم موسى، وأخرى كان يهدده، وأحيانا يبرز قوته وشوكته
بوجه الناس في مصر، أو يدعي الدهاء في قيادته بما يضمن الخير والصلاح لهم.
ويوم الحشر حين يأتي الناس عرصات القيامة فإن زعماؤهم وقادتهم في
الدنيا هم الذين سيقودوهم هناك حين يرى فرعون هناك: يقدم قومه يوم
القيامة وبدلا من أن ينقذهم ويخلصهم من حرارة المحشر وعطشه يوصلهم إلى
جهنم فأوردهم النار وبئس الورد المورود فبدلا من أن يسكن عطش اتباعه
هناك يحرق وجودهم وبدلا من الإرواء يزيدهم ظمأ إلى ظمأ.
مع ملاحظة أن " الورود " في الأصل معناه التحرك نحو الماء والاقتراب منه،
ولكن الكلمة أطلقت لتشمل الدخول على كل شئ وتوسع مفهومها.
و " الورد " هو الماء يرده الإنسان، وقد يأتي بمعنى الورود أيضا.
و " المورود " هو الماء الذي يورد عليه، ف‍ " هم " اسم مفعول، فعلى هذا يكون
معنى الجملة بئس الورد والمورود (3) على النحو التالي: النار بئس ماؤها ماء
حين يورد عليه.
ويلزم ذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أن العالم بعد الموت - كما قلنا سابقا -

1 - الأعراف، 110.
2 - غافر، 22.
3 - هذا الجملة من حيث التركيب النحوي يكون إعرابها كالتالي: " بئس " من أفعال الذم، وفاعله " الورد " و " المورود "
صفة، والمخصوص بالذم " النار " التي حذفت من الجملة، واحتمل البعض أن المخصوص بالذم هو كلمة " المورود " فعلى
هذا لم يحذف من الجملة شئ، إلا أن الأول أقوى كما يبدو.
53

عالم " تتجسم فيه أعمالنا وأفعالنا " الدنيوية بمقياس واسع، فالشقاء والسعادة في
ذلك العالم نتيجة أعمالنا في هذه الدنيا، فالاشخاص الذين كانوا في هذه الدنيا
قادة الصلاح يقودون الناس إلى الجنة والسعادة في ذلك العالم، والذين كانوا قادة
للظالمين والضالين وأهل النار يسوقونهم إلى جهنم يتقدمونهم هناك!
ثم يقول القرآن: واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة. فأسماؤهم الذليلة
تثبت على صفحات التاريخ أبدا على أنهم قوم ضالون وجبابرة، فقد خسروا
الدنيا والآخرة وساءت النار لهم عطاء وجزاء وبئس الرفد المرفود (1).
و " الرفد " في الأصل معناه الإعانة على القيام بعمل معين، وإذا أرادوا أن
يسندوا شيئا إلى شئ آخر عبروا عن ذلك بالرفد، ثم أطلقت هذه الكلمة على
العطاء لأنه إعانة من قبل المعطي إلى المعطى له!
* * *

1 - إعراب هذه الجملة كإعراب أختها السابقة.
54

2 الآيات
ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد (100)
وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم
التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك
وما زادوهم غير تتبيب (101) وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى
وهى ظلمة إن أخذه أليم شديد (102) إن في ذلك لاية لمن خاف
عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم
مشهود (103) وما نؤخره إلا لأجل معدود (104)
2 التفسير
في آيات هذه السورة تبيان لقصص سبعة أقوام من الأقوام السابقين
ولمحات من تأريخ أنبيائهم، وكل واحد منهم يكشف للإنسان قسما جديرا
بالنظر من حياته المليئة بالحوادث ويحمل بين جنبيه دروسا من العبرة للإنسان.
وهنا إشارة إلى جميع تلك القصص، فيتحدث القرآن عن صورة مستجمعة
لما مر من الحوادث والأنباء حيث يقول: ذلك من أنباء القرى نقصه عليك
منها قائم وحصيد.
55

وكلمة " قائم " تشير إلى المدن والعمارات التي لا تزال باقية من الأقوام
السابقين، كأرض مصر التي كانت مكان الفراعنة ولا تزال آثار أولئك الظالمين
باقية بعد الغرق، فالحدائق والبساتين وكثير من العمارات المذهلة قائمة بعدهم.
وكلمة " حصيد " معناها اللغوي قطع النباتات بالمنجل، وفي هذه الكلمة
إشارة إلى بعض الأراضي البائرة، كأرض قوم نوح وأرض قوم لوط، حيث أن
واحدة منهما دمرها الغرق والثانية أمطرت بالحجارة.
وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم حيث ركنوا ولجأوا إلى الأصنام
والآلهة " المزعومة " فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله لما جاء
أمر ربك بل زادوهم ضررا وخسرانا وما زادوهم غير تتبيب (1).
وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى وهي ظالمة فلا يدعها على حالها
و إن أخذه أليم شديد.
هذا قانون إلهي عام ومنهج دائم، فما من قوم أو أمة من الناس يتجاوزون
حدود الله ويمدون أيديهم للظلم ولا يكترثون لنصائح أنبيائهم ومواعظهم، إلا
أخذهم الله أخذا شديدا واعتصرتهم قبضة العذاب.
هذه الحقيقة تؤكد أن المنهاج السابق منهاج عمومي وسنة دائمة، وتستفاد
من آيات القرآن بصورة جيدة، وهي في الواقع إنذار لأهل العالم جميعا: أن لا
تظنوا أنكم مستثنون من هذا القانون، أو أن هذا الحكم مخصوص بالأقوام
السابقين.
والطبع فإن الظلم بمعناه الواسع يشمل جميع الذنوب، ووصفت القرية أو
المدينة بأنها " ظالمة " مع أن الوصف ينبغي أن يكون لساكنيها، فكأنما هناك
مسألة دقيقة وهي أن أهل هذه المدينة انغمسوا في الظلم إلى درجة حتى كأن
المدينة لها أصبحت مغموسة في الظلم أيضا.

1 - " التتبيب " مشتق من مادة " تب " ومعناه الاستمرار في الضرر، وقد يأتي بمعنى الهلاك أيضا.
56

وحيث أن هذا قانون كلي وعام فإن القرآن يقول مباشرة إن في ذلك لآية
لمن خاف عذاب الآخرة.
لان الدنيا لا تعد شيئا إزاء الآخرة، وجميع ما في الدنيا حقير حتى ثوابها
وعقابها، والعالم الآخر أوسع - من جميع النواحي - من هذه الدنيا. فالمؤمنين
بيوم القيامة يعتبرون لدى مشاهدة واحد من هذه المثل والنماذج في الدنيا،
ويواصلون طريقهم.
وفي ختام الآية إشارة إلى وصفين من أوصاف يوم القيامة حيث يقول
القرآن ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود.
هي إشارة إلى أن القوانين والسنن الإلهية كما هي عامة في هذا العالم، فإن
اجتماع الناس في تلك المحكمة الإلهية أيضا عام، وسيكون في زمان واحد
ويوم مشهود للجميع يحضره الناس كلهم ويرونه.
من الطريف هنا أن الآية تقول ذلك يوم مجموع له الناس ولم تقل
" مجموع فيه الناس " وهذا التعبير إشارة إلى أن يوم القيامة ليس ظرفا لاجتماع
الناس فحسب، بل هو هدف يمضي إليه الناس في مسيرهم التكاملي.
ونقرأ في الآية (9) من سورة التغابن يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم
التغابن.
وبما أن البعض قد يتوهم أن الحديث عن ذلك اليوم لم يحن أجله فهو نسيئة
وغير معلوم وقت حلوله، لهذا فإن القرآن يقول مباشرة: وما نؤخره إلا لأجل
معدود.
وذلك أيضا لمصلحة واضحة جلية ليرى الناس ميادين الاختبار والتعلم،
وليتجلى آخر منهج للأنبياء وتظهر آخر حلقة للتكامل الذي يمكن لهذا العالم أن
يستوعبها ثم تكون النهاية.
والتعبير بكلمة " معدود " إشارة إلى قرب يوم القيامة، لأن كل شئ يقع تحت
57

العد والحساب فهو محدود وقريب.
والخلاصة أن تأخير ذلك اليوم لا ينبغي أن يغتر به الظالمون، لأن يوم القيامة
وإن تأخر فهو آت لا محالة، وإن التعبير بتأخره أيضا غير صحيح.
* * *
58

2 الآيات
يوم يأت لاتكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد (105) فأما
الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق (106) خالدين فيها
ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال
لما يريد (107) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها
ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير
مجذوذ (108)
2 التفسير
3 السعادة الشقاوة:
أشير في الآيات المتقدمة إلى مسألة القيامة واجتماع الناس كلهم في تلك
المحكمة العظيمة... وهذه الآيات - محل البحث - بينت زاوية من عواقب الناس
ومصيرهم في ذلك اليوم، إذ تقول الآيات أولا: يوم يأتي لا تكلم نفس إلا
بإذنه.
قد يتصور أحيانا أن هذه الآية الدالة على تكلم الناس في ذلك اليوم بإذن
الله، تنافي الآيات التي تنفي التكلم هناك مطلقا، كالآية (65) من سورة يس
59

اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون،
وكالآية (35) من سورة المرسلات حيث نقرأ: هذا يوم لا ينطقون.
ولهذا السبب قال بعض المفسرين الكبار: إن التكلم هناك " يوم القيامة " لا
مفهوم له أساسا. لأن التكلم وسيلة لكشف باطن الأشخاص وداخلهم، ولو كان
لدينا إحساس نستطيع أن نطلع به على أفكار كل شخص لم يكن حاجة إلى
التكلم أبدا.
فعلى هذا لما كانت الأسرار وجميع الأشياء تنكشف " يوم القيامة " على
حالة " الظهور والبروز " فلا معنى للتكلم أصلا.
وببيان آخر: إن الدار الآخرة دار مكافأة وجزاء لا دار عمل، وعلى هذا فلا
معنى هناك لاختيار الإنسان وتكلمه حسب رغبته وإرادته، بل هو الإنسان
وعمله وما يتعلق به، فلو أراد التكلم فلا يكون كلامه عن اختيار وإرادة وحاكيا
عما في ضميره كما في الدنيا، بل كل ما يتكلم به هناك فهو نوع من الانعكاس عن
أعماله التي تظهر جلية ذلك اليوم. أي أن الكلام هناك ليس كالكلام في الدنيا
بحيث يستطيع الإنسان على حسب ميله أن يتكلم صادقا أو كاذبا.
وعلى كل حال فإن ذلك اليوم هو يوم كشف حقائق الأشياء وعودة الغيب
إلى الشهود، ولا شبه له بهذه الدنيا.
ولكن هذا الاستنتاج من الآية المتقدمة لا ينسجم مع ظاهر الآيات الأخرى
في القرآن، لأن القرآن يتحدث عن كثير من كلام المؤمنين والمجرمين والقادة
والجبابرة وأتباعهم، والشيطان والمنخدعين به، وأهل النار وأهل الجنة، بحيث
يدل على أن هناك كلاما كالكلام في هذه الدنيا أيضا.
حتى أن بعض الآيات يستفاد منها أن قسما من المجرمين يكذبون في ردهم
على بعض الأسئلة، كما هو مذكور في سورة الأنعام الآيات (22) إلى (24)
حيث تقول الآيات ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم
60

الذين كنتم تزعمون * ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين
* انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون.
فعلى هذا، من المستحسن أن يجاب على السؤال المتعلق بتناقض ظواهر
الآيات حول التكلم بما ذكره كثير من المفسرين، وهو أن الناس يقطعون في ذلك
اليوم مراحل مختلفة... وكل مرحلة لها خصوصياتها، ففي قسم من المراحل لا
يسألون أبدا حتى أن أفواههم يختم عليها فلا يتكلمون، وإنما تنطق أعضاء
أجسادهم التي حفظت آثار أعمالها بلغة من دون لسان، وفي المراحل الأخرى
يرفع الختم أو القفل عن أفواههم ويتكلمون بإذن الله فيعترفون بأخطائهم وذنوبهم
ويلوم المخطئون بعضهم بعضا، بل يحاولون أن يلقوا تبعات أوزارهم على
غيرهم.
ويشار في نهاية الآية إلى تقسيم الناس جميعا إلى طائفتين: طائفة
محظوظة، وأخرى بائسة تعيسة فمنهم شقي وسعيد.
و " السعيد " مشتق من مادة " السعادة " ومعناها توفر أسباب النعمة.
و " الشقي " مشتق من مادة " الشقاء " ومعناه توفر أسباب البلاء والمحنة.
فالسعداء - إذا - هم الصالحون الذين يتمتعون بأنواع النعم في الجنة
والأشقياء هم المسيئون الذين هم يتقلبون في أنواع العذاب والعقاب في جهنم.
وليس هذا الشقاء - على كل حال - وتلك السعادة سوى نتيجة الأعمال
والأقوال والنيات التي سلفت من الإنسان في الدنيا.
والعجيب أن بعض المفسرين يتخذون هذه الآية ذريعة لعقيدتهم الباطلة في
مجال الجبر، في حين أن الآية ليس فيها أقل دليل على هذا المعنى، بل هي
تتحدث عن السعداء والأشقياء في يوم القيامة وأنهم وصلوا جميعا بأعمالهم إلى
هذه المرحلة، ولعلهم توهموا هذه النتيجة من هذه الآية بالخلط بينها وبين بعض
الأحاديث التي تتكلم عن شقاء الإنسان أو سعادته وهو في بطن أمه قبل الولادة،
61

ولكن هذه المسألة ليس هنا مجالها إذ لها قصة أخرى وحديث طويل.
ثم تشرح الآيات حالات السعداء والأشقياء في عبارات موجزة وأخاذة
حيث تقول فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق وتضيف حاكية
عن حالهم أيضا: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك
أن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت
السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - هل أن السعادة والشقاوة ذاتيان؟
أراد البعض أن يثبت من الآيات المتقدمة - كما قلنا آنفا - كون السعادة
والشقاء ذاتيين، في حين أن الآيات المتقدمة لا تدل على هذا الأمر فحسب، بل
تثبت بوضوح كون السعادة والشقاء اكتسابيين، إذ تقول فأما الذين شقوا أو
تقول وأما الذين سعدوا فلو كان كل من الشقاء والسعادة ذاتيين لكان ينبغي
أن يقال " أما الأشقياء وأما السعداء " وما أشبه ذلك التعبير، ومن هنا يتضح بطلان
ما جاء في تفسير الفخر الرازي مما مؤداه: " إن هذه الآيات تحكم من الآن أن
جماعة في القيامة سعداء وجماعة أشقياء، ومن حكم الله عليه مثل هذا الحكم
ويعلم أنه في القيامة إما شقي أو سعيد، فمحال عليه أن يغير ذلك وإلا للزم - في
الآية - أن يكون ما أخبر الله به كذبا ويكون علمه جهلا!! وهذا محال ".... فكل
ذلك لا أساس له.
وهذا هو الإشكال المعروف على " علم الله " في مسألة الجبر والاختيار
والذي أجيب عليه قديما بأنه: إذا لم نرد تحميل أفكارنا وآراؤنا المسبقة على
آيات القرآن الكريم، فإن مفاهيمها تبدو واضحة، إن هذه الآيات تقول: يوم
62

يأتي يكون فيه جمع من الناس سعداء من خلال أعمالهم، وجمع آخر أشقياء
بسبب أعمالهم، والله سبحانه يعلم من الذي اختار طريق السعادة باختياره،
وبإرادته، ومن الذي خطا خطوات في مسير الشقاء بإرادته. وهذا المعنى يعطي
نتيجة معاكسة تماما لما ذكره الرازي حيث أن الناس إذا كانوا مجبورين على هذا
الطريق فإن علم الله سيكون جهلا (والعياذ بالله)، لأن الجميع اختاروا طريقهم
وانتخبوه بإرادتهم ورغبتهم.
الشاهد في الكلام أن الآيات المتقدمة تتحدث عن قصص الأقوام السابقين،
حيث عوقبت عقابا جماعة عظيمة منهم - بسبب ظلمهم وانحرافهم عن جادة
الحق والعدل، وبسبب التلوث بالمفاسد الأخلاقية الشديدة، والوقوف بوجه
الأنبياء والقادة الإلهيين - أليما في هذه الدنيا... والقرآن يقص علينا هذه القصص
من أجل إرشادنا وتربيتنا وبيان طريق الحق من الباطل، وفصل مسير السعادة
عن مسير الشقاء.
وإذا كنا - أساسا - كما يتصور الفخر الرازي ومن على شاكلته - محكومين
بالسعادة والشقاء الذاتيين، ونؤخذ دون إرادتنا بالسيئات أو الصالحات، فإن
" التعليم والتربية " سيكونان لغوا وبلا فائدة... ومجئ الأنبياء ونزول الكتب
السماوية والنصيحة والموعظة والتوبيخ والملامة والمؤاخذة والسؤال
والمحاكمة والثواب... كل ذلك يعد غير ذي فائدة، أو يعد ظلما.
الاشخاص الذين يرون الناس مجبورين على عمل الخير أو الشر، سواء كان
هذا الجبر جبرا إلهيا، أو جبرا طبيعيا، أو جبرا اقتصاديا، أو جبرا اجتماعيا
متطرفون في عقيدتهم هذه في كلامهم فحسب، أو في كتاباتهم، ولكنهم حتى
أنفسهم لا يعتقدون - عند العمل - بهذا الاعتقاد، ولهذا فلو وقع تجاوز على
حقوقهم فإنهم يرون المتجاوز مستحقا للتوبيخ والملامة والمحاكمة والمجازاة...
وليسوا مستعدين أبدا للإغضاء عنه بحجة أنه مجبور على هذا العمل وأن من
63

الظلم عقابه ومجازاته، أو يقولوا إنه لم يستطع أن لا يرتكب هذا العمل لأن الله
أراد ذلك، أو أن المحيط أجبره، أو الطبيعة... وهذا بنفسه دليل آخر على أن أصل
الاختيار فطري.
وعلى كل حال لا نجد للجبر مسلكا في أعمالنا اليومية يرتبط بهذه العقيدة،
بل أعمال الناس جميعا تصدر عنهم بصورة حرة ومختارة وهم مسؤولون عنها.
وجميع الأقوام في الدنيا يقبلون حرية الإرادة، بدليل تشكيل المحاكم والإدارات
القضائية لمحاكمة المتخلفين.
وجميع المؤسسات التربوية في العالم تقبل بهذا الأصل ضمنا، وهو أن
الإنسان يعمل بإرادته ورغبته، ويمكن بإرشاده وتعليمه وتربيته أن يتجنب
الأخطاء والاشتباهات والأفكار المنحرفة.
3 2 - واقع الانسان بين السعادة والشقاوة
الطريف أن لفظ " شقوا " في الآيات المتقدمة ورد بصيغة المبني للمعلوم،
ولفظ " سعدوا " (1) ورد بصيغة المبني للمجهول، ولعل في هذا الاختلاف في
التعبير إشارة لطيفة إلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أن الإنسان يطوي طريق
الشقاء بخطاه، ولكن لابد لطي طريق السعادة في الإمداد والعون الإلهي، وإلا فإنه
لا يوفق في مسيره، ولا شك أن هذا الإمداد والعون يشمل أولئك الذين يخطون
خطواتهم الأولى بإرادتهم واختيارهم فحسب وكانت فيهم اللياقة والجدارة لهذا
الإمداد. (فلاحظوا بدقة).

1 - " سعدوا " من مادة (سعد) وحسب رأي أصحاب اللغة فإن هذا الفعل لازم ولا يتعدى إلى مفعول، فعلى هذا ليست له
صيغة للمجهول، فاضطروا أن يقولوا: إنه مخفف من (أسعدوا) وبابه (الإفعال) ولكن كما ينقل الآلوسي في كتاب روح
المعاني في شرح الآية عن بعض أهل اللغة، أن الفعل الثلاثي من " سعد " يتعدى إلى المفعول أيضا - قالوا: سعده الله وهو
مسعود، فعلى هذا لا حاجة إلى أن نقول بأن (سعدوا) مخفف من " أسعدوا " " فتدبر ".
64

3 3 - مسألة الخلود في القرآن
معنى " الخلود " لغة البقاء الطويل، كما جاء بمعنى الأبد أيضا، فكلمة
" الخلود " لا تعني الأبد وحده لأنه تشمل كل بقاء طويل.
ولكن ذكرت في كثير من آيات القرآن مع قيود بفهم منها معنى الأبد، فمثلا
في الآية (100) من سورة التوبة، والآية (11) من سورة الطلاق، والآية (9) من
سورة التغابن، حين تذكر هذه الآيات أهل الجنة تأتي بالتعبير عنهم خالدين
فيها أبدا ومفهومها أبدية الجنة لهؤلاء، ما نقرأ في آيات القرآن الأخرى وصف
أهل النار كالآية (169) من سورة النساء، والآية (23) من سورة الجن هذا التعبير
أيضا خالدين فيها أبدا وهو دليل على عذابهم الأبدي.
وتعبيرات أخرى مثل الآية (3) من سورة الكهف ماكثين فيه أبدا والآية
(108) من سورة الكهف أيضا لا يبغون عنها حولا وأمثالها تدل بصورة
قطعية على أن طائفة من أهل الجنة وطائفة من أهل النار سيبقون في العذاب أو
النعمة.
ولم يستطع البعض أن يحل الإشكالات في الخلود والجزاء الأبدي، فاضطر
إلى الرجوع إلى معناه اللغوي وفسره بالبقاء الطويل، على حين أن تعابير كالتعابير
الواردة في الآيات المتقدمة لا تفسر بمثل هذا التفسير.
3 سؤال مهم:
هنا ترتسم في ذهن كل سامع علامة استفهام كبيرة، إذ كيف نتصور عدم
التعادل عند الله بين الذنب والعقاب؟! وكيف يمكن القبول بأن يقضي الإنسان كل
عمره الذي لا يتجاوز ثمانين سنة - أو مئة سنة على الأكثر بالعمل الصالح أو
بالإثم، ثم يثاب على ذلك أو يعاقب ملايين الملايين من السنين.
وهذا الأمر ليس مهما بالنسبة للثواب لأن الأجر والثواب كلما ازداد كان
دليلا على كرم المثيب والمعطي، فلا مجال للمناقشة في هذا الأمر.
65

ولكن السؤال يرد في العمل السئ والذنب والظلم والكفر، وهو: " هل
ينسجم العذاب الدائم مقابل ذنب محدود مع أصل العدل عند الله "؟ فالذي لم
تتجاوز مرحلة ظلمه وطغيانه وعناده في أقصى ما يمكن احتماله مئة سنة، كيف
يعذب في النار عذابا دائما؟ أفلا تقتضي العدالة أن يكون هناك نوع من التعادل؟
فمثلا يعاقب مئة سنة بمقدار أعماله السيئة.
3 الأجوبة غير المقنعة
إن تعقيد المسألة كان السبب في توجيه معاني آيات الخلود عند البعض
وتفسيرها بما لا يستفاد منه العقاب الدائم الذي هو على خلاف أصل العدالة في
عقيدتهم....
1 - ذهب البعض: إن المقصود ب‍ " الخلود " هو المعنى المجازي أو الكنائي
عنه، أي مدة وطويلة نسبيا، كما يقال مثلا لأولئك الذين يحكم عليهم بالسجن
طول عمره " محكوم عليه بالسجن المؤبد " مع أنه من المسلم به لا أبدية في
السجن حيث ينتهي السجن، مع انتهاء ويقال في العربية أيضا " يخلد في السجن "
وهو مأخوذ من الخلود في هذه الموارد.
2 - وقال آخرون: إن أمثال هؤلاء الطغاة والمعاندين الذين اكتنفت وجودهم
الآثام، فتحول وجودهم إلى ماهية الكفر أو الإثم، هؤلاء وإن بقوا في نار جهنم
دائمين، إلا أن جهنم لا تبقى على حالها، فسيأتي يوم تنطفي نارها. كأية نار
أخرى، ويعم أهل النار نوع من الهدوء والراحة.
3 - واحتمل آخرون أنه مع مرور الزمان وبعد معاناة العذاب الطويل ينسجم
أهل النار مع محيطهم، أي أنهم يتطبعون ويتعودون على هذا المحيط شيئا فشيئا
حتى تبلغ بهم الحالة ألا يحسوا بالعذاب والشقاء.
وبالطبع فإن الداعي إلى هذه التوجيهات هو عجزهم وعدم استطاعتهم أن
يحلوا مشكلة خلود العذاب ودوامه، وإلا فإن ظهور آيات الخلود في ديمومة
66

العذاب وبقائه غير قابلة للإنكار.
3 الحل النهائي للإشكال
ومن أجل حل هذا الإشكال ينبغي أن نعود إلى البحوث السالفة ونعالج
الاشتباهات الناشئة من قياس مجازاة يوم القيامة بالمجازاة الأخرى، ليعلم أن
مسألة الخلود لا تنافي عدالة الله أبدا.
ولتوضيح هذا البحث ينبغي الالتفات إلى ثلاثة أصول:
1 - إن العذاب الدائم - وكما أشرنا إليه من قبل - هو لأولئك الذين أوصدوا
أبواب النجاة بوجوههم، وأضحوا غرقى الفساد والانحراف عامدين، وغشى
الظل المشؤوم للإثم قلوبهم وأرواحهم فاصطبغوا بلون الكفر، وكما نقرأ عنهم في
سورة البقرة الآية (81) بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون.
2 - يخطئ من يتصور أن مدة العقاب وزمانه ينبغي أن تكون على قدر مدة
الإرثم وزمانه، لأن العلاقة بين الإثم والعقاب ليست علاقة زمانية بل كيفية، أي
أن زمان العقاب يتناسب مع كيفية الإثم لا مع زمانه.
فمثلا قد يقدم شخص في لحظة على قتل نفس محترمة، وطبقا لما في بعض
القوانين يحكم عليه بالحبس الدائم، فهنا نلاحظ أن زمن الإثم لحظة واحدة، في
حين أن العقاب قد يبلغ ثمانين سنة.
إذن المهم في الإثم هو " كيفيته " لا " كمية زمانه ".
3 - قلنا أن العقاب والمحاسبات في يوم القيامة لها أثر طبيعي للعمل
وخصوصية الذنب، وبعبارة أوضح: إن ما يجده المذنبون من ألم وأذى يوم القيامة
هو نتيجة أعمالهم التي أحاطت بهم في الدنيا.
نقرأ في القرآن كما في سورة يس الآية (54): فاليوم لا تظلم نفس شيئا
ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ونقرأ في الآية (33) من سورة الجاثية: وبدا
67

لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون وفي سورة القصص
الآية (84): فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون.
والآن وبعد أن اتضحت مقدمات هذه الأصول، فإن الحل النهائي لهذا
الإشكال لم يعد بعيدا، ويكفي للوصل إليه أن نجيب على الأسئلة التالية.
ولنفرض أن شخصا يبتلى بالقرحة المعدية نظرا لإدمانه على المشروبات
الكحولية لمدة سبعة أيام تباعا، فيكون مجبورا على تحمل الألم والأذى إلى
آخر عمره، ترى هل هذه المعادلة بين هذا العمل السئ ونتيجته مخالفة للعدالة؟!
ولو كان عمر هذا الإنسان (مكان الثمانين سنة) ألف سنة أو مليون سنة، ولأجل
نزوته النفسية بشرب الخمر أسبوعا يتألم طول عمره، ترى هل هذا التألم لمليون
سنة - مثلا - مخالف لأصل العدالة... في حين أنه أبلغ حال شرب الخمر بوجود
هذا الخطر وأعلم بنتيجته؟
ولنفرض أيضا أن سائق، سيارة لا يلتزم بأوامر المرور ومقرراته، والالتزام
بها ينفع الجميع قطعا ويقلل من الحوادث المؤسفة، لكنه يتجاهلها ولا يصغي
لتحذير أصدقائه... وفي لحظة قصيرة تقع له حادثة - وكل الحوادث تقع في
لحظه - ويفقد بذلك عينه أو يده أو رجله في هذه اللحظة. ونتيجة لما وقع يعاني
الألم سنين طويلة لفقده البصر أو اليد أو الرجل، فهل تتنافى هذه الظاهرة فيه مع
أصل عدالة الله؟!
ونأتي هنا بمثال آخر - والأمثلة تقرب الحقائق العقلية إلى الذهن وتهيئ
لنيل النتيجة النهائية - فلنفرض أننا نثرنا على الأرض عدة غرامات من بذور
الشوك، وبعد عدة أشهر أو عدة سنوات نواجه صحراء مليئة بالشوك الذي يدمي
أقدامنا وعلى العكس ننثر بذور الزهور - مع اطلاعنا - ولا تمر فترة حتى نواجه
خميلة مليئة بالأزهار العطرة، فهي تعطرنا وتنعش قلوبنا، فهل في هذه الأمور
التي هي آثار لأعمالنا منافاة لأصل العدالة في حين أنه لا مساواة بين كمية هذا
68

العمل ونتيجته؟
ومن مجموع ما بيناه نستنتج ما يلي:
حين يكون الجزاء والثواب نتيجة وأثرا لعمل المرء نفسه، فإن مسألة
المساواة من حيث الكمية والكيفية لا تؤخذ بنظر الاعتبار. فما أكثر ما يكون
العمل صغيرا في الظاهر، ولكنه يحول حياة الانسان إلى جحيم وعذاب وألم
طيلة العمر، وكذلك ما أكثر ما يكون العمل صغيرا في الظاهر، ولكنه يكون سببا
للخيرات والبركات طيلة عمر الإنسان!
ينبغي أن لا يتوهم أن المقصود من صغر العمل (من حيث مقدار الزمان) لأن
الأعمال والذنوب الداعية إلى خلود الإنسان في العذاب ليست صغيرة من حيث
الأهمية والكيفية.
فعلى هذا حين يحيط الذنب والكفر والطغيان والعناد بوجود الإنسان
ويحرق جميع أجنحته وريشه وروحه في نار ظلمه ونفاقه، فأي مكان للعجب
أن يحرم في الدار الآخرة من التحليق في سماء الجنة وأن يكون مبتلى هناك
بالعذاب والبلاء.
ترى أما حذروه وأبلغوه وأنذروه من هذا الخطر الكبير؟!
أجل فأنبياء الله من جهة، وما يأمره العقل من جهة أخرى... جميعا حذروه
بما يلزم، فهل كان ما أقدم عليه من دون اختياره فلقي هذا المصير، أم كان عن
علم وعمد واختيار؟ الحقيقة هو أنه كان عالما عامدا.
وكانت نفسه ونتيجة أعماله المباشرة قد ساقته إلى هذا المصير؟! بل إن كل
ما حدث له فهو من آثار أعماله!
فلهذا لم يبق مجال للشكوى، ولا إيراد أو إشكال مع أحد، ولا منافاة مع
قانون عدالة الله سبحانه.
69

3 4 - مفهوم الخلود في هذه الآيات
هل الخلود في الآيات - محل البحث - بمعنى البقاء الدائم؟! أو هو بالمعنى
اللغوي المراد منه المدة الطويلة؟
قال بعض المفسرين: بما أن الخلود مقيد هنا بقوله ما دامت السماوات
والأرض فإن الخلود ليس معناه البقاء الأبدي الدائم، لأن السماوات والأرض
لا أبدية لهما... وطبقا لصريح القرآن فإن يوما سيأتي تنطوي فيه السماوات
وتبدل الأرض إلى أرض أخرى. (1).
ولكن، مع ملاحظة أن مثل هذه التعابير في اللغة العربية يراد بها البقاء الدائم،
فالآيات - محل البحث - أيضا تبين الدوام.
فمثلا تقول العرب: هذا الأمر قائم ما لاح كوكب، أو ما كر الجديدان (الليل
والنهار) أو ما أضاء فجر، أو ما اختلف الليل والنهار، وأمثالها... وهي كناية عن
البقاء الدائم، ونقرأ عن الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة وذلك حين أشكل عليه
بعض المنتقدين الجهلة على تقسيمه من بيت المال بالسوية وعدم التمييز بين
مقامات الناس لتوطيد دفة الحكم.
فانزعج الإمام (عليه السلام) وقال: " أتأمرني أن أطلب النصر بالجور في من وليت
عليه؟ والله لا أطور به ما سمر سمير وما أم نجم في السماء نجما " (2).
ونقرأ في قصيدة دعبل الخزاعي المعروفة التي أنشدها في حضرة الإمام
علي بن موسى الرضا (عليه السلام) هذا البيت:
سأبكيهم ما ذر في الأفق شارق * ونادى منادي الخير في الصلوات (3)

1 - كما في سورة إبراهيم، الآية (48)، والأنبياء، الآية (104).
2 - نهج البلاغة، الخطبة 126.
3 - نور الأبصار للشبلنجي، ص 140 وكتاب الغدير، وكتب أخرى.
70

وبالطبع فإن هذا الاستعمال ليس مخصوصا بلغة العرب وآدابها، ففي اللغات
الأخرى يوجد مثل هذا الاستعمال أيضا... على كل حال فإن دلالة الآية على
الدوام قطعية وغير قابلة للنقاش.
3 5 - ما معنى الاستثناء في الآية؟
الجملة الاستثنائية إلا ما شاء ربك التي وردت في الآيات المتقدمة في
أهل الجنة وفي أهل النار أيضا، أضحت ميدانا واسعا للمفسرين ومثارا للبحث،
وقد نقل المفسر الكبير الطبرسي في تفسير هذا الاستثناء عشرة أوجه عن
المفسرين القدامى، ونعتقد أن كثيرا من هذه الأوجه ضعيف ولا ينسجم مع
الآيات السابقة أو اللاحقة، ولذلك نغض النظر عنها، ونورد ما نراه صحيحا هنا،
هو وجهان فحسب:
1 - الهدف في بيان هذا الاستثناء أن لا يتصور أن الخلود في النار أو في
الجنة جار على غير مشيئة الله وإرادته بما يعطي معنى الالزام وتحديد قدرة الله
تعالى وإرادته، بل في الوقت الذي يكون أهل الجنة وأهل النار خالدين فيهما،
فإن قدرة الله وإرادته حاكمة على الجميع، وأن العذاب والثواب يتحققان بمقتضى
حكمته لكل من هذين الطرفين.
والشاهد على هذا الكلام ما ورد في الجملة الثانية بعد الاستثناء وهي قوله
تعالى: عطاء غير مجذوذ أي غير منقطع، وهو دليل على أن الجملة
الاستثنائية لبيان قدرته فحسب.
2 - وحيث تذكر الآيات هذين الطرفين فمنهم شقي وسعيد فليس
الأشقياء هم الكفار المستحقين للخلود في النار فقط بل قد يوجد بينهم مؤمنون
من أهل الكبائر فيكون هؤلاء داخلين في هذا الاستثناء.
ولكن قد ينقدح هذا السؤال أيضا وهو: ما المراد من الاستثناء في الجملة
71

الثانية (التي تتحدث عن الذين سعدوا)؟
وفي الجواب على هذا السؤال أجيب - أيضا - بأن المؤمنين المذنبين
يدخلون النار أولا ليتطهروا من الذنوب، ثم يلتحقون بصفوف أهل الجنة.
فإن الاستثناء في الجملة الأولى هو بالنسبة لآخر الأمر... وفي الجملة
الثانية لأول مرة (فلاحظوا بدقة).
ويحتمل في الجواب على السؤال الآنف الذكر أن الاستثناء في الجملة
الأولى إشارة إلى المؤمنين المذنبين الذين يعتقون من النار بعد مدة، والاستثناء
في الجملة الثانية إشارة إلى قدرة الله سبحانه، والشاهد على هذا الكلام ورود
قوله تعالى إن ربك فعال لما يريد في الجملة الأولى بعد الاستثناء، ليدل على
تحقق المشيئة الإلهية، وفي الجملة الثانية ورد قوله تعالى: عطاء غير مجذوذ
ليدل على الأبدية (فتدبر).
وقد احتمل البعض أن يكون العقاب والثواب متعلقان بحياة البرزخ " النعيم
في البرزخ أو الشقاء في البرزخ " التي تكون محدودة المدة ولابد أن تنتهي،
ولكنه احتمال بعيد جدا، لأن الآيات المتقدمة تتحدث عن يوم القيامة بصراحة،
وعلاقة هذه الآيات بتلك الآيات علاقة لا تقبل الانفكاك.
كما أن احتمال كون الخلود هنا بمعنى المدة الطويلة - كما هو في بعض
آيات القرآن الأخرى، وليس هو البقاء الدائم الأبدي - لا ينسجم مع قوله تعالى:
عطاء غير مجذوذ ولا مع الاستثناء نفسه الذي يدل على الأبدية في الجمل
السابقة.
6 - تقول الآيات المتقدمة في شأن أهل النار: لهم فيها زفير وشهيق وقد
احتمل أهل اللغة والمفسرون في معنى هاتين الكلمتين " الزفير والشهيق "
احتمالات متعددة:
1 - فقال البعض: المراد ب‍ " الزفير " هو الصراخ المصطحب بإخراج النفس
72

إلى الخارج، وأما " الشهيق " فهو الأنين المقترن بسحب الهواء إلى داخل الرئة.
2 - وقال آخرون: إن الزفير هو بداية صوت الحمار والشهيق نهايته، ولعل
هذا التفسير لا تختلف عن التفسير الأول كثيرا.
وعلى كل حال فإن هذين الصوتين يحكيان عن صراخ وعويل أهل النار
الذين يضجون - من الحزن والغم والحسرة - ضجيجا يملأ جميع وجودهم ويدل
على منتهى أذاهم وشدة عذابهم.
وينبغي الالتفات إلى أن " الزفير والشهيق " كلاهما مصدر، و " الزفير " في
الأصل حمل العب ء الثقيل على الكتف، ولأن هذا العمل يؤدي إلى التأوه
والضجيج فقد سمي زفيرا، وأما " الشهيق " فمعناه في الأصل الإطالة والإرتفاع،
ومن هنا فقد سمي الجبل المرتفع بالجيل الشاهق أيضا، ثم أطلقوا هذا اللفظ
" الشهيق " على الأنين.
3 أسباب السعادة والشقاء
السعادة ضالة كل الناس، وكل واحد يبحث عنها في شئ ما ويطلبها في
مكان ما، وهي توفر أسباب تكامل الفرد في المجتمع، والنقطة المقابلة لها هي
الشقاء الذي يتنفر منه كل أحد، وهو عبارة عن عدم مساعدة الظروف للنجاح
والتقدم والتكامل.
فعلى هذا، كل من توفرت له أسباب التحرك والتقدم نحو الاهداف السامية
روحيا وجسميا وعائليا وبيئيا وثقافيا، فهو أقرب للسعادة، وبتعبير آخر هو أكثر
سعادة!
ولكن ينبغي الالتفات إلى أن أساس السعادة أو الشقاء هو إرادة الإنسان
نفسه، فهو يستطيع أن يوفر الوسائل لترشيد نفسه وحتى مجتمعه، وهو الذي
يستطيع أن يواجه عوامل الشقاء ويهزمها أو يستسلم لها.
73

وليس الشقاء أو السعادة في منطق الوحي ومدرسة الأنبياء في داخل ذات
الإنسان شيئا وحتى النواقص في المحيط والعائلة والوراثة كل ذلك قابل للتغيير
بتصميم الإنسان وإرادته إلا أن ننكر أصل الإرادة في الإنسان وحريته، ونعده
محكوما بالظروف الجبرية، وكل من سعادته أو شقائه ذاتي أو هو نتيجة جبرية
لمحيطه، وما إلى ذلك.
وهذا الرأي مرفوض في نظر الأنبياء وفي نظر المذهب العقلي أيضا.
الطريف أننا نجد في الروايات المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام)
إشارات إلى مسائل مختلفة على أنها أسباب السعادة، أو أسباب الشقاء... بحيث
يتعرف الإنسان خلال مطالعتها على طريقة التفكير الإسلامي في هذه المسألة
المهمة، وسيقف على الواقعيات العينية وأسباب السعادة الحقيقية، بدلا من أن
يقف عليها في المسائل الخرافية والتصورات والسنن الخاطئة الموجودة في كثير
من المجتمعات.
ونلفت نظر القارئ الكريم على سبيل المثال إلى بعض الأحاديث الشريفة
في هذا الصدد:
1 - ينقل الإمام الصادق (عليه السلام) عن جده أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال " حقيقة
السعادة أن يختم للرجل عمله بالسعادة وحقيقة الشقاوة أن يختم للرجل
بالشقاوة " (1).
فهذه الرواية تقول بصراحة: إن المرحلة النهائية لعمر الإنسان وأعماله هي
المرحلة التي تكشف عن سعادته وشقاوته، وعلى هذا فهي تنفي السعادة أو
الشقاء الذاتيين، وتجعل الإنسان رهين عمله، كما تجعل طريق العودة مفتوحا في
جميع المراحل حتى نهاية عمره.
2 - ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي (عليه السلام) " السعيد من وعظ بغيره

1 - تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 398.
74

والشقي من انخدع لهواه وغروره " (1).
وكلام الإمام علي (عليه السلام) هذا تأكيد آخر على عدم ذاتية السعادة والشقاء وبيان
بعض أسبابهما.
3 - ويقول نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: " أربع من أسباب السعادة وأربع من
الشقاوة، فالأربع التي من السعادة المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار
الصالح، والمركب البهي. والأربع التي من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء،
والمسكن الضيق، والمركب السوء " (2).
مع ملاحظه أن هذه الأمور الأربعة لها تأثير بالغ في الحياة المادية والمعنوية
لكل أحد، ويمكن أن تكون من عوامل النجاح أو الفشل وتتضح بهذا سعة مفهوم
السعادة والشقاوة في منطق الإسلام.
فالمرأة الصالحة ترغب الإنسان في أنواع " الحسنات "، والبيت الواسع يهب
روح الإنسان وفكره الهدوء والراحة ويهيأوه للنشاط والفعالية، والجار الصالح
الذي يقدم له عونا مؤثرا في راحته واستقراره وحتى في تقدم أهداف الإنسانية،
المركب الجيد عامل مؤثر في الوصول إلى الأعمال والوظائف الاجتماعية، في
حين أن المركب السوء يكون عاملا في التأخير ولا يوصل صاحبه إلى هدفه.
4 - كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الحديث أيضا: " من علامات الشقاء: جمود
العينين، وقسوة القلب، وشدة الحرص في طلب الرزق، والإصرار على الذنب " (3).
هذه الأمور الأربعة التي وردت في الحديث المتقدم، هي أمور اختيارية
وهي نتيجة أعمال الإنسان وأخلاقه الاكتسابية نفسه، وعلى هذا فإن أبعاد
أسباب الشقاء هذه تكمن في اختيار الإنسان نفسه.

1 - نهج البلاغة، الخطبة 86.
2 - مكارم الأخلاق، ص 65.
3 - تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 398.
75

وإذا لاحظنا أسباب السعادة والشقاوة في الأحاديث المتقدمة وحقيقتهما
وأثرهما البالغ في حياة البشر، وقارناهما مع الأسباب والمسائل الخرافية التي
يعتقد بها جمع كثير - حتى في عصرنا عصر الذرة والفضاء - لوصلنا إلى هذا الواقع
الذي يؤكد أن التعاليم الإسلامية منطقية ومدروسة إلى أقصى حد.
ولا يزال إلى اليوم من يعتقد أن نعل الفرس سبب للسعادة، وأن اليوم الثالث
عشر سبب لسوء الحظ... والقفز على النار في بعض ليالي السنة من أسباب
السعادة، وصوت بعض الطيور سبب للشقاء وسوء الحظ، وسكب الماء عند
خروج المسافر من أسباب السعادة، والعبور من تحت السلم سبب للشقاء!!
وحتى تعليق بعض الأشياء في رقبة الفرد أو على وسائل النقل من أسباب
السعادة والعطاس علامة على الفشل إذا كان حين العمل وكثير من أمثال هذه
الخرافات نجدها في الشرق والغرب بين الأقوام والأمم المتعددة.
وكم من أناس تعطلوا عن نشاطهم في الحياة نتيجة ابتلائهم بمثل هذه
الخرافات وأصبحوا رهن المصائب الكثيرة.
لقد شطب الإسلام بقلم أحمر على جميع هذه التصورات الخرافية، وحدد -
مبينا بوضوح - سعادة الإنسان وشقاوته في الفعاليات الإيجابية والسلبية ونقاط
الضعف والقوة في الأخلاق والمناهج العملية وطريقة التفكير والعقيدة لكل فرد،
من خلال الأمثلة التي قدمناها في الأحاديث الأربعة عن أهل البيت (عليهم السلام).
* * *
76

2 الآيات
فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد
آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص (109) ولقد
آتينا موسى الكتب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من
ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب (110) وإن كلا لما
ليوفينهم ربك أعملهم إنه بما يعملون خبير (111) فاستقم كما
أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير (112)
2 التفسير
3 الاستقامة والثبات:
هذه الآيات - في الحقيقة - بمثابة تسلية لخاطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أنها نازلة
لبيان وظيفته ومسؤوليته، وفي الواقع إن من أهم النتائج التي يتوصل إليها من
القصص السابقة للأمم الماضية هي أن لا يكترث النبي ومن معه من أتباعه
المؤمنون حقا من كثرة الأعداء، ولا يخافوا منهم، ولا يشكوا أو يترددوا في
هزيمة عبدة الأصنام والظالمين الذي يقفون بوجوههم، وأن يواصلوا طريقهم
ويعتمدوا على الله واثقين به.
77

لذلك يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: فلاتك في مرية مما يعبد هؤلاء
ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم (1).
ويقول بعدها مباشرة: وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص على أن جملة
موفوهم نصيبهم تعني أداء الحق كاملا، لكن ذكر كلمة غير منقوص للتأكيد أكثر
على هذه المسألة.
وفي الحقيقة إن هذه الآية تجسم هذه الحقيقة، وهي أن ما قرأناه من قصص
الأمم السابقة لم يكن أسطورة، كما أنها لا تختص بالماضين، فهي سنة أبدية
وخالدة وهي لجميع الناس ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
غاية ما فيه الأمر أن هذا العقاب في كثير من الأمم السابقة نزل على شكل
بلايا مهولة وعظيمة، لكنه وجد شكلا آخر في شأن أعداء نبي الإسلام، وهو أن
الله أعطى القدرة والقوة العظيمة لنبيه وأصحابه المؤمنين بحيث استطاع أن يهزم
أعداءه الظالمين اللجوجين الذين أصروا على انحرافهم وغرورهم.
ويسلي القرآن قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة أخرى، فيحدثه عن موسى وقومه قائلا:
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه... ويقول إذا ما رأيت أن الله لا يعجل
العذاب على قومك، فلأن مصلحة الهداية والتعليم والتربية لقومك توجب ذلك
وإلا فان القرار الإلهي المسبق يقتضي التعجيل بعملية التحكيم والقضاء وبالتالي
أنزال العقاب ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه
مريب وبالرغم من ذلك فهم في شك من هذا الامر (2).

1 - " المرية " على وزن " جزية " كما تأتي على وزن " قرية " ومعناها التردد في التصميم على أمر ما... وقد قال البعض:
إنها تعني الشك المقترن بالتهمة، والجذر الأصلي لهذه الكلمة معناه عصر ثدي الناقة بعد احتلابها. على أمل أن يكون
شئ من اللبن لا يزال باقيا في الثدي، ولأن هذا العمل منشؤه التردد والشك فلذلك أطلقت الكلمة على كل ما فيه شك
وتردد.
2 - هناك كلام بين المفسرين في عودة الضميرين " هم " و " منه " على أية كلمتين في الآية؟! فقال بعضهم: إن هذا الضمير
هم " وإنهم " يعود على قوم موسى و " منه " يعود على كتاب (التوراة) فمعنى الآية: إن هؤلاء القوم لا يزالون يشكون في
كتاب موسى، ولكن قال آخرون: إن الضمير في (إنهم) يعود على مشركي مكة و " منه " يعود على القرآن، وبملاحظة أن
الآيات جاءت لتسلية قلب النبي فيكون التفسير الثاني أقرب للنظر.
78

كلمة " مريب " مشتقة من " الريب " ومعناه الشك المقترن بسوء الظن والنظرة
السيئة والقرائن المخالفة، وعلى هذا فيكون مفهوم هذه الكلمة أن عبدة الأصنام
ما كانوا يترددون في مسألة حقيقة القرآن أو نزول العذاب على المفسدين
فحسب، بل كانوا يدعون بأن لديهم قرائن تخالف ذلك أيضا.
أما " الراغب " فيقول في " مفرداته ": إن معنى الريب هو الشك الذي يرفع عنه
الحجاب بعدئذ ويعود إلى اليقين، فعلى هذا يكون مفهوم الآية أن الحجاب
سيكشف عاجلا عن حقانية دعوتك وكذلك عن عقاب المفسدين وتظهر حقيقة
الأمر!
ويضيف القرآن لمزيد التأكيد وأن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم وهذا
الأمر ليس فيه صعوبة على الله ولا حرج إذ إنه بما تعملون خبير.
الطريف أن القرآن يقول: ليوفينهم أعمالهم ليشير مرة أخرى إلى مسألة
تجسم الأعمال وأن الجزاء والثواب هما في الحقيقة أعمال الإنسان نفسه التي
تتخذ شكلا آخر وتصل إليه ثانية.
وبعد ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة ورمز نجاحهم ونصرهم، وبعد
تسلية قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية إرادته، يبين القرآن - عن هذا الطريق - أهم دستور
أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو استقم كما أمرت.
" استقم " في طريق الإرشاد والتبليغ... استقم في طريق المواجهة
والمواصلة... استقم في أداء الوظائف الإلهية ونشر التعليمات القرآنية.
ولكن هذه الاستقامة ليست لينال فلان أو فلان مستقبلا زاهرا، وليست
للرياء وما شابه ذلك، وليست لاكتساب عنوان البطولة، ولا اكتساب " المقام " أو
" الثروة " أو " الموفقية " أو " القدرة "، بل هي لمجرد طاعة الله واتباع أمره كما
79

أمرت.
كما أن هذه الاستقامة ليست عليك وحدك، فعليك أن تستقيم أنت ومن
تاب معك استقامة خالية من كل زيادة ونقصان وإفراط أو تفريط ولا
تطغوا إذ إنه بما تعملون بصير ولا تخفى عليه حركة ولا قول ولا أي خطة
أخرى... الخ.
3 المسؤولية الكبيرة!!
نقرأ في حديث معروف عن ابن عباس أنه قال: ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
آية كانت أشد عليه ولا أشق من هذه الآية. ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له:
أسرع إليك الشيب يا رسول الله قال: (صلى الله عليه وآله وسلم) " شيبتني هود والواقعة " (1).
ونقرأ في رواية أخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال حين نزلت هذه الآية: " شمروا
شمروا... فما رئي ضاحكا... " (2).
والدليل واضح، لان أربعة أوامر مهمة موجودة في هذه الآية يلقي كل واحد
منها عبئا ثقيلا على الكتف.
وأهمها الأمر بالاستقامة... الاستقامة (المشتقة من مادة القيام " من جهة أن
الإنسان يكون تسلطه وسعيه في عمله حال القيام أكثر... الاستقامة التي معناها
طلب القيام، أي أوجد حالة في نفسك بحيث لا تجد طريقا للضعف فيك، فما
أصعبه من أمر وما أشده؟!
غالبا ما يكون النجاح في العمل أمرا هينا نسبيا... لكن المحافظة على
النجاح فيها كثير من الصعوبة... وفي أي مجتمع؟! في مجتمع متأخر متخلف...
في مجتمع بعيد عن العلم والتعقل.. في مجتمع لجوج وبين أعداء كثيرين

1 - تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 199.
2 - الدر المنثور في تفسير الآية هذه.
80

معاندين... وفي سبيل بناء مجتمع سالم وحضارة انسانية زاهرة فالاستقامة في
هذا الطريق ليس أمرا هينا.
والأمر الآخر: أن تحمل هذه الاستقامة هدفا إلهيا فحسب، وأن تكون
الوساوس الشيطانية بعيدة عنها تماما، أي أن تكتسب هذه الاستقامة أكبر
القدرات السياسية والاجتماعية من أجل الله.
والأمر الثالث: مسألة قيادة أولئك الذين رجعوا إلى طريق الحق وتعويدهم
على الاستقامة أيضا.
والأمر الرابع: المواجهة والمبارزة في مسير الحق والعدالة والقيادة
الصحيحة وصد كل أنواع التجاوز والطغيان، فكثيرا ما يبدي بعض الناس منتهى
الاستقامة في سبيل الوصول للهدف، لكن لا يستطيعون أن يراعوا مسألة العدالة،
وغالبا ما يبتلون بالطغيان والتجاوز عن الحد.
أجل... مجموع هذه الأمور وتواليها على النبي حملته مسؤولية كبرى،
حتى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما رئي ضاحكا... وشيبته هذه الآية من الهم.
وعلى كل حال فإن هذا الأمر لم يكن للماضي فحسب، بل هو للماضي
والحاضر والمستقبل، وهو للأمس واليوم والغد القريب والغد البعيد أيضا.
واليوم مسؤوليتنا المهمة - نحن المسلمين أيضا، وبالخصوص قادة الإسلام
- تتلخص في هذه الكلمات الأربعة. وهي: الاستقامة، والإخلاص، وقيادة
المؤمنين، وعدم الطغيان والتجاوز. ودون ربط هذه الأمور بعضها إلى بعض فإن
النصر على الأعداء الذين أحاطونا من كل جانب من الداخل والخارج،
واستفادوا من جميع الأساليب الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية
والعسكرية... هذا النصر لا يكون سوى أوهام في مخيلة المسلمين.
* * *
81

2 الآية
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من
دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (113)
2 التفسير
3 الركون إلى الظالمين:
إن هذه الآية تبين واحدا من أقوى وأهم الأسس والبرامج الاجتماعية
والسياسية والعسكرية والعقائدية، فتخاطب عامة المسلمين ليؤدوا وظيفتهم
القطعية فتقول: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا والسبب واضح فتمسكم النار
وما لكم من دون الله من أولياء ومعلوم عندئذ حالكم ثم لا تنصرون.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - ما هو مفهوم الركون؟
مفهوم " الركون " مشتق من مادة " ركن " ومعناه العمود الضخم من الحجر أو
الجدار الذي يربط البناء أو الأشياء الأخرى بعضها إلى بعض، ثم اطلق هذا اللفظ
على الاعتماد أو الاستناد إلى الشئ.
82

وبالرغم من أن المفسرين أعطوا معاني كثيرة لهذه الكلمة في تفسيرهم
للآية، ولكنها في الغالب تعود إلى مفهوم جامع وكلي فمثلا فسرها البعض بالميل،
وفسرها البعض ب‍ " التعاون "، وفسرها البعض ب‍ " إظهار الرضا "، وفسرها
آخرون ب‍ " المودة "، كما فسرها جماعة بالطاعة وطلب الخير، وكل هذه المعاني
ترجع إلى الاعتماد والاتكاء كما هو واضح.
3 2 - في أي الأمور لا ينبغي الركون إلى الظالمين؟
بديهي أنه في الدرجة الأولى لا يصح الاشتراك معهم في الظلم أو طلب
الإعانة منهم، وبالدرجة الثانية الاعتماد عليهم فيما يكون فيه ضعف المجتمع
الإسلامي وسلب استقلاله واعتماده على نفسه وتبديله إلى مجتمع تابع وضعيف
لا يستحق الحياة، لأن هذا الركون ليس فيه نتيجة سوى الهزيمة والتبعية للمجتمع
الإسلامي.
وأما ما نلاحظه أحيانا من مسائل التبادل التجاري والروابط العلمية بين
المسلمين والمجتمعات غير الإسلامية على أساس حفظ منافع المسلمين
واستقلال المجتمعات الإسلامية وثباتها، فهذا ليس داخلا في مفهوم الركون إلى
الظالمين ولم يكن شيئا ممنوعا من وجهة نظر الإسلام، وفي عصر النبي
نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) والأعصار التي تلته كانت هذه الأمور موجودة وطبيعية أيضا.
3 3 - فلسفة تحريم الركون إلى الظالمين
الركون إلى الظالمين يورث مفاسد كثيرة لا تخفى على أحد بصورتها
الاجمالية ولكن كلما تفحصنا في هذه المسألة أكثر اكتشفنا مسائل دقيقة جديدة.
فالركون إلى الظالمين يبعث على تقويتهم، وتقويتهم مدعاة إلى اتساع رقعة
الظلم والفساد في المجتمعات، ونقرأ في الأوامر الإسلامية أن الإنسان ما لم يجبر
83

" وفي بعض الأحيان حتى مع الإجبار " لا يحق له أن يراجع القاضي الظالم من
أجل اكتساب حقه، لأن مراجعة مثل هذا القاضي الحاكم الجائر من أجل إحقاق
الحق مفهومها أن يعترف ضمنا برسميته وتقواه، ولعل ضرر هذا العمل أكبر من
الخسارة التي تقع نتيجة فقدان الحق.
والركون إلى الظلمة يؤثر تدريجا على الثقافة الفكرية للمجتمع، فيضمحل
مفهوم " قبح الظلم " ويؤدي بالناس إلى الرغبة في الظلم.
وأساسا لا نتيجة من الركون إلى الغير بصورة التعلق وارتباط الشديد إلا
سوء الحظ والشقاء، فكيف إذا كان هذا الركون إلى الظالمين؟
إن المجتمع الحضاري المقتدر هو المجتمع الذي يقف على قدميه، كما يعبر
القرآن الكريم في مثل بديع في الآية (29) من سورة الفتح إذ يقول: فاستوى
على سوقه والمجتمع الحر المستقل هو المجتمع الذي يكتفي ذاتيا، وارتباطه أو
تعاونه مع الآخرين هو ارتباط على أساس المنافع المتبادلة لا على أساس ركون
الضعيف إلى القوي، لأن هذا الركون - سواء كان من جهة فكرية أو ثقافية أو
اقتصادية أو عسكرية أو سياسية - لا يخلف سوى الأسر والاستثمار، ولا يثمر
سوى المساهمة في ظلمهم والمشاركة في خططهم.
وبالطبع فإن الآية المتقدمة ليست خاصة بالمجتمعات فحسب، بل تشمل
العلاقة وارتباط بين فردين أيضا، فلا يجوز لإنسان مؤمن أن يركن إلى أي
ظالم، فإنه إضافة إلى فقدان استقلاله لركونه إلى دائرة ظلمه، فسيؤدي إلى تقويته
واتساع الفساد والعدوان كذلك.
3 4 - من المقصود ب‍ " الذين ظلموا "؟
ذكر المفسرون في هذا المجال احتمالات مختلة، فقال بعضهم: المقصود
ب‍ الذين ظلموا هم المشركون، ولكن - كما قال آخرون - لا دليل على
84

انحصار هذا اللفظ بالمشركين رغم أن مصداق الظالمين في عصر نزول الآية هو
المشركين.
كما إن تفسير هذه الكلمة في الروايات بالمشركين لا يدل على الانحصار،
لأننا قلنا مرارا وتكرارا إن مثل هذه الروايات إنما تبين المصداق الواضح
والجلي، فعلى هذا الأساس يدخل في دائرة هذه الآية جميع الذين امتدت أيديهم
إلى الظلم والفساد، أو استعبدوا خلق الله وعباده، أو استغلوا قواهم لمنافعهم،
وباختصار كل الذين دخلوا في المفهوم العام لهذا التعبير الذين ظلموا.
ولكن من الواضح أن من أخطأوا في حياتهم خطأ بسيطا وصاروا من
مصاديق الظالم أحيانا غير داخلين في مفهوم الآية قطعا لأنه في هذه الصور لا
يخرج عن شمولية هذه الآية إلا النادر، فلا يصح الركون والاعتماد على أي
شخص، اللهم إلا أن نقول: أن المراد بالركون هو الاعتماد على الظالم من جهة
ظلمه وجوره، وفي هذه الحال حتى الذين تلوثت أيديهم بالظلم مرة واحدة لا
يجوز الركون إليهم.
3 5 - إشكال
بعض المفسرين من أهل السنة إشكالا يصعب الجواب عليه من مبناهم وهو
ما ورد في رواياتهم من وجوب الطاعة والتسليم لسلطان الوقت الذي هو من
أولو الأمر أيا كان، لما نقلوا حديثا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجوب طاعة
السلطان " وإن أخذ مالك وضرب ظهرك... "! وروايات أخرى تؤكد طاعة
السلطان بمعناها الواسع.
ومن جهة أخرى تقول الآية: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فهل يصح
الجمع بين هذين الأمرين؟!
أراد البعض أن يرفع هذا التضاد باستثناء واحد، وهو أن طاعة السلطان
85

تكون واجبة ما لم ينحرف إلى طريق العصيان ويخطو في طريق الكفر.
ولكن لحن تلك الروايات لا ينسجم مع هذا الاستثناء.
وعلى كل حال فنحن نعتقد - وكما ورد في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) - بوجوب
طاعة ولي الأمر العادل والعالم الذي يصح أن يكون خليفة عاما للنبي وإماما من
بعده فحسب.
وإذا كان سلاطين بني أمية وبني العباس قد وضعوا الأحاديث في هذا
المجال لمصلحتهم، فلا تنسجم بأي وجه مع أصول مذهبنا والتعليمات القرآنية،
وينبغي أن نعالج هذه الروايات، فإن كانت تقبل التخصيص خصصناها، وإلا
طرحناها جانبا، لان كل رواية تخالف كتاب الله فهي مردودة وباطلة، والقرآن
يصرح أن إمام المسلمين لا يجوز أن يكون ظالما، والآية المتقدمة تقول بصراحة
أيضا: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا... أو نقول: إن أمثال هذه الروايات
مخصوصة بالحالات الضرورية والاضطرارية.
* * *
86

2 الآيتان
وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات
يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين (114) واصبر فإن
الله لا يضيع أجر المحسنين (115)
2 التفسير
3 الصلاة والصبر:
هذه الآيات تشير إلى أمرين من أهم الأوامر الإسلامية، وهما في الواقع
روح الإيمان وقاعدة الإسلام، فيأتي الأمر أولا بالصلاة وأقم الصلاة طرفي
النهار وزلفا من الليل.
وظاهر التعبير من طرفي النهار هو بيان صلاة الصبح وصلاة المغرب
اللتين يقعان طرفي النهار، و " الزلف " جمع " زلفة " التي تعني القرب، ويشار بها
إلى أول الليل القريب من النهار فتنطبق على صلاة العشاء.
وهذا التفسير وارد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أيضا، أي إن الآية تشير إلى
الصلوات الثلاث " الصبح والمغرب والعشاء ".
ويرد هنا سؤال وهو: لم ذكرت هذه الصلوات الثلاث من بين الصلوات
الخمس؟!
87

غموض الإجابة دعا بعض المفسرين لان يتوسع في معنى طرفي النهار
ليشمل صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب أيضا. وبالتعبير ب‍ وزلفا من
الليل الذي يشير إلى صلاة العشاء تكون جميع الصلوات الخمس قد دخلت في
الآية!
والإنصاف أن تعبير طرفي النهار لا يتحمل مثل هذا التفسير، مع ملاحظة
أن المسلمين في الصدر الأول من الإسلام كانوا مقيدين بأداء صلاة الظهر في أول
الوقت وأداء صلاة العصر في حدود نصف الوقت، أي بين وقت الظهر ووقت
المغرب.
الشئ الوحيد الذي يمكن أن يقال هنا: أن آيات القرآن قد تذكر جميع
الصلوات الخمس أحيانا كما في سورة الإسراء: أقم الصلاة لدلوك الشمس
إلى غسق الليل وقرآن الفجر (1).
وقد تذكر ثلاث صلوات - كالآية محل البحث - وقد تذكر صلاة واحدة كما
في سورة البقرة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله
قانتين (2).
فعلى هذا لا يستلزم ذكر جميع الصلوات الخمس في كل مورد، وقد توجب
المناسبات الإشارة إلى صلاة الظهر " الصلاة الوسطى " لأهميتها أو تشير إلى
صلاة الصبح أو المغرب والعشاء وذلك لاحتمال أن تقع في دائرة النسيان للتعب
أو النوم.
ولأهمية الصلوات اليومية - خاصة - وجميع العبادات والطاعات
والحسنات - عموما - فإن القرآن يشير بهذا التعبير إن الحسنات يذهبن
السيئات ذلك ذكرى للذاكرين.

1 - الآية، 78.
2 - الآية، 238.
88

والآية آنفة الذكر كسائر آيات القرآن تبين تأثير الأعمال الصالحة في محو
أثر الأعمال السيئة، حيث نقرأ في سورة النساء الآية (31): إن تجتنبوا كبائر ما
تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ونقرأ في سوره العنكبوت الآية (7):
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم.
وبهذا تثبت مقولة إبطال السيئات بالطاعات والأعمال الحسنة.
ومن الناحية النفسية - أيضا - لا ريب في أن الذنب والعمل السئ يوجد
نوعا من الظلمة في روح الإنسان ونفسه، بحيث لو استمر على السيئات تتراكم
عليه الآثار فتمسخ الإنسان بصورة موحشة.
ولكن العمل الصالح الصادر من الهدف الإلهي يهب روح الإنسان لطافة
بامكانها أن تغسل آثار الذنوب وأن تبدل ظلمات نفسه إلى أنوار.
وبما أن الجملة الآنفة إن الحسنات يذهبن السيئات ذكرت بعد الأمر
بإقامة الصلاة مباشرة، فإن واحدة من مصاديقها هي الصلاة اليومية، وإذا ما
لاحظنا في الروايات إشارة إلى الصلاة اليومية في التفسير فحسب فليس ذلك
دليلا على الانحصار، بل - كما قلنا مرارا - إنما هو بيان مصداق واضح قطعي.
3 الأهمية القصوى للصلاة:
تلاحظ في الروايات المتعددة المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة
الطاهرين (عليهم السلام) تعبيرات تكشف عن الأهمية الكبرى للصلاة في نظر الإسلام.
يقول أبو عثمان: كنت جالسا مع سلمان الفارسي تحت شجرة فأخذ غصنا
يابسا وهزه حتى تساقطت أوراقه جميعا، ثم التفت إلي وقال: ما سألتني لم فعلت
ذلك؟!
فقلت: وما تريد؟!
قال: هذا ما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كنت جالسا معه تحت شجرة ثم
89

سألني النبي هذا السؤال وقال: " ما سألتني لم فعلت ذلك؟ ".
فقلت له: ولم يا رسول الله؟
فقال: " إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس
تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق " ثم قرأ الآية " وأقم الصلاة... الخ ". (1)
ونقرأ في حديث آخر عن أحد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واسمه أبو أمامة أنه
قال: " كنت جالسا يوما في المسجد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاءه رجل وقال: يا رسول
الله، أذنبت ذنبا يستوجب الحد فأقم علي الحد، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أصليت معنا؟ " قال:
نعم يا رسول الله، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " فإن الله غفر ذنبك "... أو " أسقط عنك الحد " (2).
كما نقل عن علي (عليه السلام) أنه قال: " كنا مع رسول الله ننتظر الصلاة فقام رجل
وقال: يا رسول الله، أذنبت. فأعرض النبي بوجهه عنه، فلما انتهت الصلاة قام ذلك
الرجل وأعاد كلامه ثانية، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألم تصل معنا وأحسنت لها الوضوء؟
فقال بلى، فقال: هذه كفارة ذنبك " (3).
ونقل عن علي (عليه السلام) أيضا أنه قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما منزلة الصلوات
الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم، فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن
ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات، أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله
الصلوات الخمس لأمتي " (4).
وعلى كل حال، لا مجال للشك في أنه متى ما أديت الصلاة بشرائطها فإنها
تنقل الإنسان إلى عالم من المعنوية والروحانية بحيث توثق علائقه الإيمانية
بالله، وتغسل عن قلبه وروحه الأدران وآثار الذنوب.
الصلاة تجير الإنسان من الذنب، تجلو صدأ القلوب.

1 - مجمع البيان في تفسير الآية.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
4 - المصدر السابق.
90

الصلاة تجذر الملكات السامية للإنسان في أعماق الروح البشرية، والصلاة
تقوي الإرادة وتطهر القلب والروح، وبهذا الترتيب فإن الصلاة الواعية الفاعلة هي
مذهب تربوي عظيم.
3 أرجى آية في القرآن:
ينقل في تفسير الآية - محل البحث - حديث طريف عن الإمام علي (عليه السلام) بهذا
المضمون، وهو أنه التفت مرة إلى الناس وقال: " أي آية في كتاب الله أرجى
عندكم "؟!
فقال بعضهم: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
فقال (عليه السلام): حسنة ليست إياها.
فقال آخرون: هي آية قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا
من رحمة الله.
فقال (عليه السلام): حسنة ليست إياها.
فقالوا: هي آية ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله
غفورا رحيما.
قال (عليه السلام): حسنة ليست إياها.
فقال آخرون: هي آية: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا
الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله فقال الإمام أيضا: " حسنة
ليست إياها ".
ثم أجم الناس، فقال: مالكم يا معشر المسلمين، فقالوا: والله ما عندنا شئ
قال (عليه السلام): " سمعت حبيبي رسول الله يقول: أرجى آية في كتاب الله وأقم الصلاة
طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى
91

للذاكرين (1).
وبالطبع كما ذكرنا في شرح الآية (48) من سورة النساء: إنه ورد حديث
آخر يشير إلى أن أرجى آية في القرآن هي آية إن الله لا يغفر أن يشرك به
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
ولكن مع ملاحظة أن كل آية من هذه الآيات تنظر إلى زاوية من هذا البحث
وتبين بعدا من الأبعاد، فلا تضاد بينها.
وفي الواقع إن الآية محل البحث تتحدث عن أولئك الذين يؤدون الصلاة
بصورة صحيحة، صلاة مع حضور القلب والروح، بحيث تغسل آثار الذنوب عن
قلوبهم وأرواحهم. أما الآية الأخرى تتحدث عن أولئك الذين حرموا من هذه
الصلاة، فبامكانهم من باب التوبة، فإذن هذه الآية لهؤلاء الجماعة أرجى آية،
وتلك الآية لأولئك الجماعة أرجى آية.
وأي رجاء أعظم من أن يعلم الإنسان أنه متى زلت قدمه وغلب عليه هواه
(دون أن يصر على الذنب) وحين يحل وقت الصلاة فيتوضأ ويقف أمام معبوده
للصلاة، فيحس بالخجل عند التوجه إلى الله لما قدمه من أعمال سيئة ويرفع يديه
بالدعاء وطلب العفو فيغفر وتزول عن قلبه الظلمة وسوادها.
وتعقيبا على تأثير الصلاة في بناء شخصية الإنسان وبيان تأثير الحسنات
على محو السيئات، يأتي الأمر بالصبر في الآية الأخرى بعدها واصبر فإن الله
لا يضيع أجر المحسنين.
وبالرغم من أن بعض المفسرين حاول تحديد معنى الصبر في هذه الآية في
الصلاة، أو إيذاء الأعداء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أن من الواضح أن لا دليل على ذلك - بل
أن الآية تحمل مفهوما واسعا كليا وجامعا ويشمل كل أنواع الصبر أمام المشاكل
والمخالفات والأذى والطغيان والمصائب المختلفة، فالصمود أمام جميع هذه

1 - المصدر السابق.
92

الحوادث يندرج تحت مفهوم الصبر.
" الصبر " أصل كلي وأساس إسلامي، يأتي أحيانا في القرآن مقرونا
بالصلاة، ولعل ذلك آت من أن الصلاة تبعث في الإنسان الحركة، والأمر بالصبر
يوجب المقاومة، وهذان الأمران، أي " الحركة والمقاومة " حين يكونان جنبا إلى
جنب يثمران كل اشكال النجاح والموفقية.
وأساسا يتحقق عمل صالح دون صبر ومقاومة... لأنه لابد من إيصال
الأعمال الصالحة إلى النهاية، ولذلك فإن الآية المتقدمة تعقب على الأمر بالصبر
بثواب الله وأجره إذ تقول: إن الله لا يضيع أجر المحسنين ومعنى ذلك أن العمل
الصالح لا يتيسر دون صبر ومقاومة... لا بأس بذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي
أن الناس ينقسمون إلى عدة جماعات إزاء الحوادث العسيرة الصعبة:
1 - فجماعة تفقد شخصيتها فورا، وكما يعبر القرآن وإذا مسه الشر
جزوعا.
2 - وجماعة آخرون يصمدون أمام الأزمات بكل تحمل وتجلد.
3 - وجماعة آخرون بالإضافة إلى صمودهم وتحملهم للأزمة، فإنهم يؤدون
الشكر لله.
4 - وجماعة آخرون يتجهون إلى الأزمات والمصاعب بشوق وعشق،
ويفكرون في كيفية التغلب عليها. ولا يعرفون التعب والنصب في متابعة الأمور،
ولا يهدأون حتى تزول المشاكل.
وقد وعد الله مثل هؤلاء الصابرين بالنصر المؤزر إن يكن منكم عشرون
صابرون يغلبوا مئتين (1).
وأنعم عليهم وأثابهم في الدار الأخرى بالجنة وجزاهم بما صبروا جنة

1 - الأنفال، 65.
93

وحريرا (1).
* * *

1 - سورة الإنسان، 12.
94

2 الآيتان
فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن
الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين
ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين (116) وما كان ربك ليهلك
القرى بظلم وأهلها مصلحون (117)
2 التفسير
3 عامل الانحراف والفساد في المجتمعات:
من أجل إكمال البحوث السابقة ذكر في هاتين الآيتين أصل أساسي
اجتماعي يضمن نجاة المجتمعات من الفساد، وهو أنه ما دام هناك في كل مجتمع
طائفة من العلماء المسؤولين والملتزمين الذين يحاربون كل اشكال الفساد
والانحراف، ويأخذون على عاتقهم قيادة المجتمع فكريا وثقافيا ودينيا، فإن هذا
المجتمع سيكون مصونا من الزيغ والانحراف.
لكن متى ما سكت عن الحق أهله وحماته، وبقي المجتمع دون مدافع أمام
عوامل الفساد، فإن انتشار الفساد ومن ورائه الهلاك أمر حتمي.
الآية الأولى أشارت إلى القرون والأمم المتقدمة الذين ابتلوا بأشد أنواع
95

البلاء قائلة: فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد
ثم تستثني جماعة فتقول: إلا قليلا ممن أنجينا.
هذه الجماعة القليلة وإن كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولكنها
كحال لوط (عليه السلام) وأسرته الصغيرة، ونوح والمعدودين ممن آمن به، وصالح
وجماعة من أتباعه، فإنهم كانوا قلة لم توفق للإصلاح العام والكلي في المجتمع.
وعلى كل حال فإن الظالمين الذين كانوا يشكلون القسم الأكبر من المجتمع
اتبعوا لذاتهم وتنعمهم، وكما تقول الآية: واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه
وكانوا مجرمين.
وللتأكيد على هذه الحقيقة، تأتي الآية الثانية لتقول: إن هذا الذي ترون من
إهلاك الله للأمم، إنما كان لعدم وجود المصلحين فيهم وما كان ربك ليهلك
القرى بظلم وأهلها مصلحون.
وأحيانا يسود الظلم والفساد في المجتمع، لكن المهم أن الناس يشعرون
بالظلم والفساد وهم في طريق الإصلاح، وبهذا الشعور والإحساس والتحرك
بخطوات في طريق الإصلاح يمهلهم الله، ويقر لهم قانون الخلق حق الحياة.
ولكن هذا الإحساس متى ما انعدم وأصبح المجتمع صامتا، وأخذ الفساد
والظلم في الانتشار بكل مكان فإن قانون الخلق والوجود لا يعطيهم الحق في
الحياة، وهذه الحقيقة تتضح بمثال يسير... في البدن قوة ومناعة كريات الدم
البيضاء التي تواجه المكروبات والجراثيم عند دخولها البدن عن طريق الهواء أو
الغذاء أو الماء أو الجروح الجلدية الخ...
وهذه الكريات البيضاء بمثابة الجنود المقاتلة إذ تقف بوجه المكروبات و
الجراثيم فتبيدها، أو على الأقل تحد من انتشارها ونموها.
وبديهي أن هذه القوة الدفاعية التي تتشكل من ملايين الجنود، لو أضربت
يوما عن العمل وبقي البدن دون مدافع، فسيكون ميدانا لهجوم الجراثيم الضارة
96

بحيث تسرع أنواع الأمراض إلى البدن.
وجميع المجتمعات البشرية لها مثل هذه الحالة، فلو ارتفعت هذه القوة
المدافعة عنها وهي ما عبر عنه القرآن ب‍ أولوا بقية فإن جراثيم الأمراض
الاجتماعية المتوفرة في كل زاوية من المجتمع سرعان ما تنمو وتتكاثر ويسقط
المجتمع صريع الأمراض المختلفة.
إن أثر أولوا بقية في بقاء المجتمع حساس للغاية، حتى يمكن القول: إن
المجتمع من دون " أولي بقية " يسلب حق الحياة، ومن هنا فقد وردت الإشارة
إليهم في الآية المتقدمة.
3 من هم أولوا بقية؟
كلمة " أولوا " تعني الأصحاب، وكلمة " بقية " معناها واضح أي ما يبقى،
ويستعمل هذا التعبير في لغة العرب بمعنى " أولو الفضل " لأن الإنسان يدخر
الأشياء النفيسة والجيدة لتبقى عنده، فالمصطلح أولوا بقية يحمل في نفسه
مفهوم الخير والفضل.
ونظرا لأن الضعفاء - عادة - يرجحون الفرار على القرار في ميدان المواجهة
الاجتماعية، أو يصيبهم الفناء، ولا يبقى في ميدان المواجهة إلا من يتمتع بقوة
فكرية أو جسدية، وبذلك يبقي الأقوياء فقط، ومن هذا المنطلق أيضا تقول
العرب في أمثالها: في الزوايا خبايا... وفي الرجال بقايا.
كما جاءت كلمة " بقية " في القرآن الكريم في ثلاثة موارد وهي تحمل هذا
المفهوم، حيث نقرأ في قصة طالوت وجالوت إن آية ملكة أن يأتيكم
التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى (1).
وقرأنا أيضا قصة شعيب (في هذه السورة) مخاطبا قومه: بقية الله خير

1 - سوره البقرة، الآية 248.
97

لكم إن كنتم مؤمنين (1).
وحيث نجد في قسم من التعبيرات إطلاق بقية الله على " المهدي
الموعود " (عليه السلام) فهو إشارة إلى هذا الموضوع أيضا، لأنه وجود ذو فيض وذخيرة
إلهية كبرى، وهو معد ليطوي بساط الظلم والفساد وليرفع لواء العدل في العالم
كله.
ومن هنا نعرف الحق الكبير لهؤلاء الرجال الأجلاء الأفذاذ والمكافحين
للفساد، والمصطلح عليهم ب‍ أولوا بقية على المجتمعات البشرية لأنهم رمز
لبقاء الأمم وحياتها ونجاتها من الهلاك.
المسألة الأخرى التي تستجلب النظر في الآية المتقدمة أنها تقول: وما
كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
وبملاحظة التفاوت بين كلمتي " مصلح " و " صالح " تتجلى هذه المسألة
الدقيقة، وهي أن الصلاح وحده لا يضمن البقاء، بل إذا كان المجتمع فاسدا ولكن
أفراده يسيرون باتجاه اصلاح الأمور فالمجتمع يكون له حق البقاء والحياة أيضا.
فلو انعدم الصالح والمصلح في المجتمع فإن من سنة الخلق أن يحرم ذلك
المجتمع حق الحياة ويهلك عاجلا.
وبتعبير آخر: متى كان المجتمع ظالما ولكنه مقبل على اصلاح نفسه، فهذا
المجتمع يبقى، ولكن إذا كان المجتمع ظالما ولم يقبل على نفسه فيصلحها أو
يطهرها فإن مصيره إلى الفناء والهلاك.
المسألة الدقيقة الأخرى: إن واحدا من أسس الظلم والإجرام - كما تشير
إليه الآيات المتقدمة - هو اتباع الهوى وعبادة اللذة وحب الدنيا، وقد عبر القرآن
عن كل ذلك ب‍ " الترف ".
فهذا التنعم والتلذذ غير المقيد وغير المشروط أساس الانحرافات في

1 - هود، 86.
98

المجتمعات المرفهة، لأن سكرها من شهواتها يصدها عن إعطاء القيم الإنسانية
الأصيلة حقها ودرك الواقعيات الاجتماعية، ويغرقها في العصيان والآثام.
* * *
99

2 الآيتان
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة وحدة ولا يزالون
مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119)
2 التفسير
في الآية الأولى محل البحث إشارة إلى واحدة من سنن الخلق والوجود
والتي تمثل اللبنات التحتية لسائر المسائل المرتبطة بالإنسان... وهي مسألة
الاختلاف والتفاوت في بناء الإنسان روحا وفكرا وجسما وذوقا وعشقا،
ومسألة حرية الإرادة والاختيار.
تقول الآية ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين.
لئلا يتصور أحد من الناس أن تأكيد الله وإصراره على طاعة أمره دليل على
عدم قدرته على أن يجعلهم في سير واحد ومنهج واحد.
نعم، لم يكن - أي مانع - أن يخلق جميع الناس بحكم إلزامه وإجباره على
شاكلة واحدة، ويجعلهم مؤمنين بالحق ومجبورين على قبول الإيمان به...
لكن مثل هذا الإيمان لا تكون فيه فائدة ولا في مثل هذا الاتحاد...
فالإيمان القسري الذي ينبع من هدف غير إرادي لا يكون علامة على شخصية
100

الفرد ولا وسيلة للتكامل، ولا يوجب الثواب كما هو الحال في خلق النحل خلقا
يدفعها بحكم الغريزة إلى أن تجمع الرحيق من الأزهار... وخلق بعوضة الملاريا
خلقا يجعلها تستقر في المستنقعات، ولا يمكن لأي منهما أن تتخلى عن
طريقتها.
إلا أن قيمة الإنسان وامتيازه وأهم ما يتفاوت فيه عن سائر الموجودات هي
هذه الموهبة، وهي حرية الإرادة والاختيار، وكذلك امتلاك الأذواق والأطباع
والأفكار المتفاوتة التي يصنع كل واحد منها قسما من المجتمع ويؤمن بعدا من
أبعاده.
ومن طرف آخر فإن الاختلاف في انتخاب العقيدة والمذهب أمر طبيعي
مترتب على حرية الإرادة ويكون سببا لأن تقبل جماعة طريق الحق وتتبع
جماعة أخرى الباطل، إلا أن يتربى الناس تربية سليمة في أحضان الرحمة
الإلهية ويتعلموا المعارف الحقة بالاستفادة من مواهب الله تعالى لهم... ففي هذه
الحال، ومع جميع ما لديهم من اختلافات، ومع الاحتفاظ بالحرية والاختيار،
فإنهم سيخطون خطوات في طريق الحق وإن كانوا يتفاوتون في هذا المسير.
ولهذا يقول القرآن الكريم في الآية الأخرى: إلا من رحم ربك ولكن
هذه الرحمة الإلهية ليست خاصة بجماعة معينة، فالجميع يستطيعون " شريطة
رغبتهم " أن يستفيدوا منها (ولذلك خلقهم).
الاشخاص الذين يريدون أن يستظلوا برحمة الله فإن الطريق مفتوح لهم...
الرحمة التي أفاضها الله لجميع عباده عن طريق تشخيص العقل وهداية الأنبياء.
ومتى ما استفادوا من هذه الرحمة والموهبة، فإن أبواب الجنة والسعادة
الدائمة تفتح بوجوههم، وإلا: فلا: وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة
والناس أجمعين.
* * *
101

3 ملاحظات
1 - حرية الإرادة هي أساس خلق الإنسان ودعوة جميع الأنبياء، وأساسا لا
يستطيع الإنسان بدونها أن يخطو ولو خطوة واحدة في مسير التكامل " التكامل
الإنساني والمعنوي " ولهذا فقد أكدت آيات متعددة على أنه لو شاء الله أن يهدي
الناس بإجباره لهم جميعا لفعل، لكنه لم يشأ.
فيما يتعلق بالله هو الدعوة إلى المسير الحق وتعريف الطريق ووضع
العلامات، والتنبيه، على ما ينبغي الحذر منه وتعيين القائد للمسيرة البشرية
والمنهج فحسب.
يقول القرآن الكريم: إن علينا للهدى (1) كما يقول أيضا إنما أنت مذكر
لست عليهم بمسيطر (2) ويقول في سورة الشمس: فألهمها فجورها
وتقواها (3) ونقرأ أيضا في سورة الدهر الآية (4): إنا هديناه السبيل إما شاكرا
وإما كفورا فعلى هذا فإن الآيات محل البحث من أوضح الآيات التي تؤكد
على حرية الإرادة ونفي مذهب الجبر، وتدل على أن التصميم النهائي هو بيد
الإنسان.
2 - في الهدف من الخلق والوجود، في آيات القرآن بيانات مختلفة، وفي
الحقيقة يشير كل واحد منها إلى بعد من أبعاد هذا الهدف، من هذه الآيات وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (4) أي ليتكاملوا في مذهب العبادة وليبلغوا
أعلى مقام للإنسانية في هذا المذهب.
ونقرأ في مكان آخر الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن

1 - الليل، 12.
2 - الغاشية، 21.
3 - الشمس، 8.
4 - الذاريات، 56.
102

عملا (1).
أما في الآية محل البحث فيقول: ولذلك خلقهم... وكما تلاحظون فإن
جميع هذه الخطوط تنتهي إلى نقطة واحدة، وهي تربية الناس وهدايتهم وتقدمهم
وتكاملهم، وكل ذلك يعد الهدف النهائي للخلق.
وفائدة هذا الهدف تعود للإنسان نفسه لا إلى الله، لأن الله وجود مطلق لا
نهاية له من جميع الجهات، ومثل هذا الوجود لا نقص فيه ليرفعه ويزيله بالخلق.
3 - وفي نهاية الآية الأخيرة تأكيد على الأمر الإلهي بملء ء جنهم من الجن
والإنس أجمعين، وبديهي أن هذا الأمر المحتوم فيه شرط واحد وهو الخروج من
دائرة رحمة الله، والتقهقر عن هداية الرسل والأدلاء من قبله، وبهذا الترتيب فإن
هذه الآية لا يعتبر دليلا على مذهب الإجبار بل هي تأكيد جديد على مذهب
الاختيار.
* * *

1 - الملك، 2.
103

2 الآيات
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك
وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (120) وقل
للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون (121)
وانتظروا إنا منتظرون (122) ولله غيب السماوات والأرض
وإليه يرجع الامر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل
عما تعملون (123)
2 التفسير
3 أربع معطيات لقصص الماضين:
بانتهاء هذه الآيات تنتهي سورة هود، وفي هذه الآيات استنتاج كلي
لمجموع بحوث هذه السورة، وبما أن القسم الأهم من هذه السورة يتناول
القصص التي تحمل العبر من سيره الأنبياء والأمم السابقة، فإن هذه القصص
تعطي نتائج قيمة ملخصة في أربعة مواضيع.
تقول هذه الآيات أولا: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به
فؤادك. وكلمة " كلا " إشارة إلى تنوع هذه القصص، وكل نوع منها يشير إلى
104

اتخاذ جبهة " قبال الأنبياء " ونوع من الانحرافات ونوع من العقاب، وهذا التنوع
يلقي أشعة نيرة على أبعاد حياة الناس.
" تثبيت قلب النبي " (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية إرادته - التي يشار إليها في هذه الآية - أمر
طبيعي، لأن معارضة الأعداء اللجوجين الشديدة والقاسية - رضينا أم أبينا - تؤثر
على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه إنسان وبشر أيضا. ولكن من أجل ان لا ينفذ اليأس إلى
قلب النبي المطهر وتضعف إرادته الفولاذية من هذه المعارضة والمخالفات
والمثبطات، فإن الله يقص عليه قصص الأنبياء وما واجهوه، ومقاومتهم قبال
أممهم المعاندين، وانتصارهم الواحد تلو الآخر ليقوي قلب النبي والمؤمنين
الذي يلتفون حوله يوما بعد يوم. (1).
ثم تشير الآية إلى النتيجة الكبرى الثانية فتقول الآيات: وجاءك في هذه
الحق.
أما ثالث الآثار ورابعها اللذان يستلفتان النظر هما موعظة وذكرى
للمؤمنين.
الطريف هنا أن صاحب المنار يقول في تفسير الآية معقبا: إن الإيجاز
والاختصار في هذه الآية المعجزة في غاية ما يتصور، حتى كأن جميع المعاجز
السالفة قد جمعت في الآية نفسها وبينت فوائدها جميعا بعدة جمل قصيرة.
وعلى أية حال، فإن هذه الآية تؤكد مرة أخرى أنه لا ينبغي أن نعد قصص
القرآن ملهاة أو يستفاد منها لإشغال السامعين، بل هي مجموعة من أحسن
الدروس الحياتية في جميع المجالات، وطريق رحب لجميع الناس في الحاضر
والمستقبل.

1 - مما ذكر في المتن يتضح أن مرجع الضمير في " هذه " يعود على " أنباء الرسل " وعودة الضمير على هذه الكلمة
لقربها وتناسبها مع البحوث الواردة في هذه الآية واضح جدا، لكن الاحتمالات الأخرى بأن المشار إليه هو " الدنيا " أو
" خصوص الآيات السابقة " فبعيد، كما يبدو، وما قاله كثير من المفسرين من أن المشار إليه هو " السورة " فقابل للمطابقة
مع ما ذكرنا، لأن القسم الأهم من السورة يتناول قصص الأنبياء السابقين.
105

ثم تخاطب الآيات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يواجه أعداءه الذين يؤذونه ويظهرون
اللجاجة والعناد إن واصل الطريق وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم
إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون.
فستعلمون من الذي سينتصر، انتظروا هزيمتنا كما تزعمون انتظارا غير
مجد، ونحن ننتظر العذاب من الله عليكم، وهو ما ستذوقونه من قبلنا أو من قبل الله
مباشرة.
وهذه التهديدات التي تذكر بصيغة الأمر تلاحظ في أماكن أخرى من القرآن
كقوله تعالى: اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير (1).
ونقرأ في شأن الشيطان أيضا واستفزز من استطعت منهم بصوتك
وأجلب عليهم بخيلك ورجلك (2).
وبديهي أنه لا يراد بأية صيغة من صيغ الأمر هنا طلب الفعل، بل جميعها
جاءت للتهديد والتنديد.
وآخر الآيات من هذه السورة تتحدث عن التوحيد " التوحيد المعرفي
والتوحيد الأفعالي، وتوحيد العبادة " كما تحدثت الآيات الأولى من هذه السورة
عن التوحيد أيضا.
هذه الآية - في الحقيقة - تشير إلى ثلاث شعب من التوحيد، توحيد علم الله
أولا، فغيب السماوات والأرض خاص بالله وهو المطلع عليها جميعا ولله غيب
السماوات والأرض.
أما سواه فعلمه محدود، وفي الوقت ذاته فإن هذا العلم ناشئ من التعليم
الإلهي، فعلى هذا فإن العلم غير المحدود، والعلم الذاتي بالنسبة لجميع ما في
السماوات والأرض مخصوص بذات الله المقدسة.

1 - فصلت، 40.
2 - الإسراء، 64.
106

ومن جهة ثانية فإن أزمة جميع الأفعال مرهونة بقدرته وإليه يرجع الأمر
كله... وهذه مرحلة توحيد الأفعال.
ثم تستنتج الآية أنه إذا علمت أن الإحاطة والعلم غير المحدود والقدرة التي
لا تنتهي... جميعها مخصوص بذات الله المقدسة فاعبده وتوكل عليه وهذه
مرحلة توحيد العبادة.
فينبغي اجتناب العصيان والعناد والطغيان وما الله بغافل عما تعملون.
* * *
3 ملاحظات
3 1 - علم ا لغيب خاص بالله...
كما تحدثنا بالتفصيل في تفسير الآية (188) من سورة الأعراف، وفي
تفسير الآية (50) من سورة الأنعام، أنه لا مجال للتردد في أن الاطلاع على
الأسرار الخفية أو الأسرار الماضية والآتية كله خاص بالله... والآيات المختلفة
من القرآن تؤكد هذه الحقيقة وتؤيدها أيضا... إنه ليس كمثله شئ وهو متفرد
بهذه الصفة.
وإذا وجدنا في قسم من آيات القرآن بيان أن الأنبياء قد يعلمون بعض
الأمور الغيبية، أو قرأنا في بعض الآيات أو الروايات الكثيرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والإمام عليا والأئمة المعصومين (عليهم السلام) قد يخبرون عما يجري في المستقبل من
حوادث ويبينون أسرارا خفية منها، فينبغي أن نعرف أن كل ذلك بتعليم الله
سبحانه.
فهو سبحانه حيث يجد المصلحة يطلع عباده وأولياءه على قسم من أسرار
الغيب، ولكن هذا العلم لا هو علم ذاتي ولا غير محدود، بل هو من تعليم الله وهو
محدود بمقدار ما يريده الله.
107

وبهذا البيان تتضح الإجابة على المنتقدين لعقيدة الشيعة في مجال على
الغيب حيث يرون أن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) يعلمون الغيب.
وليس الاطلاع على علم الغيب من قبل الله خاصا بالأنبياء أو الأئمة فقد
يطلع الله غير النبي والأئمة على غيبه أيضا... فنحن نقرأ في قصة أم موسى في
القرآن أن الله قال لها: ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من
المرسلين (1).
وقد يطلع الله لضرورة الحياة - أحيانا - الطيور والحيوانات على الأسرار
الخفية وحتى على المستقبل البعيد نسبيا مما يصعب علينا تصوره وبهذا الترتيب
قد تكون بعض المسائل التي نحسبها غيبا، هذه المسائل نفسها بالنسبة للطيور أو
الحيوانات لا تعد من الغيب.
3 2 - العبادة لله وحده
في الآية المتقدمة دليل لطيف على أن العبادة لله وحده، وهو أنه لو كانت
العبادة من أجل العظمة وصفات الجمال، والجلال فهذه الصفات قبل كل شئ
موجودة في الله، وأما الآخرون فلا شئ بالنسبة إليه. وأكبر دليل على عظمة الله
علمه الواسع غير المحدود وقدرته اللامتناهية، وقد أشارت الآية الآنفة إلى أنهما
مختصان بالله.
وإذا كانت العبادة لأجل الالتجاء - في حل المشاكل - إلى المعبود... فإن
مثل هذا العمل جدير بمن هو عليم بجميع حاجات العباد وأسرارهم الخفية. وما
يغيب عليهم، وهو قادر على إجابة دعوتهم، وبالنتيجة فإن توحيد الصفات يكون
سببا لتوحيد العبادة (لاحظوا بدقة).
3 - قال بعض المفسرين: إن سير الإنسان في طريق عبودية الله، لخص كله

1 - القصص، 7.
108

في جملتين في هذه الآية فاعبده وتوكل عليه لأن العبادة سواء كانت عبادة
جسمانية كالعبادة العامة، أو عبادة روحانية كالتفكر في خلق الله ونظام أسرار
الوجود، هي بداية هذا السير.
والتوكل الذي يعني الالتجاء المطلق إلى الله وإيداع جميع الأشياء بيده،
بحيث يعد نوعا من " الفناء في الله " هو آخر نقطة من هذا السير.
وفي جميع هذا المسير من بدايته حتى نهايته يوجههم إلى حقيقة توحيد
الصفات، ويعين السائرين في هذا المسير ويدعوهم إلى البحث المقرون بالعشق
لساحته.
اللهم ألهمنا معرفتك بصفات جلالك وجمالك.
وألهمنا أن نتحرك إليك بعرفان.
اللهم وفقنا لأن نعبدك مخلصين ونتوكل عليك عاشقين.
اللهم أنت رجاؤنا وملاذنا في حل مشاكلنا، ففي هذه الفترة من الزمن
أحاطت بالمسلمين المشاكل من كل جانب، وسعى أعداء الله لإطفاء نور هذه
الصحوة المباركة، فأنت ولينا.
اللهم: لم نكن لنصل لهذه المرحلة لولا تأييداتك الظاهرة والخفية التي
أعانتنا للوصول إليها. نسألك أن لا تحرمنا من مواهبك العظيمة في ما بقي من
الطريق ولا تقطع - ألطافك الخاصة - عنا.
ووفقنا برحمتك أن نواصل هذا التفسير الذي يفتح نافذة جديدة على كتابك
السماوي العظيم.
* * *
109

1 سورة
1 يوسف
1 مكية
1 وعدد آياتها مائة واحدى عشرة آية
110

1 " سورة يوسف "
3 " بداية سورة يوسف "
قبل الدخول في تفسير آيات هذه السورة ينبغي ذكر عدة أمور:
1 - لا إشكال بين المفسرين في أن هذه السورة نزلت في مكة، سوى ما نقل
عن ابن عباس أن أربع آيات مدنية (الآيات الثلاث في أول السورة والآية
السابعة منها).
ولكن التدقيق في ارتباط هذه الآيات بعضها مع البعض الآخر في هذه
السورة يجعلنا غير قادرين على التفكيك بينها، فاحتمال نزول هذه الآيات الأربع
في المدينة - على هذا الأساس - بعيد جدا.
2 - جميع آيات هذه السورة سوى الآيات القليلة التي تقع في نهاية السورة
تبين قصة نبي الله يوسف (عليه السلام). القصة الطريفة والجميلة والتي تحمل بين طياتها
العبر. ولذلك سميت هذه السورة باسم " يوسف " وبهذه المناسبة - أيضا - ورد ذكر
يوسف - من مجموع (27) مرة في القرآن - (25) مرة في هذه السورة ومرة
واحدة في سورة غافر الآية (34) - ومرة أخرى في سورة الأنعام الآية (84).
ومحتوى هذه السورة - على خلاف سور القرآن الأخرى - مرتبط بعضه
ببعض، ويبين جوانب مختلفة م من قصة واحدة وردت في أكثر من عشرة فصول،
مع بيان أخاذ موجز، عميق، وطريف ومثير.
وبالرغم من أن القصاصين غير الهادفين، أو من لهم اغراض رخيصة سعوا
إلى أن يحولوا هذه القصة المهذبة إلى قصة عشق يحرك أهل الهوى والشهوة!!
112

وأن يمسخوا الوجه الواقعي ليوسف (عليه السلام) بحيث بلغت الحال أن يصوروا " فيلما
سينمائيا " وينشروه بصورة مبتذلة... إلا أن القرآن - وكل ما فيه أسوة وعبرة -
عكس في ثنايا هذه القصة أسمى دروس العفة وضبط النفس والتقوى والإيمان،
حتى لو أن إنسانا قرأها عدة مرات فإنه يتأثر - بدون اختيار - بأسلوبها الجذاب
في كل مرة.
ولذا فقد عبر القرآن عنها ب‍ أحسن القصص وجعل فيها العبر للمعتبرين
أولي الألباب.
3 - التدقيق في آيات هذه السورة يكشف هذه الحقيقة للإنسان، وهي أن
القرآن معجز في جميع أبعاده، لأن الأبطال الذين يقدمهم في قصصه أبطال
حقيقيون لا خياليون، وكل واحد في نفسه منهم منعدم النظير:
فإبراهيم (عليه السلام): البطل الذي حطم الأصنام بروحه العالية التي لا تقبل المساومة
مع الطغاة.
ونوح (عليه السلام): بطل الصبر والاستقامة والشفقة والقلب المحترق في ذلك العمر
الطويل المبارك.
وموسى (عليه السلام): البطل المربي لقومه اللجوجين، والذي وقف بوجه فرعون
المتكبر الطاغي.
ويوسف (عليه السلام): بطل الورع والتقوى والطهارة... أمام امرأة محتالة جميلة
عاشقة.
بعد هذا كله تتجلى القدرة البيانية للوحي القرآني بصورة تحير الإنسان، لأن
هذه القصة - كما نعرف - تنتهي في بعض مواردها إلى مسائل العشق ودون أن
يمسخها القرآن أو يتجاوزها يتعرض إلى الأحداث في مسرحها بدقة بحيث لا
يحس السامع شئ غير مطلوب فيها. ويذكر القضايا بأجمعها في المتن، ولكن
تحفها أشعة قوية من التقوى والطهارة.
113

3 4 - قصة يوسف قبل الإسلام وبعده
لا شك أن قصة يوسف كانت مشهورة ومعروفة بين الناس قبل الإسلام،
لأنها مذكورة في (14) فصلا من [سفر التكوين] في التوراة بين [الفصل 37 -
50] ذكرا مفصلا.
وبطبيعة الحال فإن المطالعة الدقيقة في هذه الفصول الأربعة عشر تكشف
مدى الاختلاف بين ما جاء في التوراة وما جاء في القرآن.
وبالمقارنة بين نص التوراة ونص القرآن نجد أن نص القصة في القرآن في
غاية الصدق وتخلو من أي خرافة.
وما يقوله القرآن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وإن كنت من قبله لمن الغافلين يشير إلى
قصة يوسف التي عبر عنها بأحسن القصص، حيث لم يكن النبي مطلعا على
حقيقتها الخالصة.
ويظهر من التوراة أن يعقوب (عليه السلام) لما رأى قميص يوسف ملطخا بالدم قال:
هذا قميص ولدي وقد أكله الحيوان المفترس، فيوسف ممزق الأحشاء ثم خرق
يعقوب ثوبه وشد الحزام على ظهره وجلس أياما للبكاء والنواح على يوسف،
وقد عزاه جميع أبنائه ذكورا وإناثا إلا أنه امتنع أن يقبل تعزيتهم وقال: سأدفن في
القبر حزنا على ولدي.
بيد أن القرآن يبين: إن يعقوب لم يصدق ما قاله أولاده، ولم يفزع ولم يجزع
لمصيبة ولده يوسف، بل أدى ما عليه من سنة الأنبياء من الصبر والتوكل على الله،
وقال لأبنائه: بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما
تصفون وإن كان قلبه يحترق على فراق ولده وعيناه تدمعان من أجله حتى
ابيضتا وعميتا، ولكن - وكما يعبر القرآن - لم يقم بأي عمل من قبيل تخريق
الثوب والنواح وشد الحزام على ظهره - والذي كان علامة للمصيبة و " العزاء " -
وإنما قال: " صبر جميل " وكتم حزنه " فهو كظيم ".
114

وعلى كل حال فإن هذه القصة - بعد الإسلام - تناقلتها أقلام مؤرخي الشرق
والغرب... وأحيانا مع أغصان وأوراق إضافية.
3 5 - لم ذكرت قصة يوسف في مكان واحد على خلاف قصص سائر
الأنبياء؟!
إن من خصائص قصة يوسف البارزة أن هذه القصة ذكرت في مكان واحد
من القرآن، على خلاف قصص الأنبياء التي ذكرت على شكل فصول مستقلة في
سور متعددة من القرآن.
والحكمة في ذلك تعود إلى أن تفكيك فصول هذه القصة مع ملاحظة وضعها
الخاص يفقدها ترابطها وانسجامها، فلهذا ينبغي أن تذكر كاملة في مكان واحد
للحصول على النتيجة المتوخاة وعلى سبيل المثال فان الرؤيا وما ذكره أبوه من
تعبير في أول هذه السورة يفقد معناه دون ذكر نهايتها.
لذلك نقرأ في أواخر هذه السورة، حين جاء يعقوب وإخوة يوسف إلى مصر
وخروا له سجدا قال يوسف ملتفتا إلى أبيه: يا أبت هذا تأويل رؤياي قد
جعلها ربي حقا (1).
هذا النموذج يوضح الارتباط الوثيق بين بداية السورة ونهايتها، في حين أن
قصص الأنبياء الآخرين ليست على هذه الشاكلة، ويمكن درك كل واحدة من
خلال فصولها.
والخصيصة الأخرى خصائص هذه السورة هي أن قصص الأنبياء التي
وردت في السور الأخرى من القرآن تبين عادة مواجهة الأنبياء لقومهم
المعاندين والطغاة، ثم تنتهي الحالة إلى إيمان جماعة بالأنبياء ومخالفة جماعة
أخرى لهم واستحقاقهم عذاب الله وعقابه.

1 - الآية 100.
115

أما في قصة يوسف فلا كلام عن هذا الموضوع، بل أكثر ما فيها بيان حياة
يوسف نفسه ونجاته من المزالق الخطيرة التي تنتهي أخيرا إلى استلامه سدة
الحكم، وهي في حد ذاتها " أنموذج " خاص.
3 6 - فضيلة سورة يوسف
وردت في الروايات الإسلامية فضائل مختلفة في تلاوة هذه السورة، ونقرأ
من ضمنها حديثا عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: " من قرأ سورة يوسف في
كل يوم أو في كل ليلة، بعثه الله يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف، ولا يصيبه
فزع يوم القيامة، وكان من خيار عباد الله الصالحين " (1).
إن الروايات التي وردت في فضائل سور القرآن - كما قلنا مرارا - ليس
معناها القراءة السطحية دون تفكر وعمل، بل تلاوة تكون مقدمة للتفكر... التفكر
الذي يجر إلى العمل، ومع ملاحظة محتوى هذه السورة يتضح أن من يستلهم
خطة حياته من هذه القصة، ويعف نفسه أمام طوفان شديد من الشهوات والمال
والجاه والمقام، إلى درجة يرى بها حفرة السجن المظلمة مقرونة بطهارة الثوب
أفضل من الحياة في قصور الملوك الملوثة، فإن مثل هذا الشخص في جمال
روحه كجمال يوسف، وما من خفي إلا ظهر يوم القيامة... وسيجد له جمالا
مذهلا ويكون في صف عباد الله الصالحين.
ومما يلزم ذكره أنه ورد في عدد من الأحاديث النهي عن تعليم هذه السورة
" للنساء "، ولعل السر في ذلك هو ما في الآيات المرتبطة بامرأة عزيز
مصر... فبالرغم من سرد القصة في بيان عفيف، إلا أنها سبب لتحريك بعض
النساء أيضا... وقد جاء التأكيد على تعليم سورة " النور " المشتملة على آيات
الحجاب للنساء بدلا من سورة يوسف.

