الكتاب: علوم القرآن
المؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: ربيع الثاني ١٤١٧
المطبعة: مؤسسة الهادي - قم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
ردمك:
ملاحظات: الطبعة الثالثة منقحة ومزيدة

مجمع الفكر الاسلامي 22
علوم القرآن
تأليف
السيد محمد باقر الحكيم
الطبعة الثالثة
منقحة ومزيدة
1

قم - ص. ب 3654 / 37185
الهاتف: 737117
الكتاب: علوم القرآن
المؤلف: آية الله السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
الطبعة: الثالثة / ربيع الثاني 1417 ه‍. ق
تنضيد الحروف: مجمع الفكر الاسلامي
الليتوغراف: نگارش - قم
المطبعة: مؤسسة الهادي - قم
الكمية: 3000 نسخة
جميع الحقوق محفوظة لمجمع الفكر الاسلامي
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

كلمة المجمع
القرآن الكريم هو الوحي الإلهي المنزل على خاتم الأنبياء محمد بن عبد
الله (صلى الله عليه وآله) لفظا ومعنى وأسلوبا والمكتوب في المصاحف والمنقول عنه بالتواتر.
وهو سند الاسلام الحي ومعجزته الخالدة التي تحدت ولا زالت تتحدى جموع
البشرية على مر القرون. وهو دستور الاسلام الجامع لكافة مبادئ الحياة
الانسانية تجاوبا مع الفطرة وانبثاقا من صميم الانسانية.
وللقرآن الكريم هيمنته الخارقة على نفوس بشرية أبت الرضوخ لغير الحق
فاستسلمت لقيادته الحكيمة، فأقبلت على دراسته بشوق وشغف وتقديس.
وكان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو النمير العذب للعلوم الاسلامية فأحاط به
أصحابه الاجلاء يقبسون منه سناء العلم ويستضيئون بهداه. وكان أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب (عليه السلام) الرجل الأول الذي أحرز قصب السبق في مضمار تدوين
القرآن وتفسيره وبيان علومه وقد برع في هذا المجال حتى روي عنه انه أملى ستين
نوعا من أنواع علوم القرآن، وذكر لكل نوع مثالا يخصه.
وكان للأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم أبلغ الاهتمام بالقرآن العظيم
وعلومه بعد أن كان القرآن يمثل الهدى الإلهي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه. وبعد أن كان القرآن بحق هو المفجر للعلوم البشرية بل هو عماد
العلوم الاسلامية وأساسها.
واستمر العلماء في اغناء المكتبة الاسلامية طيلة القرون الأربعة عشر الماضية
5

بصنوف المؤلفات والابحاث التي تدور حول القرآن الكريم الذي يمد البشرية
بأنوار الهداية والرشاد ويدلهم على الطريق المستقيم والحياة الحرة الكريمة.
ومن جملة ما الف للتعرف على علوم القرآن الكريم وحاز قصب السبق في
عصرنا الحاضر هو كتاب (علوم القرآن) الذي كتب شطرا منه آية الله العظمى
الشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه ثم أكمله تلميذه البارع والأستاذ المحقق آية
الله السيد محمد باقر الحكيم دام ظله. وقد روعي فيه العمق ووضوح العرض
والمنهجية في الطرح والحداثة التي نجدها في أكثر ما قدمه الشهيد الصدر من بحوث
وأفكار ورؤى، مع مراعاة المستوى العلمي لطلاب الجامعات والاهتمام
بالموضوعات ذات العلاقة بالنهضة الثقافية الاسلامية المعاصرة وحركة الأمة
الاسلامية نحو التجديد في تطبيق الاسلام النقي المستنبط من القرآن الكريم والسنة
النبوية المطهرة.
وقد أعاد النظر سيدنا المؤلف في هذه الطبعة الثالثة للكتاب وأضاف إليه
موضوعات مهمة بلغت حوالي ثلث الكتاب حجما مع التصحيح والتنقيح وإعادة
الترتيب بالشكل الذي يتناسب مع المناهج الدراسية المطلوبة في الحوزات العلمية
والجامعات الاسلامية.
ونحن إذ نشكر للمؤلف جهوده ونبارك له خطاه، نسأله تعالى أن يتغمد شهيدنا
الصدر برحمة منه ورضوان ويمن علينا بالسير على خطاه في الاهتمام بعمق
الدراسات الاسلامية وأصالتها وتميزها بالتجديد والابداع وتلبية حاجات العصر.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
مجمع الفكر الاسلامي
6