1 - مجمع البيان في تفسير الآية.
116

ولكن سند هذه الروايات بشكل عام لا يعتمد عليه، إضافة إلى ذلك فقد ورد
في بعض الروايات الأخرى خلاف ذلك حيث ترغب في تعليم هذه السورة
للعائلة. وبعد هذا كله فإنه التدقيق في آيات هذه السورة يكشف أن هذه السورة،
ليس فيها أية نقطة سلبية بالنسبة للنساء، وليس هذا فحسب، بل إن ما جرى
لإمرأة عزيز مصر، درس فيه عبرة لجميع النسوة اللائي يبتلين بالوساوس
الشيطانية.
* * *
117

2 الآيات
الر تلك آيات الكتب المبين (1) إنا أنزلناه قرأنا عربيا
لعلكم تعقلون (2) نحن نقص عليك أحسن القصص بما
أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغفلين (3)
2 التفسير
3 أحسن القصص بين يديك:
تبدأ هذه السورة بالحروف المقطعة " ألف. لام. راء " وهي دلالة على عظمة
القرآن، وإن تركيب هذه الآيات ذات المحتوى العميق متكون من أبسط الأجزاء،
وهي حروف الهجاء " ألف - باء.. الخ " وقد تحدثنا عن الحروف المقطعة في
القرآن - حتى الآن - في ثلاثة مواضع " بداية سورة البقرة، وآل عمران،
والأعراف " بقدر كاف... فلا ضرورة للتكرار، وأثبتنا دلالتها على عظمة القرآن.
وربما كان لهذا السبب أن تأتي الإشارة - بعد هذه الحروف المقطعة مباشرة -
إلى بيان عظمة القرآن في هذه السورة، فتقول: تلك آيات الكتاب المبين.
ومما يستلفت النظر أنه استفيد من اسم الإشارة " تلك " في هذه الآية للبعيد،
نظير ما جاء في بداية سورة البقرة وبعض السور القرآنية الأخرى. وقد قلنا: إن
118

مثل هذه التعبيرات جميعا يشار بها إلى عظمة هذه الآيات، أي أنها بدرجة من
الرفعة والعلو كأنها في نقطة بعيدة لا يمكن الوصول إليها ببساطة، بل بالسعي
والجد المتواصل... فهي في أوج السماوات وفي أعالي الفضاء اللامتناهي، لا
أنها مطالب ومفاهيم رخيصة يحصل عليها الانسان في كل خطوة.
ثم يأتي البيان عن الهدف من نزول الآيات فيقول: إنا أنزلناه قرآنا عربيا
لعلكم تعقلون.
فالهدف إذن ليس القراءة أو التلاوة أو التيمن أو التبرك بتلاوة هذه الآيات
فحسب، بل الهدف الأساسي هو الإدراك... الإدراك القوي الذي يدعو الإنسان
إلى العمل بجميع وجوده.
وأما سر كون القرآن عربيا فهو بالإضافة إلى أن اللغة العربية واسعة كما
يشهد بذلك أهل المعرفة باللغات المختلفة من العالم، بحيث تستطيع أن تكون
ترجمانا للسان الوحي، وأن تبين المفاهيم الدقيقة لكلام الله سبحانه، فمن المسلم
به - بعد هذا - أن نور الإسلام بزغ في جزيرة العرب التي كانت منطلقا للجاهلية
والظلمة والتوحش والبربرية، ومن أجل أن يجمع أهل تلك المنطقة حول نفسه
فينبغي أن يكون القرآن واضحا مشرقا، ليعلم أهل الجزيرة الذين لاحظ لهم من
الثقافة والعلم والمعرفة، ويخلق بذلك مركزا محوريا لانتشار هذا الدين إلى سائر
نقاط العالم.
وبطبيعة الحال فإن القرآن بهذه اللغة " العربية " لا يتيسر فهمه لجميع الناس
في العالم (وهذا شأن أية لغة أخرى) لأننا لا نملك لغة عالمية ليفهمها جميع
الناس، ولكن ذلك لا يمنع من أن يستفيد من في العالم من تراجم القرآن، أو أن
يطلعوا تدريجا على هذه اللغة ليتلمسوا الآيات نفسها ويدركوا مفاهيم الوحي في
طيات هذه الألفاظ.
وعلى كل حال فالتعبير بكون القرآن عربيا - الذي تكرر في عشرة موارد
119

من القرآن - جواب لأولئك الذين يتهمون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه تعلم القرآن من
أعجمي، وأن محتوى القرآن مستورد وليس وحيا إلهيا.
وهذه التعبيرات المتتابعة تحتم ضمنا وظيفة مفروضة على جميع المسلمين،
وهي أن يسعوا جميعا إلى معرفة اللغة العربية وأن تكون اللغة الثانية إلى جانب
لغتهم، لأنها لغة الوحي ومفتاح فهم حقائق الإسلام.
ثم يقول سبحانه: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا
القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين.
يعتقد بعض المفسرين أن أحسن القصص إشارة إلى مجموع القرآن،
وأن جملة بما أوحينا إليك هذا القرآن قرينة على ذلك. والقصة هنا ليست
بمعنى سرد الحكاية، بل المراد معناها " الجذري " في اللغة وهو البحث عن آثار
الشئ. وبما أن أي موضوع - حين يشرح ويفصل - يبين بكلمات متتابعة، فلذلك
يطلق عليه قصة أيضا.
وعلى كل حال فإن الله سبحانه عبر ب‍ أحسن القصص عن مجموع هذا
القرآن الذي جاء في أجمل البيان والشرح، وأفصح الألفاظ وأبلغها، مقرونة
بأسمى المعاني وأدقها، بحيث يبدو ظاهره عذبا جميلا، ومن حيث الباطن
فمحتواها عظيم.
ونشاهد في روايات متعددة أن هذا التعبير استعمل في مجموع القرآن، رغم
أن هذه الروايات لم ترد في تفسير هذه الآية - محل بحثنا -.
فمثلا نقرأ حديثا نقله علي بن إبراهيم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن أحسن
القصص هذا القرآن " (1).
كما نقل في روضة الكافي عن خطبة لأمير المؤمنين قوله: " إن أحسن

1 - نور الثقلين، ج 2، ص 49.
120

القصص وأبلغ الموعظة وأنفع الذكر كتاب الله " (1).
ولكن ارتباط الآيات المقبلة التي تبين قصة يوسف (عليه السلام) مع هذه الآية - محل
البحث - بشكل يشد ذهن الإنسان إلى هذا المعنى، وهو أن الله عبر عن قصة
يوسف ب‍ أحسن القصص وربما لا ينقدح في أذهان الكثيرين ممن يطالعون
بداية آيات هذه السورة غير هذا المعنى.
وقلنا مرارا أنه لا مانع من أن تكون مثل هذه الآيات للمعنيين جميعا...
فالقرآن هو أحسن القصص بصورة عامة، وقصة يوسف هي أحسن القصص
بصورة خاصة.
ولم لا تكون هذه القصة أحسن القصص، مع أنها ترسم في فصولها المثيرة
أسمى دروس الحياة؟!
فنحن نشاهد حاكمية إرادة الله على كل شئ هذه القصة، وننظر بأعيننا
المصير الأسود الذي انتهى إليه الحساد وما رقموه على الماء من خطط.
كما تتجسم من خلال سطورها الذلة في الابتذال وعدم العفة، والعظمة في
التقوى ومنظر الصبي وهو وحيد في قعر الجب، وفي مشهد آخر نراه يقضي
الليالي والأيام دون ذنب في حفرة السجن المظلم، ثم انبثاق نور الأمل من خلف
حجب اليأس والظلمات، ثم نشاهد بعد ذلك حكومته العظيمة الواسعة نتيجة
دراسته وأمانته. كل هذه المشاهد تتجلى للقارئ لهذه القصة بشكل رتيب.
لحظات وبسبب رؤيا يتحول مصير أمة... إنقاذ أمة ومجتمع بشري من
الهلكة على يد قائد إلهي متيقظ... وعشرات الدروس الأخرى - الكبيرة - التي
تلوح في هذه القصة، فلم لا تكون هذه القصة أحسن القصص؟!
غاية ما في الأمر أنه لا تكفي أن تكون قصة يوسف وحدها هي أحسن
القصص، بل المهم أن تكون فينا الجدارة لأن نفهم هذا الدرس العظيم وأن نعرف

1 - نور الثقلين، ج 2، ص 49.
121

مكانه من نفوسنا.
فكثير من الناس لا يزال ينظر إلى قصة يوسف (عليه السلام) على أنها حادثة عشق
طريف، ومثله كمثل الدابة التي يلوح لها البستان النضر الملئ بالأزهار، إلا أنها
تراه حفنة من " العلف " تسد جوعها:
وما يزال الكثير من الناس يضفي على القصة افرازات خيالية كاذبة ليحرف
القصة عن واقعها... وهذا من عدم اللياقة وفقدان الجدارة وعدم قابلية المحل،
وإلا فإن أصل القصة جمع كل أنواع القيم الإنسانية العليا في نفسه.
وسنرى في المستقبل - بإذن الله - أنه لا يمكن تجاوز فصول هذه القصة
الجامعة والجميلة وكما يقول الشاعر في هذه القصة:
يسكر من عطر الزهور الفتى * حتى يرى مفتقدا ثوبه!
* * *
3 أثر القصة في حياة الناس
مع ملاحظة أن القسم المهم من القرآن قد جاء على صورة تأريخ للأمم
السابقة وقصص الماضين، فقد يتساءل البعض: لم يحمل هذا الكتاب التربوي كل
هذا " التأريخ " والقصص؟!
وتتضح العلة الحقيقية للموضوع بملاحظة عدة نقاط:
1 - إن التاريخ مختبر لنشاطات البشرية المختلفة، وما رسمه الإنسان في
ذهنه من الأفكار والتصورات يجده بصورة عينية على صفحات التاريخ.
وبملاحظة أن أكثر المعلومات البشرية توافقا مع الواقع والحقيقة هي التي تحمل
جانبا حسيا، فإن دور التاريخ في إظهار الواقعيات الحياتية يمكن دركه جيدا.
فالإنسان يرى بأم عينيه الهزيمة المردية - لأمة ما - نتيجة اختلافها وتفرقها،
كما يرى النجاح المشرق في قوم آخرين في ظل اتحادهم وتوافقهم. فالتاريخ
122

يتحدث بلغة - من دون لسان - عن النتائج القطعية وغير القابلة للإنكار للتطبيقات
العملية للمذاهب والخطط والبرامج عند كل قوم.
وقصص الماضين مجموعة من أكثر التجارب قيمة. ونعرف أن خلاصة
الحياة ومحصولها ليس شيئا سوى التجربة.
والتاريخ مرآة تنعكس عليها جميع ما للمجتمعات الإنسانية من محاسن
ومساوئ ورقي وانحطاط والعوامل لكل منها.
وعلى هذا فإن مطالعة تاريخ الماضين تجعل عمر الإنسان طويلا بقدر
أعمارهم حقا، لأنها تضع مجموعة تجاربهم خلال أعمارهم تحت تصرفه
واختياره.
ولهذا يقول الإمام علي (عليه السلام) في حديثه التاريخي خلال وصاياه لولده الحسن
المجتبى في هذا الصدد: " أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد
نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت
كأحدهم، بل كأني بما إنتهى إلي من أمورهم قد عمرت من أولهم إلى آخرهم " (1).
والتاريخ الذي نتحدث عنه طبعا هو التاريخ الخالي من الخرافات
والأكاذيب والتملقات والتحريفات والمسوخات.
ولكن - وللأسف - مثل هذا النوع من التاريخ قليل جدا.
ولا ينبغي أن نبعد عن النظر ما للقرآن من أثر في بيان " نماذج " من التاريخ
الأصيل وإراءتها.
التاريخ الذي ينبغي أن يكون كالمرآة الصافية لا المقعرة.
التاريخ الذي لا يتحدث عن الوقائع فحسب، بل يصل إلى الجذور
ويسترشف النتائج.
فمع هذه الحال لم لا يستند القرآن - الذي هو كتاب تربوي عال في فصوله -

1 - نهج البلاغة، من كتاب له (عليه السلام) لولده الحسن المجتبى (عليه السلام).
123

على التاريخ ويأتي بالشواهد والأمثال من قصص الماضين؟!
2 - ثم بعد هذا فإن للتاريخ والقصة جاذبية خاصة، والإنسان واقع تحت هذا
التأثير الخارق للعادة في جميع أدوار حياته من سن الطفولة حتى الشيخوخة.
ولذلك فإن التاريخ والقصة يشكلان القسم الأكبر من آداب العالم وآثار
الكتاب. وأحسن الآثار التي خلفها الشعراء والكتاب الكبار سواء كانوا من بلاد
العرب أو من فارس أو من بلاد أخرى هي قصصهم.
فأنت تلاحظ " الكلستان " - لسعدي و " الشاهنامة " لفردوسي و " الخمسة "
للنظامي وكذلك آثار " فيجتور هيجو " الفرنسي و " شكسبير " الإنجليزي
و " غوته " الألماني جميعها كتبت على هيئة قصص جذابة ".
والقصة سواء كتبت نثرا أو شعرا، أو عرضت على شاشة المسرح أو بواسطة
الفيلم السينمائي، فإنها تترك أثرا في المشاهد والمستمع دونها أثر الاستدلالات
العقلية في مثل هذا التأثير.
والعلة في ذلك قد تكون أن الإنسان حسي بالطبع قبل أن يكون عقليا
ويتخبط في المسائل المادية قبل أن يتعمق في المسائل الفكرية.
وكلما ابتعد الانسان عن ميدان الحس في نفسها جانبا عقليا، كانت هذه
المسائل أثقل على الذهن وأبطأ هضما.
ومن هنا نلاحظ أنه لأجل بيان الاستدلال العقلي يستمد المفكرين في
المسائل الاجتماعية والحياتية المختلفة وتوغل في البعد العقلي من الأمثلة
الحسية، وأحيانا يكون للمثال المناسب والمؤثر في الاستدلال قيمة مضاعفة،
ولذلك فإن العلماء الناجحين هم أولئك الذين لهم هيمنة على انتخاب أحسن
الأمثلة.
ولم لا يكون الأمر كذلك، والاستدلالات العقلية هي حصيلة المسائل
الحسية والعينية والتجريبية؟!
124

3 - القصة والتاريخ مفهومان عند كل أحد، على خلاف الاستدلالات
العقلية، فإن الناس في فهمها ليسوا سواسية... وعلى هذا فإن الكتاب الشامل
الذي يريد أن يستفيد منه البدوي الأمي والمتوحش... إلى الفيلسوف والمفكر
الكبير، يجب أن يكون معتمدا على التاريخ والقصص والأمثلة.
ومجموعة هذه الجهات تبين أن القرآن خطا أحسن الخطوات في بيان
التواريخ والقصص في سبيل التعليم والتربية، ولا سيما إذ التفتنا إلى هذه النقطة،
وهي أن القرآن لا يذكر الوقائع التاريخية في أي مجال بشكل عار من الفائدة، بل
يذكر معطياتها بشكل ينتفع بها تربويا، كما سنلاحظ " النماذج " والأمثلة في هذه
السورة.
* * *
125

2 الآيات
إذ قال يوسف لأبيه يأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا
والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (4) قال يبنى
لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن
الشيطان للإنسان عدو مبين (5) وكذلك يجتبيك ربك
ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل
يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق إن
ربك عليم حكيم (6)
2 التفسير
3 بارقة الأمل وبداية المشاكل:
بدأ القرآن بذكر قصة يوسف من رؤياه العجيبة ذات المعنى الكبير، لأن هذه
الرؤيا في الواقع تعد أول فصل من فصول حياة يوسف المتلاطمة.
جاء يوسف في أحد الأيام صباحا إلى أبيه وهو في غاية الشوق ليحدثه عن
رؤياه، وليكشف ستارا عن حادثة جديدة لم تكن ذات أهمية في الظاهر، ولكنها
كانت إرهاصا لبداية فصل جديد من حياته إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني
126

رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين.
يقول ابن عباس: (إن يوسف رأى رؤياه ليلة الجمعة التي صادفت ليلة القدر)
(ليلة تعيين الأقدار والآجال).
ولكن كم كان ليوسف من العمر حين رأى رؤياه؟!
هناك من يقول: كان ابن تسع سنوات، ومن يقول: ابن سبع، ومنهم من يقول:
ابن اثنتي عشرة سنة، والقدر المسلم به أنه كان صبيا.
ومما يستلفت الانتباه إلى جملة " رأيت " جاءت مكررة في الآية للتأكيد
والقاطعية، وهي إشارة إلى أن يوسف (عليه السلام) يريد أن يقول: إذا كان كثير من الناس
ينسون رؤياهم ويتحدثون عنها بالشك والتردد، فلست كذلك. بل أقطع بأني
رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين لي دون شك.
واللطيفة الأخرى هي أن ضمير " هم " الذي يأتي لجمع المذكر السالم
العاقل، قد استعمل للكواكب والشمس والقمر، ومثل هذا الاستعمال " ساجدين "
أيضا إشارة إلى أن سجود الكواكب لم يكن من قبيل الصدفة بل كان أمرا
مدروسا ومحسوبا كما يسجد الرجال العقلاء!
وواضح - طبعا - أن السجود المقصود منه هنا هو الخضوع والتواضع، وإلا
فإن السجود المعروف عند الناس لا مفهوم له بالنسبة للكواكب والشمس والقمر.
إن هذه الرؤيا المثيرة ذات المغزى تركت يعقوب النبي غارقا في التفكير...
فالقمر والشمس والكواكب، وأي الكواكب! إنها أحد عشر يسجدون جميعا
لولدي يوسف، كم هي رؤيا ذات مغزى! لا شك أن الشمس والقمر " أنا وأمه أو
خالته " والكواكب الأحد عشر إخوته، هكذا يرتفع قدر ولدي حتى تسجد له
الشمس والقمر وكواكب السماء.
إن ولدي " يوسف " عزيز عند الله إذا رأى هذه الرؤيا المثيرة!
لذلك توجه إلى يوسف بلهجة يشوبها الاضطراب والخوف المقرون
127

" بالفرحة " و قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا
وأنا أعرف إن الشيطان للإنسان عدو مبين وهو منتظر الفرصة ليوسوس لهم
ويثير نار الفتنة والحسد وليجعل الإخوة يقتتلون فيما بينهم.
الطريف هنا أن يعقوب لم يقل " أخاف من إخوتك أن يقصدوا إليك بسوء "
بل أكد ذلك على أنه أمر قطعي، وخصوصا بتكرار " الكيد " لأنه كان يعرف نوازع
أبنائه وحساسياتهم بالنسبة لأخيهم يوسف، وربما كان إخوته يعرفون تأويل
الرؤيا، ثم إن هذه الرؤيا لم تكن بشكل يعسر تعبيرها.
ومن جهة أخرى لا يتصور أن تكون هذه الرؤيا شبيهة برؤيا الأطفال، إذ
يمكن احتمال رؤية الأطفال للشمس والقمر والكواكب في منامهم، ولكن أن
تكون الشمس والقمر والكواكب موجودات عاقلة وتنحني بالسجود لهم، فهذه
ليست رؤيا أطفال... ومن هذا المنطلق خشي يعقوب على ولده يوسف نائرة
الحسد من إخوته عليه.
ولكن هذه الرؤيا لم تكن دليلا على عظمة يوسف في المستقبل من الوجهة
الظاهرية والمادية فحسب، بل تدل على مقام النبوة التي سيصل إليها يوسف في
المستقبل.
ولذلك فقد أضاف يعقوب - لولده يوسف - قائلا: وكذلك يجتبيك ربك
ويعلمك من تأويل (1) الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها
على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق.
أجل فإن الله على كل شئ قدير و إن ربك عليم حكيم.
* * *

1 - " التأويل " في الأصل إرجاع الشئ، وكل عمل أو كل حديث يصل إلى الهدف النهائي يطلق عليه " تأويل " وتحقق
الرؤيا في الخارج مصداق للتأويل... و " الأحاديث " جمع الحديث، وهو نقل ما يجري، والحديث هنا كناية عن الرؤيا
لأن الإنسان ينقلها للمعبرين.
128

2 ملاحظات
3 1 - الرؤيا والحلم
إن مسألة الرؤيا في المنام من المسائل التي تستقطب أفكار الأفراد العاديين
من الناس والعلماء في الوقت نفسه.
فما هذه الأحلام التي يراها الإنسان في منامه من أحداث سيئة أو حسنة،
وميادين موحشة أو مؤنسة، وما يثير السرور أو الغم في نفسه؟!
أهي مرتبطة بالماضي الذي عشعش في أعماق روح الإنسان وبرز إلى
الساحة بعد بعض التبديلات والتغييرات؟ أم هي مرتبطة بالمستقبل الذي تلتقط
صوره عدسة الروح برموز خاصة من الحوادث المستقبلية؟! أو هي أنواع
مختلفة، منها ما يتعلق بالماضي، ومنها ما يتعلق بالمستقبل، ومنها ناتج عن
الميول النفسية والرغبات وما إلى ذلك...؟!
إن القرآن يصرح في آيات متعددة أن بعض هذه الأحلام - على الأقل -
انعكاسات عن المستقبل القريب أو البعيد.
وقد قرأنا عن رؤيا يوسف في الآيات المتقدمة، كما سنرى قصة الرؤيا التي
حدثت لبعض السجناء مع يوسف في الآية (36) وقصة رؤيا عزيز مصر في الآية
(43) وجميعها تكشف الحجب عن المستقبل.
وبعض هذه الحوادث - كما في رؤيا يوسف - تحقق في وقت متأخر نسبيا
" يقال أن رؤيا يوسف تحققت بعد أربعين سنة " وبعضها تحقق في المستقبل
القريب كما في رؤيا عزيز مصر ولمن في السجن مع يوسف.
وفي غير سورة يوسف إشارات إلى الرؤيا التي كان لها تعبير أيضا، كما ورد
في سورة الفتح عن رؤيا النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما ورد في سورة الصافات عن رؤيا
إبراهيم الخليل " وهذه الرؤيا كانت وحيا إلهيا بالإضافة لما حملت من تعبير ".
ونقرأ في الحديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الرؤيا قوله: " الرؤيا ثلاث:
129

بشرى من الله، وتحزين من الشيطان، والذي يحدث به الإنسان نفسه فيراه في
منامه " (1).
وواضح أن أحلام الشيطان ليست شيئا حتى يكون لها تعبير، ولكن ما يكون
من الله في الرؤيا فهي تحمل بشارة حتما... ويجب أن تكون رؤيا تكشف الستار
عن المستقبل المشرق.
وعلى كل حال يلزمنا هنا أن نبين النظرات المختلفة في حقيقة الرؤيا،
ونشير إليها بأسلوب مكثف مضغوط.
والتفاسير في حقيقة الرؤيا كثيرة ويمكن تصنيفها إلى قسمين هما:
1 - التفسير المادي
2 - التفسير المعنوي
3 1 - التفسير المادي:
يقول الماديون: يمكن أن تكون للرؤيا عدة علل:
ألف: قد تكون الرؤيا نتيجة مباشرة للأعمال اليومية، أي أن ما يحدث
للإنسان في يومه قد يراه في منامه.
ب - وقد تكون الرؤيا عبارة عن سلسلة من الأماني، فيراها الإنسان في
النوم كما يرى الظمآن في منامه الماء، أو أن إنسانا ينتظر مسافرا فيراه في منامه
قادما من سفره.
ج - وقد يكون الباعث للرؤيا الخوف من شئ ما، وقد كشفت التجارب أن
الذين يخافون من لص يرونه في النوم.
أما فرويد وأتباعه فلديهم مذهب خاص في تفسير الأحلام، إذ أنهم بعد

1 - بحار الأنوار، ج 14، ص 44 ويضيف بعض العلماء قسما رابعا على هذه الأقسام، هو الرؤيا التي تكون نتيجة
مباشرة عن الوضع المزاجي والجسماني للإنسان، وسيشار إليها في البحوث المقبلة... إن شاء الله.
130

شرح بعض المقدمات يقولون: إن الرؤيا عبارة عن إرضاء الميول المكبوتة التي
تحاول الظهور على مسرح الوعي بعد تحويرها وتبدلها في عملية خداع الأنا.
ولزيادة الإيضاح يقولون: - بعد قبول أن النفس البشرية مشتملة على
قسمين " الوعي " وهو ما له ارتباط بالأفكار اليومية والمعلومات الإرادية
والاختيارية للإنسان، و " اللاوعي " وهو ما خفي في باطن الإنسان بصورة رغبة
لم تتحقق - فكثيرا ما يحدث أن تكون لنا ميول لكننا لم نستطع إرضاءها -
لظروف ما - فتأخذ مكانها في ضمير الباطن: وعند النوم حين يتعطل جهاز الوعي
تمضي في نوع من إشباع التخيل إلى الوعي نفسه، فتنعكس أحيانا دون تغيير
[كمثل العاشق الذي يرى في النوم معشوقته] وأحيانا تتغير أشكالها وتنعكس
بصور مناسبة، وفي هذه الحالة تحتاج الرؤيا إلى تعبير.
فعلى هذا تكون الأحلام مرتبطة بالماضي دائما ولا تخبر عن المستقبل
أبدا، نعم يمكن أن تكون وسيلة جيدة لقراءة " ضمير اللاوعي! ".
ومن هنا فهم يستعينون لمعالجة الأمراض النفسية المرتبطة بضمير
" اللاوعي " باستدراج أحلام المريض نفسه.
ويعتقد بعض علماء التغذية أن هناك علاقة بين الرؤيا وحاجة البدن للغذاء،
فمثلا لو رأى الإنسان في نومه دما يقطر من أسنانه، فتعبير ذلك أن بدنه يحتاج
إلى فيتامين (ث) وإذا رأى في نومه أن شعر رأسه صار أبيضا، فمعناه أنه مبتلى
بنقص فيتامين (ب).
3 2 - التفسير المعنوي
وأما الفلاسفة الميتافيزقيون فلهم تفسير آخر للرؤيا، حيث يقولون: إن
الرؤيا والأحلام على أقسام:
1 - الرؤيا المرتبطة بماضي الحياة حيث تشكل الرغبات والأمنيات قسما
131

مهما من هذه الأحلام.
2 - الرؤيا غير المفهومة والمضطربة وأضغاث الأحلام التي تنشأ من التوهم
والخيال (وإن كان من المحتمل أن يكون لها دافع نفسي.
3 - الرؤيا المرتبطة بالمستقبل والتي تخبر عنه.
ومما لا شك فيه أن الأحلام المتعلقة بالحياة الماضية وتجسد الأمور التي
رأها الإنسان في طول حياته ليس لها تعبير خاص... ومثلها الأطياف المضطربة
أو ما تسمى بأضغاث أحلام التي هي افرازات الأفكار المضطربة، كالأطياف التي
تمر بالإنسان وهو في حال الهذيان أو الحمى، فهي - أيضا - لا يمكن أن تكون
تعبيرا عن مستقبل الحياة... ولهذا فإن علماء النفس يستفيدون من هذه الأحلام
ويتخذونها نوافذ للدخول إلى ضمير اللاوعي في البشر، ويعدونها مفاتيح لعلاج
الأمراض النفسية، ويكون تعبير الرؤيا عند هؤلاء لكشف الأسرار النفسية
وأساس الأمراض، لا لكشف حوادث المستقبل في الحياة!
أما الأحلام المتعلقة بالمستقبل فهي على نحوين:
قسم منها أحلام واضحة وصريحة لا تحتاج إلى تعبير... وأحيانا تتحقق
بشكل عجيب في المستقبل القريب أو البعيد دون أي تفاوت.
وهناك قسم آخر من هذه الأحلام التي تتحدث عن المستقبل، ولكنها في
الوقت ذاته غير واضحة، وقد تغيرت نتيجة العوامل الذهنية والروحية الخاصة
فتحتاج إلى تعبير.
ولكل من هذه الأحلام نماذج ومصاديق كثيرة، ولا يمكن إنكارها جميعا،
لأنها لا في المصادر المذهبية أو الكتب التأريخية - فحسب - بل تتكرر في
حياتنا أو حياة من نعرفهم بشكل لا يمكن عده من باب المصادفات والاتفاقات!.
* * *
132

ونذكر هنا عدة نماذج من الأحلام الصادقة التي كشفت بشكل عجيب عن
حوادث مستقبلية سمعناها من افراد موثوقين:
1 - المرحوم الآخوند ملا علي من علماء همدان الموثوقين والمعروفين
ينقل عن المرحوم الميرزا عبد النبي النوري وهو من علماء طهران الكبار هذه
القضية:
عندما كنت في سامراء كان يصلني سنويا من مدينة مازندران مبلغ بمقدار
مائة تومان تقريبا، وعلى أساس هذا الامر كنت استقرض دائما مقدار حاجتي
من المؤونة وعندما يصلني هذا المبلغ كنت أقوم بتسديد هذه القروض.
وفي أحد الأعوام جاءني خبر مؤسف، وهو أن المحصول الزراعي في
مازندران سئ للغاية بسبب القحط، ولهذا فإنهم يعتذرون عن عدم إرسال المبلغ
المقرر في هذه السنة، ولما سمعت بذلك تألمت بشدة ونمت وأنا في هذه الحال
من الهم والغم، فرأيت في عالم الرؤيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يدعوني ويقول: يا
فلان، قم وافتح تلك الخزانة (وأشار إلى خزانة في الحائط) وخذ منها مائة تومان
موجودة هناك. فانتبهت من النوم، ولم تمض فترة حتى طرقت الباب بعد الظهر،
فرأيت رسول الميرزا الشيرازي (قدس سره) المرجع الكبير للشيعة وقال لي: إن الميرزا
يدعوك: فتعجبت من هذه الدعوة في هذا الوقت بالذات. فذهبت إليه فرأيته
جالسا في حجرته (وقد نسيت الرؤيا تماما) وفجأة قال لي المرحوم الميرزا
الشيرازي: يا ميرزا عبد النبي افتح باب تلك الخزانة وخذ منها مائة تومان
موجودة هناك. فتذكرت الرؤيا فورا وتعجبت كثيرا وأردت ان أقول شيئا،
ولكني شعرت بأنه لا يرغب في ذلك، فقمت إلى الخزانة فأخذت المبلغ المذكور
وخرجت.
2 - وينقل صديق - وهو محل اعتماد - أن المرحوم التبريزي صاحب كتاب
" ريحانة الأديب " كان له ولد يشكو من يده اليمنى (ربما كان مبتلى بالروماتيزم)
133

بشكل يصعب عليه أن يمسك القلم بيده، فتقرر أن يسافر إلى ألمانيا للمعالجة
ويقول: حين كنت في السفينة رأيت في المنام أن أمي توفيت ففتحت التقويم
السنوي وسجلت الحادثة - مقيدة بالساعة واليوم - ولم تمض فترة حتى رجعت
إلى بلدي فاستقبلني جماعة من الأقارب والأصدقاء فوجدتهم لبسوا ثياب
الحداد فتعجبت، وكنت قد نسيت الرؤيا، وأخيرا أخبرت - بالتدريج - أن أمي
توفيت، فتذكرت مباشرة رؤياي في السفينة فأخرجت التقويم وسألت عن اليوم
الذي توفيت فيه فكان مطابقا لذلك اليوم تماما.
3 - يقول سيد قطب في تفسيره " في ظلال القرآن " في هامشه على الآيات
المتعلقة بسورة يوسف: " إذا كنت أنكر جميع ما قلتم في الرؤيا فلن أستطيع أن
أنكر ما حدث لي يوم كنت في أمريكا أبدا... رأيت هناك في المنام أن ابن أختي
قد نزفت عيناه دما ولا يستطيع أن يرى (كان ابن أختي وسائر أعضاء أسرتي
بمصر) فاستوحشت مما رأيت وكتبت رسالة إلى أسرتي بمصر فورا، وسألتهم
عن حال ابن أختي بوجه خاص، فلم تمض فترة حتى جاءني الجواب الذي
يخبرني بأن ابن أختي مبتلى بنزيف داخلي في عينيه ولا يستطيع أن يرى، وهو
مشغول بالمعالجة.
ومما يستلفت النظر أن النزف الداخلي كان بشكل لا يمكن رؤيته إلا
بالأجهزة الطبية، وقد حرم ابن أختي من النظر والرؤية على كل حال. غير أنني
رأيت في منامي حتى هذه المسألة الدقيقة.
إن الأحلام التي تكشف الحجب عن الأسرار والحقائق المرتبطة بالمستقبل،
أو الحقائق الخفية المتعلقة بالحاضر، هي أكثر من أن تحصر، وليس بمقدور بعض
الأفراد الذي لا يعتقدون بهذه الحقائق انكارها، أو حملها على المصادفة
والاتفاق!
ومن خلال التحقيق مع الأصدقاء القريبين يمكن الحصول على شواهد
134

كثيرة من هذه الأحلام، وهذه الأحلام لا يمكن تعبيرها عن طريق التفسير المادي
أبدا، وإنما الطريق الوحيد هو تعبير فلاسفة الروح والاعتقاد باستقلال الروح،
ومن مجموع هذه الأحلام يمكن أن نستفيد منها كشاهد على استقلال الروح.
2 - في الآيات - محل البحث - نلاحظ أن يعقوب - بالإضافة إلى تحذيره
لولده يوسف من أن يقص رؤياه على إخوته - فإنه عبر عن رؤياه بصورة إجمالية
وقال له وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك
وعلى آل يعقوب.
ودلالة رؤيا يوسف على أنه سيبلغ في المستقبل مقامات كبيرة معنوية
ومادية يمكن دركها تماما... ولكن يبرز هذا السؤال، وهو: كيف عرف يعقوب أن
ابنه يوسف سيعلم تأويل الأحاديث في المستقبل؟ أهو خبر أخبره يعقوب
ليوسف مصادفة ولا علاقة له بالرؤيا، أم أنه اكتشف ذلك من رؤيا يوسف؟
الظاهر أن يعقوب فهم ذلك من رؤيا يوسف، ويمكن أن يكون ذلك عن أحد
طريقين:
الأول: إن يوسف في حداثة سنه وقد نقل لأبيه - خاصة - بعيدا عن أعين
إخوته (لأن أباه أوصاه أن لا يقصها على إخوته) وهذا الأمر يدل على أن يوسف
نفسه كان له إحساس خاص برؤياه بحيث لم يقصصها بمحضر الجميع....
ولأن مثل هذا الإحساس في صبي - كيوسف (عليه السلام) - يدل على أن له استعدادا
روحيا لتعبير الرؤيا، وإن أباه قد أحس بهذا الاستعداد... وبالتربية الصحيحة
سيكون له في المستقبل حظ زاهر في هذا المجال.
الثاني: إن ارتباط الأنبياء، بعالم الغيب له عدة طرق، فمرة عن طريق
" الإلهامات القلبية " وتارة عن طريق " ملك الوحي " وأخرى عن طريق " الرؤيا ".
وبالرغم من أن يوسف لم يكن نبيا في ذلك الوقت، لكن رؤيته لهذه الرؤيا
ذات المعنى الكبير يدل على أن سيكون له ارتباط بعالم الغيب في المستقبل،
135

ولابد أن يعرف تعبير الرؤيا - طبعا - حتى يكون له مثل هذا الارتباط.
3 - من الدروس التي نستلهمها من هذا القسم من الآيات أن نحفظ الأسرار،
وينبغي أن يطبق هذا الدرس أحيانا حتى أمام الإخوة، فدائما تقع في حياة
الإنسان أسرار لو أذيعت وفشت بات مستقبله أو مستقبل مجتمعه معرضا
للخطر، والمواظبة على حفظ هذه الأسرار دليل على سعة الروح وتملك الإرادة،
فكثير من ضعاف الشخصية أوقعوا أنفسهم أو مجتمعهم في الخطر بسبب إفشاء
الأسرار، وكم يرى الإنسان - من مساءة وضرر لأنه ترك حفظ الأسرار....
وفي هذا المجال ورد حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إذ قال: " لا
يكون المؤمن مؤمنا حتى تكون فيه ثلاث خصال: سنة من ربه، وسنة من نبيه،
وسنة من وليه. فأما السنة من ربه فكتمان السر، وأما السنة من نبيه فمداراة
الناس، وأما السنة من وليه فالصبر على البأساء والضراء " (1).
وورد حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: " سرك من دمك فلا يجرين من
غير أوداجك " (2).
* * *

1 - بحار الأنوار، ط جديدة، ج 78، ص 334.
2 - سفينة البحار، مادة: كتم.
136

2 الآيات
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين (7) إذ قالوا
ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى
ضلل مبين (8) اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم
وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9) قال قائل
منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيبت الجب يلتقطه بعض
السيارة إن كنتم فعلين (10)
2 التفسير
المؤامرة:
من هنا تبدأ قصة مواجهة إخوة يوسف واشتباكهم معه:
ففي الآية الأولى - من الآيات محل البحث - إشارة إلى الدروس التربوية
الكثيرة التي توحيها القصة، إذ تقول الآية: لقد كان في يوسف وإخوته آيات
للسائلين.
وفي أن المراد بالسائلين، من هم؟ يقول بعض المفسرين كالقرطبي في
التفسير الجامع وغيره: إن هؤلاء السائلين هم جماعة من يهود المدينة، جاؤوا
137

يسألون النبي أسئلة في هذا المجال، ولكن ظاهر الآية مطلق، فلا مرجح لأن
يكون المراد بالسائلين هم اليهود دون غيرهم.
وأي درس أعظم من أن يجتمع عدة أفراد لإهلاك فرد ضعيف ووحيد - في
الظاهر - وبخطط أعدها الحسد، ويبذلون أقصى جهودهم لهذا الأمر، ولكن نفس
هذا العمل - ودون شعور وإرادة منهم - بات سببا في تربعه على سرير الملك
وصيرورته آمرا على البلد الكبير " مصر " ثم يأتي إخوته في النهاية ليطأطئوا
برؤوسهم إعظاما له، وهذا يدل على أن الله إذا أراد أمرا فهو قادر على أن يجريه
حتى على أيدي من يخالفون ذلك الأمر، ليتجلى أن الإنسان المؤمن الطاهر ليس
وحيدا في هذا العالم، فلو سعى جميع أفراد هذا العالم إلى إزهاق روحه والله لا
يريد ذلك، فإنهم لا يستطيعون أن يسلبوا منه شعرة واحدة.
كان ليعقوب اثنا عشر ولدا، واثنان منهم: يوسف وبنيامين وهما من أم
واحدة اسمها راحيل، وكان يعقوب يولي هذين الولدين محبة خاصة، لا سيما
يوسف.
لأنهما أولا: أصغر أولاده، وبالطبع فهما يحتاجان إلى العناية والرعاية
والمحبة.
وثانيا: لأن أمهما ارتحلت من الدنيا - طبقا لبعض الروايات - وبعد هذا كله
كانت بوادر النبوغ والذكاء والحاد ترتسم على يوسف، وهذه الأمور أدت إلى أن
أن يولي يعقوب ابنه هذا عناية أكثر.
إلا أن الإخوة الحساد - دون أن يلتفتوا إلى هذه الجهات - تألموا من حب
أبيهم ليوسف وأخيه، وخاصة بعد اختلافهم في الام والمنافسة الطبيعية المترتبة
على هذا الأمر. لهذا اجتمعوا فيما بينهم وتدارسوا الأمر وصمموا على المؤامرة
إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة (1).

1 - " العصبة " معناها الجماعة المتفقون على الأمر، وهذه الكلمة معناها الجمع إلا لا مفرد لها من جنسها.
138

وحكموا على أبيهم من جانب واحد بقولهم: إن أبانا لفي ضلال مبين.
إن نار الحسد والحقد لم تدعهم ليفكروا في جميع جوانب الأمر ليكتشفوا
دلائل علاقة الحب التي تربط يعقوب بولديه يوسف وبنيامين، لأن المنافع
الخاصة لكل فرد تجعل بينه وبين عقله حجابا فيقضي من جانب واحد لتكون
النتيجة " الضلال عن جادة الحق والعدل " وبالطبع فإن اتهامهم لأبيهم بالضلالة، لم
يكن المقصود منها الضلالة الدينية، لأن الآيات الآتية تكشف عن اعتقادهم بنبوة
أبيهم، وإنما استنكروا طريقة معاشرته فحسب.
ثم أدى بهم الحسد إلى أن يخططوا لهذا الأمر، فاجتمعوا وقدموا مقترحين
وقالوا: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا - أرسلوه إلى منطقة بعيدة - يخل لكم
وجه أبيكم.
ومن الحق أن تشعروا بالذنب والخجل في وجدانكم لأنكم تقدمون على
هذه الجناية في حق أخيكم الصغير، ولكن يمكن أن تتوبوا وتغسلوا الذنب
تكونوا من بعده قوما صالحين.
وهناك احتمال آخر لتفسير هذه الآية هو أنكم إذا أبعدتم أخاكم عن عيني
أبيكم يصلح ما بينكم وبين أبيكم وتذهب أتعابكم ويزول أذاكم من هذا
الموضوع، ولكن التفسير الأول أقرب للنظر!
وعلى كل حال فإن هذه الجملة تدل على إحساسهم بالذنب من هذا العمل،
وكانوا يخافون الله في أعماق قلوبهم، ولذلك قالوا: نتوب ونكون من بعده قوما
صالحين.
ولكن المسألة المهمة هنا هي أن الحديث عن التوبة قبل الجريمة - في
الواقع - هو لأجل خداع " الوجدان " وإغرائه وفتح الباب للدخول إلى الذنب، فلا
يعد دليلا على الندم أبدا.
وبتعبير آخر: إن التوبة الواقعية هي التي توجد بعد الذنب حالة من الندم
139

والخجل للإنسان، وأما الكلام في التوبة قبل الذنب فليس توبة.
وتوضيح ذلك أنه كثيرا ما يقع أن الإنسان حين يواجه الضمير و " الوجدان "
عند الإقدام على الذنب، أو حين يكون الاعتقاد الديني سدا وحاجزا أمامه يمنعه
عن الذنب وهو مصمم عليه، فمن أجل أن يجتاز حاجز الوجدان أو الشرع بيسر،
يقوم الشخص بخداع نفسه وضميره يأتي سوف أقف مكتوف اليدين بعد الذنب،
بل سأتوب وأمضي إلى بيت الله وأؤدي الأعمال الصالحة، وسأغسل جميع آثار
الذنوب.
أي إنه في الوقت الذي يرسم الخطة الشيطانية للإقدام على الذنب، يرسم
خطة شيطانية أخرى لمخادعة الضمير والوجدان... وللاعتداء على عقيدته!
فإلى أي درجة تبلغ هذه الخطة من السوء بحيث تمكن الإنسان من تحقيق
الجناية والذنب وكسر الحاجز الديني الذي يقف أمامه!!
إن إخوة يوسف دخلوا من هذا الطريق أيضا.
المسألة الدقيقة الأخرى في هذه الآية: أنهم قالوا: يخل لكم وجه أبيكم
ولم يقولون: يخل لكم قلب أبيكم، وذلك لأنهم لم يطمئنوا إلى أن أباهم ينسى
يوسف بهذه السرعة... فيكفي أن يتوجه إليهم أبوهم، ولو ظاهرا!
وهناك احتمال آخر لهذا التعبير، وهو أن الوجه والعينين نافذتان إلى القلب،
فمتى ما خلا الوجه لهم فإن القلب سيخلو ويتوجه إليهم بالتدريج.
ولكن كان من بين الأخوة من هو أكثر ذكاء وأرق عاطفة ووجدانا، لأنه لم
يرض بقتل يوسف أو إرساله إلى البقاع البعيدة التي يخشي عليه من الهلاك فيها...
فاقترح عليهم اقتراحا ثالثا، وهو أن يلقى في البئر (بشكل لا يصيبه مكروه) لتمر
قافلة فتأخذه معها، ويغيب عن وجه أبيه ووجوههم، حيث تقول الآية في هذا
الصدد قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض
السيارة إن كنتم فاعلين....
* * *
140

2 ملاحظات
1 - " الجب " معناه " البئر " التي لم تنضد بالطابوق والصخور، ولعل أغلب
آبار الصحراء على هذه الشاكلة.
و " الغيابة " المخبأ من البئر الغائب عن النظر ولعل هذا التعبير يشير إلى أن
الآبار الصحراوية يصنع في قعرها مكان قريب من الماء، بحيث لو أراد أحد
النزول إلى البئر ليستفيد من الماء، فإنه يستطيع أن يجلس هناك ويملأ دلوه من
ذلك الماء دون أن ينزل هو في الماء، وبالطبع فإن من ينظر البئر من فوقها لا يرى
ذلك المكان ولذلك سمي " غيابة " (1).
2 - لا شك أن اقتراح هذا القائل ألقوه في غيابة الجب لم يكن الهدف منه
موت يوسف في البئر، بل بقاءه سالما لتنقذه القافلة عند مرورها على البئر
للاستسقاء.
3 - يستفاد من جملة إن كنتم فاعلين أن القائل لم يكن يرغب - أساسا -
حتى بهذا الاقتراح ولعله كان لا يوافقهم على إيذاء يوسف أصلا.
4 - هناك اختلاف بين المفسرين في اسم هذا الأخ القائل لا تقتلوا
يوسف فقال بعضهم: اسمه " روبين " وكان أذكاهم، وقال بعضهم: اسمه " يهودا "
وقال آخرون: اسمه " لاوي ".
3 5 - أثر الحسد المدمر في حياة الناس
الدرس الآخر الذي نتعلمه من هذه القصة، وهو أن الحسد يمكن أن يدفع
الإنسان حتى إلى قتل أخيه، أو ايجاد المشاكل له، فنار الحسد إذا لم يمكن
إخمادها فإنها ستحرق صاحبها بالإضافة إلى إحراق الآخرين بها.
وأساسا إذا حرم الإنسان من نعمة أنعمها الله على عبد سواه، فإنه سيكون

1 - مقتبس من تفسير المنار في تفسير الآية.
141

امام أربع حالات مختلفة.
الأولى: أن يتمنى أن ينعم الله عليه مثل ما أنعم على غيره، وهذه الحالة تدعى
" الغبطة " وهي جديرة بالثناء والمدح، وليس لها أثر سئ، لأنها تدعو صاحبها
للسعي والجد والمثابرة حتى ينال مثل ما نال المغبوط.
الثانية: أن يتمنى أن تسلب هذه النعمة عن الآخرين، ويسعى من أجل تحقيق
هذا التمني، وهذه هي الحالة المذمومة الموسومة " بالحسد " التي تدعو صاحبها
إلى التخريب وسلب النعمة عن الآخرين، دون أن تدعوه لأن يطلب من الله مثل ما
أعطي غيره من النعم.
الثالثة: أن يتمنى أن تكون هذه النعمة له فقط ويحرم الآخرون منها وهذه
الحالة تسمى " البخل " والأنانية التي تدعو الإنسان أن يطلب شيئا لنفسه، ويلتذ
من حرمان الآخرين.
الرابعة: أن يتمنى ويحب تنعم الآخرين بهذه النعمة وإن كان محروما منها،
وهو مستعد أن يقدم ما عنده من أجلهم... وبغض النظر عن منافعه الشخصية،
وهذه الحالة الرفيعة هي ما يسمى ب‍ " الإيثار " التي هي من أهم الصفات الإنسانية
الحميدة.
وعلى كل حال فإن الحسد لا يقتصر على قتل إخوة يوسف لأخيهم فحسب،
بل قد يوصل الإنسان إلى قتل نفسه.
ولهذا نجد في الأحاديث الإسلامية تعابير مؤثرة تدعو إلى مكافحة هذه
الرذيلة، وعلى سبيل المثال نورد منها ما يلي:
1 - في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن الله نهى موسى عن الحسد وقال
له: إن الحاسد ساخط لنعمي صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك
فلست منه وليس مني " (1).

1 - أصول الكافي، ج 2، ص 307.
142

2 - ونقرأ حديثا للإمام الصادق (عليه السلام) يقول: " آفة الدين الحسد والعجب
والمفاخرة " كما نقرأ له حديثا يقول: " إن المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق
يحسد ولا يغبط " (1).
6 - كما نستنتج درسا آخر من هذا المقطع في القصة، وهو أن الوالدين ينبغي
أن يلاحظا أبناءها الآخرين عند إبراز عنايتهما ومحبتهما لواحد منهم، فبالرغم
من أن يعقوب لم يرتكب خطأ - دون أي شك - بالنسبة لإبراز علاقته لولديه
يوسف وبنيامين، وإنما كان كل ذلك وفق حسابات خاصة. ولكن هذه الحادثة
تكشف لنا أنه ينبغي أن يكون الإنسان أكثر إحساسا، في هذه المسألة - من القدر
اللازم. لأن إبراز العلاقة لبعض الأبناء دون بعض توجد عقدة في نفوس
الآخرين، إلى درجة أنها تجرهم إلى كل عمل مخرب، حيث يجدون شخصياتهم
منهزمة ولابد من تحطيم شخصية أخيهم للتعويض عن هذه الهزيمة، فيكون
الإقدام على هذا العمل دون لحاظ الرحمية ووشائج القربى.
وإذا لم يستطع الإنسان أن يقوم بعمل معاكس، فإنه يظل يلوم نفسه
ويحرضها حتى يبتلى بالمرض النفسي.
وما زلت أذكر أنه كان لي صديق قد مرض ولده الصغير، فأوصى ولده الكبير
برعايته، وأخذ الأب يولي ولده الصغير محبة وشفقة فائضة " لأنه مريض ".
فلم تمض فترة حتى مرض هذا الابن الكبير بمرض نفسي مجهول، قلت
لذلك الصديق العزيز: ألا تفكر أن أساس المرض هو عدم العدالة بين ولديك...
لكنه لم يصدق، وأخيرا راجع الطبيب النفساني المختص فقال: إن ابنك ليس
مريضا بمرض خاص، وإنما أساس مرضه هو اهتمامك بأخيه وعدم اهتمامك به،
وهو يحس بأن شخصيته متعطشة للحنان والحب، في حين أن أخاه لم يحرم
منهما.

1 - المصدر نفسه.
143

وفي هذا الصدد نقرأ في الروايات الإسلامية أن الإمام الباقر (عليه السلام) قال يوما:
" والله إني لأصانع بعض ولدي، وأجلسه على فخذي، وأنكز له المخ، وأكسر له
الكسر، وإن الحق لغيره من ولدي، ولكن مخافة عليه منه ومن غيره، لا يصنعوا به
ما فعل بيوسف اخوته، وما أنزل الله سورة إلا أمثالا لكي لا يجد بعضنا بعضا كما
حسد يوسف إخوته، وبغوا عليه، فجعلها رحمة على من تولانا، ودان بحبنا وحجة
على أعدائنا ومن نصب لنا الحرب والعداوة " (1).
* * *

1 - بحار الأنوار، ج 74، ص 78.
144

2 الآيات
قالوا يأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له،
لناصحون (11) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له
لحافظون (12) قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله
الذئب وأنتم عنه غفلون (13) قالوا لئن أكله الذئب ونحن
عصبة إنا إذا لخاسرون (14)
2 التفسير
3 المؤامرة المشؤومة!
بعد أن صوب إخوة يوسف اقتراح أخيهم في عدم قتل يوسف، وإلقائه في
الجب، أخذوا يفكرون في كيفية فصل يوسف عن أبيه لذلك أقدموا على تخطيط
آخر، فجاؤوا إلى أبيهم بلسان لين يدعو إلى الترحم، وفي شكل يتظاهرون به أنهم
مخلصون له وحدثوا أباهم و قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له
لناصحون.
تعال يا أبانا وارفع اليد عن اتهامنا، فإنه أخونا وما يزال صبيا وبحاجة إلى
اللهو واللعب، وليس من الصحيح حبسه عندك في البيت، فخل سبيله أرسله
145

معنا غدا يرتع ويلعب (1).
وإذا كنت تخشى عليه من سوء فنحن نواظب على حمايته وإنا له
لحافظون.
وبهذا الأسلوب خططوا لفصل أخيهم عن أبيه بمهارة، ولعلهم قالوا هذا
الكلام أمام يوسف ليطلب من أبيه إرساله معهم.
وهذه الخطة تركت الأب - من جانب - أمام طريق مسدود، فإذا لم يرسل
يوسف مع إخوته فهو تأكيد على اتهامه إياهم، وحرضت - من جانب آخر -
يوسف على أن يطلب من أبيه الذهاب معهم ليتنزه كما يتنزه إخوته، ويستفيد من
هذه الفرصة لاستنشاق الهواء الطلق خارج المدينة.
أجل، هكذا تكون مؤامرات الذين ينتهزون الفرصة، وغفلة الطرف الآخر،
فيستفيدوا من جميع الوسائل العاطفية والنفسية، ولكن المؤمنين ينبغي ألا
ينخدعوا بحكم الحديث المأثور " المؤمن كيس " أي فطن ذكي فلا يركنوا للمظهر
المنمق حتى لو كان ذلك من أخيهم.
ولكن يعقوب - دون أن يتهم إخوة يوسف بسوء القصد - أظهر تردده في
إرسال يوسف لأمرين: الأول: أنه سيبتعد عنه فيحزن عليه، والثاني: ربما يوجد
خارج المدينة بعض الذئاب المفترسة فتأكله، فاعتذر إليهم و قال إني ليحزنني
أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون.
وهذه المسألة طبيعية، حيث قد يبتعد إخوة يوسف عنه فيغفلون عن أمره،
فيأتي إليه الذئب فيأكله.
وبديهي أن الإخوة لم يكن لهم جواب بالنسبة للأمر الأول الذي أشار إليه
أبوهم يعقوب، لأن الحزن والاغتمام على فراق يوسف لم يكن شيئا عاديا حتى

1 - " يرتع " من مادة " رتع " على وزن " قطع " ومعناه في الأصل رعي الأغنام والأنعام بصورة عامة للنباتات وشبعها
منها، ولكن قد يطلق هذا اللفظ (رتع، يرتع) ويراد به تنزه الإنسان وكثرة الأكل والشرب أيضا.
146

يعوض عنه، وربما كان هذا التعبير مثيرا لنار الحسد في إخوة يوسف أكثر.
ومن جهة أخرى فإن هذا الموضوع الذي أشار إليه يعقوب، وهو حزنه على
ابتعاد يوسف عنه يمكن رده، وهو لا يحتاج إلى بيان، لأن الولد لابد له من
الابتعاد عن أبيه من أجل أن ينمو ويرشد، وإذا أريد له أن يكون كنبات
" النورس " بحيث يبقى تحت ظل شجرة " وجود الأب " فإنه سوف يبقى عالة
عليه فلابد من هذا الابتعاد والانفصال حتى يتكامل ولده، فاليوم تنزه وغدا
اجتهاد ومثابرة لتحصيل العلم، وبعد غد عمل وسعي للحياة، وأخيرا فإن
الانفصال لابد منه.
لذلك فإنهم لم يجيبوه عن الشق الأول من كلامه، بل أجابوه عن الشق الثاني
لأنه كان مهما وأساسيا بالنسبة لهم إذ قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا
إذا لخاسرون.
أي: أترانا موتى فلا ندافع عن أخينا، بل نتفرج على الذئب كيف يأكله! ثم
إضافة إلى علاقة الأخوة التي تدفعنا للحفاظ على أخينا، ما عسى أن نقول للناس
عنا؟ هل ننتظر ليقال عنا: إن جماعة أقوياء وفتية أشداء جلسوا وتفرجوا على
الذئب وهو يفترس أخاهم! فهل نستطيع العيش بعد هذا مع الناس؟!
لقد أجابوا أباهم بما تضمن قوله: أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه
غافلون ومشغولون بلعبكم، كيف يكون ذلك؟ والمسألة ليست بهذه البساطة...
إنها الخسارة وذهاب ماء الوجه والخزي... إذ كيف يمكن لواحد منا أن يشغله
اللعب فيغفل عن أخيه يوسف، لأنه في مثل هذه الحال لا تبقى لنا قيمة ولا نصلح
لأي عمل.
ويبرز هنا سؤال مهم... وهو: لماذا أشار يعقوب إلى خطر الذئب من دون
الأخطار الأخرى؟!
قال البعض: إن صحراء كنعان - كانت - " صحراء مذئبة " ومن هنا كان
147

الخوف من الذئب أكثر من غيره.
وقال البعض الآخر: كان ذلك للرؤيا التي رآها يعقوب من قبل وهي أن ذئابا
هجمت على ولده يوسف.
وهناك احتمال آخر هو أن يعقوب أجابهم بلسان الكناية، والمقصود من
الذئاب في كلامه هم الأناس المتصفون بصفة الذئب إخوة يوسف.
وعلى كل حال فقد استطاع إخوة يوسف بما أوتوا من الحيل، وبتحريك
أحاسيس يوسف النقية وترغيبه إلى التنزه خارج المدينة، وربما كان الأول مرة
يتاح ليوسف أن يحصل على مثل هذه الفرصة... استطاعوا أن يأخذوا يوسف
معهم وأن يستسلم الأب لهذا الأمر فيوافق على طلبهم.
* * *
2 بحوث
وينبغي هنا الالتفات إلى عدة دروس حية تستلهم من هذه القصة:
3 1 - مؤامرات الأعداء في ثياب الأصدقاء
من الطبيعي أن الأعداء لا يدخلون الميادين - عند الهجوم - بصراحة ودون
استتار أبدا.
بل إنهم من أجل تفويت الفرصة على الطرف الآخر واستغفاله وسلبه كل
وسائل الدفاع يسعون إلى إخفاء عملهم تحت قناع جذاب إن إخوة يوسف أخفوا
خطة هلاكه أو إبعاده تحت غطاء أسمى الأحاسيس والعواطف الأخوية، هذه
الأحاسيس التي كانت تحرك يوسف من جهة لأن يمضي معهم، وكانت عند أبيهم
موضع قبول من جهة أخرى أيضا.
وهذه هي الطريقة التي نواجهها في حياتنا اليومية على المدى الواسع، وما
148

تلقيناه من ضربات قاسية من أعدائنا المخاتلين بثياب الأبرار في هذا المضمار
غير قليل، ولها مظاهر متعددة، فمرة بمظهر المساعدات الاقتصادية، وأخرى
تحت ستار التبادل الثقافي، وثالثة في ثوب الدفاع عن حقوق البشر، ورابعة
بأسلوب المعاهدات الدفاعية... كل تلك الأمور كانت نتيجة أسوأ القرارات
الاستعمارية المذلة للأمم المستضعفة والتي من ضمنها أمتنا الإسلامية.
ولكن ومع هذه التجارب التاريخية ينبغي أن نكون حذرين للغاية وأن
نعرف أعداءنا جيدا، فلا نحسن الظن بهذه الذئاب البشرية التي تريد أن تمتص
دماءنا بما تظهره من عواطف وأحاسيس متلبسة بثياب المخلصين المتفانين فما
زلنا نتذكر ما فعلته الدول المتسلطة على العالم حيث أرسلت تحت ستار
المساعدات الطبية إلى بعض الدول الإفريقية المتضررة بالحرب أسلحة وعتاد
أرسلت إلى عملائها، كما بعثت أخطر جواسيسها تحت ثياب الدبلوماسية
والسفارات والممثلين لها إلى مختلف مناطق العالم.
وتحت ستار الخبراء العسكريين وتدريب الدول المستضعفة على الأسلحة
الحديثة والمتطورة كانوا يأخذون مع عودتهم جميع الاسرار العسكرية لتلك
الدولة.
وبإرسال خبراء فنيين!! إلى هذه الدول يربطوا عجلة اقتصادها بالمناهج
تكرس التبعية ترى، أليست كل هذه التجارب التأريخية كافية لئلا ننخدع بهذه
الزخارف البراقة الكاذبة وأن نعرف وجوه هؤلاء الذئاب المتظاهرين بالإنسانية.
3 2 - حاجة الإنسان الفطرية والطبيعية إلى التنزه والارتياح
من الطريف أن يعقوب (عليه السلام) لم يرد على كلام إخوة يوسف واستدلالهم على
أنه بحاجة إلى التنزه والارتياح، بل وافق على ذلك عمليا، وهذا دليل كاف على
أن أي عقل سليم لا يستطيع أن ينكر هذه الحاجة الفطرية والطبيعية... فالإنسان
149

ليس آلة تستعمل في أي وقت كان وكيف كان، بل له روح ونفس ينالهما التعب
والنصب كما ينالان الجسم. فكما أن الجسم يحتاج إلى الراحة والنوم، كذلك
الروح والنفس بحاجة إلى التنزه والارتياح السليم.
التجربة - أيضا - تدل على أن الإنسان كلما واصل عمله بشكل رتيب، فان
مردود هذا العمل سيقل تدريجيا نتيجة ضعف النشاط، وعلى العكس من ذلك
فإن الاستراحة لعدة ساعات تبعث في الجسم نشاطا جديدا بحيث تزداد كمية
العمل وكيفيته معا، ولذلك فإن الساعات التي تصرف في الراحة والتنزه تكون
عونا على العمل أيضا.
وفي الروايات الإسلامية نجد هذه الواقعية بأسلوب طريف جاء بمثابة
" القانون " حيث يقول الإمام علي (عليه السلام): " للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها
ربه، وساعة يرم معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل " (1).
ومما يستجلب النظر أن في بعض الروايات الإسلامية أضيفت هذه الجملة
إلى النص المتقدم " وذلك عون على سائر الساعات ".
وعلى حد تعبير البعض فإن التنزه والارتياح بمثابة تدهين وتنظيف أجهزة
السيارة، فلو توقفت هذه السيارة ساعة عن العمل لمراقبة أجهزتها وتنظيفها،
فإنها ستغدو أكثر قوة نشاطا يعوض عن زمن توقفها أضعاف المرات، كما أنه
سيزيد من عمر السيارة أيضا.
لكن المهم أن يكون هذا التنزه صحيحا، وإلا فإنه لا يحل المشكلة، بل
سيزيدها، فإن كثيرا من حالات التنزه هذه تدمر الإنسان وتسلب منه نشاطه
وقدرته على العمل لفترة ما، أو على الأقل تخفف من نشاط عمله.
وهناك نقطة تدعو للإلتفات أيضا، وهي أن الإسلام اهتم بمسألة الترويض
والاستراحة النفسية بحيث أجاز المسابقات في هذا المضمار.. ويحدثنا التاريخ

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار: رقم الكلمة 390.
150

أن قسما من هذه المسابقات جرت بمرأى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأحيانا كانت
تناط إليه مهمة التحكيم والقضاء في هذه المسابقة، وربما أعطى ناقته الخاصة -
لبعض الصحابة للتسابق عليها.
ففي رواية الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن النبي أجري الإبل مقبلة من تبوك
فسبقت العصباء وعليها أسامة، فجعل الناس يقولون: سبق رسول الله ورسول الله
يقول: سبق أسامة (1) " (إشارة إلى أن المهم في السبق هو الراكب لا المركب، حتى
وإن كان المركب السابق عند من لا يجيدون السبق).
النقطة الأخرى هي أنه كما أن إخوة يوسف استغلوا علاقة الإنسان - ولا
سيما الشاب - بالتنزه واللعب من أجل الوصول إلى هدفهم الغادر... ففي حياتنا
المعاصرة - أيضا - نجد أعداء الحق والعدالة يستغلون مسألة الرياضة واللعب في
سبيل تلويث أفكار الشباب، فينبغي أن نحذر المستكبرين " الذئاب " الذين
يخططون لاضلال الشباب وحرفهم عن رسالتهم تحت اسم الرياضة والمسابقات
المحلية والعالمية.
ولا ننسى ما كان يجري في عصر الطاغوت (الشاة)، فإنهم وبهدف تنفيذ
بعض المؤامرات ونهب ثروات البلاد وتحويلها إلى الأجانب لقاء ثمن بخس،
كانوا يرتبون سلسلة من المسابقات الرياضية الطويلة العريضة لإلهاء الناس لئلا
يطلعوا على المسائل السياسية.
3 3 - الولد في ظل الوالد
إذا كانت محبة الأب الشديدة أو الأم بالنسبة للولد تستوجب أن يحفظ إلى
جانبهما، إلا أن من الواضح أن فلسفة هذه المحبة من وجهة نظر قانون الخلقة هي
المحافظة التامة على الولد عند الحاجة إليها، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تقل

1 - سفينة البحار، ج 1، ص 596.
151

هذه المحافظة كلما تقدمت به السن، ويمنح الولد الإجازة ليخطو في حياته نحو
الاستقلال، والا فسيكون كمثل غرسة النورس تحت ظل الشجرة القوية دائما لا
تنمو كما يلزم.
وربما وافق يعقوب (عليه السلام) - لهذا السبب - على اقتراح أبنائه رغم علاقته
الشديدة بيوسف، وأرسله معهم إلى خارج المدينة، ومع أن هذا الأمر كان صعبا
على يعقوب، ولكن مصلحة يوسف وحاجته إلى الرشد والنمو كانت تستوجب
أن يجيزه أبوه ليبتعد عنه ساعات وأياما!
وهذه مسألة تربوية مهمة غفل عنها كثير من الآباء والأمهات، حيث يربون
أولادهم تربية بحيث لا يستطيعون أن يعيشوا خارج " خيمة الأبوين "
ومحافظتهما عليهم، وبالتالي يسقطون أمام تيارات الحوادث وضغوطها، كما أن
هناك رجالا عظماء فقدوا والديهم في دور الطفولة، ولكنهم صنعوا أنفسهم
بأيديهم وواجهوا المشاكل وتجاوزوها.
فالمهم أن يلتفت الوالدان إلى هذه المسألة التربوية، وإلا فستكون محبتهما
" الكاذبة " مانعا من استقلال أولادهم.
من الطريف أن هذه المسألة موجودة في بعض الحيوانات بشكل غريزي،
فنحن نرى أفراخ الدجاج " الفروج " - مثلا - يبدأ حياته تحت جناحي أمه،
وتحافظ الدجاجة الأم عليها كما تحافظ على روحها " العزيزة ".
ولكن بعد فترة حيت تكبر هذه الأفراخ فإن الأم لا تترك المحافظة على هذه
الأفراخ فحسب، بل تنقر أيا منها يصل إليها. ومعنى هذا أنها تريد أن تعودهم على
أن يتعلموا طريق الحياة المستقلة! فإلى متى تعيشون غير مستقلين؟!
ولكن هذا الموضوع لا ينافي تقوية الروابط العائلية والمحافظة على المودة
والمحبة، بل هي محبة عميقة وعلاقة محسوبة ونافعة للطرفين.
152

3 4 - لا قصاص ولا اتهام قبل الجناية
نشاهد في هذا الفصل من القصة أن يعقوب بالرغم من علمه بما سيقدم عليه
إخوة يوسف... وتحذيره ولده يوسف ألا يقصص رؤياه على إخوته، وأن يكتم
الأمر، إلا أنه لم يكن مستعدا لأن يتهمهم بقصد الإساءة إلى يوسف، بل كان عذره
إليهم أنه يحزنه فراقه، ويخاف أن يأكله الذئب في الصحراء.
والأخلاق والمعايير الإنسانية والأسس القضائية العادلة توجب ذلك أيضا،
فحيث لم تتوفر لدينا علامة ظاهرة على مخالفة شخص ما فلا ينبغي اتهامه،
فالأصل البراءة والصحة والطهارة إلا أن يثبت خلافه.
3 5 - تلقين العدو
المسألة الأخرى أننا نقرأ - في ذيل الآيات المتقدمة - رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أنه قال: " لا تلقنوا الكذاب فيكذب فإن بني يعقوب (عليه السلام) لم يعلموا أن الذئب يأكل
الإنسان حتى لقنهم أبوهم " (1). إشارة إلى أنه قد يحدث أحيانا أن لا يلتفت الطرف
الآخر إلى الحيلة والى طريق الاعتذار وانتخاب طريق الانحراف، فعليكم أن
تحذروا من ذكر الاحتمالات المختلفة التي تبين له طرق الانحراف.
ومثل هذا يشبه تماما ما لو قال الإنسان لطفله: لا ترم الكرة باتجاه المصباح،
ولم يكن الطفل يعلم أن الكرة يمكن أن ترمى نحو المصباح، فيلتفت إلى أن مثل
هذا العمل ممكن، وتتحرك فيه نوازع الفحص... ماذا سيكون لو رميت الكرة
باتجاه المصباح؟ ثم يبدأ " لعبته " لتنتهي بتكسر المصباح!
وليس هذا موضوعا هينا ولا خاصا بالأطفال، فقد يتفق أحيانا أن الأوامر
والنواهي الخاطئة، تسبب أن يتعلم الناس أشياء لم يعرفوها من قبل، فتوسوس
لهم أنفسهم أن يقدموا عليها، فينبغي في مثل هذه الموارد - قدر المستطاع - أن

1 - نور الثقلين، ج 2، ص 415.
153

تثار المسائل بشكل لا يبعث على أي تعلم سيئ!
وبالطبع فإن يعقوب النبي (عليه السلام) قال كلامه عن صفاء وطهارة قلب، إلا أن أبناءه
الضالين استغلوا كلامه لقصدهم السيئ.
وشبيه هذا الموضوع الأسلوب الذي نجده في كثير من المقالات، فمثلا قد
يكتب أحدهم مقالة - أو يقوم باخراج فيلما أو غيرها - عن ضرر المواد المخدرة
أو الاستمناء، فيتناول هذه المسائل بصورة يتعلمها غير المطلعين وينسون
المسائل التي تذكر في هذه المواضيع لذم هذه الأعمال وبيان طرق النجاة منها،
ولذلك فغالبا ما يكون ضرر هذه المقالات والأفلام وخسارتها أكثر من فائدتها
بمراتب.
6 - وآخر نقطة نشير إليها هنا أن إخوة يوسف قالوا لئن أكله الذئب ونحن
عصبة إنا إذا لخاسرون وهي إشارة إلى أن الإنسان إذا تحمل مسؤولية ما -
ووافق عليها - فإن من الواجب عليه أن يوقف نفسه من أجلها... وإلا فإنه سيفقد
كل قيمه - قيمة شخصيته، وماء وجهه، والموقع الاجتماعي، ووجدانه.
فكيف يعقل أن يكون الشخص ضمير حي ووجدان يقظ وشخصية كريمة
يعتز بحيثيته وماء وجهه، ومع كل ذلك يتنصل عن مسؤولياته ويقف موقفا سلبيا
إزاءها؟!
* * *
154

2 الآيات
فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيبت الجب وأوحينا
إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون (15) وجاءوا أباهم
عشاء يبكون (16) قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا
يوسف عند متعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا
صادقين (17) وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت
لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما
تصفون (18)
2 التفسير
3 الكذب المفضوح:
وأخيرا انتصر إخوة يوسف وأقنعوا أباهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف،
فباتوا ليلتهم مطمئني البال بانتظار الصبح لتنفيذ خطتهم وإزاحة أخاهم الذي يقف
عائقا في طريقهم... وكان قلقهم الوحيد أن يندم أبوهم ويسحب كلامه ووعده
بإرسال يوسف معهم.
فجاؤوا صباحا إلى أبيهم فأمرهم بالمحافظة على يوسف، وكرر توصياته
155

في شأنه، فأظهر الأبناء طاعتهم لأبيهم وأبدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة،
وتحركوا إلى خارج المدينة.
يقال: إن أباهم ودعهم إلى بوابة المدينة ثم أخذ منهم يوسف وضمه إلى
صدره ودمعت عيناه، ثم أودع يوسف عندهم وفارقهم، ولكن يعقوب كان
يودعهم بنظراته، وكان إخوة يوسف لا يقصرون عن مدارة أخيهم يوسف وإظهار
عنايتهم به ومحبتهم له طالما كانت تلاحظهم عينا أبيهم، ولكن ما أن غاب عنهم
أبوهم واطمأنوا إلى أنه لا يراهم، حتى انفجرت عقدتهم وصبوا " جام غضبهم "
وحقدهم وحسدهم المتراكم لعدة سنوات على رأس يوسف، فالتفوا حوله
يضربونه بأيديهم ويلتجئ من واحد لآخر ويستجير بهم فلا يجيره أحد منهم.
نقرأ في رواية أن يوسف كان يبكي تحت وابل اللكمات والضربات القاسية،
ولكن حين أرادوا أن يلقوه في الجب شرع بالضحك فجأة... فتعجب إخوته كثيرا
وحسبوا أن أخاهم يظن الأمر لا يعدو كونه مزاحا... ولكنه رفع الستار عن
ضحكه وعلمهم درسا كبيرا إذ قال: - لا أنسى أنني نظرت - أيها الإخوة - إلى
عضلات أيديكم القوية وقواكم الجسدية الخارقة، فسررت وقلت في نفسي: ما
عسى أن يخشى ويخاف من الحوادث والملمات من كان عنده مثل هؤلاء
الإخوة، فاعتمدت عليكم وربطت قلبي بقواكم، والآن وقد أصبحت أسيرا بين
أيديكم وأستجير بكم من واحد للآخر فلا أجار، وقد سلطكم الله علي لأتعلم هذا
الدرس، وهو ألا أعتمد وأتوكل على أحد سواه... حتى ولو كانوا إخوتي.
وعلى كل حال فالقرآن الكريم يقول في هذا الصدد: فلما ذهبوا به وأجمعوا
أن يجعلوه في غيابة الجب (1).

1 - في العبارة المتقدمة حذف جواب " لما " والتقدير كما يلي: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب عظمت
فتنتهم (تفسير القرطبي) ولعل هذا الحذف اقتضى لعظم هذه الحادثة المؤلمة أن يسكت عنه المتكلم، وهو بنفسه من فنون
البلاغة العربية (تفسير الميزان).
156

جملة " أجمعوا " تدل على أن جميع الإخوة كانوا متفقين على هذه الخطة،
وإن لم يتفقوا جميعا على قتله.
وأساسا فإن كلمة " أجمعوا " مأخوذة من مادة " جمع " وهي في هذه الموارد
إشارة إلى جمع الآراء والأفكار.
ثم تبين الآية أن الله أوحى إلى يوسف وهدأ روعه وألهمه ألا يحزن فالعاقبة
له، إذ تقول: وأوحينا إليه لتنبأنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون.
ذلك اليوم الذي تجلس فيه على العرش وأنت القوي الأمين، فيأتي إخوتك
ليمدوا أيدي الحاجة إليك، ويكونوا كالظامئين إلى النبع العذب في الصحراء
اللاهبة ويسرعون إليك في منتهى التواضع، ولكنك في حال من العظمة بحيث لا
يصدقون أنك أخوهم، وستقول لهم في ذلك اليوم: ألستم الذين فعلتم مع أخيكم
الصغير يوسف كذا وكذا... وكم سيكونون خجلين من فعلهم هذه في ذلك اليوم!
وهذا الوحي الإلهي لم يكن وحي النبوة، بقرينة الآية (22) من السورة ذاتها،
بل كان إلهاما لقلب يوسف ليعلم أنه ليس وحيدا، بل له حافظ ورقيب، وهذا
الوحي بث في قلب يوسف نور الأمل وأزال عن روحه ظلمات اليأس والحيرة.
لقد نفذ إخوة يوسف خطتهم كما أردوا، ولكن ينبغي أن يفكروا عند العودة
ماذا كيف كي يصدق أبوهم أن يوسف إنتهى بصورة طبيعية لا عن مكيدة ليضمنوا
عواطف أبيهم نحوهم.
وكانت الفكرة التي أوصلتهم إلى هذا الهدف هي ما تخوف أبوهم منه،
فأقنعوه - ظاهرا - عن هذا الطريق مدعين بأن الذئب قد أكل يوسف وجاؤوا إليه
بدلائل مزيفة!!
يقول القرآن الكريم: وجاءوا أباهم عشاء يبكون بكاء كاذبا، وهذا يدل
على أن البكاء الكاذب ممكن.. ولا يمكن أن يخدع ببكاء العين وحدها.
أما الأب الذي كان ينتظر مجيئ ولده (يوسف) بفارغ الصبر، فقد اهتز
157

وارتجف حين رأى الجمع وليس بينهم يوسف، وسأل عنه مستفسرا... فأجابوه
و قالوا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا لصغر سنه ولأنه لا يعرف
التسابق، وانشغلنا عنه فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين.
لأنك أخبرتنا من قبل بهذا الاحتمال، وستظن أن ادعاءنا مجرد احتيال.
لقد كان كلام إخوة يوسف مدروسا بشكل دقيق، وذلك - أولا - لأنهم
خاطبوا يعقوب بقولهم بكلمة " يا أبانا " وفيها ما فيها من الاستعطاف.
وثانيا: لأن من الطبيعي أن ينشغل هؤلاء الإخوة الأقوياء بالتسابق، ويتركوا
أخاهم الصغير رقيبا على متاعهم، وبعد ذلك كله فقد جاؤوا أباهم يبكون لتمرير
خطتهم، وقالوا له: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين.
ومن أجل أن يبرهنوا على صحة كلامهم فقد جاءوا على قميصه بدم
كذب إذ لطخوا الثوب بدم الغزال أو الخروف أو التيس...
ولكن حيث أن الكاذب لا يمتلك حافظة قوية، وحيث أن أية حقيقة فيها
علائق مختلفة وكيفيات ومسائل يقل أن تجتمع منظمة في الكذب، فقد غفل
إخوة يوسف عن هذه المسألة الدقيقة... وهي - على الأقل - أن يخرقوا قميص
يوسف الملطخ بالدم ليدل على هجوم الذئب... فقد قدموا القميص سالما غير
مخرق فأحس الأب بمؤامرتهم، فما إن وقعت عيناه على القميص حتى فهم كل
شئ و قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا.
جاء في بعض الروايات أن يعقوب أخذ قميص يوسف وهو يقلبه ويقول:
" ما أرى أثر ناب ولا ظفر إن هذا السبع رحيم "، وفي رواية أنه أخذ القميص
وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: تالله ما رأيت
كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق على قميصه، وجاء أنه بكى وصاح
وحر مغشيا عليه فأفاضوا على الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا
يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال: ويل لنا من
158

ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلا ببرد السحر (1).
وبالرغم من احتراق قلبه ولهيب روحه لم يجر على لسانه ما يدل على عدم
الشكر أو اليأس أو الفزع أو الجزع، بل قال: فصبر جميل (2) ثم قال: والله
المستعان على ما تصفون وأسأله أن يبدل مرارة الصبر في فمي إلى " حلاوة "
ويرزقني القوة والقدرة على التحمل أكثر أمام هذا الطوفان العظيم، لئلا أفقد
زمامي ويجري على لساني كلام غير لائق.
ولم يقل: أسأله أن يعطيني الصبر على موت يوسف، لأنه كان يعلم أن يوسف
لم يقتل... بل قال: أطلب الصبر على مفارقتي ولدي يوسف... وعلى ما تصفون.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - حول الترك " الأولى "
ينقل أبو حمزة الثمالي عن الإمام السجاد فيقول: كنت يوم الجمعة في
المدينة وصليت الغداة مع الإمام السجاد (عليه السلام) فلما فرغ من صلاته وتسبيحه نهض
إلى منزله وأنا معه، فدعا مولاة له تسمى سكينة فقال لها: " لا يعبر على بابي سائل
إلا أطعمتموه فإن اليوم يوم الجمعة ".
يقول أبو حمزة: فقلت له: ليس كل من يطلب العون مستحقا له، فقال: يا أبا
ثابت، أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقا فلا نطعمه ونرده فينزل بنا - أهل
البيت - ما نزل بيعقوب وآله. أطعموهم إن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا
فيتصدق منه ويأكل هو وعياله منه، وإن سائلا مؤمنا صواما محقا له عند الله
منزلة، وكان مجتازا غريبا اعتر على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إفطاره

1 - تفسير الآلوسي: ذيل الآية.
2 - صبر جميل (صفة وموصوف) خبر لمبتدأ محذوف، وتقدير الكلام: صبري صبر جميل.
159

يهتف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم، يهتف
بذلك على بابه مرارا وهم يسمعونه، قد جهلوا حقه ولم يصدقوا قوله: فلما أيس
أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلى الله باب وطاويا،
وأصبح صائما جائعا صابرا حامدا لله، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعا بطانا
وأصبحوا وعندهم من فضل طعامهم.
قال: فأوحى الله عزو جل إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت - يا
يعقوب - عبدي ذلة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي، ونزول عقوبتي
وبلواي عليك وعلى ولدك يا يعقوب، إن أحب أنبيائي إلي وأكرمهم علي من
رحم مساكين عبادي وقربهم إليه وأطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ يا يعقوب، ما
رحمت " ذميال " عبدي المجتهد في عبادته، القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء
أمس لما عبر ببابك عند أوان افطاره ويهتف بكم: أطعموا السائل الغريب المجتاز
القانع، فلم تطعموه شيئا. فاسترجع واستعبر وشكا ما به إلي وبات جائعا وطاويا
حامدا، أصبح لي صائما، وأنت - يا يعقوب - وولدك شباع، وأصبحت وعندكم
فضل من طعامكم.
أو علمت - يا يعقوب - أن العقوبة والبلوى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي...
الخ... (1).
ومن الطريف أن أبا حمزة يقول: سألت الإمام زين العابدين (عليه السلام) متى رأى
يوسف رؤياه؟ فقال الإمام: في تلك الليلة " (2).
يستفاد من هذا الحديث أن زلة بسيطة أو بعبارة أدق: " ترك الأولى " وهو لا
يعد خطيئة أو إثما، لأن يعقوب له يتضح له حال السائل... هذا الترك من قبل
الأنبياء والأولياء يكون سببا لأن يبتليهم الله بلاء شديدا... وما ذلك إلا لمقامهم

1 - تفسير البرهان، ج 2، ص 243 ونور الثقلين، ج 2، ص 411.
2 - المصدر السابق.
160

الكبير الذي يوجب عليهم أن يراقبوا كل حركاتهم وسكناتهم، لأن " حسنات
الأبرار سيئات المقربين ".
فإذا كان يعقوب (عليه السلام) قد ابتلي بهذا البلاء والهم لأنه لم يطلع على حال قلب
السائل وآلامه، فكيف الحال في المجتمعات التي تغرق فيها طائفة بالنعيم والرفاه
وطائفة من الناس جياع، كيف لا يشملهم غضب الله! وكيف يسلمون من عذاب
الله!
3 2 - دعاء يوسف البليغ الجذاب
ترد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) وروايات أهل السنة، أن يوسف حين استقر
في قعر الجب انقطع أمله من كل شئ، وصرف كل توجهه إلى ذات الله المقدسة
يناجي ربه، وكانت لديه حوائج ذكرها بتلقين جبرئيل إياه...
ففي رواية أنه دعا ربه بهذه المناجاة " اللهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب
كل وحيد، يا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى
كل شكوى، ويا حاضر كل ملأ، يا حي يا قيوم، أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي،
حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، إنك
على كل شئ قدير ".
ومن الطريف أننا نقرأ في ذيل هذه الرواية، أن الملائكة سمعت صوت
يوسف فنادت: " إلهنا نسمع صوتا ودعاء، الصوت صوت صبي والدعاء دعاء
نبي " (1).
وهناك نقطة تدعو للإلتفات وهي: حين رمى يوسف إخوته في الجب خلعوا
عنه قميصه وتركوه عاريا، فنادى: اتركوا لي قميصي - على الأقل - لأغطي به
بدني إذا بقيت حيا، ويكون كفني إذا مت. فقال له إخوته: اطلبه من الشمس

1 - تفسير القرطبي، ج 5، ص 337.
161

والقمر والكواكب الأحد عشر الذين رأيتهم في منامك، ليكونوا مؤنسيك في هذه
البئر، ويكسوك ويلبسوك ثوبا على بدنك... فدعا يوسف على أثر اليأس المطلق
بالدعاء الآنف الذكر. (1)
وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " حين ألقي يوسف في الجب هبط
عليه جبرئيل وقال: ما تصنع هنا أيها الغلام؟ فقال له: إن إخوتي ألقوني في البئر.
فقال له جبرئيل: أتحب أن تخرج من البئر؟ قال: ذلك بمشيئة الله، إن شاء أخرجني.
فقال له: إن الله يأمرك أن تدعو بهذا الدعاء لتخرج من البئر: " اللهم إني أسألك بأن
لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، أن
تصلي على محمد وآل محمد وأن تجعل لي مما أنا فيه فرجا ومخرجا " (2).
3 - جملة وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب تدل على أنهم لم يرموه في
البئر، أنزلوه على مكان يشبه الرصيف لمن يريد النزول إلى سطح الماء، وقد
شدوه يحبل حتى إذا نزل ووصل إلى غيابة الجب تركوه وحده.
وهناك قسم من الروايات التي تفسر الآيات المتقدمة تؤيد هذا الموضوع.
3 4 - تسويل النفس
جملة " سولت " مشتقة من " التسويل " ومعناه " التزيين " وقد يأتي بمعنى
" الترغيب " وقد يأتي بمعنى " الوسوسة " كما في بعض التفاسير... جميع هذه
المعاني ترجع إلى شئ واحد... أي إن هوى النفس زين لكم هذا العمل.
وهي إشارة إلى أنه حين يطغى هوى النفس على الإنسان ويستبد به عناده،
فإنه يتصور أن أسوأ الجنايات لديه أمر حسن، كما لو كان ذلك قتل الأخ أو
إبعاده، وقد يتصور أن ذلك أمر مقدس... وهذه نافذة على أصل كلي في المسائل

1 - المصدر السابق، ص 416.
2 - نور الثقلين، ج 2، ص 216.
162

النفسية، بحيث يجعل الميل المفرط والرغبة الجامحة لأمر ما - وخاصة مع
اقترانهما بالرذائل الأخلاقية - غشاوة على إحساس الإنسان، فتنقلب عنده
الحقائق وتتغير صورها.
لذا فإن القضاء الصحيح وإدراك الواقعيات العينية، لا يمكن لها أن تتحقق
دون تهذيب النفس، وإذا كانت العدالة شرط في القاضي فإن هذا الأمر واحد من
أسبابها... وإذا كان القرآن الكريم يقول في الآية (282) من سورة البقرة واتقوا
الله ويعلمكم الله فذلك إشارة إلى هذه الحقيقة أيضا.
3 5 - الكذاب عديم الحافظة
قصة يوسف - وما جرى له مع إخوته - تثبت مرة أخرى هذا الأصل
المعروف الذي يقول: إن الكذاب لا يستطيع أن يكتم سره دائما، لأن الواقعيات
العينية حين تظهر إلى الوجود الخارجي تظهر ومعها روابط - أكثر من أن تعد - مع
موضوعات أخرى تدور حولها، وإذا أراد الكاذب أن يهيئ مناخا لمسألة غير
واقعية فإنه لا يستطيع أن يحفظ هذه الروابط مهما كان دقيقا.
ولنفرض أنه يستطيع أن يؤلف بين عدد من الروابط الكاذبة في حادثة ما،
ولكن المحافظة على هذه الروابط المصطنعة في ذهنه ليست عملا هينا، فإن أقل
غفلة منه تسبب وقوعه في التناقض، فتتسبب هذه الغفلة في فضيحة صاحبها
وتكشف الأمر الواقعي... وهذا درس كبير لمن يريد المحافظة على ماء وجهه
ومكانته في المجتمع أن لا يلجأ إلى الكذب فيتعرض موقعه الاجتماعي للخطر
وينزل عليه غضب الله.
3 6 - ما هو الصبر الجميل؟
الصبر أمام الحوادث الصعبة والأزمات الشديدة يدل على قوة شخصية
الإنسان، وعلى سعة روحه بسعة ما تتركه هذه الحوادث فلا يتأثر ولا يهتز لها.
163

ربما يحرك النسيم العليل ماء الحوض الصغير، ولكن المحيطات العظيمة
كالمحيط الهادي - مثلا - يستوعب حتى الاعصار الذي يتلاشى أمام هدوئه
وسعته.
وقد يتصبر الإنسان أحيانا، ولكنه سرعان ما يتلف هذا الصبر بكلماته النابية
التي تدل على عدم الشكر وعدم تحمل الحادثة ونفاد الصبر.
ولكن المؤمنين الذين يتمتعون بإرادة قوية واستيعاب للحوادث، هم أولئك
الذين لا يتأثرون بها ولا يجري على لسانهم ما يدل على عدم الشكر وكفران
النعمة أو الجزع أو الهلع.
صبر هؤلاء هو الصبر الجميل...
قد يبرز الآن هذا السؤال، وهو أننا نقرأ في الآيات الأخرى - من هذه السورة
- أن يعقوب بكى على يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، أفلا ينافي
ما صدر من يعقوب صبره الجميل؟!
والجواب على هذا السؤال في جملة واحدة، وهي: إن قلوب عباد الله مركز
للعواطف، فلا عجب أن ينهل دمع عينهم مدرارا، المهم أن يسيطروا على أنفسهم،
ولا يفقدوا توازنهم، ولا يقولوا شيئا يسخط الله.
ومن الطريف أن مثل هذا السؤال وجه إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بكى على
موت ولده إبراهيم حيث قالوا له: يا رسول الله، أتنهانا عن البكاء وتبكي؟!
فأجابهم النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) " تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط
الرب ". وفي رواية أخرى أنه قال: " ليس هذا بكاء إنه رحمة " (1).
وهذا إشارة إلى أن ما في صدر الإنسان هو القلب، وليس حجر! وطبيعي أن
يتأثر الإنسان أمام المسائل العاطفية، وأبسط هذا التأثر هو انهلال الدمع... إن
هذا لا يعد عيبا، بل هو أمر حسن، العيب هو أن يقول الإنسان ما يسخط الرب.
* * *

1 - بحار الأنوار، ج 22، ص 157 و 158.
164

2 الآيتان
وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال
يا بشرى هذا غلم وأسروه بضعة والله عليم بما
يعملون (19) وشروه بثمن بخس درهم معدودة وكانوا فيه
من الزاهدين (20)
2 التفسير
3 نحو أرض مصر:
قضى يوسف في ظلمة الجب الموحشة والوحدة القاتلة ساعات مرة، ولكنه
بإيمانه بالله وسكينته المنبثقة عن الإيمان شع في قلبه نور الأمل، وألهمه الله تعالى
القوة والقدرة على تحمل الوحدة الموحشة، وأن ينجح في هذا الامتحان.
ولكن... الله أعلم كم يوما قضى يوسف في هذه الحالة؟
قال بعض المفسرين: قضى ثلاثة أيام، وقال آخرون: يومين.
وعلى كل حال تبلج النور وجاءت سيارة (1).
وانتخبت منزلها على مقربة من الجب، وطبيعي أن أول ما تفكر القافلة فيه -

1 - سميت القافلة " سيارة " لأنها في سير وحركة دائمين.
165

في منزلها الجديد - هو تأمين الماء وسد حاجتها منه فأرسلوا واردهم فأدلى
دلوه (1).
فانتبه يوسف إلى صوت وحركة من أعلى البئر، ثم رأى الحبل والدلو
يسرعان إلى النزول، فانتهز الفرصة وانتفع من هذا العطاء الإلهي وتعلق بالحبل
بوثوق.
فأحس المأمور بالإتيان بالماء أن الدلو قد ثقل أكثر مما ينبغي، فلما سحبه
بقوة إلى الأعلى فوجئ نظره بغلام كأنه فلقة قمر، فصرخ وقال: يا بشرى هذا
غلام.
وشيئا فشيئا سرى خبر يوسف بين جماعة من أهل القافلة، ولكن من أجل
أن لا يذاع هذا الخبر وينتشر، ولكي يمكن بيع هذا الغلام الجميل في مصر، أخفوه
وأسروه بضاعة (2).
وبالطبع هناك احتمالات أخرى في تفسير هذه الجملة منها أن الذين عثروا
على يوسف أسروه وأخفوا خبره، وقالوا: هذا متاع لأصحاب هذا الجب أودعوه
عندنا لنبيعه في مصر.
ومنها أن أحد إخوة يوسف كان بين الحين والحين يأتي إلى الجب ليطلع
على يوسف ويأتيه بالطعام وحين اطلع إخوة يوسف على ما جرى أخفوا
علاقتهم الأخوية بيوسف وقالوا: هذا غلامنا فر من أيدينا واختفى هنا، وهددوا
يوسف بالموت إذ كشف الستار عن الحقيقة.
ولكن التفسير الأول يبدو أقرب للنظر.
وتقول الآية في نهايتها: والله عليم بما كانوا يعملون وبالرغم من اختلاف
المفسرين في من هم الذين شروا يوسف بثمن بخس، وقول بعضهم: هم إخوة

1 - " الوارد " في الأصل من " الورود " وهو من يأتي بالماء، ثم توسع استعمال الكلمة وأطلقت على كل ورود ودخول.
2 - " البضاعة " في الأصل من مادة " بضع " على وزن " نذر " ومعناها: القطعة من اللحم، ثم توسعوا في المعنى وأطلقوا
هذا اللفظ على القطعة المهمة، من المال. والبضعة هي القطعة من الجسد، وحسن البضع معناه: الإنسان المكتنز لحمه،
و " بضع " على وزن " حزب " معناه العدد من ثلاثة إلى عشرة (راجع المفردات للراغب).
166

يوسف، ولكن ظاهر الآيات هو من كان في القافلة، وقد تم البحث عن إخوته في
نهاية الآية التي سبقت هذه الآيات، وجميع الضمائر في الجمل أرسلوا
واردهم و أسروه بضاعة تعود على من كان في القافلة.
هنا يبرز هذا السؤال وهو: لم باعوا يوسف الذي كان يعد - على الأقل -
غلاما ذا قيمة بثمن قليل، أو كما عبر عنه القرآن وشروه بثمن بخس...؟
ولكن هذا أمر مألوف فإن السراق أو أولئك الذين تأتيهم بضاعة مهمة دون
أي تعب ونصب يبيعونها سريعا لئلا يطلع الآخرون.
ومن الطبيعي أنهم لا يستطيعون بهذه الفورية أن يبيعوه بسعر غال.
و " البخس " في الأصل معناه تقليل قيمة الشئ ظلما، ولذلك فإن القرآن
يقول: ولا تبخسوا الناس أشياءهم (1).
ثم إن هناك اختلافا آخر بين المفسرين في الثمن الذي بيع به يوسف، وكيف
قسم بينهم؟ فقال البعض: عشرون درهما، وقالت طائفة: اثنان وعشرون، ومع
ملاحظة أن الباعة كانوا عشرين يتضح سهم كل منهم، وكم هو زهيد!... وتقول
الآية: وكانوا فيه من الزاهدين.
وفي الحقيقة إن هذه الجملة في حكم بيان العلة للجملة المتقدمة، وهي
إشارة إلى أنهم باعوا يوسف بثمن بخس، لأنهم لم يرغبوا في هذه المعاملة ولم
يعتنوا بها.
وهذا البيع البخس إما لأن أهل القافلة اشتروا يوسف بثمن بخس، والإنسان
إذا اشترى شيئا رخيصا باعه رخيصا عادة، أو إنهم كانوا يخافون أن يفتضح
سرهم ويجدون من يدعيه، أو من جهة أنهم لم يجدوا في يوسف أثرا للغلام الذي
يباع ويشترى، بل وجدوا فيه آثار الحرية واضحة في وجهه، ومن هنا فلا
البائعون كانوا راغبين ببيعه ولا المشترون كانوا راغبين بشرائه.
* * *

1 - هود، 85.
167

2 الآيتان
وقال الذي اشتره من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن
ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض
ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن
أكثر الناس لا يعلمون (21) ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما
وكذلك نجزى المحسنين (22)
2 التفسير
3 في قصر عزيز مصر:
انتهت حكاية يوسف مع إخوته الذين ألقوه في غيابة الجب وبيناها تفصيلا،
بدأ فصل جديد من حياة هذا الغلام الحدث في مصر... فقد جئ بيوسف إلى
مصر وعرض للبيع، ولما كان تحفة نفيسة فقد صار من نصيب " عزيز مصر " الذي
كان وزيرا لفرعون أو رئيسا لوزرائه، لأنه كان يستطيع أن يدفع قيمة أعلى لغلام
ممتاز من جميع الجهات، والآن لنر ما الذي حدث له في بيت عزيز مصر.
يقول القرآن الكريم في شأن يوسف: وقال الذي اشتراه من مصر
168

لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا (1) فلا ينبغي أن تنظري
إليه كما ينظر إلى العبيد.
يستفاد من سياق الآية أن عزيز مصر لم يرزق ولدا وكان في غاية الشوق
للولد، وحين وقعت عيناه على هذا الصبي الجميل والسعيد تعلق قلبه به ليكون
مكان ولده.
ثم يضيف القرآن الكريم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض.
هذا " التمكين " في الأرض إما أن يكون لمجيئ يوسف إلى مصر، وخاصة
أن خطواته، في محيط مصر مقدمة لما سيكون عليه من الاقتدار والمكانة
القصوى، وإما أنه لا قياس، بين هذه الحياة في مصر " العزيز " وبين تلك الحياة في
غيابة الجب والوحدة والوحشة. فأين تلك الشدة من هذه النعمة والرفاه!
ويضيف القرآن أيضا ولنعلمه من تأويل الأحاديث.
المراد من " تأويل الأحاديث " - كما أشرنا سابقا - هو علم تفسير الأحلام
وتعبير الرؤيا حيث كان يوسف قادرا على أن يطلع على بعض أسرار المستقبل
من خلاله، أو المراد منه الوحي لأن يوسف مع عبوره من المضائق الصعبة
والشدائد القاسية ونجاحه في الاختبارات الإلهية في قصر عزيز مصر، نال
الجدارة بحمل الرسالة والوحي. ولكن الاحتمال الأول أقرب كما يبدو للنظر.
ثم يختتم القرآن هذه الآية بالقول: والله غالب على أمره ولكن أكثر
الناس لا يعلمون.
إن واحدة من مظاهر قدرة الله العجيبة وهيمنته على الأمور كلها أن يدع - في
كثير من الموارد - أسباب موفقية الإنسان ونجاحه بيد أعدائه كما حدث في
مسألة يوسف (عليه السلام)، فلو لا خطة إخوته لم يصل إلى الجب أبدا، ولو لم يصل إلى
الجب لما وصل إلى مصر، ولو لم يصل إلى مصر لما ذهب إلى السجن ولما كان

1 - " المثوى " من مادة (ثوى) ومعناه المقام، ولكن معناه هنا الموقعية والمنزلة والمقام كذلك.
169

هناك أثر من رؤيا فرعون التي أصبح يوسف بسببها عزيز مصر!
ففي الحقيقة إن الله أجلس يوسف على عرش الاقتدار بواسطة إخوته الذين
تصوروا أنهم سيقضون عليه في تركهم إياه في غيابة الجب.
لقد واجه يوسف في هذا المحيط الجديد، الذي يعد واحدا من المراكز
السياسية المهمة في مصر مسائل مستحدثة... فمن جهة كان يرى قصور الطغاة
المدهشة وثرواتهم ومن جهة أخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة أسواق
النخاسين وبيع المماليك والعبيد... ومن خلال الموازنة بين هاتين الصورتين كان
يفكر في كيفية القضاء على هموم المستضعفين من الناس لو أصبح مقتدرا على
ذلك!
أجل، لقد تعلم الكثير من هذه الأشياء في هذا المحيط المفعم بالضوضاء،
وكان قلبه يفيض هما لأن الظروف لم تتهيأ له بعد. فاشتغل بتهذيب نفسه وبنائها،
يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك
نجزي المحسنين.
كلمة " أشد " مشتقة من مادة " شد " وتعني فتل العقدة باستحكام... وهي هنا
إشارة إلى الاستحكام الجسماني والروحاني.
قال بعضهم: إن هذه الكلمة جمع لا مفرد لها... ولكن البعض الآخر قال: إنها
جمع (شد) على وزن (سد) ولكن معناها الجمعي غير قابل للإنكار على كل
حال!
المراد من " الحكم " و " العلم " الواردين في الآية المتقدمة التي تقول: ولما
بلغ أشده آتيناه حكما وعلما... إما أن يكون مقام النبوة كما ذهب إلى ذلك
بعض المفسرين، وإما أن يكون المراد من الحكم العقل والفهم والقدرة على
القضاء الصحيح الخالي من اتباع الهوى والاشتباه. والمراد من العلم الاطلاع
الذي لا يقترن معه الجهل، ومهما كان فإن الحكم والعلم موهبتان نادرتان وهبهما
170

الله ليوسف لتقواه وصبره وتوكله عليه، وجميع هذه الصفات مجتمعة في كلمة
" المحسنين ".
قال بعض المفسرين: هناك ثلاثة احتمالات لمعنى كلمتي (الحكم والعلم)
الواردتين في الآية، وهي:
1 - إن الحكم إشارة إلى مقام النبوة (لأن النبي حاكم على الحق) والعلم
إشارة إلى علم الدين.
2 - إن الحكم يعني ضبط النفس إزاء الهوى والميول النفسية، وهو هنا إشارة
إلى الحكمة العملية. والعلم إشارة إلى العلم النظري... وتقديم الحكم على العلم
هنا لأن الإنسان إذا لم يهذب نفسه ويبنيها بناء صحيحا لا يصل إلى العلم
الصحيح.
3 - إن الحكم معناه أن يبلغ الإنسان مقام " النفس المطمئنة " ويتسلط على
نفسه بحيث يستطيع أن يتملك زمام النفس الأمارة ووسوستها... والمراد من
العلم هو الأنوار القدسية وأشعة الفيض الإلهي الذي تنزل من عالم الملكوت على
قلب الإنسان الطاهر (1).
* * *
2 ملاحظات
3 1 - ما هو اسم " عزيز " مصر؟
مما يستجلب النظر في الآيات المتقدمة أن اسم عزيز مصر لم يذكر فيها، إنما
ورد التعبير عنه ب‍ الذي اشتراه.
لكن من هو هذا العزيز؟! لم تذكره الآية، كما سنرى في الآيات المقبلة أن
عنوانه لم يصرح به إلا بالتدريج، فمثلا نقرأ في الآية (25) هذا النص وألفيا

1 - راجع التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 18، ص 111.
171

سيدها لدى الباب.
وحين نتجاوز هذه الآيات ونصل إلى الآية (30) نواجه التعبير عن زوجته
ب‍ " امرأة العزيز ".
وهذا البيان التدريجي إما لأن القرآن يتحدث - حسب طريقته - بالمقدار
اللازم، وهذا دليل من أدلة الفصاحة والبلاغة، أو لأنه - كما هو ملاحظ هذا اليوم
في " نصوص الآداب " أيضا - حين يبدأ بالقصة - يبدأ بها من نقطة غامضة
ليتحرك الإحساس في الباحث، وليلفت نظره نحو القصة.
3 2 - يوسف (عليه السلام) وتعبير الأحلام
الملاحظة الأخرى التي تثير السؤال في الآيات المتقدمة، هي: ما علاقة
الاطلاع على تفسير الأحلام وتأويل الأحاديث بمجيئ يوسف إلى قصر عزيز
مصر الذي أشير إليه بلام الغاية في جملة ولنعلمه؟!
لكن مع الالتفات إلى أن هذه النقطة يمكن أن تكون جوابا للسؤال الآنف
الذكر، وهي أن كثيرا من المواهب العلمية يهبها الله قبال التقوى من الذنوب
ومقاومة الأهواء والميول النفسية، أو بتعبير آخر: إن هذه المواهب التي هي ثمرة
البصيرة القلبية الثاقبة، هي جائزة إلهية يهبها الله لمثل هؤلاء الأشخاص.
نقرأ في حالات ابن سيرين مفسر الأحلام المشهور أنه كان رجلا بزازا
وكان جميلا للغاية فعشقته امرأة وتعلق قلبها به، واستدرجته إلى بيتها بأساليب
وحيل خاصة، ثم غلقت الأبواب عليه (لينال منها الحرام) لكنه لم يستسلم لهوى
تلك المرأة وأخذ ينصحها ويذكر مفاسد هذا الذنب العظيم، ولكن نار الهوى كانت
متأججة في قلبها بحيث لم يطفئها ماء الموعظة، ففكر ابن سيرين في الخلاص
من قبضتها، فلوث جسده بما كان في بيتها من أقذار تنفر الرائي، فلما رأته المرأة
نفرت منه وأخرجته من البيت.
172

يقال أن ابن سيرين أصبح ذكيا بعد هذه الحادثة ورزق موهبة عظيمة في
تفسير الأحلام، وذكروا قصصا عجيبة عنه في الكتب التي تتناول تفسير الأحلام
تدل على عمق اطلاعه في هذا المجال!
فعلى هذا يمكن أن يكون يوسف (عليه السلام) قد نال هذه الموهبة الخاصة (العلم
بتأويل الأحاديث) لتسلطه على نفسه قبال إثارة امرأة العزيز لهوى النفس!
ثم بعد هذا كله فإن قصور الملوك في ذلك الزمان كانت مراكز لمفسري
الأحلام، وإن شابا - ذكيا كيوسف - كان يستطيع أن يستفيد من تجارب الآخرين،
وأن يكون له استعداد روحي لإفاضة العلم الإلهي في هذا المجال!
وعلى كل حال فإنه ليس مستبعدا أن يهب الله سبحانه لعباده المخلصين
المنتصرين في ميادين " جهاد النفس للهوى والشهوات " مواهب من المعارف
والعلوم التي لا تقاس بأي معيار مادي، ويمكن أن يكون الحديث المعروف
" العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء " إشارة إلى هذه الحقيقة.
هذا العلم ليس مما يقرأ عند الأستاذ، ولا يعطى لأي كان وبدون حساب...
بل هو جائزة من الجوائز التي تمنح للمتسابقين في ميادين جهاد النفس!
3 3 - المراد من قوله تعالى: ولما بلغ أشده
قلنا إن (أشد) معناه الاستحكام الجسماني والروحاني، وبلوغ الرشد معناه
الوصول إلى هذه المرحلة، ولكن هذا العنوان قد عبر عنه القرآن الكريم في
مراحل مختلفة من عمر الإنسان.
فتارة أطلقه على سن البلوغ كقوله تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي
هي أحسن حتى يبلغ أشده (1).
وتارة يرد هذا المعنى في وصول الإنسان إلى أربعين سنة، كقوله تعالى:

1 - سورة الإسراء، الآية 34.
173

حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة (1).
وتارة يراد به ما قبل مرحلة الشيخوخة والكبر، كقوله تعالى: ثم يخرجكم
طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا (2).
ولعل هذا التفاوت في التعبيرات آت من طي الإنسان مراحل مختلفة
لاستحكام الروح والجسم، ولا شك أن الوصول إلى سن البلوغ واحد من هذه
المراحل.
وبلوغ الأربعين الذي يكون توأما للنضج الفكري والعقلي مرحلة ثانية، كما
أن المرحلة الثالثة تكون قبل أن يسير الإنسان نحو قوس النزول ويبلغ الضعف
والوهن!
وعلى كل حال فإن المقصود في الآية - محل البحث - هو مرحلة البلوغ
الجسمي والروحي الذي ظهر في يوسف بداية شبابه، يقول الفخر الرازي في
تفسيره في هذا الصدد: " مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوما وكسر، فإذا جعلت
هذه الدورة أربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة أيام، فلا جرم رتبوا أحوال
الأبدان على الأسابيع، فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن
يتم له سبع سنين، ثم إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء
والقوة، ثم لا يزال في الترقي إلى أن يتم له أربع عشرة سنة، فإذا دخل في السنة
الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثالث وهناك يكمل العقل ويبلغ إلى حد
التكليف وتتحرك فيه الشهوة، ثم لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتم
السنة الحادية والعشرين وهناك يتم الأسبوع الثالث، ويدخل في السنة الثانية
والعشرين وهذا الأسبوع آخر أسبوع النشوء والنماء، فإذا تمت السنة الثامنة
والعشرون فقد تمت مدة النشوء والنماء وينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف،

1 - سورة الأحقاف، الآية 15.
2 - سورة غافر، 67.
174

وهو الزمان الذي يبلغ الإنسان فيه أشده، وبتمام هذا الأسبوع الخامس - يحصل
للإنسان خمسة وثلاثون سنة ثم إن هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان،
فهذا الأسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدة والكمال يبتدئ من السنة التاسعة
والعشرين إلى الثالثة والثلاثين، وقد يمتد إلى الخامسة والثلاثين، فهذا هو
الطريق المعقول في هذا الباب، والله أعلم بحقائق الأشياء " (1).
التقسيم المتقدم وإن كان مقبولا إلى حد ما... لكنه يبدو غير دقيق، لأن
مرحلة البلوغ أولا ليست في انتهاء العقد الثاني، وكذلك فإن التكامل الجسماني -
طبقا لما يقول علماء اليوم - هو 25 سنة... والبلوغ الفكري الكامل أربعون سنة
طبقا لبعض الروايات، وبعد هذا كله فإن ما ورد آنفا لا يصح أن يكون قانونا عاما
ليصدق على جميع الأشخاص.
4 - وآخر ما ينبغي الالتفات إليه هنا هو أن القرآن بعد أن يتحدث عن إتيان
يوسف الحكم والعلم يعقب بالقول: وكذلك نجزي المحسنين ومعنى ذلك أن
مواهب الله - حتى للأنبياء - ليست اعتباطا، وكل ينال بمقدار إحسانه ويغرف من
بحر الله وفيضه اللامحدود كما نال يوسف سهما وافرا من ذلك بصبره واستقامته
أمام كل تلك المشاكل.
* * *

1 - تفسير الفخر الرازي، ج 18، ص 111.
175

2 الآيتان
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب
وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواي إنه لا
يفلح الظالمون (23) ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهن
ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا
المخلصين (24)
2 التفسير
3 العشق الملتهب:
لم يأسر جمال يوسف الملكوتي عزيز مصر فحسب، بل أسر قلب امرأة
العزيز كذلك وأصبح متيما بجماله!.
وامتدت مخالب العشق إلى أعماق قلبها، وبمرور الزمن كان هذا العشق
يتجذر يوما بعد يوم ويزداد اشتعالا... لكن يوسف هذا الشاب الطاهر التقي، لم
يفكر بغير الله، ولم يتعلق قلبه بغير عشق الله سبحانه.
وهناك أمور أخرى زادت من عشق امرأة العزيز ليوسف.. فمن جهة لم
ترزق الولد، ومن جهة أخرى انغمارها في حياة مترفة مفعمة بالبذخ... ومن جهة
176

ثالثة عدم ابتلائها بأي نوع من البلاء كما هي حال المتنعمين، وعدم الرقابة
الشديدة على هذا القصر من قبل العزيز من جهة رابعة.. كل ذلك ترك امرأة العزيز
- الفارغة من الإيمان والتقوى - تهوي في وساوسها الشيطانية إلى الحضيض،
بحيث أفضت ليوسف أخيرا عما في قلبها وراودته عن نفسه.
واتبعت جميع الأساليب والطرق للوصول إلى هدفها، وسعت لكي تلقي في
قلبه أثرا من هواها وترغيبها وطلبها، كما يقول عن ذلك القرآن الكريم:
وراودته التي هو في بيتها.
وجملة " راودته " مأخوذة من مادة " المراودة " وأصلها البحث عن المرتع
والمرعى، وما ورد في المثل المعروف " الرائد لا يكذب أهله " إشارة إلى هذا
المعنى، كما يطلق " المرود " على وزن (منبر) على قلم الكحل الذي تكحل به
العين، ثم توسعوا في هذا اللفظ فاطلق على كل ما يطلب بالمداراة والملاءمة.
وهذا التعبير يشير إلى أن امرأة العزيز طلبت من يوسف أن ينال منها بطريق
المسالمة والمساومة - كما يصطلح عليه - وبدون أي تهديد، وأبدت محبتها
القصوى له بمنتهى اللين.
وأخيرا فكرت في أن تخلو به وتوفر له جميع ما يثير غريزته، من ثياب
فضفاضة، وعطور عبقة شذية، وتجميلات مرغبة، حتى تستولي على يوسف
وتأسره!.
يقول القرآن الكريم: وغلقت الأبواب وقالت هيت لك.
" غلقت " تدل على المبالغة وأنها أحكمت غلق الأبواب، وهذا يعني أنها
سحبت يوسف إلى مكان من القصر المتشكل من غرف متداخلة.. وكما ورد في
بعض الروايات كانت سبعة أبواب، فغلقتها عليه جميعا.. لئلا يجد يوسف أي
طريق للفرار.. إضافة إلى ذلك أرادت أن تشعر يوسف أن لا يقلق لانتشار الخبر
فإنه سوف لا يفتضح، حيث لا يستطيع أحد أن ينفذ إلى داخل القصر أبدا.
177

وفي هذه الحال، حين رأى يوسف أن هذه الأمور تجري نحو الإثم، ولم ير
طريقا لخلاصه منها، توجه يوسف إلى زليخا و قال معاذ الله وبهذا الكلام
رفض يوسف طلب امرأة العزيز غير المشروع.. وأعلمها أنه لن يستسلم
لإرادتها. وأفهمها ضمنا - كما أفهم كل إنسان - أنه في مثل هذه الظروف الصعبة لا
سبيل إلى النجاة من وساوس الشيطان وإغراءاته إلا بالإلتجاء إلى الله.. الله الذي
لا فرق عنده بين السر والعلن، بين الخلوة والاجتماع، فهو مطلع ومهيمن على كل
شئ، ولا شئ إلا وهو طوع أمره وإرادته!
وبهذه الجملة إعترف يوسف بوحدانية الله تعالى من الناحية النظرية، وكذلك
من الناحية العملية أيضا، ثم أضاف إنه ربي أحسن مثواي.. أليس التجاوز
ظلما وخيانة واضحة إنه لا يفلح الظالمون.
3 المراد من كلمة " ربي "
هناك أقوال كثيرة بين المفسرين في المراد من قوله: إنه ربي فأكثر
المفسرين، كالعلامة الطبرسي في مجمع البيان وكاتب المنار في تفسير المنار
وغيرهما، قالوا: إن كلمة " رب " هنا استعملت في معناها الواسع، وقالوا: إن المراد
من كلمة " رب " هنا هو " عزيز مصر " الذي لم يأل جهدا في إكرام يوسف، وكان
يوصي امرأته من البداية بالاهتمام به وقال لها: أكرمي مثواه.
ومن يظن أن هذه الكلمة لم تستعمل بهذا المعنى فهو مخطئ تماما، لأن
كلمة " رب " في هذه السورة أطلقت عدة مرات على غير الله سبحانه. وأحيانا
ورد هذا الاستعمال على لسان يوسف نفسه، وأحيانا على لسان غيره!
فمثلا في قصة تعبير الرؤيا للسجناء، طلب يوسف من الذي بشره بالنجاة أن
يذكر حاله عند ملك مصر وقال للذي ظن أنه ناج منهما أذكرني عند
ربك (الآية 42).
178

كما نلاحظ هذا الاستعمال على لسان يوسف - أيضا - حين جاءه مبعوث
فرعون مصر، إذ يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: فلما جاءه الرسول قال
ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن (الآية 50).
وفي الآية (41) من هذه السورة، وذيل الآية (42) أطلقت كلمة " رب " في
لسان القرآن الكريم بمعنى المالك وصاحب النعمة. فعلى هذا تلاحظون أن كلمة
" رب " استعملت 4 مرات - سوى الآية محل البحث - في غير الله، وإن كانت قد
استعملت في هذه السورة وفي سور أخرى من القرآن في خصوص رب العالمين
(الله) مرارا.
فالحاصل أن هذه الكلمة من المشترك اللفظي وهي تستعمل في المعنيين.
ولكن رجح بعض المفسرين أن تكون كلمة " رب " في هذه الآية إنه ربي
أحسن مثواي يقصد بها الله.. لأنها جاءت بعد كلمة معاذ الله مباشرة،
وكونها إلى جنب لفظ الجلالة صار سببا لعود الضمير في إنه ربي عليه فيكون
معنى الآية: إنني ألتجئ إلى الله وأعوذ به فهو إلهي الذي أكرمني وعظم مقامي
وكل ما عندي من النعم فهو منه.
ولكن مع ملاحظة وصية عزيز مصر لامرأته أكرمي مثواه وتكرارها في
الآية - محل البحث - يكون المعنى الأول أقرب وأقوى.
جاء في التوراة الفصل 39 رقم 8 و 9 و 10 ما مؤداه: " وبعد هذا وقعت
المقدمات، إن امرأة سيده ألقت نظرتها على يوسف وقالت: اضطجع معي، لكنه
أبى وقال لامرأة سيده: إنه سيدي غير عارف بما معي في البيت، وكل ما يملك
مودع عندي، ولا أجد أكبر مني في هذا البيت، ولم يزاحمني شئ سواك لأنك
امرأته، فكيف أقدم على هذا العمل القبيح جدا، وأتجرأ في الذنب على الله ". فهذه
الجمل في التوراة تؤيد المعنى الأول.
وهنا يبلغ أمر يوسف وامرأة العزيز إلى أدق مرحلة وأخطرها، حيث يعبر
179

القرآن عنه تعبيرا ذا مغزى كبير ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان
ربه.
وفي معنى هذه الجملة أقوال بين المفسرين يمكن تصنيفها وإجمالها إلى
ثلاثة تفاسير:
1 - إن امرأة العزيز كانت تريد أن تقضي وطرا مع يوسف، وبذلت وسعها في
ذلك، وكاد يوسف يستجيب لرغبتها بطبيعة كونه بشرا شابا لم يتزوج ويرى نفسه
إزاء المثيرات الجنسية وجها لوجه... لولا أن رأى برهان الله... أي روح الإيمان
والتقوى وتربية النفس، أضف إلى كل ذلك مقام العصمة الذي كان حائلا دون هذا
العمل!
فعلى هذا يكون الفرق بين معاني " هم " أي القصد من امرأة العزيز، والقصد
من قبل يوسف، هو أن يوسف كان يتوقف قصده على شرط لم يتحقق، أي (عدم
وجود برهان ربه) ولكن القصد من امرأة العزيز كان مطلقا، ولأنها لم يكن لديها
مثل هذا المقام من التقوى والعفة، فإنها صممت على هذا القصد حتى آخر
مرحلة، وإلى أن اصطدمت جبهتها بالصخرة الصماء!
ونظير هذا التعبير موجود في الآداب العربية وغيرها كما نقول مثلا: إن
جماعة لا ترتبط بقيم أخلاقية ولا ذمة صممت على الإغارة على مزرعة فلان
ونهب خيراته، ولولا أني تربيت سنين طوالا عند أستاذي العارف الزاهد فلان،
لأقدمت على هذا العمل معهم.
فعلى هذا كان تصميم يوسف مشروطا بشرط لم يتحقق، وهذا الأمر لا
منافاة له مع مقام يوسف من العصمة والتقوى، بل يؤكد له هذا المقام العظيم كذلك.
وطبقا لهذا التفسير لم يبد من يوسف أي شئ يدل على التصميم على
الذنب، بل لم يكن في قلبه حتى هذا التصميم.
ومن هنا فيمكن القول أن بعض الروايات التي تزعم أن يوسف كان مهيئا
180

لينال وطرا من امرأة العزيز، وخلع ثيابه عن بدنه، وذكرت تعبيرات أخرى
نستحيي من ذكرها، كل هذه الأمور عارية من الصحة ومختلقة، وهذه أعمال من
شأن الأفراد والمنحرفين الملوثين غير الأنقياء. فكيف يمكن أن يتهم يوسف مع
هذه المنزلة وقداسة روحه ومقام تقواه بمثل هذا الاتهام.
الطريف أن التفسير الأول نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في عبارة
موجزة جدا وقصيرة، حيث يسأله المأمون " الخليفة العباسي " قائلا: ألا تقولون
أن الأنبياء معصومون؟ فقال الإمام: " بلى ". فقال: فما تفسير هذه الآية ولقد
همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه فقال الإمام (عليه السلام): " لقد همت به، ولولا
أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت، لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب ولا
يأتيه " فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن (1).
2 - إن تصميم كل من امرأة العزيز ويوسف لا علاقة له بالوطر الجنسي، بل
كان تصميما على ضرب أحدهما الآخر..
فتصميم امرأة العزيز على هذا العمل كان لعدم انتصارها في عشقها وبروز
روح الانتقام فيها ثأرا لهذا العشق.
وتصميم يوسف كان دفاعا عن نفسه، وعدم التسليم لطلب تلك المرأة.
ومن جملة القرائن التي تذكر في هذا الموضوع:
أولا: إن امرأة العزيز كانت قد صممت على نيل الوطر الجنسي قبل هذه
الحالة، وكانت قد هيأت مقدمات هذا الأمر، فلا مجال - إذن - لأن يقول القرآن:
إنها صممت على هذا العمل الآن، لأن هذه الساعة لم تكن ساعة تصميم.
وثانيا: إن ظهور حالة الخشونة والانتقام بعد هذه الهزيمة أمر طبيعي، لأنها
بذلت ما في وسعها لإقناع يوسف، ولما لم توفق إلى ما رغبت فيه توسلت بطريق
آخر، وهو طريق الخشونة والضرب.

1 - تفسير نور الثقلين ج 2 ص 421.
181

وثالثا: إننا نقرأ في ذيل هذه الآية كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء
والمراد بالفحشاء هو التلوث وعدم العفة.. والمراد بصرف السوء، هو نجاته من
مخالف امرأة العزيز، وعلى كل حال فحين رأى يوسف برهان ربه... تجنب
الصراع مع امرأة العزيز وضربها، لأنه قد يكون دليلا على تجاوزه وعدوانه عليها،
ولذا رجح أن يبتعد عن ذلك المكان ويفر نحو الباب.
3 - مما لا شك فيه أن يوسف كان شابا يحمل جميع الأحاسيس التي في
الشباب، وبالرغم من أن غرائزه كانت طوع عقله وإيمانه.. إلا أن مثل هذا
الإنسان - بطبيعة الحال - يهيج طوفان في داخله لما يشاهده من مثيرات في هذا
المجال، فيصطرع العقل والغريزة، وكلما كانت أمواج المثيرات أشد كانت كفة
الغرائز أرجح، حتى أنها قد تصل في لحظة خاطفة إلى أقصى مرحلة من القوة،
بحيث لو تجاوز هذه المرحلة خطوة لهوى في مزلق مهول، ولكن قوة الإيمان
والعقل ثارت في نفسه فجأة وتسلمت زمام الأمور في انقلاب عسكري سريع
وكبحت جماح الشهوة.
والقرآن يصور هذه اللحظة الخاطفة الحساسة والمتأزمة التي وقعت بين
زمانين هادئين - في الآية المتقدمة - فيكون المراد من قوله تعالى: وهم بها
لولا أن رأى برهان ربه إن يوسف انجر إلى حافة الهاوية في الصراع بين
الغريزة العقل، ولكن فجأة ثارت قوة الإيمان والعقل وهزمت طوفان الغريزة (1)..
لئلا يتصور أحد أن يوسف عندما استطاع أن يخلص نفسه من هذه الهاوية فلم
يقم بعمل مهم، لأن أسباب الذنب والهياج الجنسي كانت فيه ضعيفة.. كلا أبدا..
فهو في هذه اللحظة الحساسة جاهد نفسه أشد الجهاد.

1 - مقتبس من تفسير " في ظلال القرآن " لسيد قطب ذيل الآية ج 4 ص 711.
182

3 ما المراد من برهان ربه؟
" البرهان " في الأصل مصدر " بره " ومعناه " صيرورة الشئ أبيضا " ثم اطلق
هذا اللفظ على كل دليل محكم قوي يوجب وضوح المقصود، فعلى هذا يكون
برهان الله الذي نجي يوسف نوعا من الأدلة الإلهية الواضحة، وقد احتمل فيه
المفسرون إحتمالات كثيرة، من جملتها:
1 - العلم والإيمان والتربية الإنسانية والصفات البارزة.
2 - معرفته بحكم تحريم الزنا.
3 - مقام النبوة وعصمته من الذنب.
4 - نوع من الإمداد الإلهي الذي تداركه في هذه اللحظة الحساسة بسبب
أعماله الصالحة.
5 - هناك رواية يستفاد منها أنه كان في قصر امرأة عزيز مصر صنم تعبده،
وفجأة وقعت عيناها عليه، فكأنها أحست بأن الصنم ينظر إلى حركاتها الخيانية
بغضب، فنهضت وألقت عليه سترا، فاهتز يوسف لهذا المنظر، وقال: أنت تستحين
من صنم لا يملك عقلا ولا شعورا ولا إحساسا، فكيف لا أستحيي من ربي الخبير
بكل شئ، والذي لا تخفى عليه خافية؟.
فهذا الإحساس منح يوسف قوة جديدة، وأعانه على الصراع الشديد في
أعماق نفسه بين الغريزة والعقل، ليتمكن من التغلب على أمواج الغريزة في
نفسه (1).
وفي الوقت ذاته لا مانع أن تكون جميع هذه المعاني منظورة، لأن مفهوم
البرهان العام يستوعبها جميعا، وقد أطلقت آيات القرآن كلمة " البرهان " على
كثير من المعاني المتقدمة.
أما الروايات التي لا سند لها والتي ينقلها بعض المفسرين، والتي مؤداها أن

1 - نور الثقلين، ج 2، ص 422، وتفسير القرطبي، ص 398، ج 5.
183

يوسف صمم على الذنب، ولكنه لاحظ فجأة حالة من المكاشفة بين جبرئيل
ويعقوب وهو يعض على إصبعه، فرأى يوسف هذا المنظر وتخلف عن إقدامه
على هذا الذنب.. فهذه الروايات ليس لها أي سند معتبر.. وهي روايات
إسرائيلية أنتجتها الذهنيات البشرية الضيقة التي لم تدرك مقام النبوة أبدا.
والآن لنتوجه إلى تفسير بقية الآية إذ يقول القرآن المجيد: كذلك لنصرف
عنه السوء والفحشاء إنه كان من عبادنا المخلصين. وهي إشارة إلى أن هذا
الإمداد الغيبي والإعانة المعنوية لإنقاذ يوسف من السوء والفحشاء من قبل الله لم
يكن اعتباطا، فقد كان عبدا عارفا مؤمنا ورعا ذا عمل صالح طهر قلبه من الشرك
وظلماته، فكان جديرا بهذا الإمداد الإلهي.
وبيان هذا الأمر يدل على أن مثل هذه الإمدادات الغيبية، في لحظات الشدة
والأزمة التي تدرك الأنبياء - كيوسف مثلا - غير مخصوصة بهم، فإن كل من كان
في زمرة عباد الله الصالحين المخلصين فهو جدير به هذه المواهب أيضا.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - جهاد النفس
نحن نعرف أن أعظم الجهاد في الإسلام هو جهاد النفس، الذي عبر عنه في
حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ب‍ " الجهاد الأكبر " أي هو جهاد أعظم من جهاد
العدو الذي عبر عنه بالجهاد الأصغر.. وإذا لم يتوفر في الإنسان الجهاد الأكبر
بالمعنى الواقعي - أساسا - فلن ينتصر في جهاده على أعدائه.
وفي القرآن المجيد ترتسم صور شتى في ميادين الجهاد، وتتجلى فيها
علاقة الأنبياء وأولياء الله الصالحين. وقصة يوسف وما كان من عشق امرأة العزيز
الملتهب واحدة من هذه الصور، وبالرغم من أن القرآن لم يوضح جميع ما في
القصة من خفايا وزوايا، إلا أنه أجملها بصورة موجزة في جملة قصيرة هي
184

وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وبين شدة هذا الطوفان.
لقد خرج يوسف من هذا الصراع منتصرا بوجه مشرق لثلاثة أسباب:
الأول: إنه التجأ إلى الله واستعاذ به، وقال: معاذ الله.
الثاني: التفاته إلى الإحسان الذي أسداه إليه عزيز مصر، وما تناوله في بيته
فأثر فيه، فلم ينس فضله طيلة حياته، ومع ملاحظة نعم الله التي لا تحصى وإنقاذه
له من غيابة الجب الموحشة إلى محيط الأمان والهدوء جعلته يفكر في ماضيه
ومستقبله، ولا يستسلم للتيارات العابرة.
الثالث: بناء شخصيته وعبوديته المقرونة بالإخلاص التي عبر عنها القرآن
إنه من عبادنا المخلصين يستفاد منها أنها منحته القوة والقدرة ليخرج من
ميادين الوسوسة التي تهجم عليه من الداخل والخارج بانتصار.
وهذا درس كبير لجميع الناس الأحرار الذين يريدون أن ينتصروا على
عدوهم الخطر في ميادين جهاد النفس.
يقول الإمام علي بن أبي طالب " أمير المؤمنين " في دعاء الصباح، بأسلوب
جميل رائق: " وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان، فقد وكلني
خذلانك إلى حيث النصب والحرمان ".
ونقرأ في بعض الأحاديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية فلما رجعوا قال:
" مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر " فقيل: يا رسول الله،
وما الجهاد الأكبر قال: " جهاد النفس " (1).
ويقول الإمام علي (عليه السلام) أيضا " المجاهد من جاهد نفسه " (2).
كما ينقل عن الإمام الصادق أنه قال: " من ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا
اشتهى وإذا غضب وإذا رضي حرم الله جسده على النار " (3).

1 - وسائل الشيعة، ج 11، ص 122.
2 - المصدر السابق، ص 124.
3 - المصدر نفسه، ص 123.
185

3 2 - ثواب الإخلاص
كما أشرنا في تفسير الآيات المتقدمة، فإن القرآن المجيد عزا نجاة يوسف -
من هذه الأزمة الخطرة التي أوقعته امرأة العزيز فيها - إلى الله، إذ قال: كذلك
لنصرف عنه السوء والفحشاء.
ولكن مع ملاحظة الجملة التي تليها: إنه كان من عبادنا المخلصين تتجلى
هذه الحقيقة، وهي أن الله سبحانه لا يترك عباده المخلصين في اللحظات المتأزمة
وحدهم.. ولا يقطع عنهم إمداداته المعنوية.. بل يحفظ عباده بألطافه الخفية.
وهذا الثواب في الواقع هو ما يمنحه الله جل جلاله لأمثال هؤلاء العباد، وهو
ثواب الطهارة والتقوى والإخلاص.
وهناك مسألة جديرة بالتنويه، وهي أن يوسف " من عباد الله المخلصين "
ومفرد الكلمة " مخلص " على وزن " مطلق " وهو اسم مفعول. ولم تأت الكلمة
على وزن اسم الفاعل أي " مخلص " على وزن " محسن ".
والدقة في آيات القرآن تكشف عن أن كلمة " مخلص " (بكسر اللام) غالبا
ما تستعمل في مراحل تكامل الإنسان الأولى وفي حال بناء شخصيته، كقوله
تعالى: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين (1).
وكقوله تعالى: وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (2).
غير أن كلمة " مخلص " بفتح اللام استعملت في المرحلة العالية.. التي
تحصل بعد مدة مديدة من جهاد النفس، تلك المرحلة التي ييأس الشيطان فيها
من نفوذه ووسوسته داخل الإنسان، وفي الحقيقة تكون نفس الإنسان مؤمنا
عليها من قبل الله، يقول القرآن في هذا الصدد: قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين

1 - العنكبوت، 65.
2 - البينة، 5.
186

إلا عبادك منهم المخلصين (1).
وكان يوسف قد بلغ هذه المرحلة بحيث وقف كالجبل أمام تلك الأزمة،
فينبغي على كل فرد السعي لبلوغ هذه المرحلة.
3 3 - العفة والمتانة في البيان
من عجائب القرآن وواحدة من أدلة الإعجاز، أنه لا يوجد في تعبيره ركة
وابتذال وعدم العفة وما إلى ذلك، كما أنه لا يتناسب مع أسلوب الفرد العادي
الأمي الذي تربى في محيط الجاهلية، مع أن حديث كل أحد يتناسب مع محيطه
وأفكاره!.
وبين جميع قصص القرآن وأحداثه التي ينقلها توجد قصة غرام وعشق
واقعية، وهي قصة (يوسف وامرأة عزيز مصر).
قصة تتحدث عن عشق امرأة جميلة والهة ذات أهواء جامحة لشاب جميل
طاهر القلب.
أصحاب المقالات والكتاب حين يواجهون مثل هذا الأمر.. إما أن يتحدثوا
عن أبطال القصة بأن يطلقوا للقلم أو اللسان العنان، حتى تظهر في (البين) تعابير
مثيرة وغير أخلاقية كثيرة.
وإما أن يحافظوا على العفة والنزاهة في القلم واللسان، فيحولوا القصة إلى
القراء أو السامعين بشكل غامض ومبهم.
فالكاتب أو صاحب المقال مهما كان ماهرا يبتلى بواحد من هذين
الإشكالين، ترى هل يعقل أن فردا لم يدرس يرسم رسما دقيقا وكاملا لفصول
مثل هذا العشق المثير، دون أن يستعمل أقل تعبير مهيج وبعيد عن العفة؟!
ولكن القرآن يمزج في رسم هذه الميادين الحساسة من هذه القصة -

1 - سورة ص، الآية 83.
187

بأسلوب معجب - الدقة في البيان مع المتانة والعفة، دون أن يغض الطرف عن ذكر
الوقائع، أو أن يظهر العجز، وقد استعمل جميع الأصول الأخلاقية والأمور
الخاصة بالعفة.
ونعرف أن أخطر ما في هذه القصة ما جرى في " خلوة العشق " وما أظهرته
امرأة العزيز بابتكارها وهواها.
والقرآن يتناول كل ما جرى من حوادث ويتحدث عنها دون أن يظهر أقل
انحراف من أصول العفة حيث يقول: وراودته التي هو في بيتها عن نفسه
وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا
يفلح الظالمون (يوسف 23).
والمسائل التي تسترعي الانتباه في هذه القصة ما يلي:
1 - كلمة " راود " تستعمل في مكان يطلب فيه أحد من الآخر شيئا بإصرار
ممزوجا بالترغيب واللين، لكن ما الذي أرادته امرأة العزيز من يوسف؟!.. بما أنه
كان واضحا فقد اكتفى القرآن بالكناية والتلميح دون التصريح!.
2 - إن القرآن هنا لم يعبر عن امرأة العزيز تعبيرا مباشرا، بل قال: التي هو
في بيتها ليقترب من بيان العفة وإسدال الحجاب، كما جسد معرفة يوسف للحق
وجسد مشاكل يوسف أيضا في عدم التسليم إزاء من كانت حياته في قبضتها.
3 - غلقت الأبواب التي تدل على المبالغة وأن الأبواب جميعا أوصدت
بشدة، (وهذا تصوير من هذا الميدان المثير).
4 - جملة هيت لك تشرح آخر كلام امرأة العزيز للبلوغ إلى وصال
يوسف، ولكنها في عبارة متينة ذات مغزى كبير وليس فيها ما يشير إلى تعبير
سيئ.
5 - معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي التي قالها يوسف لتلك المرأة
الجميلة، معناها كما يقول أكثر المفسرين: إني ألتجئ إلى الله فإن عزيز مصر
188

صاحبي وسيدي وهو يجلني ويحترمني ويعتمد علي، فكيف أخونه؟! وهذا
العمل خيانة وظلم إنه لا يفلح الظالمون وبهذا توضح الآية سعي يوسف إلى
إيقاظ العواطف الإنسانية في امرأة العزيز.
6 - جملة ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ترسم - من
جهة - تلك الخلوة بدقة، بحيث لو أن يوسف لم يكن لديه مقام العصمة أو العقل أو
الإيمان لكان قد وقع في " الفخ ".
ومن جهة أخرى ترسم انتصار يوسف أخيرا في هذه الظروف على شيطان
الشهوة الطاغي.. بأسلوب رائع.
الطريف هنا أن الآية استعملت كلمة " هم " فحسب، " أي إن امرأة العزيز
صممت من جهتها ولو لم ير يوسف برهان ربه لصمم من جهته أيضا، ترى هل
توجد كلمة أكثر متانة للتعبير عن (القصد والتصميم) أفضل من هذه؟!
* * *
189

2 الآيات
واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا
الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو
عذاب أليم (25) قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من
أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من
الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من
الصدقين (27) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن
إن كيدكن عظيم (28) يوسف أعرض عن هذا واستغفري
لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29)
2 التفسير
3 فضيحة امرأة العزيز!!
المقاومة الشديدة التي أبداها يوسف جعلت امرأة العزيز آيسة منه تقريبا..
ولكن يوسف الذي انتصر في هذا الدور على تلك المرأة المعاندة أحس أن بقاءه
في بيتها - في هذا المزلق الخطر - غير صالح، وينبغي أن يبتعد عنه، ولذلك أسرع
نحو باب القصر ليفتحه ويخرج، ولم تقف امرأة العزيز مكتوفة الأيدي، بل
190

أسرعت خلفه لتمنعه من الخروج، وسحبت قميصه من خلفه فقدته واستبقا
الباب فقدت قميصه من دبر.
(الإستباق) في اللغة هو المسابقة بين شخصين أو أكثر.
و (قد) بمعنى مزق طولا، كما أن " قط " بمعنى مزق عرضا، ولذلك نقرأ في
الحديث.. " كانت ضربات علي بن أبي طالب (عليه السلام) أبكارا، إذا اعتلى قد، وإذا
اعترض قط " (1).
وعلى كل حال فقد أوصل يوسف نفسه نحو الباب وفتحه فرأيا " يوسف
وامرأة العزيز " عزيز مصر خلف الباب فجأة. يقول القرآن الكريم: وألفيا سيدها
لدى الباب.
" ألفيا " من مادة " الإلفاء " ومعناها العثور المفاجئ.. والتعبير عن الزوج
ب‍ " السيد " كما يقول بعض المفسرين كان طبقا للعرف السائد في مصر، حيث
كانت تخاطب المرأة زوجها بالسيد.
في هذه اللحظة التي رأت امرأة العزيز نفسها على أبواب الفضيحة من جهة،
وشعلة الانتقام تتأجج في داخلها من جهة أخرى، كان أول شئ توجهت إليه أن
تخاطب زوجها متظاهرة بمظهر الحق متهمة يوسف إذ قالت ما جزاء من أراد
بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم.
من الطريف هنا أن هذه المرأة الخائنة نسيت نفسها أنها امرأة العزيز حينما
كانت لوحدها مع يوسف، ولكن عندما وجدت نفسها مشرفة على الافتضاح،
عبرت عن نفسها بأنها أهله لتثير فيه إحساس الغيرة! فهي خاصة به ولا ينبغي
لأحد أن يلقي عليها نظرات الطمع!!
وهذا الكلام قريب الشبه بكلام فرعون مصر في عصر موسى إذ قال:

1 - مجمع البيان: ذيل الآية.
191

أليس لي ملك مصر، (1) حيث كان جالسا على عرش السلطنة! ولكنه حين
وجد نفسه مشرفا على السقوط، ووجد ملكه وتاجه في خطر، قال عن موسى
وأخيه: يريدان أن يخرجاكم من أرضكم (2).
والأمر الآخر أن امرأة العزيز لم تقل إن يوسف كان يريد السوء بي، بل
تحدثت [عن ما يستحقه من الجزاء] مع عزيز مصر، فكأن أصل المسألة مسلم
به!! والكلام عن كيفية الجزاء.
وهذا التعبير المدروس الذي كان في لحظة اضطراب ومفاجأة للمرأة يدل
على شدة احتيالها (3).
ثم إن التعبير عن السجن أولا، ثم عدم قناعتها بالسجن وحده، إذ تتجاوز
هذا الحكم إلى العذاب الأليم أو " الإعدام " مثلا.
ولكن يوسف أدرك أن السكوت هنا غير جائز.. فأماط اللثام عن عشق
امرأة العزيز وقال هي راودتني عن نفسي.
وطبيعي أن مثل هذا الحادث من العسير تصديقه في البداية، أي إن شابا
يافعا غير متزوج لا يعد آثما، ولكن امرأة متزوجة ذات مكانة اجتماعية - ظاهرا
- آثمة! فلذلك كانت أصابع الاتهام تشير إلى يوسف أكثر من امرأة العزيز.
ولكن حيث أن الله حامي الصالحين والمخلصين فلا يرضى أن يحترق هذا
الشاب المجاهد بشعلة الاتهام، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد: وشهد شاهد
من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه
قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. وأي دليل أقوى من هذا الدليل، لأن
طلب المعصية إن كان من طرف امرأة العزيز فقد ركضت خلف يوسف وقدت

1 - الزخرف، 50.
2 - سورة طه، 63.
3 - في المراد من " ما " من قولها " ما جزاء " أهي نافية أم استفهامية، هناك اختلاف بين المفسرين، والنتيجة واحدة.
192

قميصه من دبر، لأنه كان يريد الفرار فأمسكت بثوبه فقدته، وإذا كان يوسف هو
الذي هجم عليها وهي تريد الفرار أو وقفت أمامه للمواجهة والدفاع، فمن
المسلم أن يقد قميص يوسف من قبل! وأي شئ أعجب من أن تكون هذه
المسألة البسيطة " خرق الثوب " مؤشرا على تغيير مسير حياة برئ وسندا على
طهارته ودليلا على افتضاح المجرم!.
أما عزيز مصر فقد قبل هذا الحكم الدقيق، وتحير في قميص يوسف ذاهلا:
فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم.
في هذه الحال، ولخوف عزيز مصر من انتشار خبر هذا الحادث المؤسف
على الملأ، فتسقط منزلته وكرامته في مصر رأى أن من الصلاح كتمان القضية،
فالتفت إلى يوسف وقال: يوسف أعرض عن هذا أي اكتم هذا الأمر ولا تخبر
به أحدا.. ثم التفت إلى امرأته وقال: واستغفري لذنبك إنك كنت من
الخاطئين (1).
وذهب بعض المفسرين إلى أن القائل لهذه الجملة ليس عزيز مصر، بل
الشاهد نفسه، ولكن لا دليل يؤيد هذا الاحتمال وخاصة مع وقوع هذه الجملة
بعد قول العزيز.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - من كان الشاهد؟!
هناك أقوال في الشاهد الذي ختم " ملف يوسف وامرأة العزيز " بسرعة،
وأوضح البرئ من المسئ من هو؟

1 - ورد التعبير بالخاطئين وهو جمع مذكر، ولم يرد التعبير بالخاطئات الذي هو جمع مؤنث، لأن جمع المذكر السالم
يغلب في كثير من الموارد ويطلق على جماعة الذكور والإناث أي " إنك في زمرة الخاطئين ".
193

قال بعضهم: هو أحد أقارب امرأة العزيز، وكلمة " من أهلها " دليل على ذلك
.. وعلى القاعدة فهو رجل حكيم وعارف ذكي بحيث استطاع أن يستنبط الحكم
من قد الثوب دون أن يكون لديه شاهد أو بينة. بل اكتشف حقيقة الحال.. ويقال:
إن هذا الرجل كان من مشاوري عزيز مصر وكان معه.
التفسير الآخر: إن الشاهد كان طفلا رضيعا من أقارب امرأة العزيز وكان
على مقربة من الحادث، وكان يوسف قد طلب من عزيز مصر أن يحتكم إلى هذا
الطفل، فتعجب عزيز مصر من هذا الطلب.. ترى هل يمكن هذا؟! لكن " الطفل "
حين تكلم - كما تكلم المسيح (عليه السلام) في المهد - وأعطى هذا المعيار لمعرفة البرئ
من المسيئ، التفت عزيز مصر إلى أن يوسف ليس غلاما (عاديا) بل هو نبي أو
متنبي.
والروايات المنقولة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) وأهل السنة تشير إلى هذا
التفسير، من جملتها ما نقله ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه قال: " أربعة تكلموا
أطفالا: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريح، وعيسى بن مريم " (1).
كما نقل عن تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق أن شاهد يوسف كان
طفلا في المهد (2).
ولكن ينبغي الالتفات إلى أن أيا من الحديثين المتقدمين ليس له سند قوي،
بل هما مرفوعان.
الاحتمال الثالث: إن الشاهد هو القد في الثوب الذي تكلم بلسان الحال،
ولكن مع ملاحظة كلمة من أهلها يضعف هذا الاحتمال، بل ينفيه!.

1 - تفسير المنار، ج 12، ص 287.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 12، ص 422.
194

3 2 - الموقف الضعيف لعزيز مصر
من جملة المسائل التي تستجلب الانتباه في هذه القصة أن في مثل هذه
المسألة المهمة التي طعن فيها بناموس عزيز مصر وعرضه، كيف يكتفي قانعا
بالقول واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين وربما كانت هذه المسألة
سببا لأن تدعو امرأة العزيز نساء الأشراف إلى مجلسها الخاص، وتكاشفهن
بقصة حبها وغرامها بجلاء.
ترى: أكان هذا خوفا من الافتضاح، فاختصر عزيز مصر هذه المسألة
وغض النظر عنها!؟
أم أن هذه المسألة - أساسا - ليست بذات أهمية للحكام ومالكي أزمة
الأمور والطواغيت، فهم لا يكترثون للغيرة وحفظ الناموس، لأنهم ملوثون
بالذنوب وغارقون في مثل هذه الرذائل والفساد حتى كأنه لا أهمية لهذا
الموضوع في نظرهم.
يبدو أن الاحتمال الثاني أقرب للنظر!.
3 3 - حماية الله في الأزمات
الدرس الكبير الآخر الذي نتعلمه من قصة يوسف، هو حماية الله ورعايته
للإنسان الأكيدة في أشد الحالات، وبمقتضى قوله: يجعل له مخرجا ويرزقه من
حيث لا يحتسب - فمن جهة كان يوسف لا يصدق أبدا أن نافذة من الأمل
ستفتح له، ويكون قد القميص سندا للطهارة والبراءة، ذلك القميص الذي يصنع
الحوادث، فيوما يفضح إخوة يوسف لأنهم جاؤوا أباهم وهو غير ممزق، ويوما
يفضح امرأة العزيز لأنه قد من دبر، ويوما آخر يهب البصر والنور ليعقوب، وريحه
المعروف يسافر مع نسيم الصباح من مصر إلى أرض كنعان ويبشر العجوز
" الكنعاني " بقدوم موكب البشير!.
195

وعلى كل حال فإن لله ألطافا خفية لا يسبر غورها أحد، وحين يهب نسيم
هذه الألطاف تتغير الأسباب والمسببات بشكل لا يمكن حتى لأذكى الأفراد أن
يتنبأ عنها!.
بل قد يتفق أحيانا أن خيوط العنكبوت تبدل مسير الحياة لامة أو قوم
بشكل دائم، كما حدث في قصة غار ثور وهجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
3 4 - خطة امرأة العزيز
في الآيات المتقدمة إشارة إلى مكر النسوة (طبعا النساء اللائي لا ارتباط
لهن بشئ إلا هواهن كامرأة العزيز) وهذا المكر والتحيل الموصوف بالعظمة (إن
كيدكن عظيم) يوجد منه في التاريخ والقصص التاريخية أمثلة كثيرة، حيث
تكشف إجمالا أن النساء اللائي يسوقهن هواهن يرسمن خططا لا نظير لها من
نوعها.
رأينا في القصة المتقدمة كيف أن امرأة العزيز بعد الهزيمة في عشقها
وافتضاح أمرها، برأت نفسها بمهارة واتهمت يوسف ولم تقل إن يوسف قصد
السوء بي، بل افترضت ذلك أمرا مسلما به. وإنما سألت فقط عن جزاء مثل من
يعمل هذا العمل!! جزاء لا يتوقف على السجن فحسب، بل يأخذ أبعادا أخرى
غير محدودة.
ونرى أيضا أن هذه المرأة في مقابل لوم نسوة مصر لها إذ عشقت غلامها -
في الآيات التالية - تستعمل مثل هذا المكر أو الخداع، وهذا تأكيد آخر على مكر
مثل هؤلاء النسوة!
* * *
196

2 الآيات
وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز ترود فتاها عن نفسه
قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلل مبين (30) فلما سمعت بمكرهن
أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل وحدة منهن
سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن
أيديهن وقلن حش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31)
قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه
فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من
الصاغرين (32) قال رب السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه
وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجهلين
(33) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع
العليم (34)
2 التفسير
3 مؤامرة أخرى:
بالرغم من أن عشق امرأة العزيز المذكور آنفا كان - مسألة خصوصية -
197

بحيث أكد حتى العزيز على كتمانها، ولكن حيث أن هذه الأسرار لا تبقى خافية،
ولا سيما في قصور الملوك وأصحاب المال والقوة - التي في حيطانها آذان
صاغية - فسوف تتسرب إلى خارج القصر كما يقول القرآن في هذا الشأن:
وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا ثم
لمنها وعنفنها بهذه الجملة إنا لنراها في ضلال مبين. وواضح أن المتحدث
بمثل هذا الكلام كن نساء أشراف مصر حيث كانت أخبار القصور المفعمة بفساد
الفراعنة والمستكبرين مثيرة لهن وكن يستقصينها دائما.
لم يكن فساد هؤلاء النسوة بأقل من امرأة العزيز ولكن أيديهن لم تصل إلى
يوسف، وكما يقول المثل - " العين بصيرة واليد قصيرة " فكن يرين امرأة العزيز
بسبب هذا العشق في ضلال مبين.
ويقول بعض المفسرين: إن إذاعة هذا السر من قبل هذه المجموعة من نساء
مصر، كانت خطة لتحريك امرأة العزيز حتى تدعوهن إلى قصرها لتكشف لهن
عن براءتها وتريهن يوسف وجماله!
ولعلهن كن يتصورن أن يوسف إذا رآهن بهره جمالهن، وربما رآهن أجمل
من امرأة العزيز، ولأن يوسف كان يحترم امرأة العزيز احترام الولد لوالدته - أم
مربيته - فهو لا يطمع فيها، ولهذا السبب يكون احتمال نفوذهن إلى قلبه أقوى من
نفوذ امرأة العزيز إليه!.
" الشغف " من مادة " الشغاف " ومعناه أعلى القلب أو الغشاء الرقيق المحيط
بالقلب، وشغفها حبا معناه أنها تعلقت به إلى درجة بحيث نفذ حبه إلى قلبها
واستقر في أعماقه.
وهذا التعبير إشارة إلى العشق الشديد والملتهب.
يذكر " الآلوسي " في تفسيره " روح المعاني " نقلا عن كتاب أسرار البلاغة
مراتب الحب والعشق ونشير هنا إلى قسم منها:
198

فأول مراحل الحب " الهوى " ومعناه الميل، ثم " العلاقة " وهي المحبة
الملازمة للقلب، وبعدها " الكلف " وهو الحب الشديد، ثم " العشق " وبعده
" الشعف " بالعين المهملة أي الحالة التي يحترق القلب فيها من الحب ويحس
باللذة من هذه الحالة.. وبعدها " اللوعة " ثم " الشغف " وهو المرحلة التي ينفذ
العشق فيها إلى جميع زوايا القلب، ثم " الوله " وهو المرحلة التي تخطف عقل
الإنسان من العشق، وآخر المراحل " الهيام " وهو المرحلة التي تذهل العاشق
وتجره إلى كل جهة دون اختياره (1).
هناك مسألة جديرة بالالتفات وهي: من الذي أذاع هذا السر؟ هل كان من
امرأة العزيز التي لم ترغب في هذه الفضيحة أبدا! أو من قبل العزيز نفسه! وكان
يؤكد على كتمان السر، أو القاضي الحكيم الذي حكم في الأمر، ويستبعد منه هذا
العمل؟!
وعلى كل حال فإن مثل هذه المسائل في هذه القصور المفعمة بالفساد لا
تبقى طي الكتمان، وأخيرا فإنها تنتقل على ألسنة الذين يظهرون الحرص على
شرف القصر وتنتشر، ومن الطبيعي أن يضيف عليها آخرون أوراقا وأغصانا.
أما امرأة العزيز فقد وصلها ما دار بين النسوة من افتضاحها فلما سمعت
بمكرهن أرسلت إليهن واعتدت لهن متكئا وأتت كل واحدة منهن سكينا (2).
هذا العمل دليل على أن امرأة العزيز لم تكن تكترث بزوجها، ولم تأخذ
الدرس من فضيحتها، ثم أمرت يوسف أن يتخطى في المجلس وقالت اخرج
عليهن وتعبير اخرج عليهن بدلا من " ادخل " يشير إلى أنها كانت أخفت
يوسف داخل البيت، أو جعلته مشغولا في إحدى الغرف التي يوضع فيها الغذاء

1 - تفسير (روح المعاني) ج 12 ص 203.
2 - " المتكأ " ما يتكأ عليه كالكراسي والأسرة، وما يوضع خلف الظهر كما هو معروف في القصور، ولكن البعض قال:
إن المتكأ هو نوع من الفواكه المعروفة " بالاترنج " والذين فسروا المتكأ بالمعنى المتقدم قالوا أيضا: إنها فاكهة " الأترنج "
وهي فاكهة من فصائل الحمضيات لها قشر ضخم يستعمل في المربيات، وهذه الفاكهة في مصر خفيفة الحموضة وتؤكل!
199

عادة حتى يكون دخوله إلى المجلس مفاجأة للجميع.
نساء مصر - وطبقا لبعض الروايات التي تقول: كن عشرا.. أو أكثر - فوجئن
بظهور يوسف كأنه البدر أو الشمس الطالعة، فتحيرن من جماله فلما رأينه
أكبرنه وفقدن أنفسهن وقطعن أيديهن مكان الفاكهة، وحين وجدن الحياء
والعفة تشرقان من عينيه وقد احمر وجهه خجلا صحن جميعا و قلن حاشا لله
ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (1).
وهناك أقوال بين المفسرين في أن النسوة إلى أي حد قطعن أيديهن؟ فمنهم
من بالغ في الأمر، ولكن كما يستفاد من القرآن على نحو الإجمال أنهن جرحن
أيديهن.
وفي هذه الحال التي كانت الدماء تسيل من أيدي النسوة وقد لاحظن ملامح
يوسف كلها وصرن أمامه " كالخشب المسندة " كشفن عن أنهن لسن بأقل من
امرأة العزيز عشقا ليوسف، فاستغلت امرأة العزيز هذه الفرصة ف‍ قالت فذالكن
الذي لمتنني فيه.
فكأن امرأة العزيز أرادت أن تقول لهن: لقد رأيتن يوسف مرة واحدة فحدث
لكن ما حدث وفقدتن صوابكن وقطعتن أيديكن من جماله وعشقه، فكيف الام
وأنا أراه وأسكن معه ليل نهار؟!
وهكذا أحست امرأة العزيز بالغرور لأنها وفقت في ما ألقته من فكرة
وأعطت لنفسها العذر، واعترفت بكل صراحة بكل ما فعلت وقالت: ولقد
راودته عن نفسه فاستعصم.
وبدلا من أن تظهر الندم على كلامها أو تتحفظ على الأقل أمام ضيوفها،
أردفت القول بكل جد يحكي عن إرادتها القطعية: ولئن لم يفعل ما آمره

1 - " حاش لله " من مادة " حشي " معناها الطرف أو الناحية.. والتحاشي الابتعاد ومفهوم جملة " حاش لله " أي إن الله منزه،
وهي إشارة إلى أن يوسف عبد منزه وطاهر.
200

ليسجنن... ولا أكتفي بسجنه، بل وليكونا من الصاغرين.
ومن الطبيعي أنه إذا اكتفى عزيز مصر إزاء خيانة امرأته بالقول: استغفري
لذنبك فينبغي أن تجر امرأته الفضيحة إلى هذه المرحلة.. وأساسا فإن مثل هذه
الأمور والمسائل في قصور الفراعنة والملوك ليست أمورا مهمة.
ينقل البعض روايات عجيبة مؤداها أن بعضا من نسوة مصر أعطين الحق
لامرأة العزيز ودرن حول يوسف ليرغبنه بأن يستسلم لحبها وكل واحدة تكلمت
بكلام!
فقالت واحدة: أيها الشاب ما هذا الصبر والدلال، ولم لا ترحم هذه العاشقة
الواهبة قلبها لك، ألا ترى هذا الجمال الآسر؟ أليس عندك قلب؟! ألست شابا؟
ألا تستلذ بالعشق والجمال، فهل أنت حجارة أو خشب؟!
وقالت الثانية: إذا كنت لا تعرف عن الجمال والعشق شيئا.. لكن ألا تدري
أن امرأة العزيز ذات نفوذ وقدرة.. ألا تفكر أن لو ملكت قلبها فستنال كل شئ
وتبلغ أي مقام شئت...
وقالت الثالثة: إذا كنت لا ترغب في جمالها المثير ولا تحتاج إلى مقامها
ومالها، ولكن ألا تعرف أنها ستنتقم لنفسها بما أوتيت من وسائل الانتقام الخطرة،
ألا تخاف من السجن ووحشته ومن الغربة المضاعفة فيه؟!
تهديد امرأة العزيز من جانبها بالسجن والإذلال من جهة، ووساوس النسوة
الملوثات اللائي خططن ليوسف كما يخطط الدلال من جهة أخرى، أوقعا يوسف
في أزمة شديدة، وأحاط به طوفان المشاكل، ولكن حيث أن يوسف كان قد صنع
نفسه، وقد أوجد نور الإيمان والعفة والتقوى في قلبه هدوءا وسكينة خاصة، فقد
صمم بعزم وشجاعة والتفت نحو السماء ليناجي ربه وهو في هذه الشدة قال
رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه.
وحيث كان يدري أن لا مهرب له إلا إلى الله في جميع الأحوال ولا سيما في
201

الساعات الحرجة، فقد أودع نفسه عند الله بهذا الكلام وإلا تصرف عني
كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين.
رباه... إنني أتقبل السجن الموحش رعاية لأمرك وحفظا لطهارة نفسي...
هذا السجن تتحرر فيه روحي وتطهر نفسي، وأنا أرفض هذه الحرية الظاهرية
التي تأسر روحي في سجن " الشهوة " وتلوث نفسي.
رباه.. أعني، وهب لي القوة، وزدني قدرة وعقلا وإيمانا وتقوى، حتى أنتصر
على هذه الوساوس!
وحيث أن وعد الله حق، وأنه يعين المجاهد (لنفسه أو لعدوه) فإنه لم يترك
يوسف سدى وتلقفته رحمته ولطفه كما يقول القرآن الكريم: فاستجاب له ربه
فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.
فهو يسمع نجوى عبيده، وهو مطلع على أسرارهم، ويعرف طريق الحل لهم.
* * *
2 ملاحظات
1 - كما رأينا من قبل فإن امرأة العزيز ونسوة مصر، استفدن من أمور مختلفة
في سبيل الوصول إلى مرادهن، فمرة بإظهار العشق والعلاقة الشديدة والتسليم
المحض، ومرة بالترغيب والطمع، ثم بالتهديد، أو بتعبير آخر: توسلن بالشهوة
والمال والقوة!!
وهذه أصول متحدة المآل يتوسل بها الطغاة والمتجبرون في كل عصر
وزمان، حتى لقد رأينا كرارا ومرارا أنهم ومن أجل أن يجبروا رجال الحق على
الاستسلام، يظهرون لهم في مجلس واحد لينا للغاية ويلوحون بالمساعدات
وأنواع الإمداد ترغيبا، ثم يتوسلون في نهاية المجلس بالتهديد والوعيد، ولا
يلتفتون إلى ما في هذا من التناقض في مجلس واحد وما فيه من دناءة وخسة
202

ولؤم فاضح.
والسبب واضح.. فهم يريدون الهدف ولا تهمهم الوسيلة، وبتعبير آخر:
يستسيغون للوصول إلى أهدافهم أي أسلوب وأية وسيلة كانت.
وفي هذا المحيط يستسلم الأفراد الضعاف، سواء في أول المرحلة أو وسطها
أو نهايتها، إلا أن أولياء الحق لا يكترثون بهذه الأساليب بما لديهم من شهامة
وشجاعة ونور الإيمان ويرفضون التسليم بضرس قاطع حتى ولو أدى ذلك إلى
الموت.. وعاقبتهم الانتصار طبعا، انتصار أنفسهم وانتصار مبادئهم، أو على
الأقل انتصار مبادئهم.
2 - كثيرون هم مثل نسوة مصر، فطالما هم جالسون حول الحمى يظهرون
أنفسهم منزهين وأتقياء ويلبسون ثياب العفة ويعدون الانحراف - كما هو في
امرأة العزيز - في ضلال مبين.
ولكن حين يتعرضون لأدنى صدمة ينكشف أن أقوالهم لا تصدق أفعالهم..
فإذا كانت امرأة العزيز بعد سنين من معاشرة يوسف قد وقعت في شرك حبه
وعشقه، فإنهم في أول مجلس يبتلون بمثل هذا المصير ويقطعون " الأيدي "
مكان " الأترنج ".
3 - هنا قد يرد سؤال وهو: لم وافق يوسف على طلب امرأة العزيز وخرج
على النسوة في المجلس؟ المجلس الذي ترتب من أجل الإثم، أو لتبرئة امرأة
آثمة؟!
ولكن مع ملاحظة أن يوسف كان بحسب الظاهر غلاما مشترى وعليه أن
يخدم في القصر، فلعل امرأة العزيز استغلت هذه الفرصة والحيلة ليأتي بالطعام
مثلا دون أن يعرف بهذه الخطة ومكر النسوة.
وخاصة أننا قلنا أن تعبير القرآن أخرج عليهن كما يظهر منه أنه لم يكن
خارجا، بل كان في إحدى الغرف المجاورة للمجلس كالمطبخ مثلا.
203

4 - جملة يدعونني إليه وجملة تصرف عني كيدهن تدلان جيدا
على أن نسوة مصر - ذوات الهوى - بعد ما جرى لهن من تقطيع الأيدي والانبهار
بجمال يوسف، وردن هذا الميدان أيضا وطلبن من يوسف أن يستسلم لهن أو
لامرأة العزيز، ولكن يوسف أبى عليهن جميعا، وهذا يعني أن امرأة العزيز لم تكن
وحدها في الجريمة بل كان لها شريكات في ذلك.
5 - حين يقع الإنسان أسيرا بقبضة الشدائد والحوادث وتجره إلى شفى
الهاوية، فعليه أن يتوكل على الله ويلتجئ إليه ويستمد منه فقط، فإذا لم يحظ
بلطفه وعونه فإنه لا يستطيع أن يقوم بأي عمل، وهذا درس علمنا إياه يوسف
العظيم الطاهر الذيل، فهو القائل: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن
من الجاهلين فأنت يا رب الحافظ لي، ولا أعتمد على قواي وقدرتي وتقواي.
هذه الحالة " التعلق المطلق بلطف الله " بالإضافة إلى أنها تمنح عبادة الله
قدرة واستقامة غير محدودة، فهي تشملهم بألطافه الخفية.. تلك الألطاف التي لا
يمكن وصفها والتصديق بها إلا عند رؤيتها ومشاهدتها.
فهؤلاء هم الذين يسكنون في ظل الله ورحمته في الدنيا والآخرة... فقد ورد
حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الشأن يقول: " سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا
ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه متعلق
بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان كانا على طاعة الله عز وجل فاجتمعا
على ذلك وتفرقا، ورجل ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة
ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله تعالى، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى
لا تعلم شماله ما تصدق بيمينه " (1).
* * *

1 - سفينة البحار، ج 1، ص 595، مادة " ظل ".
204

2 الآيات
ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين (35)
ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أرنى أعصر خمرا
وقال الآخر إني أرنى أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه
نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين (36) قال لا يأتيكما طعام
ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني
ربى إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم
كافرون (37) واتبعت ملة آباءي إبراهيم وإسحق ويعقوب ما
كان لنا أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى
الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (38)
2 التفسير
3 السجن بسبب البراءة:
إنتهى المجلس العجيب لنسوة مصر مع يوسف في قصر العزيز في تلك
205

الغوغاء والهياج، ولكن خبره - بالطبع - وصل إلى سمع العزيز.. ومن مجموع هذه
المجريات اتضح أن يوسف لم يكن شابا عاديا، بل كان طاهرا لدرجة لا يمكن
لأي قوة أن تجره إلى الانحراف والتلوث، واتضحت علامات هذه الظاهرة من
جهات مختلفة، فتمزق قميصه من دبر، ومقاومته أمام وساوس نسوة مصر،
واستعداده لدخول السجن وعدم الاستسلام لتهديدات امرأة العزيز بالسجن
والعذاب الأليم، كل هذه الأمور أدلة على طهارته لا يمكن لأحد أن يسدل عليها
الستار أو ينكرها!.
ولازم هذه الأدلة إثبات عدم طهارة امرأة العزيز وانكشاف جريمتها، وعلى
أثر ثبوت هذه الجريمة فإن الخوف من فضيحة جنسية في أسرة العزيز كان يزداد
يوما بعد يوم.
فكان الرأي بعد تبادل المشورة بين العزيز ومستشاريه هو إبعاد يوسف عن
الأنظار لينسى الناس اسمه وشخصه، وأحسن السبل لذلك إيداعه قعر السجن
المظلم أولا، وليشيع بين الناس أن المذنب الأصلي هو يوسف ثانيا، لذلك يقول
القرآن في هذا الصدد: ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين.
التعبير بكلمة " بدا " التي معناها ظهور الرأي الجديد، يدل على أن مثل هذا
التصميم في حق يوسف لم يكن من قبل. ويحتمل أن تكون هذه الفكرة اقترحتها
امرأة العزيز الأول مرة.. وبهذا دخل يوسف النزيه - بسبب طهارة ثوبه - السجن،
وليست هذه أول مرة ولا آخرها أن يدخل الإنسان النزيه " بجريرة نزاهته "
السجن!!
أجل.. في المحيط المنحرف تكون الحرية من نصيب المنحرفين الذين
يسيرون مع التيار وليست الحرية وحدها من نصيبهم فحسب،.. بل أن الأفراد
النجباء كيوسف الذي لا يتلاءم مع ذلك المحيط ولونه ويتحرك على خلاف
مجرى الماء! ينبغي أن يقبعوا في زاوية النسيان.. ولكن إلى متى؟ هل تستمر هذه
206

الحالة؟.. قطعا لا..
ومن جملة السجناء الداخلين مع يوسف فتيان ودخل معه السجن
فتيان.
وحيث أن من الظروف لم تكن تسمح للإنسان أن يحصل فيها على الأخبار
بطريق عادي، فإنه يأنس لأحاسيس الآخرين ليبحث عن مسير الحوادث
ويتوقع ما سيكون، حتى أن الرؤيا وتعبيرها عنده يكون مطلبا مهما.
من هذا المنطلق جاء ليوسف يوما هذان الفتيان اللذان يقال: إن أحدهما كان
ساقيا في بيت الملك، والآخر كان مأمورا للطعام والمطبخ، وبسبب وشاية
الأعداء وسعايتهم بهما دخلا السجن بتهمة التصميم لسم الملك، وتحدث كل
منهما عن رؤيا رآها الليلة الفائتة وكانت بالنسبة له أمرا عجيبا.
قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق
رأسي خبزا تأكل الطير منه ثم أضافا نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين.
وحول معرفة الفتيين واطلاعهما على أن يوسف له خبرة بتأويل الأحلام
هناك أقوال بين المفسرين:
قال بعضهم: إن يوسف نفسه أخبر السجناء بأن له إطلاعا واسعا في تفسير
الأحلام، وقال بعضهم: إن سيماء يوسف الملكوتية كانت تدل على أنه ليس فردا
عاديا.. بل هو فرد عارف مطلع وصاحب فكر ونظر، ولابد أن يكون مثل هذا
الشخص قادرا على حل مشاكلهم في تعبير الرؤيا.
وقال البعض الآخر: إن يوسف من بداية دخول السجن برهن - بأخلاقه
الحسنة والمعاشرة الطيبة للسجناء وخدمتهم وعيادة مرضاهم - أنه رجل صالح
وحلال المشاكل، لذلك كانوا يلتجئون إليه في حل مشاكلهم ويستعينون به.
وهناك ملاحظة جدير ذكرها، وهي أن القرآن عبر ب‍ " الفتى " مكان " العبد "
وهو نوع من الاحترام، وعندنا في الحديث " لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن
207

فتاي وفتاتي " (1) ليكون العبيد في مراحل الانعتاق والحرية التي نظمها الإسلام
في مأمن من كل أنواع التحقير.
التعبير ب‍ إني أراني أعصر خمرا إما لأنه رأى في النوم أنه يعصر العنب
للشراب أو العنب المخمر الذي في الدن، وهو يعصره ليصفيه مستخرجا منه
الشراب، أو أنه يعصر العنب ليقدم عصيره للملك!.. دون أن يكون خمرا، وحيث
أن العنب يمكن أن يتبدل خمرا أطلق عليه لفظ الخمر.
والتعبير ب‍ إني أراني بدلا من " إني رأيت " هو بعنوان حكاية الحال، أي
إنه يفرض نفسه في اللحظة التي يرى فيها الرؤيا " النوم " وهذا الكلام لتصوير تلك
الحالة.
وعلى كل حال فقد إغتنم يوسف مراجعة السجينين له لتعبير الرؤيا - وكان لا
يدع فرصة لإرشاد السجناء ونصحهم - وبحجة التعبير كان يبين حقائق مهمة
تفتح لهم السبل ولجميع الناس أيضا.
في البداية، ومن أجل أن يستلفت اهتمامهما واعتمادهما على معرفته
بتأويل الأحلام الذي كان مثار اهتمامهما وتوجههما قال لا يأتيكما طعام
ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما.
وبهذا فقد طمأنهما أنهما سيجدان ضالتهما قبل وصول الطعام إليهما.
وهناك إحتمالات كثيرة في هذه الجملة بين المفسرين، من جملتها: إن
يوسف قال: أنا بأمر الله مطلع على بعض الأسرار، لا اني أستطيع تعبير الأحلام
فحسب، بل أنا أستطيع حتى إخباركم بما سيأتيكم من الطعام وما نوعه وبأي
صورة وأي خصوصية!.
فعلى هذا يكون التأويل بمعنى ذكر خصوصيات ذلك الطعام، وإن كان
التأويل قليل الاستعمال في مثل هذا المعنى طبعا، ولا سيما أنه ورد في الجملة

1 - مجمع البيان، ج 5، ص 232.
208

السابقة بمعنى تعبير الرؤيا.
والاحتمال الآخر من مقصود يوسف هو: إن أي نوع من الطعام ترونه في
النوم فأنا أعرف ما تأويله (ولكن هذا الاحتمال لا ينسجم مع الجملة السابقة)
قبل أن يأتيكما.
فعلى هذا يكون أحسن التفاسير للجملة المتقدمة، هو التفسير الأول الذي
ذكرناه في بداية الحديث.
ثم إن يوسف أضاف إلى كلامه مقرونا بالإيمان بالله والتوحيد الجاري
بجميع أبعاده في أعماق وجوده، ليبين بوضوح أن لا شئ يتحقق إلا بإرادة الله
قائلا: ذلكما مما علمني ربي ولئلا يتصور أن الله يمنح مثل هذه الأمور دون
حساب، قال إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون.
والمقصود بهذه الملة أو الجماعة هم عبدة الأصنام بمصر أو عبدة الأصنام
من كنعان.
وينبغي لي أن أترك مثل هذه العقائد لأنها على خلاف الفطرة الإنسانية
النقية، ثم إني تربيت في أسرة الوحي والنبوة واتبعت ملة آبائي إبراهيم
وإسحاق ويعقوب.
ولعل هذه هي أول مرة يعرف يوسف نفسه للسجناء بهذا التعريف، ليعلموا
أنه سليل الوحي والنبوة وقد دخل السجن بريئا.. كبقية السجناء الأبرياء في
حكومة الطواغيت.
ثم يضيف على نحو التأكيد ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ لأن
أسرتنا أسرة التوحيد... أسرة إبراهيم محطم الأصنام ذلك من فضل الله علينا
وعلى الناس.
وعلى هذا فلا تتصوروا أن هذا الفضل والحب شملا أسرتنا أهل النبوة
فحسب - بل هي الموهبة العامة التي تشمل جميع عباد الله المودعة في أرواحهم
209

المسماة بالفطرة حيث يتكاملون بقيادة الأنبياء ولكن أكثر الناس لا
يشكرون.
جدير بالذكر والالتفات أن " إسحاق " عد في الآية المتقدمة في زمرة " آباء
يوسف " في حين أننا نعرف أن يوسف هو ابن يعقوب ويعقوب هو ابن إسحاق،
فتكون كلمة أب بهذا مستعملة في الجد أيضا.
* * *
210

2 الآيات
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الوحد
القهار (39) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم
وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطن إن الحكم إلا لله أمر ألا
تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا
يعلمون (40) يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقى ربه خمرا وأما
الأخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الامر الذي فيه
تستفتيان (41) وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند
ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع
سنين (42)
2 التفسير
3 السجن أو مركز التربية:
حين هيأ يوسف في البحث السابق قلوب السجينين لقبول حقيقة التوحيد،
211

توجه إليهما وقال: يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد
القهار.
فكأن يوسف يريد أن يفهم السجينين أنه لم تريان الحرية في النوم ولا
تريانها في اليقظة؟! أليس ذلك من تفرقتكم وشرككم ونفاقكم الذي مصدره
عبادة الأوثان والأرباب المتفرقين مما سبب أن يتغلب عليكم الطغاة والجبابرة؟!
فلم لا تجتمعون تحت راية التوحيد، وتعتصموا بحبل الواحد القهار، لتطردوا من
مجتمعكم هؤلاء الظالمين والجبابرة الذين يسوقونكم إلى السجن أبرياء دون
ذنب؟!
ثم يضيف قائلا: ما تعبدون إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله
بها من سلطان بل هي صنع عقولكم العاجزة وأفكاركم المنحرفة.. إن الحكم
إلا لله فلا ينبغي أن تطأطئوا رؤوسكم لسواه من الطغاة والفراعنة، ثم أضاف
زيادة في التأكيد قائلا: أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم.
أي إن التوحيد في جميع أبعاده - في العبادة، في الحكومة، في المجتمع، في
المسائل الثقافية، وفي كل شئ - هو الدين الإلهي المستقيم والثابت. ولكن
أكثر الناس لا يعلمون ولذلك خضعوا لحكومة غير (الله) فذاقوا الشقاء
والسجون في هذا السبيل.
وبعد أن أرشد يوسف صاحبي سجنه ودلهما ودعاهما إلى حقيقة التوحيد،
بدأ بتعبير الرؤيا لهما.. لأنهما من البداية جاءا لهذا الأمر وقد وعدهما بتعبير
الرؤيا، ولكنه إغتنم الفرصة وحدثهما عن التوحيد الحي والمواجهة مع الشرك،
ثم التفت إليهما وقال: يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما
الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه.
وبالرغم من تناسب كل رؤيا مع ما عبره يوسف، فكان معلوما إجمالا من
الذي يطلق من السجينين؟ ومن الذي يصلب منهما؟ إلا أن يوسف لم يرغب في
212

أن يبين التعبير بصراحة أكثر من هذه.. خاصة وأن فيه خبرا غير مريح، لذلك
جعل التعبير تحت عنوان " أحدكما ".
ثم أضاف مؤكدا قضي الأمر الذي فيه تستفتيان وهو إشارة إلى أن هذا
التعبير ليس تعبيرا ساذجا، بل هو من أنباء الغيب التي تعلمها من الله، فلا مجال
للترديد والكلام بعد هذا.
في كثير من التفاسير ورد في ذيل الجملة المتقدمة أن السجين الثاني الذي
سمع بالخبر المزعج أخذ يكذب رؤياه ويقول: كنت أمزح معك، ظانا أن مصيره
سيتبدل بهذا التكذيب، فعقب عليه يوسف بالجملة المتقدمة!
ويحتمل أيضا أن يوسف كان قاطعا في تعبير الرؤيا إلى درجة بحيث ذكر
الجملة المتقدمة تأكيدا لما سبق بيانه.
وحين أحس يوسف أن السجينين سينفصلان عنه عاجلا، ومن أجل أن
يجد يوما يطلق فيه ويبرأ من هذه التهمة، أوصى أحد السجينين الذي كان يعلم
أنه سيطلق أن يذكره عند الملك وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند
ربك لكن هذا الغلام " الناسي " مثله مثل الأفراد قليلي الاستيعاب، ما إن يبلغوا
نعمة ما حتى ينسوا صاحبها، وهكذا نسي يوسف تماما، ولكن القرآن عبر عن
ذلك بقوله: فأنساه الشيطان ذكر ربه وهكذا أصبح يوسف منسيا فلبث في
السجن بضع سنين.
هناك أقوال بين المفسرين في أن الضمير من أنساه الشيطان هل يعود
على ساقي الملك، أم على يوسف؟ كثير من المفسرين يعيدون الضمير على
يوسف فيكون المعنى: إن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله فتوسل بسواه.
ولكن مع ملاحظة الجملة السابقة التي تذكر أن يوسف كان يوصي صاحبه
أن يذكره عند ربه، يظهر أن الضمير يعود على الساقي نفسه.
وكلمتا " الرب " في المكانين بمعنى واحد.
213

كما أن جملة وادكر بعد أمة التي ستأتي في الآيات التالية، تدل على أن
الذي نسي هو الساقي.
ولكن سواء عاد الضمير على يوسف أم على صاحبه، فما من شك من أن
يوسف توسل بالغير في سبيل نجاة نفسه!
وبديهي أن مثل هذا التوسل للنجاة من السجن ومن سائر المشاكل، ليس
أمرا غريبا بالنسبة للأفراد العاديين، وهو من قبيل التوسل بالأسباب الطبيعية،
ولكن بالنسبة للأفراد الذين هم قدوة وفي مكانة عالية من الإيمان والتوحيد، لا
يمكن أن يخلو من إيراد، ولعل هذا كان سببا في بقاء يوسف في السجن بضع
سنين، إذ لم يرض الله سبحانه ليوسف " ترك الأولى "!.
في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " عجيب من أخي يوسف كيف استغاث
بالمخلوق دون الخالق؟ " وروي أنه قال: " لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما
لبث " يعني قوله اذكرني عند ربك.
وروي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: " جاء جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا يوسف من
جعلك أحسن الناس؟ قال: ربي، قال: فمن حببك إلى أبيك دون إخوانك؟ قال: ربي،
قال: فمن ساق إليك السيارة؟ قال: ربي، قال: فمن صرف عنك الحجارة؟ قال:
ربي، قال: فمن أنقذك من الجب؟ قال: ربي، قال: فمن صرف عنك كيد النسوة؟
قال: ربي، قال: فإن ربك يقول: ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث
بالسجن بما قلت بضع سنين " (1).
* * *

1 - مجمع البيان في تفسير الآية، الجزء 3، ص 235.
214

2 ملاحظات
3 1 - السجن مركز للإرشاد أو بؤرة للفساد
للسجن تأريخ مؤلم ومثير للغم جدا في هذا العالم، فأسوأ المجرمين
وأحسن الناس كلاهما دخل السجن، ولهذا السبب كان مركزا دائما لأفضل
الدروس البناءة أو لأسوأ الاختبارات.
وفي الحقيقة إن السجون التي يجتمع فيها المفسدون تعد معهدا عاليا
للفساد! ففي هذه السجون تتم مبادلة الخطط التخريبية والتجارب.. وكل منحرف
يعلم درسه للآخرين، ولهذا السبب حين يطلقون من السجن يواصلون طريقهم
بأسلوب أكثر مهارة من السابق وبتشكيل جديد... إلا أن يلتفت مسؤولو السجن
لهذا الموضوع، ويعملوا على تغيير هؤلاء الأفراد الذين فيهم الاستعداد والقابلية
إلى عناصر صالحة ومفيدة وبناءة.
وأما السجون التي تتشكل من الصالحين والأبرياء والنزيهين والمجاهدين
في طريق الحق والحرية، فهي معاهد ومراكز لتعليم الدروس العقائدية والطرق
العملية للجهاد والمبارزة والبناء.
وهذه السجون تعطي فرصة طيبة للمنافحين في طريق الحق ليؤدوا دورهم،
وينسقوا جهودهم بعد التحرر من هذه السجون.
وحين انتصر يوسف على امرأة محتالة ماكرة متبعة لهواها - كامرأة عزيز
مصر - ودخل السجن، سعى أن يبدل محيط السجن إلى محيط بناء ومركز للتعليم
والتربية، حتى أنه وضع أساس حريته وحرية الآخرين ضمن تخطيطه هناك.
وهذا الماضي يعطينا درسا مهما، وهو أن الإرشاد والتربية ليسا محدودين
في مركز معين كالمسجد والمدرسة - مثلا - بل ينبغي أن يستفاد من كل فرصة
سانحة للوصول إلى هذا الهدف، حتى ولو كانت في السجن وتحت أثقال القيود.
أما عدد السنوات التي قضاها يوسف في السجن، فهناك أقوال بين
215

المفسرين، والمشهور أنها سبع سنوات، إلا أن بعضهم قال: إن يوسف بقي في
السجن اثنتي عشرة سنة، خمس قبل رؤيا صاحبي سجنه، وسبع بعدها، وكانت
سنوات ملأى بالتعب والنصب إلا أنها من جهة الإرشاد كانت سنوات مفعمة
بالبركة والخير (1).
3 2 - حين يصلب المصلحون!
من الطريف أننا نقرأ في هذه القصة أن الذي رأى في منامه أنه يعصر خمرا
ويقدمه للملك قد تحرر وأطلق من السجن، وأن الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه
خبزا تأكل الطير منه قد صعد عود المشنقة.
أليس مفهوم هذا أن الذين هم على خطى الشهوات وفي محيط المفسدين
وأنظمة الطغاة ينالون الحرية، وأما الذين يقدمون خدمة للمجتمع ويعطون الخبز
للناس فليس من حقهم الحياة! وينبغي أن يموتوا؟ فهذا نسيج المجتمع الذي
يحكمه النظام الفاسد.. وهذه نهاية الصالحين في أمثال هذا المجتمع!.
صحيح أن يوسف - اعتمادا على الوحي الإلهي وعلم التعبير - توقع ما كان،
ولكن أي معبر لا يمكن له أن يبعد عن نظره هذه المناسبات!
ففي الحقيقة إن الخدمة في مثل هذه المجتمعات ذنب عظيم، والخيانة
والإساءة هي الثواب بعينه!.
3 3 - أكبر دروس الحرية
رأينا أن أكبر درس علمه يوسف للسجناء هو درس التوحيد وعبادة الله
الواحد الأحد، ذلك الدرس الذي حصيلته الحرية والتحرر.
لقد كان يعرف أن الأرباب " المتفرقين " والمعبودين المختلفين والأهداف

1 - لزيادة الإيضاح في سنوات سجن يوسف يراجع تفسير المنار، والقرطبي، والميزان، والفخر الرازي.
216

المتفرقة، كلها أساس التفرقة في المجتمعات، وطالما هناك تفرقة فالجبابرة
مسلطون على رقاب الناس، لذلك أعطى يوسف " دستورا " وأمرا بقطع
جذورهم بسيف التوحيد الباتر، لئلا يضطروا إلى رؤية الحرية في الأحلام
والمنام، بل ينبغي أن يشاهدوا الحرية في اليقظة.
ترى، أليس الجبابرة المسلطون على رقاب الناس هم ثلة من الأفراد
يستطيع الناس مكافحتهم، إلا أنهم بإيجاد التفرقة والنفاق، وعن طريق " الأرباب
المتفرقين " استطاعوا أن يتحكموا على رقاب الناس ويهدوا قوى المجتمع!.
ومن الطبيعي أن يكون اليوم الذي تجتمع فيه الأمم على كلمة التوحيد
وتوحيد الكلمة تحت راية " الله الواحد القهار " ويجمعوا قواهم، هو يوم زوال
أولئك الجبابرة الظالمين، وهذا درس مهم جدا ليومنا وغدنا ولجميع الناس في
كل المجتمعات البشرية وعلى امتداد التاريخ.
ومن الضروري أن نلتفت إلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أن يوسف يقول:
إن الحكم إلا لله ثم يؤكد أن العبادة والخضوع لا تكونان إلا له أمر ألا
تعبدوا إلا إياه ويؤكد بعد ذلك بالقول: ذلك الدين القيم ويعقب أخيرا
ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فعلى هذا لو تعلم الناس المعارف الصحيحة وعرفوا الحقيقة، ونهضت فيهم
حقيقة التوحيد، فإن المشاكل ستنحل لا محالة.
3 4 - استغلال شعار بناء بشكل سيئ
شعار إن الحكم إلا لله الذي هو شعار قرآني إيجابي مثبت، ينفي أية
حكومة كانت سوى حكومة الله أو ما تنتهي إليه حكومة الله، إلا أنه - وللأسف -
استغل على امتداد التاريخ بشكل عجيب، ومن ذلك استغلال الخوارج لهذا
الشعار في واقعة " النهروان " حيث كانوا أناسا جامدين حمقى قشريين منحرفين
217

جدا.. فتمسكوا بهذا الشعار لنفي التحكيم في حرب صفين وقالوا: لا يصح
الحكم لنهاية الحرب أو الخليفة لأن الله يقول: إن الحكم إلا لله.
لقد كانوا غافلين أو متغافلين عن هذه المسألة البديهية، وهي أن التحكيم إذا
كان قد تعين من أئمة أمر الله باتباعهم فحكمهم أيضا حكم الله لأنه ينتهي إليه.
صحيح أن الحكمين في حرب صفين لم يتم تعيينهما من قبل الإمام علي
(عليه السلام)، ولو كان الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عينهما فإن حكمهما حكمه، وحكم
علي حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكم النبي حكم الله.
وهل يا ترى يحكم الله أو يقضي مباشرة بين المجتمعات! أو يتولى أمور
الناس أشخاص من جنسهم، غاية ما في الأمر ينتهي أمرهم إلى الله؟! ولكن
الخوارج ودون أن يتوجهوا إلى هذه الحقيقة الواضحة أشكلوا على أصل قصة
التحكيم على الإمام علي (عليه السلام) وحتى عدوه - والعياذ بالله - زيغا منه، يا لهذا الجهل
والجمود والبلادة.
وهكذا فإن مثل هذه الأمور البناءة حين تقع بأيدي أفراد جهال تتحول إلى
أسوأ الوسائل التخريبية.
وفي هذا اليوم نرى مجموعة من الناس من ضعاف النفوس الذين لا يقلون
عن أولئك جهلا ولجاجة، تمسكوا بالآية المتقدمة لنفي التقليد عن المجتهدين،
أو نفي صلاحية حكومتهم، لكن جوابهم جميعا هو ما ذكرناه آنفا.
3 5 - التوجه لغير الله
التوحيد لا يتلخص في أن الله تعالى أحد فرد، بل ينبغي أن يتجسد في جميع
شؤون الحياة، وأحد أبرز علائمه أن الإنسان الموحد لا يعتمد على غير الله ولا
يلتجئ إلا إليه.
نحن لا نقول يجب على الإنسان أن لا يلحظ عالم الأسباب وقانون العلية لا
218

يرى الأسباب شيئا، ولا يعتمد على الوسائل والأسباب، بل نقول: أن لا يرى
تأثيرا واقعيا في السبب، بل يرى رأس الخيط في جميع الأمور بيد مسبب
الأسباب. وبتعبير آخر: لا يرى للأسباب استقلالا، بل يراها تحت هيمنة الذات
المقدسة لله سبحانه.
ويمكن أن يكون عدم توجه الأفراد العاديين لهذه الحقيقة الكبرى مدعاة
للعفو، ولكن عدم الالتفات ولو بمقدار رأس الإبرة بالنسبة لأولياء الله يكون سببا
لمجازاتهم، وإن لم يكن أكثر من " ترك الأولى " ورأينا كيف أن يوسف بسبب عدم
توجهه لهذه المسألة المهمة امتد حبسه سنوات لينضج آخرا في " موقد "
الحوادث، وليحصل على استعداد أكبر لمواجهة الطغاة، وليعلم أنه لا ينبغي
الاعتماد إلا على الله. وعلى المظلومين الذين يسيرون في طريق (الله).
وهذا درس كبير لمن يطوي هذه الطريق وللمجاهدين الصادقين بأن لا
يخطر ببالهم الاتفاق مع الشيطان لضرب شيطان آخر!.. ولئلا يميلوا إلى الشرق أو
الغرب، ولا يغذون الخطى إلا على الجادة الوسطى وهي " الصراط المستقيم ".
* * *
219

2 الآيات
وقال الملك إني أرى سبع بقرت سمان يأكلهن سبع عجاف
وسبع سنبلت خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي
إن كنتم للرؤيا تعبرون (43) قالوا أضغث أحلم وما نحن
بتأويل الأحلام بعلمين (44) وقال الذي نجا منهما وادكر بعد
أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون (45) يوسف أيها الصديق
أفتنا في سبع بقرت سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلت
خضر وأخر يابسات لعلى أرجع إلى الناس لعلهم
يعلمون (46) قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه
في سنبله إلا قليلا مما تأكلون (47) ثم يأتي من بعد ذلك سبع
شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون (48) ثم يأتي
من بعد ذلك عام فهي يغاث الناس وفيه يعصرون (49)
220

2 التفسير
3 رؤيا ملك مصر وما جرى له:
بقي يوسف سنين في السجن المظلم كأي إنسان منسي، ولم يكن لديه من
عمل إلا بناء شخصيته، وإرشاد السجناء وعيادة مرضاهم وتسلية الموجعين
منهم.
حتى غيرت (حظه وطالعه) حادثة صغيرة بحسب الظاهر.. ولم تغير هذه
" الظاهرة " حظه فحسب، بل حظ أمة مصر وما حولها.
لقد رأى ملك مصر الذي يقال أن اسمه هو " الوليد بن الريان " وكان " عزيز
مصر وزيره " رأى هذا الملك رؤيا مهولة، فأحضر عند الصباح المعبرين للرؤيا
ومن حوله فقص عليهم رؤياه وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن
سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات ثم التفت إليهم طالبا منهم
تعبير رؤياه فقال: يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.
ولكن حاشية السلطان وجموا إزاء هذه الرؤيا و قالوا أضغاث أحلام وما
نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
" الأضغاث " جمع " ضغث " على وزن (حرص) ومعناه المجموعة من
الحطب أو العشب اليابس أو الأخضر أو شئ آخر، و " الأحلام " جمع " حلم "
على وزن " رخم " معناه الطيف والرؤيا، فيكون معنى أضغاث أحلام هو
الأطياف المختلطة، فكأنها متشكلة من مجموعة مختلفة ومتفاوتة من الأشياء،
وجاءت كلمة الأحلام في جملة وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين مسبوقة
بالألف واللام العهدية وهي إشارة إلى أن المعبرين غير قادرين على تأويل مثل
هذه الأحلام.
ومن اللازم ذكر هذه المسألة الدقيقة وهي: إن إظهار عجز أولئك في الحقيقة
كان من أجل أن المفهوم الواقعي لهذه الرؤيا عندهم غير واضح، ولذلك عدوها
221

ضمن الأحلام المختلطة و " الأضغاث " حيث قسموا الأحلام إلى قسمين:
أحلام ذات معنى وهي قابلة للتعبير.
وأحلام مختلطة لا معنى لها حيث لم يجدوا لها تعبيرا وتأويلا.. وكانوا
يعدون هذا النوع نتيجة قوة الخيال، على العكس من النوع الأول الذي يعدونه
نتيجة اتصال الروح بعالم الغيب.
كما أن هناك احتمال آخر، وهو أنهم توقعوا أن تقع حوادث مزعجة في
المستقبل، وما اعتاد عليه حاشية الملوك والطغاة هو ذكر المسائل المريحة لهم
فحسب، وكما يصطلح عليه ما فيه طيب الخاطر، ويمتنعون عن ذكر ما يزعجهم،
وهذا أحد أسباب سقوط مثل هذه الحكومات المتجبرة!
هنا يرد سؤال، وهو: كيف تجرأ هؤلاء أمام السلطان، بقولهم جوابا لسؤاله
عن رؤياه إنها أضغاث أحلام في حين أن المعروف عند حاشية السلطان أن
تفلسف كل حركة منه ولو كانت بغير معنى ويفسرونها تفسيرا مقبولا.
من الممكن أنهم رأوا الملك مهموما من هذه الرؤيا، وكان من حقه ذلك لأنه
رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر
يابسات.
ألا يدل ذلك على أن من الممكن أن أفرادا ضعافا يتسلمون السلطة من يده
على حين غرة!؟!
لذلك قالوا له: أضغاث أحلام ليرفعوا الكدورة عن خاطره، أي: لا تتأثر
فما هنالك أمر مهم، وهذه الأحلام لا يمكن أن تكون دليلا على أي شئ.
وهناك احتمال آخر ذكره المفسرون وهو أن مرادهم من أضغاث أحلام
لم يكن أن هذه الأحلام لا تأويل لها، بل المراد أن مثل هذه الأحلام ملتوية
ومجموعة من أمور مختلفة، وهم غير قادرين على تأويل مثل هذه الأحلام، فهم
لم ينكروا إمكان وجود أستاذ ماهر وقادر على تأويل هذه الرؤيا، وإنما أظهروا
222

عجزهم عن التعبير والتأويل فحسب.
وهنا تذكر ساقي الملك ما حدث له ولصاحبه في السجن مع يوسف، ونجا
من السجن كما بشره يوسف وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم
بتأويله فارسلون.
أجل في زاوية السجن يعيش رجل حي الضمير طاهر القلب مؤمن وقلبه
مرآة للحوادث المستقبلية، إنه الذي يستطيع أن يكشف الحجاب عن هذه الرؤيا
المغلقة ويعبرها.
جملة فارسلون تشير إلى أن من الممكن أن يكون يوسف ممنوع
المواجهة، وكان الساقي يريد أن يأذن الملك ومن حوله بمواجهته لهذا الشأن.
وهكذا حرك كلام الساقي المجلس وشخصت الأبصار نحوه، وطلبوا منه
الإسراع بالذهاب إليه والإتيان بالخبر.
مضى الساقي إلى السجن ليرى صديقه القديم.. ذلك الصديق الذي لم يف
بوعده له، لكنه ربما كان يعرف أن شخصية يوسف الكريمة تمنعه من فتح " باب
العتاب " فالتفت إليه وقال: يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان
يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس
لعلهم يعلمون.
كلمة " الناس " تشير إلى احتمال أن رؤيا الملك صيرها أطرافه المتملقون
وحاشيته حادثة مهمة لذلك اليوم، فنشروها بين الناس وعمموا حالة " القلق " من
القصر إلى الوسط الاجتماعي العام.
وعلى كل حال فإن يوسف دون أن يطلب شرطا أو قيدا أو أجرا لتعبيره،
عبر الرؤيا فورا تعبيرا دقيقا لا غموض فيه ولا حجاب مقرونا بما ينبغي عمله
في المستقبل و قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا
223

قليلا مما تأكلون (1).
ثم أنه يحل بكم القحط لسبع سنين متوالية فلا أمطار ولا زراعة كافية،
فعليكم بالاستفادة مما جمعتم في سني الرخاء ثم يأتي بعد ذلك سبع شداد
يأكلن ما قدمتم لهن.
ولكن عليكم أن تحذروا من استهلاك الطعام إلا قليلا مما تحصنون وإذا
واظبتم على هذه الخطة فحينئذ لا خطر يهددكم لأنه ثم يأتي من بعد ذلك عام
فيه يغاث الناس..
و يغاث الناس أي يدركهم الغيث فتكثر خيراتهم، وليس هذا فحسب،
بل فيه يعصرون المحاصيل لاستخراج الدهن والفاكهة لشراب عصيرها..
الخ.
* * *
3 ملاحظات
1 - كم كان تعبير يوسف لهذه الرؤيا دقيقا ومحسوبا، حيث كانت البقرة في
الأساطير القديمة مظهر " السنة ".. وكون البقرات سمانا دليل على كثرة النعمة،
وكونها عجافا دليل على الجفاف والقحط، وهجوم السبع العجاف على السبع
السمان كان دليلا على أن يستفاد من ذخائر السنوات السابقة.
وسبع سنبلات خضر وقد أحاطت بها سبع سنبلات يابسات تأكيد آخر
على هاتين الفترتين فترة النعمة وفترة الشدة.

1 - كلمة " دأب " على وزن " أدب " تعني في الأصل إدامة الحركة، كما أنها بمعنى العادة المستمرة، فيكون معنى الكلام:
عليكم أن تزرعوا تبعا لعادتكم المستمرة في مصر ولكن ينبغي أن تقتصدوا في مصرفه.. ويحتمل أن يكون المراد منه
أن تزرعوا بجد وجهد أكثر فأكثر لأن دأبا ودؤوبا بمعنى الجد والتعب أيضا، أي اعملوا حتى تتعبوا.
224

إضافة إلى أنه أكد له على هذه المسألة الدقيقة، وهي خزن المحاصيل في
سنابلها لئلا تفسد بسرعة وليكون حفظها إلى سبع سنوات ممكنا.
وكون عدد البقرات العجاف والسنابل اليابسات لم يتجاوز السبع لكل منهما
دليل آخر على انتهاء الجفاف والشدة مع انتهاء تلك السنوات السبع.. وبالطبع
فإن سنة سيأتي بعد هذه السنوات سنة مليئة بالخيرات والأمطار، فلابد من
التفكير للبذر في تلك السنة وأن يحتفظوا بشئ مما يخزن لها.
في الحقيقة لم يكن يوسف مفسرا بسيطا للأحلام، بل كان قائدا يخطط من
زاوية السجن لمستقبل البلاد، وقد قدم مقترحا من عدة مواد لخمسة عشر عاما
على الأقل، وكما سنرى فإن هذا التعبير المقرون بالمقترح للمستقبل حرك الملك
وحاشيته وكان سببا لإنقاذ أهل مصر من القحط القاتل من جهة، وأن ينجو
يوسف من سجنه وتخرج الحكومة من أيدي الطغاة من جهة أخرى.
2 - مرة أخرى تعلمنا هذه القصة هذا الدرس الكبير وهو أن قدرة الله أكبر
مما نتصور، فهو القادر بسبب رؤيا بسيطة يراها جبابرة الزمان أنفسهم أن ينقذ أمة
كبيرة من فاجعة عظيمة، ويخلص عبده الخالص بعد سنين من الشدائد
والمصائب أيضا.
فلابد أن يرى الملك هذه الرؤيا، ولابد أن يحضر الساقي عنده يتذكر رؤياه
في السجن، وترتبط أخيرا حوادث مهمة بعضها ببعض، فالله تعالى هو الذي
يخلق الحوادث العظيمة من توافه الأمور.
أجل، ينبغي لنا توكيد ارتباطنا القلبي مع هذا الرب القادر..
3 - الأحلام المتعددة في هذه السورة، من رؤيا يوسف نفسه إلى رؤيا
السجينين إلى رؤيا فرعون مصر، والإهتمام الكبير الذي كان يوليه أهل ذلك
العصر بالنسبة لتعبير الرؤيا أساسا، يدل على أن تعبير الرؤيا في ذلك العصر كان
225

من العلوم المتقدمة، وربما وجب - لهذا السبب - أن يكون نبي ذلك العصر - أي
(يوسف) - مطلعا على مثل هذا العلم إلى درجة عالية بحيث يعد إعجازا منه.
أليست معاجز الأنبياء يجب أن تكون من أبرز العلوم في زمانهم، ليحصل
اليقين - عند العجز من قبل علماء العصر - بأن مصدر العلم الذي يحمله نبيهم هو
الله!.
* * *
226

2 الآيات
وقال الملك إئتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى
ربك فسئله ما بال النسوة التي قطعن أيديهن إن ربى
بكيدهن عليم (50) قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن
نفسه قلن حش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت
العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن
الصدقين (51) ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى
كيد الخائنين (52) وما أبرئ نفسي إن النفس لامارة بالسوء
إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم (53)
2 التفسير
3 تبرئة يوسف من كل اتهام!
لقد كان تعبير يوسف لرؤيا الملك - كما قلنا - دقيقا ومدروسا ومنطقيا إلى
درجة أنه جذب الملك وحاشيته إليه، إذ كان يرى أن سجينا مجهولا عبر رؤياه
بأحسن تعبير وتحليل، دون أن ينتظر أي أجر أو يتوقع أمرا ما.. كما أنه أعطى
227

للمستقبل خطة مدروسة أيضا.
لقد فهم الملك إجمالا أن يوسف لم يكن رجلا يستحق السجن، بل هو
شخص أسمى مقاما من الإنسان العادي، دخل السجن نتيجة حادث خفي، لذلك
تشوق لرؤيته، ولكن لا ينبغي للملك أن ينسى غروره ويسرع إلى زيارته، بل أمر
أن يؤتى به إليه كما يقول القرآن: وقال الملك إئتوني به فلما جاءه الرسول لم
يوافق يوسف على الخروج من السجن دون أن يثبت براءته، فالتفت إلى رسول
الملك و قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إذن
.. فيوسف لم يرغب أن يكون كأي مجرم، أو على الأقل كأي متهم يعيش مشمولا
ب‍ " عفو الملك ".. لقد كان يرغب أولا أن يحقق في سبب حبسه، وأن تثبت براءته
وطهارة ذيله، ويخرج من السجن مرفوع الرأس، كما يثبت ضمنا تلوث النظام
الحكومي وما يجري في قصر وزيره!.
أجل لقد اهتم بكرامة شخصيته وشرفه قبل خروجه من السجن، وهذا هو
نهج الأحرار.
الطريف هنا أن يوسف في عبارته هذه أبدى سموا في شخصيته إلى درجة
أنه لم يكن مستعدا لأن يصرح باسم امرأة العزيز التي كانت السبب المباشر في
اتهامه وحبسه، بل اكتفى بالإشارة إلى جماعة النسوة اللاتي لهن علاقة بهذا
الموضوع فحسب.
ثم يضيف يوسف: إذا لم يعلم سبب سجني شعب مصر ولا جهازه الحكومي
وبأي سبب وصلت السجن، فالله مطلع على ذلك إن ربي بكيدهن عليم.
عاد المبعوث من قبل الملك إلى يوسف مرة ثانية إلى الملك، وأخبره بما
طلبه يوسف مع ما كان من إبائه وعلو همته، لذا عظم يوسف في نفس الملك
وبادر مسرعا إلى إحضار النسوة اللائي شاركن في الحادثة، والتفت إليهن
وقال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه يجب أن تقلن الحق.. هل
228

ارتكب يوسف خطيئة أو ذنبا؟
فتيقظ فجأة الوجدان النائم في نفوسهن، وأجبنه جميعا بكلام واحد - متفق
على طهارته و قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء.
أما امرأة العزيز التي كانت حاضرة أيضا، وكانت تصغي بدقة إلى حديث
الملك ونسوة مصر، فلم تجد في نفسها القدرة على السكوت، ودون أن تسأل
أحست بأن الوقت قد حان لأن تنزه يوسف وأن تعوض عن تبكيت وجدانها
وحيائها وذنبها بشهادتها القاطعة في حقه، وخاصة أنها رأت كرم يوسف المنقطع
النظير من خلال رسالته إلى الملك، إذ لم يعرض فيها بالطعن في شخصيتها وكان
كلامه عاما ومغلقا تحت عنوان " نسوة مصر ".
فكأنما حدث انفجار في داخلها فجأة وصرخت و قالت امرأة العزيز
الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين.
ثم واصلت امرأة العزيز كلامها ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب لأني
عرفت بعد هذه المدة الطويلة وما عندي من التجارب أن الله لا يهدي كيد
الخائنين.
في الحقيقة (بناء على أن الجملة المتقدمة لإمرأة العزيز كما يقتضيه ظاهر
العبارة) فإنها ومن أجل اعترافها الصريح بنزاهة يوسف وما أخطأته في حقه،
تقيم دليلين:
الأول: إن وجدانها، ويحتمل بقايا علاقتها بيوسف، لا تسمح لها أن تستر
الحق أكثر من هذا، وأن تخون هذا الشاب الطاهر في غيابه.
الثاني: إن من مشاهدة الدروس المليئة بالعبر على مرور الزمن تجلت لها هذه
الحقيقة، وهي أن الله يرعى الصالحين ولا يوفق الخائنين في مرادهم أبدا.
وبهذا بدأت الحجب تنقشع عن عينيها قليلا قليلا.. وتلمس حقيقة الحياة
ولا سيما في هزيمة عشقها الذي صنع غرورها وشخصيتها الخيالية، وانفتحت
229

عيناها على الواقع أكثر، فلا عجب أن تعترف هذا الاعتراف الصريح.
وتواصل امرأة العزيز القول: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء
إلا ما رحم ربي وبحفظه وإعانته نبقى مصونين، وأنا أرجو أن يغفر لي ربي هذا
الذنب إن ربي غفور رحيم.
قال بعض المفسرين: إن الآيتين الأخيرتين من كلام يوسف، وقالوا: إنهما في
الحقيقة تعقيب لما قاله يوسف لرسول الملك ومعنى الكلام يكون هكذا.
" إذا قلت حققوا عن شأن النسوة اللائي قطعن أيديهن، فمن أجل أن يعلم
الملك أو عزيز مصر الذي هو وزيره، أني لم أخنه في غيابه والله لا يهدي كيد
الخائنين كما لا أبرئ نفسي لأن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي
غفور رحيم ".
الظاهر أن الهدف من هذا التفسير المخالف لظاهر الآية أنهم صعب عليهم
قبول هذا المقدار من العلم والمعرفة لإمرأة العزيز التي تقول بلحن مخلص وحاك
عن التنبه والتيقظ.
والحال أنه لا يبعد أن الإنسان حين يرتطم في حياته بصخرة صماء، تظهر
في نفسه حالة من التيقظ المقرون بالإحساس بالذنب والخجل، خاصة أنه
لوحظ أن الهزيمة في العشق المجازي يجر الإنسان إلى طريق العشق الحقيقي
" عشق الله ".
وبالتعبير علم النفس المعاصر: إن تلك الميول النفسية المكبوتة يحصل فيها
حالة ال‍ " تصعيد " وبدلا من تلاشيها وزوالها فإنها تتجلى بشكل عال.
ثم إن قسما من الروايات التي تشرح حال امرأة العزيز - في السنين الأخيرة
من حياتها - دليل على هذا التيقظ والإنتباه أيضا.
وبعد هذا كله فربط هاتين الآيتين بيوسف - إلى درجة ما - بعيد، وهو خلاف
الظاهر بحيث لا ينسجم مع أي من المعايير الأدبية للأسباب الآتية:
230

أولا: كلمة " ذلك " التي ذكرت في بداية الآية هي بعنوان ذكر العلة، أي علة
الكلام المتقدم الذي لم يكن سوى كلام امرأة العزيز فحسب، وربط هذا التذييل
بكلام يوسف الوارد في الآيات السابقة أمر عجيب.
ثانيا: إذا كانت هاتان الآيتان بيانا لكلام يوسف فسيبدو بينهما نوع من
التناقض والتضاد، فمن جهة يقول: إني لم أخنه بالغيب، ومرة يقول: وما أبرئ
نفسي إن النفس لأمارة بالسوء. وهذا الكلام لا يقوله إلا من يعثر أو يزل ولو
يسيرا، في حين أن يوسف لم يصدر منه أي زلل.
وثالثا: إذا كان مقصوده أن يعرف عزيز مصر أنه برئ فهو من البداية " بعد
شهادة الشاهد " عرف الواقع، ولذلك قال لامرأته: استغفري لذنبك وإذا كان
مقصوده أنه لم يخن الملك، فلا علاقة للملك بهذا الأمر، والتوسل إلى تفسيرهم
هذا بحجة أن الخيانة لامرأة العزيز خيانة للملك الجبار، فهو حجة واهية - كما
يبدو - خاصة أن حاشية القصر لا يكترثون بمثل هذه المسائل.
وخلاصة القول: إن هذا الارتباط في الآيات يدل على أن جميع ما ورد في
السياق من كلام امرأة العزيز التي انتبهت وتيقظت واعترفت بهذه الحقائق.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - هذه عاقبة التقوى
رأينا في هذا القسم من قصة يوسف أن عدوته المعاندة " زليخا " اعترفت
أخيرا بطهارته، كما اعترفت بذنبها وخطأها.. وببراءته.. وهذه عاقبة التقوى
وطهارة الثوب، وهذا معنى قوله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه
من حيث لا يحتسب.
فكن طاهرا واستقم في طريق " الطهارة " فالله حاميك ولا يسمح للملوثين
231

أن يسيئوا إليك.
3 2 - الهزائم التي تكون سببا للتيقظ
لا تكون الهزائم هزائم دائما، بل - في كثير من الأحيان - تعد الهزيمة هزيمة
في الظاهر إلا أنها في الباطن نوع من الانتصار المعنوي، وهذه هي الهزائم التي
تكون سببا لتيقظ الإنسان، وتشق حجب الغفلة والغرور عنه، وتعد نقطة انعطاف
جديدة في حياته.
فامرأة العزيز التي تدعى " زليخا " أو " راعيل " وإن ابتليت في عملها بأشد
الهزائم، لكن هذه الهزيمة في مسير الذنب كانت سببا لأن تنتبه ويتيقظ وجدانها
النائم، وأن تندم على ما فات من عملها.. والتفتت إلى ساحة الله. وما ينقل من
قصتها بعد لقائها ليوسف وهو عزيز مصر - آنئذ - شاهد على هذا المدعى، إذ
قالت: " الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته وجعل الملوك عبيدا بمعصيته ".
ونقرأ في نهاية الحديث أن يوسف تزوج منها أخيرا (1).
السعداء هم أولئك الذين يصنعون من الهزائم إنتصارا، ومن سوء الحظ حظا
حسنا، ومن أخطائهم طريقا صحيحا للحياة.
وبالطبع فليس رد الفعل من قبل جميع الأفراد إزاء الهزائم هكذا...
فالأشخاص الضعاف حين تصيبهم الهزيمة ييأسون ويكتنف القنوط جميع
وجودهم، وقد يؤدي بهم إلى الانتحار وهذه هي الهزيمة الحقيقية.
لكن الذين يشعرون بكرامتهم وشخصيتهم، يسعون لأن يجعلوا الهزائم سلما
لصعودهم وترقيهم وجسرا لانتصارهم.