مقدمة الطبعة الثالثة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على نبيه سيد المرسلين محمد، وعلى آله الطيبين
الطاهرين، وأصحابه المنتجبين. اللهم اهدنا بالقرآن، ووفقنا لفهمه وتدبره والعمل
به، وثبتنا على هداه، وأعنا على تحمل أعبائه وابلاغه (... ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا
أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا
طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) (1)
وبعد...
هذه محاضرات كنت قد وفقت لالقائها على طلبة كلية أصول الدين في بغداد
منذ بداية تأسيسها في عام 1384 ه‍ (1964 م)، وكان قد كتب الجزء الأول منها
- وهو ما يخص طلبة الصف الأول وبداية الصف الثاني - سيدنا آية الله العظمى
الشهيد الصدر رضوان الله عليه، وقد راعى هذا التدوين المستوى العلمي البسيط
لهذه المرحلة، ولكن مع ذلك جاءت هذه الكتابة مشتملة على لفتات علمية
وابتكارات نظرية في هذا العلم الشريف.
وقد أكملت المنهج للسنوات الأخرى، حيث كنت أواكب في التدوين مسيرة
التدريس. وقد حاولت الاستفادة فيها مما دونه أو ذكره أعاظم العلماء في هذا الفن

(1) البقرة: 286.
7

أو بعض الباحثين الذين كانت له ممارسات في هذا المجال، مراعيا في ذلك النقاط
التالية:
1 - غزارة المادة وعمقها.
2 - وضوح العرض ومنهجيته والتركيز على النقاط المهمة والأساسية.
3 - طرح الأفكار الصحيحة والأصيلة وتهذيبها.
4 - مراعاة المستوى العلمي المطلوب لطلاب الكليات المختصة، وللأوساط
العلمية في الحوزات والمدارس الدينية التقليدية على مستوى مرحلة (المقدمات)
و (السطح الاولي).
5 - الاهتمام بالموضوعات ذات العلاقة بالنهضة الثقافية الاسلامية المعاصرة
وحركة الأمة نحو التجديد في التطبيق مع التمسك بالاسلام الأصيل النقي المستنبط
من الكتاب الكريم والسنة النبوية.
6 - الالتزام بالمنهج العلمي الذي يتسم بالاحترام والدقة الموضوعية في
القضايا ذات الطابع المذهبي والابتعاد عن إثارة المشاعر والحساسيات المذهبية
أو الطائفية وبالشكل الذي لا يضر ببيان الحقائق العلمية.
وقد كانت الظروف الموضوعية السياسية والاجتماعية الخاصة والعامة - عند
كتابة هذه المحاضرات - لا تسمح لي بأن أعطي الوقت الكثير لهذه الأوراق، ولذا
تم اعدادها في البداية بسرعة وفي وقت محدود، الامر الذي جعل توثيق المصادر
بالطريقة الفنية أمرا عسيرا خصوصا فيما كتبه أستاذنا الشهيد الصدر رضوان الله
عليه وان هذه الكتابة لم تعد للنشر.
ولكن قامت كلية أصول الدين في البداية بنشرها من خلال مجلتها (رسالة
الاسلام) في مجموعة من أعدادها وبشكل تدريجي، فكان هذا النشر يمثل (الطبعة
الأولى) لهذه المحاضرات.
8