1 - سفينة البحار ج 1 ص 554.
232

3 3 - الحفاظ على الشرف خير من الحرية الظاهرية
رأينا أن يوسف لم يدخل السجن لطهارة ثوبه فحسب، بل لم يكن مستعدا
للخروج من السجن حتى يعود مبعوث الملك ويجري التحقيقات حول النسوة
اللائي قطعن أيديهن لتثبت براءته ويخرج من السجن مرفوع الرأس... لا أن
يخرج كأي مجرم ملوث يشمله عفو الملك!! وذلك ذل وأي ذل! وهذا درس لكل
الناس في الماضي والحاضر والمستقبل.
3 4 - النفس الأمارة " المتمردة "
يقسم علماء النفس والأخلاق النفس " وهي الإحساسات والغرائز
والعواطف الإنسانية " إلى ثلاثة مراحل، وقد أشار إليها القرآن المجيد:
المرحلة الأولى: " النفس الأمارة " وهي النفس التي تأمر الإنسان بالذنب
وتجره إلى كل جانب، ولذا سموها " أمارة " وفي هذه المرحلة لا يكون العقل
والإيمان قد بلغا مرحلة من القدرة ليكبحا جماحها، بل في كثير من المواقع
يستسلمان للنفس الأمارة، وإذا تصارعت النفس الأمارة مع العقل في هذه
المرحلة فإنها ستهزمه وتطرحه أرضا.
وهذه المرحلة هي التي أشير إليها في الآية المتقدمة، وجرت على لسان
امرأة العزيز بمصر، وجميع شقاء الإنسان أساسه النفس الأمارة بالسوء.
المرحلة الثانية: " النفس اللوامة " وهي التي ترتقي بالإنسان بعد التعلم والتربية
والمجاهدة، وفي هذه المرحلة ربما يخطئ الإنسان نتيجة طغيان الغرائز، لكن
سرعان ما يندم وتلومه هذه النفس، ويصمم على تجاوز هذا الخطأ والتعويض
عنه، ويغسل قلبه وروحه بماء التوبة.
وبعبارة أخرى: في المواجهة بين النفس والعقل، قد ينتصر العقل أحيانا وقد
233

تنتصر النفس، إلا أن النتيجة والكفة الراجحة هي للعقل والإيمان.
ومن أجل الوصول إلى هذه المرحلة لابد من الجهاد الأكبر، والتمرين
الكافي، والتربية في مدرسة الأستاذ، والاستلهام من كلام الله وسنن الأنبياء
والأئمة (عليهم السلام).
وهذه المرحلة هي التي أقسم الله بها في سورة القيامة قسما يدل على
عظمتها لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة.
المرحلة الثالثة: " النفس المطمئنة " وهي المرحلة التي توصل الإنسان بعد
التصفية والتهذيب الكامل إلى أن يسيطر على غرائزه ويروضها فلا تجد القدرة
للمواجهة مع العقل والإيمان، لأن العقل والإيمان بلغا درجة من القوة بحيث لا
تقف أمامهما الغرائز الحيوانية.
وهذه هي مرحلة الاطمئنان والسكينة... الاطمئنان الذي يحكم المحيطات
والبحار حيث لا يظهر عليها الإنهزام أمام أشد الأعاصير.
وهذا هو مقام الأنبياء والأولياء وأتباعهم الصادقين، أولئك الذين تدارسوا
الإيمان والتقوى في مدرسة رجال الله، وهذبوا أنفسهم سنين طوالا، وواصلوا
الجهاد الأكبر إلى آخر مرحلة.
وإليهم وإلى أمثالهم يشير القرآن الكريم في سورة الفجر يا أيتها النفس
المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.
اللهم أعنا لنستضئ بنور آياتك، ونصعد أنفسنا الأمارة إلى اللوامة ومنها
إلى النفس المطمئنة.. ولنجد روحا مطمئنا لا يضطرب ولا يتزلزل أمام طوفان
الحوادث، وأن نكون أقوياء أمام الأعداء، ولا تبهرنا زخارف الدنيا وزبارجها،
وأن نصبر على البأساء والضراء.
اللهم ارزقنا العقل لننتصر على أهوائنا.. ونورنا إذا كنا على خطأ بالتوفيق
234

والهداية.
اللهم إننا لم نبلغ هذه المرحلة بخطانا، بل كنت أنت في كل مرحلة دليلنا
وقائدنا، فلا تحبس ألطافك عنا... وإذا كان عدم شكرنا على جميع هذه النعم
مستوجبا لعقابك، فأيقظنا من نومة الغافلين قبل أن نذوق العذاب آمين رب
العالمين.
* * *
235

2 الآيات
وقال الملك إئتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك
اليوم لدينا مكين أمين (54) قال اجعلني على خزائن الأرض
إني حفيظ عليم (55) وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ
منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر
المحسنين (56) ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا
يتقون (57)
2 التفسير
3 يوسف أمينا على خزائن مصر:
رأينا أن يوسف - هذا النبي العظيم - ثبتت براءته أخيرا للجميع، وحتى
الأعداء شهدوا بطهارته ونزاهته، وظهر لهم أن الذنب الوحيد الذي أودع من أجله
السجن لم يكن غير التقوى والأمانة التي كان يتحلى بهما.
إضافة إلى هذا فقد ثبت لهم أن هذا السجين منهل العلم والمعرفة والنباهة
وطاقة فذة وعالية في الإدارة، حيث أنه حينما فسر رؤيا الملك (وهو سلطان
236

مصر) بين له الطرق الكفيلة للخلاص من المشكلة الاقتصادية المتفاقمة القادمة.
ثم يستمر القرآن بذكر القصة فيقول: وقال الملك إئتوني به أستخلصه
لنفسي وهكذا أمر الملك بإحضاره لكي يجعله مستشاره الخاص ونائبه في
المهمات فيستفيد من علمه ومعرفته وخبرته لحل المشاكل المستعصية.
ثم أرسل الملك مندوبا لزيارته في السجن، فدخل عليه وأبلغه تحيات
الملك وعواطفه القلبية تجاهه ثم قال له: إنه قد لبى طلبك في البحث والتحقيق
عن نساء مصر واتهامهن إياك، حيث شهدن جميعهن صراحة ببراءتك ونزاهتك
فالآن لا مجال للتأخير، قم لنذهب إلى الملك.
فدخل يوسف على الملك وتكلم معه فعندما سمع من يوسف الأجوبة التي
تحكي عن علمه وفراسته وذكائه الحاد، إزداد حبا له وقال: إن لك اليوم عندنا
منزلة رفيعة وسلطات واسعة وإنك في موضع ثقتنا واعتمادنا فلما كلمه قال
إنك اليوم لدينا مكين أمين فلابد أن تتصدى للمناصب الهامة في هذا البلد،
وتهتم بإصلاح الأمور الفاسدة، وإنك تعلم (حينما فسرت الرؤيا) بأن أزمة
اقتصادية شديدة سوف تعصف بهذا البلد، وفي تصوري إنك الشخص الوحيد
القادر على أن يتغلب على هذه الأزمة.
فاختار يوسف منصب الأمانة على خزائن مصر، وقال إجعلني مشرفا على
خزائن هذا البلد فإني حفيظ عليم وعلى معرفة تامة بأسرار المهنة وخصائصها
قال إجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم.
كان يوسف يعلم أن جانبا كبيرا من الاضطراب الحاصل في ذلك المجتمع
الكبير الملئ بالظلم والجور يكمن في القضايا الاقتصادية، والآن وبعد أن
عجزت أجهزة الحكم من حل تلك المشاكل واضطروا لطلب المساعدة منه، فمن
الأفضل له أن يسيطر على اقتصاد مصر حتى يتمكن من مساعدة المستضعفين
وأن يخفف عنهم - قدر ما يستطيع - الآلام والمصاعب ويسترد حقوقهم من
237

الظالمين. ويقوم بترتيب الأوضاع المتردية في ذاك البلد الكبير، ويجعل الزراعة
وتنظيمها هدفه الأول وخاصة بعد وقوفه على أن السنين القادمة هي سنوات
الوفرة حيث تليها سنوات المجاعة والقحط، فيدعو الناس إلى الزراعة وزيادة
الإنتاج وعدم الإسراف في استعمال المنتوجات الزراعية وتقنين الحبوب
وخزنها والاستفادة منها في أيام القحط والشدة.
وهكذا لم ير يوسف بدا من تولية منصب الإشراف على خزائن مصر.
وقال البعض: إن الملك حينما رأى في تلك السنة أن الأمور قد ضاقت عليه
وعجز عن حلها، كان يبحث عمن يعتمد عليه وينجيه من المصاعب، فمن هنا
حينما قابل يوسف ورآه أهلا لذلك أعطاه مقاليد الحكم بأجمعها واستقال هو من
منصبه.
وقال آخرون: إن الملك جعله في منصب الوزير الأول بديلا عن (عزيز
مصر).
والاحتمال الآخر هو أنه بقي مشرفا على خزائن مصر - وهذا ما يستفاد من
ظاهر الآية الكريمة، إلا أن الآيتين (100) و (101) واللتين يأتي تفسيرهما بإذن
الله تدلان على أنه أخيرا استقل بأمور مصر - بدل الملك وصار هو ملكا على
مصر.
وبرغم أن الآية رقم (88) تقول: إن إخوة يوسف حينما دخلوا عليه نادوه
باسم يا أيها العزيز وهذا دليل على أنه استقل بمنصب عزيز مصر، لكن نقول:
إنه لا مانع من أن يكون يوسف قد ارتقى سلم المناصب تدريجا حيث كان في
أول الأمر مشرفا على الخزائن، ثم جعل الوزير الأول، وأخيرا صار ملكا على
مصر.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى منهيا بذلك قصة يوسف (عليه السلام): وكذلك مكنا
ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.
238

نعم إن الله سبحانه وتعالى ينزل رحمته وبركاته ونعمه المادية والمعنوية
على من يشاء من عباده الذين يراهم أهلا لذلك نصيب برحمتنا من نشاء.
وأنه سبحانه وتعالى لا ينسى أن يجازي المحسنين، وإنه مهما طالت المدة
فإنه يجازيهم بجزائه الأوفى ولا نضيع أجر المحسنين.
ولكن لا يقتصر سبحانه وتعالى على مجازاة المحسنين في الدنيا، بل
يجازي المتقين والمحسنين بأحسن من ذلك في الآخرة وهو الجزاء الأوفى
ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون.
* * *
2 بحوث
3 1 - كيف إستجاب يوسف لطلب طاغوت زمانه؟
بالنسبة للآيات المتقدمة فإن أول ما يجلب إليها النظر هو أنه كيف لبى
يوسف - هذا النبي العظيم - طلب طاغوت زمانه وتعاون معه وتحمل منصب
الوزارة أو الإشراف على خزينة الدولة؟
جواب هذا السؤال - في الحقيقة - يكمن في نفس الآيات السابقة، فإنه قد
تحمل هذه المسؤولية بعنوان أنه حفيظ عليم كي يحفظ بيت المال المتضمن
لأموال الشعب ويستثمره في سبيل منافعهم، وبخاصة حقوق الطبقة المحرومة
والتي غالبا ما يستولي عليها المستكبرون.
إضافة إلى هذا فإنه عن طريق معرفته بتعبير الرؤيا - كما ذكرنا - كان على
علم بالأزمة الاقتصادية الشديدة التي سوف تعصف بالشعب المصري، بحيث
لولا التخطيط الدقيق والإشراف المباشر عليها لماتت جماعات كثيرة من الشعب
.. فبناء على هذا فإن إنقاذ حياة الأمة والاحتفاظ بأرواح شعب برئ يقتضي أن
يستفيد يوسف من هذه الفرصة التي أتيحت له ويستغلها لأجل خدمة جميع أفراد
239

الشعب، وبخاصة المحرومين منهم حيث إنهم عادة ما يكونون أول ضحايا الأزمة
الاقتصادية وأكثر المتضررين من الغلاء.
وقد ورد كلام مفصل حول هذا الموضوع في بحث استجابة طلب الظالم
وقبول الولاية في علم الفقه، وإن استجابة طلب الظالم والتصدي لمناصب الحكم
لا يكون حراما دائما، بل تارة يكون مستحبا، وقد يكون في بعض الأحيان
واجبا شرعا، وذلك إذا كانت منفعة التصدي ومرجحاته الدينية أكثر من الأضرار
الناتجة عن التصدي من دعم حكم الظالم وغيره.
ونلاحظ في روايات عديدة أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يجوزون لبعض
خلص شيعتهم وأصحابهم أمثال علي بن يقطين - الذي كان من أصحاب
الكاظم (عليه السلام) - حيث تصدى لمنصب الوزارة لفرعون زمانه - هارون الرشيد - وذلك
بأمر من الإمام (عليه السلام)، غاية ما في الأمر أن الاستجابة والتصدي لمناصب الحكم أو
ردها تابعان لقانون " الأهم والمهم ".
فلابد من ملاحظة المنافع الدينية والاجتماعية ومقارنتها مع الأضرار
الناتجة، إذ لعل الذي يتصدى للمنصب قد يستطيع في نهاية المطاف أن يزيح
الظالم عن الحكم (كما حدث ليوسف بناء على مضمون بعض الروايات الواردة)
أو يكون المعين الذي تنبثق منه الحركات والثورات، لأنه يقوم بتهيئة مقدمات
الثورة من داخل أجهزة الحكم القائم (ويمكن أن يكون مؤمن آل فرعون من هذا
القبيل) أو يكون على الأقل ملجأ وملاذا للمظلومين والمحرومين ومخففا عن
آلامهم والضغوط الواردة عليهم من قبل أجهزة النظام.
وكل واحد من هذه الأمور يمكن أن يكون مبررا للتصدي للمناصب وقبولها
من الحاكم الظالم، وللإمام الصادق (عليه السلام) رواية معروفة في حق هؤلاء الأشخاص
يقول (عليه السلام) (كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان) (1).

1 - وسائل الشيعة، ج 12، 139.
240

لكن هذا الموضوع - التعاون مع الظالم - من الأمور التي يقترب فيها حدود
الحلال من الحرام، وكثيرا ما يؤدي تهاون صغير من الشخص المتصدي إلى
وقوعه في أشراك النظام وارتكاب جريمة تعد من أكبر الجرائم وأفظعها - وهي
التعاون مع الظالم - في حين يتصور أنه يقوم بعبادة وخدمة إنسانية مشكورة.
وقد يستفيد بعض الانتهازيين من حياة (يوسف) أو (علي بن يقطين)
ويتخذه ذريعة للتعاون مع الظالم وتغطية لأعمالهم الشريرة، في حين أنه يوجد
بون شاسع بين تصرفاتهم وتصرفات يوسف أو علي بن يقطين (1).
هنا سؤال آخر يطرح نفسه وهو أنه كيف رضخ سلطان مصر الظالم لهذا الأمر
- واستجاب لطلب يوسف - مع علمه بأن يوسف لا يسير بسيرة الظالمين
والمستثمرين والمستعمرين، بل يكون على العكس من ذلك معاديا لهم؟
الإجابة على هذا السؤال لا تكون صعبة مع ملاحظة أمر واحد وهو أنه تارة
تحيط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بالظالم بحيث تزلزل أركان حكومته
الظالمة، فيرى الخطر محدقا بحكومته وبكل شئ يتعلق بها... في هذه الحالة
وتجنبا من السقوط التام لا يمانع، بل يدعم قيام حكومة شعبية عادلة لكي
يحافظ على حياته وبجزء من سلطته.
3 2 - أهمية المسائل الاقتصادية والإدارية
رغم أننا لا نتفق مع الرؤية التي تنظر إلى الأمور بمنظار واحد وتحصر جميع

1 - نطالع في روايات عديدة عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إن بعض الجاهلين بالمعايير الإسلامية كانوا
يعترضون على الإمام أحيانا، بأنه لماذا قبلت ولاية عهد المأمون مع كل زهدك في الدنيا وإعراضك عنها؟ فكان الإمام
(عليه السلام) يجيبهم: " يا هذا أيما أفضل النبي أم الوصي "؟ فقالوا: لا بل النبي، فقال: أيهما أفضل مسلم أم مشرك "؟ فقالوا: لا بل
مسلم فقال: " فإن العزيز عزيز مصر كان مشركا، وكان يوسف (عليه السلام) نبيا، وإن المأمون مسلم " وأنا وصي، ويوسف سأل
العزيز أن يوليه حين قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، وأنا أجبرت على ذلك " وسائل الشيعة، ج 12،
ص 146.
241

الأمور في القضايا الاقتصادية دون إعطاء أي دور للإنسان، ولكن برغم ذلك فإنه
لا يمكن غض النظر عن أهمية القضايا الاقتصادية ودورها في المجتمعات،
والآيات السابقة تشير إلى هذه الحقيقة، والملاحظ أن يوسف ركز من بين جميع
مناصب الدولة على منصب الإشراف على الخزانة، وذلك لعلمه أنه إذا نجح في
ترتيب اقتصاد مصر، فإنه يتمكن من إصلاح كثير من المفاسد الاجتماعية، كما أن
تنفيذه للعدالة الاقتصادية يؤدي إلى سيطرته على سائر دوائر الدولة وجعلها
تحت إمرته.
وقد اهتمت الروايات الإسلامية بهذا الموضوع اهتماما كبيرا، فمثلا نرى
في الرواية المعروفة المروية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه جعل (قوام الدين
والدنيا) في ركنين: أحدهما القضايا الاقتصادية وما يقوم عليه معاش الناس،
والركن الآخر هو العلم والمعرفة.
وبرغم أن المسلمين قد أهملوا هذا الجانب من الحياة الفردية والاجتماعية
الذي إهتم به الإسلام كثيرا وتأخروا عن أعداء الإسلام في هذا الجانب، إلا أن
يقظة المجتمعات الإسلامية المتزايدة وتوجههم نحو الإسلام يزيد الأمل في
النفوس بأن تزيد من نشاطها الاقتصادي وتعتبره عبادة إسلامية كبرى، وتقوم
ببناء نظام اقتصادي مدروس وفق خطط محكمة لكي تعود إليهم قوتهم
ونشاطهم.
وهنا نقطة أخرى يجب التنبيه عليها، وهي إننا نلاحظ أن يوسف (عليه السلام)
يخاطب الملك ويقول له: إني حفيظ عليم وهذه إشارة إلى أهمية عنصر
الإدارة إلى جانب عنصر الأمانة وأن توفر عنصر الأمانة والتقوى فقط في شخص
لا يؤهله لأن يتصدى لأحد المناصب الاجتماعية الحساسة، بل لابد من إجتماع
ذلك العامل مع العلم والتخصص والقدرة على الإدارة، لكونه قرن ال‍ (عليم) مع
ال‍ (حفيظ) وكثيرا ما نشاهد الأضرار الناتجة عن سوء الإدارة لا تقل بل تزيد على
242

الخسائر الناتجة عن الخيانة!
فهذه التعليمات الإسلامية صريحة في أهمية جانب الإدارة والقدرة عليها،
ومع ذلك نرى تهاون بعض المسلمين بهذا الجانب، فالمهم لديهم هو نصب
الأشخاص الذين يطمئنون إلى تقواهم وأمانتهم لإدارة الأمور، مع أن السيرة
النبوية الشريفة (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك سيرة علي (عليه السلام) ترشدان إلى أنهما كانا يهتمان
اهتماما كبيرا بالجانب الإداري والقدرة على الإدارة مع اهتمامهم بأمانة الشخص
وسلوكه الحسن.
3 3 - الرقابة على الاستهلاك
الملاحظ في القضايا الاقتصادية أنه قد لا تكون (زيادة الإنتاج) بمكان من
الأهمية بقدر أهمية (الرقابة على الاستهلاك) ومن هنا نشاهد أن يوسف في أيام
حكومته، حاول - بشدة - أن يسيطر على الاستهلاك الداخلي في سنوات الوفرة
لكي يتمكن من الاحتفاظ بجزء كبير من المنتوجات الزراعية لسنوات القحط
والمجاعة القادمة، وفي الحقيقة أن زيادة الإنتاج والرقابة متلازمان لا يفترقان،
فالزيادة في الإنتاج لا تثمر إلا إذا أعقبتها رقابة صحيحة، كما أن الرقابة تكون
أكثر فائدة إذا أعقبتها زيادة في الإنتاج.
إن السياسة الاقتصادية التي انتهجها يوسف (عليه السلام) في مصر أظهرت أن الخطة
الاقتصادية الصحيحة والمتطورة مع الزمن لا يمكن أن تقتصر على متطلبات
الجيل الحاضر، بل لابد وأن تراعي مصالح الأجيال القادمة، لأن التفكير
بالمصالح المستعجلة للجيل الحاضر والتغاضي عن مصالح الأجيال القادمة - كما
لو استهلكنا جميع ثروات الأرض - تعتبر غاية الأنانية وحب الذات، إذ أن
الأجيال القادمة هم في الواقع اخوتنا وأبناؤنا فلابد من التفكير في مصالحهم
وعدم التفريط بها.
243

والملفت للنظر أنه يستفاد من بعض الروايات الواردة كما ورد عن الإمام
علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) " وأقبل يوسف على جمع الطعام فجمع في السبع سنين
المخصبة فكبسه في الخزائن، فلما مضت تلك السنون وأقبلت المجدية أقبل
يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق
بمصر وما حولها دينار ولا درهم إلا صار في مملكة يوسف، وباعهم في السنة
الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جواهر إلا صار في
ملكة يوسف، وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي حتى لم يبق بمصر وما
حولها دابة ولا ماشية إلا صار في ملكية يوسف، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد
والإماء حتى لم يبق بمصر ومن حولها عبد ولا أمة إلا صار في ملكية يوسف،
وباعهم في السنة الخامسة بالدور والعقار حتى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا
عقار إلا صار في ملكية يوسف، وباعهم في السنة السادسة بالمزارع والأنهار
حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة إلا صار في ملكية يوسف، وباعهم
في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حر إلا صار عبد
يوسف، فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم وقال الناس: ما رأينا ولا سمعنا بملك
أعطاه الله من الملك ما أعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا، ثم قال يوسف
للملك: أيها الملك ما ترى فيما خولني ربي من ملك مصر وأهلها أشر علينا برأيك،
فإني لم أصلحهم لأفسدهم، ولم أنجهم من البلاء ليكون وبالا عليهم ولكن الله
نجاهم على يدي، قال له الملك: الرأي رأيك، قال يوسف: إني أشهد الله وأشهدك
أيها الملك أني أعتقت أهل مصر كلهم، ورددت إليهم أموالهم وعبيدهم، ورددت
إليك أيها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على أن لا تسير إلا بسيرتي ولا تحكم إلا
بحكمي قال له الملك: إن ذلك لشرفي وفخري لا أسير إلا بسيرتك ولا أحكم إلا
بحكمك، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له، ولقد جعلت سلطاني عزيزا ما
244

يرام، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنت رسوله فاقم على ما
وليتك فإنك لدينا مكين أمين " (1).
3 4 - مدح النفس
لا شك في أن مدح الإنسان نفسه يعد من الأمور القبيحة، ولكن ليست هذه
قاعدة عامة، بل قد تقتضي الأمور بأن يقوم الإنسان بعرض نفسه على المجتمع
والإعلان عن خبراته وتجاربه، لكي يتعرف عليه الناس ويستفيدوا من خبراته
ولا يبقى كنزا مستورا.
وقد مر علينا في الآيات السابقة أن يوسف حينما تولى مسؤولية الإشراف
على خزائن مصر وصف نفسه بأنه: حفيظ عليم، وكان هذا الوصف من يوسف
لنفسه ضروريا وذلك حتى يعرف شعب مصر ومليكها أنه يمتلك الصفات اللازمة
التي تؤهله للتصدي لهذا المنصب.
ومن هنا نقرأ في تفسير العياشي نقلا عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه حينما سئل
عن الحكم الشرعي لمدح الإنسان نفسه؟ أجاب (عليه السلام) " نعم إذا اضطر إليه، أما
سمعت قول يوسف إجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، وقول العبد
الصالح: وأنا لكم ناصح أمين " (2).
ومن هنا يتضح لنا جليا فلسفة مدح الإمام علي (عليه السلام) نفسه في بعض الخطب،
فمثلا يقول في خطبة الشقشقية واصفا نفسه: "... إن محلي منها محل القطب من
الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير... " فمثل هذه الأوصاف هي في
الواقع لأجل إيقاظ الغافلين وإرشادهم إلى الاستفادة من هذا المنهل العذب في
سبيل الوصول إلى سعادة الفرد والمجتمع.

1 - مجمع البيان، المجلد الثالث، صفحة 244، تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 435.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 433.
245

3 5 - أفضلية الجزاء المعنوي على سواه
برغم أن كثيرا من المؤمنين الخيرين يلقون في هذه الدنيا جزاء أعمالهم
الخيرة، كما هو الحال بالنسبة ليوسف حيث جوزي جزاء حسنا، لعفافه وتقواه
وصبره على البلاء، إذ لو كان آثما لما اعتلى هذا المنصب، ولكن هذا لا يعني أن
على الإنسان أن ينتظر الجزاء في هذه الدنيا ويتوهم أن الجزاء يجب أن يكون
ماديا وملموسا وفي هذه الدنيا ويرى تأخير الجزاء ظلما في حقه، لكن هذا
التصور بعيد عن الواقع، لأن الجزاء الأوفى هو ما يوافي الإنسان في حياته
القادمة.
ولعل لدفع هذا التوهم الخاطئ وإن ما جوزي به يوسف هو الجزاء الأوفى،
يقول القرآن الكريم ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون.
3 6 - الدفاع عن المسجونين
برغم أن السجن لم يكن دائما محلا للأخيار، بل يستضيف تارة الأبرياء
وتارة المجرمين، لكن القواعد الإنسانية تستوجب التعامل الحسن مع السجناء،
حتى ولو كانوا مجرمين.
وقد يتصور البعض أن الدفاع عن المسجونين من مبتكرات العصر الحديث،
لكن المتتبع للتاريخ الإسلامي يرى أنه منذ الأيام الأولى لقيام دولة الإسلام كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكد ويوصي على التعامل الحسن مع الأسرى والمسجونين -
كما قرأنا جميعا وصية علي (عليه السلام) في حق المجرم الذي قام باغتياله (وهو
عبد الرحمن بن ملجم المرادي) حيث أمر أن يرفق به وحتى إنه (عليه السلام) بعث إليه من
اللبن الذي كان يشربه وعندما أرادوا قتله قال: ضربة بضربة.
كما أن يوسف حينما كان في السجن كان يعد أخا حميما وصديقا وفيا
ومستشارا أمينا لجميع نزلاء السجن، وحينما خرج من السجن - أمر أن يكتب -
246

لجلب انتباه العالمين - على بابه " هذا قبور الأحياء، وبيت الأحزان، وتجربة
الأصدقاء، وشماتة الأعداء " (1).
وأظهر لهم بهذا الدعاء عطفه ومحبته حيث قال: " اللهم اعطف عليهم بقلوب
الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار " (2).
والطريف أننا نقرأ في سياق الحديث السابق أنه: " فذلك يكون أصحاب
السجن أعرف الناس بالأخبار في كل بلدة ".
وقد مرت علينا هذه التجربة في أيام السجن، حيث كانت تصلنا الأخبار
وبصورة منتظمة - إلا في بعض الحالات النادرة - وعن طرق خفية لا يكشفها
السجانون، وكثيرا ما كان الذي يدخل إلى السجن يطلع على بعض الأخبار التي
لم يكن قد سمعها عندما كان في الخارج، والحديث عن هذا الموضوع طويل وقد
يخرجنا عن هدف هذا الكتاب.
* * *

1 - نور الثقلين، ج 2، ص 432.
2 - نور الثقلين، ج 2، ص 432.
247

2 الآيات
وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له
منكرون (58) ولما جهزهم بجهازهم قال إئتوني بأخ لكم من
أبيكم ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين (59) فإن لم
تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون (60) قالوا سنراود
عنه أباه وإنا لفاعلون (61) وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في
رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم
يرجعون (62)
2 التفسير
3 اقتراح جديد من يوسف لاخوته:
وكما كان متوقعا، فقد تحسنت الزراعة في مصر خلال سبع سنوات متتالية
وذلك على أثر توالي الأمطار ووفرة ماء النيل وكثرته، ويوسف الذي كان
مسؤولا عن الشؤون الاقتصادية في مصر ومشرفا على خزائنها، أمر ببناء
المخازن الكبيرة والصغيرة التي تستوعب الكميات الكبيرة من المواد الغذائية
248

وتحفظها عن الفساد، وقد أجبر أبناء الشعب على أن يبيعوا للدولة الفائض عن
حاجتهم من الإنتاج الزراعي، وهكذا امتلأت المخازن بالمنتوجات الزراعية
والاستهلاكية ومرت سبع سنوات من الرخاء والوفرة، وبدأ القحط والجفاف يظهر
وجهه الكريه، ومنعت السماء قطرها، فلم تينع ثمرة، ولم تحمل نخلة.
وهكذا أصاب عامة الشعب الضيق وقلت منتوجاتهم الزراعية، لكنهم كانوا
على علم بخزائن الدولة وامتلائها بالمواد الغذائية، وساعدهم يوسف حيث
استطاع - بخطة محكمة ومنظمة مع الأخذ بعين الاعتبار الحاجات المتزايدة، في
السنين القادمة - أن يرفع الضيق عن الشعب بأن باع لهم المنتوجات الزراعية
مراعيا في ذلك العدالة بينهم.
وهذا القحط والجفاف لم يكن مقتصرا على مصر وحدها، بل شمل البلدان
المحيطة بها أيضا، ومنهم شعب فلسطين وأرض كنعان المتاخمة لمصر والواقعة
على حدودها في الشمال الشرقي، وكانت عائلة يوسف تسكن هناك وقد تأثرت
بالجفاف. واشتد بهم الضيق، بحيث اضطر يعقوب أن يرسل جميع أولاده - ما عدا
بنيامين الذي أبقاه عنده بعد غياب يوسف - إلى مصر، حيث سافروا مع قافلة
كانت تسير إلى مصر ووصلوا إليها - كما قيل - بعد 18 يوما.
وتذكر المصادر التاريخية أن الأجانب عند دخولهم إلى الأراضي المصرية
كانوا ملزمين بتسجيل أسمائهم في قوائم معينة لكي تعرض على يوسف، ومن
هنا فحينما عرض الموظفون تقريرا على يوسف عن القافلة الفلسطينية وطلبهم
للحصول على المؤن والحبوب رأى يوسف أسماء اخوته بينهم وعرفهم وأمر
بإحضارهم إليه، دون أن يتعرف أحد على حقيقتهم وأنهم اخوته..
يقول القرآن الكريم: وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له
منكرون وكان طبيعيا أن لا يتعرف إخوة يوسف عليه لأنه في جانب كان قد
مضى على فراقهم إياه منذ أن أودعوه الجب وخرج منه ودخل إلى مصر ما يقرب
249

من أربعين سنة، ومن جهة أخرى كان لا يخطر ببالهم أن أخوهم صار عزيزا
لمصر، وحتى لو رأوا الشبه بين العزيز وبين أخيهم لحملوه على الصدفة.
إضافة إلى هذا فإن ملابس يوسف تختلف عن السابق، ومن الصعب عليهم
معرفة يوسف وهو في ملابس أهل مصر، كما أن احتمال بقاء يوسف على قيد
الحياة بعد هذه المدة كان ضعيفا عندهم، وعلى أية حال فإن إخوة يوسف قد
اشتروا ما طلبوه من الحبوب ودفعوا ثمنه بالأموال أو الكندر أو الأحذية أو بسائر
ما جلبوه معهم من كنعان إلى مصر.
أما يوسف فإنه قد رحب بإخوته ولاطفهم وفتح باب الحديث معهم، قالوا:
نحن عشرة إخوة من أولاد يعقوب، ويعقوب هو ابن إبراهيم الخليل نبي الله
العظيم، وأبونا أيضا من أنبياء الله العظام، وقد كبر سنه وألم به حزن عميق ملك
عليه وجوده.
فسألهم يوسف: لماذا هذا الغم والحزن؟
قالوا: كان له ولد أصغر من جميع إخوته وكان يحبه كثيرا، فخرج معنا يوما
للنزهة والتفرج والصيد وغفلنا عنه فأكله الذئب، ومنذ ذلك اليوم وأبونا يبكي
لفراقه.
نقل بعض المفسرين أنه كان من عادة يوسف أن لا يعطي ولا يبيع لكل
شخص إلا حمل بعير واحد، وبما أن إخوته كانوا عشرة فقد باع لهم 10 أحمال
من الحبوب، فقالوا: إن لنا أبا شيخا كبيرا عاجزا عن السفر وأخا صغيرا يرعى
شؤون الأب الكبير، فطلبوا من العزيز أن يدفع إليهم حصتهما، فأمر يوسف أن
يضاف إلى حصصهم حملان آخران، ثم توجه إليهم مخاطبا إياهم وقال: إني أرى
في وجوهكم النبل والرفعة كما إنكم تتحلون بأخلاق طيبة، وقد ذكرتم ان أباكم
يحب أخاكم الصغير كثيرا، فيتضح أنه يمتلك صفات ومواهب عالية وفذة ولهذا
أحب أن أراه إضافة إلى هذا، فإن الناس هنا قد أساؤوا الظن بكم واتهموكم،
250

لأنكم من بلد أجنبي، فأتوا بأخيكم الصغير في سفركم القادم لتثبتوا صدقكم،
وتدفعوا التهمة عن أنفسكم.
وهنا يقول القرآن الكريم: إنه حينما جهزهم يوسف بجهازهم وأرادوا
الرحيل عن مصر ولما جهزهم بجهازهم قال إئتوني بأخ لكم من أبيكم ألا
ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين لكنه ختم كلامه بتهديد مبطن لهم، وهو
إنني سوف أمنع عنكم المؤن والحبوب إذا لم تأتوني بأخيكم فإن لم تأتوني به
فلا كيل لكم عندي ولا تقربون، وكان يوسف يحاول بشتى الطرق، تارة
بالتهديد، وأخرى بالتحبب، أن يلتقي بأخيه بنيامين ويبقيه عنده. وظهر من سياق
الآيات.
أمران: أن الحبوب كانت تباع وتشترى في مصر بالكيل لا بالوزن، واتضح
أيضا أن يوسف كان يستقبل الضيوف - ومنهم اخوته - الذين كانوا يفدون إلى
مصر بحفاوة بالغة ويستظيفهم بأحسن وجه.
وأجاب اخوة يوسف على طلب أخيهم: قالوا سنراود عنه أباه وإنا
لفاعلون ويستفاد من قوله إنا لفاعلون وإجابتهم الصريحة لعزيز مصر، أنهم
كانوا مطمئنين إلى قدرتهم على التأثير على أبيهم وأخذ الموافقة منه، وكيف لا
يكونون مطمئنين بقدرتهم على ذلك وهم الذين استطاعوا بإصرارهم وإلحاحهم
أن يفرقوا بين يوسف وأبيه؟!
وأخيرا أمر يوسف رجاله بأن يضعوا الأموال التي اشتروا بها الحبوب في
رحالهم - جلبا لعواطفهم - وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم
يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون.
* * *
251

2 بحوث
3 1 - لماذا لم يظهر يوسف حقيقته لإخوته
بالنسبة للآيات السابقة فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو إنه لماذا لم يعرف
يوسف نفسه لإخوته، حتى يقفوا على حقيقة حاله ويرجعوا إلى أبيهم ويخبرونه
عن مصير يوسف، وبذلك تنتهي آلامه لأجل فراق يوسف؟
ويمكن طرح هذا السؤال على شكل أوسع وبصورة أخرى، وهو أنه حينما
التقى يوسف باخوته في مصر كان قد مر ثمان سنوات على تحريره من السجن،
حيث كان في السنة الأولى من سنوات القحط والجدب، التي أعقبت سبع سنوات
من الوفرة والرخاء، وقام بخزن المنتوجات الزراعية - وفي السنة الثامنة أو بعدها
- جاء اخوة يوسف إلى مصر لشراء الحبوب، فلماذا لم يحاول يوسف خلال هذه
السنوات الثمان أن يبعث إلى كنعان من يخبر أباه بواقع حاله ويخرجه عن آلامه
وينهي مرارته الطويلة؟
حاول جمع من المفسرين - كالعلامة الطبرسي في مجمع البيان والعلامة
الطباطبائي في تفسير الميزان والقرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن -
الإجابة على هذا السؤال، وذكروا له عدة أجوبة، ولعل أحسنها وأقربها هو أن
يوسف لم يكن مجازا من قبل الله سبحانه وتعالى في إخبار أبيه، لأن قصة يوسف
مع غض النظر عن خصائصه الذاتية كانت ساحة لاختبار يعقوب وحقلا
لامتحانه، فلابد من أن يؤدي يعقوب امتحانه ويجتاز فترة الاختبار قبل أن يسمح
ليوسف بإخباره، وإضافة إلى هذا فإن إسراع يوسف في إخبار إخوته قد يؤدي
إلى عواقب غير محمودة، مثلا قد يستولي عليهم الخوف والهلع من انتقام يوسف
منهم لما ارتكبوه سابقا في حقه فلا يرجعوا إليه.
3 2 - لماذا أرجع يوسف الأموال إلى إخوته
السؤال الذي يطرح نفسه هو أنه لماذا أمر يوسف أن ترد أموال إخوته التي
252

دفعوها ثمنا للحبوب، وتوضع في رحالهم؟
وقد أجاب المفسرون عن هذا السؤال بإجابات عديدة، ومنهم الرازي في
تفسيره حيث ذكر عشرة أجوبة، لكن بعضها بعيد عن الواقع، ولعل ملاحظة
الآيات السابقة تكفي في الإجابة عن السؤال، لأن الآية الشريفة تقول: لعلهم
يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون فإن يوسف كان يقصد من وراء
هذا العمل، أن إخوته بعد رجوعهم إلى الوطن حينما يجدون أموالهم قد خبئت
في متاعهم، سوف يقفون على كرم عزيز مصر (يوسف) وجلالة قدره، أكثر مما
شاهدوه، وسوف يطمئن يعقوب بنوايا عزيز مصر ويعطي الإذن بسفر بنيامين،
ويكون السبب والدافع في سفرهم إلى مصر مرة أخرى وباطمئنان أكثر
مستصحبين معهم أخاهم الصغير.
3 3 - كيف وهب يوسف إلى إخوته أموال بيت المال؟
السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا هو أنه كيف وهب يوسف الأموال من
بيت المال لإخوته دون أي تعويض؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال بطريقتين:
الأول: أن بيت المال في مصر كان يحتوي على حصة معينة من الأموال
تصرف في شؤون المستضعفين (ومثل هذه الحصة موجودة دائما) وبما أن إخوة
يوسف كانوا في تلك الفترة من المستضعفين، استغل يوسف هذه الفرصة واستفاد
من هذه الحصة لمساعدة إخوته: (كما كان يستفيد منها في مساعدة سائر
المستضعفين) ومن المعلوم أن الحدود المصطنعة بين الدولة لم تكن حائلا دون
مساعدة مستضعفي سائر البلدان من هذه الحصة.
الثاني: أن المناصب العالية في الدولة - كمنصب يوسف - تتضمن عادة على
253

امتيازات وحقوق معينة، ومن أقل هذه الحقوق هو أن يهيئ لنفسه ولعائلته
المحتاجة ولمن يقرب إليه كأبيه وإخوته مستلزمات العيش الكريم، وقد استفاد
يوسف من هذا الحق في إعطاء الأموال لإخوته.
* * *
254

2 الآيات
فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يأبانا منع منا الكيل فأرسل
معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون (63) قال هل آمنكم عليه إلا
كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حفظا وهو أرحم
الرحمين (64) ولما فتحوا متعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم
قالوا يأبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ
أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير (65) قال لن أرسله
معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم
فلما أتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل (66)
2 التفسير
3 موافقة يعقوب:
رجع اخوة يوسف إلى كنعان فرحين حاملين معهم المتاع الثمين، لكنهم
كانوا يفكرون بمصيرهم في المستقبل وأنه لو رفض الأب ولم يوافق على سفر
أخيهم الصغير (بنيامين) فإن عزيز مصر سوف لن يستقبلهم، كما إنه لا يعطيهم
255

حصتهم من الحبوب والمؤن.
ومن هنا يقول القرآن: فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل
ولا سبيل لنا للحصول عليه إلا أن ترسل معنا أخانا فأرسل معنا أخانا نكتل
وكن على يقين من أننا سوف نحافظ عليه ونمنعه من الآخرين وإنا له
لحافظون.
أما الأب الشيخ الكبير الذي لم يمح صورة (يوسف) عن ذاكرته مر السنين
فإنه حينما سمع هذا الكلام استولى عليه الخوف وقال لهم معاتبا: هل آمنكم
عليه إلا كما آمنتكم على أخيه من قبل فكيف تتوقعون مني أن أطمئن بكم
والبي طلبكم وأوافق على سفر ولدي وفلذة كبدي معكم إلى بلاد بعيدة، ولا زلت
أذكر تخلفكم في المرة السابقة عن عهدكم، ثم أضاف فالله خير حافظا وهو
أرحم الراحمين هذه العبارة لعلها إشارة إلى ما تحدثت به نفس يعقوب من أنه
يصعب علي أن أوافق على سفر بنيامين معكم وقد عرفت سوؤكم في المرة
السابقة، لكن حتى لو وافقت على ذلك فإنني أتكل على الله سبحانه وتعالى الذي
هو أرحم الراحمين وأطلب رعايته وحفظه منه لا منكم.
الآية السابقة لا تدل على الموافقة القطعية وقبوله لطلبهم، وإنما هي مجرد
احتمال منه حيث أن الآيات القادمة تظهر أن يعقوب لم يكن قد وافق على طلبهم
إلا بعد أن أخذ منهم العهود والمواثيق، والاحتمال الآخر هو أن هذه الآية لعلها
إشارة إلى يوسف، حيث كان يعلم إنه على قيد الحياة (وسوف نقرأ في الآيات
القادمة إنه كان على يقين بحياة يوسف) فدعا له بالحفظ.
ثم إن الاخوة حينما عادوا من مصر ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم
ردت إليهم فشاهدوا أن هذا الأمر هو برهان قاطع على صحة طلبهم، فجاؤوا
إلى أبيهم و قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا وهل هناك فضل
وكرم أكثر من هذا أن يقوم حاكم أجنبي وفي ظروف القحط والجفاف،
256

بمساعدتنا ويبيع لنا الحبوب والمؤن ثم يرد إلينا ما دفعناه ثمنا له؟!
ثم أنه رد بضاعتنا علينا بشكل خفي بحيث لا يستثير فينا الخجل - أليس
هذا غاية الجود والكرم؟! فيا أبانا ليس هناك مجال للتأخير - ابعث معنا أخانا
لكي نسافر ونشتري الطعام ونمير أهلنا وسوف نكون جادين في حفظ أخينا
ونحفظ أخانا، وهكذا نتمكن من أن نشتري كيل بعير من الحبوب ونزداد
كيل بعير وإننا على يقين في أن سماحة العزيز وكرمه - سوف يسهلان حصوله
و ذلك كيل يسير.
وفي كل الأحوال - رفض يعقوب إرسال ابنه بنيامين معهم، ولكنه كان
يواجه إصرار أولاده بمنطقهم القوي بحيث اضطر إلى التنازل على مطلبهم ولم ير
بدا من القبول، ولكنه وافق بشرط: قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من
الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم، والمقصود من قوله موثقا من الله هو العهد
واليمين المتضمن لاسم الله سبحانه وتعالى، وأما جملة إلا أن يحاط بكم
فهي في الواقع بمعنى - إلا إذا أحاطت بكم وغلبتكم الحوادث، ولعلها إشارة إلى
حوادث الموت أو غيرها من الحوادث والمصائب التي تسلب قدرة الإنسان
وتقصم ظهره وتجعله عاجزا.
وذكر هذا الاستثناء دليل بارز على ذكاء نبي الله يعقوب وفطنته، فإنه برغم
حبه الشديد لولده بنيامين لكنه لم يحمل أولاده بما لا يطيقوا وقال لهم: إنكم
مسؤولون عن سلامة ولدي العزيز وأني سوف أطلبه منكم إلا أن تغلبكم
الحوادث القاهرة، فحينئذ لا حرج عليكم.
وعلى كل حال فقد وافق اخوة يوسف بدورهم على شرط أبيهم، وحينما
أعطوه العهد والمواثيق المغلظة قال يعقوب: فلما أتوه موثقهم قال الله على ما
نقول وكيل.
* * *
257

3 بحوث
1 - بالنسبة للآيات السابقة فإن أول ما يتبادر إلى الذهن، هو أنه كيف وافق
يعقوب على سفر بنيامين مع اخوته برغم ما أظهروه في المرة السابقة من سوء
المعاملة مع يوسف، إضافة إلى هذا فإننا نعلم أنهم كانوا يبطنون الحقد والحسد
لبنيامين - وإن كان أخف من حقدهم وحسدهم على يوسف - حيث وردت في
الآيات الافتتاحية لهذه السورة قوله تعالى: إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى
أبينا منا ونحن عصبة أي أن يوسف وأخاه أحب إلى أبينا برغم ما نملكه نحن
من قوة وكثرة.
لكن تظهر الإجابة على هذا السؤال إذا لاحظنا أنه قد مضى ثلاثون إلى
أربعين سنة على حادثة يوسف، وقد صار اخوة يوسف الشبان كهولا، ومن
الطبيعي أنهم نضجوا أكثر من السابق، كما وقفوا على الآثار السلبية والسيئة لما
فعلوه مع يوسف، سواء في داخل أسرتهم أم في وجدانهم، حيث أثبتت لهم
تجارب السنين السالفة أن فقد يوسف كان لا يزيد حب أبيهم لهم، بل إزداد نفوره
منهم وخلق لهم مشاكل جديدة.
إضافة إلى هذه الأمور فإن يعقوب لم يواجه طلبا للخروج إلى التنزه والصيد،
بل كان يواجه مشكلة مستعصية مستفحلة، وهي إعداد الطعام لعائلة كبيرة وفي
سنوات القحط والمجاعة.
فمجموع هذه الأمور أجبرت يعقوب على الرضوخ لطلب أولاده والموافقة
على سفر بنيامين ولكنه أخذ منهم العهود والمواثيق على أن يرجعوه سالما.
2 - السؤال الآخر الذي نواجهه هنا هو أنه هل الحلف وأخذ العهد والمواثيق
منهم كان كافيا لكي يوافق يعقوب على سفر بنيامين معهم؟
الجواب: أنه من الطبيعي أن مجرد الحلف واليمين لم يكن كافيا لذلك، ولكن
في هذه المرة كانت الشواهد والقرائن تدل على أن هناك حقيقة واضحة قد برزت
258

إلى الوجود، وهي خالية عن محاولات الخداع والتضليل (كما هو الحال في المرة
السابقة) ففي مثل هذه الصورة لا سبيل لتأكيد هذه الحقيقة وجعلها أقرب إلى
التنفيذ سوى العهد واليمين، مثل ما نشاهده في هذه الأيام من تحليف الزعماء
السياسيين كرئيس الجمهورية أو نواب البرلمان، حيث يحلفون بالوفاء للدستور
والعمل على طبقه وذلك بعد أن انتخبهم الشعب من خلال انتخابات حرة ونزيهة.
* * *
259

2 الآيتان
وقال يبنى لا تدخلوا من باب وحد وادخلوا من أبوب
متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شئ إن الحكم إلا لله عليه
توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون (67) ولما دخلوا من حيث
أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شئ إلا حاجة في
نفس يعقوب قضها وإنه لذو علم لما علمنه ولكن أكثر
الناس لا يعلمون (68)
2 التفسير
وأخيرا توجه إخوة يوسف صوب مصر للمرة الثانية بعد إذن أبيهم وموافقته
على اصطحاب أخيهم الصغير معهم، وحينما أرادوا الخروج ودعهم أبوهم
موصيا إياهم بقوله: وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب
متفرقة ثم أضاف: إنه ليس في مقدوري أن أمنع ما قد قدر لكم في علم الله
سبحانه وتعالى وما أغني عنكم من الله من شئ ولكن هناك بعض الأمور
التي يمكن للإنسان أن يجتنب عنها حيث لم يثبت في حقها القدر الإلهي
260

المحتوم، وما أسديته لكم من النصيحة هو في الواقع لدفع هذه الأمور الطارئة
والتي بإمكان الإنسان أن يدفعها عن نفسه ثم قال: أخيرا إن الحكم إلا لله عليه
وتوكلت وعليه فليتوكل المتوكلون.
لا شك في أن عاصمة مصر في تلك الأيام شأنها شأن جميع البلدان، كانت
تمتلك سورا عاليا وأبوابا متعددة وكان يعقوب قد نصح أولاده بأن يتفرقوا إلى
جماعات صغيرة، وتدخل كل جماعة من باب واحد، لكن الآية السابقة لم تبين
لنا فلسفة هذه النصيحة.
ذهب جمع من المفسرين إلى أن سبب هذه النصيحة هو أن إخوة يوسف
كانوا يتمتعون بقسط وافر من الجمال (وإن لم يكونوا كيوسف لكنهم في كل
الأحوال كانوا إخوته) وبأجسام قوية رشيقة، وكان الأب الحنون في قلق شديد
من أن الفات نظر الناس إلى هذه المجموعة المكونة من 11 شخصا ويدل
سيماهم على أنهم غرباء وإنهم ليسوا من أهل مصر، فيصيبهم الحسد من تلك
العيون الفاحصة.
ثم بعد هذا التفسير - دخل المفسرون في بحث طويل ونقاش مستمر حول
موضوع تأثير العين في حياة الإنسان واستدلوا على ذلك بشواهد عديدة من
الروايات والتاريخ. ونحن بحول الله وقوته سوف نبحث عن هذا الموضوع عند
حديثنا عن قوله تعالى: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم. (1)
ونثبت إنه برغم الخرافات الكثيرة التي لفها العوام حوله إلا أن مقدارا من هذا
الأمر له حقيقة موضوعية حيث ثبت علميا أن أمواج سيالة تخرج من العين
وتمتلك بعض المواصفات المغناطيسية.
وهناك سبب آخر ذكره المفسرون وهو أن دخول هذه المجموعة إلى مصر
بوجوههم المشرقة وأجسامهم الرشيقة القويمة والسير في شوارعها، قد يثير

1 - سورة ن والقلم، 25.
261

الحسد والبغضاء في بعض النفوس الضعيفة فيسعون ضدهم عند السلطان
ويظهرونهم كمجموعة أجنبية تحاول العبث بأمن البلد ونظامه، فحاول
يعقوب (عليه السلام) أن يجنبهم بنصيحته عن هذه المشاكل.
وأخيرا حاول بعض المفسرين تأويل الآية بمعنى قد يعد ذوقيا... قال: إن
يعقوب بنصيحته تلك أراد أن يعلم أولاده دستورا اجتماعيا هاما، وهو أن على
الإنسان أن يبحث عن ضالته بطرق عديدة وسبل شتى بحيث لو سد طريق
بوجهه لكان بمقدوره البحث عنها من طرق أخرى حيث سيكون النصر حليفه
في النهاية، أما إذا حاول الوصول إلى هدفه بانتهاجه طريقا واحدا فقط، فقد
يصطدم في أول الطريق بعائق يمنعه عن الوصول فعند ذاك يستولي عليه اليأس
ويترك السعي إليه.
واصل الاخوة سيرهم نحو مصر، وبعد أن قطعوا مسافة طويلة وشاسعة بين
كنعان ومصر دخلوا الأراضي المصرية، وعند ذاك ولما دخلوا من حيث أمرهم
أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شئ فهم برغم تفرقهم إلى جماعات
صغيرة - طبقا لما وصاهم به أبوهم - فإن الفائدة والثمرة الوحيدة التي ترتبت على
تلك النصيحة ليس (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) وهذه إشارة إلى أن أثرها
لم يكن سوى الهدوء والطمأنينة التي استولت على قلب الأب الحنون الذي بعد
عنه أولاده، وبقي ذهنه وفكره مشغولا بهم وبسلامتهم وخائفا عليهم من كيد
الحاسدين وشرور الطامعين، فما كان يتسلى به في تلك الأيام لم يكن سوى يقينه
القلبي بأن أولاده سوف يعملون بنصيحته.
ثم يستمر القرآن في مدح يعقوب ووصفه بقوله: وإنه لذو علم لما علمناه
ولكن أكثر الناس لا يعلمون وهذه إشارة إلى أن كثيرا من الناس يتيهون في
الأسباب وينسون قدرة الله سبحانه وتعالى ويتصورون أن ما يصيب الإنسان من
الشرور إنما هو من الآثار الملازمة لبعض العيون فيتوسلون بغير الله سبحانه
262

وتعالى لدفع هذه الشرور ويغفلون عن التوكل على الله سبحانه وتعالى والاعتماد
عليه، إلا أن يعقوب كان عالما بأنه بدون إرادة الله سبحانه وتعالى لا يحدث شئ،
فكان يتوكل في الدرجة الأولى على الله سبحانه وتعالى ويعتمد عليه، ثم يبحث
عن عالم الأسباب ومن هنا نرى في الآية (102) من سورة البقرة إن القرآن يصف
سحرة بابل وكهنتها بأنهم وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله وهذه
إشارة إلى أن القادر الوحيد هو الله سبحانه وتعالى، فلابد من الاعتماد والإتكال
عليه لا على سواه.
* * *
263

2 الآيات
ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك
فلا تبتئس بما كانوا يعملون (69) فلما جهزهم بجهازهم جعل
السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم
لسارقون (70) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون (71) قالوا نفقد
صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (72) قالوا
تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سرقين (73)
قالوا فما جزؤه إن كنتم كذبين (74) قالوا جزؤه من وجد في
رحله فهو جزؤه كذلك نجزى الظالمين (75) فبدأ بأوعيتهم
قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا
ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع
درجت من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76)
2 التفسير
3 يوسف يخطط للاحتفاظ بأخيه:
وأخيرا دخل الاخوة على يوسف وأعلموه بأنهم قد نفذوا طلبته واصطحبوا
264

معهم أخاهم الصغير برغم امتناع الأب في البداية، ولكنهم أصروا عليه وانتزعوا
منه الموافقة لكي يثبتوا لك إنهم قد وفوا بالعهد، أما يوسف فإنه قد استقبلهم
بحفاوة وكرم بالغين ودعاهم لتناول الطعام على مائدته، فأمر أن يجلس كل اثنين
منهم على طبق من الطعام، ففعلوا وجلس كل واحد منهم بجنب أخيه على
الطعام، وبقي بنيامين وحيدا فتألم من وحدته وبكى وقال: لو كان أخي يوسف
حيا لعطف علي ولأجلسني إلى جنبه على المائدة لأننا إخوة من أب واحد وأم
واحدة، قال يوسف مخاطبا إياهم: إن أخاكم بقي وحيدا وإنني سأجلسه بجنبي
على المائدة ونأكل سوية من الطعام، ثم بعد ذلك أمر يوسف بأن تهيأ لهم الغرف
ليستريحوا فيها ويناموا، ومرة أخرى بقي بنيامين وحيدا، فاستدعاه يوسف إلى
غرفته وبسط له الفراش إلى جنبه، لكنه لاحظ في تقاسيم وجهه الحزن والألم
وسمعه يذكر أخاه المفقود (يوسف) متأوها، عند ذاك نفذ صبر يوسف وكشف عن
حقيقة نفسه، والقرآن الكريم يصف هذه الوقائع بقوله: ولما دخلوا على يوسف
آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون.
قوله تعالى (لا تبتئس) مأخوذ من مادة (البؤس) وهو أصل بمعنى الضرر
والشدة، لكن في الآية الشريفة استعملت بمعنى: لا تسلط الغم على نفسك ولا
تكن حزينا من معاملتهم لك، والمراد بقوله " يعملون " هو معاملة الاخوة السيئة
لأخيهم بنيامين حيث خططوا لإبعاده وطرده من بينهم كما فعلوا بيوسف - فقال
يوسف لأخيه: لا تحزن فإن المحاولات التي قاموا بها لإلحاق الضرر بي قد
انقلبت إلى خير وسعادة ورفعة لي، إذا لا تحزن وكن على يقين بأن محاولاتهم
سوف تذهب أدراج الرياح.
وتقول بعض الروايات: إنه عند ذاك اقترح يوسف على أخيه بنيامين وقال
له: هل تود أن تبقى عندي ولا تعود معهم؟
265

قال بنيامين: نعم، ولكن إخوتي لا يوافقون على ذلك، لأنهم قد أعطوا أبي
العهود والمواثيق المغلظة بأن يرجعوني إليه سالما.
قال يوسف: لا تهتم بهذا الأمر فإني سوف أضع خطة محكمة بحيث
يضطرون لتركك عندي والرجوع دونك.
وبدأ يوسف بتنفيذ الخطة، وأمر بأن يعطي لكل واحد منهم حصة من الطعام
والحبوب ثم عند ذاك فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه.
لا شك في أن يوسف قام بهذا العمل بسرية تامة، ولعله لم يطلع على هذه
الخطة سوى موظف واحد وعند ذاك افتقد العاملون على تزويد الناس بالمؤونة
الكيل الملكي الخاص، وبحث عنه الموظفون والعمال كثيرا لكن دون جدوى
وحينئذ أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون.
وحينما سمع إخوة يوسف هذا النداء ارتعدت فرائصهم واستولى عليهم
الخوف، حيث لم يخطر ببالهم أن يتهموا بالسرقة بعد الحفاوة التي قوبلوا بها من
جانب يوسف، فتوجهوا إلى الموظفين والعمال وقالوا لهم: ماذا فقدتم؟ قالوا
وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون.
قالوا: قد فقدنا صواع الملك ونظن إنه عندكم قالوا نفقد صواع الملك
وبما أن الصواع ثمين ومورد علاقة الملك فان لمن يعثر عليه جائزة، وهي حمل
بعير من الطعام ولمن جاء به حمل بعير، ثم أضاف المؤذن والمسؤول عن
البحث عن الصواع المفقود: إنني شخصيا أضمن هذه الجائزة وأنا به زعيم.
فاشتد اضطراب الاخوة لسماعهم هذه الأمور وزادت مخاوفهم، وتوجهوا
إلى الموظف مخاطبين إياه قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما
كنا سارقين.
قولهم (لقد علمتم ما جئنا... إلى آخره) لعله إشارة إلى ما قصده الاخوة في
خطابهم للموظفين من إنكم قد وقفتم على حسن نيتنا في المرة السابقة حيث
266

جئناكم وقد وضعتم الأموال التي دفعناها إليكم ثمنا للطعام في رحالنا، لكننا
رجعنا إليكم مرة ثانية، فلا يعقل إننا وقد قطعنا المسافات البعيدة للوصول إلى
بلدكم نقوم بعمل قبيح ونسرق الصواع؟
إضافة إلى هذا فقد ورد في بعض المصادر أن الاخوة حينما دخلوا أرض
مصر ألجموا جمالهم ليمنعوها من التطاول والتعدي على المزارع وأموال الناس،
فمثلنا الحريص على أموال الناس كيف يعقل أن يقوم بهذا العمل القبيح؟
إلا أن الموظفين توجهوا إليهم و قالوا فما جزاؤه وإن كنتم كاذبين.
أجاب الاخوة: إنه عقاب من وجد الصواع في رحله هو أن يؤخذ الشخص
نفسه بدل الصواع قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه وإن هذا العقاب
هو جزاء السارق كذلك نجزي الظالمين.
وحينئذ أمر يوسف الموظفين والعمال بأن تنزل رحالهم من على ظهور
الجمال ويفتح متاعهم وأن يبحثوا فيها واحدا بعد واحد ودون استثناء، وتجنبا
عن انكشاف الخطة أمر يوسف بأن يبدأوا البحث والتفتيش في أمتعة الاخوة أولا
قبل أمتعة أخيه بنيامين، لكنهم وجدوه أخيرا في أمتعة بنيامين فبدأ بأوعيتهم
قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه.
بعد أن عثر على الصاع في متاع بنيامين، استولى الإرتباك والدهشة على
الاخوة، وصعقتهم هذه الواقعة ورأوا أنفسهم في حيرة غريبة، فمن جهة قام
أخوهم بعمل قبيح وسرق صواع الملك، وهذا يعود عليهم بالخزي والعار، ومن
جهة أخرى ان هذا العمل سوف يفقدهم اعتبارهم ونفوذهم عند الملك خصوصا
مع حاجتهم الشديدة إلى الطعام، وإضافة إلى كل هذا، كيف يجيبون على
استفسارات أبيهم؟ وكيف يقنعونه بذنب ابنه وعدم تقصيرهم في ذلك؟
قال بعض المفسرين: إنه بعد أن عثر على الصاع توجه الاخوة إلى بنيامين
وعاتبوه عتابا شديدا، فقالوا له: ألا تخجل من فعلك القبيح قد فضحتنا وفضحت
267

أباك يعقوب، وآل يعقوب.. قل لنا كيف سرقت الصاع ووضعته في رحلك؟
أجابهم بنيامين ببرود، حيث كان عالما بالقضية وأسرارها: إن الذي قام بهذا
العمل ووضع الصواع في رحلي، هو نفسه الذي وضع الأموال في متاعكم في
المرة السابقة، لكن الاخوة لم ينتبهوا - لهول الواقعة عليهم - لمغزى كلام
بنيامين (1).
ثم يستمر القرآن الكريم ويبين كيف استطاع يوسف أن يأخذ أخاه بالخطة
التي رسمها الله له دون أن يثير في اخوته أي نوع من المقاومة والرفض كذلك
كدنا ليوسف.
والأمر المهم في هذه القضية هو أنه لو أراد يوسف أن يعاقب أخاه بنيامين،
وطبقا للقانون المصري - لكان عليه أن يضرب أخاه ويودعه السجن لكن مثل
هذه المعاملة كانت تخالف رغبات وأهداف يوسف للاحتفاظ بأخيه، ومن هنا
وقبل القبض على بنيامين، سأل إخوته عن عقوبة السارق عندهم، فاعترفوا عنده
بأن السنة المتبعة عندهم في معاقبة السارق أن يعمل السارق عند المعتدى عليه
كالعبد.
لا ريب إن للعقوبة والجزاء طرقا عديدة منها أن يعاقب المعتدي على طبق
ما يعاقب به في قومه، وهكذا عامل يوسف أخاه بنيامين، وتوضيحا لهذه الحالة
وأن يوسف لم يكن بإمكانه أخذ أخيه طبقا للدستور المصري يقول القرآن
الكريم: وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك لكن الله سبحانه وتعالى يستثني
بقوله: إلا أن يشاء الله وهو إشارة إلى أن ما فعله يوسف بأخيه لم يكن إلا
بأمر منه سبحانه وتعالى وطبقا لإرادته في الاحتفاظ ببنيامين، واستمرارا
لامتحان يعقوب وأولاده.
وأخيرا يضيف القرآن الكريم ويقول: إن الله سبحانه يرفع درجات من

1 - مجمع البيان، ج 5، ص 253 ذيل الآية.
268

استطاع أن يفوز في الامتحان ويخرج مرفوع الرأس كما حدث ليوسف نرفع
درجات من نشاء ولكن في كل الأحوال فان الله تعالى عليم يهدي الإنسان إلى
سواء السبيل وهو الذي أوقع هذه الخطة في قلب يوسف وألهمه إياها وفوق
كل ذي علم عليم.
* * *
2 بحوث
الآيات السابقة تثير أسئلة كثيرة فلابد من الإجابة عليها:
3 1 - لماذا لم يعترف يوسف بالحقيقة
لماذا لم يعترف يوسف بالحقيقة لاخوته لينهي - وفي أسرع وقت ممكن -
مأساة أبيه وينجيه من العذاب الذي كان يعيشه؟
الجواب على هذا السؤال: هو ما مر علينا خلال البحث، من أن الهدف كان
امتحان يعقوب وأولاده واختبار مدى تحملهم وصبرهم على الشدائد
والمصائب، وبتعبير آخر: لم تكن هذه الخطة أمرا عفويا دون تفكير، وإنما نفذت
طبقا لأوامر الله سبحانه وتعالى وإرادته في اختبار يعقوب ومدى صبره على
مصيبة فقد ثاني أعز أولاده، لكي تكمل سلسلة الامتحانات ويفوز بالدرجات
العالية التي يستحقها، كما كانت الخطة اختبارا لاخوة يوسف في مدى تحملهم
للمسؤولية وقدرتهم على حفظ العهد ومراعاة الأمانة التي قطعوها مع أبيهم.
3 2 - لماذا اتهم يوسف أخاه؟
هل يجوز شرعا أن يتهم الإنسان بريئا لم يرتكب ذنبا، ولم تقتصر آثار هذه
269

التهمة على البرئ وحده، بل تشمل الآخرين من قريب أو بعيد؟ كما هو الحال
في يوسف حيث شمل اتهامه الاخوة وسبب لهم مشاكل عديدة.
يمكن معرفة الجواب بعد وقوفنا على أن توجيه هذه التهمة لبنيامين كان
باتفاق مسبق بينه وبين يوسف، وكان عارفا بأن هدف الخطة وتوجيه التهمة إليه
لأجل بقائه عند يوسف، أما بالنسبة للآثار السلبية المترتبة على الاخوة فإن اتهام
بنيامين بالسرقة لم يكن في الواقع اتهاما مباشرا لاخوته وإن سبب لهم بعض
التشويش والقلق ولا مانع من ذلك بالنظر إلى امتحان مهم.
3 3 - لماذا اتهام الجميع بالسرقة؟
مر علينا في الآية الشريفة قوله تعالى: إنكم سارقون وهذه في الواقع
تهمة موجهة إلى الجميع وهي تهمة كاذبة، فما المسوغ والمجوز الشرعي لمثل
هذا الاتهام الباطل؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال في عدة نقاط وهي:
أولا: إن قائل هذه الجملة غير معلوم، حيث ورد في القرآن إنه (قالوا...)
ولعل القائلين هم بعض الموظفين من عمال يوسف والمسؤولين عن حماية
خزائن الحبوب، فهم حينما افتقدوا صواع الملك، اطمأنوا بأن السارق هو أحد
أفراد القافلة القادمة من كنعان، فوجهوا الخطاب إليهم جميعا، وهذا من الأمور
الطبيعية، فحينما يقوم شخص مجهول في ضمن مجموعة معينة بعمل ما، فإن
الخطاب يوجه إليهم جميعا ويقال لهم: إنكم فعلتم هذا العمل، والمقصود إن أحد
هذا المجموعة أو بعضها قد فعل كذا.
ثانيا: الطرف الذي وجهت إليه التهمة وهو بنيامين، كان موافقا على توجيه
هذه التهمة له، لأن التهمة كانت مقدمة للخطة المرسومة والتي كانت تنتهي ببقائه
عند أخيه يوسف، وأما شمول الاتهام لجميع الاخوة ودخولهم جميعا في دائرة
270

الظن بالسرقة، فإن كل ذلك كان إتهاما مؤقتا حيث زالت بمجرد التفتيش والعثور
على الصواع وظهر المذنب الواقعي.
قال بعض المفسرين: إنه قصد بالسرقة - فيما نسبوه إلى اخوة يوسف - هو ما
اقترفوه سابقا من سرقة الاخوة يوسف من أبيه، لكن هذا التوجيه يتم إذا كانت
التهمة قد وجهت إليهم من قبل يوسف، لأنه كان عالما بالذنب الذي ارتكبوه،
ولعل ما ورد في ذيل الآية الشريفة يدل على ذلك، حيث قال العمال إننا: نفقد
صواع الملك ومثل هذا الخطاب لا يتضمن توجيه السرقة إليهم، (ولكن الجواب
الأول أصح ظاهرا).
3 4 - عقوبة السرقة في تلك الأزمنة
يستفاد من الآيات السابقة أن عقوبة السرقة عند المصريين كانت تختلف
عنها عند الكنعانيين، فعند اخوة يوسف (آل يعقوب) ولعله عند الكنعانيين كانت
العقوبة هي عبودية السارق (بصورة دائمة أو مؤقتة) لأجل الذنب الذي اقترفه (1).
لكن المصريين لم يجازوا السارق بالعبودية الدائمة أو المؤقتة، وإنما كانوا
يعاقبون المذنب بالضرب المبرح أو السجن، وفي كل الأحوال لا يستفاد من قوله
تعالى: قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه إن الشرائع السماوية كانت
تحدد عقوبة السارق بالعبودية، ولعلها كانت سنة متبعة عند بعض المجتمعات في
تلك الأزمنة، وقد ذكر المؤرخون في تاريخ العبودية إن بعض المجتمعات التي
كانت تدين بالشرائع الخرافية، كانوا يعاقبون المدين العاجز عن سداد دينه
بالعبودية للمدين.

1 - يقول الطبرسي في مجمع البيان - ذيل الآية - إن السنة المتبعة لدى بعض المجتمعات في ذلك الزمان هو أن يصير
السارق عبدا لمدة سنة كاملة، وذكر أيضا أن أسرة يعقوب كانت ترى عبودية السارق بمقدار ما سرق (أي يعمل عندهم
بذلك المقدار).
271

3 5 - السقاية أو الصواع
يلاحظ في الآيات السابقة أن الله سبحانه وتعالى يعبر عن الكيل تارة
ب‍ (الصواع) وأخرى ب‍ (السقاية)، والظاهر أنهما صفتان لشئ واحد، حيث ورد
في بعض المصادر أن هذا الصاع كان في أول الأمر كأسا يسقى به الملك، ثم
حينما عم القحط والغلاء في مصر وصار الطعام والحبوب يوزع على الناس
حسب الحصص، استعمل هذا الكأس الثمين لكيل الطعام وتوزيعه، وذلك إظهارا
لأهمية الحبوب وترغيبا للناس في القناعة وعدم الإسراف في الطعام.
ثم إن المفسرين ذكروا أوصافا عديدة لهذا الصاع، حيث قال بعضهم أنها
كانت من الفضة وقال آخرون: إنها كأس ذهبية، وأضاف آخرون أن الكأس كان
مطعما بالجواهر والأحجار الكريمة، وقد وردت في بعض الروايات الضعيفة
إشارة إلى هذه الأمور، لكن ليس لنا دليل قطعي وصريح على صحة كل هذه
المذكورات، إلا ما قيل من أن هذا الصاع كان في يوم من الأيام كأسا يسقى به
ملك مصر، ثم صار كيلا للطعام، ومن البديهي أنه لابد وأن يكون لهذا الصاع
صبغة رمزية واعتبارية للدلالة على أهمية الطعام وتحريض الناس على عدم
الإسراف فيه، إذ لا يعقل أن يكون الجهاز الذي يوزن به كل ما يحتاجه البلد من
الطعام والحبوب، هو مجرد كأس كان يستعمله الملك في يوم من الأيام.
وأخيرا فقد مر علينا خلال البحث أن يوسف قد اختير مشرفا على خزائن
الدولة، ومن الطبيعي أن يكون الصاع الملكي الثمين في حوزته، فحينما حكم
على بنيامين بالعبودية صار عبدا لمن كان الصاع في يده (أي يوسف) وهذه هي
النتيجة التي كان يوسف قد خطط لها.
* * *
272

2 الآيات
قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في
نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما
تصفون (77) قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ
أحدنا مكانه إنا نريك من المحسنين (78) قال معاذ الله أن نأخذ
إلا من وجدنا متعنا عنده إنا إذا لظالمون (79)
2 التفسير
3 موقف إخوة يوسف:
وأخيرا اقتنع اخوة يوسف بأن أخاهم (بنيامين) قد ارتكب فعلا شنيعا
وقبيحا وإنه قد شوه سمعتهم وخذلهم عند عزيز مصر، فأرادوا أن يبرأوا أنفسهم
ويعيدوا ماء وجههم قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل أي إنه لو قام
بالسرقة فهذا ليس بأمر عجيب منه فإن أخاه يوسف وهو أخوه لأبويه قد ارتكب
مثل هذا العمل القبيح، ونحن نختلف عنهما في النسب، وهكذا أرادوا أن يفصلوا
بينهم وبين بنيامين ويربطوه بأخيه يوسف.
273

وحينما سمع يوسف كلامهم تأثر بشدة لكنه كتم ما في نفسه فأسرها
يوسف في نفسه ولم يبدها لهم لأنه كان عالما بأنهم قد افتروا عليه واتهموه
كذبا، إلا أنه لم يرد عليهم وقال لهم باختصار واقتضاب قال أنتم شر مكانا
أي إنكم أحقر وأشر مكانا ممن تتهمونه وتنسبون إليه السرقة، أو أنتم أحقر
الناس عندي.
ثم أضاف يوسف: إن الله سبحانه وتعالى أعلم بما تنسبون والله أعلم بما
تصفون.
الملاحظ هنا إنه برغم أن إخوة يوسف افتروا عليه زورا واتهموه بالسرقة
لكي يبرأوا أنفسهم، لكن لابد وأن تكون لهذه التهمة أرضية قديمة بحيث تمسك
بها الإخوة في تلك اللحظة الحرجة.
ومن هنا فقد قام المفسرون بالبحث والتنقيب في الروايات القديمة
والمصادر التاريخية، ونقلوا ثلاثة نصوص في هذا المجال:
الأول: أن يوسف بعد أن توفيت امه قضى فترة من طفولته عند عمته، وقد
كانت تكن له حبا عميقا، وحينما كبر يوسف وأراد يعقوب أن يفصله عنها، لم تر
عمته حيلة ووسيلة للاحتفاظ بيوسف إلا بحيلة نسائية وذلك بأن ربطت على
خاصرته حزاما أو شالا مما تركه آل إسحاق، ثم ادعت أن يوسف أراد سرقتها،
فلابد من أن يعاد إليها يوسف - وطبقا للدستور والسنة المتبعة عندهم - عبدا قنا
جزاء له.
الثاني: قيل إن امرأة من أرحام يوسف من امه يوسف كان لها صنم تعبده،
فأخذه يوسف وحطمه ورمى به على الطريق، فاتهموه بالسرقة.
الثالث: قيل أن يوسف كان يأخذ - أحيانا بعض الطعام من المائدة ويتصدق
به على الفقراء والمساكين، فعلم الإخوة بذلك واتهموه بالسرقة.
لكن مثل هذه الأعمال لا تعد سرقة، لأن النبيه يعرف أن ربط الحزام على
274

الشخص دون علمه بأنه ملك الغير. أو كسر الصنم ورميه على الطريق، أو أخذ
الطعام من المائدة التي بسطها أبوه ويعلم أنه يرضى بالتصدق ببعضها للفقراء
والمساكين، لا يعد سرقة ولا يجوز معاقبة من فعله بهذه التهمة.
وعندما لاحظ الإخوة أنفسهم محاصرين بين أمرين، فمن جهة وطبقا للسنة
والدستور المتعين عندهما لابد وأن يبقى أخوهم الصغير - بنيامين عند عزيز
مصر ويقوم بخدمته كسائر عبيده، ومن جهة أخرى فإنهم قد أعطوا لأبيهم
المواثيق والأيمان المغلظة على أن يحافظوا على أخيهم بنيامين ويعودوا به
سالما إليه، حينما وقعوا في هذه الحالة توجهوا إلى يوسف الذي كان مجهول
الهوية عندهم، مخاطبين إياه قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ
أحدنا مكانه لكي نرجعه إلى أبيه ونكون قد وفينا بالوعد الذي قطعناه له، فإنه
شيخ كبير ولا طاقة له بفراق ولده العزيز، فنرجو منك أن تترحم علينا وعلى أبيه
ف‍ إنا نراك من المحسنين.
أما يوسف فإنه قد واجه هذا الطلب بالإنكار الشديد و قال معاذ الله أن
نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده فإن العدل والإنصاف يقتضي أن يكون
المعاقب هو السارق، وليس بريئا رضي بأن يتحمل أوزار عمل غيره، ولو فعلنا
لأمسينا من الظالمين إنا إذا لظالمون.
والطريف أن يوسف لم ينسب لأخيه السرقة وإنما عبر عنه ب‍ من وجدنا
متاعنا عنده. وهذا برهان على السلوك الحسن والسيرة المستقيمة التي كان
ينتهجها يوسف في حياته.
* * *
275

2 الآيات
فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن
أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في
يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبى أو يحكم الله لي
وهو خير الحكمين (80) ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يأبانا إن
ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين (81)
وسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا
لصادقون (82)
2 التفسير
3 رجوع الإخوة إلى أبيهم خائبين:
حاول الإخوة أن يستنقذوا أخاهم بنيامين بشتى الطرق، إلا أنهم فشلوا في
ذلك، ورأوا أن جميع سبل النجاة قد سدت في وجوههم، فبعد أن فشلوا في تبرئة
أخيهم وبعد أن رفض العزيز استعباد أحدهم بدل بنيامين، استولى عليهم اليأس
وصمموا على الرجوع والعودة إلى كنعان لكي يخبروا أباهم، يقول القرآن واصفا
276

إياهم فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا أي إنهم بعد أن يئسوا من عزيز مصر أو
من إنقاذ أخيهم، ابتعدوا عن الآخرين واجتمعوا في جانب وبدأوا بالتشاور
والنجوى فيما بينهم.
قوله تعالى (خلصوا) بمعنى الخلوص، وهو كناية عن الابتعاد عن الآخرين
والاجتماع في جلسة خاصة، أما قوله تعالى " نجيا " فهو من مادة (المناجاة)
وأصله من (نجوة) بمعنى الربوة والأرض المرتفعة، فباعتبار أن الربوات منعزلة
عن أراضيها المجاورة، سميت الجلسات الخاصة البعيدة عن عيون الغرباء
والحديث في السر قياسا عليها ب‍ (النجوى) فإذا كلمة (النجوى) تطلق على
الحديث السري والخاص سواء كانت في جلسة خصوصية أو في محاورة
خاصة بين اثنين لا يتعدى سمعهما.
ذهب كثير من المفسرين إلى أن جملة خلصوا نجيا تعد من أفصح
العبارات في القرآن وأجملها حيث أن الله سبحانه وتعالى قد بين في كلمتين
أمورا كثيرة يحتاج بيانها إلى عدة جمل.
وفي ذلك الاجتماع الخاص خاطبهم الأخ الكبير قائلا: قال كبيرهم ألم
تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله بأن تردوا إليه بنيامين سالما،
فالآن بماذا تجيبونه؟ وقد سودنا صفحتنا في المرة السابقة بما عاملنا به أخانا
يوسف ومن قبل ما فرطتم في يوسف (1) فالآن والحالة هكذا - فإنني لا أغادر
أرض مصر وسوف أعتصم فيها فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم
الله وهو خير الحاكمين والظاهر أن قصده بحكم الله، أما الموت الذي هو حكم
إلهي، أي لا أبرح من هذه الأرض حتى أموت فيها، وأما أن يفتح الله سبحانه
وتعالى له سبيلا للنجاة، أو عذرا مقبولا عند أبيه.

1 - (فرطتم) من مادة تفريط وأصله من (فروط) على وزن شروط، ومعناه التقدم، ولكن حينما يكون من باب التفعيل
يأخذ معنى القصور في التقدم، وحينما يكون من باب الأفعال (إفراط) يأخذ معنى الإسراف في التقدم والتجاوز عنه.
277

ثم أمرهم الأخ الأكبر أن يرجعوا إلى أبيهم ويخبروه بما جرى عليهم
ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وهذه شهادة نشهدها بمقدار
علمنا عن الواقعة حيث سمعنا بفقد صواع الملك، ثم عثر عليه عند أخينا، وظهر
للجميع إنه قد سرقها وما شهدنا إلا بما علمنا ولكن نحن لا نعلم إلا ما شهدناه
بأعيننا وهذا غاية معرفتنا وما كنا للغيب حافظين.
وقد يرد احتمال في تفسير هذه الآية، فلعلهم بقولهم: وما كنا للغيب...
أرادوا أن يخاطبوا أباهم بأننا وإن قطعنا عند الأيمان والعهود المغلظة على أن
نرجع أخانا سالما، لكننا لا نعرف من الأمور إلا ظواهرها ومن الحقائق إلا
بعضها، فغيب الأمور عند الله سبحانه ولم نكن نتصور أن يسرق أخونا.
ثم أرادوا أن يزيلوا الشك والريبة عن قلب أبيهم فقالوا يمكنك أن تتحقق
وتسأل من المدينة التي كنا فيها وسأل القرية التي كنا فيها (1) ومن القافلة التي
سافرنا معها إلى مصر ورجعنا معها، حيث أن فيها أناسا يعرفونك وتعرفهم،
وبمقدورك أن تسألهم عن حقيقة الحال وواقعها والعير التي أقبلنا فيها (2)
وفي كل الأحوال كن على ثقة بأننا صادقون ولم نقص عليك سوى الحقيقة
والواقع وإنا لصادقون.
يستفاد من مجموع هذه الكلمات والحوار الذي دار بين الأولاد والأب أن
قضية سرقة بنيامين كانت قد شاعت في مصر، وأن جميع الناس علموا بأن أحد
أفراد العير والقافلة القادمة من كنعان حاول سرقة صواع الملك، لكن موظفي
الملك تمكنوا بيقظتهم من العثور عليها والقبض على سارقها، ولعل قول الاخوة

1 - (القرية) لا تطلق عند العرب على القرى والأرياف خاصة، بل يشمل جميع الأرياف والمدن والقرى، الصغيرة منها
والكبيرة - والمقصود منها في الآية هي مصر.
2 - " عير " كما يقول الراغب في المفردات - تعني الجماعة التي تصحب معها الإبل والدواب المحملة بالغذاء، أي يطلق
على المجموع " عير " فعلى هذا يكون السؤال منهم ممكنا لأن الكلمة تشمل الأشخاص أيضا ولا حاجة للتقدير، ولكن
بعض المفسرين ذهب إلى أن " العير " يطلق على الدواب فقط فلابد من التقدير كما هو الحال في " القرية ".
278

لأبيهم وسأل القرية... أي اسأل أرض مصر، كناية عن أن القضية شاعت
بحيث علم بها حتى أراضي مصر وحيطانها.
* * *
2 بحوث
3 1 - من هو أكبر الإخوة؟
ذهب بعض المفسرين إلى أنه كان روبين (روبيل) وقال آخرون: إنه
(شمعون) واحتمل البعض أن يكون أكبرهم هو (يهودا).
وحصل نقاش آخر بين المفسرين في أنه ما المقصود من الكبر، هل هو في
العمر أم في العقل؟ لكن المستفاد من ظاهر الآية أن المقصود به هو أكبر الإخوة
في العمر.
3 2 - الحكم وفق الدلائل الظاهرة:
ويستفاد من مدلول الآية الشريفة أنه يحق للقاضي والحاكم أن يحكم في
الواقعة المرفوعة إليه على ما يستفيده من القرائن والشواهد القطعية، وأن يقر
المتهم أو يشهد الشهود عنده، لأننا لاحظنا في قضية إخوة يوسف أنه بمجرد أن
عثر على الصاع في متاع بنيامين عد مذنبا وحكم عليه بالسرقة من دون شهادة
أو إقرار، لأننا حينما نتحرى عن القضية نرى أن كل شخص كان مسؤولا عن
حمل متاعه من الحبوب بنفسه، أو انه كان حاضرا على الأقل عند تحميل العمال
لمتاعه، ومن جهة أخرى لم يكن يتصور أحد أن هناك خطة في البين، وهؤلاء
الإخوة لم يعاديهم أحد في مصر، فجميع القرائن والشواهد تورث اليقين بأن هذا
الفعل (السرقة) قد صدر عمن وجد عنده الصاع.
وهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة عميقة في الفقه الإسلامي لتأثيره المهم
279

في قضايانا المعاصرة لأن عالم اليوم يعتمد عليه كثيرا في محاكماته، لكننا تركنا
هذا المبحث لأن مجاله كتاب (القضاء).
3 - يستفاد من الآيات السابقة أن إخوة يوسف كانت طبائعهم مختلفة، أما
الأخ الأكبر فإنه كان وفيا بميثاقه وحافظا لوعده الذي واعد به أباه، أما بقية
الإخوة فإنهم بعد أن شاهدوا فشل جميع محاولاتهم في إقناع العزيز، تراجعوا
عن موقفهم وعدوا أنفسهم معذورين، ومن الطبيعي إن ما قام به الأخ الأكبر كان
هو الأسلوب المجدي والصحيح، لأنه ببقائه في مصر والإعتصام بها وعلى مقربة
من بلاط العزيز وقصره كان باعثا للأمل في أن يترحم العزيز على الإخوة وعلى
أبيهم الشيخ الكبير، ويعفو عن هذا الغريب ولا يجازيه من أجل صاع سرقه ثم
عثر عليه العمال، فعلى هذا وأملا في استجداء عطف العزيز، بقي في مصر وبعث
بإخوته إلى أبيهم في كنعان ليبلغوه الخبر ويطلبوا منه أن يدلهم على الطريق
الصحيح لإنقاذ أخيهم.
* * *
280

2 الآيات
قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن
يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم (83) وتولى عنهم وقال
يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (84)
قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من
الهالكين (85) قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله
ما لا تعلمون (86)
2 التفسير
3 يعقوب والألطاف الإلهية:
وأخيرا غادروا مصر متجهين إلى كنعان في حين تخلف أخوهم الكبير
والصغير، ووصلوا إلى بيتهم منهوكي القوى وذهبوا لمقابلة أبيهم، وحينما رأى
الأب الحزن والألم مستوليا على وجوههم (خلافا للسفرة السابقة والتي كانوا
فيها في غاية الفرح) علم أنهم يحملون إليه أخبارا محزنة وخاصة حينما افتقد
بينهم بنيامين وأخاه الأكبر، وحينما أخبروه عن الواقعة بالتفصيل، استولى عليه
281

الغضب وقال مخاطبا إياهم بنفس العبارة التي خاطبهم بها حينما أرادوا أن
يشرحوا له خديعتهم مع يوسف قل بل سولت لكم أنفسكم أمرا أي إن
أهواءكم الشيطانية هي التي استولت عليكم وزينت لكم الأمر بهذه الصورة التي
أنتم تصفونه.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو أن يعقوب هل اكتفى في نسبة الكذب
واتباع الهوى لأولاده استنادا إلى ما فعلوه في المرة السابقة مع يوسف من سوء
الفعل والحنث باليمين والعهد، مع أن مثل هذا الظن والقول واتهام الآخرين لمجرد
تجربة سابقة بعيد عن سيرة عامة الناس فضلا عن يعقوب الذي هو نبي معصوم،
وعلى الخصوص إذا استند المدعي في دعواه على وثائق ومستندات تثبت
دعواه، كما أن طريق الفحص والتحقيق عن واقع الحال كان مفتوحا ليعقوب.
أو كان يعقوب يقصد بقوله: (بل سولت لكم... إلى آخر) الإشارة إلى أمور
أخرى، منها:
1 - لعله عتاب لأولاده لخضوعهم أمام الأمر الواقع وتسليمهم لحكم العزيز
بمجرد عثور الصاع عند أخيهم، مع أن العثور بمفرده لا يعد دليلا منطقيا على
السرقة.
2 - ولعله عتاب لأولاده لما بينوه للعزيز من أن عقوبة السارق عندهم هو
استعباده مع أن هذه السنة السائرة في أهل كنعان سنة باطلة ولا تعد قانونا
سماويا (هذا إن قلنا أن هذه السنة لم تكن مأخوذة من شريعة يعقوب كما ذهب
إليه بعض المفسرين).
3 - وأخيرا لعله عتاب لأولاده على استعجالهم في الخضوع لأحكام العزيز
وخلق المعاذير والمبررات والرجوع مستعجلين إلى كنعان دون الاقتداء بأخيهم
الكبير في البقاء بمصر برغم العهود والمواثيق المغلظة التي قطعوها مع أبيهم (1).

1 - احتمل بعض المفسرين أن هذه الآية لعلها إشارة إلى قصة يوسف، لكنه بعيد عن الواقع، لأن الآيات السابقة لا
تبحث عن قضية يوسف وفراقه عن أبويه.
282

لكن بعد هذا العتاب الملئ بالحزن والأسى رجع يعقوب إلى قرارة نفسه
وقال: فصبر جميل أي أنني سوف أمسك بزمام نفسي، ولا أسمح لها بأن
تطغى علي بل أصبر صبرا جميلا على أمل بأن الله سبحانه وتعالى سوف يعيد لي
أولادي (يوسف وبنيامين وأخوهم الأكبر) عسى الله أن يأتيني بهم جميعا فإنه
هو العالم بواقع الأمور والخبير بحوادث العالم ما مضى منها وما سوف يأتي، ولا
يفعل إلا عن حكمة وتدبير إنه هو العليم الحكيم.
ثم بعد هذه المحاورات بين يعقوب وأولاده، استولى عليه الحزن والألم،
وحينما رأى مكان بنيامين خاليا عادت ذكريات ولده العزيز يوسف إلى ذهنه،
وتذكر تلك الأيام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ذا الأخلاق الفاضلة
والصفات الحسنة والذكاء العالي فيشم رائحته الطيبة ويستعيد نشاطه، أما اليوم
فلم يبق منه أثر ولا عن حياته خبر، كما أن خليفته (بنيامين) أيضا قد ابتلي مثل
يوسف بحادث مؤلم وذهب إلى مصير مجهول لا تعرف عاقبته.
حينما تذكر يعقوب هذه الأمور ابتعد عن أولاده واستعبر ليوسف وتولى
عنهم وقال يا أسفي على يوسف أما الاخوة فإنهم حينما سمعوا باسم يوسف،
ظهر على جبينهم عرق الندامة وإزداد خجلهم واستولى عليهم الحزن لمصير
أخويهم بنيامين ويوسف، واشتد حزن يعقوب وبكاؤه على المصائب المتكررة
وفقد أعز أولاده وابيضت عيناه من الحزن لكن يعقوب كان - في جميع
الأحوال مسيطرا على حزنه ويخفف من آلامه ويكظم غيظه وأن لا يتفوه بما لا
يرضى به الله سبحان وتعالى فهو كظيم.
يفهم من هذه الآيات أن يعقوب لم يكن فاقدا لبصره، لكن المصائب الأخيرة
وشدة حزنه ودوام بكائه أفقده بصره، وكما أشرنا سابقا فإن هذا الحزن والألم
والعمى كان خارجا عن قدرته واختياره، فإذا لا يتنافى مع الصبر الجميل.
283

أما الإخوة فكانوا متألمين من جميع ما جرى لهم، فمن جهة كان عذاب
الوجدان لا يتركهم مما أحدثوه ليوسف، - وفي قضية بنيامين - شاهدوا أنفسهم
في وضع صعب وامتحان جديد، ومن جهة ثالثة كان يصعب عليهم أن يشاهدوا
أباهم يتجرع غصص المرارة والألم ويواصل بكاؤه الليل بالنهار، توجهوا إلى
أبيهم وخاطبوه معاتبين قالوا تالله تفتئوا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو
تكون من الهالكين (1) أي إنك تردد ذكر يوسف وتتأسف عليه حتى تتمرض
وتشرف على الهلاك وتموت.
لكن شيخ كنعان هذا النبي العظيم والمتيقظ الضمير رد عليهم بقوله: إنما
أشكوا بثي وحزني إلى الله (2) لا إليكم، أنتم الذين تخونون الوعد وتنكثون العهد
لأنني وأعلم من الله ما لا تعلمون فهو اللطيف الكريم الذي لا أطلب سواه.
* * *

1 - (حرض) على وزن مرض بمعنى الشئ الفاسد والمؤلم، والمقصود منه هنا هو المريض الذي ضعف جسمه وصار
مشرفا على الموت.
2 - (بث) بمعنى التفرقة والشئ الذي لا يمكن اخفاؤه، والمقصود منه هنا هو الألم والحزن الظاهر الذي لا يخفى على
أحد.
284

2 الآيات
يبنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من
روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)
فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا
ببضعة مزجة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزى
المتصدقين (88) قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم
جاهلون (89) قالوا أإنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا
أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع
أجر المحسنين (90) قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا
لخاطئين (91) قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو
أرحم الرحمين (92) اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبى
يأت بصيرا واتوني بأهلكم أجمعين (93)
2 التفسير
3 اليأس علامة الكفر!
كان القحط والغلاء وشحة الطعام يشتد يوما بعد آخر في مصر وما حولها
285

ومنها كنعان، ومرة أخرى أمر يعقوب أولاده بأن يتجهوا صوب مصر للحصول
على الطعام، لكنه هذه المرة طلب منهم بالدرجة الأولى أن يبحثوا عن يوسف
وأخيه بنيامين، حيث قال لهم: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه.
لكن بما أن أولاد يعقوب كانوا مطمئنين إلى هلاك يوسف وعدم بقاءه،
تعجبوا من توصية أبيهم وتأكيده على ذلك، لكن يعقوب نهاهم عن اليأس
والقنوط ووصاهم بالاعتماد على الله سبحانه والإتكال عليه بقوله: ولا تيأسوا
من روح الله فإنه القادر على حل الصعاب و إنه لا ييأس من روح الله إلا
القوم الكافرون.
(تحسس) أصله من (حس) بمعنى البحث عن الشئ المفقود بأحد الحواس،
وهنا بحث بين اللغويين والمفسرين في الفرق بينه وبين (تجسس) وقد نقل عن
ابن عباس أن التحسس هو البحث عن الخير، والتجسس هو البحث عن الشر،
لكن ذهب آخرون إلى أن التحسس هو السعي في معرفة سيرة الأشخاص
والأقوام دون التجسس الذي هو البحث لمعرفة العيوب.
وهنا رأي ثالث في أنهما متحدان في المعنى، إلا أن ملاحظة الحديث الوارد
بقوله: " لا تجسسوا ولا تحسسوا " يثبت لنا أنهما مختلفان وأن ما ذهب إليه ابن
عباس في الفرق بينهما هو الأوفق بسياق الآيات المذكورة، ولعل المقصود منهما
في هذا الحديث الشريف: لا تبحثوا عن أمور الناس وقضاياهم سواء كانت شرا
أم خيرا.
قوله تعالى " روح " بمعنى الرحمة والراحة والفرج والخلاص من الشدة.
يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته (الروح والروح في الأصل واحد
286

وجعل الروح اسما للنفس... والروح التنفس وقد أراح الإنسان إذا تنفس...).
وأخيرا جمع الاخوة متاعهم وتوجهوا صوب مصر، وهذه هي المرة الثالثة
التي يدخلون فيها أرض مصر، هذه الأرض التي سببت لهم المشاكل وجرت
عليهم الويلات.
لكن في هذه السفرة - خلافا للسفرتين السابقتين - كانوا يشعرون بشئ من
الخجل يعذب ضمائرهم فإن سمعتهم عند أهل مصر أو العزيز ملوثة للوصمة التي
لصقت بهم في المرة السابقة، ولعلهم كانوا يرونهم بمثابة (مجموعة من لصوص
كنعان) الذين جاؤوا للسرقة. ومن جهة أخرى لم يحملوا معهم هذه المرة من
المتاع ما يستحق أن يعاوضوه بالطعام والحبوب، إضافة إلى هذه الأمور فإن فقد
أخيهم بنيامين والآلام التي ألمت بأبيهم كانت تزيد من قلقهم وبتعبير آخر فإن
السكين قد وصلت إلى العظم، كما يقول المثل إلا أن الذي كان يبعث في نفوسهم
الأمل ويعطيهم القدرة على تحمل الصعاب هو وصية أبيهم لا تيأسوا من روح
الله.
وأخيرا استطاعوا أن يقابلوا يوسف، فخاطبوه - وهم في غاية الشدة والألم -
بقولهم: فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر أي أن القحط
والغلاء والشدة قد ألمت بنا وبعائلتنا ولم نحمل معنا من كنعان إلا متاعا رخيصا
وجئنا ببضاعة مزجاة (1) لا قيمة لها ولكن - في كل الأحوال - نعتمد على ما
تبذل لنا من كرمك ونأمل في معروفك فاوف لنا الكيل بمنك الكريم
وصدقاتك الوافرة وتصدق علينا ولا تطلب منا الأجر، بل اطلبه من الله
سبحانه وتعالى حيث إن الله يجزي المتصدقين.

1 - (البضاعة) أصلها (البضع) على وزن جزء، وهي بمعنى القطعة من اللحم المقطوعة من الجسم، كما يطلق على جزء
من المال الذي يقتطع منه ثمنا لشئ (مزجاة) من (الازجاء) بمعنى الدفع، وبما أن الشئ التافه والقليل الثمن يدفعه
الآخذ عن نفسه، اطلق عليه (مزجاة).
287

والطريف أن إخوة يوسف لم ينفذوا وصية أبيهم في البحث عن إخوتهم أولا،
بل حاولوا الحصول على الطعام، ولأجل ذلك قابلوا العزيز وطلبوا منه المؤن
والحبوب، ولعل السبب في ذلك ضعف أملهم في العثور على يوسف، أو لعلهم
أرادوا أن يظهروا أنفسهم أمام العزيز والمصريين وكأنهم أناس جاؤوا لشراء
الطعام والحبوب فقط، فمن ثم يطرحوا مشكلتهم أمام العزيز ويطلبوا منه
المساعدة، فعند ذاك يكون وقع الطلب أقوى واحتمال تنفيذه أكثر.
قال بعض المفسرين: إن مقصود الإخوة من قولهم: تصدق علينا كان
طلب الإفراج عن أخيهم لأنهم لم يطلبوا من العزيز الطعام والحبوب مجانا دون
عوض حتى يطلبوا منه التصدق عليهم، فإنهم يدفعون ثمنه.
ونقرأ في روايات وردت في هذا المقام، أن الإخوة كانوا يحملون معهم
رسالة من أبيهم إلى عزيز مصر، حيث مدح يعقوب في تلك الرسالة عزيز مصر
وأكبر عدالته وصلاحه وشكره على ما بذله له ولعائلته من الطعام والحبوب، ثم
عرف نفسه والأنبياء من أهل بيته وأخبره برزاياه وما تحمله من المصائب
والمصاعب من فقده أعز أولاده وأحبهم إلى نفسه يوسف وأخيه بنيامين، وما
أصابهم من القحط والغلاء، وفي ختام الرسالة طلب من العزيز أن يمن عليه
ويطلق سراح ولده بنيامين، وذكره أن بنيامين سليل بيت النبوة والرسالة وأنه لا
يتلوث بالسرقة وغيرها من الدناءات والمعاصي.
وحينما قدم الأولاد رسالة أبيهم إلى العزيز شاهدوا أنه فض الرسالة باحترام
وقبلها ووضعها على عينيه وبدأ يبكي بحيث أن الدموع بلت ثيابه (1) (وهذا ما
حير الإخوة، وبدأوا يفكرون بعلاقة العزيز مع أبيهم بحيث جعله يبكي شوقا
وشغفا حينما فتحها، ولعل فعل العزيز أثار عندهم احتمال أن يكون يوسف هو
العزيز، ولعل هذه الرسالة أثارت عواطف العزيز وشعوره بحيث لم يطق صبرا

1 - مجمع البيان، ذيل الآية الشريفة.
288

وعجز عن أن يخفي نفسه بغطاء السلطة وأجبره على كشف نفسه لإخوته).
وفي تلك اللحظة، وبعد أن مضت أيام الامتحان الصعب - وكان قد اشتدت
محنة الفراق على يوسف وظهرت عليه آثار الكآبة والهم، أراد أن يعرف نفسه
لإخوته فابتدرهم بقوله: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون.
لاحظوا عظمة يوسف وعلو نفسه حيث يسألهم أولا عن ذنبهم لكن بهذه
الكناية اللطيفة يقول: ما فعلتم وثانيا يبين لهم طريقة الاعتذار وأن ما ارتكبوه
في حق إخوتهم إنما صدر عن جهلهم وغرورهم، وأنه قد مضى أيام الصبى
والطفولة وهم الآن في دور الكمال والعقل!
كما أنه يفهم من الآية الشريفة أن يوسف لم يكن وحده الذي ابتلي بإخوته
ومعاملتهم السيئة، بل إن بنيامين أيضا كان يقاسي منهم ألوان العذاب، ولعله قد
شرح لأخيه يوسف في الفترة التي قضاها في مصر، جانبا مما عاناه تحت أيديهم،
ويستفاد من بعض الروايات أن يوسف حينما استفسر عما فعلوه معه ومع أخيه
ختم استفساره بابتسامة عريضة ليدفع عن أذهانهم احتمال أنه سوف ينتقم منهم
فظهرت لإخوته أسنانه الجميلة ولاحظوا وتذكروا الشبه بينه وبين أسنان أخيهم
يوسف (1).
أما هم، فإنهم حينما لاحظوا هذه الأمور مجتمعة، وشاهدوا أن العزيز
يتحدث معهم ويستفسرهم عما فعلوه بيوسف، تلك الأعمال التي لم يكن يعلمها
أحد غيرهم إلا يوسف.
ومن جهة أخرى أدهشهم يوسف وما أصابه من الوجد والهياج حينما استلم
كتاب يعقوب، وأحسوا بعلاقة وثيقة بينه وبين صاحب الرسالة.
وثالثا كلما أمعنوا النظر في وجه العزيز ودققوا في ملامحه، لاحظوا الشبه
الكبير بينه وبين أخيهم يوسف.. لكنهم في نفس الوقت لم يدر بخلدهم ولم

1 - مجمع البيان في ذيل الآية الشريفة.
289

يتصوروا أنه يمكن أن يكون أخوهم يوسف قد ارتقى منصب الوزارة وصار
عزيزا لمصر، أين يوسف وأين الوزارة والعزة؟! لكنهم تجرأوا أخيرا وسألوه
مستفسرين منه قالوا أإنك لأنت يوسف.
كانت هذه الدقائق أصعب اللحظات على الإخوة، حيث لم يكونوا يعرفون
محتوى إجابة العزيز! وأنه هل يرفع الستار ويظهر لهم حقيقته، أم أنه سوف يعتقد
بأنهم مجانين حيث ظنوا هذا الظن.
كانت اللحظات تمر بسرعة والانتظار الطويل يثقل على قلوبهم فيزيد في
قلقهم، لكن يوسف لم يدع اخوته يطول بهم الانتظار ورفع الحجاب بينه وبينهم
وأظهر لهم حقيقة نفسه و قال أنا يوسف وهذا أخي لكن لكي يشكر الله
سبحانه وتعالى على ما أنعمه من جميع هذه المواهب والنعم، ولكي يعلم إخوته
درسا آخر من دروس المعرفة قال: إنه قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر
فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
لا يعرف أحد كيف مرت هذه اللحظات الحساسة على الإخوة كما لا يعرف
أحد مدى انفعالهم وما خامرهم من السرور والفرح وكيف تعانقوا واحتضنوا
أخاهم والدموع الغزيرة التي ذرفوها وذلك حينما التقوا بأخيهم وبعد عشرات
السنين من الفراق، لكنهم في كل الأحوال كانوا لا يطيقون النظر إلى وجه أخيهم
يوسف لعلمهم بالذنب والجريمة التي اقترفوها في حقه، فترقبوا إجابة يوسف
وأنه هل يغفر لهم إساءتهم إليه ويعفو عن جريمتهم أم لا؟ فابتدأوا مستفسرين
بقولهم: قالوا تالله لقد آثرك الله علينا (1) أي أن الله سبحانه وتعالى قد فضلك
علينا بالعلم والحلم والحكومة وإن كنا لخاطئين (2).

1 - (آثرك) أصله من (الإيثار) وفي الأصل بمعنى البحث عن أثر الشئ، وبما أنه يقال للفضل والخير: أثر، فقد استعملت
هذه الكلمة للدلالة على الفضيلة والعلو، فبناء على هذا يكون معنى قوله آثرك الله علينا أي أن الله سبحانه وتعالى قد
أكرمك وفضلك علينا لما قمت به من الأعمال الخيرة.
2 - يرى الفخر الرازي في تفسيره أن الفرق بين الخاطئ والمخطئ هو أن الخاطئ يقال لمن تعمد الخطأ، والمخطئ لمن
أخطأ عن سهو.
290

أما يوسف الذي كانت نفسه تأبى أن يرى إخوته في حال الخجل والندامة -
خاصة في هذه اللحظات الحساسة وبعد انتصاره عليهم - أو لعله أراد أن يدفع
عن أذهانهم ما قد يتبادر إليها من احتمال أن ينتقم منهم، فخاطبهم بقوله: قال لا
تثريب عليكم اليوم (1) أي أن العتاب والعقاب مرفوع عنكم اليوم، اطمئنوا
وكونوا مرتاحي الضمير ولا تجعلوا للآلام والمصائب السابقة منفذا إلى نفوسكم،
ثم لكي يبين لهم أنه ليس وحده الذي أسقط حقه وعفا عنهم، بل إن الله سبحانه
وتعالى أيضا عفا عنهم حينما أظهروا الندامة والخجل قال لهم: يغفر الله لكم
وهو أرحم الراحمين أي إن الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لأنه
أرحم الراحمين.
وهذا دليل على علو قدر يوسف وغاية فضله حيث إنه لم يعف عن سيئات
إخوته فحسب، بل رفض حتى أن يوبخ ويعاتب إخوته - فضلا عن أن يجازيهم
ويعاقبهم - إضافة إلى هذا فإنه طمأنهم على أن الله سبحانه وتعالى رحيم غفور
وأنه تعالى سوف يعفو عن سيئاتهم، واستدل لهم على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى
هو أرحم الراحمين.
وهنا تذكر الإخوة مصيبة أخرى قد ألمت بعائلتهم والشاهد الحي على ما
اقترفوه في حق أخيهم ألا وهو أبوهم حيث فقد الشيخ الكبير بصره حزنا وفراقا
على يوسف، أما يوسف فإنه قد وجد لهذه المشكلة حلا حيث خاطبهم بقوله:
إذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ثم طلب منهم أن
يجمعوا العائلة ويأتوا بهم جميعا وأتوني بأهلكم أجمعين.
* * *

1 - " تثريب " أصله من مادة (ثرب) وهو شحمة رقيقة تغطي المعدة والأمعاء، والتثريب بمعنى رفع هذا الغطاء، ثم
بمعنى العتاب والملامة فكان المعاقب قد رفع بعتابه غطاء الذنب عن وجه المذنب (راجع القاموس ومفردات الراغب
وتفسير الرازي وروح المعاني).
291

2 بحوث
3 1 - من الذي حمل قميص يوسف؟
ورد في بعض الروايات أن يوسف قال: إن الذي يحمل قميصي المشافي إلى
أبي لابد وأن يكون هو نفسه الذي حمل قميصي الملطخ بالدماء إليه، لكي يدخل
السرور على قلبه بعد أن ملأ قلبه حزنا وألما من قبل! فأعطى ل‍ (يهودا) قميصه
بعد أن اعترف له أنه هو الذي حمل قميصه الملطخ بالدماء إلى أبيه وأخبره بأن
الذئب قد أكل يوسف، وهذا التصرف من يوسف إن لم يدل على شئ فإنه يدل
على أنه برغم أعماله الكثيرة ومتاعبه اليومية، فإنه لم يغفل عن صغائر الأمور
المتعلقة بالسلوك الأخلاقي (1).
3 2 - يوسف وجلالة شأنه:
ورد في بعض الروايات أن إخوة يوسف - بعد هذه القضايا - كانوا يحسون
بالخجل الشديد فأرسلوا إليه من يقول له: يا يوسف إنك تستضيفنا كل يوم صباحا
ومساء - على مائدتك فنأكل من زادك وهذا ما يزيد في خجلنا حيث لا نطيق
النظر إلى وجهك بعد أن نتذكر اساءتنا إليك، فأجابهم بكلمة لطيفة ليبعد عنهم
الخجل بأن الفضل يعود إليهم، وأن جلوسهم على مائدته لهو مكرمة منهم وإن
الشعب المصري كانوا ينظرون إلي نظرة الحر إلى العبد ويقولون فيما بينهم
(سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ!!) أي انظروا إلى فعل الله سبحانه
وتعالى بهذا العبد فإنه قد بيع في السوق بعشرين درهما وهو الآن وصل إلى هذه
المرتبة السامية، لكنهم الآن ينظرون إلى مائدتي وأنتم جلوس حولها، فيعرفون
قدري وتثبت لهم منزلتي وإنني لست بعبد ذليل بيع بعشرين درهما، وإنما أنا
سليل بيت النبوة والرسالة ومن أولاد نبي الله إبراهيم الخليل، وهذا ما أباهي

1 - مجمع البيان ذيل الآية الشريفة.
292

وأفتخر به أمام الآخرين (1).
3 3 - الشكر على الانتصار:
إن الآيات السابقة تعلمنا بجلاء ووضوح درسا من دروس الأخلاق
الإسلامية، وهو أنه بعد الانتصار على العدو وكسر شوكته لابد أن لا ننسى العفو
والرحمة، وأن لا نعامله بقساوة، فإن إخوة يوسف قد عاملوه أشد المعاملة
أشرفت به على نهايته وأوصلته إلى أبواب الموت، ولو لم تشمله عناية الله
سبحانه وتعالى، لعجز عن الخلاص مما أوقعوه فيه، هذا إضافة إلى المصائب
والآلام التي تحملها أبوه، لكنهم الآن جميعا واقفون أمام يوسف وهو السيد
المطاع وبيده القوة والقدرة، لكنه عاملهم بلطف وإحسان.
كما أنه يفهم من خلال حديثه معهم أنه لم يحقد عليهم قط، بل الذي يقلقه هو
تذكر الإخوة ماضيهم الأسود ويحسوا بالخجل! ولذا حاول جاهدا أن يريحهم
من هذا القلق ويزيح هذا الكابوس عن صدورهم، بل أكثر من هذا فإنه حاول أن
يفهمهم أن لهم عليه فضلا في مجيئهم إلى مصر والتعرف عليهم، فإنهم كانوا
السبب في كشف حقيقته أمام الشعب في هذا البلد، حيث عرف أهل مصر أن
عزيزهم هو سليل بيت النبوة والرسالة وليس عبدا بيع في السوق بدراهم
معدودات، ومن هنا فإن يوسف كان يرى لهم في ذلك فضلا ومنة!
ومن حسن الصدف أننا نرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمتحن بمثل هذه المواقف
الحرجة، فمثلا حينما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة وأذل المشركين وهزمهم وكسر
أصنامهم وداس شوكتهم وكبرياءهم، جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (كما رواه ابن عباس)
إلى جوار الكعبة وأخذ بحلقة بابها وكان المشركون قد التجوا إليها هم ينتظرون
حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم، وقال كلمته المشهورة: " الحمد لله الذي صدق وعده

1 - تفسير فخر الرازي، ج 18، ص 206.
293

ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ثم توجه إلى قريش وخاطبهم بقوله: " ماذا
تظنون يا معشر قريش؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت! قال: وأنا
أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم ".
أي أن اليوم ليس يوم ملامة وانتقام وإظهار الحقد والضغينة " اذهبوا فأنتم
الطلقاء ".
فقال عمر بن الخطاب: ففضت عرقا من الحياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك إني
قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكة: اليوم ننتقم منكم ونفعل (1).
كما أنه وردت في كثير من الروايات الإسلامية أن " زكاة النصر هو العفو ".
يقول علي (عليه السلام): " إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة
عليه " (2).
* * *

1 - تفسير القرطبي، ج 9، ص 258.
2 - نهج البلاغة - الكلمات القصار - جملة 11.
294

2 الآيات
ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن
تفندون (94) قالوا تالله إنك لفى ضللك القديم (95) فلما أن جاء
البشير ألقه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني
أعلم من الله ما لا تعلمون (96) قالوا يأبانا استغفر لنا ذنوبنا
إنا كنا خاطئين (97) قال سوف أستغفر لكم ربى إنه هو الغفور
الرحيم (98)
2 التفسير
3 وأخيرا شملتهم رعاية الله ولطفه:
أما أولاد يعقوب فإنهم بعد أن واجهوا يوسف وجرى لهم ما جرى حملوا
معهم قميص يوسف فرحين ومستبشرين وتوجهوا مع القوافل القادمة من مصر،
وفيما كان الإخوة يقضون أسعد لحظات حياتهم، كان هناك بيت في بلاد الشام
وأرض كنعان - ألا وهو بيت يعقوب الطاعن في السن حيث كان يقضي هو
وعائلته أحرج اللحظات وأشدها حزنا وبؤسا.
295

لكن - مقارنا مع حركة القافلة من مصر - حدث في بيت يعقوب حادث
غريب بحيث أذهل الجميع وصار مثارا للعجب والحيرة، حيث نشط يعقوب
وتحرك من مكانه وتحدث كالمطمئن والواثق بكلامه قال: لو لم تتحدثوا عني
بسوء ولم تنسبوا كلامي إلى السفاهة والجهل والكذب لقلت لكم: إني لأجد ريح
يوسف فإني أحس بأن أيام المحنة والآلام سوف تنصرم في القريب العاجل،
وأنه قد حان وقت النصر واللقاء مع الحبيب، وأرى أن آل يعقوب قد نزعوا ثوب
العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور - لكن لا تصدقون كلامي ولما
فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون (1).
والمستفاد من قوله تعالى (فصلت) أنه بمجرد أن تحركت القافلة من مصر
أحس يعقوب بالأمر وتغيرت أحواله.
أما الذين كانوا مع يعقوب - وهم عادة أحفاده وأزواج أولاده وغيرهم من
الأهل والعشيرة - فقد استولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين:
قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم أليس هذا برهانا واضحا على ضلالك
حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنك لا زلت تزعم أنه حي، وأخيرا
تقول: إنك تشم رائحته من مصر؟! أين مصر وأين الشام وكنعان؟! وهذا دليل على
بعدك عن عالم الواقع وانغماسك في الأوهام والخيالات لكنك قد ضللت منذ مدة
طويلة، ألم تقل لأولادك قبل فترة اذهبوا إلى مصر وتحسسوا عن أحوال يوسف!
يظهر من هذه الآية الشريفة أن المقصود ب‍ (الضلال) ليس الانحراف في
العقيدة، بل الانحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلقة به، لكن
يستفاد من هذه التعابير أنهم كانوا يتعاملون مع هذا النبي الكبير والشيخ المتيقظ

1 - (تفندون) من مادة (الفند) على زنة (الرمد) ومعناها العجز الفكري والسفاهة، ومضى بعض اللغويين إلى أن معناها
الكذب ومعناها في الأصل الفساد. فبناء على ذلك فإن جملة (لولا أن تفندون) معناها إذا لم تتهموني بالسفاهة وفساد
العقل.
296

الضمير بخشونة وقساوة بالغين بحيث كانوا يقولون له مرة: إن أبانا في ضلال
مبين وهنا قالوا له: إنك لفي ضلالك القديم لكنهم كانوا غافلين عن الحقيقة
التي كان يتحلى بها يعقوب وعن صفاء قلبه، ويتصورون أن قلب يعقوب كقلوبهم
القاسية المظلمة وأنه لا يطلع على حقائق الأمور ماضيها ومستقبلها.
وتمضي الليالي والأيام ويعقوب في حالة الانتظار... الانتظار القاسي الذي
يستبطن السرور والفرح والهدوء والاطمئنان، إلا أن المحيطين به كانوا مشغولين
عن هذه الأمور لاعتقادهم بأن قضية يوسف مختومة وإلى الأبد.
وبعد عدة أيام من الانتظار - والتي لا يعلم إلا الله كيف قضاها يعقوب - ارتفع
صوت المنادي معلنا عن وصول قافلة كنعان من مصر، لكن في هذه المرة -
وخلافا للمرات السابقة - دخل أولاد يعقوب إلى المدينة فرحين مستبشرين،
وتوجهوا مسرعين إلى بيت أبيهم، وقد سبقهم ال‍ (بشير) الذي بشر يعقوب بحياة
يوسف وألقى قميص يوسف على وجهه.
أما يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره ولم يكن قادرا على رؤية القميص
فبمجرد أن أحس بالرائحة المنبعثة من القميص شعر في تلك اللحظة الذهبية بأن
نورا قد شع في جميع ذرات وجوده وأن السماء والأرض مسروران ونسيم
الرحمة يدغدغ فؤاده ويزيل عنه الحزن والألم، شاهد الجدران وكأنها تضحك
معه، وأحس يعقوب بتغير حالته، وفجأة رأى النور في عينيه وأحس بأنهما قد
فتحتا ومرة أخرى رأى جمال العالم، والقرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله:
فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا.
هذه الحالة التي حصلت ليعقوب أسالت دموع الفرح من عيون الإخوة
والأهل، وعند ذاك خاطبهم بقوله: ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا
تعلمون.
هذه المعجزة الغريبة، جعلت الأولاد يعودون إلى أنفسهم ويتساءلون عنها
297

ويفكرون في ماضيهم الأسود الملئ بالأخطاء والذنوب، وما اعتورهم من
الحسد وغيره من الصفات الرذيلة البعيدة عن الإنسانية، لكن ما أجمل التوبة
والعودة إلى طريق الصواب حينما ينكشف للإنسان خطأ المسيرة التي سار فيها..
وما أحلى تلك اللحظات التي يحاول المذنب أن يطلب العفو ممن جنى عليه،
ليطهر به نفسه ويبعدها عن جادة الخطأ والانحراف، وهذا ما قام به الإخوة حيث
وقعوا نادمين على يد أبيهم يقبلونها ويطلبون منه العفو والاستغفار قالوا يا أبانا
استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين.
أما يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات، فقد
أجابهم دون أن يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقه وحق أخيهم..
أجابهم بقوله: سوف استغفر لكم ربي وأملي معقود بأن يغفر الله سبحانه
وتعالى ذنوبكم إنه هو الغفور الرحيم.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - كيف أحس يعقوب برائحة قميص يوسف؟!
هذا سؤال أثاره كثير من المفسرين، واعتبروه معجزة خارقة للعادة من قبل
يعقوب أو يوسف. إلا أنه - مع الأخذ بنظر الاعتبار سكوت القرآن عن هذا الأمر -
ولم يتناوله على أنه أمر إعجازي أو غير إعجازي فمن إلهين أن نجد له توجيها
علميا أيضا. إذ أن حقيقة " التليبائي " أو انتقال الفكر من النقاط أو الأماكن البعيدة
تعد مسألة علمية قطعية مسلما بها... وأنها تحدث عند من تكون لديهم علاقة
قريبة تربط بعضهم ببعض، أو تكون لديهم قدرة روحية عالية.
ولعل كثيرا منا يواجه مثل هذه المسألة في حياتنا اليومية، وذلك أن يشعر
شخص " من أب، أو أم، أو أخ " مثلا بالكآبة وانقباض النفس دون سبب، ثم لا
298

يمضي وقت - أو فترة - حتى يبلغه خبر بأن أخاه أو ولده قد حدث له حادث ما
في نقطة بعيدة عنه.
فالعلماء يوجهون هذا الإحساس على أنه جرى عن طريق انتقال الفكر.
وما ورد في قصة يعقوب لعله من هذا القبيل أيضا، فعلاقته الشديدة بيوسف
وعظمة روحه، كل ذلك كان سببا لأن يشعر بالحالة الحاصلة للاخوة نتيجة حمل
قميص يوسف من مسافة بعيدة.
ومن الممكن أن يتعلق هذا الأمر بمسألة سعة دائرة علم الأنبياء أيضا.
وقد وردت إشارة طريفة - في بعض الروايات - إلى مسألة انتقال الفكر،
وهي أن بعضهم سأل الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السلام): فقال: جعلت فداك، ربما حزنت
من دون مصيبة تصيبني أو أمر ينزل بي، حتى يعرف ذلك أهلي في وجهي
وصديقي.
فقال (عليه السلام): " نعم يا جابر، إن الله خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى فيهم من
ريح روحه، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وامه، فإذا أصاب روحا من تلك
الأرواح في بلد من البلدان حزن حزنت هذه لأنها منها " (1).
ويستفاد من بعض الروايات أيضا أن هذا القميص لم يكن قميصا مألوفا، بل
كان ثوبا من ثياب الجنة، وقد خلفه إبراهيم الخليل (عليه السلام) في آل يعقوب وأسرته
ليكون ذكرى له، وأن رجلا كيعقوب (عليه السلام) الذي كانت لديه شامة من " الجنة "
أحس برائحة هذا الثوب الذي هو من ثياب الجنة من بعيد (2).
3 2 - اختلاف حالات الأنبياء:
الإشكال المعروف الآخر هنا هو ما أثاره بعضهم في شأن يعقوب من سؤال

1 - أصول الكافي، ج 2، ص 123 " والسائل هو جابر الجعفي ".
2 - لمزيد الاطلاع على هذه الروايات يراجع المجلد الثاني من تفسير نور الثقلين، ص 464.
299

وهو:
كيف يمكن أن يكون هذا النبي العظيم قد أحس بريح قميص يوسف من
مسافة قدرها بعضهم بثمانين فرسخا، وقال بعضهم: من مسافة عشرة أيام، مع أنه
لم يطلع على الحوادث القريبة منه التي مرت على يوسف عندما القي في الجب
في أرض كنعان؟
والجواب على هذا السؤال - مع الالتفات إلى ما ذكرناه آنفا في شأن علم
الغيب، وحدود علم الأنبياء والأئمة - يسير لا غبار عليه، لأن علمهم بالأمور
الغيبية يستند إلى علم الله وإرادته، وما يشاؤه الله لهم من العلم " أو عدمه " حتى
ولو كان ذلك في أقرب نقطة من نقاط العالم.
فيمكن تشبيههم من هذا الوجه بالقافلة التي تسير في ليل مظلم في صحراء
تغشيها الغيوم وبينا هي على هذه الحال وإذا السماء تومض بالبرق اللامع فتضئ
الصحراء إلى منتهى أطرافها، فترى القافلة بام أعينها كل شئ أمامها، إلا أن البرق
ينطفئ ثانية ويستوعب الظلام كل مكان فلا يرى أحد شيئا.
ولعل الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في شأن علم الإمام (عليه السلام) إشارة
إلى هذا المعنى، إذ جاء عنه (عليه السلام) أنه قال: " جعل الله بينه وبين الإمام عمودا من نور،
ينظر الله به إلى الإمام، وينظر الإمام به إليه، فإذا أراد علم شئ نظر في ذلك النور
فعرفه " (1).
ومع الالتفات إلى هذه الحقيقة، فلا مجال للتعجب بأن تقتضي مشيئة الله
سبحانه - لابتلاء يعقوب وتمحيصه أن لا يعرف يوما شيئا عن الحوادث في
كنعان وهي تجري قريبا منه، وأن يحس برائحة قميص ولده يوسف وهو في

1 - شرح نهج البلاغة، للخوئي، ج 5، ص 200.
300

مصر في يوم آخر عندما قدر له أن تنتهي محنته وبلواه.
3 3 - كيف رد على يعقوب بصره؟!
احتمل بعض المفسرين أن يعقوب (عليه السلام) لم يفقد بصره بصورة كلية، وإنما
ضعف بصره، وعند حصول مقدمات الوصال تبدل تبدلا بحيث عاد ذلك البصر
إلى حالته الطبيعية الأولى، إلا أن ظاهر آيات القرآن يدل على أنه فقد بصره تماما
وابيضت عيناه من الحزن، وعلى ذلك فإن بصره عاد إليه عن طريق الإعجاز،
حيث يقول القرآن الكريم: فارتد بصيرا.
3 4 - الوعد بالاستغفار:
نقرأ في الآيات - محل البحث - أن يوسف (عليه السلام) قال لإخوته عندما أظهروا له
ندامتهم: يغفر الله لكم إلا أن يعقوب (عليه السلام) قال لهم عندما اعترفوا عنده بالذنب
وأظهروا الندامة: سوف استغفر لكم وكان هدفه - كما تقول الروايات - أن
يؤخر استجابة طلبهم الاستغفار إلى السحر (من ليلة الجمعة) الذي هو خير وقت
لاستجابة الدعاء وقبول التوبة (1).
والآن ينقدح هذا السؤال وهو: كيف أجابهم يوسف بصورة قطعية، وأوكل
أبوهم ذلك إلى المستقبل؟!
ولعل هذا الاختلاف ناشئ عن أن يوسف (عليه السلام) كان يتحدث عن " إمكان
المغفرة " وأن هذا الذنب من الممكن أن يعفو الله عنه، ويعقوب كان يتحدث عن
" فعلية المغفرة " وأنه ما الذي ينبغي أن يفعل حتى تتحقق التوبة والمغفرة
" فلاحظوا بدقة ".

1 - نقرأ في تفسير القرطبي أن هدفه كان الاستغفار لهم في ليلة الجمعة الموافقة ليوم عاشوراء " لمزيد الاطلاع يراجع
تفسير القرطبي، ج 6، ص 3491 ".
301

3 5 - التوسل جائز:
يستفاد من الآيات - آنفة الذكر - أن طلب الاستغفار من الآخرين غير مناف
للتوحيد، بل هو سبيل إلى الوصول إلى لطف الله سبحانه، وإلا فكيف كان يمكن
ليعقوب أن يستجيب لطلب أبنائه في أن يستغفر لهم وأن يجيبهم بالإيجاب على
توسلهم به.
وهذا الأمر يدل على أن التوسل بأولياء الله جائز على الإجمال،
والأشخاص الذين يرون ذلك مخالفا لأصل التوحيد غافلون عن نصوص
القرآن، أو أن التعصب المقيت يحجب أبصارهم عن تلك النصوص.
3 6 - نهاية الليلة السوداء
إن الدرس الكبير الذي نستلهمه من الآيات المتقدمة هو أنه مهما كانت
المشاكل والحوادث صعبة وعسيرة، ومهما كانت الأسباب والعلل الظاهرية غير
تامة ومحدودة، ومهما كان النصر أو الفرج بطيئا (أو غير متحقق فعلا) فإن أيا من
أولئك لا يمنع من الرجاء والأمل بلطف الله، فالله الذي أعاد البصر برائحة القميص
ونقل رائحة ذلك القميص من مسافة بعيدة، ورد العزيز المفتقد بعد سنين طويلة،
قادر على أن يضمد القلوب المجروحة من الفراق، وأن يشفي آلام النفوس.
أجل إننا نجد الدرس التوحيدي الكبير ينطوي في هذا القصص والتاريخ،
وهو أنه لا شئ على الله بعزيز ولا عسير، بل يهون كل شئ بأمره وإرادته.
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
* * *
302

2 الآيات
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا
مصر إن شاء الله آمنين (99) ورفع أبويه على العرش وخروا
له سجدا وقال يأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها
ربى حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من
البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربى لطيف
لما يشاء إنه هو العليم الحكيم (100) رب قد آتيتني من الملك
وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض
أنت ولى في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني
بالصالحين (101)
2 التفسير
3 عاقبة أمر يوسف وأبيه وإخوته:
مع وصول القافلة التي تحمل أعظم بشارة من مصر إلى كنعان، وعودة البصر
303

إلى يعقوب، ارتفعت أهازيج في كنعان. فالبيت الذي لم يخلع أهله عنهم ثياب
الحزن والأسى لسنين عديدة، أصبح غارقا في السرور والحبور، فلم يكتموا
رضاهم عن هذه النعم الإلهية أبدا.
والآن ينبغي على أهل هذا البيت - وفقا لوصية يوسف - أن يتحركوا ويتجهوا
نحو مصر، وتهيأت مقدمات السفر من جميع النواحي، وركب يعقوب راحلته
وشفتاه رطبتان بذكر الله وتمجيده، وقد منحه عشق يوسف قوة وعزما إلى درجة
وكأنه عاد شابا من جديد.
وهذا السفر على خلاف الأسفار السابقة - التي كانت مقرونة لدى إخوة
يوسف بالقلق والحزن - كان خاليا من أية شائبة من شوائب الهم والغم. وحتى لو
كان السفر بنفسه متعبا، فهذا التعب لم يكن شيئا ذا بال قبال ما يهدفون إليه في
مسيرهم هذا.
كانوا يطوون الليالي والأيام ببطء، لأن الشوق كان يحيل كل دقيقة إلى يوم
أو سنة، ولكن إنتهى كل شئ ولاحت معالم مصر وأبنيتها من بعيد بمزارعها
الخضر وأشجارها الباسقة السامقة وعماراتها الجميلة.
إلا أن القرآن الكريم - كعادته دائما - حذف هذه المقدمات التي يمكن أن
تدرك بأدنى تفكر وتأمل، فقال في هذا الشأن: فلما دخلوا على يوسف آوى
إليه أبويه.
وكلمة " آوى " - كما يقول الراغب في مفرداته - تعني في الأصل انضمام
شئ إلى شئ آخر، وضم يوسف أبويه إليه كناية عن احتضانهما ومعانقتهما.
وأخيرا تحققت أحلى سويعات الحياة ليعقوب، وفي هذا اللقاء والوصال
الذي تم بين يعقوب ويوسف بعد سنين من الفراق، مرت على يعقوب ويوسف
لحظات لا يعلم ا الله عواطفها في تلك اللحظات الحلوة، وأية دموع انسكبت من
عينيهما من الفرح.
304

وعندها التفت يوسف إلى إخوته وأبويه و قال ادخلوا مصر إن شاء الله
آمنين لأن مصر أصبحت تحت حكم يوسف في أمن وأمان واطمئنان.
ويستشف من هذه الجملة أن يوسف كان قد خرج إلى خارج بوابة المدينة
لاستقبال والديه وإخوته، ولعل التعبير ب‍ دخلوا على يوسف يحتمل أن يكون
يوسف قد أمر أن تنصب الخيام هناك " خارج المدينة " وأن تهيأ مقدمات
الاستقبال لأبويه وإخوته.
فلما دخلوا القصر أكرمهم يوسف (عليه السلام) ورفع أبويه على العرش.
وكانت هذه العظمة من النعمة الإلهية واللطف والموهبة التي من الله بها على
يوسف قد أدهشت إخوة يوسف وأبويه فذهلوا جميعا وخروا له سجدا.
وعندها التفت يوسف إلى أبيه وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل.
ألم يكن أني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين؟!
فانظر يا أبت كما كنت تتوقع من عاقبة أمري قد جعلها ربي حقا.. وقد
أحسن بي إذ أخرجني من السجن.
الطريف هنا أن يوسف تكلم هنا عن سجنه في مصر من بين جميع مشاكله
ولم يتكلم على الجب مراعاة لإخوته.
ثم أضاف يوسف قائلا: وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان
بيني وبين إخوتي.
ومرة أخرى يظهر هنا يوسف مثلا آخر من سعة صدره وعظمته، ودون أن
يقول: من هو المقصر، وإنما يقول بصورة مجملة أن الشيطان تدخل فنزغ بيني
وبين إخوتي، فهو لا يريد أن يتشكى من أخطاء إخوته السالفة.
والتعبير عن أرض كنعان بالبدو تعبير طريف وكاشف عن مدى الاختلاف
بين تمدن مصر وتخلف كنعان " حضاريا ".
وأخير يقول يوسف: إن جميع هذه المواهب هي من قبل الله، ولم لا تكون
305

كذلك ف‍ إن ربي لطيف لما يشاء.
فيتولى أمور عباده بالتيسير والتدبير.. وهو يعلم من هو المحتاج ومن هو
الجدير بالاستجابة إنه هو العليم الحكيم.
ثم يلتفت يوسف نحو مالك الملك الحقيقي وولي النعمة الدائمة فيقول
شاكرا راجيا: رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث.
وهذا العلم البسيط بحسب الظاهر " تأويل الأحاديث " كم كان له من أثر
عظيم في تغيير حياتي وحياة جماعة آخرين من عبادك، وما أعظم بركة العلم!
فأنت يا رب: فاطر السماوات والأرض.
ولذلك فقد خضعت واستسلمت قبال قدرتك جميع الأشياء.
رباه: أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين.
أي إنني لا أطلب دوام الملك وبقاء الحكم والحياة المادية منك يا رب، لأن
هذه الأمور جميعها فانية وليس فيها سوى البريق الجذاب. بل أطلب منك يا رب
أن تكون عاقبة أمري على خير، وأن أقضي حياتي وأموت مؤمنا في سبيلك
مسلما لإرادتك، وأن أكون في صفوف الصالحين. فهذه الأمور هي المهمة لدي
فحسب.
* * *
2 بحوث
3 1 - هل السجود لغير الله جائز؟!
كما بينا في الجزء الأول من هذا التفسير عند بحثنا في شأن سجود الملائكة
لآدم، فقلنا: إن السجود بمعنى العبادة يختص بالله تعالى ولا تجوز العبادة لأي
أحد في أي مذهب إلا لله سبحانه وهذا هو المراد من توحيد العبادة الذي هو قسم
مهم من التوحيد الذي دعا إليه جميع الأنبياء.
306

فبناء على هذا لم يكن يوسف وهو نبي الله يسمح لأحد أن يسجد له ويعبده
من دون الله، ولا النبي العظيم يعقوب كان يقدم على مثل هذا الأمر، ولا القرآن
الكريم كان يعبر عنه بأنه عمل جدير أو على الأقل عمل مجاز.
فبناء على ذلك فإن السجود المشار إليه في الآية - محل البحث - إما أنه كان
" سجدة الشكر " لله تعالى الذي أولى يوسف هذه المواهب والمقام العظيم، وفرج
عن آل يعقوب كربهم وأزال عنهم همومهم، وهذا السجود في الوقت الذي كان لله،
بما أنه كان من أجل عظمة موهبة يوسف، فإنه كان يعتبر تعظيما وتكريما ليوسف
أيضا، ومن هذا المنطلق فإن الضمير في (له) الذي يعود على يوسف قطعا ينسجم
وهذا المعنى تماما.
أو أن المراد من السجود هو مفهومه الواسع، أي الخضوع والتواضع، لأن
السجدة - أو السجود - لا يأتي أي منهما بمعناه المعروف دائما، بل ربما يرد
بمعنى الخضوع والتواضع أحيانا، فلذا قال بعض المفسرين: إن التحية أو التواضع
المتداول آنئذ كان الإنحناء والتعظيم، وأن المراد من السجود في الآية هو هذا
المعنى.
إلا أنه مع الالتفات إلى جملة " خروا " التي يعني مفهومها الهوي نحو الأرض
فإنه لا يستفاد من السجود في الآية الإنحناء والخضوع (هنا).
وقال بعض المفسرين العظام: إن سجود يعقوب وإخوة يوسف وأمهم كان لله
سبحانه، إلا أن يوسف كان - بمثابة الكعبة - قبلة لهم، ولهذا جاء في بعض تعابير
العرب قولهم: فلان صلى للقبلة (1).
إلا أن المعنى الأول يبدو أقرب للنظر، وخاصة أن بعض الروايات الواردة
عن أهل البيت (عليهم السلام) تقول: " كان سجودهم لله، أو عبادة لله " (2).

1 - راجع تفسير الميزان، وتفسير الفخر الرازي ذيل الآية محل البحث.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 467.
307

كما جاء في بعض الروايات أن سجودهم كان طاعة لله وتحية ليوسف (1).
كما أن السجود لآدم كان سجودا لله العظيم الذي خلق مثل هذا الخلق
البديع، وهو في الوقت الذي يعد عبادة لله فهو دليل على احترام آدم وعظمته.
وهذا الأمر يشبه تماما أن يؤدي رجل - مثلا - عملا مهما عظيما، فنسجد
نحن لله الذي خلق مثل هذا الإنسان، فهذا السجود هو لله كما أنه في الوقت ذاته
يعد احتراما وتعظيما للرجل أيضا.
3 2 - وساوس الشيطان:
إن جملة نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي مع ملاحظة أن نزغ بمعنى
الدخول في أمر ما بقصد الفساد أو الإفساد تدل على أن لوساوس الشيطان في
مثل هذه الحوادث أثرا مهما دائما، إلا أننا نوهنا من قبل بأن هذه الوساوس
لوحدها لا تعمل شيئا، فالمصمم الأخير هو الإنسان نفسه، بل هو الذي يفتح
أبواب قلبه للشيطان ويسمح له بالدخول.
فبناء على ذلك فليس في الآية - محل البحث - أمر خلاف أصل حرية
الإرادة أساسا. غاية ما في الأمر أن يوسف (عليه السلام) بما لديه من حلم وسعة صدر لم
يرغب أن يحرج إخوته ويزيد في خجلهم، فهم كانوا خجلين إلى درجة كافية،
ولهذا لم يشر إلى المصمم النهائي وإنما ذكر وساوس الشيطان التي تعد العالم
الثانوي فحسب.
3 3 - الأمن نعمة الله الكبرى؟
لقد أشار يوسف إلى مسألة الأمن من بين جميع المواهب والنعم بمصر،
وقال لأبويه وإخوته ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين وهذا الأمر يدل على أن

1 - تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 468.
308

نعمة الأمن أساس جميع النعم، والحق أنها كذلك، لأنه متى ذهبت نعمة الأمن،
فإن سائر مسائل الرفاه والمواهب المادية والمعنوية يحدق بها الخطر.
ففي جو أو محيط غير آمن، ليس بالمقدور إطاعة الله فيه ولا الحياة الحرة
الكريمة، كما ليس بمقدور الإنسان أن يفكر تفكيرا مطمئنا هادئا، ولا السعي
والجد والجهاد نحو تحقق الأهداف الاجتماعية أيضا.
وهذه الجملة لعلها إشارة إلى هذه اللطيفة، وهي أن يوسف يريد أن يقول: إن
أرض مصر في عهدي وحكومتي ليست هي تلك الأرض في عهد الفراعنة
وحكمهم، فأولئك الظالمون المستكبرون المستثمرون الأنانيون ولوا ومضوا كما
مضى ذلك التعذيب والأذى، فالجو جو آمن تماما.
3 4 - أهمية مقام العلم:
ومرة أخرى يعول يوسف (عليه السلام) في انتهاء عمله وأمره على مسألة علم تعبير
الرؤيا، ويجعل هذا العلم البسيط - ظاهرا - إلى جانب تلك الحكومة العظمى ومن
دون منازع، وهذا يكشف عن تأكيده على أهمية العلم مهما كان بسيطا، فيقول:
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث.
3 5 - حسن العاقبة:
قد يتقلب الإنسان في طول عمره في أشكال مختلفة متعددة، إلا أن من
المسلم به أن الصفحات الأخيرة من حياته أهم من جميع ما مضى عليه، لأن
سجل عمره ينتهي بانتهائها ويتعلق الحكم النهائي، لذا فإن الرجال المؤمنين
يطلبون من الله دائما أن تكون هذه الصفحات من العمر مشرقة نيرة، وأن يختم لهم
بالخير.
ونجد يوسف (عليه السلام) يطلب من الله - هنا - هذا الأمر نفسه فيقول: توفني مسلما
309

وألحقني بالصالحين.
وليس معنى هذا الكلام طلب الموت من الله، كما تصوره ابن عباس فقال: لم
يطلب أحد من الأنبياء الموت من الله إلا يوسف، فعندما توفرت له أسباب
حكومته تأجج العشق (والتعلق بالله) في نفسه فتمنى لقاء الله.
بل طلب يوسف إنما كان الشرط والحالة فحسب، أي أنه طلب أن يكون
عند الوفاة مؤمنا مسلما، وقد كان إبراهيم ويعقوب يوصيان أبناءهما بهذه الوصية
أيضا بقولهما لهم: فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. (1)
وقد اختار كثير من المفسرين هذا المعنى.
3 6 - هل جاءت أم يوسف إلى مصر
يستفاد من ظاهر الآيات - آنفة الذكر - بصورة جيدة أن أم يوسف كانت
يومئذ حية، وقد جاءت مع يعقوب وأبنائها إلى مصر، وسجدت شاكرة هذه
النعمة. إلا أن بعض المفسرين يصرون على أن أم يوسف " راحيل " كانت قد
انتقلت من الدنيا يومئذ، وإنما التي جاءت إلى مصر خالته التي تعد بمثابة امه.
ونقرأ في سفر التكوين من التوراة - الفصل 35 الجملة 18 - أن راحيل بعد
أن ولدت بنيامين رحلت عن الدنيا. وجاء في بعض الروايات عن (وهب بن
منبه) و (كعب الأحبار) هذا المعنى ذاته أيضا، ويبدو أنه مأخوذ من التوراة.
وعلى أي حال، فليس بوسعنا أن نغضي عن ظاهر آيات القرآن التي تقول:
إن أم يوسف كانت حية آنئذ، ونؤول ذلك ونوجهه دون أي دليل.
3 7 - عدم ذكر القصة للأب:
نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال (عليه السلام): " قال يعقوب ليوسف:

1 - البقرة، 132.
310

يا بني حدثني كيف صنع بك إخوتك؟!
قال: يا أبت دعني.
فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني!
فقال له: أخذوني وأقعدوني على رأس الجب، ثم قالوا لي: انزع قميصك،
فقلت لهم إني أسألكم بوجه أبي يعقوب أن لا تنزعوا قميصي ولا تبدوا عورتي،
فرفع فلان السكين علي، وقال: انزل.
فصاح يعقوب فسقط مغشيا عليه ثم أفاق، فقال له: يا بني كيف صنعوا بك؟!
فقال يوسف: إني أسألك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلا أعفيتني.
قال: فتركه " الخ (1).
وهذا الأمر يدل على أن يوسف لم يرغب بأي وجه أبدا أن يعيد في ذهنه أو
في ذهن أبيه الماضي المرير، بالرغم من أن رغبة يعقوب في التقصي عن الأمر لم
تدعه يستقر.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 5، ص 265.
311

2 الآيات
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ
أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (102) وما أكثر الناس ولو حرصت
بمؤمنين (103) وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر
للعلمين (104) وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون
عليها وهم عنها معرضون (105) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا
وهم مشركون (106) أفأمنوا أن تأتيهم غشية من عذاب الله أو
تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون (107)
2 التفسير
3 الأدعياء مشركون غالبا!
بعد ما انتهت قصة يوسف (عليه السلام) بكل دروسها التربوية ونتائجها الغزيرة والقيمة
والخالية من جزاف القول والخرافات التاريخية.. انتقل الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
حيث يقول القرآن الكريم: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم
إذ أجمعوا أمرهم....
312

إن هذه المعلومات الدقيقة لا يعلمها إلا الله، أو واحد من الذين كانوا
حاضرين هناك، وبما أنك لم تكن حاضرا لديهم فالوحي الإلهي فقط هو الذي
جاءك بهذه الأخبار.
ومن هنا يتضح أن قصة يوسف بما أنها وردت في التوراة فأهل الحجاز
عندهم معلومات تقريبية عنها، ولكن كل هذه الحوادث لم تطرح بهذه الدقة في
جزئياتها أبدا، وحتى في المحافل الخاصة السابقة لم تكن تعرف بدون إضافة
وخرافة.
وعلى أي حال كان لزاما على الناس أن يؤمنوا بعد مشاهدتهم لعلائم الوحي
وسماعهم لهذه النصائح الإلهية، وأن يتراجعوا عن طريق الغي، ولكن يا أيها النبي:
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين.
إن الوصف ب‍ (الحرص) هنا دليل على شوق ولهفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن يؤمن
الناس، ولكن ما الفائدة، فإصراره وشوقه لم يكونا كافيين، فمن شرط الإيمان
الاستعداد والقابلية في نفس الشخص.
إن أبناء يعقوب (عليه السلام) كانوا يعيشون في بيت الوحي والنبوة، ومع ذلك نرى
كيف عصفت بهم الأهواء حتى كادوا أن يقتلوا أخاهم، فكيف نتوقع من جميع
الناس أن يتغلبوا على أهوائهم وشهواتهم مرة واحدة وبشكل جماعي ويؤمنوا
بالله؟
وهذه الآية بالإضافة إلى ما ذكرنا هي تسلية لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لا ييأس
أبدا من إصرارهم على الكفر والذنوب ولا يستوحش الطريق لقلة أصحابه، كما
نقرأ في آيات أخرى من القرآن الكريم الكهف (6): لعلك باخع نفسك على
آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا وقوله تعالى: وما تسألهم عليه من
أجر فهؤلاء في الواقع ليس لهم أي عذر أو مبرر لعدم قبول الدعوة بالإضافة
إلى ما اتضح من علامات الحق أنك لم تسألهم أجرا حتى يكون مبررا لمخالفتك:
313

إن هو إلا ذكر للعالمين.
وهذه الدعوة عامة للجميع، ومائدة واسعة للعام والخاص وكل البشرية.
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها
معرضون.
فهذه الدلائل يرونها بأعينهم كل يوم! تشرق الشمس عند الصباح لتنشر
أشعتها الذهبية على الجبال والوديان والصحاري والبحار، وتغرب عند المساء
ويعم الليل بستاره المظلم كل مكان.
إن أسرار هذا النظام العجيب وهذا الشروق والغروب وحياة النباتات
والحشرات والإنسان، وهدير المياه، وحركة النسيم، وكل هذا الفن العجيب
للوجود هو من الوضوح بحيث إن لم يتدبر أحد فيه وفي خالقه سيكون كالخشبة
المسندة.
كثيرة هي الدلائل التي نعتبرها صغيرة وغير مهمة، فنحن نمر عليها كل يوم
ولا نعير لها أهمية، وفجأة يظهر عالم ذو بصيرة فيكتشف بعد دراسة أشهر وسنين
أسرار هذه الدلائل ويذهل العالم بها.
المهم أن نعلم أن كل ما في العالم ليس زخرفا وبدون فائدة، لأنها من
مخلوقات الله الذي لا نهاية لعلمه ولا حد لحكمته. وإنما الساذج والزخرف فهم
أولئك الذين يعتقدون بأن العالم وجود عبث وليس له غاية وفائدة. ولهذا فلا
تعجب لعدم إيمانهم بالآيات المنزلة عليك، لأنهم لم يؤمنوا بالآيات المحيطة بهم
من كل مكان وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.
قد يتصور هؤلاء أنهم من المؤمنين المخلصين ولكن غالبا ما توجد جذور
الشرك في أفكارهم وأقوالهم وضمائرهم.
ليس الإيمان هو الاعتقاد بوجود الله فقط، فالمؤمن المخلص هو الذي لا
يعتقد بأي معبود سوى الله، فتكون أقواله وأعماله وكل أفعاله خاضعة له. ولا
314

يعترف بغير قانون الله، ولا يضع طوق العبودية في رقبته لغيره، ويمتثل بقلبه
وروحه لكل الأوامر الإلهية ولو كانت مخالفة لهواه، ويقدم دائما الإله على
الهوى، هذا هو الإيمان الخالص من الشرك في العقيدة والقول والعمل، فلو حسبنا
حسابا دقيقا في هذا المجال لوجدنا أن الموحدين الصادقين والمخلصين قليلون
جدا.
ولهذا السبب نقرأ في الروايات الإسلامية ما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام)
" الشرك أخفى من دبيب النحل " (1).
أو نقرأ: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر
يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم:
" اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من
جزاء " (2).
ونقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية أعلاه حيث يقول " شرك طاعة
وليس شرك عبادة، والمعاصي التي يرتكبون وهي شرك طاعة أطاعوا فيها
الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره " (3).
وفي بعض الروايات نقرأ أن المقصود من (شرك النعمة) بهذا المعنى أن الله
يهب الإنسان شيئا فيقول: إن فلانا قد جاءني به فلو لم يكن فلان لكنت من
الهالكين! وكانت حياتي هباءا منثورا، فهنا قد اعتبر الشريك مع الله الشخص
الذي جرت على يده نعمة الله!
الخلاصة: إن ما يفهم من الشرك ليس الكفر وإنكار الإله وعبادة الأصنام
فقط، كما جاء في حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) " شرك لا يبلغ به الكفر " ولكن

1 - سفينة البحار، المجلد الأول، صفحة 697.
2 - في ظلال القرآن، المجلد الخامس، صفحة 53.
3 - نور الثقلين، ج 2، صفحة 275 - أصول الكافي، المجلد الثاني، صفحة 292.
315

الشرك بمعناه الواسع يشمل جميع هذه الأمور.
وفي آخر آية يحذر القرآن الكريم أولئك الذين لم يؤمنوا بعد ويمروا على
الآيات الواضحة مر الكرام ويشركون في أعمالهم حيث يقول: أفأمنوا أن
تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون.
" الغاشية ": الغطاء أو الستار، ويقال للثوب الكبير الذي يغطي سرج الجواد.
ومعناه هنا البلاء والجزاء الذي يعم المفسدين (1).
" والساعة ": القيامة، وقد وردت بهذا المعنى في كثير من الآيات.
ويحتمل أن تكون كناية عن الوقائع العظيمة التي تحدث قبل يوم القيامة
مثل الزلازل والعواصف والصواعق، أو إشارة إلى ساعة الموت، ولكن التفسير
الأول أقرب إلى المعنى كما نرى.
* * *

1 - غاشية مؤنثة لأنها صفة " للعقوبة " التي هي مقدرة.
316

2 الآيات
قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
وسبحن الله وما أنا من المشركين (108) وما أرسلنا من قبلك
إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في
الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم ولدار
الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون (109) حتى إذا استيئس
الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء
ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين (110) لقد كان في قصصهم
عبرة لاولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق
الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم
يؤمنون (111)
2 التفسير
3 أصدق الدروس والعبر:
في الآية الأولى من هذه المجموعة يتلقى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأوامر لتحديد الطريق
317

والمنهج الذي يتبعه، فيقول القرآن الكريم: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ثم
يضيف: على بصيرة أنا ومن اتبعني.
وهذه الجملة توضح أن كل فرد مسلم مقتد بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) له نفس الدور في
الدعوة إلى الحق، ولابد من دعوة الآخرين إلى الله، من خلال أفعالهم وأقوالهم،
وكذلك تؤكد هذه الجملة على أن القائد يجب أن تكون له بصيرة ومعرفة كافية،
وإلا فإن دعوته ليست إلى الحق، وللتأكيد على ذلك يضيف القرآن الكريم:
وسبحان الله وما أنا من المشركين.
فهو يؤكد على نزاهة الخالق الذي يدعو إليه وكماله المطلق الخالي من
النقصان وأنه لا يتخذ معه شريكا.
هذه في الواقع من خصائص القائد الصادق، أن يعلن بصراحة عن أهدافه
وخططه، وأن يسير هو والتابعين له على منهج واضح وسليم، لا أن تسودهم هالة
من الإبهام في الهدف والطريقة. أو أن يسير كل واحد منهم في جهة معينة.
فواحدة من الطرق التي نتعرف بها على القيادات الصادقة من الكاذبة هو أن
القيادة الصادقة تتميز بصراحة القول ووضوح الطريق أما الأخرى فهي لكي
تحاول التغطية على سلوكها وتلتجئ إلى الحديث المبهم والمتعدد الجوانب.
إن وقوع هذه الآية بعد الآيات المتعلقة بيوسف تشير إلى أن طريقة ومنهج
النبي لا يختلفان عن طريقة ومنهج يوسف النبي. فهو كان يدعو إلى " الله الواحد
القهار " حتى في زوايا السجن، أما غيره فكان يدعو إلى أسماء انتقلت إليه بسبب
التقليد من جاهل إلى جاهل آخر. أما سيرة الأنبياء والرسل كلها واحدة.
وبما أن الأقوام الضالة والجاهلة كانت دائما تثير هذا الاعتراض على
الأنبياء وهو أنكم بشر؟! ولماذا لا تكلف الملائكة لهذا الأمر؟ وبما أن الناس في
الجاهلية كانوا يثيرون نفس الاعتراض بالنسبة إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته العامة،
فإن القرآن الكريم يجيب مرة ثانية على هذا الاعتراض فيقول: وما أرسلنا من
318

قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى.
هؤلاء الرسل هم كباقي الناس يعيشون في المدن والقرى، ويتجولون بين
الناس ويشعرون بآلامهم واحتياجاتهم ومشاكلهم.
فالوصف هنا ب‍ من أهل القرى بالإضافة إلى ما تشمله القرية في اللغة
من معنى المدينة أو الريف في مقابل " البدو " التي تطلق على أهل الصحراء، فإنها
قد تشير إلى أن أنبياء الله لم ينهضوا من بين سكنة الصحراء - كما صرح بذلك
بعض المفسرين - لأن سكان البادية يتصفون بالجهل وعدم المعرفة وقلوبهم
قاسية ويمتازون بقلة معلوماتهم عن الحياة ومتطلباتها.
صحيح أن أكثر سكان أرض الحجاز كانوا من البدو، ولكن الرسول من أهل
مكة التي تعتبر مدينة كبيرة نسبيا، وصحيح أيضا أن مدينة كنعان لو قيست
بأرض مصر التي كان يوسف يحكم فيها لكانت صغيرة وغير مهمة ولذلك كان
يعبر عنها بالبدو. ولكن نحن نعلم أن يعقوب وأبناءه لم يكونوا من أهل البادية
أبدا، فهم كانوا يعيشون في هذه المدينة الصغيرة كنعان.
ثم يبين القرآن الكريم: إذا ما أراد هؤلاء أن يعلموا عاقبة مخالفتهم لدعوتك
التي هي الدعوة إلى الله فإن عليهم أن يسيروا ليروا آثار السابقين: أفلم يسيروا
في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.
إن السير والتجوال في الأرض لمشاهدة آثار الماضين وخراب دورهم
ومدنهم بسبب العذاب الإلهي، أفضل درس لهم، درس حي وملموس للجميع.
ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون.
لماذا؟ لأن الدنيا دار مليئة بالمصائب والآلام وغير باقية، أما الآخرة فدار
خالدة وخالية من الآلام والعذاب.
حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من
نشاء.
319

تشير هذه الآية إلى أدق وأصعب لحظة في حياة الأنبياء فنقول: إن الأنبياء
يواجهون دائما مقاومة عنيفة من قبل أقوامهم وطواغيت زمانهم حتى يصل
الحال بالأنبياء إلى اليأس إلى حد يظنون أن أتباعهم المؤمنين القليلين قد كذبوا
عليهم وتركوهم وحدهم في مسيرتهم في الدعوة إلى الحق، وفي هذه الأثناء
حيث انقطع أملهم في كل شئ أتاهم نصرنا. وفي نهايتها تشير إلى عاقبة
المجرمين ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين.
فهذه سنة الله في الذين أصروا على أعمالهم وأغلقوا باب الهداية على
أنفسهم، فهم وبعد إتمام الحجة عليهم ينالهم العذاب الإلهي فلا تستطيع أي قوة أن
ترده.
في تفسير هذه الجملة من الآية: ظنوا أنهم قد كذبوا ومن المقصود بها،
هناك عدة آراء للمفسرين:
1 - إن كثيرا من علماء التفسير يرون ما قلناه سابقا، وخلاصته: إن عمل
الأنبياء يصل إلى درجة يعتقدون فيها أن كل الناس سوف يكذبوهم، حتى تلك
المجموعة التي تظهر إيمانها ولكنها غير راسخة في عقيدتها.
2 - ويحتمل في تفسير الآية أن فاعل " ظنوا " هم المؤمنون، وإن المشاكل
والاضطرابات تصل إلى حد بأن يسوء ظنهم بما وعدهم الأنبياء من النصر ويخيل
إليهم أنه خلاف الواقع؟ وليس بعيدا سوء الظن هذا من الأفراد الذين آمنوا حديثا.
3 - وبعض آخر أعطى تفسيرا ثالثا للآية، وخلاصته: إن الأنبياء - بدون
شك - كانوا بشرا، فحين يزلزلوا زلزالا شديدا وتبدوا جميع الأبواب أمامهم
موصدة ظاهرا، ولا يرى في الأفق فرج، والحوادث المتتالية تعصف بهم،
وصرخات المؤمنين الذين نفذ صبرهم تصل إلى أسماعهم، نعم في هذه الحالة
وبمقتضى الطبع البشري قد يتبادر إلى أذهانهم أن الوعد بالنصر بعيد عن الصحة!
أو أن النصر الموعود له شروطه التي لم تتحقق بعد، ولكن سرعان ما يتغلبون
320

على هذه الأفكار ويبعدونها عن أذهانهم ويشع في قلوبهم بصيص الأمل، ومن
ثم تتضح لهم بشائر النصر.
وشاهدهم على هذا التفسير الآية (214) سورة البقرة:... حتى يقول
الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله....
ولكن مجموعة أخرى من المفسرين أمثال العلامة " الطبرسي " في مجمع
البيان و " الرازي " في تفسيره الكبير، بعد ما ذكروا هذا الاحتمال قالوا ببطلانه
لأنه حتى هذا المقدار من التوهم ليس من مقام الأنبياء، وعلى أية حال فالأصح
هو التفسير الأول.
وآخر آية من هذه السورة ذات محتوى شامل وجامع لكل الأبحاث التي
ذكرناها في هذه السورة، وهي: لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الألباب.
فهي مرآة يستطيعون من خلالها أن يروا عوامل النصر والهزيمة، الهناء
والحرمان، السعادة والشقاء، العز والذلة، والخلاصة كل ما له قيمة في حياة
الإنسان وما ليس له قيمة. وهي مرآة لكل تجارب المجتمعات السابقة والرجال
العظام. ومرآة نشاهد فيها ذلك العمر القصير للإنسان كيف يطول بمقدار عمر كل
البشر. ولكن أولي الألباب وذوي البصائر فقط باستطاعتهم أن يشاهدوا العبر في
صفحة المرآة العجيبة هذه: ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين
يديه.
فهذه الآيات التي أنزلناها عليك والتي أزاحت الستار عن التأريخ الصحيح
للأمم السابقة ليست من العلم البشري الذي يمكن معرفته عن العلماء، بل إن
الكتب السماوية السابقة تشهد على ذلك وتصدقه وتؤيده وبالإضافة إلى ذلك
ففي هذه الآيات كل ما يحتاجه الإنسان في تأمين سعادته وتكامله: وتفصيل
كل شئ.
ولهذا السبب فهي وهدى ورحمة لقوم يؤمنون فالظاهر من الآية أعلاه
321

أنها تريد أن تشير إلى هذه النقطة المهمة وهي: إن للقصص المصنوعة ذات
الإثارة كثيرة في أوساط الأمم وهي من الأساطير الخيالية، ولكن لا يتوهم أحد
بأن سيرة يوسف أو سير بقية الأنبياء التي ذكرها القرآن الكريم من ذلك القبيل.
المهم أن هذه القصص المثيرة وذات العبر هي عين الواقع ولا تحتوي على
أدنى انحراف عن الواقع الموضوعي، ولهذا السبب يكون تأثيرها كبيرا جدا،
لأننا نعلم أن الأساطير مهما تكن شيقة ومثيرة فإن تأثيرها قليل إذا ما قورنت مع
سيرة واقعية لأن:
1 - عندما يصل القارئ أو المستمع للقصة إلى أقصى لحظات الإثارة
يتبادر إلى ذهنه فجأة أن هذا وهم وخيال ليس أكثر!
2 - إن هذه القصص في الواقع هي من هندسة الإنسان، فهو يحاول أن يجسم
أفكاره في سلوك بطل القصة، ولذلك فهي ليست أكثر من فكر الإنسان، وهذه
القصة بالمقارنة مع السير الواقعية بينهما فرق شاسع ولا تستطيع القصة البشرية
أن تكون أكثر من موعظة لصاحب المقالة. ولكن التاريخ الواقعي للبشر ليس
كذلك، فهو أكثر ثمرا ونفعا وأكثر بركة.
* * *
" نهاية سورة يوسف "
اللهم! امنحنا البصر في أعيننا والسمع في آذاننا والعلم في قلوبنا، حتى
نستطيع أن نحصل من سيرة السابقين على طرقا للنجاة من المشاكل التي نغوص
الآن فيها.
ربنا! ألهمنا بصرا حادا حتى نرى عاقبة الذين اختلفوا وتشتتوا فيما بينهم
فكان عاقبتهم الهزيمة والخسران، وحتى لا نسير في نفس الطريق الذي سلكوه.
اللهم! ارزقنا تلك النية الخالصة لكي نتغلب بها على نفوسنا، وتلك المعرفة
322

حتى لا يصيبنا الغرور بالنصر، وتلك السماحة ونكران الذات بحيث إذا رأينا من
هو أفضل منا على إنجاز المسؤولية تركناها وتنازلنا عنها إليه.
فإن منحتنا هذا فسوف نستطيع أن نتغلب على جميع المشاكل، وأن نحفظ
نور الإسلام والقرآن في هذه الدنيا.
* * *
323

1 سورة
1 الرعد
1 مكية
1 وعدد آياتها مائة وثلاث وأربعون آية
324

1 سورة الرعد
3 محتوى السورة
كما قلنا سابقا، بما أن السور المكية كان نزولها في بداية دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأثناء محاربته للمشركين، فإنها غالبا ما كانت تتحدث عن المسائل العقائدية
وخصوصا الدعوة إلى التوحيد والمعاد ومحاربة الشرك. في الوقت الذي نرى فيه
أن السور المدنية نزلت بعد انتشار الإسلام وقيام الحكومة الإسلامية، فقد
تناولت الأحكام والمسائل المتعلقة بالنظام الاجتماعي واحتياجات المجتمع.
فهذه السورة (سورة الرعد) التي هي من السور المكية لها نفس الخصائص
السابقة، فبعد ما تشير إلى أحقية القرآن وعظمته، تتطرق إلى آيات التوحيد
وأسرار الكون التي هي من دلائل ذات الله المقدسة. فتارة تتحدث عن رفع
السماوات بغير عمد، وأخرى عن تسخير الشمس والقمر، ومرة عن مد الأرض
وخلق الجبال والأشجار والثمار، ومرة عن ستار الليل المظلم الذي يغشي النهار.
ومرة أخرى تأخذ بأيدي الناس وتنقلهم إلى جنات النخيل والأعناب
والزروع، وتحصي لهم عجائبها.
ثم تتطرق إلى المعاد وبعث الإنسان من جديد ومحكمة العدل الإلهي، وهذه
المجموعة من أصول المبدأ والمعاد تكمل ما أوضح من مسؤولية ووظائف
الناس وأن أي تحول في قضاياهم المصيرية يجب أن يبدأ من داخل أنفسهم.
ثم تعود مرة أخرى إلى فكرة التوحيد، وتسبيح الرعد وخوف الناس من
البرق والصاعقة، وسجود السماوات والأرضين في مقابل عظمة الرب. ولأجل
326

أن تتعقل القلوب والأسماع وتوقظ الأفكار، ولإيضاح أن الأوثان ليس لها أي
ميزة أو فائدة، تدعوهم إلى التفكر والتعلم، وتضرب لهم الأمثال لمعرفة الحق من
الباطل. الأمثال الحية والقابلة للإدراك.
ومن هنا فالحصيلة النهائية للإيمان بالتوحيد والمعاد هي تلك التطبيقات
العملية والحية لها، فالقرآن في هذه السورة يدعو الناس إلى الوفاء بالعهد وصلة
الأرحام والصبر والاستقامة والإنفاق في السر والعلانية والنهي عن الانتقام.
ويوضح لهم أن الدنيا فانية، والطمأنينة والراحة لا تحصلان إلا في ظل الإيمان
بالله.
وفي النهاية يأخذ بأيدي الناس ويغور بهم في أعماق التاريخ، ويريهم
العواقب السيئة للذين طغوا وعصوا وأبعدوا الناس عن الحق، ويختم السورة
بتهديد الكفار بعبارات وجمل لاذعة.
إذن فالسورة تبتدئ بالعقائد والإيمان وتنتهي بالبرامج التربوية للإنسان.
* * *
327

2 الآيات
المر تلك آيات الكتب والذي أنزل إليك من ربك الحق
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (1) الله الذي رفع السماوات
بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس
والقمر كل يجرى لأجل مسمى يدبر الامر يفصل الآيات
لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2) وهو الذي مد الأرض وجعل
فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين
يغشى الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (3) وفى
الأرض قطع متجاورات وجنت من أعناب وزرع ونخيل
صنوان وغير صنوان يسقى بماء وحد ونفضل بعضها على
بعض في الاكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4)
2 التفسير
3 آيات الله في السماء والأرض وعالم النبات:
مرة أخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، والتي وردت في
328

(29) سورة أخرى، ولكن الحروف المقطعة المذكورة هنا تتكون من ألم التي
وردت في بداية عدة سور، و الر والتي وردت في بداية سور أخرى، وفي
الواقع إن هذه السورة تنفرد عن غيرها من السور ب‍ المر.
ومن المعتقد في تفسير الحروف المقطعة أن لها ارتباطا مباشرا بمعاني نفس
السورة، فمن المحتمل أن هذا التركيب في بداية سورة الرعد يشير إلى جمعها
لمحتوى مجموعتين من السور التي تبتدئ ب‍ ألم و الر.
وإذا ما أمعنا النظر في محتوى هذه السور نجدها مطابقة لما قلناه،
وبخصوص تفسير الحروف المقطعة كانت لنا شروح مفصلة عنها في بداية سورة
البقرة وآل عمران والأعراف فلا ضرورة في التكرار.
وعلى أية حال فالآية الأولى من هذه السورة تتحدث عن عظمة القرآن
تلك آيات الكتاب والذي انزل إليك من ربك الحق (1).
ولا يوجد أي شك أو ترديد في هذه الآيات، لأنها تبين عين الحقيقة للكون
ونظامه المرتبط بالإنسان. فهو حق لا يشوبه باطل، ولهذا السبب فإن علائم الحق
واضحة فيه لا تحتاج إلى براهين ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
لأن الناس إذا ما تركوا وشأنهم ولم يتبعوا معلما صادقا يهديهم ويربيهم في
حياتهم وكانوا أحرارا في أتباع أهوائهم فإنهم سوف يتيهون في الطريق ويضلون
عن الحق.
وأما إذا كان الرسل وهداة الحق هم الأئمة والقادة حيث يضع الفرد نفسه في
تصرفهم، فإن الأكثرية تسير في طريق الحق.
ثم تتطرق السورة إلى شرح القسم المهم من أدلة التوحيد وآيات الله في
الكون، وتتجول بالإنسان في عرض السماوات وتريه الكواكب العظيمة وأسرار
هذا النظام وحركته، حتى يؤمن بالقدرة المطلقة والحكمة اللامتناهية الله الذي

1 - استخدام تلك للبعيد - وكما قلنا سابقا - كناية عن عظمة القرآن وإعجازه.
329

رفع السماوات بغير عمد ترونها (1).
الجملة بغير عمد ترونها لها تفسيران:
1 - فكما ترون أن السماء مرفوعة بدون عمد (أي انها في الأصل بلا عمد
كما ترونها فعلا).
2 - والثانية إن (ترونها) صفة للعمد فيكون المعنى: إن السماء مرفوعة بعمد
ولكن لا ترونها لأنها غير مرئية!
وهذا هو الذي يراه الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، ففي حديث رواه
الحسين بن خالد قال: سألت الإمام أبا الحسن الرضا (عليه السلام): ما المقصود في قوله
تعالى: والسماء ذات الحبك قال: هذه السماء لها طرق إلى الأرض، فقلت له:
كيف تكون لها طرق إلى الأرض في الوقت الذي يقول سبحانه وتعالى: رفع
السماوات بغير عمد فأجابه الإمام: " سبحان الله، أليس الله يقول بغير عمد
ترونها؟ قلت بلى، فقال: ثم عمد ولكن لا ترونها " (2).
إن هذه الآية بالرغم من وجود هذا الحديث الذي يفسرها، فإنها تكشف عن
حقيقة علمية لم تكن معروفة عند نزول الآيات الكريمة، لأنه في ذاك الوقت
كانت نظرية " بطليموس " في الهيئة تتحكم بكل قواها في المحافل العلمية في
العالم وعلى أفكار الناس، وطبقا لهذه النظرية فإن السماوات عبارة عن أجرام
متداخلة تشبه قشور البصل، وإنها لم تكن معلقة وبدون عمد، بل كل واحدة منها
تستند إلى الأخرى.
ولكن بعد نزول هذه الآيات بألف سنة تقريبا توصل علم الإنسان إلى أن
هذه الفكرة غير صحيحة، فالحقيقة إن الأجرام السماوية لها مقر ومدار ثابت، ولا

1 - (عمد) على وزن (صمد) " وعمد " على وزن (زحل) والاثنان جمع عمود، فالأول جمع، والثاني اسم الجمع (مجمع
البيان ذيل الآية).
2 - الحديث في تفسير البرهان، عن علي بن إبراهيم عن العياشي (البرهان، المجلد الثاني، ص 278).
330

تستند إلى شئ، فالشئ الوحيد الذي يجعلها مستقرة وثابتة في مكانها هو
تعادل قوة التجاذب والتنافر، فالأولى تربط الأجرام فيما بينها، والأخرى لها
علاقة بحركتها.
هذا التعادل للقوتين الذي يشكل أعمدة غير مرئية يحفظ الأجرام السماوية
ويجعلها مستقرة في مكانها.
وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بخصوص هذا الموضوع قال:
" هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كل
مدينة إلى عمود من نور " (1).
وهل نجد أوضح من هذا الوصف " عمود غير مرئي " أو " عمود من نور " في
أدب ذلك العصر لبيان أمواج الجاذبية وتعادل قوتي الجذب والدفع. وللإطلاع
أكثر راجع كتاب [القرآن وآخر الرسل] صفحة 166 وما بعدها.
ثم استوى على العرش في خصوص معنى العرش والاستواء عليه هناك
شرح واف عنه في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف.
وبعد أن بين خلق السماوات وهيمنة الخالق عليها، تحدث عن تسخير
الشمس والقمر وسخر الشمس والقمر.
ما أعظم هذا التسخير الذي يقع تحت إرادة ومشيئة الخالق، وفي خدمة
الوجود الإنساني والكائنات الحية حيث يشع نورهما وتضيئان العالم، وتحافظان
على دف ء الكائنات وتساعدانها على النمو، وتخلقان ظاهرة الجزر والمد في
البحار، وخلاصة القول إنهما منشأ لجميع البركات، ولكن هذا النظام المادي ليس
أبديا، بل كل يجري لأجل مسمى.
ثم يضيف بعد ذلك: إن هذه الحركات والتغيرات في الأحوال ليست بدون
حساب وكتاب، وبدون فائدة ونتيجة، بل يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم

1 - سفينة البحار، المجلد الثاني، ص 574 نقلا من تفسير علي بن إبراهيم القمي.
331

بلقاء ربك م توقنون.
وتعقيبا للآيات السابقة التي نقلت الإنسان إلى السماء لتريه الآيات الإلهية
هناك، تنقله الآية الثانية من آيات التوحيد إلى كتاب الكون أي الأرض والجبال
والأنهار وأنواع الثمار وشروق الشمس وغروبها، حتى يتفكر في محل استقراره
في البداية ماذا كان؟ وكيف أصبح الآن بهذه الصورة؟
قوله تعالى: وهو الذي مد الأرض وبسطها بالشكل الذي تتهيأ فيه
لحياة الإنسان ونمو النباتات والحيوانات، وملأ الأودية والمنحدرات الصعبة
بالتراب من خلال تفتت الصخور الجبلية، وجعل الأرض مسطحة وقابلة
للسكن، بعد أن كانت التضاريس مانعة من سكن الإنسان عليها.
وقد يحتمل في تفسير هذه الجملة مد الأرض الإشارة إلى ما يقوله
علماء الطبيعة من أن الأرض كانت مغطاة بالماء. ثم استقرت المياه في الوديان
ظهرت اليابسة، وبمرور الوقت اتسعت حتى أصبحت على ما نراه اليوم.
ثم يشير القرآن الكريم إلى ظهور الجبال وجعل فيها رواسي فهي تلك
الجبال التي عبرت عنها في آيات أخرى ب‍ (الأوتاد) ولعل ذلك إشارة إلى أنها
متشابكة فيما بينها من الأسفل مثلها مثل الدرع الواقي وتغطي سطح الأرض،
فهي تبطل الضغوط الداخلية في الأسفل والضغط الخارجي المتمثل بجاذبية
القمر والمد والجزر. وكذلك تقضي على الاضطرابات والزلازل، وتجعل الأرض
مستقرة وساكنة وصالحة لحياة الإنسان.
إن ذكر القرآن الكريم الجبال بعد مد الأرض يحتمل أن يكون المراد منه أن
الأرض ليست منبسطة بشكل تام بحيث تنعدم فيها المرتفعات، ففي هذه الصورة
لا تستقر فيها الأمطار والمياه، أو تتحول إلى مستنقعات وتجري فيها السيول
وتتعرض للطوفانات الدائمة، فخلق الجبال لتأمن البشرية من هذين الأمرين.
وليست الأرض كلها جبالا ووديانا فتكون غير قابلة للسكن، بل تحتوي
332

على مناطق منبسطة ومناطق جبلية ووديان، وهذه أفضل صيغة لحياة الإنسان
والكائنات الحية. ثم تضيف الآية بعد ذلك الأنهار وأنهارا.
رائع جدا نظام سقي الأرض بواسطة الجبال، وعلاقة الأنهار بالجبال، لأن
كثيرا من الجبال تختزن المياه بشكل ثلوج على قممها وفي شقوق الوديان، ثم
تذوب تدريجيا، وطبقا لقانون الجاذبية تأخذ طريقها من المناطق المرتفعة إلى
المناطق المنخفضة بدون أن تحتاج إلى قوة أخرى لمساعدتها، فهي تقوم بسقي
كثير من المناطق وبشكل طبيعي على مدار السنة.
فلو لم يكن للأرض انحدار كاف ولم تختزن الجبال المياه بهذا الشكل، لكان
سقي كثير من المناطق اليابسة صعبا، وفي حالة الإمكان كنا نحتاج إلى صرف
مبالغ هائلة لإيصال الماء إليها.
ثم يذكر القرآن بعد ذلك النباتات والأشجار التي تتكون من الأرض والمياه
وأشعة الشمس، والتي هي أفضل وسيلة لإمرار الإنسان بالغذاء: ومن كل
الثمرات جعل فيها زوجين اثنين.
والآية تشير هنا إلى أن الفاكهة كائنات حية فيها الذكر والأنثى، وبواسطة
التلقيح تتكون الثمار.
فإذا كان العالم السويدي " لينه " المختص بعلم النبات هو الذي توصل إلى
هذه الحقيقة في حوالي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وهي أن التزويج في
عالم النباتات يعتبر قانونا عاما تقريبا كالحيوانات ولها نطف ذكرية وانثوية وأن
الثمرة تتكون من التلقيح. فالقرآن الكريم قبل ألف ومائة عام من ذلك كشف لنا
عن هذه الحقيقة، وهذه واحدة من معاجز القرآن العلمية التي تبين عظمة هذا
الكتاب السماوي الكبير.
وليس من شك أن ما قبل " لينه " كان كثير من العلماء يعتقدون بوجود
الذكور والإناث في بعض الأشجار، حتى الناس العاديين كانوا يعلمون بذلك،
333

ولكن لم يكن يعلم أي واحد أن هذا القانون عام، حتى كشفه " لينه " ومن قبله
القرآن الكريم.
وبما أن حياة الإنسان وكل الكائنات - وخصوصا النباتات - لا يمكن لها
الاستمرار إلا بوجود نظام دقيق لليل والنهار، فإن القرآن يشير إلى ذلك في القسم
الآخر من الآية يغشي الليل النهار.
ولولا ظلمة الليل وهدؤه، لأحرقت الشمس بنورها المستمر كل النباتات،
ولم تبق فاكهة ولا أي كائن حي على وجه الأرض، فسطح القمر ليس له نهار دائم
ومع هذا نجد أن حتى هذا المقدار من نهاره الذي يعادل خمسة عشر يوما من أيام
الأرض. نرى أن درجة فيها مرتفعة جدا بحيث لو وضعنا هناك ماءا أو أي سائل
آخر فسوف يغلي ويتبخر، ولا يمكن لأي موجود حي في الأرض أن يتحمل
هذه الحرارة.
وتبين الآية في النهاية إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون أولئك الذين
يتفكرون في هذا النظام الرائع، في نظام النور والظلام، وحركة الأجرام السماوية،
وتسخير الشمس والقمر وجعلها في خدمة الإنسان، وفي نظام مد الأرض
وأسرار خلق الجبال والأنهار والنباتات، نعم! فهم يرون بوضوح في هذه الآيات
الحكمة المطلقة والقدرة اللامتناهية للخالق العلام.
وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة يشير القرآن الكريم إلى عدة نقاط
حول علم الأرض وعلم النبات، والتي تعبر عن النظام الدقيق للخلقة، يقول أولا
وفي الأرض قطع متجاورات (1) فبالرغم من أن هذه القطع متصلة مع بعضها
البعض، فإن لكل واحد منها بناءه وتركيبه الخاص به، فبعضها قوي والآخر
ضعيف، وبعضها مالح والآخر حلو، وكل قطعة لها الاستعداد في تربية نوع خاص

1 - متجاور بمعنى الجار وما يكون قريبا، فقوله: (قطع متجاورات) يقصد منه أن هذه القطع مختلفة وليست متساوية،
وإلا لم يكن للجملة معنى.
334

من النباتات وأشجار الفاكهة والزراعة، لأن احتياجات الإنسان والحيوان كثيرة
ومتفاوتة، وقد تكون لكل قطعة من الأرض المسؤولية في تلبية إحدى هذه
الحاجات. وأما إذا كانت في مستوى واحد، أو لم تكن استعداداتها مقسمة
بالشكل المطلوب، لكان الإنسان يمر بأزمة ونقص في مواده الغذائية والطبية
وسائر الاحتياجات الأخرى، ولكن هذا التقسيم المناسب للمسؤولية وتوزيعها
على القطعات المختلفة للأرض سوف يسد الاحتياجات اللازمة للإنسان.
قوله تعالى: وجنات من أعناب وزرع ونخيل (1) صنوان وغير
صنوان (2).
" صنوان " جمع " صنو " بمعنى الغصن الخارج من أصل الشجرة، وعليه
فالكلمة تعني الأغصان المختلفة الخارجة من أصل الشجرة.
والملفت للنظر أنه يمكن أن يكون لكل واحد من هذه الأغصان نوع خاص
من الثمر، وهذه قد تشير إلى قابلية الأشجار للتركيب. ففي بعض الأحيان يتم
تركيب عدة أغصان مختلفة على ساق واحدة، وبعد نمو هذه التراكيب تعطي كل
واحدة منها نوعا خاصا من الثمر، فالتربة واحدة والساق والجذر واحد ولكن
الثمر مختلف.
والأعجب من ذلك أنها تسقى بماء واحد يسقى بماء واحد ونفضل بعضها
على بعض في الأكل.
وقد نرى كثيرا أنه في الشجرة الواحدة أو في غصن واحد توجد ثمار من
نفس الصنف ولكن لها أطعمة وألوان مختلفة، وفي العالم نشاهد أورادا كثيرة،
وقد يحمل الغصن الواحد أورادا مختلفة الألوان.

1 - " أعناب " جمع عنب و " النخيل " جمع نخلة، ويحتمل أنهما ذكرتا بصيغة الجمع للدلالة على الأنواع المختلفة للعنب
والتمر والتي قد تصل إلى مئات الأنواع في العالم.
2 - وقد ذكروا معنى آخر لصنو، وهو الشبيه، ولكن يحتمل أن هذا المعنى مأخوذ من نفس المعنى الذي ذكرناه آنفا.
335

أي مختبر للأسرار هذا الذي يعمل في أغصان الأشجار، والذي ينتج من
مواد قليلة متحدة، تركيبات مختلفة تؤمن احتياجات الإنسان.
أليست هذه الأسرار تدل على وجود من يقود هذا النظام بالعلم والحكمة.
وهنا في آخر الآية يقول تعالى: إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
* * *
3 هناك عدة نقاط:
3 1 - ما هي وجه العلاقة بين التوحيد والمعاد؟
كان الحديث في بداية الآية عن التوحيد وأسرار الكون، ولكن نقرأ في
نهايتها يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربك م توقنون فما هي وجه العلاقة بين
التوحيد والمعاد حتى تكون الواحدة نتيجة للأخرى؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من ملاحظة ما يلي:
أ - إن قدرة الله على إيجاد الكون دليل على قدرته في إعادته كما نقرأ في
الآية (29) من سورة الأعراف كما بدأكم تعودون أو نقرأ في أواخر سورة
" يس " قوله تعالى: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق
مثلهم.
ب - وكما قلنا في بحثنا عن المعاد، فإنه لا فائدة من خلق العالم إذا لم تكن
الآخرة حقيقة، لأنه لا يمكن أن تكون هذه الحياة هي الهدف من خلق هذا العالم
الواسع. يقول القرآن الكريم ضمن آياته المتعلقة بالمعاد من سورة الواقعة آية
(62): ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون (1).

1 - للمطالعة أكثر راجع كتاب [المعاد والعالم بعد الموت].
336

3 2 - الإعجاز العلمي للقرآن
هناك آيات كثيرة في القرآن المجيد أزاحت الستار عن مجموعة من
الأسرار العلمية التي كانت خافية على العلماء في ذلك الوقت. وهذه واحدة من
دلائل إعجاز وعظمة القرآن، وغالبا ما كان يشير إليها كثير من المحققين في
مسألة الإعجاز.
فمن جملة هذه الآيات ما ذكرناه آنفا وهي الآية التي تذكر الزوجية في
النباتات، فكما قلنا سابقا: إن ظاهرة الزوجية في النباتات كانت معروفة للناس
منذ القديم ولو بشكلها الجزئي، ولكن لم تكن تعرف بشكل قانون عام حتى
أواسط القرن الثامن عشر حين استطاع العالم " لينه " والأول مرة أن يكشف عن
هذه الحقيقة، ولكن القرآن الكريم أخبر بذلك قبل أكثر من ألف عام.
كما أشار القرآن إلى هذا الموضوع في سورة لقمان الآية 10 قوله تعالى:
وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم.
كما أشارت إليها آيات أخرى.
3 3 - تسخير الشمس والقمر
قرأنا في الآيات السابقة أن الله سخر الشمس والقمر، كما نقرأ في آيات
كثيرة أخرى عن تسخير السماء والأرض والليل والنهار للإنسان.
فنقرأ في آية وسخر لكم الأنهار (1) وفي آية أخرى وسخر لكم
الفلك (2) سخر لكم الليل والنهار (3) وسخر لكم الشمس والقمر (4)

1 - إبراهيم، 32.
2 - إبراهيم، 32.
3 - النحل، 12.
4 - إبراهيم، 33.
337

وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا (1) ألم تر أن الله سخر لكم ما
في الأرض (2) وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه (3).
من مجموع هذه الآيات يمكن أن نستفيد ما يلي:
أولا: إن الإنسان أكمل من جميع الموجودات في هذا العالم، فمن وجهة
إسلامية نرى أن الشريعة الإسلامية تعطي للإنسان القيمة الكبيرة بحيث تسخر له
كل ما في الكون، فهو خليفة الله، وقلبه مستودع نوره!
ثانيا: ويتضح أن التسخير ليس المقصود منه أن جميع هذه الكائنات هي
تحت إمرة الإنسان، بل هي بقدر معين تدخل ضمن منافعه وخدمته، وعلى سبيل
المثال فإن تسخير الكواكب السماوية من أجل أن يستفيد الإنسان من نورها أو
لفوائد أخرى.
فلا يوجد أي مبدأ يقيم الإنسان بهذا الشكل، ولا يوجد في أية فلسفة هذا
المقام لشخصيته، فهذه من خصائص المدرسة الإسلامية التي ترفع من قيمة
الإنسان بهذا الشكل الكبير، فالمعرفة بها لها أثر عميق على تربيته، لأنه حينما
يفكر الإنسان بتعظيم الله له، وتسخير السحاب والهواء والشمس والقمر والنجوم
وجعلها في خدمته، فمثل هذا الإنسان لا تعتريه الغفلة ولا يكون عبدا للشهوات
وأسيرا للمال والمقام، بل يحطم القيود ويتطلع إلى آفاق السماء.
كيف يمكن القول: إن الشمس والقمر غير مسخرين للإنسان في الوقت الذي
نرى أن في أشعتها نور يضئ حياة الإنسان ويحافظ على دفئه، ولولا أشعة
الشمس لما وجدت أي حركة أو نشاط على الكرة الأرضية، ومن جهة أخرى
فإن جاذبيتها تنظم حركة الأرض حول مدارها، وتوجد ظاهرة المد والجزر في

1 - النحل، 14.
2 - الحج، 65.
3 - الجاثية، 13.
338

البحار بمساعدة القمر وهي بالتالي منبع لكثير من الفوائد والبركات.
فالبحار والأنهار، والليل والنهار، والفلك، كل واحدة هي في خدمة الإنسان
ومصالحه. والدقة في هذا التسخير والنظام دليل واضح على عظمة وقدرة
وحكمة الخالق المتعال.
* * *
339

2 الآيتان
وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا تربا أإنا لفى خلق جديد
أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم
وأولئك أصحب النار هم فيها خلدون (5) ويستعجلونك
بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك
لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب (6)
2 التفسير
3 تعجب الكفار من المعاد:
بعد ما انتهينا من البحث السابق عن عظمة الله ودلائله، تتطرق الآية الأولى
من هذه المجموعة إلى مسألة المعاد التي لها علاقة خاصة بمسألة المبدأ، ويؤكد
القرآن الكريم هذا المعنى حيث يقول: وإن تعجب فعجب قوله أإذا كنا ترابا
أإنا لفي خلق جديد (1) أي إذا أردت أن تتعجب من قولهم هذا فتعجب لقولهم

1 - ويحتمل في تفسير جملة إن تعجب فعجب قولهم إن المقصود منه إن تعجب من عبادتهم للأصنام فالأعجب أن
ينكروا المعاد، ولكن هذا الاحتمال غير وارد، والصحيح ما هو ظاهر الآية المذكور في المتن.
340

في المعاد.
هذا التعجب من المعاد كان موجودا عند جميع الأقوام الجاهلة، فهم يظنون
أن الحياة بعد الموت أمر محال، ولكننا نرى أن الآيات السابقة وآيات أخرى من
القرآن الكريم تجيب على هذا التساؤل، فما هو الفرق بين بدء الخلق والبعث من
جديد؟ فالقادر الذي خلقهم أول مرة باستطاعته أن يبعث الروح فيهم مرة ثانية،
وهل نسي هؤلاء بداية خلقهم حتى يجادلوا في بعثهم!؟
ثم يبين حالهم الحاضر ومصيرهم في ثلاث جمل:
يقول أولا: أولئك الذين كفروا بربهم لأنهم لو كانوا يعتقدون بربوبية الله
لما كانوا يترددون في قدرة الله على بعث الإنسان من جديد، وعلى هذا فسوء
ظنهم بالمعاد هو نتيجة لسوء ظنهم بالتوحيد وربوبية الله.
والأمر الآخر انه بكفرهم وعدم إيمانهم وخروجهم من ساحة التوحيد قيدوا
أنفسهم بالأغلال، أغلال عبادة الأصنام والأهواء والمادة والجهل والخرافة،
وجعلوها في أعناقهم وأولئك الأغلال في أعناقهم.
ومثل هؤلاء الأشخاص ليس لهم عاقبة سوى دخول النار وأولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون.
وفي الآية الثانية يشير إلى دعوى أخرى للمشركين حيث يقول:
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة بدلا من طلب الرحمة ببركة وجودك
بينهم.
لماذا يصر هؤلاء القوم على الجهل والعناد؟ لماذا لم يقولوا: لو كنت صادقا
لأنزلت علينا رحمة الله، أو لرفعت العذاب عنا!؟
وهل يعتقدون بكذب العقوبات الإلهية؟ وقد خلت من قبلهم
المثلات (1).

1 - المثلات جمع " مثلة " بفتح الميم وضم الثاء ومعناها العقوبات النازلة على الأمم الماضية.
341

ثم تضيف الآية وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد
العقاب. إن العذاب الشديد غير مخالف لرحمته الواسعة، كما لا يتوهم أحدا أن
رحمته العامة هي إعطاء الفرصة للظالمين أن يفعلوا ما يريدون. لأنه في هذه
الموارد يكون شديد العقاب، والحصول على نتائج هذه الصفتين للرب يعني ذو
مغفرة و شديد العقاب مرهون بسلوك الإنسان نفسه.
* * *
2 ملاحظتان
3 1 - لماذا التعجب في الخلق الجديد؟
يستفاد من خلال آيات متعددة في القرآن الكريم أن من جملة مشاكل
الأنبياء مع المشركين إثبات " المعاد الجسماني " لأنهم كانوا يتعجبون دائما من
هذا الموضوع وهو: كيف يبعث الإنسان من جديد بعد أن صار ترابا؟ كما أشارت
إليه الآية السابقة أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد وهناك سبع آيات أخرى
تشير إلى هذا الموضوع (الآية 35 و 82 من سورة المؤمنون - 27 النمل - 16
و 53 الصافات - 3 ق - 47 الواقعة).
ومن هنا يتضح أن هذا التساؤل كان مهما بالنسبة إليهم حيث كانوا يكررونه
في كل فرصة، ولكن القرآن الكريم يجيبهم بعبارات قصيرة وقاطعة، فمثلا الآية
(29) من سورة الأعراف: كما بدأكم تعودون تتكون من كلمات قليلة ولكنها
مفحمة لهم، وفي مكان آخر يقول تعالى: وهو أهون عليه لأنكم في الخلق
الأول لم تكونوا شيئا أما الآن فتوجد على الأقل عظام نخرة مع التراب المتبقي
منكم.
وفي بعض الأحيان يأخذ بأيدي الناس ويدعوهم إلى التفكر والإمعان في
عظمة وقدرة الخالق أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن
342

يخلق مثلهم.
3 2 - هل إن الله يعفو عن الظالمين؟
قرأنا في الآيات المتقدمة أن الله يعفو ويغفر للذين ظلموا، وهذا الغفران غير
لازم لمن يصر على ظلمه، ولكنه من باب إعطاء الفرصة لهم لأن يصلحوا أنفسهم،
وإلا فهو تعالى شديد العقاب.
ويمكن أن نستفيد من هذه الآية أن الذنوب الكبيرة - ومن جملتها الظلم -
قابلة للغفران (ولكن بتحقق شروطها)، وهو رد على قول المعتزلة بأن الذنوب
الكبيرة لا يغفرها الله أبدا.
وعلى أية حال ف‍ " المغفرة الواسعة " و " العقاب الشديد " في الواقع تجعل
كل المعترفين بوجود الله بين " الخوف " و " الرجاء " الذي يعتبر من العوامل المهمة
لتربية الإنسان، فلا ييأس من رحمة الله لكثرة الذنوب، ولا يأمن من العذاب
لقلتها.
ولهذا جاء في الحديث عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) " لولا عفو الله وتجاوزه ما
هنئ أحد العيش، ولولا وعيد الله وعقابه لأتكل كل واحد " (1).
ومن هنا يتضح أن الذين يقولون - أثناء ارتكابهم المعاصي - إن الله كريم،
يكذبون في إتكالهم على كرم الله، فهم في الواقع يستهزؤون بعقاب الله.
* * *

1 - مجمع البيان، المجلد 5 و 6، ص 278 - تفسير القرطبي، المجلد السادس، ص 3514.
343

2 الآية
ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت
منذر ولكل قوم هاد (7)
2 التفسير
3 ذريعة أخرى!
بعد ما أشرنا في الآيات السابقة إلى مسألة " التوحيد " و " المعاد "، تتطرق
هذه الآية إلى واحدة من اعتراضات المشركين المعاندين حول مسألة النبوة:
ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه.
ومن الواضح أن إحدى وظائف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إظهار معاجزه لكي يدل على
صدقه وصلته بالوحي الإلهي، والذي يبحث عن الحقيقة له الحق في المطالبة
بالمعجزة أثناء شكه وتردده في تصديق الدعوة، أو تتضح له دلائل النبوة عن
طريق آخر.
ولكن يجب أن نلتفت إلى هذه النقطة وهي: إن أعداء الأنبياء لم يكن لديهم
حسن نية أو اتباع للحق عند طلبهم المعجزة، بل لعنادهم وعدم تسليمهم للأمر
الواقع ولذلك كانوا يقترحون بين فترة وأخرى معاجز عجيبة وغريبة. وهذه ما
344

يسمى ب‍ " المعجزات الأخلاقية ".
اقتراحهم للمعاجز لم يكن لكشف الحقيقة، ولهذا لم يستجب الأنبياء
لمطاليبهم، وفي الحقيقة كانت هذه الفئة من الكفار المعاندين يعتقدون أن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) يدعي القدرة على إنجاز أي عمل خارق للعادة، وأي واحد منهم يقترح
عليه إنجاز عمل ما سوف يلبي مطاليبه.
ولكن الأنبياء كانوا يقولون لهم الحقيقة وهي أن المعاجز بيد الله، ورسالتنا
هداية الناس.
ولذلك نقرأ في تكملة الآية قوله تعالى: إنما أنت منذر ولكل قوم هاد.
* * *
2 بحثان
3 هنا يرد سؤالان:
3 1 - هل الآية " إنما أنت منذر... " جواب للكفار؟
كيف يمكن لجملة إنما أنت منذر ولكل قوم هاد أن تكون جوابا للكفار
عند طلبهم المعجزة؟
الجواب: بالإضافة إلى ما قلناه سابقا فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست له القدرة الغيبية
المطلقة كي يطلبوا منه الإعجاز، لأن الوظيفة الأولى له هي إنذار أولئك الذين
يسيرون في طريق الضلال، والدعوة إلى الصراط المستقيم، وإذا ما إحتاجت هذه
الدعوة إلى المعجزة فسوف يأتي بها النبي، ولكن لا يأتي بها للمعاندين البعيدين
عن هذه المسيرة.
فمعنى الآية: إن الكفار نسوا أن هدف الأنبياء الإنذار والدعوة إلى الله،
واعتقدوا أن وظيفتهم القيام بالمعاجز.
345

3 2 - ما هو المقصود من جملة لكل قوم هاد؟
قال بعض المفسرين: إن هاتين الصفتين (منذر) و (هاد) صفتان للرسول،
فأصل الجملة تكون (أنت منذر وهاد لكل قوم).
ولكن هذا التفسير خلاف الظاهر، لأن الواو في جملة ولكل قوم هاد
تفصل بين جملة إنما أنت منذر ولو كانت كلمة " هاد " قبل " لكل قوم " كان
المعنى السابق صحيحا. ولكن الأمر ليس كذلك.
والشئ الآخر هو أن هدف الآية بيان أن هناك قسمين من الدعوة إلى الله:
أحدهما أن يكون عمل الداعي هو الإنذار فقط. والآخر: أن يكون العمل هو
الهداية.
وسوف تسألون حتما: ما هو وجه التفاوت بين (الإنذار) و (الهداية)؟ نقول
في جواب هذا السؤال: إن الإنذار للذين أضلوا الطريق ودعوتهم تكون إلى
الصراط المستقيم، ولكن الهداية والاستقامة للذين آمنوا.
وفي الحقيقة إن المنذر مثل العلة المحدثة، أما الهادي فبمنزلة العلة الباقية
وهذه هي التي تعبر عنها بالرسول والإمام، فالرسول يقوم بتأسيس الشريعة
والإمام يقوم بحفظها وحراستها. (ليس من شك أن الهداية في آيات أخرى مطلقة
للرسول، ولكن بقرينة المنذر في هذه الآية نفهم أن المقصود من الهادي هو
الشخص الحافظ والحامي للشريعة).
هناك روايات عديدة تؤكد ما قلناه سابقا، فقد قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أنا المنذر وعلي الهادي ".
ولا بأس أن نشير إلى عدة من هذه الروايات:
1 - في ذيل هذه الآية من تفسير الفخر الرازي مرفوعا عن ابن عباس قال:
وضع رسول الله يده على صدره فقال: " أنا المنذر " ثم أومأ إلى منكب علي (عليه السلام)
وقال: (أنت الهادي بك يهتدي المهتدون من بعدي) هذه الرواية ذكرها العلامة
346

" ابن كثير " في تفسيره، والعلامة " ابن الصباغ المالكي " في الفصول المهمة، و
" الكنجي " الشافعي في كفاية الطالب و " الطبري " في تفسيره، و " أبو حيان
الأندلسي " في تفسيره البحر المحيط، وكذلك " العلامة النيسابوري " في تفسيره
الكشاف، وعدد آخر من المفسرين.
2 - نقل " الحمويني " وهو من علماء أهل السنة المعروفين في كتابه فرائد
السمطين عن أبو هريرة قال " إن المراد بالهادي علي (عليه السلام) ".
3 - " مير غياث الدين " مؤلف كتاب (حبيب السيد) كتب يقول في المجلد
الثاني صفحة 12: " قد ثبت بطرق متعددة أنه لما نزل قوله تعالى: إنما أنت منذر
ولكل قوم هاد قال لعلي: " أنا المنذر وأنت الهادي بك يا علي يهتدي المهتدون
من بعدي ".
كما نقل هذا الحديث " الآلوسي " في (روح المعاني) و " الشبلنجي " في (نور
الأبصار) والشيخ " سليمان القندوزي " في (ينابيع المودة).
وبما أن أكثر هذه الروايات مسنده إلى ابن عباس فإنه لم يكن الشخص
الوحيد الذي روى ذلك، فأبو هريرة نقل ذلك فيما ذكره الحمويني، وحتى علي
نفسه - طبقا لما نقله الثعلبي - قد قال: " المنذر النبي والهادي رجل من بني هاشم "
يعني نفسه (1).
لا شك أن هذه الأحاديث لا تصرح بالخلافة، ولكن بالنظر إلى ما تحتويه
هذه الكلمة (الهداية) من المعنى الواسع، فإنها غير منحصرة بعلي (عليه السلام) بل تشمل
جميع العلماء وأصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين كانوا يقومون بنفس المهمة، فإنه
يتضح لنا تخصيص علي بن أبي طالب (عليه السلام) في هذه الروايات بهذا العنوان يدل
على أنه المصداق البارز له، وذلك لما يمتاز به من الخصوصيات، وهذا المطلب لا
يكون منفصلا عن خلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) حتما.
* * *

1 - للمزيد من الاطلاع راجع كتاب إحقاق الحق، المجلد الثالث، ص 87 وما بعدها.
347

2 الآيات
الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد
وكل شئ عنده بمقدار (8) علم الغيب والشهدة الكبير
المتعال (9) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو
مستخف باليل وسارب بالنهار (10)
2 التفسير
3 علم الله المطلق:
نقرأ في هذه الآيات قسما من صفات الخالق، والتي تكمل بحث التوحيد
والمعاد، فالحديث عن علمه الواسع ومعرفته بكل شئ، هو ذاك العلم الذي يقوم
عليه نظام التكوين وعجائب الخلقة وآيات التوحيد، وهو العلم الذي يكون
أساسا للمعاد والعدالة الإلهية يوم القيامة وهذه الآيات استندت إلى هذين
القسمين: (العلم بنظام التكوين، والعلم بأعمال العباد).
تقول الآية أولا: الله يعلم ما تحمل كل أنثى في رحمها، سواء من أنثى
الإنسان أو الحيوان وما تغيض الأرحام أي تنقص قبل موعدها المقرر وما
348

تزداد (1) أي يعلم بما تزيد عن موعدها المقرر.
3 في تفسير هذه الجمل الثلاث هناك آراء مختلفة بين المفسرين:
يعتقد البعض - أنها تشير - كما ذكرنا آنفا - إلى وقت الولادة، وهي على ثلاثة
أنواع: فمرة يولد المولود قبل موعده. ومرة في موعده، وأخرى بعد الموعد
المقرر. فالله يعلم كل ذلك ويعلم لحظة الولادة بالتحديد، وهذه من الأمور التي لا
يستطيع أي أحد أو جهاز أن يحدد موعده، وهذا العلم خاص بذات الله المنزهة،
وسببه واضح لأن استعدادات الأرحام والأجنة مختلفة، ولا أحد يعلم بهذا
التفاوت.
وقال بعض آخر: إنها تشير إلى ثلاث حالات مختلفة للرحم أيام الحمل،
فالجملة الأولى تشير إلى نفس الجنين الذي تحفظه، والجملة الثانية تشير إلى دم
الحيض الذي ينصب في الرحم ويمصه الجنين، والجملة الثالثة إشارة إلى الدم
الإضافي الذي يخرج أثناء الحمل أحيانا، أو دم النفاس أثناء الولادة (2).
وهناك عدة إحتمالات أخرى في تفسير هذه الآية دون أن تكون متناقضة
فيما بينها، ويمكن أن يكون مراد الآية إشارة إلى مجموع هذه التفاسير، ولكن
الظاهر أن التفسير الأول أقرب، بدليل جملة (تحمل) المقصود منها الجنين
والجمل (تغيض) و (تزداد) بقرينة الجملة السابقة تشير إلى الزيادة والنقصان في
فترات الحمل.
روى الشيخ الكليني في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أو الإمام الباقر (عليه السلام)

1 - " تغيض " أصلها الغيض بمعنى ابتلاع السائل وهبوط مستوى الماء. وتأتي بمعنى النقصان والفساد، و " الغيضة "
المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه، و " ليلة غائضة " أي مظلمة.
2 - يقول صاحب الميزان مؤيدا هذا الرأي: إن بعض روايات أئمة أهل البيت يؤيد هذا الرأي. وابن عباس ممن يؤيد
هذا الرأي أيضا، ولكن بالنظر إلى الروايات المنقولة في تفسير نور الثقلين في ذيل الآية فان أكثرها يؤيد ما قلناه في
الرأي الأول.
349

في تفسير الآية أن " الغيض كل حمل دون تسعة أشهر، وما تزداد كل شئ حمل
على تسعة أشهر ". وفي تكملة الحديث يقول: " كلما رأت المرأة الدم الخالص في
حملها فإنها تزداد وبعدد الأيام التي زاد فيها في حملها من الدم " (1).
وكل شئ عنده بمقدار ولكي لا يتصور أحد أن هذه الزيادة والنقصان
بدون حساب ودليل، بل إن كل ساعة وثانية ولحظة لا تمر دون حساب، كما أن
للجنين ودم الرحم حساب وكتاب أيضا. فالآية التي بعدها تؤكد ما قلناه في الآية
السابقة حيث تقول: عالم الغيب والشهادة فعلمه بالغيب والشهادة لهذا السبب
الكبير المتعال فهو يحيط بكل شئ، ولا يخفى عنه شئ.
ولتكميل هذا البحث وتأكيد علمه المطلق يضيف القرآن الكريم: سواء
منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب
بالنهار (2) وهذا هو الحق فالذي يوجد في كل مكان لا معنى للغيب والشهادة أو
الليل والنهار عنده، فهو محيط بها وعالم بأخبارها بشكل متساو.
* * *
2 بحوث
3 1 - القرآن وعلم الأجنة
أشار القرآن المجيد مرارا إلى مسألة الجنين وعجائب تكوينه ليكون أحد
الأدلة على التوحيد ومعرفة الله وعلمه المطلق، وبالطبع فإن علم الأجنة واحد من
العلوم الحديثة وكان سابقا عبارة عن معلومات أولية محدودة ثم توسعت في
هذا العصر. ولكن بتقدم العلم والمعرفة حدثت قفزة في هذا المجال كشفت عن

1 - نور الثقلين، ج 2، صفحة 485.
2 - " سارب " من سرب على وزن ضرر، بمعنى الماء الجاري، ويقال للشخص الذاهب إلى عمل أيضا.
350

كثير من أسرار هذا العالم الساكن والهادئ وعن كثير من عجائبه بحيث نستطيع
أن نقول: إن أكبر درس للتوحيد ومعرفة الله كامن في تكوين الجنين ومراحل
تكامله.
فمن هذا الذي يرعى هذا الكائن المخفي وبتعبير القرآن واقع " في ظلمات
ثلاث " الذي يمتاز بالظرافة ودقة التكوين وأن يوصل له المقدار اللازم من الغذاء
ويرشده مراحل حياته؟
وعندما تقول الآية السابقة: الله يعلم ما تحمل كل أنثى فليس المقصود
من علمه بالذكر والأنثى فقط، بل بكل خصائصه والطاقة الكامنة فيه، هذه
الأشياء لا يستطيع أحد وبأي وسيلة أن يتعرف عليها، وعلى هذا فإن وجود هذا
النظام الدقيق والمعقد للجنين ومراحل تكامله لا يمكن أن يكون بدون صانع
عالم وقدير.
3 2 - كل شئ له مقدار
نحن نقرأ في آيات مختلفة من القرآن الكريم أن كل شئ له حد محدود ولا
يتجاوزه، ففي الآية (3) من سورة الطلاق يقول تعالى: قد جعل الله لكل شئ
قدرا وفي الآية 21 سورة الحجر يقول تعالى: وإن من شئ إلا عندنا خزائنه
وما ننزله إلا بقدر معلوم والآية التي نحن بصددها وكل شئ عنده بمقدار.
كل هذه تشير إلى أنه ليس هناك شئ في العالم بدون حساب، حتى
الموجودات في الطبيعة التي نعتبرها في بعض الأحيان غير مهمة، فإن وجودها
على أساس حساب دقيق، علمنا بذلك أم لم نعلم، وأساسا فإن معنى حكمة الله
هو أن يجعل لكل ما في الكون حدا ومقدارا ونظاما.
وكل ما حصلناه اليوم من أسرار الكون بواسطة العلوم يؤكد هذه الحقيقة،
فمثلا نرى أن دم الإنسان - الذي هو المادة الحياتية لوجود الإنسان والذي يقوم
351

بنقل المواد الضرورية اللازمة لخلايا الجسم - يتركب من عشرين مادة أو أكثر،
وبنسب ثابتة دقيقة بحيث لو تم أي تغيير فيها لتعرضت سلامة الإنسان للخطر،
ولهذا السبب ولمعرفة النقص الحاصل في الجسم يقومون بتحليل الدم وقياس
نسبة السكر والدهن وسائر مركبات الدم الأخرى، ويتم تشخيص العلة بواسطة
معرفة زيادة أو نقصان هذه النسب، وليس دم الإنسان وحده له هذه الميزة، بل كل
ما في الوجود له نفس هذه الدقة في النظام.
ولابد هنا من التنبيه على أن ما يظهر لنا في بعض الأحيان من عدم النظام في
عالم الوجود هو في الواقع ناتج من قصور في علومنا ومعرفتنا، فالإنسان الذي
يؤمن بالله لا يمكن أن يتصور ذلك، وبتطور العلوم تتأكد لنا هذه الحقيقة.
وكي نستطيع أن نتعلم هذا الدرس وهو أن المجتمع الإنساني الذي هو جزء
من عالم الوجود إذا أراد له العيش بسلام، فعليه أن يجعل شعار كل شئ عنده
بمقدار يسود جميع جوانبه، ويجتنب الإفراط والتفريط في أعماله وتخضع
جميع مؤسساته الاجتماعية للحساب والموازين.
3 3 - الغيب والشهادة سواء عند الله
استندت هذه الآيات إلى أن الغيب والشهادة معلومان عند الله، فهما مفهومان
نسبيان وتستخدمان للكائن الذي علمه ووجوده محدود، وعلى سبيل المثال
نحن نمتلك حواسا ذات مدى نسبي، فمتى ما كان الشئ داخلا في هذا المدى
فهو شاهد بالنسبة لنا، وما كان خارجا عنه فهو غيب، فلو فرضنا أن أبصارنا لها
قدرة غير محدودة ويمكنها النفوذ في باطن الأشياء وإدراكها، فإن كل شئ يعتبر
شاهد عندنا.
وبما أن كل شئ له حد محدود غير الذات الإلهية، فإن لغير الله تعالى غيب
وشهادة، ولأن ذات الله غير محدودة ووجوده عام ومطلق فإن كل شئ بالنسبة
352

إليه شهادة، ولا معنى للغيب بالنسبة إليه، وإذا ما قلنا - إن الله عالم الغيب والشهادة
فهو ما نعتبره نحن غيب وشهادة، أما هو فهما عنده سواء. لنفترض أننا ننظر ما في
أيدينا في النهار، فهل نجهل ما فيها؟! جميع الكون في مقابل علم الله أوضح من
هذا وأظهر.
3 4 - الآثار التربوية في إدراكنا لعلم الله
أثناء قراءتنا للآيات الماضية التي تقول: إن الله يعلم السر والجهر من القول
وحركاتكم في الليل والنهار وكلها مشهودة عنده، هل نجد في أنفسنا إيمانا بهذه
الحقيقة؟.. لو كنا مؤمنين بذلك حقا ونشعر بأن الله تعالى مطلع علينا فان هذا
الإيمان والإحساس الباطني يبعث على تغيير عميق في روحنا وفكرنا وقولنا
وضمائرنا؟.
نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) في جوابه لمن سأله عن طريقتهم في الحياة قال:
" علمت إن الله مطلع علي فاستحييت ".
كما نشاهد كثيرا من المواقف من تأريخ المسلمين وحياتهم تتجلى فيها هذه
الحقيقة، يقال: دخل أب وابنه في بستان، فتسلق الأب شجرة ليقطف ثمارها دون
إذن صاحبها، بينما بقي الابن أسفل الشجرة لمراقبة الأوضاع. وفجأة صاح الابن
الذي كان مؤمنا ومتعلما ونادى أباه بأن ينزل بسرعة، عندها خاف الأب ونزل
فورا وسأل من الذي رآني؟ قال: الذي هو فوقنا، فنظر الأب إلى الأعلى فلم يجد
أحدا، وسأل من الذي رآني؟ قال: الذي هو فوقنا، فنظر الأب إلى الأعلى فلم
يجد أحدا، فقال الابن: كان قصدي هو الله المحيط بنا جميعا، كيف يمكن أن
تخاف أن يراك الإنسان، ولا تخاف أن يراك الله؟! أين الإيمان؟!
* * *
353

2 الآية
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن
الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم
سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (11)
2 التفسير
3 المعقبات الغيبية!
علمنا في الآيات السابقة أن الله بما أنه عالم الغيب والشهادة فإنه يعلم أسرار
الناس وخفاياهم، وتضيف هذه الآية أنه مع حفظ وحراسة الله لعبادة فإن له
معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله (1).
ولكي لا يتصور أحد أن هذا الحفظ بدون شروط وينغمس في المزلات، أو
يرتكب الذنوب الموجبة للعقاب، ومع كل ذلك ينتظر من الله أو الملائكة أن
يحفظوه، يعلل القرآن ذلك بقوله: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما

1 - هناك حديث بين المفسرين في أن الضمير (له) لمن يعود، وكما تشير الآية فإنه يعود للإنسان كما تؤكد عليه الآيات
السابقة، ولكن بعضهم قال: يعود للنبي أو لله. وهذا يخالف ما جاء في ذيل الآية [فتأمل].
354

بأنفسهم.
وكي لا يتبادر إلى الأذهان أنه مع وجود الملائكة الحافظة فأي معنى
للعذاب أو الجزاء؟ هنا تضيف الآية وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم
من دونه من وال ولهذا السبب فإنه حين صدور العذاب الإلهي على قوم أو
أمة، فسوف ينتهي دور المعقبات ويتركون الإنسان عرضة للحوادث
* * *
2 بحوث
3 1 - ما هي المعقبات؟
" المعقبات " كما جاء في مجمع البيان للعلامة الطبرسي وكما قاله بعض
المفسرين جمع (معقبة) وهي بدورها جمع (معقب) ومعناه المجموعة التي تعمل
بشكل متناوب ومستمر. والظاهر من الآية أن الله سبحانه وتعالى أمر مجموعة
من الملائكة بأن يحفظوا الإنسان في الليل والنهار ومن بين يديه ومن خلفه.
إن الإنسان - بدون شك - معرض في حياته إلى كثير من الحوادث الروحية
والجسمية، فالأمراض والمتغيرات في السماء والأرض محيطة بالإنسان،
وخصوصا في مرحلة الطفولة التي لا يدرك فيها ما يجري حوله ويكون هدفا
سهلا للإصابة بها، فقد يتعجب الإنسان كيف ينجو الطفل وينمو من بين جميع هذه
الحوادث، وخصوصا في العوائل التي لا تدرك هذه المسائل وتعاني من قلة
الإمكانيات كأبناء الريف الذين يعانون من الحرمان والفقر وهم معرضون
للأمراض أكثر من غيرهم.
وإذا ما أمعنا النظر في هذه المسائل فسوف نجد أن هناك قوى محافظة،
تحفظ الإنسان في مقابل هذه الحوادث كالدرع الواقي.
وكثيرا ما يتعرض الإنسان إلى حوادث خطرة ويتخلص منها بشكل
355

إعجازي تجعله يشعر أن كل ذلك ليس صدفة وإنما هناك قوى محافظة تحميه.
وهناك كثير من الأحاديث المنقولة عن أئمة المسلمين تؤكد ذلك ومن
جملتها: الحديث المروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية يقول: " يحفظ
بأمر الله من أن يقع في ركي أو يقع عليه حائط أو يصيبه شئ، حتى إذا جاء القدر
خلوا بينه وبينه يدفعونه إلى المقادير، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان من
نهار يتعاقبانه ".
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: " ما من عبد إلا ومعه ملكان
يحفظانه فإذا جاء الأمر من عند الله خليا بينه وبين أمر الله ".
ونقرأ في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) " إن مع كل إنسان ملكين
يحفظانه فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه ".
كما نقرأ في نهج البلاغة في وصف الملائكة من الخطبة الأولى " ومنهم
الحفظة لعباده ".
إن عدم إدراكنا لوجود المعقبات عن طريق الحس أو التجربة العلمية ليس
دليلا على عدم وجودهم، لأنه غير منحصر في هذا المجال فقط، فالقرآن الكريم
والمصادر المعرفية الأخرى أشارت إلى أمور كثيرة وراء الحس والتي لا يمكن
إثباتها بالطرق العادية. وأكثر من ذلك ما قلنا سابقا من أننا نتعرض في حياتنا إلى
كثير من المخاطر والتي لا يمكن النجاة منها إلا بوجود هذه القوى المحافظة
(ورأيت في حياتي بعض من هذه النماذج المحيرة، والتي كانت بالنسبة لي
كشخص صعب التصديق دليلا على وجود هذا المعقب اللا مرئي).
3 2 - التغيير يبدأ من النفس (قانون عام)
تبين الجملة إن الله لا يغير ما بقوم والتي جاءت في موردين متفاوتين
في القرآن الكريم، أنها قانون عام، قانون حاسم ومنذر!
356

هذا القانون الذي هو واحد من القوانين الأساسية لعلم الاجتماع في
الإسلام، يقول لنا: إن ما يصيبكم هو من عند أنفسكم، وما أصاب القوم من
السعادة والشقاء هو مما عملت أيديهم، وما يقال من الحظ والصدفة وما يحتمله
المنجمون ليس له أساس من الصحة، فالأساس والقاعدة هي إرادة الأمة إذا
أرادت العزة والافتخار والتقدم، أو العكس إن أرادت هي الذلة والهزيمة، حتى
اللطف الإلهي أو العقاب لا يكون إلا بمقدمة. فتلك إرادة الأمم في تغيير ما
بأنفسهم حتى يشملهم اللطف أو العذاب الإلهي.
وبتعبير آخر: إن هذا الأصل القرآني الذي يبين واحدا من أهم المسائل
الاجتماعية في الإسلام، يؤكد لنا أن أي تغيير خارجي للأمم مرتبط بالتغيير
الداخلي لها، وأي نجاح أو فشل يصيب الأمة ناشئ من هذا الأمر، والذين
يبحثون عن العوامل الخارجية لتبرير أعمالهم وتصرفاتهم ويعتبرون القوى
المستعمرة والمتسلطة هي السبب في شقائهم يقعون في خطأ كبير، لأن هذه
القوى الجهنمية لا تستطيع أن تفعل شيئا إذا لم تكن لديها قدرة ومركز في داخل
المجتمع.
المهم أن نطهر مجتمعاتنا من هذه المقرات والمراكز للمستعمرين ولا نجعلها
تنفذ في داخل مجتمعنا، فهؤلاء بمنزلة الشياطين، ونحن نعلم أن الشيطان ليس له
سبيل على عباد الله المخلصين، فهو يتسلط على الذي مهد له السبيل في داخله.
يقول هذا الأصل القرآني: إننا يجب أن نثور من الداخل كي ننهي حالة
الشقاء والحرمان، ثورة فكرية وثقافية، ثورة إيمانية وأخلاقية، وأثناء وقوعنا
في مخالب الشقاء يجب أن نبحث فورا عن نقاط الضعف فينا، ونطهر أنفسنا منها
بالتوبة والرجوع إلى الله، ونبدأ حياة جديدة مفعمة بالنور والحركة، كي نستطيع
في ظلها أن نبدل الهزيمة إلى نصر، لا أن نخفي نقاط الضعف وعوامل الهزيمة هذه
ونبحث عنها في خارج المجتمع ونظل ندور في الطرق الملتوية.
357

هناك كتب ومؤلفات كثيرة كتبت عن عوامل انتصار المسلمين الأوائل ثم
تضعضع سلطانهم بعد حين، وكثير من تلك الأبحاث ظلت تتعثر في الطرق
الملتوية، ولكن إذا ما أردنا أن نستلهم من الأصل أعلاه والصادر من منبع الوحي
فيجب أن نبحث عن ذاك النصر أو تلك الهزيمة وعن عواملها الفكرية والعقائدية
والأخلاقية في المسلمين. ففي الثورات المعاصرة ومن جملتها الثورة الإسلامية
في إيران، أو ثورة الجزائر أو ثورة المسلمين الأفغان، نشاهد بوضوح انطباق هذا
الأصل القرآني عليها. فقبل أن تغير الدول المستعمرة والمستكبرة طريقتها في
التعامل معنا، غيرنا نحن ما بأنفسنا فتغير كل شئ.
وعلى أية حال فهذا درس ليومنا ولغدنا ولمستقبلنا ولكل المسلمين
والأجيال القادمة. ونحن نرى أن القيادات المنتصرة فقط هي التي استطاعت أن
تقود وتغير شعوبها على أساس هذا الأصل الخالد، وفي تاريخ المسلمين
والإسلام شواهد على ذلك كثيرة.
* * *
358

2 الآيات
هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب
الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل
الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجدلون في الله وهو
شديد المحال (13) له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا
يستجيبون لهم بشئ إلا كبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو
ببلغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلل (14) ولله يسجد من في
السماوات والأرض طوعا وكرها وظللهم بالغدو
والآصال (15)
2 التفسير
3 قسم آخر من دلائل عظمة الله:
يتطرق القرآن الكريم مرة ثانية إلى آيات التوحيد وعلائم العظمة وأسرار
الخلقة. فهذه الآيات تحاول أن تقرب العلاقة بين الإنسان وربه من خلال الإشارة
إلى بعض الظواهر الطبيعية بشكل موجز وعميق المعنى لكي يشع نور الإيمان في
359

قلوب الناس، فتشير أولا إلى البرق هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا
فالبرق بشعاعه يبهر العيون من جانب، ويحدث صوتا مخيفا وهو الرعد من
جانب آخر، وقد يسبب أحيانا الحرائق للناس وخصوصا في المناطق
الصحراوية فيبعث على خوفهم ومن جانب آخر فإنه يسبب هطول الأمطار
ويروي ظمأ الصحراء ويسقي المزروعات فيطمع فيه الناس، وبين هذا الخوف
والرجاء تمر عليهم لحظات حساسة. ثم تضيف الآية وينشئ السحاب
الثقال القادرة على إرواء ظمأ الأراضي الزراعية.
3 بركات الرعد والبرق:
نحن نعلم أن ظاهرة البرق في المفهوم العلمي هي اقتراب سحابتين إحداهما
من الأخرى، وهما تحملان شحنات سالبة وموجبة، فيتم تفريغ الشحنات بين
السحابتين فتحدث شرارة عظيمة، ويحدث مثل ذلك عند اقتراب سلكين
أحدهما سالب والآخر موجب، وإذا كنا قريبين منهما فإننا نسمع صوتا خفيفا،
ولكن لاحتواء الغيوم على شحنات هائلة من الألكترونات فإنهما تحدثان صوتا
شديدا يسمى الرعد.
وإذا ما اقتربت سحابة تحمل الشحنة الموجبة من الأرض التي تحتوي على
شحنات سالبة فستحدث شرارة تسمى بالصاعقة، وخطورتها تكمن في أن
الأرض والمناطق المرتفعة تعتبر رأس السلك السالب، حتى الإنسان في
الصحراء يمكن أن يمثل هذا السلك فيحدث تفريغ للشحنات يحول الإنسان إلى
رماد في لحظة واحدة، ولهذا السبب عند وقوع البرق والرعد في الصحراء يجب
أن يلجأ الإنسان إلى شجرة أو حائط أو إلى الجبال أو إلى أي مرتفع آخر، أو أن
يستلقي في أرض منخفضة.
وعلى أية حال فإن للبرق - الذي يسمى في بعض الأحيان مزاح الطبيعة -
360