وبالرغم من أني كنت قد أدخلت الكثير من التعديلات والملاحظات عليها
من خلال تكرار تدريسها في الكلية المذكورة، وطبعت هذه الملاحظات في
(الملازم) الخاصة بالطلبة، إلا أنها لم تأخذ طريقها إلى (المجلة).
ولم تتم لي في حينه مراجعة (المجلة) عند الطبع، فجاءت هذه الطبعة - بالرغم
من فائدتها والعمل المشكور الذي قامت به المجلة - مليئة بالاخطاء وأحيانا
سقوط بعض الفقرات فضلا عن الجوانب الفنية الأخرى.
ثم قام المجمع العلمي الاسلامي الذي يشرف عليه سماحة العلامة السيد مرتضى
العسكري مؤسس وعميد كلية أصول الدين سابقا، بطبع هذه المحاضرات مرة
أخرى على شكل كتاب، حيث تم استنساخه وتصويره على أساس أوراق المجلة
آنفة الذكر مع ايجاد تطوير لها في جانبين:
أحدهما: هو تقديم وتأخير بعض الموضوعات بافتراض ان ذلك أكثر
انسجاما مع المنهج التدريسي، ومن اهتمامات المجمع هو اعداد وطبع الكتب
الدراسية للحوزات والمدارس الدينية.
والاخر: وضع فهارس جيدة في آخر الكتاب للآيات والأحاديث والاعلام
والأمكنة والشعوب والنحل والكتب وغيرها.
وباعتبار أن السادة الأفاضل في المجمع كان هدفهم تقديم الخدمات المجانية
بقصد كسب مرضاة الله تعالى وهو هدف مشترك، كما أن هذه المحاضرات لهم حق
الاشتراك فيها فقد قاموا بطبعها بدون مراجعتي، ولعله مراعاة لظروفي الخاصة
التي لم تكن تسمح لي - بسهولة - مراجعة الكتاب، أو اعطاء النظر فيه مرة
أخرى. فجاءت (الطبعة الثانية) مفيدة ونافعة ولكنها ناقصة.
وقد طلب مني بعض الاخوة الأعزاء، ومنهم الاخوة في مجمع الفكر
الاسلامي... طبعها مرة أخرى، وكنت أطلب منهم تأجيل ذلك حتى تسمح لي
9

الفرصة بإعادة النظر في هذه المحاضرات علما بأن الملاحظات السابقة قد افتقدتها
بسبب ظروف الهجرة والمطاردة ومصادرة الكتب وجميع الممتلكات من قبل
سلطات البعث العفلقي، حتى تمكنت أخيرا - والحمد لله - باقتطاف فرصة قصيرة
ومحدودة وعلى السرعة من إعادة النظر فيها، فأدخلت فيها - مع مراعاة النقاط
المذكورة آنفا في أصل الاعداد - التعديلات التالية:
أولا: تم تنقيح الكتاب على مستوى التصحيح والتوضيح بالنسبة إلى مجموع
المحاضرات، وإضافة بعض النقاط أو حذفها بالنسبة إلى القسم الذي كنت قد
دونته.
ثانيا: إضافة بعض الموضوعات المهمة أو تكميلها مثل موضوع (نزول القرآن
باللغة العربية) و (الهدف من نزول القرآن) و (التفسير بالرأي) و (مرجعية أهل
البيت (عليهم السلام) الفكرية) و (التفسير عند أهل البيت (عليهم السلام)) وبعض الموضوعات
ذات العلاقة بالقصص القرآني، والفصل الثاني من خلافة الانسان وغيرها من
الإضافات المهمة.
ثالثا: تمت إعادة ترتيب الكتاب مرة أخرى بالشكل الذي يتناسب مع التدرج
في الموضوعات والمستوى العلمي لها. وقد قسمت الكتاب إلى أربعة اقسام:
يتناول القسم الأول موضوعات عامة حول القرآن.
والقسم الثاني يتناول أبحاثا حول بعض الموضوعات القرآنية كالمحكم
والمتشابه والنسخ، وكذلك معالجة بعض الشبهات المهمة التي أثيرت حول القرآن
الكريم.
والقسم الثالث تناول موضوع (التفسير والمفسرون) كأبحاث معنى التفسير
والتأويل وشروط المفسر والتفسير بالرأي وتأريخ التفسير والتفسير عند أهل
البيت (عليهم السلام).
10

والقسم الرابع تناول موضوع التفسير الموضوعي، حيث عرفناه، وبينا أهميته
وميزته الرئيسة، ثم تناولنا ثلاثة موضوعات بالبحث وهي: القصص القرآني،
والحروف المقطعة في أوائل بعض السور القرآنية، وخلافة الانسان.
وقد لوحظ في إعادة الترتيب والتقسيم المستوى العلمي المتدرج، بحيث
يتطابق مع تطور الدرس عند الطالب.
رابعا: لاحظنا في كتابة البحث ان يكون العرض مدرسيا، ولذا استخدمنا
التقسيم إلى نقاط ومقاطع وفصول تسهيلا للدارسين.
خامسا: حاولنا - بقدر الامكان - الاحتفاظ بكتابة استاذنا الشهيد الصدر
رضوان الله عليه إلا بقدر محدود من التوضيح والتعديل مع الإشارة إلى نسبة
الكتابة إليه في الهامش، ويمكن الرجوع لمعرفة النص الدقيق لما كتبه إلى الطبعة
الأولى والثانية.
وختاما أسأله تعالى أن يجعل هذا الكتاب نافعا للاخوة المطالعين والدارسين،
وأن يتفضل علي بالقبول ويصلح لنا نياتنا وأعمالنا، ويجعله ذخيرة لنا في الآخرة
ويوفق المسلمين للمزيد من الاهتمام بالقرآن والعمل به ويحقق النصر لهم على
أعدائهم.
والحمد لله رب العالمين.
محمد باقر الحكيم
15 جمادى الثانية 1414 ه‍
11

مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد
وآله الطاهرين.
وبعد فان كلية أصول الدين ببغداد كانت قد قدمت مناهج علوم القرآن إلى
سماحة آية الله العظمى الشهيد الصدر رضوان الله عليه ليكتب موضوعاتها ثم
يلقيها على الطلبة أستاذ علوم القرآن فيها حجة الاسلام السيد محمد باقر الحكيم،
فكتب بعضها هو (قدس سره) وأتم تأليف الباقي السيد الحكيم، وكانت مجلة الكلية " مجلة
رسالة الاسلام " تنشر تلك البحوث في اعدادها. ولما رأينا ضرورة تدريس تلك
البحوث في السنوات الأربع الأولى من الدراسات الحوزوية، طبعنا تلك البحوث
ب‍ (الافست) من " مجلة رسالة الاسلام " ونشرناها في ما يلي، راجين من
الأساتذة الكرام أن يوافونا بملاحظاتهم القيمة لننتفع بها في الطبعات القادمة إن شاء الله
تعالى.
لجنة تنظيم الكتب الدراسية
لطلاب العلوم الاسلامية
المجمع العلمي الاسلامي
12

بسم الله الرحمن الرحيم
(ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات
أن لهم اجرا كبيرا) (1).
(وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من
دون الله ان كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس
والحجارة أعدت للكافرين * وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ان لهم جنات
تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل
واتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) (2).

(1) الاسراء: 9.
(2) البقرة: 23 - 25.
13

القسم الأول
موضوعات عامة حول القرآن
تمهيد
نزول القرآن الكريم
أسباب النزول
الهدف من نزول القرآن
المكي والمدني
ثبوت النص القرآني
15

تمهيد
القرآن وأسماؤه (1)
القرآن الكريم هو الكلام المعجز المنزل وحيا على النبي (صلى الله عليه وآله) المكتوب في
المصاحف، المنقول عنه بالتواتر المتعبد بتلاوته. وقد اختار الله تعالى لهذا الكلام
المعجز الذي أوحاه إلى نبيه أسماء مخالفة لما سمى العرب به كلامهم جملة وتفصيلا.
فسماه الكتاب قال تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (2).
وسماه القرآن: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي
بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) (3).
والاهتمام بوضع أسماء محددة ومصطلحات جديدة للقرآن الكريم، يتمشى مع
خط عريض سار عليه الاسلام، وهو تحديد طريقة جديدة للتعبير عما جاء به من
مفاهيم وأشياء.
وتفضيل ايجاد مصطلحات تتفق مع روحه العامة على استعمال الكلمات
الشائعة في الأعراف الجاهلية وذلك لسببين:
أحدهما: أن الكلمات الشائعة في الأعراف الجاهلية من الصعب أن تؤدي
المعنى الاسلامي بأمانة، لأنها كانت وليدة التفكير الجاهلي وحاجاته، فلا تصلح