فوائد جمة عرفت من خلال ما كشفه العلم الحديث. ونشير هنا إلى ثلاثة منها:
1 - السقي: - من الطبيعي أن البرق تتولد منه حرارة عالية جدا قد تصل بعض
الأحيان إلى (15) ألف درجة مئوية، وهذه الحرارة كافية لأن تحرق الهواء
المحيط بها، وفي النتيجة يقل الضغط الجوي، فيسبب سقوط الأمطار. ولهذا
السبب نرى هطول الأمطار الغزيرة بعد حدوث البرق.
وهذه في الواقع واحدة من وظائف البرق (السقي).
2 - التعقيم: - ونتيجة للحرارة العالية التي يسببها البرق فسوف يزداد مقدار
الأوكسجين في قطرات الماء، ويسمى هذا الماء بالماء الثقيل أو الماء المؤكسد
(O 2 H 2) ومن آثاره قتل المكروبات، ولهذا السبب يستعمل لغسل الجروح، فعند
نزول هذه القطرات إلى الأرض سوف تبيد بيوض الحشرات والآفات الزراعية،
ولهذا السبب يقال أن السنة الكثيرة الآفات الزراعية هي السنة القليلة البرق
والرعد.
3 - التغذية والتسميد: - تتفاعل قطرات الماء مع الحرارة العالية للبرق لتنتج
حامض الكاربون، وعند نزولها إلى الأرض وتركيبها مع محتوياتها تضع نوعا من
السماد النباتي، فتتم تغذية النبات من هذا الطريق.
يقول بعض العلماء: إن مقدار ما ينتجه البرق من الأسمدة في السنة يصل إلى
عشرات الملايين من الأطنان، وهذه كمية كبيرة جدا.
وعلى أية حال نرى من خلال ظاهرة طبيعية صغيرة كل هذه المنافع
والبركات، فهي تقوم بالسقي ورش السموم والتغذية، فيمكن أن تكون دليلا
واضحا لمعرفة الله، كل ذلك من بركات البرق. كما أنه يمكن أن يكون البرق عاملا
مهما في إشعال الحرائق من خلال الصاعقة، وقد تحرق الإنسان أو الأشجار،
ومع أنها نادرة الحدوث ويمكن الوقاية منها، فهي مع ذلك عامل خوف للناس،
فمفهوم الخوف والطمع للبرق قد يكون إشارة إلى جميع هذه الأمور.
361

ويمكن أن تكون الجملة وينشئ السحاب الثقال لها علاقة بالبرق
الذي يصنع هذه الغيوم المليئة بالمياه.
الآية الأخرى تشير إلى صوت الرعد الذي يتزامن مع البرق ويسبح الرعد
بحمده (1).
نعم، فهذا الصوت المدوي في عالم الطبيعة يضرب به المثل، فهو مع البرق
في خدمة هدف واحد ولهما منافع متعددة كما أشرنا إليها، ويقومان بعملية
التسبيح، وبعبارة أخرى فالرعد لسان حال البرق يحكي عن عظمة الخالق وعن
نظام التكوين. فهو كتاب معنوي، وقصيدة غراء، ولوحة جميلة وجذابة، نظام
محكم ومنظم ومحسوب بدقة، وبلسان حاله يتحدث عن علم ومهارة وذوق
الكاتب والرسام والمعمار ويحمده ويثني عليه، كل ذرات هذا العالم لها أسرار
ونظام دقيق. وتحكي عن تنزيه الله وخلوه من النقص والعيوب (وهل التسبيح
غير ذلك؟!).
وتتحدث عن قدرته وحكمته (وهل الحمد غير بيان صفات الكمال؟!).
وقد احتمل بعض الفلاسفة أن لكل ذرات هذا العالم نوعا من العقل
والشعور، فهي من خلال هذا العقل تسبح الله وتقدسه، ليس بلسان الحال فقط، بل
بلسان المقال أيضا.
وليس الرعد وسائر أجزاء العالم تسبح بحمده تعالى، بل حتى الملائكة
والملائكة من خيفته (2) فهم يخافون من تقصيرهم في تنفيذ الأوامر الملقاة
على عاتقهم، وبالتالي فهم يخشون العقاب الإلهي، ونحن نعلم أن الخوف يصيب
أولئك الذين يحسون بمسؤولياتهم ووظائفهم.. خوف بناء يحث الشخص على

1 - للتوضيح أكثر في معنيي التسبيح والتقديس للكائنات سيأتي في ذيل الآية وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن
لا تفقهون تسبيحهم الإسراء، 44.
2 - يقول الشيخ الطوسي (رحمه الله) في تفسيره التبيان: الخيفة بيان لحالة الشخص أما الخوف فمصدر.
362

السعي والحركة.
وللتوضيح أكثر في مجال البرق والرعد تشير الآية إلى الصاعقة ويرسل
الصواعق فيصيب بها من يشاء ومع كل ذلك - وبمشاهدة آيات العظمة الإلهية
في عالم التكوين من السماء والأرض والنباتات والأشجار والبرق والرعد
وأمثالها، وفي قدرة الإنسان الحقيرة تجاه هذه الحوادث، حتى في مقابل واحدة
منها مثل شرارة البرق - نرى أن هناك جماعة جاهلة تجادل في الله وهم
يجادلون في الله وهو شديد المحال.
" المحال " في الأصل " الحيلة " بمعنى التدبير السري وغير الظاهر، فالذي له
القدرة على هذا التدبير يمتلك العلم والحكمة العالية، ولهذا السبب يستطيع أن
ينتصر على أعدائه ولا يمكن الفرار من حكومته.
وذكر المفسرون وجوها عديدة في تفسير شديد المحال فتارة بمعنى
" شديد القوة "، أو " شديد العذاب "، أو " شديد القدرة " أو " شديد الأخذ " (1).
الآية الأخيرة تشير إلى مطلبين:
الأول: قوله تعالى: له دعوة الحق فهو يستجيب لدعواتنا، وهو عالم
بدعاء العباد وقادر على قضاء حوائجهم، ولهذا السبب يكون دعاؤنا إياه وطلبنا
منه حقا، وليس باطلا.
ولكن دعاء الأصنام باطل والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم
بشئ نعم هكذا في دعوة الباطل ليست أكثر من وهم، لأن ما يقولونه من علم
وقدرة الأصنام ما هو إلا أوهام وخيال، أوليس الحق هو عين الواقع وأصل الخير
والبركة؟ والباطل هو الوهم وأصل الشر والفساد؟ ولتصوير هذا الموضوع
يضرب لنا القرآن الكريم مثالا حيا ورائعا يقول: إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ

1 - فسر البعض " المحال " من " المحل، الماحل " بمعنى المكر والجدال والتصميم على العقوبة، ولكن ما أشرنا إليه أعلاه
هو الصحيح، والتفسيران قريبا المعنى.
363

فاه وما هو ببالغه. فهل يستطيع أحد أن يجلس على بئر ويطلب الماء بإشارة
يد ليبلغ الماء فاه؟ هذا العمل لا يصدر إلا من إنسان مجنون!
وتحتمل الآية تفسيرا آخر، فهي تشبه المشركين كمن بسط كفه في الماء
ليتجمع فوقها الماء، وعند خروجها من الماء لم يجد فيها شيئا منه لأن الماء
يتسرب من بين أصابع الكف المفتوحة.
وهناك تفسير ثالث وهو أن المشركين - لحل مشاكلهم - كانوا يلجأون إلى
الأصنام، فمثلهم مثل الذي يحتفظ بالماء في يده، هل يحفظ الماء في يد؟! وهناك
مثل معروف بين العرب لمن يسعى بدون فائدة يقال له: هو كقابض الماء باليد،
ويقول الشاعر:
فأصبحت فيما كان بيني وبينها * من الود مثل القابض الماء باليد
ولكننا نعتقد أن التفسير الأول أوضح!
وللتأكيد على هذا الحديث يأتي في نهاية الآية قوله تعالى: وما دعاء
الكافرين إلا في ضلال وأي ضلال أكبر من أن يسعى الإنسان ويجتهد في
السبيل الضال... ولكنه لا يصل إلى مقاصده. ولا يحصل على شئ نتيجة تعبه
وجهده.
الآية الأخيرة من هذه المجموعة، ولكي تبرهن كيف أن المشركين ضلوا
الطريق تقول: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم
بالغدو والآصال.
* * *
2 بحوث
3 1 - ما هو المقصود من سجود الكائنات؟
السجدة في هذه الموارد تعني الخضوع والتسليم، فإن جميع الملائكة
364

والناس ذوي العقول والأفكار متواضعين لله وخاضعين لأوامره، وهناك نوعان
من السجود، سجود تكويني وهو أن الكل خاضعون ومسلمون للقوانين الطبيعية
مثل الحياة والممات والمرض و.. و..، والبعض منهم له سجود تشريعي بالإضافة
إلى السجود التكويني، فهم بميلهم وإرادتهم يسجدون لله.
3 2 - ما هو معنى طوعا وكرها؟
عبارة طوعا وكرها يمكن أن تكون إشارة إلى أن المؤمنين خاضعون لله
بميلهم وإرادتهم، وأما غير المؤمنين فهم خاضعون كذلك للقوانين الطبيعية التي
تسير بأمر الله إن شاؤوا وإن أبوا.
و (الكره) بضم الكاف تعني الكراهية في داخل الإنسان، و (كره) بفتح الكاف
ما حمل عليه الإنسان من خارج نفسه، وبما أن الأشخاص غير المؤمنين
مقهورون للعوامل الخارجية وللقوانين الطبيعية، استعمل القرآن (كره) بفتح
الكاف.
ويحتمل في تفسير طوعا وكرها أن المقصود من " طوعا " هو التوافق
والميل الفطري والطبيعي بين الإنسان والأسباب الطبيعية (مثل حب أي إنسان
للحياة) والمقصود من " كرها " هو ما فرض على الإنسان من الخارج مثل موت
أحد الأشخاص بسبب المرض أو أي عامل طبيعي آخر.
3 3 - ما هو معنى كلمة الظلال؟
" الظلال " جمع " ظل " واستعمال هذه الكلمة في الآية يشير إلى أن المقصود
في السجود ليس فقط السجود التشريعي، فظلال الكائنات ليست خاضعة
لإرادتهم واختيارهم، بل هو تسليم لقانون الضوء، وعلى هذا يكون سجودهم
تكويني، يعني التسليم لقوانين الطبيعية.
365

وطبيعي ليس المقصود من " الظلال " أن جميع ما في السماوات والأرض
لها وجود مادي كي يكون لها ظلال، ولكن الآية تشير إلى تلك الأشياء التي لها
ظلال، فمثلا يقال: إن جمعا من العلماء وأبنائهم شاركوا في المجلس الكذائي،
وليس المقصود هنا أن لكل العلماء أبناء " فتدبر ".
وعلى أية حال فإن الظل أمر عدمي، وهو ليس أكثر من فقدان النور، ولكن
له آثارا ووجودا بسبب النور المحيط به، ولعل الآية تشير إلى هذه النقطة، وهي
أنه حتى الظلال خاضعة لله.
3 4 - ما هو معنى كلوة الآصال؟
" الآصال " جمع " أصل " وهي جمع " أصيل " ومعناه آخر وقت من النهار،
ولذلك يعتبر أول الليل، والغدو جمع غداة بمعنى أول النهار.
ورغم ان السجود والخضوع للأشياء الكونية في مقابل الأوامر الإلهية دائمة
ومستمرة في كل وقت، ولكن ذكرها هنا في موقعين (الصبح والعشاء) إما أنه
كناية عن دوام الوقت، فمثلا تقول: إن فلانا يطلب العلم صباحا ومساءا،
فالمقصود وهو أنه في كل وقت يطلب العلم، وإما أن يكون المقصود من الآية ما
جاء في الكلام عن الظلال والتي تكون واضحة أكثر في أول النهار وآخره.
* * *
366

2 الآية
قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من
دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوى
الأعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور أم جعلوا
لله شركاء خلقوا كخلقه فتشبه الخلق عليهم قل الله خلق كل
شئ وهو الوحد القهر (16)
2 التفسير
3 لماذا عبادة الأصنام؟
كان البيان في الآيات السابقة عن معرفة الله وإثبات وجوده، وهذه الآية
تبحث عن ضلال المشركين والوثنيين وتتناوله من عدة جهات، حيث تخاطب -
أولا - النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تقول: قل من رب السماوات والأرض. ثم تأمر النبي
أن يجيب على السؤال قبل أن ينتظر جوابهم قل الله ثم إنه يلومهم ويوبخهم
بهذه الجملة قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
لقد بين - أولا - عن طريق ربوبيته أنه المدبر والمالك لهذا العالم، ولكل خير
367

ونفع من جانبه، وقادر على دفع أي شر وضر، وهذا يعني أنكم بقبولكم لربوبيته
يجب أن تطلبوا كل شئ من عنده لا من الأصنام العاجزة عن حل أية مشكلة
لكم. ثم يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يقول: إن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا
ولا ضرا فكيف يمكنها أن تنفعكم أو تضركم؟ وهم والحال هذه لا يحلون أي
عقدة لكم حتى لو قمتم بعبادتهم، فهؤلاء لا يستطيعون تدبير أنفسهم فماذا ينتظر
منهم؟
ثم يذكر مثالين واضحين وصريحين يحدد فيها وضع الأفراد الموحدين
والمشركين، فيقول أولا: قل هل يستوي الأعمى والبصير فكما لا يستوي
الأعمى والبصير لا يستوي المؤمن والكافر، ولا يصح قياس الأصنام على
الخالق جل وعلا.
ويقول ثانيا: أم هل تستوي الظلمات والنور كيف يمكن أن نساوي بين
الظلام الذي يعتبر قاعدة الانحراف والضلال، وبين النور المرشد والباعث للحياة،
وكيف يمكن أن نجعل الأصنام التي هي الظلمات المحضة إلى جنب الله الذي هو
النور المطلق، وما المناسبة بين الإيمان والتوحيد اللذان هما نور القلب والروح،
وبين الشرك أصل الظلام؟!
ثم يدلل على بطلان عقيدة المشركين عن طريق آخر فيقول: أم جعلوا لله
شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم والحال ليس كذلك، فإن المشركين
أنفسهم لا يعتقدون بها، فهم يعلمون أن الله خالق كل شئ، وعالم الوجود مرتبط
به، ولذلك تقول الآية: قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار.
* * *
368

2 بحوث
3 1 - الخالقية والربوبية يتطلبان العبادة
يمكن أن يستفاد من الآية أعلاه أن الخالق هو الرب المدبر، لأن الخلقة أمر
مستمر ودائمي، وليس من خلق الكائنات يتركهم وشأنهم، بل إنه تعالى يفيض
بالوجود عليهم باستمرار وكل شئ يأخذ وجوده من ذاته المقدسة، وعلى هذا
فنظام الخلقة وتدبير العالم كلها بيد الله، ولهذا السبب يكون هو النافع والضار.
وغيره لا يملك شئ إلا منه، فهل يوجد أحد غير الله أحق بالعبادة؟
3 2 - كيف يسأل ويجيب بنفسه؟
بالنظر إلى الآية أعلاه يطرح هذا السؤال: كيف أمر الله نبيه أن يسأل
المشركين: من خلق السماوات والأرض؟ وبعدها بدون أن ينتظر منهم الجواب
يأمر النبي أن يجيب هو على السؤال... وبدون فاصلة يوبخ المشركين على
عبادتهم الأصنام، أي طراز هذا في السؤال والجواب؟
ولكن مع الالتفات إلى هذه النقطة يتضح لنا الجواب وهو أنه في بعض
الأحيان يكون الجواب للسؤال واضح جدا ولا يحتاج إلى الانتظار. فمثلا نسأل
أحدا: هل الوقت الآن ليل أم نهار؟ وبلا فاصلة نجيب نحن على السؤال فنقول:
الوقت بالتأكيد ليل. وهذه كناية لطيفة، حيث أن الموضوع واضح جدا ولا يحتاج
إلى الانتظار للجواب، بالإضافة إلى أن المشركين يعتقدون بخلق الله للعالم ولم
يقولوا أبدا أن الأصنام خالقة السماء والأرض، بل كانوا يعتقدون بشفاعتهم
وقدرتهم على نفع الإنسان ودفع الضرر عنه، ولهذا السبب كانوا يعبدوهم. وبما أن
الخالقية غير منفصلة عن الربوبية يمكن أن نخاطب المشركين بهذا الحديث
ونقول: أنتم الذين تقولون بأن الله خالق، يجب أن تعرفوا أن الربوبية لله كذلك،
369

ويختص بالعبادة أيضا لذلك.
3 3 - العين المبصرة ونور الشمس شرطان ضروريان
يشير ظاهر المثالين (الأعمى والبصير) و (الظلمات والنور) إلى هذه الحقيقة،
وهي أن النظر يحتاج إلى شيئين: العين المبصرة، وشعاع الشمس، بحيث لو انتفى
واحد منهما فإن الرؤية لا تتحقق، والآن يجب أن نفكر: كيف حال الأفراد
المحرومين من البصر والنور؟ المشركون المصداق الواقعي لهذا، فقلوبهم عمي
ومحيطهم ملئ بالكفر وعبادة الأصنام، ولهذا السبب فهم في تيه وضياع. وعلى
العكس فالمؤمنون بنظرهم إلى الحق، واستلهامهم من نور الوحي وإرشادات
الأنبياء عرفوا مسيرة حياتهم بوضوح.
3 4 - هل أن خلق الله لكل شئ دليل على الجبر؟
استدل جمع من أتباع مدرسة الجبر أن جملة الله خالق كل شئ في
الآية أعلاه لها من السعة بحيث تشمل حتى عمل الأفراد، فالله خالق أعمالنا
ونحن غير مختارين.
يمكن أن نجيب على هذا القول بطريقين:
أولا: الجمل الأخرى للآية تنفي هذا الكلام، لأنها تلوم المشركين بشكل أكيد
فإذا كانت أعمالنا غير اختيارية، فلماذا هذا التوبيخ؟! وإذا كانت إرادة الله أن
نكون مشركين فلماذا يلومنا؟! ولماذا يسعى بالأدلة العقلية لتغيير مسيرتهم من
الضلالة إلى الهداية؟ كل هذا دليل على أن الناس أحرار في انتخاب طريقهم.
ثانيا: إن الخالقية بالذات من مختصات الله تعالى. ولا يتنافى مع اختيارنا في
الأفعال، لأن ما نمتلكه من القدرة والعقل والشعور، وحتى الاختيار والحرية، كلها
370

من عند الله، وعلى هذا فمن جهة هو الخالق (بالنسبة لكل شئ وحتى أفعالنا)
ومن جهة أخرى نحن نفعل باختيارنا، فهما في طول واحد وليس في عرض
وافق واحد، فهو الخالق لكل وسائل الأفعال، ونحن نستفيد منها في طريق الخير
أو الشر.
فمثلا الذي يؤسس معملا لتوليد الكهرباء أو لإنتاج أنابيب المياه، يصنعها
ويضعها تحت تصرفنا، فلا يمكن أن نستفيد من هذه الأشياء إلا بمساعدته، ولكن
بالنتيجة يكون التصميم النهائي لنا، فيمكن أن نستفيد من الكهرباء لإمداد غرفة
عمليات جراحية وإنقاذ مريض مشرف على الموت، أو نستخدمها في مجالس
اللهو والفساد، ويمكن أن نروي بالماء عطش إنسان ونسقي وردا جميلا، أو
نستخدم الماء في إغراق دور الناس وتخريبها.
* * *
371

2 الآية
أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل
زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متع زبد
مثله كذلك يضرب الله الحق والبطل فأما الزبد فيذهب جفاء
وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله
الأمثال (17)
2 التفسير
3 وصف دقيق لمنظر الحق والباطل:
يستند القرآن الكريم - الذي يعتبر كتاب هداية وتربية - في طريقته إلى
الوقائع العينية لتقريب المفاهيم الصعبة إلى أذهان الناس من خلال ضرب الأمثال
الحسية الرائعة من حياة الناس، وهنا - أيضا - لأجل أن يجسم حقائق الآيات
السابقة التي كانت تدور حول التوحيد والشرك، الإيمان والكفر، الحق والباطل،
يضرب مثلا واضحا جدا لذلك..
يقول أولا: أنزل من السماء ماء الماء عماد الحياة وأصل النمو والحركة،
372

فسالت أودية بقدرها تتقارب السواقي الصغيرة فيما بينها، وتتكون الأنهار
وتتصل مع بعضها البعض، فتسيل المياه من سفوح الجبال العظيمة والوديان
وتجرف كل ما يقف أمامها، وفي هذه الأثناء يظهر الزبد وهو ما يرى على وجه
الماء كرغوة الصابون من بين أمواج الماء حيث يقول القرآن الكريم: فاحتمل
السيل زبدا رابيا.
" الرابي " من " الربو " بمعنى العالي أو الطافي، والربا بمعنى الفائدة مأخوذ
من نفس هذا الأصل.
وليس ظهور الزبد منحصرا بهطول الأمطار، بل ومما يوقدون عليه في
النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله (1) أي الفلزات المذابة بالنار لصناعة أدوات
الزينة منها أو صناعة الوسائل اللازمة في الحياة.
بعد بيان هذا المثال بشكله الواسع لظهور الزبد ليس فقط في الماء بل حتى
للفلزات وللمتاع، يستنتج القرآن الكريم كذلك يضرب الله الحق والباطل ثم
يتطرق إلى شرحه فيقول: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث
في الأرض.
فأما الزبد الذي لا فائدة فيه فيذهب جفاء ويصير باطلا متلاشيا، وأما الماء
الصافي النقي المفيد فيمكث في الأرض أو ينفذ إلى الأعماق وتتكون منه العيون
والآبار تروي العطاش، وتروي الأشجار لتثمر، والأزهار لتتفتح، وتمنح لكل
شئ الحياة.
وفي آخر الآية - للمزيد من التأكيد في مطالعة هذه الأمثال - يقول تعالى:
كذلك يضرب الله الأمثال.
* * *

1 - تشير هذه الآية إلى الأفران التي تستعمل لصهر الفلزات، فهذه الأفران تتميز بوجود النار من تحتها ومن فوقها يعني
نار تحت الفلز ونار فوقه، وهذه من أفضل أنواع الأفران حيث تحيط بها النار من كل جانب.
373

2 بحوث
هذا المثال البليغ الذي عبر عنه القرآن الكريم بألفاظ موزونة وعبارات
منظمة. وصور فيها الحق والباطل بأروع صورة، فيه حقائق مخفية كثيرة ونشير
هنا إلى قسم منها:
3 1 - ما هي علائم معرفة الحق والباطل؟
يحتاج الإنسان في بعض الأحيان لمعرفة الحق والباطل - إذا أشكل عليه
الأمر - إلى علائم وأمثال حتى يتعرف من خلالها على الحقائق والأوهام. وقد
بين القرآن الكريم هذه العلامات من خلال المثال أعلاه:
ألف: - الحق مفيد ونافع دائما، كالماء الصافي الذي هو أصل الحياة. أما
الباطل فلا فائدة فيه ولا نفع، فلا الزبد الطافي على الماء يروي ظمآنا أو يسقي
أشجارا، ولا الزبد الظاهر من صهر الفلزات يمكن أن يستفاد منه للزينة أو
للاستعمالات الحياتية الأخرى، وإذا استخدمت لغرض فيكون استخدامها رديئا
ولا يؤخذ بنظر الاعتبار.. كما نستخدم نشارة الخشب للإحراق.
باء: - الباطل هو المستكبر والمرفه كثير الصوت، كثير الأقوال لكنه فارغ من
المحتوى، أما الحق فمتواضع قليل الصوت، وكبير المعنى، وثقيل الوزن (1).
جيم - الحق يعتمد على ذاته دائما، أما الباطل فيستمد اعتباره من الحق
ويسعى للتلبس به، كما أن (الكذب يتلبس بضياء الصدق) ولو فقد الكلام
الصادق من العالم لما كان هناك من يصدق الكذب. ولو فقدت البضاعة السليمة
من العالم لما وجد من يخدع ببضاعة مغشوشة. وعلى هذا فوجود الباطل راجع
إلى شعاعه الخاطف واعتباره المؤقت الذي سرقه من الحق، أما الحق فهو مستند
إلى نفسه واعتباره منه.

1 - يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصفه أصحابه يوم الجمل " وقد أرعدوا وأبرقوا ومع هذين الأمرين الفشل، ولسنا نرعد
حتى نوقع ولا نسيل حتى نمطر ".
374

3 2 - ما هو الزبد؟
" الزبد " بمعنى الرغوة التي تطفوا على السائل، والماء الصافي أقل رغوة،
لأن الزبد يتكون بسبب اختلاط الأجسام الخارجية مع الماء، ومن هنا يتضح أن
الحق لو بقي على صفائه ونقائه لم يظهر فيه الخبث أبدا، ولكن لامتزاجه بالمحيط
الخارجي الملوث فإنه يكتسب منه شيئا، فتختلط الحقيقة مع الخرافة، والحق
بالباطل، والصافي بالخابط. فيظهر الزبد الباطل إلى جانب الحق.
وهذا هو الذي يؤكده الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول: " لو أن الباطل خلص من
مزاج الحق لم يخف على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت
عنه ألسن المعاندين ". (1)
يقول بعض المفسرين إن للآية أعلاه ثلاث أمثلة: " نزول آيات القرآن "
تشبيهه بنزول قطرات المطر للخير، " قلوب الناس " شبيهة بالأرض والوديان
وبقدر وسعها يستفاد منها، " وساوس الشيطان " شبيهة بالزبد الطافي على الماء،
فهذا الزبد ليس من الماء، بل نشأ من اختلاط الماء بمواد الأرض الأخرى، ولهذا
السبب فوساوس النفس والشيطان ليست من التعاليم الإلهية، بل من تلوث قلب
الإنسان، وعلى أية حال فهذه الوساوس تزول عن قلوب المؤمنين ويبقى صفاء
الوحي الموجب للهداية والإرشاد.
3 3 - الاستفادة تكون بقدر الاستعداد واللياقة!
يستفاد من هذه الآية - أيضا - أن مبدأ الفيض الإلهي لا يقوم على البخل
والحدود الممنوعة، كما أن السحاب يسقط أمطاره في كل مكان بدون قيد أو

1 - نهج البلاغة، الخطبة 50.
375

شرط، وتستفيد الأرض والوديان منها على قدر وسعها، فالأرض الصغيرة
تستفيد أقل والأرض الواسعة تستفيد أكثر، وهكذا قلوب الناس في مقابل الفيض
الإلهي.
3 4 - الباطل والأوضاع المضطربة
عندما يصل الماء إلى السهل أو الصحراء ويستقر فيها، تبدأ المواد المختلطة
مع الماء بالترشح ويذهب الزبد فيظهر الماء النقي مرة ثانية، وعلى هذا النحو
فالباطل يبحث عن سوق مضطربة حتى يستفيد منها، ولكن بعد استقرار السوق
وجلوس كل تاجر في مكانه المناسب وتحقق الالتزامات والضوابط في
المجتمع، لا يجد الباطل له مكانا فينسحب بسرعة!
3 5 - الباطل يتشكل بأشكال مختلفة
إن واحدة من خصائص الباطل هي أنه يغير لباسه من حين لآخر، حتى إذا
عرفوه بلباسه يستطيع أن يخفي وجهه بلباس آخر، وفي الآية أعلاه إشارة لطيفة
لهذه المسألة، حيث تقول: لا يظهر الزبد في الماء فقط، بل يظهر حتى في الأفران
المخصوصة لصهر الفلزات بشكل ولباس آخر، وبعبارة أخرى فإن الحق والباطل
موجودان في كل مكان كما يظهر الزبد في السوائل بالشكل المناسب لها. وعلى
هذا يجب أن لا نخدع بتنوع الوجوه وأن نعرف أوجه الباطل ونطرحه جانبا.
3 6 - ارتباط البقاء بالنفع
تقول الآية: وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ليس الماء فقط
يبقى ويذهب الزبد الطافي عليه، بل حتى الفلزات تلك التي تستعمل للزينة أو
376

للمتاع يبقى الخالص منها ويذهب خبثه. وعلى هذا النحو فالناس والمدارس
والمبادئ لهم حق الحياة على قدر منفعتهم، وإذا ما رأينا بقاء أصحاب المبادئ
الباطلة لفترة فان ذلك بسبب وجود ذلك المقدار من الحق الذي اختلط فيه، وبهذا
المقدار له حق الحياة.
3 7 - كيف يطرد الحق الباطل؟
" الجفاء " بمعنى الإلقاء والإخراج، ولهذا نكتة لطيفة وهي أن الباطل يصل
إلى درجة لا يمكن فيها أن يحفظ نفسه، وفي هذه اللحظة يلقى خارج المجتمع،
وهذه العملية تتم في حالة هيجان الحق، فعند غليان الحق يظهر الزبد ويطفو على
سطح ماء القدر ويقذف إلى الخارج، وهذا دليل على أن الحق يجب أن يكون في
حالة هيجان وغليان دائما حتى يبعد الباطل عنه.
3 8 - الباطل مدين للحق ببقائه
كما قلنا في تفسير الآية، فلو لم يكن الماء لما وجد الزبد، ولا يمكن له أن
يستمر، كما أنه لولا وجود الحق فان الباطل لا معنى له ولو لم يكن هناك
أشخاص صادقون لما وقع أحد تحت تأثير الأفراد الخونة ولما صدق بمكرهم،
فالشعاع الكاذب للباطل مدين في بقائه لنور الحق.
3 9 - صراع الحق والباطل مستمر
المثال الذي ضربه لنا القرآن الكريم في تجسيم الحق والباطل ليس مثالا
محدودا في زمان ومكان معينين، فهذا المنظر يراه الناس في جميع مناطق العالم
المختلفة، وهذا يبين أن عمل الحق والباطل ليس مؤقتا وآنيا. وجريان الماء
377

العذب والمالح مستمر إلى نفخ الصور، إلا إذا تحول المجتمع إلى مجتمع مثالي
(كمجتمع عصر الظهور وقيام الإمام المهدي (عليه السلام)) فعنده ينتهي هذا الصراع،
وينتصر الحق ويطوي بساط الباطل، وتدخل البشرية مرحلة جديدة من
تاريخها، وإلى أن نصل إلى هذه المرحلة فالصراع مستمر بين الحق والباطل،
ويجب أن نحدد موقفنا في هذا الصراع.
3 10 - تزامن الحياة مع السعي والجهاد
المثال الرائع أعلاه يوضح هذا الأساس لحياة الناس، وهو أن الحياة بدون
جهاد غير ممكنة، والعزة بدون سعي غير ممكنة أيضا، لأنه يقول: يجب أن يذهب
الناس إلى المناجم لتهيئة مستلزمات حياتهم في المتاع والزينة ابتغاء حلية أو
متاع. وللحصول على هذين الشيئين يجب تنقية المواد الخام من الشوائب
بواسطة نيران الأفران للحصول على الفلز الخالص الصالح للاستعمال، وهذا لا
يتم إلا من خلال السعي والمجاهدة والعناء.
وهذه هي طبيعة الحياة حيث يوجد إلى جانب الورد الشوك، وإلى جانب
النصر توجد المصاعب والمشكلات، وقالوا في القديم: (الكنوز في الخرائب
وفوق كل كنز يوجد ثعبان نائم)، فإن هذه الخربة والثعبان تمثلان المشاكل
والصعوبات للحصول على الموفقية في الحياة.
ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة وهي أن التوفيق لا يحصل إلا بتحمل
المصاعب والمحن، يقول جل وعلا في الآية (214) من سورة البقرة: أم
حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء
والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن
نصر الله قريب.
378

3 الأمثال في القرآن:
إن دور المثال في توضيح وتفسير الغايات له أهمية كبيرة غير قابلة للإنكار،
ولهذا السبب لا يوجد أي علم يستغني عن ذكر المثال لإثبات وتوضيح الحقائق
وتقريب معناها إلى الأذهان، وتارة ينطبق المثال مع المقصود بشكل يجعل
المعاني الصعبة تنزل من السماء إلى الأرض وتكون مفهومة للجميع، فيمكن أن
يقال: إن المثال له دور مؤثر في مختلف الأبحاث العلمية والتربوية والاجتماعية
والأخلاقية وغيرها، ومن جملة تأثيراته:
3 1 - المثال يجعل المسائل محسوسة:
من المعلوم أن الإنسان يأنس بالمحسوسات أكثر، أما الحقائق العلمية
المعقدة فهي بعيدة المنال. والأمثال تقرب هذه الفواصل وتجعل الحقائق المعنوية
محسوسة، وإدراكها يسير ولذيذ.
3 2 - المثال يقرب المعنى:
تارة يحتاج الإنسان لإثبات مسألة منطقية أو عقلية إلى أدلة مختلفة، ومع
كل هذه الأدلة تبقى هناك نقاط مبهمة محيطة بها، ولكن عند ذكر مثال واضح
منسق مع الغاية يقرب المعنى ويعزز الأدلة ويقلل من كثرتها.
3 3 - المثال يعمم المفاهيم
كثير من البحوث العلمية بشكلها الأصلي يفهمها الخواص فقط، ولا يستفيد
منها عامة الناس، ولكن عندما يصحبها المثال تكون قابلة للفهم، ويستفيد منها
الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية، ولهذا فالمثال وسيلة لتعميم الفكر
379

والثقافة.
3 4 - المثال، يزيد في درجة التصديق:
مهما تكن الكليات العقلية منطقية، فإنها لا تخلق حالة اليقين الكافية في
ذهن الإنسان، لأن الإنسان يبحث عن اليقين في المحسوسات، فالمثال يجعل
من المسألة الذهنية واقعا عينيا، ويوضحها في العالم الخارجي، ولهذا السبب فإن
له أثره في زيادة درجة تصديق المسائل وقبولها.
3 5 - المثال يخرس المعاندين:
كثيرا ما لا تنفع الأدلة العقلية والمنطقية لإسكات الشخص المعاند حيث
يبقى مصرا على عناده ولكن عندما نصب الحديث في قالب المثال نوصد
الطريق عليه بحيث لا يبقى له مجال للتبرير ولا لإختلاق الأعذار.
ولا بأس أن نطرح هنا بعض الأمثلة حتى نعرف مدى تأثيرها:
نقرأ في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى يرد على الذين أشكلوا على
ولادة السيد المسيح (عليه السلام) كيف أنه ولد من أم بغير أب إن مثل عيسى عند الله
كمثل آدم خلقه من تراب. (1)
لاحظوا جيدا، فنحن مهما حاولنا أن نقول للمعاندين: إن هذا العمل بالنسبة
إلى قدرة الله المطلقة لا شئ، فمن الممكن أن يحتجوا أيضا، ولكن عندما نقول
لهم هل تعتقدون أن آدم خلقه الله من تراب؟ فان الله الذي له هذه القدرة كيف لا
يستطيع إيجاد شخص بدون أب؟!

1 - آل عمران، 59.
380

وبالنسبة إلى المنافقين الذين يقضون في ظل نفاقهم أياما مريحة ظاهرا،
فان القرآن الكريم يضرب مثالا رائعا عن حالهم، فيشبههم بالمسافرين في
الصحراء فيقول يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا
أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شئ
قدير. (1)
فهل يوجد أوضح من هذا الوصف للمنافق التائه في الطريق، ليستفيد من
نفاقه وعمله كي يستمر في حياته؟
وعندما تقول للأفراد: إن الإنفاق يضاعفه لكم الله عدة مرات قد لا
يستطيعون أن يفهموا هذا الحديث، ولكن يقول القرآن الكريم: مثل الذين
ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة
حبة (2)، وهذا المثال الواضح أقرب للإدراك.
وغالبا ما نقول: إن الرياء لا ينفع الإنسان، فقد يكون هذا الحديث ثقيلا على
البعض، كيف يمكن لهذا العمل أن يكون غير مفيد، فبناء مستشفى أو مدرسة
حتى لو كان بقصد الرياء.. لماذا ليست له قيمة عند الله؟! ولكن يضرب الله مثالا
رائعا حيث يقول: فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه
صلدا. (3)
ولكي لا نبتعد كثيرا فالآية التي نحن بصدد تفسيرها تبحث في مجال الحق
والباطل وتجسم هذه المسألة بشكل دقيق، المقدمات والنتائج، والصفات
والخصوصيات والآثار، وتجعلها قابلة الفهم للجميع وتسكت المعاندين، وأكثر

1 - البقرة، 20.
2 - البقرة، 261.
3 - البقرة، 264.
381

من ذلك تكفينا تعب البحوث المطولة.
وفي مناظرة للإمام الصادق (عليه السلام) مع أحد الزنادقة حول قوله تعالى: كلما
نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب قال: فما بال الغير؟
أجابه الإمام: " ويحك هي هي وهي غيرها! " قال: فمثل لي ذلك شيئا من أمر
الدنيا! قال: " نعم، أرأيت لو أن رجلا أخذ لبنة فكسرها ثم ردها في ملبنها، فهي هي
وهي غيرها " (1).
ولابد هنا من ملاحظة هذه اللفظة وهي أن المثال وما له من تأثير كبير ودور
فعال يجب أن يكون مطابقا وموافقا للمقصود، وإلا يكون ضالا ومنحرفا.
ولهذا السبب يستفيد المنافقون من هذه الأمثلة المنحرفة ليضلوا بها الناس
البسطاء، فهم يستعينون بشعاع المثال ليصدق الناس أكاذيبهم، فيجب أن نحذر
من هذه الأمثلة المنحرفة ونلاحظها بدقة.
* * *

1 - الاحتجاج، ص 354.
382

2 الآية
للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو
أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم
سوء الحساب ومأويهم جهنم وبئس المهاد (18)
2 التفسير
3 الذين استجابوا لدعوة الحق:
بعد ما كشفت الآيات السابقة عن وجهي الحق والباطل من خلال مثال
واضح وبليغ، أشارت هذه الآية إلى مصير الذين استجابوا لربهم والذين لم
يستجيبوا لهذه الدعوة واتجهوا صوب الباطل. تقول أولا: للذين استجابوا
لربهم الحسنى.
" الحسنى " في معناها الواسع تشمل كل خير وسعادة، بدءا من الخصال
الحسنة والفضائل الأخلاقية إلى الحياة الاجتماعية الطاهرة والنصر على الأعداء
وجنة الخلد.
ثم تضيف الآية والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا
383

ومثله معه لافتدوا به.
لا توجد صيغة أوضح من هذه الآية في بيان شدة عذابهم وعقابهم، يمتلك
الإنسان كل ما في الأرض وضعفه أيضا ويفتدي به للنجاة ولا يحصل النجاة.
تشير هذه الجملة في الواقع إلى آخر أمنية والتي لا يمكن أن يتصور أكثر منها،
وهي أن يمتلك الإنسان كل ما في الأرض، ولكن شدة العذاب للظالمين
ومخالفي الحق تصل بهم إلى درجة أن يفتدوا بكل هذه الأمنية أو بأكثر منها
لنجاتهم. ولنفرض إنها قبلت منهم فتكون نجاتهم من العذاب فقط، ولكن الثواب
العظيم يكون من نصيب الذين استجابوا لدعوة الحق.
ومن هنا يتضح أن العبارة ومثله معه ليس المقصود منها أن يكون لهم
ضعف ما في الأرض، بل أنهم مهما ملكوا أكثر من ذلك فإنهم مستعدون للتنازل
عنه مقابل نجاتهم من العذاب. ودليله واضح، لأن الإنسان يطلب كل شئ
لمنفعته، ولكن عندما يجد نفسه غارقا في العذاب فما فائدة تملكه للدنيا كلها؟
وعلى أثر هذا الشقاء (عدم قبول ما في الأرض مقابل نجاتهم) يشير القرآن
الكريم إلى شقاء آخر أولئك لهم سوء الحساب.
فما هو المقصود من سوء الحساب؟
للمفسرين آراء مختلفة حيث يعتقد البعض أنه الحساب الدقيق بدون أي
عفو أو مسامحة، فسوء الحساب ليس بمفهوم الظلم، لأن الله سبحانه وتعالى هو
العدل المطلق، ويؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال
لرجل: " يا فلان مالك ولأخيك؟ " قال: جعلت فداك كان لي عليه حق فاستقصيت
منه حقي إلى آخره، وعنده سماع الإمام لهذا الجواب غضب وجلس ثم قال:
" كأنك إذا استقصيت حقك لم تسئ إليه! أرأيت ما حكى الله عز وجل ويخافون
سوء الحساب أتراهم يخافون الله أن يجور عليهم؟! لا والله ما خافوا إلا الاستقصاء
384

فسماه الله عز وجل سوء الحساب، فمن استقصى فقد أساءه " (1).
وقال البعض: المقصود من سوء الحساب، أنه يلازم حسابهم التوبيخ
والملامة وغيرها، فبالإضافة إلى خوفهم من العذاب يؤلمهم التوبيخ.
ويقول البعض الآخر: المقصود هو الجزاء الذي يسوؤهم، كما نقول: إن فلان
حسابه نقي، أو لآخر: حسابه مظلم، وهذا يعني نتيجة حسابهم جيدة أو سيئة، أو
تقول: (ضع حسابه في يده) يعني حاسبه طبقا لعمله.
هذه التفاسير الثلاثة غير متضادة فيما بينها، ويمكن أن يستفاد منها في
تفسير الآية، وهذا يعني أن هؤلاء الأفراد يحاسبون حسابا دقيقا، وأثناء حسابهم
يوبخون ويلامون ومن ثم يستقصى منهم.
وفي نهاية الآية إشارة إلى الجزاء الثالث أو النتيجة النهائية لجزائهم
ومأواهم جهنم وبئس المهاد.
" المهاد " جمع مهد، بمعنى التهيؤ، ويستفاد منها معنى السرير الذي يستخدم
لراحة الإنسان، هذا السرير يهيأ للاستراحة، وقد ذكر القرآن الكريم هذه الكلمة
للإشارة إلى أن هؤلاء الطغاة بدلا من أن يستريحوا في مهادهم يجب أن يحرقوا
بلهيب النار.
* * *
2 بحث
يستفاد من الآيات القرآنية أن الناس في يوم القيامة ينقسمون إلى
مجموعتين، فمجموعة يحاسبهم الله بيسر وسهولة وبغير تدقيق فأما من أوتي
كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا. (2)

1 - تفسير البرهان، المجلد الثاني، صفحة 288.
2 - الانشقاق، 8.
385

وعلى العكس من ذلك هناك مجموعة يحاسبون بشدة حتى الذرة والمثقال
من الأعمال يحاسبون عليه، كما حدث لبعض البلاد التي كان أهلها من العاصين،
فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا. (1)
إن هذا الحساب الشديد هو نتيجة لما كان يقوم به هؤلاء في حياتهم من
استقصاء الآخرين حتى الدينار الأخير، وإذا ما حدث خطأ من أحد فإنهم
يعاقبون بأشد ما يمكن، ولم يسامحوا أحدا حتى أبناءهم وإخوانهم وأصدقائهم،
وبما أن الآخرة انعكاس لحياة الدنيا فإن الله سبحانه وتعالى يحاسبهم حسابا
شديدا على أي عمل عملوه بدون أدنى سماح، وعلى العكس فهناك أشخاص
سهلون ومسامحون ومن أهل العفو، خصوصا في مقابل أصدقائهم وأقربائهم
وذوي الحقوق عليهم أو الضعفاء، ويغضون النظر عنهم وعن كثير من زلاتهم
الشخصية، وفي مقابل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يشملهم بعفوه ورحمته
الواسعة ويحاسبهم حسابا يسيرا.
وهذا درس كبير لكل الناس وخصوصا أولئك الذين يتصدرون الأمور.
* * *

1 - الطلاق، 8.
386

2 الآيات
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما
يتذكر أولوا الألباب (19) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون
الميثاق (20) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون
ربهم ويخافون سوء الحساب (21) والذين صبروا ابتغاء
وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقنهم سرا وعلانية
ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار (22) جنت
عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزوجهم وذريتهم
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلم عليكم بما
صبرتم فنعم عقبى الدار (24)
2 التفسير
3 الأبواب الثمانية للجنة وصفات اولي الألباب:
تتحدث هذه الآيات عن سيرة اولي الألباب وصفاتهم الحسنة، وفيها تكميل
387

للبحث السابق.
في الآية الأولى من هذه المجموعة استفهام إنكاري: أفمن يعلم أنما أنزل
إليك من ربك الحق كمن هو أعمى.
وهذا وصف رائع، فهو لم يقل: أفمن يعلم أن هذا القرآن على الحق كمن لا
يعلم؟ بل قال: كمن هو أعمى؟ وهذه إشارة لطيفة إلى أنه من المحال أن لا يعلم
أحد بهذه الحقيقة إلا أن يكون أعمى القلب، فكيف يمكن لإنسان يمتلك عينا
سليمة ولا يرى نور الشمس، وهذا القرآن كالشمس. ولذلك يجئ في نهاية الآية
قوله تعالى: إنما يتذكر أولو الألباب.
" الألباب " جمع لب بمعنى جوهر الشئ، ويقابل اولي الألباب أولو الجهل
والعمى.
إن هذه الآية - وكما يذهب إليه بعض المفسرين - تحث الناس على طلب
العلم ومحاربة الجهل، لأنها تعد الفرد الفاقد للعلم كمن هو أعمى. ثم بين سيرة
اولي الألباب من خلال ذكر صفاتهم الحميدة، وأول ما أشار القرآن إليه وفاؤهم
بالعهد وعدم نقضهم له والذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق.
إن " عهد الله " له معنى واسع، ويشمل العهود الفطرية التي عاهدوا بها ربهم
كالفطرة على التوحيد وحب الحق والعدالة، والمواثيق العقلية التي يدركها
الإنسان من خلال التفكير والتعقل لعالم الوجود، والمبدأ والمعاد، وتشمل كذلك
العهود الشرعية، وهي ما عاهدوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه من الطاعة للأوامر الإلهية
وترك المعاصي والذنوب.
وتشمل هذه المجموعة كذلك الوفاء بالعهد بين الأفراد، لأن الله سبحانه
وتعالى أوصى بها، بل تدخل ضمن الوفاء الشرعي والميثاق العقلي.
الصفة الثانية من صفات أولي الألباب هي والذين يصلون ما أمر الله به
أن يوصل.
388

لا نجد صيغة أوسع من هذه في هذا المجال، فالإنسان له صلات وروابط
كثيرة، صلته مع ربه، ومع الأنبياء والقادة، وروابطه مع الأصدقاء والجيران
والأقرباء ومع كل الناس، والآية تأمر أن تحترم هذه الصلات، وتنهى عن أي
عمل يؤدي إلى قطع هذه الصلات والروابط.
والإنسان في الحقيقة ليس منزويا أو منفكا من عالم الوجود، بل تحكم كل
وجوده الصلات والروابط، ومن جملة هذه الصلات:
1 - صلته بالله سبحانه وتعالى، والتي إذا ما قطعها الإنسان تؤدي إلى هلاكه
كما في انطفاء نور المصباح في حالة قطع التيار الكهربائي عنه، وعلى هذا فإن
هذه الصلة التكوينية بين الإنسان وربه يجب أن تتبعها صلة بأوامره وأحكامه من
حيث الطاعة والعبودية.
2 - صلته بالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) على أساس أنهم قادة للبشرية وقطعها يؤدي
بالإنسان إلى الضلال والانحراف.
3 - صلته بالمجتمع كافة وخصوصا بذوي الحقوق عليه أمثال الأب والام
والأقرباء.
4 - صلته بنفسه، من حيث أنه مأمور بحفظها وإصلاحها وتكاملها.
إن إقامة أي صلة من هذه الصلات، هي في الواقع مصداق للآية يصلون ما
أمر الله به أن يوصل وقطعها قطع لما أمر الله به أن يوصل، لأن الله سبحانه
وتعالى أمر بأن توصل ولا تقطع.
وبالإضافة إلى ما قلناه، فهناك أحاديث واردة بخصوص هذه الآية يتضح
منها أن المراد القرابة مرة، ومرة الإمامة أو آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومرة أخرى كل
المؤمنين! فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية قال: " قرابتك " وعنه
أيضا (عليه السلام) قال: " نزلت في رحم آل محمد وقد يكون في قرابتك " (1) ومن الطريف

1 - نور الثقلين، ج 2، صفحة 494.
389

أنه (عليه السلام) يقول في نهاية الحديث: " فلا تكونن ممن يقول للشئ أنه في شئ واحد "
وهذه الجملة إشارة واضحة إلى المعاني الواسعة للقرآن الكريم.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث ثالث يقول: " هو صلة الإمام في كل سنة
(أي بالمال) بما قل أو أكثر، ثم قال: وما أريد بذلك إلا تزكيتكم " (1).
الصفة الثالثة والرابعة من سيرة اولي الألباب هي قوله تعالى: ويخشون
ربهم ويخافون سوء الحساب.
لمعرفة الفرق بين " الخشية " و " الخوف " المتقاربان في المعنى يقول البعض:
" الخشية " هي حالة الخوف مع احترام الطرف المقابل ومع العلم واليقين، ولذلك
عدها القرآن الكريم من خصوصيات العلماء حيث يقول: إنما يخشى الله من
عباده العلماء.
ولكن بالنظر إلى استخدام القرآن الكريم لكلمة الخشية مرات كثيرة يتضح
لنا أنها تأتي بمعنى الخوف وتستعمل معها بشكل مترادف.
هنا يطرح هذا السؤال: إذا كان الخوف من الخالق هو نفس الخوف من
حسابه، فما هو الفرق بين يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب؟
الجواب: إن الخوف من الله سبحانه وتعالى ليس ملزما دائما أن يكون خوفا
من حسابه وعقابه، بل إن العظمة الإلهية والإحساس بالعبودية له توجد حالة من
الخوف في قلوب المؤمنين (بغض النظر عن الجزاء والعقاب)، والآية (28) من
سورة فاطر قد تشير إلى هذا المعنى.
وهناك سؤال آخر يتعلق بسوء الحساب، وهو: هل من الصحيح أن هناك
ظلم في محاسبة الأفراد؟
وقد تقدم الجواب على هذا السؤال قبل عدة آيات من هذه الآية وقلنا أن
المراد هو التدقيق الشديد في الحساب من دون عفو أو تسامح وذكرنا أيضا

1 - المصدر السابق، صفحة 495.
390

حديثا في هذا الصدد.
الصفة الخامسة من صفات اولي الألباب الاستقامة في مقابل جميع المشاكل
التي يواجهها الإنسان في مسيرة الطاعة وترك المعصية، وجهاد الأعداء ومحاربة
الظلم والفساد (1)، والصبر في مرضاة الخالق، ولذلك يقول تعالى: والذين
صبروا ابتغاء وجه ربهم لقد أشرنا مرارا إلى مفهوم الاستقامة التي هي المعنى
الواسع للصبر.
أما معنى العبارة وجه ربهم فقد تشير إلى أحد معنيين:
أولا: كلمة الوجه في هذه الموارد تعني العظمة، كما نقول للرأي الصائب
والمهم " هذا وجه الرأي " باعتبار أن الوجه يمثل الشكل الظاهر والمهم للشئ،
كما في وجه الإنسان الذي يعتبر أهم جزء من جسده، وفيه يقع السمع والبصر
والنطق.
ثانيا: الوجه هنا بمعنى رضا الخالق، فهم يصبرون على المحن والمشاكل
لجلب مرضاة الله، فاستعمال الوجه بهذا المعنى بسبب أن الإنسان عندما يريد أن
يجلب رضا شخص يمعن النظر في وجهه (وعلى ذلك فهو يستعمل للكناية عن
الشئ). وعلى أية حال فإن هذه الجملة تبين أن كل صبر وعمل خير تكون له
قيمة عندما يصبح لوجه الله، وأي عمل آخر يقع تحت تأثير الرياء والغرور لا
قيمة له مطلقا.
يقول بعض المفسرين: إن الإنسان يصبر مرة لكي يقول عنه الناس: إن هذا
كثير الاستقامة. وأخرى لخشيته أن يقولوا عنه أنه قليل الصبر، أو يصبر حتى لا
يشمت به الأعداء، أو يعلم أن لا فائدة من الجزع.. كل هذه الأمور والنيات لا
تدخل ضمن الكمال الإنساني إلا إذا كانت خالصة لوجه الله. فهو يصبر ويستقيم
لأنه يعلم أن أي فاجعة أو مصيبة لها حكمة ودليل، ولا يقول ما يسخط الرب،

1 - ليس الصبر على الطاعة والمعصية والمصيبة فقط بل الصبر على النعم كذلك حتى لا يصيب الإنسان الغرور.
391

فهذا الصبر هو المعني بقوله تعالى: ابتغاء وجه الله.
الصفة السادسة من صفاتهم هي وأقاموا الصلاة. رغم أن إقامة الصلاة
هي مصداق للوفاء بعهد الله وكذلك المصداق البارز لحفظ ما أمر الله به أن يوصل،
ومصداق للصبر والاستقامة، ولكن هناك بعض مصاديق تلك المفاهيم الكلية
أكثر أهمية في مصير الإنسان، فهذه الجملة والجمل التي ما بعدها تشير إلى ذلك.
أي شئ أهم من هذا؟! إن الإنسان يجدد عهده وصلته بالله سبحانه وتعالى
صباحا ومساءا، ويتفكر بعظمة الخالق ويدعوه، ويطهر نفسه من الذنوب،
ويرتبط بالحق المطلق، نعم.. فإن الصلاة لها كل هذه الآثار والبركات.
ثم يبين الصفة السابعة لدعاة الحق حيث يقول تعالى: وأنفقوا مما رزقناهم
سرا وعلانية.
وهذه الآية ليست الوحيدة التي تشير إلى مسألة الإنفاق أو الزكاة بعد ذكر
الصلاة، فكثير من الآيات تشير إلى هذا الترادف، فواحدة تحكم الصلة بين العبد
وربه والثانية بين العباد.
والجملة مما رزقناهم تشمل كل العطايا من الأموال والعلوم والقوة
والجاه، والإنفاق كذلك يشمل جميع هذه الأبعاد. والعبارة سرا وعلانية
إشارة أخرى إلى هذه الحقيقة وهي أن إنفاقهم يتم بشكل مدروس، فتارة يكون
سرا ويترتب عليه أثر كبير، وذلك في الحالات التي توجب أن يحفظ فيها ماء
الوجه للطرف الآخر أو تصون الطرف المنفق من الرياء، ومرة يكون الإنفاق
العلني أكثر تأثيرا وذلك في الحالات التي تدعو الآخرين لكي يتأسوا بهذا العمل
الخير ويقتدوا به، فيكون سببا لكثير من أعمال الخير.
ومن هنا يتضح أن القرآن الكريم يدقق في أعمال الخير بشكل كبير، ليس
فقط في أصل العمل، بل حتى في كيفية تنفيذه.
الصفة الثامنة والأخيرة هي قوله تعالى: ويدرأون بالحسنة السيئة.
392

ومعنى هذه العبارة أنهم لم يكتفوا بالتوبة والاستغفار فقط عند ارتكابهم
الذنوب، بل يدفعونها كذلك بالحسنات على مقدار تلك الذنوب، حتى يطهروا
أنفسهم والمجتمع بماء الحسنات.
" يدرأون " مضارع " درأ " على وزن " زرع " بمعنى دفع.
ويحتمل في تفسير الآية أنهم لا يقابلون السئ بالسئ، بل يسعون من
خلال إحسانهم للمسيئين أن يجعلوهم يعيدون النظر في مواقفهم، كما نقرأ في
الآية (34) من سورة فصلت قوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك
وبينه عداوة كأنه ولي حميم.
وفي نفس الوقت ليس هناك مانع من أن الآية تشير إلى هذين المعنيين، كما
أشارت إليها الأحاديث الإسلامية. ففي الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لمعاذ بن
جبل: " إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها " (1).
وعن الإمام علي (عليه السلام) قال " عاتب أخاك بالإحسان إليه واردد شره بالإنعام
عليه " (2).
ولابد هنا من الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أن هذه الأحكام أخلاقية
تخص الحالات التي يحصل فيها تأثير على الآخرين، وهناك قوانين وأحكام
جزائية واردة في التشريع الإسلامي لمعاقبة المسيئين.
وبعد ما ذكر القرآن الكريم الصفات الثمانية لاولي الألباب، أشار في نهاية
الآية إلى عاقبة أمرهم حيث يقول تعالى: أولئك لهم عقبى الدار (3).
الآية الأخرى توضح هذه العاقبة جنات عدن يدخلونها ومن صلح من
آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.

1 - مجمع البيان ذيل الآية أعلاه.
2 - الكلمات القصار في نهج البلاغة، الكلمة 158.
3 - " العقبى " بمعنى العاقبة أو نهاية العمل خيرا كان أو شرا، ولكن بالنظر إلى قرينة الحال في الآية أعلاه تشير إلى
العاقبة الحسنة.
393

والشئ الذي يكمل هذه النعم الكبيرة واللا متناهية والملائكة يدخلون
عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار فهذه السلامة
جاءت بعد ما صبرتم على الشدائد وتحملتم المسؤوليات الجسام والمصائب،
ولكم هنا كامل الطمأنينة والأمان، فلا حرب ولا نزاع، وكل شئ يبتسم لكم،
والراحة الخالية من المتاعب - هنا - معدة لكم.
* * *
2 بحوث
3 1 - لماذا ذكر الصبر فقط؟
جملة سلام عليكم بما صبرتم تشير إلى مسألة الصبر فقط، في الوقت
الذي نرى فيه الآيات السابقة أشارت إلى ثمانية صفات لاولي الألباب، فما هو
السر في ذلك؟
للإجابة على هذا الاستفهام نورد ما جاء عن الإمام علي (عليه السلام) في حديث قيم
وذي مغزى كبير، حيث قال: " إن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير
في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه ".
في الحقيقة إن كل الأفعال الحية والصفات الحميدة للأفراد والمجتمعات
تستند إلى الصبر والاستقامة، وبدونها لا يمكن أن نحصل على أي شئ من هذه
الصفات، لأن في مسيرة عمل الخير عقبات وموانع لا يمكن أن ننتصر عليها إلا
بالاستقامة، فلا الوفاء بالعهد يمكن تنفيذه بدون الصبر والاستقامة ولا الصلات
الإلهية، ولا الخوف من الله، ولا إقامة الصلاة ولا الإنفاق يمكن بلوغها بغير الصبر
والاستقامة.
394

3 2 - أبواب الجنة
يستفاد من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة أن للجنة عدة أبواب،
ولكن هذا التعدد للأبواب ليس لكثرة الداخلين إلى الجنة فيضيق عليهم الباب
الواحد، وليس كذلك للتفاوت الطبقي حتى تدخل كل مجموعة من باب، ولا لبعد
المسافة أو قربها، ولا لجمال الأبواب وكثرتها، فأبواب الجنة ليست كأبواب
القصور والبساتين في الدنيا، بل تعددت هذه الأبواب بسبب الأعمال المختلفة
للأفراد. ولذا نقرأ في بعض الأخبار أن للأبواب أسماء مختلفة، فهناك باب يسمى
باب المجاهدين، والمجاهدون يدخلون بسلاحهم من ذلك الباب إلى الجنة،
والملائكة تحييهم (1)!
وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) " واعلموا أن للجنة ثمانية أبواب، عرض كل باب
مسيرة أربعين سنة " (2).
ومن الظريف أن القرآن الكريم يذكر لجهنم سبعة أبواب لها سبعة
أبواب (3) وطبقا للروايات فإن للجنة ثمانية أبواب، وهذه إشارة واضحة إلى أن
طرق الوصول إلى السعادة وجنة الخلد أكثر من طرق الوصول إلى الشقاء
والجحيم. ورحمة الله سبقت غضبه " يا من سبقت رحمته غضبه ".
ومن ألطف ما في الأمر أن الآيات السابقة أشارت إلى ثمان صفات من
صفات أولي الألباب، وكل واحدة منها - في الواقع - هي باب من أبواب الجنة
وطريق للوصول إلى السعادة الأبدية.

1 - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، المجلد الثالث، ص 995.
2 - الخصال للصدوق، الباب الثاني.
3 - الحجر، 44.
395

3 3 - يلحق بأهل الجنة أقرباؤهم
الآية أعلاه وآيات أخرى من القرآن الكريم تصرح أن من بين أهل الجنة
آباؤهم وأزواجهم وأبناؤهم الصالحون، وهذا إنما هو لإتمام النعمة عليهم، وكي
لا يشعروا بفراق أحبائهم، وبما أن تلك الدار متكاملة وكل شئ يتجدد فيها، فإن
أصحابها يدخلون فيها بوجوه جديدة وأكثر محبة والفة. المحبة التي تضاعف من
نعم الجنة لهم.
لا شك أن الآية أعلاه أشارت إلى الآباء والأزواج والأبناء، ولكن في الواقع
كل الأقرباء سيجتمعون هناك، لأنه من غير الممكن وجود الأبناء والآباء بدون
إخوانهم وأخواتهم.. وحتى جميع أقربائهم، فالأب الصالح يلحق به أبناؤه
وإخوته، وعلى هذا الأساس يكون حضور الأقرباء معهم بشكل طبيعي.
3 4 - ما هي جنات عدن؟
" العدن " الاستقرار، وهنا جاءت الكلمة بمعنى الخلود، ومنه المعدن لمستقر
العناصر الفلزية. ويستفاد من مختلف آيات القرآن أن الجنة دار خلود لأهلها،
ولكن - كما قلنا في ذيل الآية (72) من سورة التوبة - جنات عدن هي محل
خاص في الجنة، ولها صفات ومنازل عالية، ولا يدخلها إلا ثلاثة: الأنبياء
والصديقون والشهداء (1).
3 5 - التطهير من آثار الذنوب
مما لا شك فيه أن الحسنات والسيئات لها أثر متقابل في النفس ونحن نرى
في حياتنا اليومية كثيرا من النماذج بخصوص هذا الموضوع، فمرة يتحمل
الإنسان مشاق سنين كثيرة ويسعى للحصول على الثروة، ولكن يفقدها بعمل

1 - للتوضيح أكثر راجع ما ذكر ذيل الآية (72) من سورة التوبة.
396

بسيط ناتج عن اللامبالاة، أوليس هذا إحباطا للحسنات المادية. ومرة أخرى
على العكس حيث يرتكب الإنسان كثيرا من الأخطاء في حياته ويتحمل
الخسارة الكبيرة، ولكن يسترجعها من خلال عمل شجاع ومحسوب.
والآية ويدرأون بالحسنة السيئة إشارة إلى هذا الموضوع، لأن الإنسان
غير معصوم، وهو معرض للخطأ والمعصية، فعليه أن يفكر بإصلاح ما فسد،
فأعمال الخير لا تمحو الآثار الاجتماعية للذنوب، بل كذلك تمحو من قلبه
الظلمة وتعيده إلى النور والصفاء الفطري. وهذه الحالة تسمى في القرآن الكريم
ب‍ " التكفير " (كما تقدم في ذيل الآية 217 من تفسير سورة البقرة إشارات كثيرة
في هذا المجال).
ولكن كما قلنا - في تفسير الآية أعلاه - يمكن أن تكون إشارة إلى الفضيلة
الأخلاقية لاولي الألباب، وذلك أنهم لا يواجهون السيئة بالسيئة، بل العكس
يقابلون الانتقام بالإحسان والسيئة بالحسنة.
* * *
397

2 الآيتان
والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما
أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة
ولهم سوء الدار (25) الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر
وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا
متع (26)
2 التفسير
3 المفسدون في الأرض!
بعد ما ذكرت الآيات السابقة صفات اولي الألباب ودعاة الحق، أشارت هذه
الآيات إلى قسم من الصفات الأصلية للمفسدين الذين فقدوا حظهم من العلم
والمعرفة حيث يقول جل وعلا: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم
سوء الدار.
في الحقيقة يتلخص فساد عقيدتهم في الجمل الثلاث الآتية:
398

1 - نقض العهود الإلهية: وتشمل المواثيق الفطرية والعقلية والتشريعية.
2 - قطع الصلات: وتشمل الصلة مع الله والرسل والناس ومع أنفسهم.
3 - الإفساد في الأرض: وهو نتيجة حتمية لنقض العهود وقطع الصلات.
أوليس المفسد هو الذي ينقض عهد الله ويقطع الصلات؟!
فهذا السعي من قبل هذه المجموعة من الأفراد بهدف الوصول إلى الأغراض
المادية، وعوضا أن تصل بهم هذه الجهود المبذولة إلى الأهداف النبيلة تبعدهم
عنها، لأن اللعن هو عبارة عن الابتعاد من رحمة الله (1).
ومن الظريف أن الدار هنا وفي الآية السابقة جاءت بصيغة مطلقة، وهذه
إشارة إلى أن الدار الحقيقية هي الدار الآخرة، وأي دار ما عداها فانية وزائلة.
قوله تعالى: الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وهذه إشارة لأولئك
الذين يسعون للحصول على دخل أكثر فهم يفسدون في الأرض وينقضون عهد
الله ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل لكي يزيدوا من دخلهم المادي، وهم غافلون
عن هذه الحقيقة وهي أن الرزق - في زيادته ونقصه - بيد الله سبحانه وتعالى.
وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن تكون هذه الجملة جوابا على سؤال مقدر،
وهو: كيف أن الله سبحانه وتعالى يرزق كل هؤلاء الناس الصالح منهم والطالح من
فيض كرمه.
والآية تجيب على هذا السؤال وتقول: الله يبسط الرزق لمن يشاء ومع
ذلك فهو متاع قليل وزائل، وما ينبغي السعي إليه هو الآخرة والسعادة الأبدية.
وعلى أية حال فإن المشيئة الإلهية في مجال الرزق هي أن الله سبحانه
وتعالى لا يبسط الرزق لأحد بدون الاستفادة من الأسباب الطبيعية له " أبى الله أن
يجري الأمور إلا بأسبابها ".

1 - يقول الراغب في مفرداته: اللعن بمعنى الطرد مع الغضب، واللعن في الآخرة تشير إلى العقوبة وفي الدنيا الابتعاد
من رحمة الله، وإذا كان من قبل الناس فمعناه دعاء السوء.
399

ثم تضيف الآية وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا
متاع.
وقد ذكر " متاع " بصيغة النكرة لبيان تفاهة الدنيا بالمقارنة مع الآخرة.
* * *
2 بحثان
3 1 - من هو المفسد في الأرض؟
الفساد يقابله الإصلاح، ويطلق على كل عمل تخريبي، ويقول الراغب في
مفرداته: " الفساد خروج الشئ عن الاعتدال قليلا كان أو كثيرا، ويضاده الصلاح،
ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة " وعلى ذلك
فكل عمل فيه نقص، وكل إفراط وتفريط في المسائل الفردية والاجتماعية هو
مصداق للفساد!
وفي كثير من موارد القرآن الكريم ذكر الفساد في مقابل الإصلاح الذين
يفسدون في الأرض ولا يصلحون (1)، وقوله تعالى: والله يعلم المفسد من
المصلح، (2) وقوله تعالى: وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين (3).
كما ذكر الإيمان والعمل الصالح في مقابل الفساد، وحيث يقول جل وعلا
أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض. (4)
ومن جانب آخر ذكر الفساد، مع كلمة " في الأرض " في كثير من آيات
القرآن الكريم نحو عشرين آية ونيف، وهي توضح الجوانب الاجتماعية
للمسألة.

1 - الشعراء، 152.
2 - البقرة، 220.
3 - الأعراف، 142.
4 - سورة ص، 28.
400

ومن جانب ثالث ذكر الفساد والإفساد مع ذنوب أخرى، ويحتمل أن يكون
مصداقا لها، وبعض هذه الذنوب كبيرة وبعضها الآخر أصغر فمثلا قوله تعالى:
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، (1) وقوله
تعالى وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث و (2) النسل،
وقوله تعالى: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به
أن يوصل ويفسدون في الأرض، (3) وقوله تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها
للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا. (4)
ومرة يعتبر فرعون من المفسدين، وأثناء توبته عند غرقه في النيل يقول:
الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. (5)
وقد استعمل " الفساد في الأرض " تعبيرا عن السرقة كما في قصة يوسف (عليه السلام)
تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين. (6)
ومرة أخرى كناية عن قلة البيع، كما في قصة شعيب حيث نقرأ قوله تعالى:
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين. (7)
وأخيرا استخدم القرآن الكريم الفساد في التعبير عن اضطراب النظام
الكوني لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. (8)
نستفيد من مجموع هذه الآيات أن الفساد - بشكل عام - أو الفساد في
الأرض، له معنى واسع جدا، بحيث يشمل أكبر الجرائم مثل جرائم فرعون وسائر

1 - المائدة، 33.
2 - البقرة، 205.
3 - البقرة، 27.
4 - القصص، 83.
5 - يونس، 91.
6 - يوسف، 73.
7 - هود، 85.
8 - الأنبياء، 22.
401

الطواغيت، كما يشمل الأعمال الأقل إجراما منها مثل بخس الناس أشياءهم،
ويشمل كذلك أي خروج عن حالة الاعتدال كما أشرنا إليه سابقا. وبالنظر إلى أن
العقوبة يجب أن تكون مطابقة للجريمة يتضح لنا أن كل مجموعة من هؤلاء
المفسدين لها عقوبة معينة وجزاء خاص.
ونرى في الآية (33) من سورة المائدة التي ذكرت " الفساد في الأرض مع
محاربة الله ورسوله " أن هناك أربع عقوبات ويجب على الحاكم الشرعي أن
يختار العقوبة المناسبة على مقدار الجريمة (القتل - الصلب - قطع الأيدي
والأرجل - النفي) كما بين فقهاؤنا في كتبهم شروط وحدود المفسد في الأرض
وعقوباته (1).
ولأجل أن نجتث هذه المفاسد، يجب أن نستخدم الوسائل الكافية في كل
مرحلة من مراحلها، ففي المرحلة الأولى نستخدم أسلوب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر عن طريق النصائح والتذكير، ولكن إذا ما استوجب الأمر
نستعمل الشدة حتى لو أدى ذلك إلى القتال.
وبالإضافة إلى ما أشرنا إليه، فإن الجملة ويفسدون في الأرض ترشدنا
إلى هذه الحقيقة في حياة المجتمع الإنساني، وهي أن الفساد الاجتماعي لا يبقى
في مكان معين ولا يمكن حصره في منطقة معينة، بل ينتشر بين أوساط المجتمع
وفي كافة بقاع الأرض ويسري من مجموعة إلى أخرى.
ويستفاد من الآيات القرآنية أن واحدة من أهداف بعثة الأنبياء هو إنهاء حالة
الفساد في الأرض (في معناه الواسع) كما نقرأ في سورة هود الآية (88) قول
النبي شعيب (عليه السلام) إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت.

1 - ونحن أشرنا إليه بشكل مفصل في ذيل الآية (33) من سورة المائدة.
402

3 2 - الرزق بيد الله سبحانه وتعالى ولكن...!
لا نستفيد من الآية أعلاه فقط أن الرزق في زيادته ونقصانه بيد الله، بل
نستفيد من آيات اخر أن الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء وينقصه لمن
يشاء، ولكن ليس كما يعتقده بعض الجهلاء من عدم الكسب والجلوس في زاوية
البيت حتى يبعث الله لهم الرزق، إن هؤلاء الأفراد - الذين يعتبر تفكيرهم السلبي
ذريعة لمن يقول بأن الدين أفيون الشعوب - قد غفلوا عن نقطتين أساسيتين هما:
أولا: إن الإرادة والمشيئة الإلهية التي أشارت إليها الآيات القرآنية ليست
مسألة اعتباطية وغير محسوبة، بل - وكما قلنا سابقا - إن المشيئة الإلهية غير
منفصلة عن حكمته جل وعلا وتدخل فيها الاستعدادات والتوفيقات.
ثانيا: إن هذه المسألة لا تعني نفي الأسباب، لأن عالم الأسباب هو عالم
الوجود، وهذه العوالم وجدت بإرادة الله وهي غير منفصلة عن المشيئة التشريعية.
وبعبارة أخرى: إن إرادة الله في مجال بسط الرزق نقصه مشروطة بشرائط
تتحكم في حياة الناس، فالسعي والإخلاص والإيثار، وبعكس ذلك الكسل
والبخل وسوء النية، لها دور فعال وكبير، ولهذا السبب نرى القرآن الكريم يشير
مرارا إلى أن الإنسان رهين بسعيه وإرادته وعمله، وما يستفيده من حياته إنما هو
بمقدار هذا السعي والاجتهاد ليس للإنسان إلا ما سعى.
ولهذا فإن هناك بابا في السعي لتحصيل الرزق يذكره المحدثون في
موسوعاتهم الحديثة " كوسائل الشيعة " في باب التجارة، ويوردون أحاديث
كثيرة في هذا المجال، كما أن هناك أبوابا أخرى تذم البطالة والكسل، ومن
جملتها الحديث المروي عن الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول: " إن الأشياء لما
ازدوجت ازدوج الكسل والعجز فنتجا بينهما الفقر " (1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) " لا تكسلوا في طلب معايشكم فإن آباءنا كانوا

1 - وسائل الشيعة، المجلد 12، صفحة 37.
403

يركضون فيها ويطلبونها " (1).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: " إني لأبغض الرجل أن يكون كسلانا عن أمر
دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل " (2).
وعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) " إن الله تعالى ليبغض العبد النوام، إن الله
ليبغض العبد الفارغ " (3).
* * *

1 - وسائل الشيعة المجلد 12 صفحة 37 و 38.
2 - وسائل الشيعة المجلد 12 صفحة 38.
3 - وسائل الشيعة المجلد 12 صفحة 37 و 38.
404

2 الآيات
ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن
الله يضل من يشاء ويهدى إليه من أناب (27) الذين آمنوا
وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28)
الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب (29)
2 التفسير
3 ألا بذكر الله تطمئن القلوب:
في سورة الرعد - كما أشرنا سابقا - بحوث كثيرة حول التوحيد والمعاد
والنبوة، فالآية الأولى من هذه المجموعة تبحث مرة أخرى في دعوة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتبين واحدا من أعذار المشركين المعاندين حيث يقول تعالى:
ويقول الذين كفروا لولا انزل عليه آية من ربه.
جملة " يقول " فعل مضارع للدلالة على أن هذا العذر كان يجري على
ألسنتهم كثيرا، رغم ما يرونه من معجزات الرسول (فعلى كل نبي أن يظهر
المعجزة كدليل على صدقه) ومع ذلك كانوا يحتجون عليه ولا يؤمنون بالمعاجز
405

السابقة، ويطلبون منه معاجز جديدة تلائم أفكارهم.
وبعبارة أخرى إن هؤلاء وجميع المنكرين لدعوة الحق كانوا دائما يطلبون
" المعاجز الإقتراحية "، ويتوقعون من النبي أن يجلس في زاوية الدار ويظهر لكل
واحد منهم المعجزة التي يقترحها، فإن لم تعجبهم لم يؤمنوا بها!.
في الوقت الذي نرى فيه أن الوظيفة الرئيسية للأنبياء هي التبليغ والإرشاد
والإنذار وهداية الناس، وأما المعجزة فهي أمر استثنائي وتكون بأمر من الله لا من
الرسول، ولكن نحن نقرأ في كثير من الآيات القرآنية أن هذه المجموعة المعاندة
لا تأخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار، وكانت تؤذي الأنبياء دائما بهذه الطلبات.
ويجيبهم القرآن الكريم حيث يقول: قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من
أناب.
وهذه إشارة إلى أن العيب ليس من ناحية الإعجاز، لأن الأنبياء قد أظهروا
كثيرا من المعاجز، ولكن النقص من داخل أنفسهم. وهو العناد والتعصب والجهل
والذنوب التي تصد عن الإيمان.
ولأجل ذلك يجب أن ترجعوا إلى الله وتنيبوا إليه وترفعوا عن عيونكم
وأفكاركم ستار الجهل والغرور كي يتضح لكم نور الحق المبين.
تشير الآية الثانية بشكل رائع إلى تفسير من أناب حيث يقول تعالى:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ثم يذكر القاعدة العامة والأصل
الثابت حيث يقول تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
وتبحث الآية الأخيرة مصير الذين آمنوا حيث تقول: الذين آمنوا وعملوا
الصالحات طوبى لهم وحسن مآب.
كثير من المفسرين قالوا: إن كلمة " طوبى " مؤنث " أطيب "، وبما أن المتعلق
محذوف فإن للكلمة مفهوما واسعا وغير محدود، ونتيجة طوبى لهم هو أن تكون
لهم أفضل الأشياء: أفضل الحياة والمعيشة، وأفضل النعم والراحة، وأفضل
406

الألطاف الإلهية، وكل ذلك نتيجة الإيمان والعمل الصالح لأولئك الراسخين في
عقيدتهم والمخلصين في عملهم.
وما ذكره جمع من المفسرين في معنى هذه الكلمة وأوصلها صاحب مجمع
البيان إلى عشرة معاني، فإنها في الحقيقة تصب كلها في هذا المعنى الواسع
والشامل الذي ذكرناه.
ونقرأ في روايات متعددة أن " طوبى " شجرة أصلها في بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو
الإمام علي (عليه السلام) في الجنة، وتنتشر أغصانها على رؤوس جميع المؤمنين وعلى
دورهم، ولعل هذا تجسيما لقيادتهم وإمامتهم والصلات القوية التي تربط بين
هؤلاء القادة وأصحابهم، وتكون ثمرتها كل هذه النعم المختلفة.
(وإذا ما رأينا أن طوبى جاءت مؤنثة لأطيب الذي هو مذكر، فإن ذلك بسبب
أنها صفة للحياة والمعيشة أو النعمة وكل هذه مؤنثة).
* * *
2 بحوث
3 1 - كيف يطمئن القلب بذكر الله؟
إن الاضطراب والقلق من أكبر المصاعب في حياة الناس، والنتائج الحاصلة
منهما في حياة الفرد والمجتمع واضحة للعيان، والاطمئنان واحد من أهم
إهتمامات البشر، وإذا حاولنا أن نجمع سعي وجهاد الإنسانية على طول التأريخ
في بحثهم للحصول على الاطمئنان بالطرق الصحيحة غير الصحيحة، فسوف
تتكون لدينا كتب كثيرة ومختلفة تعرض تلك الجهود.
يقول بعض العلماء: عند ظهور بعض الأمراض المعدية - كالطاعون - فإن
من بين العشرة الأفراد الذين يموتون بسبب المرض - ظاهرا - أكثرهم يموت
بسبب القلق والخوف، وعدة قليلة منهم تموت بسبب المرض حقيقة. وبشكل
407

عام " الاطمئنان " و " الاضطراب " لهما دور مهم في سلامة ومرض الفرد
والمجتمع وسعادة وشقاء الإنسانية، وهذه مسألة لا يمكن التغافل عنها، ولهذا
السبب ألفت كتب كثيرة في موضوع القلق وطرق التخلص منه، وكيفية الحصول
على الراحة، والتاريخ الإنساني ملئ بالمواقف مؤسفة لتحصيل الراحة، وكيف
أن الإنسان يتشبث بكل وسيلة غير مشروعة كأنواع الاعتياد على المواد
المخدرة لنيل الاطمئنان النفسي.
ولكن القرآن الكريم يبين أقصر الطرق من خلال جملة قصيرة ولكنها كبيرة
المعنى حيث يقول: ألا بذكر الله تطمئن القلوب!
ولتوضيح هذا المعنى ومعرفة عوامل القلق والاضطراب لابد من ملاحظة ما
يلي:
أولا: يحدث الاضطراب مرة بسبب ما يجول في فكر الإنسان عن المستقبل
المظلم، فيحتمل زوال النعمة، أو الأسر على يد الأعداء، أو الضعف والمرض،
فكل هذه تؤلم الإنسان، لكن الإيمان بالله القادر المتعال الرحمن الرحيم، الله
الذي تكفل برحمة عباده.. هذا الإيمان يستطيع أن يمحو آثار القلق والاضطراب
ويمنحه الاطمئنان في مقابل هذه الأحداث ويؤكد له أنك لست وحيدا، بل لك
رب قادر رحيم.
ثانيا: ومرة يشغل فكر الإنسان ماضيه الأسود فيمسي قلقا بسبب الذنوب
التي ارتكبها وبسبب التقصير والزلات، ولكن بالنظر إلى أن الله غفار الذنوب
وقابل التوبة وغفور رحيم، فإن هذه الصفات تمنح الإنسان الثقة وتجعله أكثر
اطمئنانا وتقول له: إعتذر إلى الله من سوالف أعمالك السيئة واتجه إليه بالنية
الصادقة.
ثالثا: ضعف الإنسان في مقابل العوامل الطبيعية، أو مقابل كثرة الأعداء يؤكد
في نفسه حالة القلق وأنه كيف يمكن مواجهة هؤلاء القوم في ساحة الجهاد أو في
408

الميادين الأخرى؟
ولكنه إذا تذكر الله، واستند إلى قدرته ورحمته.. هذه القدرة المطلقة التي لا
يمكن أن تقف أمامها أية قدرة أخرى، سوف يطمئن قلبه، ويقول في نفسه: نعم
إنني لست وحيدا، بل في ظل القدرة الإلهية المطلقة!
فالمواقف البطولية للمجاهدين في ساحات القتال، في الماضي أو الحاضر،
وشجاعتهم النادرة حتى في المنازلة الفردية لهم، كلها تبين حالة الاطمئنان التي
تنشأ في ظل الإيمان.
نحن نشاهد أو نسمع أن أحد الضباط المؤمنين فقد بصره مثلا أو أصابته
جراحات كثيرة بعد قتال شديد مع أعداء الإسلام ولكن عندما يتحدث كأنه لم
يكن به شئ، وهذه نتيجة الاستقرار والطمأنينة في ظل الإيمان بالله.
رابعا: ومن جانب آخر يمكن أن يكون أصل المشقة هي التي تؤذي الإنسان،
كالإحساس بتفاهة الحياة أو اللا هدفية في الحياة، ولكن المؤمن بالله الذي يعتقد
أن الهدف من الحياة هو السير نحو التكامل المعنوي والمادي، ويرى أن كل
الحوادث تصب في هذا الإطار، سوف لا يحس باللا هدفية ولا يضطرب في
المسيرة.
خامسا: ومن العوامل الأخرى أن الإنسان مرة يتحمل كثيرا من المتاعب
للوصول إلى الهدف، ولكن لا يرى من يقيم أعماله ويشكر له هذا السعي، وهذه
العملية تؤلمه كثيرا فيعيش حالة من الاضطراب والقلق، وأما إذا علم أن هناك من
يعلم بهذا السعي ويشكره عليه ويثيبه، فليس للاضطراب والقلق هنا محل من
الإعراب.
سادسا: سوء الظن عامل آخر من عوامل الاضطراب والذي يصب كثيرا من
الناس في حياتهم ويبعث فيهم الألم والهم، ولكن الإيمان بالله ولطفه المطلق
وحسن الظن به التي هي من وظائف الفرد المؤمن سوف تزيل عنه حالة العذاب
409

والقلق وتحل محلها حالة الاطمئنان والاستقرار.
سابعا: الهوى وحب الدنيا من أهم عوامل القلق والاضطراب، وقد تصل
الحالة في عدم الحصول على لون خاص في الملبس، أو أي شئ آخر من
مظاهر الحياة البراقة أن يعيش الإنسان حالة من القلق قد تستمر أياما وشهورا.
ولكن الإيمان بالله والتزام المؤمن بالزهد والاقتصاد وعدم الاستئسار في
مخالب الحياة المادية ومظاهرها البراقة ينهي حالة الاضطراب هذه، وكما قال
الإمام علي (عليه السلام): " دنياكم هذه أهون عندي من ورقة في فم جرادة تقضمها " فمن
كانت له مثل هذه الرؤية كيف يمكن أن تحدث عنده حالة الخوف والقلق نتيجة
لعدم الحصول على شئ من وسائل الحياة المادية أو فقدانها؟!
ثامنا: من العوامل المهمة الأخرى الخوف من الموت، وبما أن الموت لا
يحصل فقط في السن المتأخرة، بل في كافة السنين وخصوصا أثناء المرض
والحروب، والعوامل الأخرى فالقلق يستوعب كافة الأفراد. ولكن إذا اعتقدنا أن
الموت يعني الفناء ونهاية كل شئ (كما يعتقده الماديون) فإن الاضطراب والقلق
في محله، ولابد أن يخاف الإنسان من هذا الموت الذي ينهي عنده كل الآمال
والأماني والطموحات. ولكن الإيمان بالله يمنحنا الثقة بأن الموت هو باب لحياة
أوسع وأفضل من هذه الحياة، وبرزخ يمر منه الإنسان إلى دار فضاؤها رحب، فلا
معنى للقلق حينئذ، بل إن مثل هذا الموت - إذا ما كان في سبيل الله يكون محبوبا
ومطلوبا.
إن عوامل الاضطراب لا تنحصر بهذه العوامل، فهناك عوامل كثيرة أخرى،
ولكن كل مصادرها تعود إلى ما ذكرناه أعلاه.
وعندما رأينا أن كل هذه العوامل تذوب وتضمحل في مقابل الإيمان بالله
سوف نصدق أنه ألا بذكر الله تطمئن القلوب (1).

1 - للاستفادة أكثر راجع كتاب (طرق التغلب على الاضطراب والقلق).
410

3 2 - الطمأنينة والخوف من الله
طرح بعض المفسرين هنا هذا السؤال، وخلاصته: نحن قرأنا في الآية أعلاه
ألا بذكر الله تطمئن القلوب ومن جانب آخر فإن الآية 2 من سورة الأنفال
تقول: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم فهل إن هاتين الآيتين
متناقضتين؟
الجواب: إن الطمأنينة المحمودة هي ما كانت في مقابل العوامل المادية التي
تقلق الإنسان - كما أشرنا إليه سابقا - ولكن المؤمنين لابد وأن يكونوا قلقين في
مقابل مسؤولياتهم، وبعبارة أخرى: إن المؤمنين لا يشكون من الاضطراب
المدمر الذي يشكل غالبية أشكال القلق والاضطرابات، ولكن القلق البناء الذي
يحس به الإنسان تجاه مسؤولياته أمام الله فهو المطلوب ولابد منه، وهذا هو
الخوف من الله (1).
3 3 - ما هو ذكر الله، وكيف يتم؟
" الذكر " كما يقول الراغب في مفرداته: حفظ المعاني والعلوم، ويستعمل
الحفظ للبدء به، بينما الذكر للاستمرار فيه، ويأتي في معنى آخر هو ذكر الشئ
باللسان أو القلب، لذلك قالوا: إن الذكر نوعين " ذكر القلب " و " ذكر اللسان " وكل
واحد منها على نوعين: بعد النسيان أو بدونه.
وعلى أية حال ليس المقصود من الذكر - في الآية أعلاه - هو ذكره باللسان
فقط فنقوم بتسبيحه وتهليله وتكبيره، بل المقصود هو التوجه القلبي له وإدراك
علمه وبأنه الحاضر والناظر، وهذا التوجه هو مبدأ الحركة والعمل والجهاد
والسعي نحو الخير، وهو سد منيع عن الذنوب، فهذا هو الذكر الذي له كل هذه
الآثار والبركات كما أشارت إليه عدة من الروايات.

1 - وقد أشرنا إلى هذه المسألة من تفسير الأمثل ذيل الآية (2) من سورة الأنفال.
411

فمن وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي (عليه السلام) يقول له: " يا علي، ثلاث لا تطيقها هذه
الأمة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على كل حال،
وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم
عليه خاف الله عز وجل عنده وتركه " (1).
وقال الإمام علي (عليه السلام): " الذكر ذكران: ذكر الله عز وجل عند المصيبة، وأفضل
من ذلك ذكر الله عندما حرم الله عليك فيكون حاجزا " (2).
ولهذا السبب اعتبرت بعض الروايات الذكر وقاية ووسيلة دفاعية، كما ورد
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاطب أصحابه يوما فقال لهم: اتخذوا
جننا، فقالوا يا رسول الله أمن عدو وقد أظلنا؟ قال: لا، ولكن من النار، قولوا:
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " (3).
وإذا ما رأينا أن بعض الروايات تتحدث عن " ذكر الله " أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فذلك لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر الناس بالله تعالى، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في
تفسير الآية ألا بذكر الله تطمئن القلوب قال: " بمحمد تطمئن القلوب وهو
ذكر الله وحجابه ".
* * *

1 - سفينة البحار، المجلد الأول، صفحة 484.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
412

2 الآيات
كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم
الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربى لا إله
إلا هو عليه توكلت وإليه متاب (30) ولو أن قرآنا سيرت به
الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الامر
جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس
جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل
قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف
الميعاد (31) ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين
كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب (32)
2 أسباب النزول
قال بعض المفسرين: إن الآية الأولى نزلت في صلح الحديبية في السنة
السادسة للهجرة، وذلك عندما أرادوا كتابة معاهدة الصلح، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي
413

(عليه السلام): " اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم... " قال سهيل بن عمرو ومعه المشركون:
نحن لا نعرف الرحمان! وإنما هناك رحمان واحد في اليمامة " وكان قصدهم
مسيلمة الكذاب " بل اكتب " باسمك اللهم " كما كانوا يكتبونه في الجاهلية، ثم
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): " اكتب: هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله... " فقال
المشركون: إذا كنت رسول الله فإنه لظلم كبير أن نقاتلك ونمنعك من الحج، ولكن
اكتب: هذا ما اتفق عليه محمد بن عبد الله!...
وفي هذه الأثناء غضب صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: دعنا نقاتل هؤلاء
المشركين، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا، أكتب كما يشاؤون " وفي هذه الأثناء
نزلت الآية أعلاه، وهي توبخ المشركين على عنادهم ومخالفتهم في اسم الرحمن
الذي هو واحد من صفات الله جل وعلا.
هذا السبب في النزول يمكن أن يكون صحيحا في حالة اعتقادنا بأن
السورة مدنية حتى توافق حادثة صلح الحديبية، ولكن المشهور أنها مكية. إلا إذا
اعتبرنا أن سبب النزول هو رد على المشركين كما في الآية (60) من سورة
الفرقان اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن.
وعلى أية حال، وبغض النظر عن سبب النزول، فإن الآية لها مفهوم واضح
سوف نتطرق إليه في تفسيرنا لها.
وقال بعض المفسرين في سبب نزول الآية الثانية: إنها جواب لمجموعة من
مشركي مكة، حيث كانوا جالسين خلف الكعبة وطلبوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فجاءهم (صلى الله عليه وآله وسلم) " على أمل هدايتهم " قالوا: إذا كنت تحب أن نكون من أصحابك
فأبعد هذه الجبال قليلا إلى الوراء حتى تتسع لنا الأرض! وشق الأرض لكي
تتفجر العيون والأنهار حتى نغرس الأشجار ونقوم بالزراعة! ألم تعتقد بأنك لا
تقل عن داود الذي سخر الله له الجبال تسبح معه؟ أو أن تسخر لنا الريح حتى
نسافر عليها إلى الشام ونحل مشاكلنا التجارية وما نحتاج إليه ثم نعود في نفس
414

ذلك اليوم! كما كانت مسخرة لسليمان (عليه السلام)، ألم تعتقد أنك لا تقل عن سليمان، أو
أحيي لنا جدك " قصي " أو أي واحد من موتانا كي نسأله هل أن ما تقوله حق أم
باطل، أوليس عيسى كان يحيي الموتى!
وفي هذه الأثناء نزلت الآية الثانية تذكرهم بأن كل ما يقولونه سببه
الخصومة والعناد لا لكي يؤمنوا، وإلا فهناك معاجز كثيرة حصلت لهم.
2 التفسير
3 لا أمل في إيمان أهل العناد:
تبحث هذه الآيات مرة ثانية مسألة النبوة، والآيات أعلاه تكشف عن قسم
آخر من جدال المشركين في النبوة وجواب القرآن عليهم فيقول الآية: كما أننا
أرسلنا رسلا إلى الأقوام السالفة لهدايتهم: كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من
قبلها أمم والهدف من ذلك لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك. في الوقت
الذي وهم يكفرون بالرحمن يكفرون بالله الذي عمت رحمته كل مكان،
وشمل فيضه المؤمن والكافر.
ثم قل لهم: إن الرحمن الذي عم فضله هو ربي قل هو ربي لا إله إلا هو
عليه توكلت وإليه متاب.
ثم يجيب أولئك الذين يتشبثون دائما بالحجج الواهية فيقول: لو أن الجبال
تحركت من مكانها بواسطة القرآن: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت
به الأرض أو كلم به الموتى. فمع ذلك لا يؤمنون به.
ولكن كل هذه الأفعال بيد الله ويفعل ما يريد متى يشاء بل لله الأمر
جميعا. ولكنكم لا تطلبون الحق، وإذا كنتم تطلبونه فهذا المقدار من المعجزة التي
صدرت من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كاف لإيمانكم.
ثم يضيف القرآن الكريم أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى
415

الناس جميعا (1) وهذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يجبر الناس
وحتى المعاندين على أن يؤمنوا، لأنه القادر على كل شئ، ولكنه لا يفعل ذلك
أبدا، لأن هذا الإيمان الإجباري لا قيمة له وهو فاقد للمعنى والتكامل الذي
يحتاجه الإنسان في حياته.
ثم تضيف الآية ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة وهذه
مصائب تنزل عليهم بشكل ابتلاءات مختلفة أو على شكل هجوم المسلمين
عليهم. وهذه المصائب إن لم تنزل في دارهم فهي أو تحل قريبا من دارهم
لكي يعتبروا بها ويرجعوا إلى الله جل وعلا.
وهذا الإنذار مستمر حتى يأتي وعد الله.
وهذا الوعد الأخير قد يشير إلى الموت، أو إلى يوم القيامة، أو على قول
البعض إلى فتح مكة التي سحقت آخر معقل للعدو.
وعلى أية حال فالوعد الإلهي أكيد: إن الله لا يخلف الميعاد.
الآية الأخيرة من هذه المجموعة تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول له: لست الوحيد
من بين الأنبياء تعرض لطلب المعاجز الإقتراحية والاستهزاء من الكفار، بل
ولقد استهزئ برسل من قبلك. ولكن لم نعاقب هؤلاء الكفار فورا، بل
فأمليت للذين كفروا لكي يستيقظوا ويعودوا إلى طريق الحق، أو نلقي عليهم
الحجة الكافية على الأقل. لأن هؤلاء إذا كانوا مذنبين فإن لطف الله وكرمه
وحكمته لا تتأثر بأفعال هؤلاء.

1 - " ييأس " مأخوذة من مادة اليأس، ولكن يقول جمهور من المفسرين: إنها جاءت هنا بمعنى العلم، وأما ما يقوله
البعض [طبقا لما نقله الفخر الرازي] إن " يئست " لا تأتي بمعنى " علمت " إطلاقا، ويرى الراغب في مفرداته أن اليأس
هنا هو نفس معناه، ولكن يحتاج لتحققه إلى العلم بعدم تحقق الموضوع، وعلى هذا يكون ثبوت يأسهم يتوقف على
علمهم وتكون نتيجته أن اليأس هنا ليس العلم بالوجود، بل العلم بالعدم، وهو مخالف لمفهوم الآية، وعلى ذلك فالحق ما
قاله جمهور المفسرين، وما ذكروه من شواهد في قول العرب على ذلك، وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره أمثلة من هذه
الشواهد [دققوا النظر].
416

وعلى أية حال فهذا التأخير ليس بمعنى نسيان العقاب، بل ثم أخذتهم
فكيف كان عقاب وهذا المصير ينتظر قومك المعاندين أيضا.
* * *
2 بحوث
3 1 - لماذا التركيز على كلمة " الرحمان "؟
توضح الآية أعلاه، وما ذكرناه في أسباب النزول، أن كفار قريش لم يوافقوا
على وصف الله بالرحمن، وبما أن ذلك لم يكن سائدا لديهم، فإنهم كانوا
يستهزئون به، في الوقت الذي نرى فيه الآيات السابقة تصر وتؤكد على ذلك، لأن
في هذه الكلمة لطفا خاصا، ونحن نعلم أن صفة الرحمانية تعم وتشمل المؤمن
والكافر، الصديق والعدو، في الوقت نفسه فان صفة الرحيم خاصة بعباده
المؤمنين.
فكيف لا تؤمنون بالله الذي هو أصل اللطف والكرم حتى شمل أعداءه بلطفه
ورحمته، فهذا منتهى الجهل.
3 2 - لماذا لم يستجب النبي لمطاليبهم
ومرة أخرى نواجه هنا ما يقوله البعض من أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن لديه
معجزة غير القرآن الكريم، ويستندون في ذلك إلى الآية أعلاه وأمثالها، لأن ظاهر
هذه الآيات أن النبي لم يستجب إلى طلبهم في إظهار المعاجز المختلفة من قبيل
تسيير الجبال أو شق الأرض وإظهار العيون وإحياء الموتى والتكلم معهم.
ولكن - كما قلنا مرارا - الإعجاز يتم لإظهار الحقيقة فقط، ولأولئك الذين
يطلبون الحق، فليس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل سحر حتى ينفذ لهم كل ما يطلبونه منه أو
417

يقترحونه عليه ثم بعد ذلك لا يقبلون منه.
إن مثل هذا الطلب للمعاجز (المعاجز الإقتراحية) كان يصدر - فقط - من
الأفراد المعاندين والجاهليين الذين لم يستجيبوا لأي حق. والآيات أعلاه تشير
إلى ذلك بوضوح، ففي الآية الأخيرة تتحدث عن استهزائهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا
يعني أنهم لم يطلبوا المعجزة من أجل الحق، بل كان طلبهم استهزاء
بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبالإضافة إلى ما ذكرناه من أسباب النزول في بداية التفسير لهذه الآيات،
يمكن أن نستفيد من خلال طلبهم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إحياء واحد من أجدادهم لكي
يسألوه: هل أن ما تقوله حق أم باطل؟
فلو إستجاب لهم النبي هذا الطلب فما معنى سؤالهم أن النبي على حق أم
باطل؟ وهذا يوضح أن هؤلاء هم أفراد متعصبون ومعاندون وهدفهم ليس البحث
عن الحقيقة، (ولنا توضيح آخر من هذا الموضوع في ذيل الآية 90 من سورة
الإسراء).
3 3 - ما هي القارعة؟
" القارعة " مأخوذة من مادة " قرع " بمعنى طرق، وعلى ذلك تكون القارعة
بمعنى الطارقة، وتشير هنا إلى الأحداث التي تقرع الإنسان وتنذره وإذا كان
مستعدا للنهوض أيقظته.
وفي الحقيقة إن للقارعة معنى واسعا، فهي تشمل كل مصيبة ومشكلة
وحادثة تحيط بالإنسان.
ولذلك يعتقد بعض المفسرين أنها تعني الحروب والجفاف والقتل والأسر،
ويرى آخرون أنها تشير إلى الحروب التي كانت تقع في صدر الإسلام تحت
418

عنوان " السرية " التي لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشترك فيها، بل كان يأمر أصحابه بها،
ولكن معنى القارعة يشمل جميع هذه الأحداث.
ومن الطريف أن الآيات أعلاه تشير إلى أن الحوادث هذه إما أن تنزل عليهم
أو تقع قريبا من دارهم، وهذا يعني: إذا لم تصيبهم هذه الحوادث في دارهم، فإنها
سوف تقع قريبة منهم، فهل لا تكفي هذه الحوادث لإيقاظهم؟
* * *
419

2 الآيتان
أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء
قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظهر من القول
بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن
يضلل الله فما له من هاد (33) لهم عذاب في الحياة الدنيا
ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق (34)
2 التفسير
3 كيف تجعلون الأصنام شركاء مع الله؟!
نعود مرة أخرى في هذه الآيات إلى البحث حول التوحيد والشرك، وهي
تخاطب الناس من خلال دليل واضح حيث يقول تعالى: أفمن هو قائم على كل
نفس بما كسبت (1) وهذه الجملة تريد أن تقول بوضوح إن الله سبحانه وتعالى
وكأنه واقف على رأس كل شخص ويعلم بما يفعلونه ويجازي عليه وبيده تدبير
الأمور، ولذلك فإن كلمة " قائم " لها معنى واسع يشمل كل هذه الأمور، مع أن

1 - الجملة أعلاه مبتدأ لخبر محذوف تقديره أمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كمن ليس كذلك.
420

مجموعة من المفسرين يرى لها أبعادا خاصة.
ولإتمام البحث السابق، ومقدمة للبحث الآتي، يقول تعالى: وجعلوا لله
شركاء.
ثم يجيبهم بلا فاصلة وبعدة طرق:
يقول أولا: قل سموهم.
والمقصود من تسميتهم هو إما أن يكونوا ليست لهم أية قيمة بحيث لا
تستطيعون تسميتهم، فكيف تجعلون هذه الموجودات التي لا تستحق حتى
الأسماء والتي لا قيمة لها، في عداد الخالق القادر المتعال؟
أو يكون المقصود: بينوا صفاتهم لكي نرى هل يستحقون العبادة، فنحن
نقول في صفات الله جل وعلا بأنه الخالق، والرازق، والمحيي والعالم والقادر،
فهل تستطيعون أن تمنحوا هذه الصفات للأصنام؟! أو بالعكس إذا أردنا تسميتها
نقول بأنها أحجار وأخشاب ساكنة وفاقدة للعقل والشعور، ومحتاجة لمن
يعبدها، وخلاصة القول إنها فاقدة لكل شئ! فكيف نجعلها سواء مع الله؟ أفلا
تعقلون؟!
أو يكون المقصود: عدوا لنا أعمالهم، فهل كشفوا الضر لأحد أو منحوا الخير
لأحد؟ وهل حلوا العقد والمشاكل؟! ومع هذا الوضع فأي عقل يجيز لكم أن
تجعلوهم قرناء مع الله جل وعلا وهو مصدر الخير والبركة والنافع والضار
والمثيب والمعاقب!.
طبعا لا مانع من أن تجتمع كل هذه المعاني في جملة سموهم!
ويقول ثانيا: أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض.
وهذا التعبير في الحقيقة أفضل أسلوب للجواب على حديثهم الواهي،
وكمثال على ذلك يقول لك أحد الأشخاص: إن فلانا كان ضيفا عندكم البارحة،
فتقول له: هل تخبرني عن ضيف لا علم لي به؟! يعني هل من الممكن أن أحدا
421

يكون ضيفي ولا أعلم به وأنت تعلم بذلك؟!
ثالثا: حتى أنتم في الواقع لا تؤمنون بذلك في قرارة أنفسكم، بل أم بظاهر
من القول.
ولهذا السبب نرى المشركين عندما تضيق بهم المشاكل الحياتية يلوذون
بالله، لأنهم يعلمون في قلوبهم أن الأصنام لا يمكن أن تعمل لهم شيئا، كما بين
القرآن الكريم حالهم في الآية (65) من سورة العنكبوت حيث يقول تعالى:
فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم
يشركون.
رابعا: إن المشركين ليس لهم إدراك صحيح، وبما أنهم تابعين لأهوائهم
وتقليدهم الأعمى، فإنهم غير قادرين على أن يقضوا بالحق وبشكل صحيح،
ولهذا السبب ضلوا الطريق، يقول تعالى: بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا
عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد.
وقد قلنا مرارا: إن هذا الضلال ليس جبرا، ولا هو اعتباطيا وبدون حساب،
بل الإضلال الإلهي انعكاس لما يقوم به الإنسان من الأعمال السيئة التي تجره
إلى الضياع، وبما أن هذه الخاصية قد جعلها الله سبحانه وتعالى لمثل هذه
الأعمال فلذلك نسب هذا العمل إليه.
ويشير القرآن الكريم في الآية الأخيرة من هذه المجموعة إلى العقاب الأليم
الذي يشملهم في الدنيا والآخرة، الشقاء والهزيمة والحرمان وغيرها، حيث
تقول: لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق لأنها دائمة ومستمرة،
جسدية وروحية، وفيها أنواع الآلام.
وإذا اعتقدوا بأن لهم طريقا للفرار أو سبيلا للدفاع في مقابل ذلك، فإنهم في
اشتباه كبير، لأن وما لهم من الله من واق.
422

* * *
423

2 الآية
مثل الجنة التي وعد المتقون تجرى من تحتها الانهر أكلها
دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار (35)
2 التفسير
بالنظر إلى تناوب آيات هذه السورة في بيان التوحيد والمعاد وسائر
المعارف الإسلامية الأخرى، تحدثت هذه الآية مرة أخرى حول المعاد
وخصوصا نعم الجنة وعذاب الجحيم. يقول تعالى أولا: مثل الجنة التي وعد
المتقون تجري من تحتها الأنهار (1).
قد يكون التعبير ب‍ " مثل " إشارة إلى هذه النكتة، وهي أن الجنة وسائر النعم
الأخروية غير قابلة للوصف بالنسبة إلى الساكنين في هذا العالم المحدود الذي
هو في مقابل عالم بعد الموت يعتبر صغيرا جدا، ولذلك نستطيع أن نضرب لهم
مثلا أو صورة عن ذلك، كما أن الجنين في بطن امه لو كان يعقل لا يمكن أن نصور
له كل نعم الدنيا، إلا من خلال أمثال ناقصة وشاحبة!

1 - هناك نقاش بين المفسرين حول تركيب هذه الجملة فقال البعض: إن " مثل " مبتدأ و " تجري " خبرها، وقال بعض آخر:
إن " مثل " مبتدأ وخبره محذوف تقديره " فيما نقص عليكم مثل الجنة ".
424

الوصف الثاني للجنة هو أكلها دائم.
فهي ليست كفاكهة الدنيا فصلية وتظهر في وقت معين من السنة، بل في
بعض الأحيان وبسبب الآفات الزراعية تنقطع تماما، لكن ثمار الجنة ليست
فصلية ولا موسمية وغير مصابة بآفة، بل كإيمان المؤمنين المخلصين دائمة
وثابتة.
وكذلك وظلها ليس كظل أشجار الدنيا التي يظهر ظلها إذا كانت الشمس
أفقية ويزول أو يقل إذا صارت عمودية، أو يظهر في الربيع والصيف عندما تكون
الأشجار مورقة، ويزول في الخريف والشتاء عند تساقط الأوراق، (بالطبع هناك
أشجار قليلة تعطي ثمارا وأزهارا على مدار السنة، وهذه تكون في المناطق
المعتدلة التي ليس فيها شتاء).
الخلاصة: ظلال الجنة كبقية النعم الأخرى خالدة ودائمة، ومن هذا يتضح أن
ليس في الجنة فصل لتساقط الأوراق، ونعلم من ذلك - أيضا - أن شعاع الشمس
موجود في الجنة، وإلا كان التعبير بالظل هناك بدون شعاع الشمس ليس له أي
مفهوم، وأما ما جاء في الآية (13) من سورة الدهر لا يرون فيها شمسا ولا
زمهريرا قد تكون إشارة إلى إعتدال الهواء، فلا الشمس محرقة ولا البرد
قارس، وهذا لا يعني أن لا تكون هناك شمس أصلا.
إن انطفاء الشمس ليس دليلا على زوالها أبدا، لأن القرآن الكريم يقول:
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات (1) تكون أوسع وبهيئة جديدة.
وإذا قيل: إن كانت شمس الجنة غير محرقة، فعلام الظل؟
نقول في جوابهم: إن الظل ليس مانعا لحرارة الشمس فقط، بل إن الرطوبة
المعتدلة الصادرة من الأوراق باتحاذها مع الأوكسجين تعطي نشاطا ولطافة
خاصة للظل، ولذلك كان ظل الأشجار مختلفا عن ظل السقوف الجافة.

1 - إبراهيم، 48.
425

وبعد بيان هذه الصفات الثلاث قال تعالى في آخر الآية: تلك عقبى الذين
اتقوا وعقبى الكافرين النار.
لقد بين وفصل في هذه العبارة نعم الجنة، ولكن بالنسبة إلى أصحاب النار
ذكر جملة قصيرة وبعنف حيث ذكر أن عاقبة أمرهم إلى النار!
* * *
426

2 الآية
والذين آتيناهم الكتب يفرحون بما أنزل إليك ومن
الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا
أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب (36)
2 التفسير
3 المؤمنون والأحزاب!
أشارت هذه الآية إلى رد الفعل المتفاوت للناس في مقابل نزول الآيات
القرآنية، فالأفراد الذين يبحثون عن الحقيقة يفرحون بما أنزل على الرسول،
بينما المعاندون يخالفون ذلك.
يقول تعالى أولا: والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما انزل إليك.
إن الوصف ب‍ آتيناهم الكتاب إشارة إلى اليهود والنصارى وأمثالهم ممن
لهم كتاب سماوي وقد ذكرهم القرآن في مواطن كثيرة، فكان الأشخاص
الطالبون للحق من اليهود والنصارى وأمثالهم يفرحون عند نزول الآيات على
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنهم كانوا من جهة يرونها مطابقة لما في أيديهم من العلامات،
ومن جهة أخرى كان سببا لحريتهم ونجاتهم من شر الخرافات ومن علماء اليهود
427

والمسيحية الذين كانوا يستعبدونهم، وكانوا محرومين من حرية الفكر والتكامل
الإنساني.
وأما ما قاله بعض المفسرين الكبار من أن المقصود من الذين آتيناهم
الكتاب هم أصحاب النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعيد جدا، لأن هذا الوصف ليس
معهودا بالنسبة للمسلمين، بالإضافة إلى ذلك فإنها غير موافقة مع جملة بما
أنزل إليك (1).
وبما أن سورة الرعد مكية فهي غير منافية لما قلناه آنفا، مع أن المركز
الأصلي لليهود في الجزيرة العربية كان المدينة وخيبر، والمركز الأصلي
للمسيحيين هو نجران وأمثالها، ولكنهم كانوا يترددون على مكة ويعكسون
أفكارهم ومعتقداتهم فيها، ولهذا السبب كان أهل مكة يعرفون علامات آخر نبي
مرسل وكانوا ينتظرونه (قصة ورقة بن نوفل وأمثالها معروفة).
وهناك شواهد لهذا الموضوع في آيات أخرى من القرآن الكريم والتي كان
يفرح المؤمنين من أهل الكتاب عند نزول الآيات على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمثلا الآية
(52) من سورة القصص تقول: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به
يؤمنون.
ثم تضيف الآية ومن الأحزاب من ينكر بعضه المقصود من هذه
المجموعة هي نفس جماعة اليهود والنصارى الذين غلبهم التعصب الطائفي
وأمثاله، ولذلك لم يعبر القرآن الكريم عنهم بأهل الكتاب، لأنهم لم يتبعوا كتبهم
السماوية. بل كانوا في الحقيقة أحزابا وكتلا تابعين لخطهم الحزبي، وهذه
المجموعة كانت تنكر كل ما خالف ميلهم ولم يطابق أهواءهم.
ويحتمل أيضا أن كلمة " الأحزاب " إشارة إلى المشركين، لأن سورة

1 - لأنه يلازم هذا الحديث أن يكون ما انزل إليك هو نفس " الكتاب " فالإثنان يشيران إلى القرآن، في الوقت
الذي نرى فيه من قرينة المقابلة أن المقصود من " الكتاب " غير ما أنزل إليك.
428

الأحزاب ذكرتهم بهذا التعبير، وهؤلاء في الحقيقة ليس لهم دين ولا مذهب بل
كانوا على شكل أحزاب وكتل متفرقة اتحدوا في مخالفتهم للقرآن والإسلام.
ونقل العلامة الطبرسي وبعض آخر من المفسرين الكبار عن ابن عباس، أن
هذه الآية إشارة إلى المشركين الذين كانوا يخالفون وصف الله بالرحمن، وأهل
الكتاب - خصوصا اليهود - يفرحون بهذا الوصف " الرحمان " في الآيات
القرآنية، ومشركي مكة كانوا يسخرون منه بسبب عدم معرفتهم به.
وفي آخر الآية يأمر الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يعتني بهذا وذاك من المخالفين، بل
يدعوه إلى الثبات على الخط الأصيل والصراط المستقيم حيث يقول تعالى: قل
إنما امرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب وتلك دعوة
للموحدين الصادقين والمؤمنين الرساليين أن يسلموا أمام الأوامر الإلهية،
فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان خاضعا لكل ما انزل عليه، فلا يأخذ ما كان يوافق ميله ويترك
غيره.
* * *
2 بحث
3 الإيمان والائتلاف الحزبي:
رأينا في الآية كيف أن الله سبحانه وتعالى عبر عن المؤمنين من اليهود
والنصارى بأهل الكتاب، وعبر عن أولئك التابعين للعصبية والأهواء بالأحزاب،
وهذا غير منحصر في تاريخ صدر الإسلام، بل إن هذا التفاوت موجود دائما بين
المؤمنين الحقيقيين والذين يدعون الإيمان، فالمؤمنون الحقيقيون يقولون
بالتسليم المطلق لكل الأوامر الإلهية، ولا يقولون بالتبعيض، ويجعلون ميلهم
تحت ذاك الشعاع، فهم أهل لأن يسميهم القرآن أهل الكتاب والإيمان.
بينما أولئك فهم مصداق الآية نؤمن ببعض ونكفر ببعض ومعناه كل ما
429

طابق خطهم الفكري وميلهم الشخصي وأهواءهم يقبلونه، وكل ما خالف منافعهم
الشخصية ينكرونه، فهؤلاء ليسوا بمسلمين ولا مؤمنين، بل أحزاب وكتل
يبحثون عن مصالحهم في الدين، ولذلك كانوا يقولون بالتبعيض في التعاليم
الإسلامية.
* * *
430

2 الآيات
وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما
جاءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا واق (37) ولقد
أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزوجا وذرية وما كان
لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب (38) يمحوا
الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتب (39) وإن ما نرينك
بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلغ وعلينا
الحساب (40)
2 التفسير
3 الحوادث " الثابتة " و " المتغيرة ":
تتابع هذه الآيات المسائل المتعلقة بالنبوة، ففي الآية الأولى يقول تعالى:
وكذلك أنزلناه حكما عربيا.
" العربي " كما يقول الراغب في مفرداته " الفصيح البين من الكلام " ولذلك
يقال للمرأة العفيفة والشريفة: إنها " امرأة عروبة " ثم تضيف الآية حكما عربيا
431

قيل معناه مفصحا يحق الحق ويبطل الباطل.
ويحتمل في " العربي " أن معناه " الشريف " لأنها جاءت في اللغة بهذا
المعنى. وعلى هذا فوصف القرآن بالعربي لأن أحكامه واضحة وبينة. ولذلك
وردت في عدة آيات أخرى بعد " عربيا " مسألة الاستقامة وعدم الإعوجاج أو
العلم، منها في الآية (28) من سورة الزمر قوله تعالى قرآنا عربيا غير ذي
عوج وفي الآية (3) من سورة فصلت يقول تعالى: كتاب فصلت آياته قرآنا
عربيا لقوم يعلمون. وعلى هذا فما قبل هذه الآية وما بعدها يؤيدان أن المراد
من " عربيا " هو الفصاحة والوضوح في البيان وخلوه من الإعوجاج والالتواء.
وهذه العبارة وردت في سبع سور من القرآن الكريم، ولكن ذكرت في عدة
موارد بشكل لسان عربي مبين والتي يمكن أن يكون لها نفس المعنى.
ويمكن أن يكون هذا الموضع الخاص إشارة إلى اللسان العربي، لأن الله سبحانه
وتعالى بعث كل نبي بلسان قومه، حتى يهدي قومه أولا، ثم تنتشر دعوته في
المناطق الأخرى.
ثم يخاطب القرآن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلحن التهديد وبشكل قاطع حيث يقول:
ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا
واق وبما أن احتمال الانحراف غير موجود إطلاقا في شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
لما يتميز به من مقام العصمة والمعرفة، فهذا التعبير - أولا - يوضح أن الله سبحانه
وتعالى ليس له ارتباط خاص مع أي أحد حتى لو كان نبيا، فمقام الأنبياء الشامخ
إنما هو بسبب عبوديتهم وتسليمهم واستقامتهم.
وثانيا: تأكيد وإنذار للآخرين، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا لم يكن مصونا من
العقوبات الإلهية في حالة انحرافه عن مسيرة الحق واتجاهه صوب الباطل، فما
بال الآخرين؟
ولابد من ذكر هذه النقطة، وهي أن " ولي " و " واق " مع أنهما متشابهان في
432

المعنى، ولكن هناك تفاوت بينهما وهو أن أحدهما يبين جانب الإثبات والآخر
جانب النفي، فواحد بمعنى النصرة والدعم، والآخر بمعنى الدفاع والحفظ.
الآية الأخرى - في الواقع - جواب لما كان يستشكله أعداء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن جملة هذه الإشكالات:
أولا: كان البعض يقول: هل من الممكن أن يكون الرسول من جنس البشر،
يتزوج وتكون له ذرية؟ فالآية تجيبهم وتقول ليس هذا بالأمر الغريب: ولقد
أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية (1).
ويتبين من إشكالهم أنهم إما أن يكونوا غير عالمين بتاريخ الأنبياء، أو أنهم
يتجاهلون ذلك وإلا لم يوردوا هذا الإشكال.
ثانيا: كان ينتظر هؤلاء من الرسول أن يجيبهم على كل معجزة يقترحونها
عليه بما تقتضيه أهواؤهم، سواء آمنوا أو لم يؤمنوا، ولكن يجب أن يعلم هؤلاء أن
وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله.
ثالثا: لماذا جاء نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وغير أحكام التوراة والإنجيل، أو ليست
هذه كتب سماوية؟ وهل من الممكن أن ينقض الله أوامره؟ (هذا الإشكال كان
يطابق ما يقوله اليهود من عدم نسخ الأحكام).
وتجيب الجملة الأخيرة من الآية فتقول: لكل أجل كتاب كيما تبلغ
البشرية المرحلة النهائية من الرشد والتكامل فليس من العجيب أن ينزل يوما
التوراة، ويوما آخر الإنجيل، ثم القرآن، لأن البشرية في تحولها وتكاملها بحاجة
إلى البرامج المتغيرة والمتفاوتة.
ويحتمل أن جملة لكل أجل كتاب جواب لمن كان يقول: إذا كان
الرسول صادقا، لماذا لا ينزل الله عذابه وسخطه على المخالفين والمعاندين؟

1 - يقول بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية: إنها جواب لما كان يورده البعض من تعدد أزواج الرسول، في
الوقت الذي نرى أن سورة الرعد مكية وتعدد الزوجات لم يكن حينذاك.
433

فيجيبهم القرآن بأن لكل أجل كتاب وليس بدون حساب وكتاب، وسوف
يصل الوقت المعلوم للعقاب (1).
الآية الأخرى بمنزلة التأكيد والاستدلال لما ورد في ذيل الآية السابقة، وهو
أن لكل حدث وحكم زمن معين كما يقال: إن الأمور مرهونة بأوقاتها، وإذا رأيت
أن بعض الكتب السماوية تأخذ مكان البعض الآخر وذلك بسبب يمحو الله ما
يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب فيحذف بعض الأمور بمقتضى حكمته وإرادته
ويثبت أمورا أخرى، ولكن الكتاب الأصل عنده.
وفي النهاية وللتأكيد أكثر بالنسبة للعقوبات التي كان يوعدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بها وكانوا ينتظرونها حتى أنهم يقولون: لماذا لا تصبح هذه الوعود عملية؟ يقول
تعالى وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم (من انتصارك عليهم وهزيمتهم
وتحرير أتباعك وأسر أتباعهم في حياتك) أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا
الحساب.
* * *
نقطتان
يجب الانتباه إلى هاتين النقطتين:
3 1 - لوح المحو والإثبات وأم الكتاب
مع أن جملة يمحو الله ما يشاء... نزلت في مجال المعاجز والكتب
السماوية إلى الأنبياء، لكنها تبين قانونا عاما وشاملا وقد أشير إليه في مختلف
المصادر الإسلامية، وهو أن تحقق وصيرورة الحوادث المختلفة للعالم لها
مرحلتين: الأولى المرحلة القطعية أو الثابتة، ولا سبيل للتغيير فيها (والتي

1 - ولتطابق هذا المعنى يجب أن يكون هناك تقديم وتأخير في الجملة أعلاه، ويقال في تقديره " لكل كتاب أجل " كما
قاله بعض المفسرين.
434

أشارت إليها الآية أعلاه بام الكتاب) والأخرى المرحلة المتغيرة أو بعبارة أخرى
" المشروطة " والتي يجد التغيير سبيلا إليها، وقد عبر عنها بالمحو والإثبات.
وأحيانا يقال عن المرحلتين: " اللوح المحفوظ " و " لوح المحو والإثبات " كأن ما
كتب في اللوح الأول محفوظ لا يتغير، أما الثاني فمن الممكن محو ما كتب فيه
وتغييره.
وأما حقيقة الأمر فإننا - أحيانا - ننظر إلى الحوادث بأسباب وعلل ناقصة،
فمثلا إذا أخذنا بنظر الاعتبار السم الذي بمقتضى طبعه يؤدي إلى قتل الإنسان
وكل من يتناوله سوف يموت، بدون علم مسبق أن لهذا السم ترياق آخر ضده لو
شربناه بعده سوف يبطل مفعول الأول (وقد نكون على علم به لكن لا نريد أن
نتحدث لسبب أو لآخر عن الترياق) لاحظوا هنا أن هذه الحادثة (الموت بسبب
استعمال السم) ليس لها جانب قطعي، وببيان آخر إن مكانها في (لوح المحو
والإثبات) ويجد التغيير سبيلا إليه بالنظر إلى الأسباب الأخرى المرتبطة به.
ولكن لو نظرنا إلى الحادثة من خلال العلة التامة لها، يعني توفر الشروط
اللازمة وإزالة الموانع (استعمال السم بدون استعمال الترياق) تكون الحادثة هنا
قطعية وببيان آخر: إن مكانها في [اللوح المحفوظ وأم الكتاب] ولا سبيل للتغيير
فيها.
ويمكن أن نوضح هذا الحديث بشكل آخر، وهو: إن للعلم الإلهي مرحلتين
(علم بالمقتضيات والعلل الناقصة) و (علم بالعلل التامة) فما ارتبط بالمرحلة
الثانية نعبر عنها ب‍ (أم الكتاب واللوح المحفوظ) وما ارتبط بالمرحلة الأولى نعبر
عنها ب‍ (لوح المحو والإثبات) وإلا فليس اللوح موضوعا في زاوية من السماء
حتى يكتبوا أو يمحوا فيه شيئا ويثبتوا بدله شيئا آخر.
ومن هنا تتضح الإجابة على كثير من الأسئلة في ضوء ما ورد في المصادر
الأصلية في الإسلام، لأننا نقرأ مرة في الروايات أو بعض الآيات القرآنية، أن
435

العمل الفلاني له الأثر الكذائي، لكننا في بعض الأحيان لا نرى هذه النتيجة،
وذلك بسبب أن تحقق تلك النتيجة يعتمد على شرائط أو موانع لم تتحقق.
وهناك روايات كثيرة في باب (اللوح المحفوظ) و (لوح المحو والإثبات)
وعلم الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وعلى سبيل المثال نذكر قسما منها:
1 - أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي (عليه السلام) أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
عن هذه الآية فقال له: " لأقرن عينيك بتفسيرها ولأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها،
الصدقة على وجهها، وبر الوالدين، واصطناع المعروف، يحول الشقاء سعادة
ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء " (1).
وهذه إشارة إلى أن الشقاء والسعادة ليست أمورا حتمية، حتى إذا ارتكب
الإنسان إثما وعد من الأشقياء فإن باستطاعته أن يغير من سلوكه ويتجه صوب
الخير، وخصوصا مساعدة وخدمة عباد الله، لأن هذه الأمور مكانها في (لوح
المحو والإثبات) لا (أم الكتاب).
ويجب الالتفات إلى أن ما جاء في هذا الحديث يبين قسما من مفهوم الآية.
2 - عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " من الأمور أمور
محتومة كائنة لا محالة، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم فيها ما يشاء
ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء " (2).
وعن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: " لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما
كان وما يكون إلى يوم القيامة، فقلت له: أية آية؟ فقال: قال الله يمحو الله ما يشاء
ويثبت وعنده أم الكتاب (3).
وهذا الحديث دليل على أن اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات بكل

1 - تفسير الميزان، المجلد 11، ص 419.
2 - المصدر السابق.
3 - نور الثقلين، ج 2، صفحة 512.
436

خصوصياتها مختصة بالله جل وعلا، وهناك قسم منها يعلم بها الخواص من عباده
إذا اقتضت الضرورة.
ونقرأ في أدعية ليالي شهر رمضان المبارك: " وإن كنت من الأشقياء فاكتبني
عندك من السعداء ".
وعلى أية حال فالمحو والإثبات بهذا الشكل الذي قلناه له معنى جامع
يشمل كل تغيير في الحال بسبب تغيير الشروط وحدوث الموانع، وأما ما قاله
بعض المفسرين من أن هذه الجملة إشارة إلى مسألة محو الذنوب بسبب التوبة،
أو زيادة ونقصان الرزق على أثر تغيير الشروط، ليس صحيحا، إلا إذا اعتبروها
واحدا من مصاديقها.
3 2 - ما هو البداء؟
" البداء " أحد البحوث العويصة بين الشيعة والسنة.
يقول الرازي في تفسيره الكبير في ذيل الآية - محل البحث -: " يعتقد الشيعة
أن البداء جائز على الله، وحقيقة البداء عندهم أن الشخص يعتقد بشئ ثم يظهر له
خلاف ذلك الاعتقاد، ولإثبات ذلك يتمسكون بالآية يمحو الله ما يشاء
ويثبت ثم يضيف الرازي: إن هذه العقيدة باطلة، لأن علم الله من لوازم ذاته،
ومحال التغيير والتبديل فيه ".
ومما يؤسف له حقا عدم المعرفة بعقيدة الشيعة في مسألة البداء أدت إلى أن
ينسب كثيرون تهما غير صحيحة إلى الشيعة الإمامية.
ولتوضيح ذلك نقول:
" البداء " في اللغة بمعنى الظهور والوضوح الكامل، وله معنى آخر هو الندم،
لأن الشخص النادم قد ظهرت له - حتما - أمور جديدة.
لا شك، إن هذا المعنى الأخير بالنسبة إلى الله تعالى مستحيل، ولا يمكن لأي
437

عاقل وعارف أن يحتمل أن هناك أمورا خافية على الله ثم تظهر له بمرور الأيام،
فهذا القول هو الكفر بعينه، ولازمه نسبة الجهل وعدم المعرفة إلى ذاته المقدسة،
وأن ذاته محلا للتغيير والحوادث.
وحاشا للشيعة الإمامية أن يحتملوا ذلك بالنسبة لذات الله المقدسة! إن ما
يعتقده الشيعة من معنى البداء ويصرون عليه، هو طبقا لما جاء في روايات أهل
البيت (عليهم السلام): ما عرف الله حق معرفته من لم يعرفه بالبداء.
كثيرا ما يكون - وطبقا لظواهر العلل والأسباب - أن نشعر أن حادثة ما
سوف تقع أو أن وقوع مثل هذه الحادثة قد أخبر عنه النبي، في الوقت الذي نرى
أن هذه الحادثة لم تقع، فنقول حينها: إن " البداء " قد حصل، وهذا يعني أن الذي
كنا نراه بحسب الظاهر سوف يقع واعتقدنا تحققه بشكل قاطع قد ظهر خلافه.
والأصل في هذا المعنى هو ما قلناه في بحثنا السابق، وهو أن معرفتنا مرة
تكون فقط بالعلل الناقصة، ولا نرى الشروط والموانع ونقضي طبقا لذلك، ولكن
بعد أن نواجه فقدان الشرط أو وجود المانع ويتحقق خلاف ما كنا نتوقعه سوف
ننتبه إلى هذه المسائل. وكذلك قد يعلم النبي أو الإمام بأمور مكتوبة في لوح
المحو والإثبات القابل للتغيير طبعا، فقد لا تتحقق أحيانا لمواجهتها بالموانع
وفقدان الشروط.
ولكي تتضح هذه الحقيقة لابد من مقايسة بين " النسخ " و " البداء ": نحن
نعلم أن النسخ جائز عند جميع المسلمين، يعني من الممكن أن ينزل حكم في
الشريعة فيتصور الناس أن هذا الحكم دائمي، لكي بعد مدة يعلن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
عن تغيير هذا الحكم وينسخه، ويحل محله حكما آخر (كما قرأنا في حادثة
تغيير القبلة).
إن هذا في الحقيقة نوع من " البداء " ولكن في القضايا التشريعية والقوانين
والأحكام يسمونه ب‍ " النسخ " وفي الأمور التكوينية يسمى ب‍ " البداء " ويقال
438

أحيانا: (النسخ في الأحكام نوع من البداء، والبداء في الأمور التكوينية نوع من
النسخ).
فهل يستطيع أحد أن ينكر هذا الأمر المنطقي؟ إلا إذا كان لا يفرق بين العلة
التامة والعلل الناقصة، أو كان واقعا تحت تأثير الدعايات المغرضة ضد شيعة
أهل البيت (عليهم السلام)، ولا يجيز له تعصبه الأعمى أن يطالع عقائد الشيعة من نفس
كتبهم، والعجيب أن الرازي قد ذكر مسألة " البداء " عند الشيعة في ذيل الآية
يمحو الله ما يشاء ويثبت بدون أن يلتفت إلى أن البداء ليس أكثر من المحو
والإثبات، وهجم على الشيعة بعصبيته المعروفة واستنكر عليهم قولهم بالبداء.
اسمحوا لنا هنا أن نذكر أمثلة مقبولة عند الجميع:
1 - نقرأ في قصة " يونس " أن عدم طاعة قومه أدت إلى أن ينزل العذاب
الإلهي عليهم، وقد تركهم النبي لعدم هدايتهم واستحقاقهم العذاب، لكن فجأة وقع
البداء حيث رأى أحد علمائهم آثار العذاب، فجمعهم ودعاهم إلى التوبة، فقبل
الجميع ورفع العذاب فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما
آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين (1).
2 - وجاء في التأريخ الإسلامي أن السيد المسيح (عليه السلام) أخبر عن عروس أنها
سوف تموت في ليلة زفافها، لكنها بقيت سالمة! وعندما سألوه عن الحادثة قال:
هل تصدقتم في هذا اليوم؟ قالوا: نعم. قال: الصدقة تدفع البلاء المبرم (2)!.
لقد أخبر السيد المسيح (عليه السلام) عن هذه الحادثة بسبب ارتباطه بلوح المحو
والإثبات، في الوقت الذي كانت هذه الحادثة مشروطة (مشروطة بأن لا يكون
هناك مانع مثل الصدقة) وبما أنها واجهت المانع أصبحت النتيجة شيئا آخر.
3 - ونقرأ في قصة إبراهيم (عليه السلام) - محطم الأصنام - في القرآن الكريم أنه أمر

1 - يونس، 98.
2 - بحار الأنوار الطبعة القديمة المجلد الثاني صفحة 131 - عن أمالي الصدوق.
439

بذبح إسماعيل، وذهب بابنه إلى المذبح وتله للجبين، فعندما أظهر إسماعيل
استعداده للذبح ظهر البداء الإلهي وظهر أن هذا الأمر امتحان لكي يرى الله تعالى
مستوى الطاعة والتسليم عند إبراهيم (عليه السلام).
4 - ونقرأ في سيرة موسى (عليه السلام) أنه أمر أن يترك قومه أولا ثلاثين يوما
ويذهب إلى مكان الوعد الإلهي لاستلام أحكام التوراة، لكن المدة زادت عليها
عشرة أيام أخرى (وذلك امتحانا لبني إسرائيل).
هنا يأتي هذا السؤال: ما هي الفائدة من هذه البداءات؟
الجواب على هذا السؤال ليس صعبا بالنظر إلى ما قلناه سابقا، لأنه تحدث
مسائل مهمة - أحيانا - مثل امتحان شخص مع قومه، أو تأثير التوبة والرجوع
إلى الله (كما في قصة يونس) أو تأثير الصدقة ومساعدة المحتاجين وعمل الخير،
كل ذلك يؤدي إلى دفع الحوادث المفجعة وأمثالها، وهذا يعني أن الحوادث
المستقبلية قد نظمت بشكل خاص ثم تغيرت الشرائط فأصبحت شيئا آخر،
حتى يعلم الناس أن مصيرهم بأيديهم، وهم قادرون أن يغيروا مصيرهم من خلال
تغيير سيرتهم وسلوكهم، وهذه أكبر فائدة نلمسها من البداء " فتدبر ".
فما ورد من أن أحدا إذا لم يعرف الله بالبداء لم يعرفه معرفة كاملة، فهي
إشارة لتلك الحقائق.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " ما بعث الله عز وجل نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث
خصال: الإقرار بالعبودية، وخلع الأنداد، وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء " (1).
وفي الحقيقة إن أول عهد مرتبط بالطاعة والتسليم لله. وثاني عهد محاربة
الشرك، والثالث مرتبط بمسألة البداء، ونتيجته أن مصيره بيده، فيستطيع أن يغير
الشروط فيشمله اللطف أو العذاب الإلهي.
الملاحظة الأخيرة في هذا المجال.. يقول علماء الشيعة: إننا حينما ننسب

1 - أصول الكافي، المجلد الأول، صفحة 114 - سفينة البحار، المجلد الأول، صفحة 61.
440

البداء إلى الله جل وعلا فإنه يكون بمعنى " الإبداء " بمعنى إظهار الشئ الذي لم
يكن ظاهرا لنا من قبل ولم يكن متوقعا.
وإن ما ينسب إلى الشيعة بأنهم يعتقدون أن الله يندم على عمله أحيانا، أو
يخبر عن شئ لم يعلمه سابقا، فهذه من أكبر التهم ولا يمكن الصفح عنها أبدا.
لذلك نقل عن الأئمة (عليهم السلام) أنهم قالوا: " من زعم أن الله عز وجل يبدو له في
شئ لم يعلمه أمس فابرأوا منه " (1).
* * *

1 - سفينة البحار، المجلد الأول، صفحة 61.
441

2 الآيات
أو لم يروا أنا نأتى الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم
لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (41) وقد مكر الذين من
قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم
الكفر لمن عقبى الدار (42) ويقول الذين كفروا لست مرسلا
قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتب (43)
2 التفسير
3 البشرية فانية ووجه الله باق:
بما أن الآيات السابقة كانت تتحدث مع منكري رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد
تابعت هذه الآيات كذلك نفس البحث. والهدف هو دعوتهم إلى التفكر، ثم
الإصلاح عن طريق الإنذار والاستدلال وغيرها.
يقول تعالى أولا: أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها من
الواضح أن المقصود من الأرض هنا هم أهل الأرض، يعني أن هؤلاء لا ينظرون
إلى هذا الواقع من أن الأقوام والحضارات والحكومات في حال الزوال والإبادة،
442

الأقوام الذين كانوا أكثر منهم قوة وآثارا قد ألحدوا تحت الثرى حتى العلماء
والعظماء - الذين هم قوام الأرض - التحقوا بالرفيق الأعلى.
فهل أن هذا القانون العام للحياة الذي يسري على جميع الأفراد وكل
المجتمع البشري صغيره وكبيره، غير كاف لإيقاظهم وتفهيمهم أن هذه الأيام
القلائل للحياة ليست أبدية؟!
ثم يضيف: والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ولذلك فإن
قانون الفناء مكتوب على جبين كل الأفراد والأمم من جهة، ومن جهة أخرى لا
يستطيع أحد أن يغير هذا الحكم ولا الأحكام الأخرى، ومن جهة ثالثة أن
حساب العباد سريع جدا، وبهذا الترتيب يكون جزاؤه قاطعا.
وقد جاءت في روايات متعددة في تفسير " البرهان " و " نور الثقلين " وسائر
منابع الحديث، إن تفسير الآية أعلاه هو " فقدان العلماء " لأن فقدهم نقصان
الأرض ونقص المجتمع الإنساني.
ونقل المفسر الكبير الطبرسي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية
قال: " ننقصها بذهاب علمائها، وفقهائها وخيارها " (1).
ونقرأ في حديث آخر أن " عبد الله بن عمر " تلا هذه الآية حين استشهد أمير
المؤمنين علي (عليه السلام) إنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها.
ثم قال: " يا أمير المؤمنين، لقد كنت الطرف الأكبر في العلم، اليوم نقص علم
الإسلام ومضى ركن الإيمان ".
إن للآية - بدون شك - معنى واسعا كما قلنا، وهي تشمل كل نقص في ذهاب
الأفراد والمجتمع وأهل الأرض، وإنذار لكل الناس، الصالح منهم والطالح، حتى
العلماء الذين يشكلون أركان المجتمع البشري يكون موت أحدهم أحيانا
نقصانا للدنيا، فهذا إنذار بليغ وساطع.

1 - تفسير البرهان، المجلد الثاني، صفحة 301.
443

وأما ما احتمله بعض المفسرين من أن المقصود بالنقصان هو نقض أرض
الكفار وإضافتها إلى أرض المسلمين، فلا نراه صحيحا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار
أن السورة مكية، لأن الفتوحات في ذلك الوقت لم تكن موجودة حتى يراها
الكفار أو يشير إليها القرآن الكريم.
وأما ما قاله بعض المفسرين الذين غرقوا في العلوم الطبيعية، من أن الآية
أعلاه تشير إلى نقص الأرض من ناحية القطبين واستواؤها في خط الاستواء،
فهذا كذلك نراه بعيدا عن الواقع، لأن القرآن الكريم ليس في مقام الإشارة إلى
ذلك.
ثم يستمر البحث في الآية الثانية ويقول: ليست هذه الفئة فقط نهضت
بمكرها ومحاربتها لك، بل وقد مكر الذين من قبلهم. لكن خططهم كشفت،
وأجهضت مؤامرتهم بأمر من الله، لأنه أعلم الموجودات بهذه المسائل فلله
المكر جميعا ذاك هو العالم بكل شئ و يعلم ما تكسب كل نفس. ثم
يحذرهم بصيغة التهديد من عاقبة عملهم ويقول: وسيعلم الكفار لمن عقبى
الدار.
الآية الأخيرة من هذا البحث (كما بدأت هذه السورة بكتاب الله والقرآن)
تنهي سورة الرعد في التأكيد أكثر على معجزة القرآن يقول تعالى: ويقول
الذين كفروا لست مرسلا.
فهم يصطنعون كل يوم عذرا، ويطلبون في كل وقت المعاجز، ثم آخر الأمر
يقولون: لست بنبي! قل في جوابهم قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده
علم الكتاب فالله سبحانه وتعالى يعلم بأني رسوله، وكذلك هؤلاء لهم المعرفة
الكافية بأن القرآن هو كتاب سماوي، فهم يعلمون جيدا أن هذا الكتاب ليس من
صنع البشر، ولا يمكن نزوله إلا من قبل الله.
وهذا تأكيد جديد على إعجاز القرآن بمختلف جوانبه وقد ذكرنا ذلك في
444

أماكن أخرى.
وبناءا على ما قلناه أعلاه فإن المقصود ب‍ من عنده علم الكتاب هم
العالمون بمحتوى القرآن الكريم.
واحتمل بعض المفسرين أنها تشير إلى علماء أهل الكتاب الذين قرأوا
علائم نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتبهم السماوية، ومن جهة حبهم ومعرفتهم آمنوا به.
لكن التفسير الأول نراه أقرب إلى الصحة.
وقد ذكرت كثير من الروايات أن المقصود ب‍ من عنده علم الكتاب هو
علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأئمة الهدى، وهذه الروايات جمعت في تفسير نور
الثقلين والبرهان.
وهذه الروايات غير دالة على الحصر، وكما قلنا مرارا فإنها تشير إلى
مصداق أو مصاديق تامة وكاملة، وعلى أية حال فالتفسير الأول الذي ذكرناه
يؤيد ذلك.
ومن المناسب أن ننهي حديثنا هنا بهذه الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
عن أبي سعيد الخدري قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قول الله جل ثناؤه:
قال الذي عنده علم من الكتاب قال: " ذاك وصي أخي سليمان بن داود "
فقلت له: يا رسول الله: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم
الكتاب قال: " ذاك علي بن أبي طالب " (1).
اللهم افتح لنا أبواب رحمتك وألهمنا من علم الكتاب.
ربنا أن قلوبنا بمعرفة القرآن واحبس أفكارنا على الحاجة إليك حتى لا
نتوجه لغيرك في مسائلنا، إنك موضع الحاجات.
* * *

1 - الميزان، المجلد 11، الصفحة 427.
445

سورة
إبراهيم
مكية
وعدد آياتها اثنان وخمسون آية
447

سورة إبراهيم
تحتوي على (52) آية، السورة مكية باستثناء الآيات (28) و (29) طبقا لما
قاله كثير من المفسرين أنها نزلت بالمدينة في قتلى المشركين في بدر.
3 محتوى السورة
المعلوم من اسم السورة أن قسما منها نازل بشأن بطل التوحيد ومحطم
الأصنام سيدنا إبراهيم (عليه السلام) (قسم من أدعيته).
والقسم الآخر من هذه السورة يشير إلى تاريخ الأنبياء السابقين أمثال نوح
وموسى، وقوم عاد وثمود، وما تحتوي من دروس وعبر فيها.
وتكمل هذه المجموعة من البحوث في السورة آيات الموعظة والنصيحة
والبشارة والإنذار.
كما نقرأ في أغلب السور المكية أن قسما كبيرا منها أيضا يبحث مواضيع
" المبدأ " و " المعاد " والتي تعمق الإيمان في قلب الإنسان وفي روحه ونفسه ثم
في قوله وفعله، فيظهر له نور آخر في مسيرة الحق والدعوة إلى الله.
وخلاصة هذه السورة أنها تبين عقائد ونصائح ومواعظ سيرة الأقوام
الماضية، والهدف من رسالة الأنبياء ونزول الكتب السماوية.
449

3 فضيلة السورة
روي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأ سورة إبراهيم والحجر أعطي من
الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها " (1).
وكما أسلفنا مرارا فإن ما ورد من الثواب حول قراءة السور القرآنية يلازمه
التفكر ومن ثم العمل، ولما كانت هذه السورة وسورة الحجر تبحثان موضوع
التوحيد والشرك وأصولهما وفروعهما، فإن من البديهي أن العمل بمضمونهما له
نفس الفضيلة، أي إنهما تصيغان الإنسان بصياغتهما حتى توصلاه إلى مثل هذا
الثواب.
* * *

1 - مجمع البيان، ونور الثقلين، في بداية السورة.
450

2 الآيات
الر كتب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور
بإذن ربهم إلى صرط العزيز الحميد (44) الله الذي له ما في
السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب
شديد (45) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة
ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلل
بعيد (46)
2 التفسير
3 الخروج من الظلمات إلى النور!
شرعت هذه السورة - كبعض السور القرآنية الأخرى - بالحروف المقطعة،
التي ذكرنا تفسيرها في بداية سورة البقرة وآل عمران، والنقطة التي يجب
ملاحظتها هنا أن من بين 29 موردا لسور القرآن التي ابتدأت بالحروف المقطعة
هناك 24 مورد ذكر بعدها مباشرة القرآن الكريم، والتي تبين أن هناك علاقة بين
451

الاثنين، أي بين الحروف المقطعة والقرآن، ولعل هذه العلاقة هي نفسها التي
ذكرناها في بداية سورة البقرة، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يوضح من خلال هذا
البيان أن هذا الكتاب السماوي العظيم المتعهد لقيادة الإنسانية يتكون من مواد
بسيطة تسمى بحروف الألفباء، وهذه تشير إلى أهمية هذا الإعجاز، حيث يوجد
أصدق بيان من أبسط بيان.
وعلى أية حال فبعد ذكر الحروف (ألف لام راء) يقول تعالى: كتاب أنزلناه
إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور.
في الواقع إن جميع الأهداف التربوية والإنسانية، المعنوية والمادية من
نزول القرآن قد جمعت في هذه الجملة (الخروج من الظلمات إلى النور) أي
الخروج من ظلام الجهل إلى نور المعرفة، ومن ظلام الكفر إلى نور الإيمان، من
ظلم الظالمين إلى نور العدالة، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن الذنوب إلى الطهارة
والتقوى، ومن التفرقة والنفاق إلى نور الوحدة.
ومن الطريف أن " الظلمات " هنا (كما في بعض السور الأخرى) جاءت
بصيغة الجمع و " النور " بصيغة المفرد، وهذه إشارة إلى أن كل الحسنات
والطيبات والإيمان والتقوى لها حالة واحدة في ظل التوحيد ونوره، فهي مترابطة
ومتحدة فيما بينها، فتصنع مجتمعا واحدا متحدا وطاهرا من كل جهة.
بينما الظلمات تعني التشتت وتفرقة الصفوف، وحتى الطواغيت والمذنبين
والمفسدين والمنحرفين في مسيرتهم الانحرافية نراهم غير متوحدين غالبا،
وفي حالة حرب فيما بينهم.
ومن هنا لما كان مصدر كل الخير هي الذات الإلهية المقدسة، والشرط
الأساس لدرك التوحيد هو الالتفات إلى هذه الحقيقة، فإنه يضيف بلا فاصلة
بإذن ربهم.
452

ولكي يبين أكثر ما هو النور يقول تعالى: إلى صراط العزيز الحميد (1)
فعزته دالة على قدرته، لأنه لا يستطيع أحد أن يغلبه، والحميد دالة على نعمه
ومواهبه غير المتناهية، لأن الحمد والثناء دائما تكون في مقابل النعم والمواهب.
الآية الثانية ولكي تعرف الله بصفاته، تبين درسا من دروس التوحيد حيث
تقول: الله الذي له ما في السماوات والأرض (2) فله كل شئ، لأنه خالق
جميع الموجودات، ولهذا السبب هو القادر والعزيز وواهب النعم والحميد.
ثم يتطرق في نهاية الآية إلى مسألة المعاد (بعد أن ذكر المبدأ) فتقول الآية:
وويل للكافرين من عذاب شديد.
ثم يعرف القرآن الكريم الكفار في الآية الأخرى، ويذكر لهم ثلاث صفات
كيما نستطيع أن نعرفهم من أول وهلة، يقول تعالى أولا: الذين يستحبون الحياة
الدنيا على الآخرة (3) فهم يضحون بالإيمان والحق والعدالة والشرف التي هي
من خصائص محبي الآخرة، من أجل منافعهم الشخصية وشهواتهم.
ثم يبين تعالى أن هؤلاء غير قانعين بهذا المقدار من الضلال، بل يسعون في
أن يضلوا الآخرين ويصدون عن سبيل الله فهم في الواقع يوجدون الموانع
المختلفة في طريق الفطرة الإلهية فيزينون الهوى، ويدعون الناس إلى الذنوب،
ويخوفونهم من الصدق والإخلاص.
ولا يقتصر عملهم على ذلك فحسب، بل ويبغونها عوجا ثم يحاولون أن
يصبغوا الآخرين بصبغتهم، ويسعون في أن يحرفوا السبيل للوصول إلى هدفهم
من خلال نشر الخرافات وابتداع السنن الخبيثة أولئك في ضلال بعيد.

1 - " إلى صراط الله " في الواقع بدل من " إلى النور " فالمقصود من الهداية إلى النور هو الهداية إلى صراط العزيز
الحميد، و " كتاب أنزلناه " خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب أنزلناه.
2 - (الله): بالكسر لأنه بدل من (العزيز الحميد).
3 - يقول الراغب في مفرداته: استحب الكفر على الإيمان، والاستحباب هو سعي الإنسان لأن يحب شيئا، وإذا ما تعدى
ب‍ (على) فسوف يصرف عنه المعنى المتقدم كما في أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى.
453

وهذا الضلال قد أوجد بعد المسافة بينهم وبين الحق فكان من العسير جدا
عودتهم إلى طريق الحق، ولكن ذلك كان نتيجة لأعمالهم.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - مثل الإيمان وطريق الله مثل النور
بالنظر إلى أن النور ألطف الموجودات المادية في العالم، وسرعة مسيره
أعلى سرعة، وبركته من أكبر البركات، ويمكن أن يقال أنه أصل لكل المواهب
والبركات، فإنه يتضح إلى أي مدى يشتمل النور على معنى كبير بحيث أن القرآن
شبه الإيمان والسير في طريق الله بالنور.
والنور أصل التجمع بينما الظلمة عامل للتفرق، النور علامة الحياة والظلمة
علامة الموت.
ولهذا السبب شبه القرآن الكريم كثيرا من الأمور القيمة بالنور، ومن جملتها
العمل الصالح يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم
وبأيمانهم (1).
وكذلك الإيمان والتوحيد، قال تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات إلى النور (2).
وقد شبه القرآن الكريم بالنور في قوله تعالى: فالذين آمنوا به وعزروه
ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون (3).
وكذلك الدين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. (4)

1 - الحديد، 12.
2 - البقرة، 257.
3 - الأعراف، 157.
4 - التوبة، 32.
454

بل أكثر من ذلك عبر عن ذاته المقدسة التي هي أفضل وأسمى ما في الوجود
بالنور الله نور السماوات والأرض. (1)
ومع أن كل هذه الأمور تعود إلى تلك الحقيقة، لأنها من الله، ومن الإيمان به،
فإنها وردت بصيغة المفرد، وعلى عكس الظلمات التي هي عامل التشتت لذلك
وردت بصيغة الجمع التي تبين الكثرة والتعدد.
وبما أن الإيمان بالله والسير في طريقه باعث على الحركة وموجبا لليقظة،
وعامل للاجتماع والوحدة، ووسيلة للتقدم والكمال، فإن هذا التشبيه على كل
حال أكثر محتوى ودلالة تربوية.
2 - التعبير ب‍ " لتخرج " في الآية الأولى تشير إلى نقطتين:
الأولى: بما أن القرآن الكريم كتاب هداية ونجاة للبشر، لكنه بحاجة إلى من
يطبقه ويجريه، فيجب أن يكون هناك قائد كالرسول لكي يستطيع أن يخرج
الضالين عن الحقيقة من ظلمات الشقاء وهدايتهم إلى نور السعادة، ولهذا فالقرآن
الكريم بعظمته لا يمكن له أن يحل جميع المشاكل بدون وجود القائد والمنفذ
لهذه الأحكام.
الثانية: إن صيغة الإخراج في الواقع دليل على التحرك المشفوع بالتغير
والتحول، وكأن غير المؤمنين موجودون في محيط مغلق ومظلم، والرسول - أو
القائد - يأخذ بأيديهم ويدخلهم إلى جو واسع ومنير.
3 - الملفت للنظر أن بداية هذه السورة شرعت بمسألة هداية الناس من
الظلمات إلى النور، ونهايتها ختمت بمسألة إبلاغ وإنذار الناس، وهذه توضح أن
الهدف الأصلي في كل الأحوال هو الناس ومصيرهم وهدايتهم، فإنزال الكتب
السماوية وبعث الأنبياء في الواقع هو للوصول إلى هذا الهدف.
* * *

1 - النور، 35.
455

2 الآيات
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله
من يشاء ويهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم (47) ولقد
أرسلنا موسى بآيتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور
وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (48) وإذ
قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل
فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم
ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم (49) وإذ
تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي
لشديد (50)
2 التفسير
3 الأيام الحساسة في الحياة:
كان الحديث في الآيات السابقة عن القرآن الكريم وآثاره الروحية، وتتابع
456

الآية الأولى من هذه المجموعة نفس الموضوع، لكن في بعد خاص وهو أن
دعوة الأنبياء وكتبهم السماوية نزلت بلسان أول قوم بعثوا إليهم. يقول تعالى:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه.
لأن الأنبياء يرتبطون في الدرجة الأولى مع قومهم، وأول نور الوحي يشع
من بينهم، وأول الصحابة والأنصار ينتخبون منهم، لذلك فإن الرسول يجب أن
يحدثهم بلغتهم وبلسانهم ليبين لهم.
وفي الحقيقة فإن هذه الجملة تشير إلى أن دعوة الأنبياء لا تنعكس في
قلوب أتباعهم بأسلوب مرموز وغير معروف، بل كانت توضح لهم من خلال
التبيين والتعليم والتربية وبلسانهم الرائج.
ثم يضيف القرآن الكريم بعد أن بين لهم الدعوة الإلهية فيضل الله من يشاء
ويهدي من يشاء فليست الهداية والضلال من عمل الأنبياء، بل عملهم الإبلاغ
والتبيين، الله سبحانه وتعالى هو الموجه والهادي الحقيقي لعباده.
ولكي لا يتصور أحد أن هذا القول بمعنى الجبر وسلب الحريات، فيضيف
القرآن مباشرة وهو العزيز الحكيم وبمقتضى عزته وقدرته فإنه قادر على كل
شئ، ولا أحد له قدرة على المقاومة في مقابل إرادته تعالى، ولكن بمقتضى
حكمته لا يهدي ولا يضل أحدا بدون سبب ودليل، بل الخطوة الأولى تبدأ من
قبل العباد وبكامل الحرية في السير إلى الله، ثم يشع نور الهداية وفيض الحق في
قلوبهم، كما في سورة العنكبوت الآية (69) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم
سبلنا.
وكذلك حال الذين تاهوا في وادي الضلالة وحرموا من فيض الهداية، فهو
نتيجة لتعصبهم الأعمى ومحاربتهم للحق، وغرقهم في الشهوات، وتلوثهم بالظلم
والجور. كما يقول تعالى: كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب، (1) ويقول

1 - غافر، 34.
457

أيضا: وما يضل به إلا الفاسقين، (1) وقوله تعالى: ويضل الله الظالمين (2).
وعلى هذا النحو فإن محور الهداية والضلال في أيدي الناس أنفسهم.
تشير الآية الأخرى إلى واحدة من نماذج إرسال الأنبياء في مقابل طواغيت
عصرهم، ليخرجوهم من الظلمات إلى النور: ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن
أخرج قومك من الظلمات إلى النور (3).
وكما قرأنا في الآية الأولى من هذه السورة فإن خلاصة دعوة رسول
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فهذه دعوة كل الأنبياء،
بل جميع القادة الروحيين للبشر، فهل الظلم غير الضلال والانحراف والذل
والعبودية والفساد والظلم؟! وهل النور غير الإيمان والتقوى والحرية والاستقلال
والعزة والشرف؟! لذلك فإنها تمثل الخط المشترك والجامع بين كل دعوات القادة
الإلهيين.
ثم يشير القرآن الكريم إلى واحدة من أكبر مسؤوليات موسى (عليه السلام) حيث
يقول تعالى: وذكرهم بأيام الله.
من المتيقن أن كل الأيام هي أيام الله، كما أن كل الأماكن متعلقة بالله جل
وعلا، وإذا كانت هناك نقطة خاصة تسمى (بيت الله) فذلك بدليل ميزاتها، كذلك
أيام الله تشير إلى أيام مميزة لها خصائص منقطعة النظير.
ولهذا السبب اختلف المفسرون في تفسيرها:
قال البعض: إنها تشير إلى أيام النصر للأنبياء السابقين وأممهم والأيام التي
شملتهم النعم الإلهية فيها على أثر استحقاقهم لها.
وقال البعض الآخر: إنها تشير إلى العذاب الإلهي الذي شمل الأقوام الطاغين

1 - البقرة، 26.
2 - إبراهيم، 27.
3 - المعجزات التي ظهرت من موسى بن عمران أشارت إليها الآية أعلاه بلفظ الآيات، وهي 9 معاجز مهمة طبقا للآية
(101) من سورة الإسراء، والتي سوف تأتي إن شاء الله في تفسير تلك الآية.
458

والعاصين لأمر الله.
وقال آخرون: إنها تشير إلى المعنيين السابقين معا.
لكننا - حقا - لا نستطيع أن نجعل هذه العبارة البليغة والواضحة محدودة،
فأيام الله هي جميع الأيام العظيمة في تاريخ الإنسانية. فكل يوم سطعت فيه
الأوامر الإلهية وجعلت بقية الأمور تابعة لها، هي من أيام الله، وكل يوم يفتح فيه
فصل جديد من حياة الناس فيه درس وعبرة، أو ظهور نبي فيه، أو سقوط جبار
وفرعون - أو كل طاغ - ومحوه من الوجود. خلاصة القول: كل يوم يعمل فيه
بالحق والعدالة ويقع في الظلم وتطغا فيه بدعة، هو من أيام الله.
وكما سوف نرى أن روايات الأئمة (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية تشير إلى هذه
الأيام الحساسة.
وفي آخر الآية يقول تعالى: إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور.
" صبار " و " شكور " صيغة مبالغة فأحدهما تشير إلى شدة الصبر، والأخرى
إلى زيادة الشكر، وتعني أن المؤمنين كما لا يستسلمون للحوادث والمشاكل التي
تصيبهم في حياتهم، كذلك لا يغترون ولا يغفلون في أيام النصر والنعم، وذكر
هاتين الصفتين بعد الإشارة إلى أيام الله دليل على ما قلناه.
تشير الآية الأخرى إلى أحد هذه الأيام التي كانت ساطعة ومثمرة في تاريخ
بني إسرائيل، وذكرها تذكرة للمسلمين حيث يقول تعالى: وإذ قال موسى
لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون هؤلاء الفراعنة الذين
كانوا يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي
ذلكم بلاء من ربكم عظيم.
أي يوم أكثر بركة من ذلك اليوم حيث أزال الله عنكم فيه شر المتكبرين
والمستعمرين، الذين كانوا يرتكبون أفظع الجرائم بحقكم، وأي جريمة أعظم من
ذبح أبنائكم كالحيوانات (انتبه إلى أن القرآن عبر بالذبح لا بالقتل) وأهم من ذلك
459

فإن نواميسكم كانت خدما في أيدي الطامعين.
وليس هذا المورد خاص ببني إسرائيل، بل في جميع الأمم والأقوام. فإن
يوم الوصول إلى الاستقلال والحرية وقطع أيدي الطواغيت يوم من أيام الله الذي
يجب أن نتذكره دوما حتى لا نعود إلى ما كنا عليه في الأيام الماضية.
" يسومونكم " من مادة (سوم) على وزن (صوم) بمعنى البحث عن الشئ،
وتأتي بمعنى فرض عمل على الآخرين (1)، ولهذا فإن معنى جملة يسومونكم
سوء العذاب: إن أولئك كانوا يفرضون عليكم أسوأ الأعمال وأكثرها تعذيبا. وهل
أن تجميد وإبادة الكتلة الفعالة في المجتمع واستخدام نسائهم وإذلالهن على يد
فئة ظالمة وطاغية يعتبر أمرا هينا؟!
ثم إن التعبير بفعل المضارع " يسومون " إشارة إلى أن هذا العمل كان مستمرا
لمدة طويلة.
وجملة يذبحون أبناءكم... معطوفة على " سوء العذاب " وفي عين
الوقت هي من مصاديق سوء العذاب، وذلك بسبب أهمية هذين العذابين، وهذا
توضيح أن فرعون وقومه الظالمين فرضوا على بني إسرائيل أحكاما جائرة
أخرى، إلا أن هذين العذابين كانا أشد وأصعب.
ثم يضيف القرآن الكريم وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن
كفرتم إن عذابي لشديد (2) يمكن أن تكون هذه الآية من كلام موسى لبني
إسرائيل التي دعاهم فيها إلى الشكر في مقابل ذلك النجاة والنصر والنعم الكثيرة،
ووعدهم بزيادة النعم، وفي حالة كفرهم هددهم بالعذاب، ويمكن أن تكون جملة
مستقلة وخطابا للمسلمين، ولكن على أية حال فالنتيجة واحدة، لأنه حتى إذا
كان الخطاب موجها لبني إسرائيل وروده في القرآن الكريم ليكون درسا بناءا لنا.

1 - راجع المفردات للراغب، وتفسير المنار، [المجلد الأول، ص 308] وتفسير الرازي [المجلد السابع، ص 7].
2 - " تأذن " من باب " تفعل " بمعنى الإعلام للتأكيد، لأن مادة أفعال من (إيذان) بمعنى إعلام، ولما يصبح من باب تفعل
يستفاد منه الإضافة والتأكيد.
460

ومن الطريف أنه في حالة الشكر يقول بصراحة لأزيدنكم أما في حالة كفران
النعم فلا يقول (أعذبكم) بل يقول: إن عذابي لشديد وهذا التفاوت دليل على
سمو اللطف الإلهي.
* * *
2 بحوث
3 1 - التذكر لأيام الله
كما قلنا في تفسير الآية أعلاه، فإن إضافة " أيام " إلى " الله " إشارة إلى الأيام
المصيرية والمهمة في حياة الناس، فإنها بسبب عظمتها أضيفت إليها كلمة " الله "،
وكذلك لأن واحدة من النعم الإلهية الكبيرة شملت حال قوم أو أمة، أو إحدى
العقوبات الكبرى أصابت قوما طاغين بالعذاب الإلهي، وقد أراد الله تعالى أن
يجعل هذه الأيام تذكرة باقية للناس.
الروايات الواردة من أهل البيت (عليهم السلام) تشير أنهم فسروا " أيام الله " بأيام
مختلفة، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال " أيام الله، يوم يقوم القائم (عليه السلام) ويوم الكرة (1)،
ويوم القيامة " (2).
وجاء في تفسير علي بن إبراهيم " أيام الله ثلاثة أيام، يوم قيام المهدي (عليه السلام)
ويوم الموت، ويوم القيامة ".
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال " أيام الله نعماؤه وبلاؤه ببلائه سبحانه " (3).
وكما قلنا سابقا فإن مثل هذه الأحاديث غير دالة على الحصر إطلاقا، بل
هي بيان لقسم من مصاديقها.

1 - يوم الكرة - أي يوم الرجعة.
2 - نور الثقلين، ج 2، 526.
3 - المصدر السابق.
461

وعلى أية حال فتذكر الأيام العظيمة (من أيام النصر أو من أيام الشدة) له
دور مؤثر في يقظة الشعوب، وبالإلهام من هذا النداء السماوي سوف نحيي الأيام
العظيمة في التاريخ الإسلامي، ونخصص لها أياما معينة في السنة لتجديد
ذكراها، لكي نتعلم منها الدروس التي لها أثر مهم في يومنا هذا.
وفي تاريخنا المعاصر - خصوصا في تأريخ الثورة الإسلامية في إيران -
توجد أيام مثيرة جدا والتي هي بحق مصداق ل‍ " أيام الله " ويجب أن نذكرها في
كل سنة، وهي التي امتزجت بذكرى الشهداء، المقاتلين، المجاهدين الكبار، ومن
ثم نستلهم منها ونحفظ ميراثهم الكبير.
وعلى هذا الأساس يجب أن ندخل هذه الأيام العظام ضمن برامج الكتب
الدراسية في مدارسنا، وضمن التعليم والتربية لأبنائنا، ولكي نعلم مسؤوليتنا
" وذكرهم " في مقابل الأجيال القادمة.
لقد أشار القرآن الكريم مرارا إلى " أيام الله " فنسبها لبني إسرائيل مرة،
وأخرى للمسلمين، وذكرهم بأيام النعم والعذاب.
3 2 - طريقة الجبارين في التعامل
نقرأ مرارا في آيات القرآن الكريم أن الفراعنة كانوا يذبحون أبناء بني
إسرائيل ويحتفظون بنسائهم، وهذا العمل لا يقتصر على فرعون، بل كان على
طول التاريخ طريقة كل المستعمرين حيث كانوا يبيدون قسما من القوى الفاعلة
والمقاومة، ويضعفون قسما آخر منها ويستخدمونها في منافعهم الخاصة، وبدون
هذا العمل لا يمكنهم الاستمرار في استعمارهم.
والمهم يجب أن نعلم أنهم كانوا يذبحون الأبناء مباشرة مرة (كالفراعنة)
وأحيانا يبيدوهم بالإدمان على المخدرات والمشروبات الكحولية، وإغراقهم
في دواهة الفحشاء لذلك يجب أن ينتبه المسلمون إلى هذه المسألة، فإذا سلك
462

جيل الشباب هذه المسالك المهلكة وفقد سلاح الإيمان ومقدرته الجسدية،
فيجب أن يعلم عبوديته للأجانب حتمية.
3 3 - الحرية من أفضل النعم
من الطريف أن الآية أعلاه بعد أن ذكرت " أيام الله " أشارت بصراحة إلى يوم
واحد منها، وهو يوم نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة إذ أنجاكم من آل
فرعون إن تاريخ بني إسرائيل ملئ بالأيام العظيمة التي وهبهم الله فيها النعم
الكبيرة تحت ظل هداية موسى، ولكن ذكر (يوم النجاة) في الآية أعلاه دليل على
أهمية الحرية والاستقلال في مصير الأمم.
نعم لا تستطيع أي أمة أن تظهر نبوغها واستعدادها إلا من خلال قطع التبعية
للأجنبي والتحرر من قبضة الاستعمار وأسره. ولا يمكن أن ترفع قدما في سبيل
الله إلا من خلال محاربة الشرك والظلم.
ولهذا السبب كان العمل الأول للقادة الإلهيين هو تحرير الشعوب من التبعية
الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ثم العمل في إيجاد البرامج التوحيدية
والإنسانية لهم.
3 4 - الشكر سبب لزيادة النعم والكفر سبب للفناء
مما لا شك فيه أن الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى شكرنا في مقابل نعمه
علينا، وإذا أمرنا بالشكر فذاك لنستوجب نعمة أخرى وهي واحدة من المبادئ
السامية في التربية.
المهم أن نعرف ما هي حقيقة الشكر؟ لكي يتضح علاقته في زيادة النعمة من
أين؟ وكيف تستطيع أن تكون عاملا مهما للتربية؟
إن حقيقة الشكر ليس فقط ما يقوله الإنسان (الحمد لله) أو الشكر اللفظي، بل
463

هناك ثلاث مراحل للشكر:
الأولى: يجب أن نعلم من هو الواهب للنعم؟ هذا العلم والإيمان الركن الأول
للشكر.
والثانية: الشكر باللسان.
والثالثة: وهي الأهم الشكر العملي، أي أن نعلم الهدف من منحنا للنعمة، وفي
أي مورد نصرفها، وإلا كفرنا بها، كما قال العظماء: (الشكر صرف العبد جميع ما
أنعمه الله تعالى فيما خلق لأجله).
لماذا أعطانا الله تعالى العين؟ ولماذا وهبنا السمع والنطق؟ فهل كان السبب
غير أن نرى عظمته في هذا العالم، ونتعرف على الحياة؟
وبهذه الوسائل نخطو إلى التكامل، ندرك الحق وندافع عنه ونحارب الباطل،
فإذا صرفنا النعم الإلهية في هذا المسير كان ذلك هو الشكر العملي له، وإذا
أصبحت هذه الأدوات وسيلة للطغيان والغرور والغفلة والابتعاد عن الله فهذا هو
عين الكفران!
يروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " أدنى الشكر رؤية النعمة من الله من
غير علة يتعلق القلب بها دون الله، والرضا بما أعطاه، وأن لا تعصيه بنعمة وتخالفه
بشئ من أمره ونهيه بسبب من نعمته " (1).
وهنا يتضح أن شكر العلم والمعرفة والفكر والمال والسلامة، كل واحد منها
من أي طريق يتم؟ وكيف يكون كفرانها؟
الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) دليل واضح على هذه التفسيرات
حيث يقول: " شكر النعمة اجتناب المحارم " (2).
وتتضح أيضا هذه العلاقة بين الشكر وزيادة النعمة، لأن الناس لو صرفوا

1 - سفينة البحار، المجلد الأول، 710.
2 - نور الثقلين، ج 2، 529.
464

النعم الإلهية في هدفها الحقيقي، فسوف يثبتون عمليا استحقاقهم لها وتكون سببا
في زيادة الفيوضات الإلهية عليهم.
من الثابت أن هناك نوعين من الشكر، (شكر تكويني) و (شكر تشريعي).
" الشكر التكويني " هو أن يستفيد الكائن الحي من مواهبه في نموه ورشده، فمثلا
يرى المزارع أن القسم الفلاني من مزرعته تنمو فيه الأشجار بشكل جيد، وكلما
يخدمها أكثر تنتج أكثر، فهذا الأمر سوف يؤدي إلى أن يقوم المزارع على خدمة
وتربية ذلك القسم بشكل أكبر، ويوصي مساعديه بها، لأن الأشجار تناديه بلسان
حالها: أيها المزارع، نحن لائقون مناسبون، أفض علينا من النعم، وهو يجيبهم
بالإثبات.
أما إذا رأى في قسم آخر أشجارا ذابلة ويابسة وليس لها ثمر، فكفران
النعمة من قبلها بهذه الصورة يسبب عدم اعتناء المزارع بها، وإذا استمر الوضع
بهذا الحال سوف يقوم بقلعها.
وهذه الحالة موجودة في عالم الإنسانية بهذا التفاوت، وهو أن الأشجار
ليس لها الاختيار، بل هي خاضعة للقوانين التكوينية، أما الإنسان فباستفادته في
إرادته واختياره وتربيته التشريعية يستطيع أن يخطو في هذا المجال خطوات
واثقة.
ولذلك فمن يستخدم نعمة القوة في الظلم، ينادي بلسان حاله: إلهي، أنا غير
لائق لهذه النعمة، ومن يستخدمها لإقامة الحق والعدالة يقول بلسان حاله: إلهي،
أنا مناسب ولائق فزد نعمتك علي!
وهناك حقيقة غير قابلة - أيضا - للترديد، وهي أننا في كل مرحلة من
مراحل الشكر الإلهي - إن كان باللسان أو العمل - سوف نحتاج إلى شكر جديد
لمواهب وعطايا جديدة، ولذلك فلسنا قادرين أن نؤدي حق الشكر، كما نقرأ في
مناجاة الشاكرين للإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام): " كيف لي بتحصيل
465

الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلما قلت لك الحمد وجب علي لذلك أن
أقول لك الحمد "!
ولهذا فإن أعلى مراحل الشكر أن يظهر الإنسان عجزه أمام شكر نعمائه
تعالى، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " فيما أوحى الله عز وجل
إلى موسى: اشكرني حق شكري، فقال: يا رب، وكيف أشكرك حق شكرك، وليس
من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي؟ قال: يا موسى، الآن شكرتني حين
علمت أن ذلك مني " (1).
هناك عدة نقاط في مجال شكر النعمة:
1 - قال الإمام علي (عليه السلام) في إحدى حكمه: " إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا
تنفروا أقصاها بقلة الشكر " (2).
2 - يجب الالتفات إلى هذا الموضوع، وهو أن الشكر والحمد ليس كافيا في
مقابل نعمائه تعالى، بل يجب أن نشكر - كذلك - الأشخاص الذين كانوا وسيلة
لهذه المواهب ونؤدي حقوقهم من هذا الطريق، ونشوقهم أكثر بالخدمة في هذا
السبيل، كما نقرأ في الحديث عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: " وإن الله يحب
كل قلب حزين ويحب كل عبد شكور، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم
القيامة: أشكرت فلانا؟ فيقول: بل شكرتك يا رب، فيقول: لم تشكرني إذ لم
تشكره، ثم قال: أشكركم لله أشكركم للناس " (3).
3 - إن الوعد في زيادة نعم الشاكرين لا ينحصر في النعم المادية فقط، بل
الشكر نفسه مصحوبا بالتوجه الخاص لله والحب لساحته المقدسة هو واحد من
النعم الإلهية الروحية الكبيرة، والتي لها تأثير كبير في تربية نفوس الناس،

1 - أصول الكافي، المجلد الرابع، صفحة 80 باب الشكر.
2 - نهج البلاغة الكلمات القصار، رقم 13.
3 - أصول الكافي، الجزء الثاني - ص 99 - ح 30.
466

ودعوتهم لطاعة الأوامر الإلهية، بل الشكر ذاته طريق إلى معرفة الله، ولهذا السبب
ورد عن علماء العقائد في علم الكلام أن وجوب شكر المنعم طريق إلى إثبات
وجوب معرفة الله.
4 - إن إحياء روح الشكر في المجتمع وتقديمه إلى مستحقيه وتقديرهم
وحمدهم وثنائهم على خدمتهم في طريق تحقيق الأهداف الاجتماعية بعلمهم
ومعرفتهم وإيثارهم واستشهادهم، هو عامل مهم في حركة ورقي المجتمع.
ففي المجتمع الفاقد للشكر والتقدير نجد القليل جدا ممن يريد الخدمة،
وعلى العكس فالمجتمع الذي يقيم ويثني على خدمات الأشخاص، يكون أكثر
نشاطا وحيوية.
والالتفات إلى هذه الحقيقة أدى إلى أن تقام في عصرنا مراسيم احتفال
لتقدير وشكر الأساطين في الذكرى المئوية، أو الذكرى الألفية، وضمن هذا
الشكر لخدماتهم يدعى الناس إلى الحركة والسعي بشكل أكبر.
إحياء هذه الذكريات يساعد على ترشيد الإيثار والتفاني لدى الآخرين،
فيرتفع المستوى الثقافي والأخلاقي لدى الناس، وبتعبير القرآن فإن شكر هذه
النعمة سوف يبعث على الزيادة، ومن دم شهيد واحد يبعث آلاف المجاهدين،
ويكون مصداقا حيا ل‍ لأزيدنكم.
* * *
467

2 الآيات
وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله
لغني حميد (8) ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد
وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم
بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم
به وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب (9) قالت رسلهم أفى
الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من
ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا
تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان
مبين (10)
2 التفسير
3 أفي الله شك؟
الآية الأولى من هذه المجموعة تؤيد وتكمل البحث السابق في الشكر
468

والكفران، وذلك ضمن الكلام الذي نقل عن لسان موسى (عليه السلام) وقال موسى إن
تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد (1).
إن الشكر والإيمان بالله - في الواقع - سبب في زيادة النعم والتكامل
الإنساني، وإلا فالله عز وجل ليس بحاجة إلى أي شئ، ولو كفرت جميع
الكائنات ولم تحمده لا تمس كبرياءه بأدنى ضرر، لأنه حميد في ذاته.
ولو كان محتاجا لم يكن واجب الوجود، وعلى هذا فمفهوم الغني هو
اشتماله لجميع الكمالات، وإذا كان كذلك فهو محمود في ذاته، لأن " الحميد " من
استحق الحمد.
ثم يشرح مصير الفئات من الأقوام السابقة ضمن عدة آيات، الفئات التي
كفرت بأنعم الله وخالفت الدعوة الإلهية، وهي تأكيد للآية السابقة يقول تعالى:
ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم.
يمكن أن تكون هذه الجملة تعقيبا على كلام موسى، أو بيان مستقل يخاطب
به المسلمين، لكن النتيجة غير متفاوتة كثيرا، ثم يضيف تعالى: قوم نوح وعاد
وثمود والذين من بعدهم فهؤلاء لم يطلع على أخبارهم إلا الله لا يعلمهم إلا
الله (2).
مما لا شك فيه أن قسما من أخبار قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم
قد وصلتنا، ولكن لم يصلنا القسم الأكبر منها ولا يعلمها إلا الله، فتاريخ الأقوام
الماضية ملئ بالأسرار والخصوصيات بحيث لم يصل إلينا منها إلا القليل. ولكي
يوضح القرآن الكريم مصيرهم يقول: جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم
في أفواههم أي وضعوا أيديهم على أفواههم من التعجب والإنكار وقالوا إنا

1 - " إن تكفروا " جملة شرطية تقديرها محذوف، وجملة " إن الله لغني حميد " تدل على ذلك وكان التقدير " إن تكفروا
... لا تضروا الله شيئا ".
2 - جملة لا يعلمهم إلا الله قد تكون معطوفة على ما قبلها والواو محذوفة، وقد تكون جملة وصفية للجملة
السابقة.
469

كفرنا بما أرسلتم به. لماذا؟ بسبب وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب.
ومعه كيف يمكننا أن نؤمن بما تدعونا إليه؟
ويرد هنا سؤال، وهو أنهم أظهروا الكفر وعدم الإيمان بالرسول في البداية،
ولكن بعد ذلك أظهروا الشك والريب، فكيف ينطبق الاثنان؟
الجواب: إن بيان الشك والترديد - في الحقيقة - علة لعدم الإيمان، لأن
الإيمان بحاجة إلى اليقين، والشك مانع لذلك.
وبما أن الآية السابقة بينت قول المشركين والكفار في عدم إيمانهم بسبب
شكهم وترديدهم، فالآية بعدها تنفي هذا الشك من خلال دليل واضح وعبارة
قصيرة حيث يقول تعالى: قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات
والأرض.
مع أن " فاطر " من " فطر " وهي في الأصل بمعنى " شق " إلا أنه هنا كناية عن
" الخلق " فالخالق هو الموجد للأشياء على أساس نظام دقيق ثم يحفظها
ويحميها، كأن ظلمة العدم شقت بنور الوجود، وكما يطلع الفجر من عتمة الليل،
وكما يتشقق التمر من غلافه.
ولعل " فاطر " تشير إلى تشقق المادة الأولية للعالم. كما نقرأ في العلوم
الحديثة إن مجموع مادة العالم كانت واحدة مترابطة ثم انشقت إلى كراة مختلفة.
وعلى أية حال، فالقرآن الكريم هنا - كما في أغلب الموارد الأخرى -
يستند لإثبات وجود الخالق وصفاته إلى نظام الوجود وخلق السماوات
والأرض، ونحن نعلم أنه ليس هناك أوضح من هذا الدليل لمعرفة الله، لأن هذا
النظام العجيب ملئ بالأسرار في كل زواياه، وينادي بلسان حاله: ليس هناك من
له القدرة على هذه الهندسة إلا القادر الحكيم والعالم المطلق، ولهذا السبب فكلما
تقدمت العلوم ظهرت أسرار تدل على الخالق أكثر من السابق وتقربنا من الله في
كل لحظة.
470

وما أكثر العجائب في القرآن؟ فكل بحوث معرفة الله والتوحيد - والتي
وردت بصيغة الاستفهام الإنكاري - أشارت إليها هذه العبارة: أفي الله شك
فاطر السماوات والأرض وهذه العبارة إذا أردنا تجزئتها وتحليلها بشكل موسع
لا تكفيها آلاف الكتب.
إن مطالعتنا لأسرار الوجود ونظام الخلقة لا تهدينا إلى وجود الله فحسب، بل
إلى صفاته الكمالية أيضا كعلمه وقدرته وحكمته.
ثم يجيب القرآن الكريم على ثاني اعتراض للمخالفين، وهو اعتراضهم على
مسألة الرسالة (لأن شكهم كان في الله وفي دعوة الرسول) ويقول إن من المسلم
أن الله القادر والحكيم لا يترك عباده بدون قائد، بل أنه بإرسال الرسل: يدعوكم
ليغفر لكم من ذنوبكم (1).
وزيادة على ذلك فإنه ويؤخركم إلى أجل مسمى كيما تسلكوا سبيل
التكامل وتستفيدوا من موهبة الحياة بأقصى ما يمكنكم.
إن غاية دعوة الأنبياء أمران: أحدهما غفران الذنوب، بمعنى تطهير الروح
والجسم والمحيط الإنساني، والثاني استمرار الحياة إلى الوقت المعلوم، والاثنان
علة ومعلول، فالمجتمع الذي يستمر في وجوده هو المجتمع النقي من الظلم
والذنوب.
ففي طول التاريخ أبيدت مجتمعات كثيرة بسبب الظلم والذنوب واتباع
الهوى، وبتعبير القرآن لم يصلوا إلى أجل مسمى.
روي في حديث جامع عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " من يموت بالذنوب أكثر

1 - هناك جدل بين المفسرين في معنى " من "، فقال بعضهم بالتبعيض، أي يغفر قسما من ذنوبكم، وهذا الاحتمال ضعيف
لأن الإيمان يؤدي إلى غفران الذنوب كلها (الإسلام يجب ما قبله) واحتمل البعض الآخر أن " من " بدل، فيكون معنى
الجملة يدعوكم ليغفر ذنوبكم بدل الإيمان، وقال آخرون: إن " من " هنا زائدة للتأكيد، ومعناه: إن الله تعالى يدعوكم
للإيمان ليغفر لكم ذنوبكم، وهذا التفسير نراه أقرب إلى الصحة.
471

ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمال " (1).
وعن الإمام الصادق أيضا: " إن الرجل يذنب فيحرم صلاة الليل، وإن العمل
السئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم " (2).
ونستفيد من هذه الآية - ضمنيا - أن الإيمان بدعوة الأنبياء والعمل
بأحكامها يأخذ طابع الأجل المعلق، وتستمر حياة الإنسان إلى " أجل مسمى "
(لأننا نعلم أن للإنسان نوعين من الآجال، أجل محتوم ويكون بانتهاء الحياة في
جسم الإنسان، وأجل معلق ويكون بفناء الإنسان على أثر عوامل وموانع في
وسط العمر، وهذا غالبا ما يكون بسبب اللامبالاة وارتكاب الذنوب، وقد بحثنا
هذا الموضوع في ذيل الآية (2) من سورة الأنعام).
ومع كل ذلك لم يقبل الكفار المعاندون دعوة الحق المصحوبة بوضوح
منطق التوحيد، ومن خلال بيانهم المشوب بالعناد وعدم التسليم كانوا يجيبون
الأنبياء بهذا القول: قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا علاوة على ذلك تريدون أن
تصدونا عما كان يعبد آباؤنا وأكثر من ذلك فأتونا بسلطان مبين.
وقد ذكرنا مرارا (كما صرح القرآن بذلك) أن كون الأنبياء بشرا ليس مانعا
لنبوتهم، بل هو مكمل لها، ولكن أولئك الأقوام يوردون هذه الحجة دليلا لإنكار
الرسالة، والهدف - غالبا - هو التبرير والعناد.
وكذلك الحال في الاستنان بسنة الأجداد، فإنها وبالنظر إلى هذه الحقيقة
وهي أن معرفة الأجيال القادمة أكثر من الماضين، لا تعدو سوى خرافة وجهل.
ويتضح من هنا أن طلبهم لم يكن لإقامة البرهان الواضح، بل لهروبهم من
الحقيقة، لأن القرآن الكريم - كما قرأنا مرارا - أن هؤلاء المعاندين أنكروا الآيات
الواضحة والدلائل البينة، وكانوا يقترحون في كل مرة معجزة ودليلا للتهرب من
الأمر الواقع.

1 - سفينة البحار، المجلد الأول، ص 488.
2 - سفينة البحار، المجلد الأول، ص 488.
472

وعلى كل حال نقرأ في الآيات القادمة كيف أجابهم الأنبياء.
* * *
473

2 الآيتان
قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على
من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن
الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11) وما لنا ألا نتوكل على الله
وقد هدينا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله
فليتوكل المتوكلون (12)
2 التفسير
3 التوكل على الله وحده:
نقرأ في هاتين الآيتين جواب الرسل على حجج المخالفين المعاندين،
واعتراضهم على بشرية الرسل، فكان جوابهم: قالت لهم رسلهم إن نحن إلا
بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده يعني لو افترضنا أن الله
تعالى أرسل لكم ملائكة بدل البشر، فهي لا تمتلك شيئا لذاتها، فكل المواهب
ومن جملتها موهبة الرسالة والقيادة هي من عند الله، فالذي يستطيع أن يهب
الملائكة هذا المقام قادر أن يعطيها للإنسان.
وبديهي أن هذه المنح من قبل الله ليست بدون حساب، وقد قلنا مرارا: إن
474

المشيئة الإلهية تساير حكمته تعالى، فعندما نسمع قول القائل: " إن الله إذا أراد
بعبد خيرا... " يكون المراد العبد المستعد لهذه الموهبة. ومن المعلوم أن مقام
الرسالة موهبة إلهية، ونحن نرى أن الأنبياء بالإضافة إلى الرسالة الإلهية لهم
استعداد وأهلية لتحملها.
ثم يجيب على السؤال الثالث دون أن يجيب على الثاني، وكأن الاعتراض
الثاني الذي هو الاستنان بسنة الأجداد ليس له أي أهمية وفارغ من المحتوى
بحيث أن أي إنسان عاقل - بأقل تأمل - يفهم جوابه، بالإضافة إلى أن القرآن
الكريم قد أجاب عنه في آيات اخر.
وجواب السؤال الثالث هو أن عملنا ليس الإتيان بالمعاجز، فنحن لا نجلس
في مكان ونلبي لكم المعاجز الإقتراحية وكل ما سولت لكم أنفسكم، بل ما
كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله.
ومع ذلك فان كل نبي كان يظهر لقومه المعاجز بمقدار كاف بدون أن يطلبها
الناس منه، وذلك لكي يثبت الأنبياء أحقيتهم ولتكون المعاجز سندا لصدقهم، مع
أن مطالعة دعوتهم وحدها أكبر إعجاز لهم، ولكن المعترضين غالبا لم يصغوا
لذلك، وهم يقترحون كل يوم شيئا جديدا، فإن لم يستجب لهم الرسول، يقيموا
الدنيا ويقعدوها. ولكي يرد الرسل على تهديداتهم المختلفة يقولون: وعلى الله
فليتوكل المؤمنون.
وبعد ذلك استدل الأنبياء على مسألة التوكل حيث قالوا: وما لنا ألا
نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا فالذي منحنا أفضل المواهب، يعني موهبة
الهداية إلى طرق السعادة، سوف يقوم بحمايتنا في مقابل أي هجوم أو مشكلة
تعترضنا.
ثم أضافوا: إن ملاذنا هو الله، ملاذ لا يقهر وهو فوق كل شئ: ولنصبرن
على ما آذيتمونا وأخيرا أنهوا كلامهم بهذه الجملة: وعلى الله فليتوكل
المتوكلون.
475

* * *
2 ملاحظات
3 1 - ما هو معنى التوكل؟
قرأنا في الآية الأولى فليتوكل المؤمنون وفي الآية الثانية فليتوكل
المتوكلون وكأن الجملة الثانية تشير إلى مرحلة أوسع وأعم من الجملة الأولى،
يعني أن توكل المؤمنون مما لا شك فيه - لأن الإيمان بالله غير منفصل عن
الإيمان بقدرته وحمايته والتوكل عليه - بل حتى غير المؤمنين ملجأهم إلى الله
ولا يجدون سبيلا غيره، لأن غيره فاقد للأشياء، وكل ما في الوجود ملك لذاته
المقدسة، ولذلك يجب أن يجعلوه وليا لهم، ويطلبوا منه أن يهديهم توكلهم هذا
للإيمان بالله.
3 2 - المعاجز بيد الله تعالى
أجابت الآيات أعلاه - بشكل واضح - الأشخاص الذين كانوا ينكرون
إعجاز الرسل. أو ينكرون معاجز رسول الإسلام غير القرآن، وتعلمنا هذه الآيات
أن الرسل لم يقولوا أبدا: نحن لا نأتي بالمعاجز، بل إن الأوامر الإلهية كانت
تمنعهم من ذلك، لأن الإعجاز بيده وفي اختياره، وكل ما يراه مصلحة يأمرنا به.
3 3 - ما هي حقيقة وفلسفة التوكل؟
" التوكل " في الأصل من " الوكالة " وكما قال الراغب: التوكيل أن تعتمد على
غيرك وتجعله نائبا عنك. ونحن نعلم أن الوكيل الصالح له أربع خصال رئيسية:
العلم الكافي، والأمانة، والقدرة، والمبالغة في رعاية مصلحة موكله. فانتخاب
الوكيل المحامي يتم في الأعمال التي لا يستطيع الإنسان نفسه أن يدافع عنها،
فيستفيد من مساعدة قوة الآخرين في حل مشاكله.
476

وعلى ذلك فالتوكل على الله يتم في حالة عدم استطاعة الإنسان من حل
المشاكل الحياتية وفي مقابل الأعداء وإصرار المخالفين، وأحيانا في الطرق
المسدودة التي تواجهه في مسيرة أهدافه. ولذلك فهو يستند إلى الله جل وعلا
ويستمر في سعيه، بل حتى لو كان مستطيعا في أداء أعماله، فيجب أن يعلم أن الله
هو المؤثر الأصلي، لأن الله تعالى في نظر المؤمن هو منبع لكل القدرات.
والنقطة التي تقابل التوكل على الله هي التوكل على غيره، يعني الاتكالية في
الحياة والتبعية للآخرين، وعدم الاستقلالية، يقول علماء الأخلاق: التوكل الثمرة
المباشرة لتوحيد أفعال الله، لأنه - وكما قلنا - من وجهة نظر المؤمن يرتبط كل ما
في الكون بالنهاية بذات الله المقدسة، ولذلك فالموحد يرى أن جميع أسباب
القدرة والنصر من عند الله.
3 فلسفة التوكل
نستفيد مما ذكرناه أنه:
أولا: إن الإنسان سوف تزداد مقاومته للمشاكل الصعبة لتوكله على الله الذي
هو منبع جميع القدرات والاستطاعات.
ولهذا السبب فعندما انهزم المسلمون في " أحد " يقول تعالى: الذين قال
لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله
ونعم الوكيل. (1)
وهناك نماذج أخرى للمقاومة والثبات في ظل التوكل، ومن جملتها الآية
122 من آل عمران يقول تعالى: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما
وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
وفي الآية (12) من سورة إبراهيم يقول تعالى: ولنصبرن على ما

1 - آل عمران، 173.
477

آذيتمونا.
وفي الآية (159) آل عمران فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر
فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.
وكذلك يقول القرآن الكريم: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى
ربهم يتوكلون. (1)
نستفيد من مجموع هذه الآيات أن القصد من التوكل أن لا يحس الإنسان
بالضعف في مقابل المشكلات العظيمة، بل بتوكله على قدرة الله المطلقة يرى
نفسه فاتحا ومنتصرا، وبهذا الترتيب فالتوكل عامل من عوامل القوة واستمداد
الطاقة وسبب في زيادة المقاومة والثبات. وإذا كان التوكل يعني الجلوس في
زاوية ووضع إحدى اليدين على الأخرى، فلا معنى لأن يذكره القرآن بالنسبة
للمجاهدين وأمثالهم.
وإذا إعتقد البعض أن التوكل لا ينسجم مع التوجه إلى العلل والأسباب
والعوامل الطبيعية، فهو في خطأ كبير، لأن فصل العوامل الطبيعية عن الإرادة
الإلهية يعتبر شركا بالله، أو ليست هذه العوامل تسير بأوامر ومشيئة الله؟
نعم إذا اعتقدنا أن العوامل مستقلة عن إرادته فهي لا تتناسب مع روح
التوكل. فهل من الصحيح أن نفسر التوكل بهذا التفسير، مع أن الرسول الأكرم
(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو رأس المتوكلين لم يغفل من استخدام الخطط الصحيحة
والاستفادة من الفرص المتاحة وأنواع الوسائل والأسباب الظاهرية لتحقيق
أهدافه، إن هذا يثبت أن التوكل ليس له مفهوم سلبي.
ثانيا: إن التوكل ينجي الإنسان من التبعية التي هي أصل الذل والعبودية،
ويمنحه الحرية والاعتماد على النفس.
" التوكل " و " القناعة " لهما جذور مشتركة، وفلسفتهما متشابهة، وفي نفس

1 - النحل، 99.
478

الوقت متفاوتة، ولا بأس هنا أن نذكر عدة روايات في مجال التوكل وأصله
وجذوره:
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " إن الغنا والعز يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكل
أوطنا " (1) وقد عرف الإمام التوكل بأنه موطن العزة وعدم الحاجة للآخرين.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سألت جبرئيل: ما هو التوكل؟ قال: (العلم بأن المخلوق
لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق فإذا كان العبد
كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ولم يطمع في أحد سوى الله فهذا هو التوكل) (2).
وسئل الإمام الرضا (عليه السلام): ما حد التوكل؟ فقال: " أن لا تخاف مع الله أحدا " (3).
* * *

1 - أصول الكافي، المجلد الثاني، باب التفويض إلى الله والتوكل عليه حديث - 3.
2 - بحار الأنوار، ج 15 القسم الثاني في الأخلاق، ص 14 الطبعة القديمة.
3 - سفينة البحار، المجلد الثاني، ص 682.
479

2 الآيات
وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو
لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (13)
ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي
وخاف وعيد (14) واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد (15) من
ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد (16) يتجرعه ولا يكاد
يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه
عذاب غليظ (19)
2 التفسير
3 خطط الجبارين المعاندين ومصيرهم!
عندما يعلم الظالمون بضعف منطقهم وعقيدتهم، يتركون الاستدلال،
ويلجأون إلى القوة والعنف، ونقرأ هنا أن الأقوام الكافرة العنيدة عندما سمعوا
منطق الأنبياء المتين والواضح قالوا لرسلهم: وقال الذين كفروا لرسلهم
لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا وكأن هؤلاء القوم يعتبرون جميع ما
480

في الأرض ملكهم، حتى أنهم لم يمنحوا لرسلهم حقوق المواطنة، ولذلك يقولون
" أرضنا ". وفي الحقيقة فإن الله سبحانه وتعالى خلق الأرض وكل مواهبها
للصالحين، وهؤلاء الجبابرة في الواقع ليس لهم أي حق فيها.
وقد يتوهم البعض أن جملة لتعودن في ملتنا إشارة إلى أن الأنبياء
السابقين كانوا من أنصار عبادة الأصنام، مع أن الحقيقة ليست كذلك، لأنهم -
وبصرف النظر عن كونهم معصومين حتى قبل نبوتهم - فعقلهم ودرايتهم كان أكبر
من أن يفعلوا هذا العمل غير الحكيم، فيسجدوا أمام الأحجار والأخشاب.
ويمكن أن يكون هذا التعبير بسبب أن الأنبياء قبل بعثهم لم يؤمروا بالتبليغ،
فسكوتهم أوجد هذا الوهم بأنهم من المشركين.
بالإضافة إلى أن الخطاب وإن كان موجها للرسل، إلا أنه في الواقع يشمل
حتى الأصحاب، ونعلم أنهم كانوا مع المشركين من قبل، فنظر المشركين كان
منصرفا إلى الأصحاب فقط، وتعبير " لتعودن " من باب التغليب (يعني حكم
الأكثرية يسري على العموم).
وهناك جواب آخر لهذا الوهم وهو أن " عود " إذا عديت ب‍ " إلى " يكون
معناها الرجوع، وإذا عديت ب‍ " في " فتفيد تغيير الحال.. لذلك فمعنى الآية
لتعودن في ملتنا يكون مفهومها أن تغيروا من حالكم وتدخلوا في ملتنا، وقد
اختار هذا المعنى العلامة الطباطبائي في الميزان، ولكن عند مراجعتنا لبعض
الآيات ومنها كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها تبين أن " عود " حتى
لو عديت ب‍ " في " فمعناها الرجوع أيضا (فتدبر).
ثم يضيف القرآن الكريم لتسلية قلوب الأنبياء فأوحى إليهم ربهم لنهلكن
الظالمين فلا تخافوا من وعيدهم، ولا تظهروا الضعف في إرادتكم.
وبما أن الظالمين كانوا يهددون الأنبياء بالتبعيد عن أرضهم، فإن الله في
مقابل ذلك كان يعد الأنبياء ولنسكننكم الأرض من بعدهم ولكن هذا النصر
481

والتوفيق لا يناله إلا ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد فلطفه ومنه ليس
بدون حساب ودليل، ولا يناله إلا من أحس بمسؤوليته في مقابل العدل الإلهي،
لا الظالمين والمعاندين لطريق الحق.
وحين انقطعت الأسباب بالأنبياء من كل جانب، وأدوا جميع وظائفهم في
قومهم، فآمن منهم من آمن، وبقي على الكفر من بقي، وبلغ ظلم الظالمين مداه،
في هذه الأثناء طلبوا النصر من الله تعالى واستفتحوا... وقد استجاب الله
عز وجل دعاء المجاهدين المخلصين وخاب كل جبار عنيد.
" خاب " من الخيبة بمعنى فقدان المطلوب.
و " جبار " بمعنى المتكبر هنا، ورد في الحديث أن امرأة جاءت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فأمرها بشئ، فلم تطعه فقال النبي: دعوها فإنها جبارة (1).
وتطلق هذه الكلمة أحيانا على الله جل وعلا فتعطي معنى آخر، وهو (جبر
وإصلاح من هو بحاجة إلى الإصلاح) أو بمعنى (المتسلط على كل شئ) (2).
و " العنيد " في الأصل من " العند " على وزن (رند) بمعنى الاتجاه، وجاءت
هنا بمعنى الانحراف عن طريق الحق.
ولذلك نقرأ في رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " كل جبار عنيد من أبى أن يقول لا
إله إلا الله ". (3)
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: " العنيد المعرض عن الحق ". (4)
ومن الطريف أن " جبار " تشير إلى صفة نفسانية بمعنى روح العصيان، و
" عنيد " تشير إلى آثار تلك الصفة في أفعال الإنسان حيث تصرفه عن طريق
الحق. ثم يبين نتيجة عمل الجبارين في الآخرة ضمن آيتين في خمسة مواضع:

1 - تفسير الفخر الرازي ذيل الآية.
2 - للتوضيح أكثر راجع تفسير الآية (43) من سورة المائدة من تفسيرنا هذا.
3 - نور الثقلين، ج 2، ص 532.
4 - المصدر السابق.
482

1 - على أثر هذه الخيبة، أو أن مثل هذا الشخص: من ورائه جهنم.
مع أن كلمة " وراء " بمعنى " الخلف " في مقابل أمام، إلا أنها في هذه الموارد
تعني نتيجة وعاقبة العمل.
2 - أما في جهنم فإنه ويسقى من ماء صديد.
" الصديد " القيح المتجمع بين اللحم والجلد، وهو بيان للماء المتعفن الكريه
الذي يسقونه.
3 - فهذا المجرم المذنب عندما يرى نفسه في مقابل هذا الشراب يتجرعه
ولا يكاد يسيغه يسيغه: من إساغة، وهي وضع الشراب في الحلق.
4 - ووسائل التعذيب كثيرة بحيث ويأتيه الموت من كل مكان وما هو
بميت. حتى يذوق وبال عمله وسيئاته.
5 - وقد يتصور أن ليس هناك عقابا أكثر من ذلك، ولكن ومن ورائه
عذاب غليظ.
وبهذا الترتيب فإن كل ما يخطر في ذهن الإنسان وما لا يخطر من شدة
العقاب هو في انتظار هؤلاء الظالمين والجبارين والمذنبين، أسوؤها الشراب
المتعفن الكريه، والعقوبات المختلفة من كل طرف، وفي نفس الوقت عدم
الموت، بل الاستمرار في الحياة وإدامة العذاب.
ولكن لا يتصور أن هذا العقاب غير عادل، لأنه - وكما قلنا مرارا - النتيجة
الطبيعية لعمل الإنسان، بل تجسيم أفعالهم في الآخرة، فكل عمل يجسم بشكل
مناسب، وإذا ما شاهدنا جنايات بعض المجرمين في عصرنا أو في التاريخ القديم
لقلنا: حتى هذه العقوبات قليلة.
* * *
483

2 بحوث
3 1 - ماذا يعني مقام الرب؟
قرأنا في الآيات أعلاه أن النصر على الظالمين وإسكان الأرض للذين
يخافون مقام ربهم، فما هو المقصود من " المقام "؟ هناك عدة إحتمالات:
الف: - المقصود هو مقام الرب عند الحساب، كما ذكرت بعض الآيات
الأخرى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى...، (1) ولمن
خاف مقام ربه جن (2) تأن.
باء: - المقام بمعنى القيام أي المراقبة، ومعناه الشخص الذي يخاف من
مراقبة الله له، ويحس بالمسؤولية.
ج: - والمقام بمعنى " القيام لإجراء العدالة وإحقاق الحق ".
وعلى أية حال، فلا مانع أن تكون الآية الشريفة متضمنة لكل هذه المفاهيم،
فالذين يرون مراقبة الله لهم، يخافون من حسابه وإجراء عدالته، خوفا بناء
يجعلهم يحسون بمسؤولياتهم في كل عمل يقومون به، ويبعدهم عن الظلم
والذنوب، فالغلبة وحكومة الأرض من نصيبهم.
2 - هناك جدل بين المفسرين حول جملة " واستفتحوا " حيث إعتقد البعض
بأنها بمعنى طلب الفتح والنصر، كما ذكرناه سابقا، وشاهدهم الآية (19) من
سورة الأنفال إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح.
وقال بعض آخر: إنها بمعنى القضاء والحكومة، يعني أن الأنبياء طلبوا من الله
أن يحكم بينهم وبين الكفار، وشاهدهم الآية (89) من سورة الأعراف ربنا
افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.
3 - جاء في التأريخ والتفسير أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الحاكم الأموي

1 - النازعات، 40.
2 - الرحمان، 46.
484

الجبار تفأل بالقرآن يوما لكي يرى حظه في المستقبل، فظهرت قوله تعالى
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد في بداية الصفحة، فاستوحش وأخذته
العصبية بحيث مزق القرآن الكريم ثم أنشد:
أتوعد كل جبار عنيد؟ * فها أنا ذاك جبار عنيد؟
إذا ما جئت ربك يوم حشر * فقل يا رب مزقني الوليد
ولكن لم يمض وقت طويل حتى قتل أسوأ قتلة من قبل أعدائه، وقطعوا
رأسه وعلقوه فوق سطح قصره، ومن ثم نقلوه إلى باب المدينة (1).
* * *

1 - تفسير القرطبي، ص 3579.
485

2 الآية
مثل الذين كفروا بربهم أعملهم كرماد اشتدت به الريح
في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو
الضلل البعيد (20)
2 التفسير
3 رماد اشتدت به الريح:
ضربت هذه الآية مثالا واضحا وبليغا لأعمال الكفار، وبذلك تكمل بحث
الآيات السابقة في مجال عاقبة أمرهم.
يقول تعالى: مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في
يوم عاصف فيتناثر الرماد في الريح العاصف بحيث لا يستطيع أحد جمعه،
كذلك منكرو الحق ليست باستطاعتهم أن يجمعوا ما كسبوا لا يقدرون مما
كسبوا على شئ ذلك هو الضلال البعيد.
* * *
486

2 بحوث
3 1 - لماذا شبهت أعمالهم كرماد اشتدت به الريح؟
الجواب:
1 - التشبيه بالرماد (مع إمكان الاستفادة من التراب والغبار في ذلك) لأنه
عبارة عن بقايا الاحتراق، والآية توضح أن أعمالهم ظاهرية فقط وليس لها أي
محتوى، فيمكن أن تنمو وردة جميلة في حفنة من التراب، ولكن لا يمكن أن
ينمو في الرماد حتى العلف الردئ.
2 - إن ذرات الرماد غير متلاصقة، وحتى بمساعدة الماء لا يمكن ترابطها
فالذرات تنفصل عن بعضها البعض بسرعة، وكأن ذلك يشير إلى أن أعمال الكفار
غير منسجمة ولا موحدة، على العكس من أعمال المؤمنين حيث نراها منسجمة
وموحدة ومترابطة وكل عمل يكمل العمل الآخر، فروح التوحيد والوحدة لا
تقتصر على توحيد الجماعة المؤمنة في ما بينهم بل تنعكس حتى في أعمال
الفرد المسلم.
3 - بالرغم من تناثر الرماد في إشتداد الريح، إلا أنه يؤكده في يوم عاصف،
لأن الرياح إذا كانت محدودة وآنية فمن الممكن أن ينتقل الرماد من مكان إلى
مكان ليس بالبعيد، ولكن إذا كان يوم عاصف فمن البديهي أن يتناثر الرماد
بشكل واسع، وتنتشر ذراته ولا يمكن لأية قدرة جمعها.
4 - إذا كانت العاصفة تهب على التبن وأوراق الشجر وتنتثرها في أماكن
بعيدة إلا أنه يمكن تشخيصها، ولكن ذرات الرماد من الصغر بحيث لو انتثرت لا
يبقى لها أي أثر وكأن ليس لها وجود سابق.
5 - إن الرياح وحتى العواصف لها فوائد جمة في الطبيعة بغض النظر عن
آثارها المدمرة في بعض الأحيان، وفوائدها هي:
الف: - تقوم بنشر بذور النباتات في كل مكان من الكرة الأرضية، كالمزارع
487

والفلاح.
ب: - تلقح الأشجار بنقل حبوب اللقاح من الذكور إلى الإناث.
ج: - تقوم بتحريك السحاب من المحيطات إلى الأراضي اليابسة.
د: - تحك الجبال العالية وتحولها إلى تراب ناعم ومفيد.
ه‍: - تنقل الهواء من المناطق القطبية إلى المناطق الإستوائية وبالعكس،
حيث تقوم بدور فعال في تعديل درجات الحرارة.
و: - إن حركة الرياح تثير البحار فتجعلها متلاطمة ومواجة كي يدخل فيها
الهواء، لأنها إذا ركدت سوف تتعفن، وهكذا نجد أن كل ما في الوجود من
الأشجار والكائنات الحية قد استفاد من هبوب الرياح كل على قدره.
ولكن " الرماد " الخفيف الوزن والتافه وعديم الفائدة والذي لا يمكن لأي
موجود أن يعيش فيه، هذا الرماد المتناثر يتلاشى بسرعة حينما تهب الريح عليه،
ويزول حتى ظاهره غير المفيد.
3 2 - لماذا فرغت أعمالهم من المحتوى؟
يجب أن نرى لماذا كانت أعمال الكفار غير ذات قيمة وغير ثابتة؟ ولماذا لا
يستطيع الكفار الاستفادة من نتائج أعمالهم؟
ويتضح الجواب على هذا السؤال لو درسنا المسألة من ناحية النظرة
التوحيدية للعالم، لأن النية والهدف والمنهجية هي التي تعطي للعمل شكله
ومضمونه، فإذا كانت الخطة والنية والغاية سالمة وجديرة بالاهتمام فسوف
يكون العمل كذلك، ولكن لو قمنا بأحسن الأعمال بنية غير صادقة وخطة سقيمة
وهدف شيطاني، فإن ذلك العمل يكون ممسوخا ويفقد محتواه ويزول كليا
كالرماد إذا اشتدت به الريح!
ولا بأس هنا أن نذكر مثالا حيا لذلك، نشاهد الآن برامجا تحت عنوان
488

حقوق الإنسان في العالم الغربي ومن قبل القوى المستكبرة، هذه البرامج نفسها
كانت تجري من قبل الأنبياء أيضا، ولكن حصيلة الاثنين متفاوتة كما بين
الأرض والسماء. فالقوى الاستكبارية عندما تنادي بحقوق الإنسان فمن المسلم
أن أهدافها غير إنسانية وغير أخلاقية، بل التغطية على جرائمهم واستعمارهم
بشكل أكثر، لذلك وعلى سبيل المثال لو اعتقل أحد جواسيسهم في مكان ما،
فسوف يملأ عويلهم وصراخهم الدنيا بالدفاع، عن حقوق الإنسان، ولكن عندما
تلطخت أيديهم بدماء آلاف الناس في فيتنام، وارتكبوا الفجائع في الدول
الإسلامية، ونسيت فيه حقوق الإنسان، بل إنهم استغلوا حقوق الإنسان لمساعدة
الأنظمة الجائرة والعميلة!
ولكن الأنبياء (عليهم السلام) أو أوصياءهم ينادون بحقوق البشر لتحرير الإنسان من
القيود والأغلال والظلم، وعندما يرون إنسانا مظلوما نراهم يهبون للدفاع عنه
بالقول والعمل.
وبهذا النحو يكون الأول رماد اشتدت به الريح، والثاني أرض مباركة طيبة
لنمو النباتات والثمار والأوراد.
ويتضح من هنا ما دار بين المفسرين من المقصود من العمل في الآية أعلاه،
وهو أن مراد الآية جميع أعمال الكفار حتى أعمالهم الحسنة في الظاهر، إلا أنها
مبطنة بالشرك والإلحاد.
3 3 - مسألة الإحباط
هناك جدل كبير بين علماء المسلمين في مسألة " حبط الأعمال " فهل معناه
ذهاب عمل الخير بسبب عمل الشر، أو بسبب الكفر وعدم الإيمان، ولكن الحق
ما قلناه في ذيل الآية (217) من سورة البقرة، من أن الإصرار على الكفر والعناد
وأيضا بعض الأعمال الأخرى كالحسد والغيبة وقتل النفس لها آثار سيئة كبيرة
489

بحيث تذهب بأعمال الخير والحسنات.
والآية أعلاه دليل آخر في إمكان حبط الأعمال (1).
3 4 - هل للمخترعين والمكتشفين ثواب إلهي؟
بالنظر للبحوث الآنفة الذكر يرد سؤال مهم، وهو أننا من خلال مطالعتنا في
تأريخ العلوم والاختراعات والاكتشافات نرى أن هناك مجموعة من العلماء
استطاعوا أن يقدموا خدمات جليلة للبشرية وتحملوا في سبيل خدمة البشرية
منتهى الشدة والصعوبة ليقدموا اختراعاتهم واكتشافاتهم للناس، فعلى سبيل
المثال مخترع الكهرباء " أديسون " تحمل الصعاب ويقال فقد حياته في هذا
الطريق لكنه أضاء العالم، وحرك المعامل، وببركة اختراعه وجدت الآبار العميقة
حيث اخضرت الأرض وتغيرت الدنيا. و " باستور " الذي اكتشف المكروب،
وأنقذ ملايين الناس من الموت المحتوم.. فهؤلاء وعشرات مثلهم كيف يجعلهم
الله في جهنم لكونهم غير مؤمنين؟ مع أن هناك أفرادا لم يقدموا أية خدمة
للإنسانية طول حياتهم، ويدخلون الجنة!
الجواب: إن العمل في حد ذاته ليس كافيا من وجهة نظر العقيدة الإسلامية،
بل قيمته في النية والقوى المحركة له، فكثيرا ما نشاهد من أعمال الخير كبناء
مدرسة أو مستشفى أو أي عمل آخر وهدف صاحبه في الظاهر هو خدمة
المجتمع الإنساني، إلا أنه تحت هذا الغطاء شئ آخر وذاك هو حفظ جاهه أو
ماله أو جلب أنظار الناس إليه، وتحكيم منافعه المادية، أو حتى ستر خيانته بعيدا
عن أنظار الآخرين!
وعلى العكس، فمن الممكن أن يعمل شخص عملا صغيرا، إلا أنه مخلص
في نيته صادق، والآن يجب أن نحقق في ملفات هؤلاء الرجال العظام من وجهة

1 - للاطلاع أكثر راجع تفسير الآية (217) من سورة البقرة من تفسيرنا هذا.
490

نظر عملهم وكذلك الأسباب والدوافع، وهي لا تخرج من أحد أمور:
ألف: - يكون الهدف من الاختراع أحيانا عملا تخريبيا (كما في اكتشاف
الطاقة النووية حيث كان الهدف الأول منها صناعة القنابل النووية) ويمكن
الاستفادة منها لخدمة الإنسان، إلا أنه لم يكن الهدف الأصلي من اختراعها،
فقيمة عمل هذه المجموعة من المخترعين واضح تماما.
ب: - وقد يكون هدف المخترع أو المكتشف الربح المادي أو الشهرة،
فحكمه - في الحقيقة - حكم التاجر الذي يقوم بتأسيس الخدمات العامة لكي
يحصل على أرباح أكثر، ويقوم بتشغيل العمال وإنتاج المحاصيل الزراعية للبلد،
فالهدف من كل ذلك هو الحصول على أكبر وارد ممكن، ولو كان هناك عمل أكثر
ربحا لركض وراءه.
بالطبع فإن هذه التجارة لو كانت طبقا للموازين الشرعية، فإنها ليست
حراما، إلا أنها لا تحتسب عملا مقدسا ومهما.
ومثل هؤلاء المخترعين والمكتشفين ليسوا قليلين على طول التاريخ،
فطريقة تفكيرهم أن يقدموا العمل الأكثر ربحا - حتى لو كان مضرا بالمجتمع -
(فمثلا صناعة الأدوية لها من الفوائد 20 % بينما في صناعة الهيروئين 50 % فهم
يرجحون الثاني على الأول) فحكم هذه المجموعة واضح أيضا، حيث لم يطلبوا
من الله ولا من الناس أي شئ وجزاؤهم الربح والشهرة فقط.
ج: - هناك مجموعة ثالثة لا شك في أن دوافعها إنسانية، أو إلهية إذا كانت
الجماعة مؤمنة، وأحيانا يمضون سنين طويلة في زوايا المختبرات بكامل الفاقة
والحرمان على أمل أن يقدموا خدمة لبني جنسهم، أو هدية للعالم، ليحلوا أغلال
المتعبين، ويمسحوا التراب من وجوب المعذبين. فإذا كان هؤلاء الأفراد مؤمنين
ودوافعهم إلهية فمصيرهم واضح.
وأما إذا كانوا غير مؤمنين ودوافعهم إنسانية، فسوف يحصلون على الجزاء
491

المناسب من الله بلا أدنى شك، هذا الجزاء يمكن أن يكون في الدنيا أو الآخرة،
فالله عز وجل عالم وعادل لا يحرمهم من ذلك، ولكن كيف؟ تفاصيله غير واضحة
لنا، ويمكن أن نقول: (إن الله لا يضيع أجر هؤلاء المحسنين فيما إذا كانوا غير
مقصرين لعدم إيمانهم).
وليس عندنا أي دليل من أن الآية إن الله لا يضيع أجر المحسنين لا
تشمل هؤلاء الأفراد، فإطلاق المحسنين في القرآن ليس خاصا بالمؤمنين فقط،
ولذلك نرى أن إخوة يوسف لما حضروا عنده وهم لا يعرفوه ويظنون أنه عزيز
مصر قالوا: إنا نراك من المحسنين. (1)
وكذلك الآية فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا
يره تشمل هؤلاء الأفراد.
عن علي بن يقطين عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: " كان في بني إسرائيل رجل
مؤمن وجاره كافر، وكان هذا الجار الكافر يحسن إلى جاره المؤمن، فعندما ارتحل
من الدنيا بنى له الله بيتا يمنعه من نار جهنم. وقيل له: إن هذا بسبب حسن سيرتك
مع جارك المؤمن " (2).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن ابن جدعان أقل أهل جهنم عذابا " قالوا: لماذا
يا رسول الله؟ قال " إنه كان يطعم الطعام " و عبد الله بن جدعان أحد مشركي مكة
المعروفين ومن زعماء قريش (3).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعدي بن حاتم الطائي " رفع عن أبيك العذاب الشديد
بسخاء نفسه " (4).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " أتى رسول الله وفد من اليمن وكان فيهم رجل

1 - يوسف، 90.
2 - البحار، ج 3، مطبعة كمباني ص 377.
3 - المصدر السابق، ص 382.
4 - البحار، ج 2، ص 607.
492

أعظمهم كلاما وأشدهم في محاجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى التوى
عرق الغضب بين عينيه، وتغير وجهه وأطرق إلى الأرض فأتاه جبرئيل فقال:
ربك يقرئك السلام ويقول لك: هذا رجل سخي يطعم الطعام، فسكن عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الغضب ورفع رأسه وقال: لولا أن جبرئيل أخبرني عن الله عز وجل أنك
سخي تطعم الطعام، لشدوت بك وجعلتك حديثا لمن خلفك، فقال له الرجل: وإن
ربك ليحب السخاء؟ فقال: نعم، قال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله
والذي بعثك بالحق لا رددت عن مالي أحدا " (1).
وهنا يأتي هذا السؤال والذي يمكن أن نستفيده من بعض الآيات وكثير من
الروايات، وهو: هل أن الإيمان والولاية شرط لقبول الأعمال والدخول إلى
الجنة؟ فإذا كان كذلك فإن أفضل أعمال الكفار ليس مقبولا عند الله.
ويمكن أن نجيب على هذا السؤال بأن مسألة " قبول الأعمال " شئ، و
" الجزاء المناسب " شئ آخر، فمثلا المشهور بين علماء المسلمين أن الصلاة
بدون حضور القلب أو مع ارتكاب بعض الذنوب كالغيبة غير مقبولة عند الله،
ونحن نعلم أن مثل هذه الصلوات صحيحة شرعا، وتحتسب طاعة لأوامر الله
وتفرغ بها ذمة المصلي والطاعة لا تكون بدون أجر. ولذلك فقبول العمل هو
الدرجة العالية للعمل، ونحن نقول هذا أيضا: إذا كانت الخدمات الإنسانية
مصاحبة للإيمان فلها أعلى المضامين، ولكن في غير هذه الصورة لا تكون بدون
مضمون وجزاء، وجزاء العمل لا ينحصر بدخول الجنة. (هذه عصارة الفكرة بما
يتناسب وهذا التفسير، وتفصيل ذلك في الأبحاث الفقهية).
* * *

1 - البحار، ج 2.
493

2 الآيتان
ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ
يذهبكم ويأت بخلق جديد (19) وما ذلك على الله بعزيز (20)
2 التفسير
3 الخلق على أساس الحق:
بعد ما بحثنا عن الباطل وأنه كالرماد المتناثر إذا اشتدت به الريح، نبحث في
هذه الآية عن الحق واستقراره. يقول الله تعالى مخاطبا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره
الأسوة لكل دعاة الحق ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق.
" الحق " كما يقول الراغب في مفرداته " المطابقة والتنسيق " وله استعمالات
أخرى: فتارة يستعمل الحق في العمل الصادر وفقا للحكمة والنظام كما في قوله
تعالى: هو الذي جعل الشمس ضياءا والقمر نورا... ما خلق الله ذلك إلا
بالحق. (1)
وتارة يطلق على الشخص الذي قام بهذا العمل المحكم، كما نطلقها على الله

1 - يونس، 5.
494

عز وجل فذلكم الله ربكم الحق. (1)
وتارة أخرى يطلق على الاعتقاد الذي يطابق الواقع كما في قوله تعالى:
فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق. (2)
ومرة يقال للقول والعمل الذي يتحقق في الوقت المناسب كما في قوله
تعالى: حق القول مني لأملئن جهنم. (3)
وعلى أية الحال فمقابل " الحق " الباطل والضلال واللعب وأمثالهما.
لكن الآية التي نحن بصددها تشير إلى المعنى الأول، وهو إن شاء عالم الخلق.
حيث توضح السماء والأرض أن في الهدف من خلقها الحكمة والنظام
والحساب. فالله تعالى ليس محتاجا في خلقها ولا ناقصا لكي يسد نقصه بها، بل
هو الغني عن كل شئ، وهذا العالم الواسع دار لنمو المخلوقات وتكاملها.
ثم يضيف: إن الدليل في عدم الحاجة إليكم ولا إلى إيمانكم هو: إن يشأ
يذهبكم ويأت بخلق جديد.
وهذا العمل ليس صعبا عند الله وما ذلك على الله بعزيز.
والشاهد على هذا القول في سورة النساء وإن تكفروا فإن لله ما في
السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا... إن يشأ يذهبكم أيها الناس
ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا. (4) وهذا التفسير بخصوص الآية
أعلاه منقول عن ابن عباس.
وهناك احتمال آخر، وهو أن الجملة أعلاه تشير إلى مسألة المعاد وأن الله
قادرا على أن يفني جميع الناس ويأت بخلق آخر، فهل تشكون في مسألة المعاد
وبعثكم من جديد؟
* * *

1 - يونس، 32.
2 - البقرة، 213.
3 - السجدة، 13.
4 - النساء، 131 إلى 133.
495

2 الآيات
وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا
لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا لو
هدينا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من
محيص (21) وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد
الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطن إلا
أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا
بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من
قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم (22) وأدخل الذين آمنوا
وعملوا الصالحات جنت تجرى من تحتها الانهر خالدين فيها
بإذن ربهم تحيتهم فيها سلم (23)
2 التفسير
3 المحادثة الصريحة بين الشيطان وأتباعه:
أشارت الآيات السابقة إلى العقاب الشديد للمخالفين والمعاندين
496

والكافرين، وهذه الآيات تكمل ذاك البحث.
يقول تعالى أولا: وبرزوا لله جميعا (1).
وفي هذه الأثناء يقول الضعفاء الذين تاهوا في وادي الضلالة للمستكبرين
الذين كانوا سبب ضلالهم فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل
أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ فيجيبونهم بدون توقف قالوا لو
هدانا الله لهديناكم.
ولكن للأسف فالمسألة منتهية سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من
محيص.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - ما هو المراد من وبرزوا لله جميعا؟
أول سؤال يطرح بخصوص هذه الآية هو: هل أن الناس في هذه الدنيا غير
ظاهرين في علم الله لكي تقول الآية: وبرزوا لله جميعا؟
في الجواب على هذا السؤال قال كثير من المفسرين: إن المقصود عدم
إحساس الناس بهذا الظهور والبروز أمام الله في هذه الدنيا، فيكون إحساسهم
ظاهرا لهم في الآخرة.
وقال بعض أيضا: المقصود هو البروز والظهور من القبور في ساحة العدل
الإلهي للحساب.
هذان التفسيران جيدان وليس هناك مانع من أن تجمعا في مفهوم الآية.