(1) كتبه الشهيد الصدر: 1 - 6.
(2) البقرة: 2.
(3) يونس: 37.
17

للتعبير عما جاء به الاسلام، من مفاهيم وأشياء لا تمت إلى ذلك التفكير بصلة.
والاخر: أن تكوين مصطلحات وأسماء محددة يتميز بها الاسلام، سوف
يساعد على ايجاد طابع خاص به، وعلامات فارقة بين الثقافة الاسلامية وغيرها
من الثقافات.
وفي تسمية الكلام الإلهي ب‍ " الكتاب " إشارة إلى الترابط بين مضامينه
ووحدتها في الهدف والاتجاه، بالنحو الذي يجعل منها كتابا واحدا.
ومن ناحية أخرى يشير هذا الاسم إلى جمع الكلام الكريم في السطور، لان
الكتابة جمع للحروف ورسم للألفاظ.
وأما تسميته ب‍ " القرآن " فهي تشير إلى حفظه في الصدور نتيجة لكثرة
قراءته، وترداده على الألسن، لان القرآن مصدر القراءة، وفي القراءة استكثار
واستظهار للنص.
فالكلام الإلهي الكريم له ميزة الكتابة والحفظ معا، ولم يكتف في صيانته
وضمانه بالكتابة فقط، ولا الحفظ والقراءة فقط لهذا كان كتابا وقرآنا.
ومن أسماء القرآن أيضا (الفرقان).
قال تعالى:
(نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل
هدى للناس وأنزل الفرقان...) (1).
(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) (2).
ومادة هذا اللفظ تفيد معنى التفرقة، فكأن التسمية تشير إلى أن القرآن هو
الذي يفرق بين الحق والباطل، باعتباره المقياس الإلهي للحقيقة في كل ما يتعرض

(1) آل عمران: 3، 4.
(2) الفرقان: 1
18

له من موضوعات.
ومن أسمائه أيضا " الذكر ".
قال تعالى:
(... وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (1).
(وهذا ذكر مبارك أنزلناه...) (2).
ومعناه الشرف، ومنه قوله تعالى:
(لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم...) (3).
وهناك ألفاظ عديدة أطلقت على القرآن الكريم على سبيل الوصف لا
التسمية، كالمجيد، والعزيز، والعلي، في قوله تعالى:
(بل هو قرآن مجيد) (4).
(... وانه لكتاب عزيز) (5).
(وانه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) (6).
علوم القرآن:
وعلوم القرآن هي: جميع المعلومات، والبحوث التي تتعلق بالقرآن الكريم،

(1) النحل: 44
(2) الأنبياء: 50.
(3) الأنبياء: 10. الظاهر من استعمالات الذكر في القرآن انه يراد منه الوحي الإلهي أو
التذكير - المؤلف.
(4) البروج: 21.
(5) فصلت: 41.
(6) الزخرف: 4.
19

وتختلف هذه العلوم في الناحية التي تتناولها من الكتاب الكريم.
فالقرآن له اعتبارات متعددة، وهو بكل واحدة من تلك الاعتبارات موضوع
لبحث خاص.
وأهم تلك الاعتبارات، القرآن بوصفه كلاما دالا على معنى، والقرآن بهذا
الوصف، موضوع لعلم التفسير.
فعلم التفسير يشتمل على دراسة القرآن باعتباره كلاما ذا معنى، فيشرح
معانيه، ويفصل القول في مدلولاته، ومقاصده.
ولأجل ذلك كان علم التفسير من أهم علوم القرآن وأساسها جميعا.
وقد يعتبر القرآن بوصفه مصدرا من مصادر التشريع، وبهذا الاعتبار يكون
موضوعا لعلم آيات الاحكام، وهو علم يختص بآيات الاحكام من القرآن،
ويدرس نوع الاحكام التي يمكن استخراجها بعد المقارنة لجميع الأدلة الشرعية
الأخرى من سنة، واجماع، وعقل.
وقد يؤخذ القرآن بوصفه دليلا لنبوة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فيكون موضوعا لعلم
اعجاز القرآن، وهو علم يشرح: أن الكتاب الكريم وحي الهي ويستدل على
ذلك بالصفات والخصائص التي تميزه عن الكلام البشري.
وقد يؤخذ القرآن باعتباره نصا عربيا جاريا وفق اللغة العربية فيكون
موضوعا لعلم اعراب القرآن، وعلم البلاغة القرآنية، وهما علمان يشرحان مجئ
النص القرآني وفق قواعد اللغة العربية في النحو والبلاغة.
وقد يؤخذ القرآن بوصفه مرتبطا بوقائع معينة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) فيكون
موضوعا لعلم أسباب النزول.
وقد يؤخذ القرآن باعتبار لفظه المكتوب، فيكون موضوعا لعلم رسم القرآن،
وهو علم يبحث في رسم القرآن، وطريقة كتابته.
20