1 - يجب الانتباه إلى أن " برزوا " فعل ماضي، إلا أنه جاء هنا بصيغة المستقبل، لأن المسائل المتعلقة بالقيامة قطعية
وغير قابلة للنقاش، ولذلك وردت في كثير من الآيات بصيغة الماضي.
497

3 2 - ما هو المقصود من جملة لو هدانا الله لهديناكم؟
يعتقد كثير من المفسرين أن المقصود الهداية عن طريق النجاة من العقاب
الإلهي في ذلك العالم، لأن هذا الحديث قاله المستكبرون لأتباعهم حينما طلبوا
منهم أن يغنوا عنهم قسما من العذاب، فالسؤال والجواب متناسبان ويوحيان أن
المقصود هو هدايتهم للنجاة من العذاب.
وقد استخدم القرآن هذه الكلمة " الهداية " بخصوص الوصول إلى نعم الجنة،
كما يقول أهل الجنة: وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن
هدانا الله. (1)
وهناك احتمال أن " قادة الضلالة " حينما يرون أنفسهم أمام طلب أتباعهم،
ولكي يتنصلوا من الذنب ويلقوا باللائمة على الغير، كما هي طريقة كل
المستكبرين - يقولون بكل وقاحة: ماذا نعمل؟ فلو كان الله قد هدانا إلى الطريق
الصحيح لهديناكم إليه! ومعناه أننا مجبورون على ذلك وليست لنا إرادة حرة.
وهذا هو منطق الشيطان بعينه، أوليس هو القائل فبما أغويتني لأقعدن لهم
صراطك المستقيم؟ ولكن يجب أن يعلم المستكبرون أنهم يتحملون مسؤولية
ذنوب أتباعهم شاؤوا أم أبوا، طبقا لصريح القرآن والروايات، لأنهم المؤسسون
للانحراف والضلال دون أن ينقص أي شئ من عذاب أتباعهم.
3 3 - أوضح بيان في ذم التقليد الأعمى
يتضح لنا من الآية أعلاه ما يلي:
أولا: الأشخاص الذين يضعون زمام أمورهم بيد الآخرين هم ضعفاء
الشخصية، وقد عبر عنهم القرآن الكريم ب‍ الضعفاء.
ثانيا: إن مصيرهم ومصير قادتهم واحد، وهؤلاء البؤساء لا يستطيعون حتى
في أحلك الظروف أن يستفيدوا من حماية قادتهم المضلين، أو أن يخففوا عنهم

1 - الأعراف، 43.
498

قليلا من العذاب، بل يسخرون منهم ويقولون لهم: لا تجزعوا ولا تفزعوا فلا
طريق للخلاص والنجاة من العذاب!
ثالثا: " برزوا " في الأصل من مادة " البروز " أي الظهور أو الخروج من الصف
في مقابل الخصم في ساحة القتال، وتأتي أيضا بمعنى المقاتلة.
" المحيص " من " المحص " بمعنى التخلص من العيوب أو الألم.
ثم يشير القرآن الكريم إلى موقف آخر من مواقف القيامة والعقاب النفسي
للجبارين والمذنبين وأتباعهم الشياطين، حيث يقول تعالى: وقال الشيطان لما
قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وبهذا الترتيب
فالشيطان وجميع المستكبرين الذين هم قادة طرق الضلال، أصبحوا يلومون
ويوبخون تابعيهم البؤساء.
ثم يضيف وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي
ويستمر في القول فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.
أنتم فعلتم فاللعنة عليكم!!
وعلى كل حال فلا أنا أستطيع إنقاذكم من العذاب ولا أنتم تستطيعون
إنقاذي: ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي والآن أعلمكم بأني أتبرأ من
شرككم واطاعتكم لي إني كفرت بما أشركتمون من قبل فقد فهمت الآن أن
الشرك في الطاعة أدى إلى شقائي وشقائكم، وهذه التعاسة ليس لها طريق
للنجاة، واعلموا إن الظالمين لهم عذاب أليم.
* * *
2 بحوث
3 1 - جواب الشيطان الحاسم لأتباعه
مع أن كلمة " الشيطان " (1) لها مفهوم واسع وتشمل كل الطواغيت ووساوس

1 - للتوضيح أكثر في معنى الشيطان في القرآن راجع تفسير الآية 36 من سورة البقرة من تفسيرنا هذا.
499

الجن والإنس، ولكن في قراءتنا لهذه الآية وما قبلها علمنا أن المقصود هنا هو
شخص إبليس الذي يعتبر رئيسا للشياطين، ولذلك انتخب جميع المفسرين هذا
التفسير أيضا.
ونستفيد بشكل أكيد من هذه الآية أن وساوس الشيطان لا تسلب الإنسان
اختياره وحرية إرادته، بل هي مجرد دعوة ليس أكثر، فالناس هم الذين يلبون
دعوته بإرادتهم، وقد تصل الأرضية السابقة والدوام على الخلاف بالإنسان إلى
حالة من سلب الاختيار في مقابل وساوسه، كما نشاهد بعض المدمنين على
المخدرات، ولكن نعلم أن السبب الأول كان هو الاختيار. يقول تعالى في الآية
(100) من سورة النحل: إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به
مشركون.
وعلى هذا فالشيطان يجيب بشكل قاطع على الذين يعتبرونه العامل الأول
في انحرافهم وضلالهم، وما يقوله بعض الجهلاء لتبرئتهم من ذنوبهم، فإن
السلطان الحقيقي على الإنسان هو إرادته وعمله ولا شئ غيره.
2 - كيف استطاع الشيطان أن يلتقي باتباعه ويلومهم في ذاك الموقف
الكبير؟
الجواب: هو أن الله تعالى يمنحه القدرة على ذلك، وهذا في الواقع نوع من
العقاب النفسي لأتباع الشيطان، وإنذار لكل السائرين في طريقه في هذه الدنيا،
لكي يعلموا من الآن مصيرهم ومصير قادتهم، وعلى أية حال فالله تعالى بطريقة
ما يهيئ وسيلة الارتباط بين الشيطان وأتباعه.
ومن الطريف أن هذه المواجهة غير منحصرة بالشيطان وأتباعه، بل إن جميع
أئمة الضلالة في هذا العالم لهم نفس البرنامج أيضا، يأخذون بأيدي أتباعهم
(بموافقتهم طبعا) ويذهبون بهم إلى أمواج العذاب والبلاء، وحينما يرون
الأوضاع سيئة يتركونهم وشأنهم حتى إنهم يلومونهم ويوبخونهم في خسران
500

الدنيا والآخرة.
3 - " المصرخ " من مادة " إصراخ " وفي الأصل من مادة " صرخ "، وهي
بمعنى الإغاثة وطلب المساعدة، ولذلك فالمصرخ بمعنى المغيث، والمستصرخ
طالب الاستغاثة.
4 - القصد من إتخاذ الكفار الشيطان شريكا في الآية أعلاه شرك الطاعة
وليس شرك العبادة.
5 - في أن جملة إن الظالمين لهم عذاب أليم تابعة لحديث الشيطان أم
كلام مستقل من الله تعالى، هناك آراء مختلفة عند المفسرين، لكن التفسير
الأقرب هو أن الجملة مستقلة ومن كلام الله حيث قالها في نهاية حديث الشيطان
مع أتباعه لتكون درسا تربويا.
وبعد بيان حال الجبارين والظالمين ومصيرهم المؤلم، تتطرق الآية الأخيرة
من هذا البحث إلى حال المؤمنين وعاقبتهم حيث يقول تعالى: وأدخل الذين
آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إلى آخر الآية.
" التحية " في الأصل " الحياة " وتستعمل لسلامة وحياة الأفراد، وتطلق لكل
تحية وسلام ودعاء في بداية اللقاء.
قال بعض المفسرين: " التحية " هنا من الله للمؤمنين قرينة على نعمهم
وسلامتهم من كل أذى ونزاع (لذلك فتحيتهم إضافة لمفعول، وفاعله الله).
وقال البعض الآخر: إن القصد هو تحية المؤمنين فيما بينهم، أو تحية
الملائكة لهم، وعلى أية حال ف‍ " سلام " التي قيلت بشكل مطلق لها من المفهوم
الواسع بحيث يشمل كل سلامة من أي نوع من أنواع العذاب الروحي
والجسمي (1).
* * *

1 - بحثنا هذا الموضوع " السلام والتحية " في المجلد الثاني، ذيل الآية (86): من سورة النساء من تفسيرنا هذا.
501

2 الآيات
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة
أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتى أكلها كل حين بإذن
ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25) ومثل
كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من
قرار (26) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة
الدنيا وفى الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27)
2 التفسير
3 الشجرة الطيبة والشجرة الخبيثة!
هنا مشهد آخر في تجسيم الحق والباطل، الكفر والإيمان، الطيب والخبيث
ضمن مثال واحد جميل وعميق المعنى... يكمل البحوث السابقة في هذا الباب.
يقول تعالى أولا: ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة
ثم يشير إلى خصائص هذه الشجرة الطيبة في جميع أبعادها ضمن عبارات
قصيرة.
502

ولكن قبل أن نستعرض هذه الخصائص يجب أن نعرف ما المقصود من
" الكلمة الطيبة "؟
قال بعض المفسرين: إنها كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).
وقال آخرون: إنها تشير إلى الأوامر الإلهية.
وقال البعض الآخر: إنه الإيمان الذي محتواه ومفهومه (لا إله إلا الله).
وقال آخرون في تفسيرها: إنها شخص المؤمن.
وأخيرا قال بعضهم: إنها الطريقة والبرامج العملية.
ولكن بالنظر إلى سعة مفهوم ومحتوى الكلمة الطيبة نستطيع أن نقول: إنها
تشمل جميع هذه الأقوال، لأن " الكلمة " في معناها الواسع تشمل جميع
الموجودات، ولهذا السبب يقال للمخلوقات " كلمة الله ".
و " الطيب " كل طاهر ونظيف، فالنتيجة من هذا المثال أنه يشمل كل سنة
ودستور وبرنامج وطريقة، وكل عمل، وكل إنسان.. والخلاصة: كل موجود طاهر
ونظيف وذي بركة، وجميعها كشجرة طيبة فيها الخصائص التالية:
1 - كائن يمتلك الحركة والنمو، وليس جامدا ولا خاملا، بل ثابت وفاعل
ومبدع للآخرين ولنفسه (التعبير ب‍ " الشجرة " بيان لهذه الحقيقة).
2 - هذه الشجرة طيبة، ولكن من أية جهة؟ بما أنه لم يذكر لها قسم خاص
بها، فإنها طيبة من كل جهة.. منظرها، ثمارها، أزهارها، ظلالها، ونسيمها جميعها
طيب وطاهر.
3 - لهذه الشجرة نظام دقيق، لها جذور وأغصان، وكل واحد له وظيفته
الخاصة، فوجود الأصل والفرع فيها دليل على سيادة النظام الدقيق عليها.
4 - أصلها ثابت محكم بشكل لا يمكن أن يقلعها الطوفان ولا العواصف.
وباستطاعتها أن تحفظ أغصانها العالية في الفضاء وتحت نور الشمس، لأن
الغصن كلما كان عاليا يحتاج إلى جذور قوية أصلها ثابت.
503

5 - إن أغصان هذه الشجرة الطيبة ليست في محيط ضيق ولا ردئ، بل
مقرها في عنان السماء، وهذه الأغصان والفروع تشق الهواء وتصعد فيه عاليا
وفرعها في السماء.
ومن الواضح أن الأغصان كلما كانت عالية وسامقة تكون بعيدة عن التلوث
والغبار وتصبح ثمارها نظيفة، وتستفيد أكثر من نور الشمس والهواء الطلق،
فتكون ثمارها طيبة جدا (1).
6 - هذه الشجرة كثيرة الثمر لا كالأشجار الذابلة العديمة الثمر، ولذلك فهي
كثيرة العطاء تؤتي اكلها.
7 - وثمارها ليست فصلية، بل في كل فصل وزمان، فإذا أردنا أن نمد يدنا
إلى أغصانها في أي وقت لم نرجع خائبين كل حين.
8 - إن إنتاجها من الثمار يكون وفق قوانين الخلقة والسنن الإلهية وليس
بدون حساب بإذن ربها.
والآن يجب أن نفتش، أين نجد هذه الخصائص والبركات؟
نجدها بالتأكيد في كلمة التوحيد ومحتواها، وفي الإنسان الموحد ذي
المعرفة، وفي البرامج الحية النظيفة، وجميعها نامية ومتحركة ولها أصول ثابتة
ومحكمة وفروع كثيرة وعالية بعيدة عن التلوث بالأدران الجسدية والدنيوية،
وكلها مثمرة وفياضة.
وما من أحد يأتي إليها ويمد يده إلى فروعها إلا ويستفيد من ثمارها اللذيذة
العطرة، وتتحقق فيه الخصال المذكورة، فعواصف الأحداث الصعبة والمشاكل
الكبيرة لا تزحزحه من مكانه، ولا يتحدد، وافق تفكيره في هذه الدنيا الصغيرة،
بل يشق حجب الزمان والمكان ويسير نحو المطلق اللامتناهي.

1 - ويظهر هذا الأمر بشكل واضح في ثمار الأشجار، فثمار الأغصان العالية تكون أنضج وأطيب طعما من ثمار
الأغصان الواطئة.
504

سلوكهم وبرامجهم ليست تابعة للهوى والهوس، بل طبقا للأوامر الإلهية
وبإذن ربهم، وهذا هو مصدر الحركة والنمو في حركتهم.
الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة الله الطيبة، وحياتهم أصل البركة،
دعوتهم توجب الحركة، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم
وتاريخهم.. وحتى قبورهم جميعها ملهمة وحية ومربية.
نعم ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.
وهناك سؤال مطروح بين المفسرين وهو: هل لوجود هذه الشجرة وصفاتها
واقع خارجي؟
يعتقد البعض بوجودها وهي النخلة، ولذلك اضطروا إلى أن يفسروا كل
حين بستة أشهر.
ولكن لا حاجة إلى الإصرار في وجود مثل هذه الشجرة، بل هناك تشبيهات
كثيرة وليس لها وجود خارجي أصلا.
وعلى أية حال، فالهدف من التشبيه هو تجسيم الحقائق والمسائل العقلية
وصبها في قالب الحواس، وهذه الأمثال ليس فيها أي إبهام، بل هي مقبولة
ومؤثرة وجذابة.
وفي عين الحال هناك أشجارا في هذه الدنيا ثمارها لا تنقطع على طول
السنة، وقد رأينا بعض الأشجار في المناطق الحارة وكانت مثمرة وفي نفس
الوقت لها أزهار جديدة للثمار المقبلة!
وبما أن أحد أفضل الطرق لتوضيح المسائل هو الاستفادة من طريق المقابلة
والمقايسة، فقد جعلت النقطة المقابلة للشجرة الطيبة، الشجرة الخبيثة ومثل
كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
والكلمة " الخبيثة " هي كلمة الكفر والشرك، وهي القول السئ والردئ،
وهي البرنامج الضال والمنحرف، والناس الخبثاء، والخلاصة: هي كل خبيث
505

ونجس.
ومن البديهي أن مثل هذه الشجرة ليس لها أصل، ولا نمو ولا تكامل ولا
ثمار ولا ظل ولا ثبات ولا استقرار، بل هي قطعة خشبية لا تصلح إلا للاشتعال...
بل أكثر من ذلك هي قاطعة للطريق وتزاحم السائرين وأحيانا تؤذي الناس!
ومن الطريف أن القرآن الكريم فصل الحديث في وصف الشجرة الطيبة بينما
اكتفى في وصف الشجرة الخبيثة بجملة قصيرة واحدة اجتثت من فوق الأرض
وما لها من قرار، وهذا نوع من لطافة البيان أن يتابع الإنسان جميع
خصوصيات ذكر " المحبوب " بينما يمر بسرعة في جملة واحدة بذكر
" المبغوض "!
ومرة أخرى نجد المفسرين اختلفوا في تفسير الشجرة الخبيثة، وهل لها
واقع خارجي؟
قال البعض: إنها شجرة " الحنظل " والتي لها ثمار مرة ورديئة.
وأعتقد آخرون أنها " الكشوت " وهي نوع من الأعشاب المعقدة التي تنبت
في الصحراء ولها أشواك قصيرة تلتف حولها وليس لها جذر ولا أوراق.
وكما قلنا في تفسير الشجرة الطيبة، ليس من اللازم أن يكون للشجرة
الخبيثة وجود خارجي في جميع صفاتها، بل الهدف هو تجسيم الوجه الحقيقي
لكلمة الشرك والبرامج المنحرفة والناس الخبثاء، وهؤلاء كالشجرة الخبيثة ليس
لها ثمار ولا فائدة... إلا المتاعب والمشاكل. مضافا إلى أن الأشجار والنباتات
الخبيثة التي قلعتها الأعاصير ليست قليلة.
وبما أن الآيات السابقة جسدت حال الإيمان والكفر، الطيب والخبيث من
خلال مثالين صريحين، فإن الآية الأخيرة تبحث نتيجة عملهم ومصيرهم النهائي،
يقول تعالى: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة
لأن إيمانهم لم يكن إيمانا سطحيا وشخصيتهم لم تكن كاذبة ومتلونة، بل كانت
506

شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وبما أن ليس هناك من لا يحتاج إلى
اللطف الإلهي، وبعبارة أخرى: كل المواهب تعود لذاته المقدسة، فالمؤمنون
المخلصون الثابتون بالاستناد إلى اللطف الإلهي يستقيمون كالجبال في مقابل أية
حادثة. والله تعالى يحفظهم من الزلات التي تعتريهم في حياتهم. ومن الشياطين
الذين يوسوسون لهم زخرف الحياة ليزلوهم عن الطريق.
وكذلك فالله تعالى يثبتهم أمام القوى الجهنمية للظالمين القساة، الذين
يسعون لإخضاعهم بأنواع التهديد والوعيد.
ومن الطريف أن هذا الحفظ والتثبت الإلهيين يستوعبان كل حياتهم في هذه
الدنيا وفي الآخرة، فهنا يثبتون بالإيمان ويبرؤون من الذنوب، وهناك يخلدون
في النعيم المقيم.
ثم يشير إلى النقطة المقابلة لهم ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
قلنا مرارا: إن الهداية والضلال التي تنسب إلى الله عز وجل لا تتحققان إلا
بأن يرفع الإنسان القدم الأول لها، فالله عز وجل عندما يسلب المواهب والنعم من
العبد أو يمنحها له يكون ذلك بسبب استحقاقه أو عدم استحقاقه.
ووصف " الظالمين " بعد جملة " يضل الله " أفضل قرينة لهذا الموضوع، يعني
ما دام الإنسان غير ملوث بالظلم لا تسلب الهداية منه، أما إذا تلوث بالظلم
وعمت وجوده الذنوب، فسوف يخرج من قلبه نور الهداية الإلهية، وهذه عين
الإرادة الحرة. وبالطبع إذا غير مسيره بسرعة فطريق النجاة مفتوح له، ولكن إذا
استحكم الذنب فإن طريق العودة يكون صعبا جدا.
* * *
2 بحوث
3 1 - هل القصد من الآخرة في الآية هو القبر؟
507

نقرأ في روايات متعددة أن الله يثبت الإنسان على خط الإيمان عندما يواجه
أسئلة الملائكة في القبر، وهذا معنى الآية يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت
في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ولقد وردت كلمة " القبر " بصراحة في بعض هذه الروايات (1).
ولكن هناك رواية شريفة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " إن الشيطان ليأتي
الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن شماله ليضله عما هو عليه، فيأبى الله
عز وجل له ذلك، وهو قول الله عز وجل: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في
الحياة الدنيا وفي الآخرة (2).
وأكثر المفسرين يميلون إلى هذا التفسير، طبقا لما نقله المفسر الكبير العلامة
الطبرسي في مجمع البيان ولعل ذلك يعود إلى أن الآخرة ليست محلا للأعمال
ولا للانحراف، بل هي محل الحصول على النتائج فحسب ولكن عند وقوع
الموت وحتى في البرزخ (الذي هو عالم بين الدنيا والآخرة) قد تحصل بعض
الهفوات، فهنا يكون اللطف الإلهي عاملا في حفظ وثبات الإنسان.
3 2 - دور الثبات والاستقامة
من بين جميع الصفات التي ذكرتها الآيات أعلاه للشجرة الطيبة والخبيثة،
وردت مسألة الثبات وعدم الثبات بشكل أكثر، وحتى في بيان ثمار هذه الشجرة
يقول تعالى: يثبت الله الذين آمنوا وبهذا الترتيب تتضح لنا أهمية الثبات
ودوره في حياة الإنسان.
فكثير من الأشخاص من ذوي القابليات المتوسطة، إلا أنهم ينالون
انتصارات كبيرة في حياتهم، ثم إذا حققنا في الأمر لم نجد دليلا إلا الثبات
والاستقامة لديهم.

1 - تفسير نور الثقلين، ج 2، صفحة 540 - 541.
2 - المصدر السابق.
508

ومن جهة اجتماعية لا يتحقق أي تقدم في البرامج إلا في ظل الثبات، ولهذا
السبب نجد المخربين يسعون في تدمير الاستقامة، ولا نعرف المؤمنين الصادقين
إلا من خلال استقامتهم وثباتهم في مقابل الحوادث الصعبة.
3 3 - الشجرة الطيبة والخبيثة في الروايات الإسلامية
كما قلنا أعلاه فإن كلمة " الطيبة " و " الخبيثة " التي شبهت الشجرتان بها، لها
مفهوم واسع بحيث تشمل كل شخص وبرنامج ومبدأ وفكر وعلم وقول وعمل،
ولكن وردت في بعض الروايات في موارد خاصة ولكن لا تنحصر بها.
ومن جملتها ما ورد في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية
كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء قال: " رسول الله أصلها وأمير
المؤمنين فرعها، والأئمة من ذريتهما أغصانها، وعلم الأئمة ثمرها، وشيعتهم
المؤمنون ورقها، هل فيها فضل؟ " (أي هل يبقى شئ) قال قلت: لا والله، قال:
" والله إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها، وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقة
منها " (1).
وعنه أيضا (عليه السلام) حينما سأله سائل عن معنى الآية تؤتي اكلها كل حين بإذن
ربها قال: " ذاك علم الأئمة يأتيكم كل عام من كل المناطق " (2).
وفي رواية أخرى: " الشجرة الطيبة رسول الله وعلي وفاطمة وبنوها،
والشجرة الخبيثة بنو أمية " (3).
وفي بعضها الآخر فسرت الشجرة الطيبة بالنخل والخبيثة بالحنظلة.
وعلى أية حال ليس هناك من تضاد بين هذه التفاسير، بل بينها وبين ما قلناه
أعلاه ترابط وتنسبق، لأنها مصاديقها.

1 - نور الثقلين، ج 2، ص 535.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
509

* * *
510

2 الآيات
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار
البوار (28) جهنم يصلونها وبئس القرار (29) وجعلوا لله
أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار (30)
2 التفسير
3 نهاية كفران النعم:
الخطاب في هذه الآيات موجه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في الحقيقة عرض
لواحد من موارد " الشجرة الخبيثة ".
يقول تعالى أولا: ألم تر إلى الذين بدلوا... إلى نهاية الآية. هؤلاء هم
جذور الشجرة الخبيثة وقادة الكفر والانحراف، لديهم أفضل نعمة وهو رسول
الله، وباستطاعتهم أن يستفيدوا منه في الطريق إلى السعادة، إلا أن تعصبهم
الأعمى وعنادهم وحقدهم صارت سببا في تركهم هذه النعمة الكبيرة، ولم
يقتصروا على تركها فحسب. بل أضلوا قومهم أيضا مما جعلهم يسلكون هذا
السلوك.
مع أن بعض المفسرين الكبار عند متابعتهم للروايات الإسلامية فسروا -
511

أحيانا - هذه النعمة بوجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأحيانا أخرى بالأئمة (عليهم السلام)، وفسروا
الكافرين بهذه النعمة " بني أمية " و " بني المغيرة " مرة، ومرة أخرى جميع الكفار
الذين عاصروا عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن من المسلم به أن للآية مفهوما أوسع من
هذا، وليس مختصا بمجموعة معينة، بل تشمل جميع الأفراد الذين يكفرون
بالنعم الإلهية.
وتثبت الآية ضمنا هذه الحقيقة، وهي أن الاستفادة من وجود القادة العظام
تعود لنفس الإنسان، كما أن الكفر بهذه النعمة العظيمة يؤدي إلى الهلاك والبوار.
ثم إن القرآن الكريم يفسر دار البوار بقوله تعالى: جهنم يصلونها وبئس
القرار (1).
ثم يشير في الآية الأخرى إلى واحدة من أسوأ أنواع كفران النعم وجعلوا
لله أندادا ليضلوا عن سبيله لكي يستفيدوا عدة أيام من حياتهم المادية ومن
رئاستهم وحكومتهم في ظل الشرك والكفر لإضلال الناس عن طريق الحق.
أيها النبي قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار.
فحياتكم هذه شقاء ورئاستكم فاسدة، ومع ذلك فإنها تعد حياة لذيذة
وسعيدة بالنسبة للنهاية التي تنتظرهم، كما نقرأ في آية أخرى قل تمتع بكفرك
قليلا إنك من أصحاب النار. (2)
* * *
2 بحوث
1 - يقال في العبارات الدارجة: إن الشخص الفلاني كفر بنعمة الله، ولكن
الآية أعلاه تقول: الذين بدلوا نعمت الله كفرا إن هذا التعبير الخاص يدل

1 - " يصلون " من " الصلي " بمعنى الإشتعال والاحتراق بالنار.
2 - الزمر، 8.
512

على أحد أمرين:
ألف: المراد من تبديل " النعمة " إلى " كفران " هو عدم شكرهم لهذه النعم،
فبدلوا الشكر بالكفران (في الحقيقة كلمة الشكر مقدرة، ففي التقدير: الذين بدلوا
شكر نعمة الله كفرا).
ب: - إن المقصود هو تبديلهم نفس " النعمة " " كفرا "، وفي الحقيقة فإن النعم
الإلهية وسائل، وطريقة استعمالها مرتبطة بإرادة الإنسان، فمثلما يمكن أن
نستفيد منها في طريق السعادة والإيمان والعمل الصالح، يمكن أن نستعملها
كذلك في مسير الكفر والظلم والفساد، فهي كالمواد الأولية التي يمكن
بمساعدتها الحصول على أنواع مختلفة من الإنتاج، إلا أنها خلقت في الأصل
للخير والسعادة.
2 - ليس " كفران النعم " عدم الشكر اللساني فقط، بل كل استفادة غير
صحيحة ومنحرفة للنعم، تلك هي حقيقة الكفران، وأما عدم الشكر باللسان ففي
الدرجة الثانية، وكما قلنا سابقا فإن شكر النعمة تعني صرفها في الهدف الذي
خلقت من أجله، والشكر عليها باللسان يأتي في الدرجة الثانية، فإذا قلنا آلاف
المرات: الحمد لله، ولكننا أسأنا عمليا الاستفادة من النعم، فذلك كفران للنعم.
وفي عصرنا الحاضر أفضل نموذج لتبديل النعم بالكفران هو استخدام
الإنسان لمواهب الطبيعة بفكره ومهارته التي منحها الله للإنسان لخدمة منافعه
الخاصة. فالإكتشافات العلمية والخبرات الصناعية غيرت وجه العالم ورفعت
عن كاهل الإنسان عبئا ثقيلا ووضعته على عجلات المعامل. فالمواهب والنعم
الإلهية أكثر من أي زمن آخر، ووسائل نشر المعارف وانتشار العلوم ومعرفة
جميع أخبار العالم متوفرة في أيدي الجميع، فيجب على الناس في هذا العصر أن
يكونوا سعداء من الناحية المادية والمعنوية.
ولكن بسبب تبديل النعم الإلهية الكبيرة إلى كفران، وصرف القوى الطبيعية
513

في طريق الظلم والطغيان واستخدام الاختراعات والاكتشافات في طريق
الأهداف المخربة بحيث أن كل تطور صناعي يستخدم أولا في عمليات التدمير.
وخلاصة القول: إن عدم الشكر هذا والذي هو بعيد عن التعاليم الصالحة للأنبياء
أدى إلى أن يجروا قومهم ومجتمعهم إلى دار البوار.
ودار البوار هذه هي مجموعة من الحروب الإقليمية والعالمية بكل آثارها
التخريبية، وكذلك عدم الأمن والظلم والفساد والإستعمار حيث يبتلي بها في
النهاية المؤسسون لها أيضا، كما رأينا في السابق ونراه اليوم.
وما ألطف تصوير القرآن حيث جعل مصير كل الأقوام والأمم التي كفرت
بأنعم الله إلى دار البوار.
3 - " أنداد " جمع " ند " بمعنى " المثل " ولكن الراغب في مفرداته والزبيدي
في تاج العروس قالا: إن " الند " يقال للشئ الذي يشابه الشئ الآخر جوهريا، و
" المثل " يطلق على كل شئ شبيه لشئ، ولذلك فالند له معنى أعمق وأدق من
المثل.
وطبقا لهذا المعنى نستفيد من الآية أعلاه أن أئمة الكفر كانوا يسعون لأن
يجعلوا لله شركاء ويشبهوهم في جوهر ذاتهم بالله عز وجل، لكي يضلوا الناس
عن عبادة الله ويحصلوا على مقاصدهم الشريرة.
فتارة يقربون لهؤلاء الشركاء القرابين، وأخرى يجعلون قسما من النعم
الإلهية (كبعض الأنعام) مخصوصة للأصنام، ويعتقدون أحيانا بعبادتها. وأوقح
من ذلك كله كانوا يقولون أثناء حجهم في عصر الجاهلية: (لبيك لا شريك لك - إلا
شريك هو لك - تملكه وما ملك) (1).
* * *

1 - تفسير الفخر الرازي ذيل الآية أعلاه.
514

2 الآيات
قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما
رزقنهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه
ولا خلل (31) الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من
السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك
لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الانهر (32) وسخر لكم
الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33)
وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
إن الإنسان لظلوم كفار (34)
2 التفسير
3 عظمة الإنسان من وجهة نظر القرآن:
تعقيبا للآيات السابقة في الحديث عن برنامج المشركين والذين كفروا بأنعم
الله وكون مصيرهم إلى دار البوار، تتحدث هذه الآيات عن برنامج عباد الله
المخلصين والنعم النازلة عليهم، يقول تعالى: قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا
515

الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي لا
يستطيع فيه الإنسان من التخلص من العذاب بشراء السعادة والنعيم الخالد، ولا
تنفع الصداقة حينئذ من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال.
ثم تتطرق الآية إلى معرفة الله عن طريق نعمه، معرفة تؤدي إلى إحياء ذكره
في القلوب، وتحث الإنسان على تعظيمه في مقابل لطفه وقدرته، لأن من الأمور
الفطرية أن يشعر الإنسان في قلبه بالحب والود لمن أعانه وأحسن إليه.
ويبين هذا الموضوع من خلال عدة آيات الله الذي خلق السماوات
والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم.
ثم أنه وسخر لكم الفلك سواء من جهة موادها الأولية المتوفرة في
الطبيعة، أو من جهة القوة المحركة لها وهي الرياح التي تهب على البحار
والمحيطات بصورة منتظمة لتسيير هذه السفن فتنقل الإنسان وما يحتاج إليه من
منطقة إلى أخرى بيسر وسهولة: لتجري في البحر بأمره.
وسخر لكم الأنهار كي تسقوا من مائها زروعكم، وتشربوا أنتم
وأنعامكم، وفي كثير من الأحيان تكون طريقا للسفن والقوارب، وتستفيدون
منها في صيد الأسماك.
وليست موجودات الأرض - فقط - مسخرة لكم، بل وسخر لكم الشمس
والقمر دائبين (1).
وليست مخلوقات العالم بذاتها فقط، بل حتى الحالات العرضية لها هي في
خدمتكم: وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه من
احتياجاتكم البدنية والاجتماعية وجميع وسائل السعادة والرفاه وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها لأن النعم المادية والمعنوية للخالق شملت جميع وجودكم

1 - " دائبين " من مادة " الدؤوب " بمعنى إدامة العمل طبقا للسنة الثابتة، وبما أن الشمس والقمر مستمران بشكل ثابت
من ملايين السنين، وما لها من فوائد عظيمة للكائنات، لا نجد هناك عبارة لهما أفضل من دائبين.
516

وهي غير قابلة للإحصاء، وعلاوة على ذلك فإن ما تعلمونه من النعم بالنسبة لما
تجهلونه كقطرة في مقابل البحر.
وعلى الرغم من كل هذه الألطاف والنعم ف‍ إن الإنسان لظلوم كفار.
فلو كان الإنسان يستفيد من هذه النعم بشكلها الصحيح لاستطاع أن يجعل
الدنيا حديقة غناء ولنفذ مشروع المدينة الفاضلة، ولكن بسبب عدم الاستفادة
الصحيحة لها أصبحت حياته مظلمة، وأهدافه غير سامية، فتراكمت عليه
المشاكل والصعاب وقيدته بالسلاسل والأغلال.
* * *
2 بحوث
3 1 - الصلة بالخالق والصلة بالخلق
نواجه في هذه الآيات مرة أخرى وفي تنظيم برنامج المؤمنين الصادقين
مسألة " الصلاة " و " الإنفاق "، وفي البداية قد يطرح هذا السؤال، وهو: كيف أشار
القرآن الكريم لهاتين المسألتين من بين جميع البرامج العملية للإسلام؟ العلة في
ذلك أن للإسلام أبعاد مختلفة يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط: علاقة الإنسان
بربه، وعلاقته بخلق الله، وعلاقته بنفسه، وهذا القسم الأخير في الحقيقة نتيجة
للقسم الأول والثاني، فالصلاة والإنفاق كل واحدة منهما رمز للعلاقة الأولى
والثانية.
والصلاة مظهر لصلة الإنسان بربه وهذه الصلة تظهر في الصلاة بشكل أوضح
من أي عمل آخر، والإنفاق رمز للصلة بين المخلوقين، فالرزق في مفهومه
الواسع يشمل كل نعمة مادية ومعنوية.
وبالنظر إلى أن هذه السورة مكية، وأثناء نزولها لم يكن حكم الزكاة نازلا
بعد، لا نستطيع القول: إن هذا الإنفاق مرتبط بالزكاة، بل له معنى واسع بحيث
517

يشمل حتى الزكاة بعد نزولها.
وعلى أية حال إذا تأصل الإيمان فسوف يتجلى بالعمل فيقرب الإنسان إلى
ربه من جانب، إلى عباده من جانب آخر.
3 2 - لماذا السر والعلانية؟
نقرأ مرارا في آيات القرآن أن المؤمنين ينفقون أو يتصدقون في السر
والعلانية، وبهذا الترتيب فإنه تعالى مع ذكره للإنفاق يذكر كيفية الإنفاق، لأنه
يكون مرة في السر أكثر تأثيرا وكرامة، ويكون مرة أخرى في الجهر سببا في
تشجيع الآخرين واقتدائهم في إقامة الشعائر الدينية.
ولو قامت حرب بين دولة إسلامية وأخرى كافرة لرأينا الناس المؤمنين
يحملون كل يوم مقادير كبيرة من التبرعات إلى المناطق المنكوبة لمساعدة
المتضررين بالحرب، أو الجرحى والمعوقين أو المقاتلين، ومن المعلوم أن نشر
أخبار هذه التبرعات مفيد جدا ولتكون دليلا على مواساتهم، ودعمهم لمقاتليهم،
وإحياءا لروح الإنسانية في عامة الناس، وتشجيعا للذين تخلفوا عن هذه القافلة
لكي يوصلوا أنفسهم بها، ومن البديهي أن الإنفاق هنا في العلانية أكثر تأثيرا.
ويقول بعض المفسرين: إن الفرق بين الإنفاقين هو أن الإنفاق العلني مرتبط
بالواجبات، فلا يخشى عليه من الرياء، لأن العمل بالواجبات لازم للجميع ولا
داعي لإخفائه، وأما الإنفاق المستحب - ولأنه زائد عن الوظيفة الواجبة - فمن
الممكن أن تتخلله حالة من التظاهر والرياء ولذلك كان إخفاؤه أفضل.
ولكن الظاهر أن هذا التفسير ليس أصلا كليا على حدة. بل هو فرع من
التفسير الأول.
518

3 3 - يوم لا بيع فيه ولا خلال
من المعلوم أن يوم القيامة هو يوم استلام النتائج ومتابعة جزاء الأعمال،
وبهذا الترتيب لا يستطيع أحد هناك أن ينجو من العذاب بفدية، حتى لو افترضنا
أنه ينفق جميع ما في الأرض فإنه لا يمكن أن يمحو ذرة من جزاء أعماله، لأن
صحيفته في " دار العمل " أي الدنيا مليئة بالأخطاء والذنوب وهناك " دار
الحساب ".
وكذلك لا تستطيع العلاقة المادية للصداقة مع أي شخص كان أن تنجيه من
العذاب، وبعبارة أخرى: إن الإنسان غالبا ما يلجأ إلى المال أو الواسطة (الرشوة،
العلاقات) في نجاته من المصاعب في هذه الدنيا، فإذا كان تصورهم أن الآخرة
كذلك فهذا دليل وهمهم وجهلهم.
ومن هنا يتضح أن نفي وجود الخلة والصداقة في هذه الآية لا يتنافى مع
صداقة المؤمنين بعضهم لبعض في الآخرة والتي أشارت إليها بعض الآيات، لأنها
صداقة مودة معنوية في ظل الإيمان.
وأما مسألة " الشفاعة " فقد قلنا كرارا انها تخلو من أي مفهوم مادي، بل
بالنظر إلى ما صرحت به بعض الآيات فإنها في ظل العلاقات المعنوية وصلاحية
البعض بسبب أعمال الخير (وقد شرحنا هذا الموضوع في ذيل الآية 254 من
سورة البقرة).
3 4 - كل الموجودات تحت إمرة الإنسان!
نواجه في هذه الآيات مرة أخرى تسخير مختلف الموجودات في الأرض
والسماء للإنسان، وقد قسمت إلى ستة أقسام: تسخير الفلك، والأنهار،
والشمس، والقمر، والليل، والنهار. ونرى أن قسما من هذه المسخرات من
السماء، وقسما آخر من الأرض، وقسما ثالثا من الظواهر بين الاثنين (الليل
519

والنهار).
وقلنا سابقا، ونكرر هنا للتذكرة: إن الإنسان من وجهة نظر القرآن له من
العظمة بحيث سخر الله له جميع ما في الوجود، إما أن يكون زمام أمورها بيده أو
تتحرك ضمن منافعه، وعلى أية حال فهذه العظمة جعلته من أشرف الموجودات.
" فالشمس ": تسطع له بالنور، وتعطيه الحرارة، وتساعد على نمو النباتات
له، وتطهر محيطه من الأمراض، وتخلق له البهجة والسرور، وتعلمه الحياة.
وأما " القمر ": فمصباح في ليله المظلم، ومفكرة طبيعية دائمة، ومن آثاره
تتكون ظاهرة الجزر والمد لتحل كثيرا من مشاكله، فتسقي الأشجار (بسبب
ارتفاع منسوب المياه في الأنهار المجاورة للبحار) وتتحرك مياه البحار الراكدة
كي لا تتعفن، وليدخل الأوكسجين فيها بسبب الأمواج ليكون تحت تصرف
الكائنات الحية.
" الرياح ": تؤدي إلى حركة السفن في المحيطات حيث تشكل أكبر واسطة
نقل وفي أوسع طريق للإنسان، بحيث تستطيع - أحيانا - أن تدفع سفينة بحجم
مدينة صغيرة بكامل أفرادها وتنقلها في المحيطات.
" الأنهار ": تجري في خدمة الإنسان، تسقي زرعه، وتروي مواشيه، وتجعل
محيطة ذا طراوة، وتربي له الأسماك لتغذيته.
" ظلام الليل ": حيث هو سكن للإنسان، ويمنحه الطمأنينة والراحة، ويخفف
من حرارة الجو الملتهبة في النهار.
وأخيرا " ضياء النهار ": يدعوه إلى الحركة والسعي، ويخلق له الدف ء
والحرارة.
والخلاصة: إن كل ما على الأرض وحولها لنفع الإنسان، وبيان هذه النعم
وشرحها يمنح الإنسان شخصية جديدة، وتفهمه عظمة مقامه وتبعث فيه
الإحساس بالشكر أكثر.
520

ونستفيد أيضا من هذا البيان أن للتسخير في لغة القرآن معنيان:
الأول: التسخير لخدمة الإنسان وتحقيق منافعه ومصالحه (كتسخير الشمس
والقمر).
والثاني: التسخير الذي يكون زمام أموره بيد الإنسان (كتسخير الفلك
والبحار).
وأما ما اعتقده البعض من أن هذه الآيات إشارة إلى تسخير الإنسان للقمر
وغيره في عصرنا الحاضر فإننا لا نراه صحيحا، لأن هناك بعض الآيات تقول:
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه (1)، فلا يستطيع
الإنسان أن يصل إلى جميع الكرات السماوية بتاتا.
نعم هناك بعض الآيات قد تشير إلى هذا النوع من التسخير، وسوف نبحث
هذا الموضوع بإذن الله في تفسير سورة الرحمن (وسبق لنا بحث في تسخير
الموجودات للإنسان في ذيل الآية (2) من سورة الرعد).
3 5 - دائبين
قلنا أن " دائب " من مادة " الدؤوب " بمعنى استمرار العمل طبقا للعادة
والسنة، فالشمس لا تدور حول الأرض، بل الأرض تدور حول الشمس، ونحن
نظن أن الشمس تدور حولنا، وهذه الحركة ليست المقصودة في معنى " دائب " بل
الاستمرار في إنجاز العمل يدخل في مفهوم الدؤوب، ونحن نعلم أن الشمس
والقمر لهما برنامج في انبعاث النور وما يتبعه من توقف الحياة على الأرض عليه
بشكل مستمر وفي غاية من الدقة (وهناك حركات أخرى للشمس كما يقوله
العلماء، منها الحركة حول نفسها، وحركتها مع المجموعة الشمسية).

1 - الجاثية، 13.
521

3 6 - هل يعطينا الله كل ما نطلب منه؟
قرأنا في الآيات أعلاه أن الله عز وجل لطف بكم وأعطاكم من كل ما سألتموه
(" من " في الآية تبعيضية) وذلك بسبب أن كثيرا مما يطلبه الإنسان من ربه قد
يعود عليه بالضرر والهلاك، ولكن الله حكيم وعالم ورحيم فلا يستجيب لمثل
هذه الطلبات، وفي المقابل نرى في أكثر الأحيان أن الإنسان لا يطلب شيئا
بلسانه، ولكن يتمناه بفطرته ووجدانه فيستجيب الله له، وليس هناك مانع من أن
يكون السؤال في جملة ما سألتموه شاملا للسؤال باللسان والسؤال بالفطرة
والوجدان.
3 7 - لماذا لا تحصى نعماؤه؟
نعم الله - في الحقيقة - تعم كل وجودنا، وإذا ما طالعنا الكتب المختلفة في
العلوم الطبيعية والإنسانية والنفسية وأمثالها فسوف نرى إلى أي مدى تتسع
أطراف هذه النعم، وفي الحقيقة إن لكل نفس يتنفسه الإنسان نعمتان، ولكل نعمة
شكر واجب.
وأكثر من ذلك فنحن نعلم بأن متوسط عدد الخلايا الحية في جسم الإنسان
نحو العشرة ملايين مليارد، وكل مجموعة تشكل قسما فعالا في الجسم، وهذا
العدد كبير جدا بحيث لو أردنا إحصاءه نحتاج إلى مئات السنين!
فهذا قسم من نعمه علينا، ولذلك - حقا - لا نستطيع عد نعمه، وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها.
ويوجد في دم الإنسان مجموعتان من الكريات (وهي خلايا صغيرة سابحة
في الدم ولها وظائف حياتية مهمة) ملايين من " الكريات الحمراء " وظيفتها
إيصال الأوكسجين لأجل الاحتراق وصنع خلايا الجسم، وملايين من " الكريات
البيض " وظيفتها حفظ سلامة الإنسان مقابل هجوم المكروبات، والعجيب أن
522

هذه الكريات في حالة حركة مستمرة لخدمة الإنسان.
فهل نستطيع في هذه الأحوال أن نحصي نعمه تعالى غير المتناهية؟!
3 8 - أسفا.. إن الإنسان ظلوم وكفار
توصلنا في البحوث السابقة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الله سخر للإنسان
جميع الموجودات، وهيأ له كل هذه النعم بحيث سد جميع احتياجاته، ولكن
الإنسان بسبب ابتعاده عن نور الإيمان والتربية، نراه يخطو في طريق الظلم
والطغيان ويكفر بالنعم.
ويسعى المحتكرون في احتكار النعم الإلهية الواسعة والسيطرة على منابعها
الحياتية، مع أنهم لا يستهلكون إلا الشئ القليل ويحرمون الآخرين منها، ويظهر
هذا الظلم بأشكال مختلفة من السيطرة على الشعوب الضعيفة واستعمارها
والتجاوز على حقوق الآخرين، فيعرض الإنسان حياته الهادئة إلى الهلاك، يخلق
الحروب، ويسفك الدماء، ويقضي على الأموال والأنفس.
وفي الحقيقة فان القرآن الكريم يناديه: أيها الإنسان، كل شئ بالقدر الكافي
تحت تصرفك، بشرط أن لا تكون ظلوما كفارا، عليك أن تقنع بحقك ولا تتجاوز
على حقوق الآخرين.
* * *
523

2 الآيات
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنى أن
نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن
تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36) ربنا إني
أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا
ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم
وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37) ربنا إنك تعلم ما
نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شئ في الأرض ولا في
السماء (38) الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل
وإسحق إن ربى لسميع الدعاء (39) رب اجعلني مقيم الصلاة
ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء (40) ربنا اغفر لي ولولدي
وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)
524

2 التفسير
3 دعاء إبراهيم (عليه السلام):
لما كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين الصادقين والشاكرين
لأنعم الله، عقبت هذه الآيات في بحث بعض أدعية وطلبات العبد المجاهد
والشاكر لله إبراهيم (عليه السلام) ليكون هذا البحث تكملة للبحث السابق ونموذجا حيا
للذين يريدون أن يستفيدوا من النعم الإلهية أفضل استفادة.
يقول تعالى: وإذ قال إبراهيم رب إجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن
نعبد الأصنام لأنه (عليه السلام) كان يعلم حجم البلاء الكبير الكامن في عبادة الأصنام،
ويعلم كثرة الذين ذهبوا ضحية في هذا الطريق رب إنهن أضللن كثيرا من
الناس فأي ضلال أكبر من هذا الضلال الذي يفقد الإنسان فيه حتى عقله
وحكمته.
إلهي انني أدعو إلى توحيدك، وأدعو الجميع إلى عبادتك فمن تبعني فإنه
مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم.
في الحقيقة إن إبراهيم (عليه السلام) أراد بهذه العبارة أن يقول لله تعالى: إنه حتى لو
انحرف أبنائي عن مسيرة التوحيد واتجهوا إلى عبادة الأصنام فإنهم ليسوا مني،
ولو كان غيرهم في مسيرة التوحيد فهم أبنائي وإخواني.
إن تعبير إبراهيم المؤدب والعطوف جدير بالملاحظة، فهو لم يقل: ومن
عصاني فإنه ليس مني وسأعاقبه عقابا شديدا، بل يقول: ومن عصاني فإنك
غفور رحيم.
ثم يستمر بدعائه ومناجاته ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي
زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة.
وكان ذلك عندما رزقه الله إسماعيل من جاريته " هاجر " فأثار ذلك حسد
زوجته الأولى " سارة " ولم تستطيع تحمل وجود هاجر وابنها، فطلبت من
525

إبراهيم أن يذهب بهما إلى مكان آخر، فاستجاب لها إبراهيم طبقا للأوامر الإلهية،
وجاء بإسماعيل وامه إلى صحراء مكة القاحلة، ثم ودعهم وذهب.
ولم يمض قليل من الوقت حتى عطشت الام وابنها في تلك الشمس
المحرقة، وسعت هاجر كثيرا في إنقاذ ابنها، ولكن الله تعالى أراد أن تكون تلك
الأرض قاعدة عظيمة للعبادة فأظهر عين زمزم، ولم يمض وقت حتى علمت
قبيلة " جرهم " البدوية التي كانت قريبة منهم بالأمر، فرحلوا وأقاموا عندهم،
فأخذت مكة بالتحضر شيئا فشيئا.
ثم يتابع إبراهيم (عليه السلام) دعاءه: إلهي، ان أهلي قد سكنوا في هذه الصحراء
المحرقة احتراما لبيتك المحرم: فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم
من الثمرات لعلهم يشكرون.
ومن هنا لما كان الإنسان الموحد والعارف يعلم بمحدودية علمه في مقابل
علم الله، وانه يعلم مصلحته إلا الله تعالى، فما أكثر ما يطلب شيئا من الله وليس فيه
صلاحه، أو لا يطلبه وفيه صلاحه، وأحيانا لا يستطيع أن يقوله بلسانه فيضمره
في أعماق قلبه، ولذلك يعقب على ما مضى من دعائه ويقول: ربنا إنك تعلم ما
نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شئ في الأرض ولا في السماء.
فان كنت مغتما لفراق ابني وزوجتي فأنت تعلم بذلك.. وترى دموع عيني
المنهملة. وإن كان قلبي قد ملأه هم الفراق، وامتزج بفرح العمل بالتكليف والطاعة
لأوامرك فأنت أعلم بذلك..
وعندما فارقت زوجتي وقالت لي: " إلى من تكلني " فأنت أدرى بها
وبمستقبلها ومستقبل هذه الأرض.
ثم يشير القرآن إلى شكر إبراهيم (عليه السلام) لنعمه تعالى والتي هي من أهم ما امتاز
به (عليه السلام).. شكره على منحه ولدين بارين إسماعيل وإسحاق وذلك في سن
526

الشيخوخة الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق (1) نعم إن
ربي لسميع الدعاء.
ثم يستمر بدعاءه ومناجاته أيضا فيقول: رب إجعلني مقيم الصلاة ومن
ذريتي ربنا وتقبل دعاء.
ثم يختم دعاءه هنا فيقول: ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم
الحساب.
* * *
2 بحوث
3 1 - هل كانت مكة في ذلك الوقت مدينة؟
رأينا في الآيات السابقة أن إبراهيم قال: رب إني أسكنت من ذريتي بواد
غير ذي زرع وهذه إشارة إلى أول دخوله أرض مكة والتي كانت غير مزروعة
ولا معمورة ولا ساكن فيها سوى أسس بيت الله الحرام، ومجموعة من الجبال
الجرداء.
ولكننا نعلم أنها لم تكن رحلته الوحيدة إلى مكة، بل وطأت قدمه عدة
مرات تلك الأرض، وفي الوقت نفسه كانت مكة تأخذ طابع المدينة، وسكنتها
قبيلة " جرهم " وبظهور عين زمزم أصبحت صالحة للسكن.
والمعتقد أن أدعية إبراهيم هذه كانت في إحدى رحلاته، ولذلك عبر عنها
بالبلد، أي المدينة فقال: رب اجعل هذا البلد آمنا.
وأما قوله: واد غير ذي زرع فقد تكون إشارة إلى رحلته الأولى أو

1 - هناك اختلاف بين المفسرين في سن إبراهيم عند ولادة إسماعيل وإسحاق، فمنهم من قال: كان عمره عند ولادة
إسماعيل 99 عاما وعند ولادة إسحاق 112 عام، ومنهم من يقول أكثر من ذلك وأقل، ولكن القدر المسلم به أن عمره كان
في سن يصعب أن يولد منه الأبناء.
527

إشارة إلى أرض مكة بعد أن أخذت طابع المدينة، فإنها لا زالت غير صالحة
للزراعة، لأنها من الناحية الجغرافية تقع بين جبال يابسة وقليلة المياه.
3 2 - أمان أرض مكة
من الطريف أن أول ما سأل إبراهيم من ربه في هذه الأرض هو الأمان، وهذا
يوضح أن نعمة الأمن هي من الشروط الأولى لحياة الإنسان وسكنه في منطقة
ما، فالمكان غير الآمن لا يمكن السكن فيه، حتى لو اجتمعت كل النعم الدنيوية
فيه، وفي الحقيقة أي مدينة أو بلد فاقد لنعمة الأمن سوف يفقد جميع النعم!
ولابد هنا من الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أن استجابة الله لدعاء إبراهيم
بخصوص أمن مكة له جهتان: فمن جهة منحها أمنا تكوينيا، ولذلك لم تشهد في
تاريخها إلا النزر القليل من إخلال الأمن، ومن جهة ثانية منحها الأمن التشريعي،
أي أن الله أقر أن يأمن جميع الناس - وحتى الحيوانات - في هذه الأرض. ومنع
صيد الحيوانات، وعدم متابعة المجرمين الذين يلجأون إلى حرم الكعبة،
ونستطيع - فقط - أن نمنع عليهم الغذاء لكي يخرجوا، ومن ثم تطبيق العدالة في
حقهم.
3 3 - دعاء إبراهيم لاجتناب عبادة الأصنام؟
مما لا شك فيه أن إبراهيم (عليه السلام) كان نبيا معصوما، وكذلك إبناه إسماعيل
وإسحاق كانا نبيين معصومين، لأنهما داخلان في كلمة " بني " في الآية قطعا، ومع
ذلك يدعو الله أن يجنبهم عبادة الأصنام!
وهذا دليل في التأكيد على محاربة عبادة الأصنام بحيث كان يطلب هذا
الأمر من الله حتى للأنبياء المعصومون ومحطموا الأصنام، وهذا نظير اهتمام النبي
في وصاياه لعلي - أو الأئمة الآخرين بالنسبة لأوصيائهم - في أمر الصلاة، والتي
528

لا يمكن احتمال تركها من قبلهم أبدا، بل إن الصلاة أساسا قامت ببركة سعيهم
وجهودهم.
وهنا يطرح هذا السؤال: كيف قال إبراهيم رب إنهن أظللن كثيرا من
الناس في حين أن الأصنام ليست سوى أحجارا وخشبا ولا استطاعة لهن في
إضلال الناس.
ويمكن الجواب على هذا السؤال من جهتين:
أولا: لم تكن الأصنام من الأحجار والخشب دائما، بل هناك الفراعنة وأمثال
نمرود الذين كانوا يدعون الناس لعبادتهم ويسمون أنفسهم بالرب الأعلى
والمحي والمميت.
ثانيا: وأحيانا يكون القائمون بأمر الأصنام مظهرين تعظيمها وتزيينها
بالشكل الذي تكون حقا مضلة لعوام الناس.
3 4 - من هم أتباع إبراهيم؟
قرأنا في الآيات أن إبراهيم قال: فمن تبعني فإنه مني فهل أن أتباع
إبراهيم من كان في عصره فقط، أم الذين كانوا على دينه في العصور اللاحقة، أو
يشمل كل الموحدين والمؤمنين في العالم - باعتبار إبراهيم (عليه السلام) مثالا في التوحيد
ومحطما للأصنام -؟
نستفيد من الآيات القرآنية - ومن ضمنها الآية 78 من سورة الحج - أن دعاء
إبراهيم يشمل جميع الموحدين والمجاهدين في طريق التوحيد. ويؤيد هذا
التفسير ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) أيضا: فعن الباقر (عليه السلام) قال " من أحبنا فهو منا
أهل البيت. قلت، جعلت فداك: منكم؟ قال منا والله، أما سمعت قول إبراهيم من
تبعني فإنه مني " (1).

1 - نور الثقلين ج 4 ص 548.
529

ويوضح هذا الحديث صيرورة الفرد من أهل البيت معنويا إن سار على
خطهم وتابع منهجهم.
وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: " نحن آل إبراهيم، أفترغبون عن ملة إبراهيم! وقد
قال الله تعالى: فمن تبعني فإنه مني ".
3 5 - واد غير ذي زرع والحرم الآمن
الذين سافروا إلى مكة يعلمون جيدا أنها تقع بين جبال صخرية يابسة لا ماء
فيها ولا كلأ، وكأن الصخور وضعت في أفران حارة ثم صبت في أماكنها. وفي
نفس الوقت فهي أكبر مركز للعبادة وأقدم قاعدة للتوحيد على وجه المعمورة،
وكذلك هي حرم الله الآمن.
وهنا قد يرد هذا السؤال في أذهان الكثيرين وهو: لماذا جعل الله هذا المركز
المهم في مثل هذه الأرض؟
يجيب الإمام علي (عليه السلام) على هذا السؤال من خلال أوضح العبارات وأجمل
التعابير الفلسفية خطبته القاصعة حيث يقول: " وضعه بأوعر بقاع الأرض صخرا
وأقل نتائق الدنيا مدرا... بين جبال خشنة ورمال دمثة... ولو أراد سبحانه أن يضع
بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار وسهل وقرار، جم الأشجار، داني
الثمار، ملتف البنا، متصل القوى، بين برة سمراء وروضة خضراء، وأرياف محدقة،
وعراص مغدقة ورياض ناظرة وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على
حسب ضعف البلاء، ولو كان الأساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها بين
زمردة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفف ذلك مصارعة الشك في
الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس،
ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم
بضروب المكاره، إخراجا للتكبر من قلوبهم، وإسكانا للتذلل في نفوسهم وليجعل
530

ذلك أبوابا فتحا إلى فضله، وأسبابا ذللا لعفوه " (1).
3 6 - الدعوات السبعة لإبراهيم
دعا إبراهيم (عليه السلام) في هذه الآيات سبع دعوات في مجال التوحيد والمناجاة
ومحاربة الأصنام وعبادتها ومحاربة الظالمين:
أول هذه الدعوات هو أمان مكة القاعدة العظيمة لمجتمع التوحيد (وما أعمق
مغزى هذا الطلب).
الثاني: دعاؤه في الاجتناب عن عبادة الأصنام والتي هي الأساس والقاعدة
لجميع العقائد والبرامج الدينية.
الثالث: دعاؤه في تمايل قلوب المؤمنين وارتباطهم العاطفي بالنسبة لأبنائه
والتابعين لدينه.
دعاؤه الرابع: أن يرزقهم الله من أنواع الثمرات، لتكون عنوانا للشكر
والالتفات بشكل أعمق لخالق النعم.
الدعاء الخامس: التوفيق لإقامة الصلاة والتي هي أقوى صلة بين الإنسان
وربه، ودعاؤه (عليه السلام) ليس له فقط، بل حتى لأبنائه.
دعاؤه السادس: قبول دعائه، ونحن نعلم أن الله يقبل الدعاء من مواقع
الإخلاص والقلوب الطاهرة والأرواح السامية، وفي الواقع إن هذا الطلب من
إبراهيم (عليه السلام) يحتوي ضمنا الحصول على القلب الطاهر والروح السامية.
وآخر دعائه (عليه السلام): أن يشمله الله بلطفه ورحمته فيما إذا صدر منه ذنب أو
خطيئة، وأن يرحم امه وأباه وجميع المؤمنين في يوم القيامة.
وبهذا الترتيب فإن دعواته تبدأ بالأمن وتنتهي بالعفو والغفران، ومن الطريف
أنه لم يطلبها لنفسه فقط، بل للآخرين كذلك، لأن عباد الرحمن ليسوا أنانيين!

1 - نهج البلاغة، خطبة 192 (القاصعة).
531

3 7 - هل يدعو إبراهيم لأبيه؟
مما لا شك فيه أن " آزر " كان يعبد الأصنام، وكما يشير إليه القرآن فإن
إبراهيم سعى جاهدا لأن يهديه لكن خاب سعيه، وإذا سلمنا أن آزر كان أبا
لإبراهيم، فلماذا يدعو إبراهيم أن يغفر الله له في الوقت الذي نرى أن القرآن يقول:
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولي قربى من
بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. (1)
ومن هنا يتضح أن آزر لم يكن أبا لإبراهيم، وأن كلمة أب تطلق أحيانا على
العم، وكثيرا ما يستعملها العرب كذلك، بينما (الوالد) خاصة بالأب الحقيقي والتي
جاءت في الآيات أعلاه. أما كلمة أب والتي وردت بخصوص آزر فمن الممكن
أن المراد بها العم.
ونستنتج من الآيات أعلاه ومما ورد في سورة التوبة من النهي عن
الاستغفار للمشركين أن " آزر " لم يكن أبا لإبراهيم حتما. (وللتوضيح أكثر راجع
تفسير الآية 74 من سورة الأنعام و 36 من سورة الأعراف في تفسيرنا هذا).
* * *

1 - التوبة، 113.
532

2 الآيات
ولا تحسبن الله غفلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم
تشخص فيه الأبصار (42) مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد
إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء (43) وأنذر الناس يوم يأتيهم
العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب
دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم
من زوال (44) وسكنتم في مسكن الذين ظلموا أنفسهم
وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45)
2 التفسير
3 اليوم الذي تشخص فيه الأبصار!
كان الحديث في الآيات السابقة عن يوم الحساب، وبهذه المناسبة تجسم
هذه الآيات حال الظالمين والمتجبرين في ذلك اليوم، ثم تبين المسائل المتعلقة
بالمعاد وتكمل الحديث السابق حول التوحيد وتبدأ في تهديد الظالمين: ولا
تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون.
533

وهذا في الواقع جواب لأولئك الذين يقولون: إذا كان لهذا العالم إله عادل
فلماذا يترك الظالمين وحالهم؟ هل هو غافل عنهم أم لا يستطيع أن يمنعهم وهو
يعلم بظلمهم؟
فيجيب القرآن الكريم على ذلك بأن الله ليس غافلا عنهم أبدا، لأن عدم
عقابهم مباشرة هو أن هذا العالم محل الامتحان والاختبار وتربية الناس، وهذا لا
يتم إلا في ظل الحرية، وسوف يأتي يوم حسابهم إنما يؤخرهم ليوم تشخص
فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء.
" تشخص " من مادة " الشخوص " بمعنى توقف العين عن الحركة والنظر إلى
نقطة بدهشة.
" مهطعين " من مادة " إهطاع " بمعنى رفع الرقبة، ويعتقد البعض أنها بمعنى
" السرعة " وقال آخرون: تعني " النظر بذلة وخشوع ". ولكن بالنظر إلى الجمل
الأخرى يكون المعنى الأول أقرب إلى الصحة.
" مقنعي " من مادة " الإقناع " بمعنى رفع الرأس عاليا.
ومفهوم جملة لا يرتد إليهم طرفهم لا يقدرون على أن يطرفوا من شدة
الهول، وكأن أعينهم كأعين الأموات عاطلة عن العمل!
وجملة أفئدتهم هواء بمعنى قلوبهم خالية ومضطربة بحيث ينسون كل
شئ حتى أنفسهم وفقدت قلوبهم وأنفسهم كل إدراك وعلم، وفقدوا كل قواهم.
إن بيان هذه الصفات الخمس: تشخص الأبصار، مهطعين، مقنعي رؤوسهم،
لا يرتد إليهم طرفهم، أفئدتهم هواء، صورة بليغة لهول وشدة ذلك اليوم على
الظالمين الذين كانوا يستهزئون بكل شئ، وأصبحوا في هذا اليوم لا يستطيعون
حتى تحريك أجفان أعينهم.
ولكي لا يشاهدوا هذه المناظر المفجعة ينظرون إلى الأعلى فقط، فهؤلاء
كانوا يعتقدون بكمال عقولهم ويعدون الآخرين من الحمقى، فأصبحوا اليوم
534

مدهوشين لدرجة أن نظرهم نظر المجانين. بل الأموات نظر جاف عديم الروح
وملئ بالرعب والفزع..
نعم، عندما يريد القرآن الكريم أن يصور منظرا أو يجسم موقفا يستخدم
أقصر العبارات في أكمل بيان كما في الآية أعلاه.
ولكي لا يعتقد أحد أن هذه المجازات تتعلق بمجموعة معينة، يقول تعالى
لنبيه الكريم: وأنذر الناس يوم تأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا
إلى أجل قريب حتى نستفيد من هذه الفرصة ثم نجب دعوتك ونتبع الرسل
ولكن هيهات إن ذلك محال أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال
وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا
لكم الأمثال فكل هذه الدروس لم تؤثر بكم وأدمتم ظلمكم وجوركم، والآن
وبعد أن وقعتم في يد العدالة تطلبون تمديد المدة، أي مدة؟ لقد إنتهى كل شئ!
* * *
2 بحوث
3 1 - لماذا وجه الخطاب هنا إلى الرسول الأكرم؟
مما لا شك فيه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتصور أبدا أن الله غافلا عن الظالمين، ومع
ذلك نرى الآيات أعلاه توجه خطابها إلى النبي وتقول له: ولا تحسبن الله غافلا
عما يعمل الظالمون.
إنه - في الواقع - إيصال الخطاب بشكل غير مباشر إلى الآخرين، والذي هو
أحد فنون الفصاحة، كما نقول: إياك أعني واسمعي يا جارة.
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا التعبير كناية عن التهديد، كما نقول في بعض
الأحيان للشخص المقصر " لا تعتقد أننا غافلون عن أفعالك " يعني سوف
نحاسبك على ما فعلت!
535

وعلى أي حال فأساس الحياة يقوم على إعطاء المهلة الكافية للأفراد حتى
ينفقوا مما عندهم، ولكي لا يبقى عذر لأحد تعطى المهلة الكافية قبل ساعة
الامتحان، وإعطاء المهلة الكافية للرجوع والإصلاح للجميع.
3 2 - ما هو المقصود من يوم يأتيهم العذاب؟
لقد أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينذر الناس بهذا اليوم الذي ينزل عليهم فيه العذاب
الإلهي، ولكن أي يوم هذا؟ ذكر المفسرون له ثلاث إحتمالات:
الأول: يوم القيامة.
الثاني: يوم وقوع الموت، حيث تبدأ مقدمة العذاب الإلهي للظالمين.
الثالث: المقصود هو نزول جزء من العذاب والبلاء الدنيوي، كعذاب قوم لوط
وعاد وثمود وقوم نوح وفرعون، والذي تم من خلال الطوفان أو الزلازل
والعواطف والريح وغيرها.
ومع أن كثير من المفسرين رجحوا التفسير الأول، إلا أن الآيات التي تليها
تشير إلى قوة الاحتمال الثالث، والتي توضح أن المقصود هو العقاب الدنيوي
لأننا نقرأ بعد هذه الآية ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك.
فالتعبير " أخرنا " قرينة واضحة في الطلب لاستمرار الحياة في الدنيا، لأنه لو
كان في الآخرة لقالوا: ربنا ارجعنا إلى الدنيا، كما نقرأ في الآية (27) من سورة
الأنعام ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا
ونكون من المؤمنين حيث يرد عليهم القرآن الكريم ويقول: ولو ردوا لعادوا
لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
وقد يسأل سائل: إذا كانت هذه الآية تشير إلى عذاب الدنيا، والآية ما قبلها
ولا تحسبن الله غافلا تشير إلى عذاب الآخرة، فكيف يمكن أن تتوافق هاتان
الآيتان، بالنظر إلى أن كلمة " إنما " دالة على عقابهم في الآخرة فقط وليس في
536

الدنيا.
ويتضح الجواب بملاحظة أن العقاب الأخروي الذي يشمل جميع الظالمين،
ليس له أي تبديل وتغيير، بينما الجزاء الدنيوي - بالإضافة إلى أنه غير شامل -
فهو قابل للتبديل.
ولابد من ذكر هذه النقطة أيضا وهو أن العقاب الدنيوي - كعقاب قوم نوح
وفرعون وأمثالهم - إذا حل بهم سوف تغلق أبواب التوبة كليا وليس لهم طريق
للرجوع والتوبة، لأن أغلب المذنبين عندما يرون العذاب يندمون على ما فعلوا،
وهذا الندم اضطراري وليس له أي قيمة، ولذلك يجب عليهم أن يتوبوا قبل نزول
العذاب (1).
3 3 - لماذا لا تقبل المهلة؟
نقرأ في آيات مختلفة من القرآن الكريم أن الظالمين والمذنبين في مواقف
متعددة، يطلبون الرجوع إلى الحياة لتصحيح مسيرتهم، فبعض هذه المواقف
مرتبط بيوم القيامة كما أشرنا في الآية (28) من سورة الأنعام، وبعض آخر
مرتبط بساعة الموت كما تشير إليه الآية (99) من سورة المؤمنون حتى إذا جاء
أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت والبعض الآخر
يطلب الرجوع عند نزول العذاب المهلك - كما في هذه الآية - حيث يقول
الظالمون عند رؤيتهم للعذاب ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ومن
الطريف أن الجواب في جميع هذه المواقف يكون بالنفي.
ودليله واضح، لأن أي واحد من هذه الأمنيات لا يمثل حقيقة واقعية ولا
جدية، ورجاؤهم هذا هو حالة اضطرارية تظهر حتى عند أسوأ الأشخاص،
وليست حالة دالة على التغير الذاتي والتصميم الواقعي الصادق لتصحيح مسيرة

1 - للمطالعة أكثر راجع ذيل الآية (18) من سورة النساء.
537

حياتهم، كالمشركين عندما يأخذهم الطوفان يسألون الله النجاة، وعندما ينجيهم
إلى الساحل ينكثون عهودهم كأن لم يكن يحدث شئ إطلاقا.
ولذلك يقول القرآن الكريم في بعض آياته - كما أشرنا إليه أعلاه - ولو
ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
* * *
538

2 الآيات
وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم
لتزول منه الجبال (46) فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن
الله عزيز ذو انتقام (47) يوم تبدل الأرض غير الأرض
والسماوات وبرزوا لله الوحد القهار (48) وترى المجرمين
يومئذ مقرنين في الأصفاد (49) سرابيلهم من قطران وتغشى
وجوههم النار (50) ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله
سريع الحساب (51) هذا بلغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما
هو إله وحد وليذكر أولوا الألباب (52)
2 التفسير
3 لا فائدة من مكرهم!
أشارت الآيات السابقة إلى نوع من عقاب الظالمين، وفي هذه الآيات أيضا
أشارت - أولا - إلى جزء من أفعالهم، ومن ثم إلى قسم آخر من جزائهم الشديد
وعقابهم الأليم.
539

تقول الآية الأولى: وقد مكروا مكرهم.
لقد عملوا كل ما بوسعهم من أجل طمس حقائق الإسلام، بدء من الترغيب
والتهديد وحتى الأذى ومحاولات القتل والاغتيال وبث الشائعات، ومع كل ذلك
فان الله مطلع على جميع مؤامراتهم وقد أحصى أعمالهم: وعند الله مكرهم
وعلى أي حال فلا تقلق فإنهم لا يستطيعون بمكرهم هذا أن يصيبوك بسوء حتى
وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.
" المكر " - وكما أشرنا إليه سابقا - بمعنى الاحتيال، فمرة يلازمه الفساد ومرة
أخرى لا يلازمه، وفي تفسير جملة وعند الله مكرهم رأيان:
يقول البعض ومن جملتهم العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: المراد
بكون مكرهم عند الله إحاطته تعالى به بعلمه وقدرته.
ويقول البعض الآخر، كالعلامة الطبرسي في مجمع البيان: إن المراد هو
ثبوت جزاء مكرهم عند الله تعالى (وعلى هذا التفسير يكون تقدير الآية: عند الله
جزاء مكرهم) فكلمة الجزاء محذوفة.
ومما لا شك فيه أن التفسير الأول أقرب إلى الصحة، لأنه يوافق ظاهر الآية
ولا يحتاج إلى الحذف والتقدير، وتؤيده جملة وإن كان مكرهم لتزول منه
الجبال أي إن مكرهم مهما كان قويا. ومهما كانت لديهم قدرة على المؤامرة،
فان الله أعلم بهم وأقدر عليهم وسيدمر كل ما مكروا.
ثم يتوعد الله الظالمين والمسيئين مرة أخرى من خلال مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله لأن الإخلاف يصدر من الذي ليست له
قدرة واستطاعة، ولكن: إن الله عزيز ذو انتقام.
وهذه الآية - في الواقع - مكملة للآية التي قبلها ولا تحسبن الله غافلا عما
يعمل الظالمون.
وتعني أن المهلة التي أعطيت للظالمين ليست بسبب أن الله غافل عنهم وعن
540

أعمالهم ولا مخلف لوعده، بل سينتقم منهم في اليوم المعلوم. والانتقام لا يراد به
ما كان مصحوبا بالحقد والثأر كما يستخدم عادة في أعمال البشر، بل هو الجزاء
والعقاب وإقامة العدالة بحق الظالمين، بل إنها نتيجة عمل الإنسان نفسه، ولا
حاجة إلى القول بأن الله تعالى لو لم ينتقم من الظالمين لكان ذلك خلافا لعدله
وحكمته.
ثم يضيف تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وسوف
يتجدد كل شئ بعد الدمار، ويبعث الإنسان في خلق جديد وعالم جديد يختلف
في كل شئ عن هذا العالم، في سعته، في نعيمه وعقابه وسيظهر الإنسان بكل
وجوده لله تعالى: وبرزوا لله الواحد القهار.
و " البروز " من مادة " البراز " على وزن " فراز " بمعنى الفضاء والمحل
الواسع، وغالبا ما تأتي بمعنى الظهور، لأن وجود الشئ في الفضاء الواسع بمعنى
ظهوره، وهناك آراء مختلفة للمفسرين في معنى بروز الناس لله تعالى، الكثير
يرى أنها تعني الخروج من القبر.
ويحتمل أن يكون المعنى انكشاف بواطن وظواهر جميع الناس في يوم
المحشر، كما نقرأ في الآية (16) من سورة غافر يوم هم بارزون لا يخفى على
الله منهم شئ وكذلك الآية (9) من سورة الطارق يوم تبلى السرائر وعلى
أي حال فوصفه بالقهار دليل على تسلطه على كل الأشياء وسيطرته على
ظاهرها وباطنها.
وهنا يأتي هذا السؤال، وهو: هل أن شيئا خفي على الله في هذه الدنيا لكي
يظهر في الآخرة؟ أم أن الله لا يعلم بما في القبور ولا يعلم بأسرار الناس؟
ويتضح الجواب من الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أن لنا ظاهرا وباطنا في
هذه الدنيا، وقد يشتبه على البعض - بسبب علمنا المحدود - أن الله لا يرى باطننا،
ولكن سوف يظهر كل شئ في الآخرة ولا وجود للظاهر والباطن هناك، وبعبارة
541

أخرى فالظهور بالقياس إلى علمنا وليس إلى علم الله المطلق.
وتصور الآية التالية كيفية بروزهم إلى الله فنقول: وترى المجرمين يومئذ
مقرنين في الأصفاد.
" الأصفاد " جمع " صفد " بمعنى الغل، وقال البعض هو الغل والسلاسل التي
تجمع اليد إلى العنق.
" مقرنين " من مادة " القرن والاقتران " وهي بنفس المعنى، لكن لو
استخدمت من باب التفعيل يستفاد منها التكثير، وعلى ذلك فكلمة مقرنين بمعنى
الأشخاص المتقاربين مع بعضهم البعض.
وللمفسرين ثلاث آراء حول المقصود من هذه الكلمة:
الأول: هو تقييد المجرمين بالسلاسل والأغلال بعضهم مع البعض الآخر
وظهورهم بهذه الصورة في يوم القيامة، إن هذا الغل هو عبارة عن تجسيد للروابط
العملية والفكرية بين المجرمين في هذه الدنيا، حيث كان يساعد بعضهم البعض
على الظلم والفساد، وتتجسد هذه العلاقة في الآخرة بصورة سلاسل تربطهم فيما
بينهم.
الثاني: إن المجرمين يقرنون مع الشياطين بالسلاسل في يوم القيامة بسبب
علاقتهم الباطنية معهم في هذه الدنيا.
الثالث: أن تقيد أيديهم برقابهم في الآخرة.
ولا مانع هناك من أن تجمع هذه الصفات للمجرمين، لكن المعنى الأول
الذي ذكرناه يوافق ظاهر الآية.
ثم يتطرق القرآن الكريم إلى لباسهم والذي هو أحد أفراد المجازاة الشديدة
سرابيلهم من قطران وتغش وجوههم النار.
" سرابيل " جمع (سربال) على وزن (مثقال) بمعنى القميص من أي قماش
كان، ويقول البعض بأنه كل أنواع اللباس، لكن الأول أقرب إلى المعنى.
542

" قطران " بفتح القاف وسكون الطاء أو بكسر القاف وسكون الطاء، وهي
مادة تؤخذ من شجرة الأبهل ثم تغلى فتثخن وتطلى بها الإبل عند إصابتها بمرض
الجرب، وكانوا يعتقدون أن المرض يزول بسبب وجود الحرقة في هذه المادة،
وعلى أي حال فهي مادة سوداء نتنة وقابلة للاشتغال (1).
فيكون معنى الجملة سرابيلهم من قطران أنهم يلبسون ثيابا من مادة
سوداء ونتنة وقابلة للاشتعال، حيث تمثل أسوأ الألبسة لما كانوا يعملونه في هذه
الدنيا من ارتكاب الذنوب والفواحش. وسوادها يشير إلى أن الذنوب تؤدي إلى
أن يكون الإنسان مسود الوجه أمام ربه، وتعفنها يشير إلى تلوث المجتمع بهم
ومساعدتهم على إشعال نار الفساد، وكأن القطران تجسيد لأعمالهم في الدنيا.
وتغشى وجوههم النار بسبب لباسهم الذي هو من قطران، لأنه عند
اشتعاله لا يحرق جسمهم فقط، بل يصل لهيبه إلى وجوههم. كل ذلك لأجل
ليجزي الله كل نفس ما كسبت.
ومن الطريف أنه لم يقل أن الجزاء بما كسبت أنفسهم، بل يقول: " ما كسبت "
ليكون تجسيدا حيا لأعمالهم، وهذه الآية بهذا التعبير الخاص دليل آخر على
تجسم الأشياء.
وفي الختام يقول تعالى: إن الله سريع الحساب وهذا واضح تماما لأن
كل إنسان حسابه معه!
ونقرأ في بعض الروايات: إن الله تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح
البصر. ولا ريب أن الله تعالى لا يحتاج إلى وقت لمحاسبة الأفراد، وما جاء في
الرواية أعلاه إشارة إلى أقصر الفترات. (للتوضيح أكثر راجع تفسير الآية 202
من سورة البقرة من تفسيرنا هذا).

1 - يقول فريد وجدي في دائرة المعارف في مادة (القطران) مائع ناتج من تقطير الفحم الحجري، والقطران النباتي يتم
الحصول عليه من بعض الأشجار.
543

وبما أن آيات هذه السورة - وكذلك جميع الآيات - لها جانب الدعوة إلى
التوحيد وإبلاغ الأحكام الإلهية إلى الناس وإنذارهم، يقول تعالى في آخر آية من
هذه السورة: هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا إنما هو إله واحد وليذكر
أولوا الألباب.
* * *
2 بحوث
3 1 - تبديل الأرض غير الأرض والسماوات
قرأنا في الآيات أعلاه أن في يوم القيامة تبدل الأرض غير هذه الأرض
وكذلك السماوات، فهل التبديل تبديل ذاتي، أي أن تفنى هذه الأرض وتخلق
مكانها أرض أخرى للقيامة؟ أم المقصود هو تبديل الصفات، يعني دمار ما في
الأرض والسماوات وخلق أرض وسماوات جديدة على أنقاضها؟ حيث تكون
النسبة بينهما أن الثانية أكمل من الأولى.
الظاهر في كثير من الآيات القرآنية أنها تشير إلى المعنى الثاني، ففي الآية
(21) من سورة الفجر يقول تعالى: كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وفي الآية
الأولى من سورة الزلزال يقول تعالى: إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت
الأرض أثقالها وفي الآية (15) من سورة الحاقة وحملت الأرض والجبال
فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وقوله تعالى: ويسألونك عن الجبال
فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا - لا ترى فيها عوجا ولا أمتا -
يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا
همسا، (1) وقوله تعالى: إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال
سيرت وقوله تعالى في سورة الانفطار إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب

1 - سورة طه، 105 - 108.
544

انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت.
يستفاد من مجموع هذه الآيات والآيات الأخرى التي تتحدث عن بعث
الناس من القبور، أن النظام الحالي للعالم لا يبقى بهذه الصورة التي هو عليها، ولا
يفنى فناء تاما، بل تتغير صورة العالم وتعود الأرض مسطحة مستوية ويبعث
الناس في أرض جديدة (بالطبع تكون الأرض أكثر كمالا لأن الآخرة كل ما فيها
أوسع وأكمل).
ومن الطبيعي أن عالمنا اليوم ليس له الاستعداد لتقبل مشاهد الآخرة، وهو
محدود المجال بالنسبة لحياتنا الأخروية وكما قلنا مرارا: إن نسبة عالم الآخرة
إلى عالم الدنيا كنسبة عالم الجنين في الرحم إلى الدنيا.
والآيات التي تقول: يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون دليل واضح
على هذه الحقيقة.
من الطبيعي أننا لا نستطيع أن نصور الآخرة وخصائصها بشكل دقيق - كما
هو حال الجنين في بطن امه لو افترضنا أن له عقلا كاملا، فإنه لا يستطيع أن
يتصور عالم الدنيا - إلا أننا نعلم أنه سوف يحدث تغيير عظيم لهذا العالم، حيث
يتم تدميره وتبديله بعالم جديد، ومن الطريف ما ورد في الروايات من أن
الأرض تبدل بخبزة نقية بيضاء يأكل الناس منها حتى يفرغ من الحساب.
وقد وردت هذه الروايات بطرق مختلفة في تفسير نور الثقلين، وأشار إليها
القرطبي في تفسيره كذلك.
وليس من المستبعد أن يكون المقصود من هذه الروايات أن الأرض سوف
تغطيها مادة غذائية يمكن للإنسان أن يستعملها بسهولة، ووصفها بالخبز لأنه
الأكثر احتواء لهذه المادة الغذائية.
545

3 2 - بداية وختام سورة إبراهيم
وكما رأينا فإن سورة إبراهيم ابتدأت في بيان دور القرآن الكريم في إخراج
الناس من الظلمات إلى نور العلم والتوحيد، وانتهت في بيان دور القرآن في إنذار
الناس وتعليمهم التوحيد.
إن هذه البداية والنهاية تبين هذه الحقيقة، وهو أن كل ما نحتاجه موجود في
هذا القرآن، حيث يقول الإمام علي (عليه السلام): " فيه ربيع القلوب وينابيع العلم،
فاستشفوه من أدوائكم " وهذا البيان دليل على خلاف ما يراه بعض المسلمين من
أن القرآن الكريم كتاب مقدس يقتصر وجوده في ترتب الثواب لقارئه. بل هو
كتاب شامل لجميع مراحل الحياة الإنسانية.
كتاب رشد وهداية ودستور للعمل، فهو يذكر العالم ويستلهم منه عموم
الناس.
إن مثل هذا الكتاب يجب أن يأخذ موقعه في قلوب المسلمين، ويشكل
قانونا ونظاما أساسيا في حياتهم، ويجب عليهم أن يطالعوه ويبحثوا مضامينه
بدقة في تطبيقاتهم العملية.
إن هجران القرآن الكريم واتخاذ المبادئ المنحرفة الشرقية منها والغربية،
أحد العوامل المهمة في تأخر المسلمين.
وما أروع ما قاله الإمام علي (عليه السلام) " واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من
فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى ". (1)
وما أشد مصيبتنا في غربتنا عن القرآن، ومعرفة الغرباء به!
ومن المؤلم أن تكون وسيلة السعادة في دارنا ونحن نبحث عنها في دور
الناس!
وما أعظم المصاب حين نكون إلى جانب نبع ماء الحياة، عطاشى، ظمأى،

1 - نهج البلاغة، الخطبة 176.
546

أو نهرول في الصحاري حفاة وراء السراب!
اللهم ارزقنا العقل والهداية والإيمان حتى لا نفقد وسيلة السعادة هذه، التي
هي من ثمار دماء الشهداء في سبيلك!
وألطف علينا بالجد حتى نعلم ضالتنا في هذا الكتاب العظيم ولا نمد أيدينا
إلى الآخرين.
3 3 - التوحيد هو البداية والنهاية
الفائدة الأخرى التي علمتنا إياها الآية أعلاه، هي التأكيد على التوحيد
بعنوان الحديث الأخير، وعلى اولي الألباب بعنوان التذكر الأخير.
نعم، فالتوحيد أعمق أصل إسلامي حيث تنتهي إليه جميع خطوط التربية
والتعليم في الإسلام، ويجب أن نبتدئ به وننتهي إليه لأنه العمود الفقري
للإسلام. وليس توحيد الله في العبادة فقط، بل التوحيد في الهدف، والتوحيد في
صفوف القتال، والتوحيد في البرامج العملية والتنفيذية، فكلها توضح الأركان
الأصلية للدين، وسبب وجود المشاكل الكثيرة في مجتمعاتنا الإسلامية هو
حذف التوحيد من واقعنا العملي.
ومع الأسف الشديد نلاحظ أن الدول العربية والتي هي مهد الإسلام قد
اقترنت برامجها وأهدافها بالشرك والقومية وتكالبت خلف أمجاد العروبة
وعظمة العرب وأمثال ذلك من الأهداف والغايات الوهمية، واتخذت الدول
الأخرى لها أصناما من هذا القبيل، وبذلك قطعوا أواصر التوحيد الإسلامي التي
كانت تربط في ما مضى شرق العالم وغربه، وتغربوا عن مبادئهم السماوية إلى
درجة أن الحرب والإقتتال فيما بينهم أكثر وأشد من حربهم مع أعدائهم!!
547

2 حياة النبي إبراهيم (عليه السلام)
مع أن سورة إبراهيم هي السورة الوحيدة في القرآن سميت بهذا الاسم، رأينا
من المناسب أن نفهرس حياة هذا الرجل العظيم ومحطم الأصنام في نهايتها - مع
العلم أنها لا تذكر حالات إبراهيم الأخرى التي وردت في آيات أخرى من
القرآن - لكي يكون القارئ العزيز على علم كاف بحياة هذا الرجل العظيم التي
تذكرها الآيات الأخرى إن شاء تعالى.
ونستطيع أن نقسم مراحل حياته الشريفة إلى ثلاث فترات:
1 - فترة ما قبل النبوة.
2 - فترة نبوته ومحاربته للأصنام في بابل.
3 - فترة الهجرة من بابل وتجواله في أرض مصر وفلسطين ومكة.
3 ولادته وطفولته
ولد إبراهيم (عليه السلام) في أرض " بابل " التي كانت من بلدان العالم المهمة،
وتحكمها حكومة قوية وجائرة، وفتح عينيه على العالم في الوقت الذي كان
نمرود بن كنعان الملك الجبار الظالم يحكم أرض بابل ويعتبر نفسه الرب
الأعلى (1).
بالطبع لم يكن للناس في ذلك الوقت هذا الصنم فقط، بل كانت لهم أصنام
مختلفة يعبدونها ويتقربون إليها. والدولة في ذلك الوقت كانت تدافع بقوة عن
الأصنام، لأنها الوسيلة المؤثرة في تخدير وتسخيف المجتمع، بحيث لو صدرت
أي إهانة من أحد تجاهها يعتبرونها خيانة عظمي.

1 - ذكر بعض المؤرخين أن ولادته (عليه السلام) - في مدينة (أور) التابعة لدولة بابل.
548

وقد نقل المؤرخون قصة عجيبة حول ولادة إبراهيم (عليه السلام) وخلاصتها هي:
توقع المنجمون أنه سوف يولد شخص ويحارب نمرود بكل قوة، ولذلك فقد
سعى جاهدا لأن يوقف ولادة هذا الشخص أو أن يقتله حين ولادته، إلا أنه لم
يتمكن من ذلك وولد المولود.
واستطاعت امه أن تحفظه عبر تربيته في زوايا الغار القريب من مولده،
بالشكل الذي أمضى ثلاثة عشر عاما هناك.
وفي النهاية وبعد أن ترعرع في مخفاه بعيدا عن أنظار شرطة نمرود، ووصل
إلى سن الشباب، صمم على الخروج منه والنزول إلى المجتمع ليشرح لهم دروس
التوحيد التي استلهمها من دخيلة نفسه وتأملاته الفكرية.
3 محاربته للمجاميع المختلفة من الوثنيين
وفي هذه الأثناء التي كان يعبد فيها شعب بابل - بالإضافة إلى الأصنام -
الموجودات السماوية كالشمس والقمر والنجوم، صمم إبراهيم (عليه السلام) على أن يوقظ
وجدانهم عن طريق المنطق والأدلة الواضحة، ويزيل عن فطرتهم النقية ستار
الظلمات حتى يشع في نفوسهم نور الفطرة ويسلكوا في طريق التوحيد.
وكان يتفكر في خلق السماوات والأرض حتى شع نور اليقين في قلبه [75
- الأنعام].
3 الجهاد المنطقي مع الوثنيين
واجه إبراهيم أولا عباد النجوم ووقف مع مجموعة ممن يعبدون الزهرة،
التي تظهر بعد غروب الشمس مباشرة، حيث كانوا منشغلين في عبادتها، نادى
إبراهيم - إما من باب الاستفهام الإنكاري، أو من باب التنسيق مع الطرف المقابل
بعنوان المقدمة، لإثبات اشتباههم - هذا ربي وحينما أفل قال إني لا أحب
549

الآفلين.
فلما رأى القمر بازغا وبدأ عبدة القمر مراسم دعائهم قال هذا ربي؟
فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين.
فلما رأى الشمس بازغة وقد نشرت أشعتها الذهبية على السهول
الخضراء، وبدأ عباد الشمس تضرعهم وعبادتهم لها قال إبراهيم هذا ربي هذا
أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون (1). إن هذه الآلهة دائمة الأفول
والغروب، فلا اختيار لها إطلاقا، بل هي أسيرة القوانين الطبيعية فكيف تكون
خالقه للكون؟
وأنهى (عليه السلام) هذه الفترة مع الوثنيين على أفضل صورة واستطاع أن يوقظ
جماعة منهم ويجعل مجموعة أخرى تشك في عقيدتها.
ولم يمض وقت طويل حتى شاع صيته.. هذا الشاب الذي أنار قلوب الناس
بمنطقه وبيانه البليغين!
3 الحديث مع آزر
وفي مرحلة أخرى بدأ حديثه مع عمه آزر بعبارات محكمة جدا وواضحة
مقترنة بالمحبة، وأحيانا يوبخه وينذره من مغبة عبادة الأصنام ويقول له: لماذا
تعبد شيئا لا يسمع ولا يرى ولا يغني عنك شيئا؟
فاتبعني أهدك صراطا سويا، إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن
فتكون للشيطان وليا إلا أن عمه لم يستجب له وهدده بالرجم إذا لم يرجع عن
مساره هذا، لكن إبراهيم بقلبه الواسع قال: سلام عليك سأستغفر لك ربي 47
- مريم.

1 - الأنعام، 75 - 79.
550

3 نبوة إبراهيم (عليه السلام)
ليس عندنا دليل واضح على عمر إبراهيم (عليه السلام) حينما تقلد مقام النبوة، ولكن
نستفيد من الآيات في سورة مريم، أنه أثناء محاورته لعمه كان من الأنبياء، حيث
يقول تعالى: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا.
ونعلم أن هذه الحادثة كانت قبل إلقائه في النار، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار
ما قاله بعض المؤرخين من أن عمره أثناء القائه في النار كان 16 عاما سوف
يثبت لدينا أنه تحمل أعباء الرسالة منذ صباه.
3 الجهاد العملي مع الوثنيين
على أي حال إزداد صدامه مع الوثنيين يوما بعد يوم حتى إنتهى إلى قيامه
بكسر الأصنام في معبد بابل (إلا كبيرهم) بالاستفادة من الفرصة الملائمة!
3 الحديث مع الحاكم المتجبر!
لقد وصلت هذه الأحداث إلى أسماع نمرود فأمر بإحضاره ليطفئ هذا
النور من خلال النصيحة والتهديد. وكان ماهرا في الدجل، فسأل إبراهيم: إذا
كنت لا تعبد الأصنام، فمن هو إلهك؟
قال: ربي الذي يحيي ويميت.
قال: أنا أحيي وأميت، ألا ترى أني اطلق سراح المحكوم بالإعدام، واعدم
من أريد إعدامه؟
فأجابه إبراهيم (عليه السلام) بكلام حاسم وقاطع: فإن الله يأتي بالشمس من
المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر. (1)

1 - البقرة، 258.
551

ومما لا شك فيه أن إبراهيم كان يعلم أن نمرود لا يستطيع أن يحيي الموتى،
ولكن مهارته في الدجل جعلت إبراهيم يأتيه بسؤال لا قدرة له على جوابه.
3 هجرة إبراهيم
لقد أحست حكومة نمرود الجبارة بخطر هذا الشاب على دولته وأن من
الممكن أن يسبب يقظة الشعب الرازح تحت ظلمه، وأن يحطم القيود
الاستعمارية المتسلطة على رقاب الشعب، فصمم على الإيقاع بإبراهيم من
خلال إحراقه بالنار التي أججها جهل الناس وإرهاب النظام الحاكم.
وحينما أصبحت النار بردا وسلاما بأمر من الله تعالى وخرج إبراهيم سالما
منها، أصابت نمرود وحكومته الدهشة، وفقدوا معنوياتهم لأنهم كانوا يصورون
إبراهيم على أنه شاب مغامر يريد تفرقة الناس، لكنه ظهر قائدا إلهيا وبطلا
شجاعا يستطيع أن يقارع الجبارين لوحده.
ولهذا السبب صمم نمرود وأعوانه - الذين كانوا يمتصون قوتهم من دماء
الناس البؤساء - على أن يقفوا بوجه إبراهيم بكل قواهم.
ومن جهة أخرى فإن إبراهيم قد أدى دوره في هذا المجتمع، حيث جعل
القلوب المستعدة تميل إليه وتؤمن بدعوته، ولذلك رأى من الأفضل أن يترك
أرض بابل هو والتابعون له، ولأجل نشر دعوته سافر إلى بلاد الشام وفلسطين
ومصر، واستطاع هناك أن يدعو كثيرا من الناس إلى التوحيد وعبادة الواحد
القهار.
3 المرحلة الأخيرة للرسالة
أمضى إبراهيم (عليه السلام) عمره في جهاد الوثنيين وخصوصا صنمية الإنسان،
واستطاع أن ينير قلوب المؤمنين بنور التوحيد، ويبعث فيهم روحا جديدة،
552

ويحرر مجاميع أخرى من قيود المتسلطين.
والآن يجب أن يصل إلى ذروة عبوديته لله ويبذل كل ما عنده في هذا الطريق
بإخلاص، ويصل إلى مرحلة الإمامة بقفزة روحية كبيرة من خلال الامتحانات
الإلهية الكثيرة، وفي نفس الوقت يقوم ببناء القواعد للكعبة حتى تكون أكبر
قاعدة للعبادة التوحيدية، ويدعو جميع المؤمنين لهذا المؤتمر العظيم إلى جانب
هذا البيت الكريم.
وقد أدى حسد سارة زوجته الأولى لهاجر التي كانت جارية واختارها
زوجة له وولدت له إسماعيل.. أدى إلى أن يأتي بها من فلسطين بأمر الله إلى مكة
ويتركها وابنها بين الصحاري والجبال اليابسة، بدون مأوى ولا قطرة ماء، ويعود
ثانية إلى فلسطين.
إن ظهور عين زمزم ومجئ قبيلة جرهم والسماح لها بالسكن كل ذلك أدى
لأن تعمر هذه الأرض. ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند
بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليه وارزقهم
من الثمرات لعلهم يشكرون.
ومن الطريف أن يقول بعض المؤرخين: حينما وضع إبراهيم زوجته هاجر
وابنه الرضيع إسماعيل في مكة وأراد الرجوع، نادته: يا إبراهيم، من أمرك أن
تضعنا في أرض قاحلة لا نبات فيها ولا ماء ولا إنسان؟ فأجابها بجملة قصيرة:
ربي أمرني بذلك، قالت: ما دام كذلك فإن الله لا يتركنا.
وقد سافر إبراهيم (عليه السلام) مرارا إلى مكة بقصد زيارة ابنه إسماعيل، وفي واحدة
من هذه السفرات أدى مراسم الحج، وجاء بإسماعيل الذي كان شابا قويا ومؤمنا
صادقا إلى المذبح ليفتدي به بأمر من الله وعندما لبى أمر ربه وخرج من هذا
الامتحان العظيم بأفضل صورة، قبل الله سبحانه وتعالى فديته، وحفظ له
إسماعيل، وبعث له كبشا ليفتدي به.
553

وفي النهاية وبعد أن أبلى بلاء حسنا نال كبير درجة من المقامات التي
يمكن للإنسان أن يصل إليها حيث يقول القرآن الكريم: وإذا ابتلى إبراهيم ربه
بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال من ذريتي قال لا ينال عهدي
الظالمين.
3 منزلته (عليه السلام) في القرآن
توضح الآيات القرآنية أن الله سبحانه وتعالى أعطى لإبراهيم مقاما لم يعطه
لأحد من الأنبياء من قبله، ويمكن ترتيب الآيات كما يلي:
1 - ان الله تعالى ذكره بعنوان أنه " أمة ": إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا
ولم يك من المشركين (1).
2 - مقام الخلة واتخذ الله إبراهيم خليلا. (2)
وقد جاء في بعض الروايات: (إنما إتخذ الله إبراهيم خليلا لأنه لم يرد أحدا
ولم يسأل أحدا قط غير الله تعالى) (3).
3 - وكان من المصطفين الأخيار (4)، ومن الصالحين (5)، والقانتين (6)،
والصديقين (7)، وكان أواها حليما (8)، ومن الموفين بعهدهم (9).
4 - إن إبراهيم كان محبا للضيوف، وقد ورد في بعض الروايات أنه كان

1 - النحل، 120.
2 - النساء، 125.
3 - سفينة البحار، ج 1، ص 74.
4 - سورة ص، 47.
5 - النحل، 122.
6 - النحل، 120.
7 - مريم، 41.
8 - التوبة، 114.
9 - النجم، 37.
554

يلقب ب‍ " أبي الأضياف ". (1)
5 - وكان من المتوكلين على الله، ولا يطلب حاجة إلا منه، وقد ورد في
التاريخ أنه كان معلقا بين السماء والأرض أثناء قذفه بالمنجنيق سأله جبرئيل:
هل لك حاجة؟ قال: نعم، ولكن ليست منك بل من الله! (2).
6 - وكان شجاعا مقداما حيث وقف وحيدا بوجه التعصبات الوثنية، ولم
يظهر أي خوف في مقابلتهم، كسر أصنامهم وجعلها ركاما، وتحدث مع نمرود
وأعوانه بكل شجاعة.
7 - كان لإبراهيم (عليه السلام) منطق قوي واستطاع من خلال عباراته وجمله
القصيرة المحكمة أن يبطل أقوال المضلين. ولم يثنه بأسهم عن مواصلة الطريق،
بل كان يواجه الأمور بالصبر والحلم المعبرين عن روحه الكبيرة، كما جاء في
محاجته مع نمرود ومع عمه آزر ومع القضاة أثناء محاكمته حيث قالوا له:
أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم، قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا
ينطقون لقد استطاع من خلال هذه الجملة أن يفحمهم ويسد عليهم طريق الرد
عليه، فإذا قالوا: آلهتنا لا تسمع ولا تنطق. فتبا لهذه الآلهة! وإذا قالوا: تنطق.
فلماذا لا يتكلمون؟! فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون أي قالت
لهم أنفسهم: إنكم ظالمون، وعلى أي حال كان عليهم أن يجيبوا ثم نكسوا على
رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون هكذا كان جواب إبراهيم كالصاعقة
على رؤوسهم اف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون.
وعندما رأوا أنهم لا يستطيعون مقاومة هذا المنطق الرصين قالوا حرقوه
وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين.

1 - سفينة البحار، ج 1، ص 74.
2 - الكامل لابن الأثير ج 1 - ص 99.
555

هذا نموذج من المنطق الواضح المبين والذي كان إبراهيم فيه هو الفائز.
8 - لقد عد القرآن الكريم الحنيفية الإبراهيمية واحدة من مفاخر
المسلمين (1) وأنه هو الذي سماكم بالمسلمين (2).
9 - وضع مناسك الحج بأمر من الله، ولذلك امتزج اسمه في جميع مراسيم
الحج، حيث يتذكر كل مسلم أثناء أدائه للفرائض هذه الشخصية العظيمة ويحس
بعظمة نبوته في قلبه، إن أداء فريضة الحج بدون ذكر إبراهيم تصبح خاوية
المعنى.
10 - لقد حاولت كل المذاهب أن تنسب إبراهيم لنفسها، فاليهودية
والنصرانية تؤكدان على صلتهما به بسبب شخصيته الكبيرة، ولكن القرآن الكريم
ينفي هذه الصلة حيث يقول تعالى: ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن
كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (3)
* * *
آمين رب العالمين
نهاية المجلد السابع

1 - سورة الأنبياء، 63 - 67، وسورة الحج، 78 ملة أبيكم إبراهيم.
2 - الممتحنة، 4.
3 - آل عمران، 67.
556