وقد يعتبر بما هو كلام مقروء، فيكون موضوعا لعلم القراءة، وهو علم يبحث
في ضبط حروف الكلمات القرآنية وحركاتها، وطريقة قراءتها إلى غير ذلك من
البحوث التي تتعلق بالقرآن.
و (علوم القرآن) جميعا تلتقي وتشترك في اتخاذها القرآن موضوعا لدراستها،
وتختلف في الناحية الملحوظة فيها من القرآن الكريم.
تأريخ علوم القرآن:
كان الناس على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) يسمعون إلى القرآن، ويفهمونه بذوقهم العربي
الخالص، ويرجعون إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) في توضيح ما يشكل عليهم فهمه، أو ما
يحتاجون فيه إلى شئ من التفصيل والتوسع.
فكانت علوم القرآن تؤخذ وتروى عادة بالتلقين والمشافهة، حتى مضت
سنون على وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وتوسعت الفتوحات الاسلامية وبدرت بوادر تدعو
إلى الخوف على علوم القرآن، والشعور بعدم كفاية التلقي عن طريق التلقين
والمشافهة، نظرا إلى بعد العهد بالنبي نسبيا واختلاط العرب بشعوب أخرى، لها
لغاتها وطريقتها في التكلم والتفكير، فبدأت لأجل ذلك حركة، في صفوف
المسلمين الواعين لضبط علوم القرآن ووضع الضمانات اللازمة لوقايته وصيانته
من التحريف.
وقد سبق الإمام علي (عليه السلام) غيره في الاحساس بضرورة اتخاذ هذه الضمانات،
فانصرف عقيب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة إلى جمع القرآن.
ففي " الفهرست " لابن نديم (1)، أن عليا (عليه السلام) حين رأى من الناس عند وفاة
النبي ما رأى أقسم أنه لا يضع عن عاتقه رداءه حتى يجمع القرآن، فجلس في بيته

(1) كتاب الفهرست لابن النديم: 30 بتصرف. طبعة طهران.
21

ثلاثة أيام، حتى جمع القرآن، وسيأتي البحث عن ذلك في البحث عن جمع القرآن.
وما نقصده الان من ذلك، أن الخوف على سلامة القرآن والتفكير في وضع
الضمانات اللازمة، بدأ في ذهن الواعين من المسلمين، عقيب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)،
وأدى إلى القيام بمختلف النشاطات، وكان من نتيجة ذلك (علوم القرآن)، وما
استلزمته من بحوث وأعمال.
وهكذا كانت بدايات علوم القرآن، وأسسها الأولى على يد الصحابة والطليعة
من المسلمين في الصدر الأول الذين أدركوا النتائج المترتبة للبعد الزمني عن عهد
النبي (صلى الله عليه وآله) والاختلاط مع مختلف الشعوب.
فأساس علم إعراب القرآن وضع تحت اشراف الإمام علي (عليه السلام)، إذ أمر بذلك
أبا الأسود الدؤلي وتلميذه يحيى بن يعمر العدواني رائدي هذا العلم والواضعين
لأساسه، فان أبا الأسود هو: أول من وضع نقط المصحف، وتروى قصة في هذا
الموضوع، تشير إلى شدة غيرته، على لغة القرآن، فقد سمع قارئا يقرأ قوله تعالى:
(... ان الله برئ من المشركين ورسوله...) بجر اللام من كلمة (رسوله) فأفزع
هذا اللحن أبا الأسود الدؤلي وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، فعزم على
وضع علامات معينة تصون الناس في قراءتهم من الخطأ، وانتهى به اجتهاده إلى
أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله،
وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين (1).
الحث على التدبر في القرآن:
وقد ورد الحث الشديد في الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة على تدارس
القرآن والتدبر في معانيه، والتفكر في مقاصده وأهدافه.

(1) سير أعلام النبلاء 4: 81 - 83 للذهبي.
22

قال تعالى:
(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (1).
وفي هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على عدم اعطاء القرآن حقه من العناية
والتدبر.
وفي حديث عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " اعربوا القرآن والتمسوا
غرائبه " (2).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: " حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنهم
كانوا يأخذون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر آيات فلا يأخذون العشر الأخرى حتى
يعلموا ما في هذه من العلم والعمل " (3).
وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) انه ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم، فقال له
رجل: جعلت فداك، تصف جابرا بالعلم وأنت أنت. فقال: إنه كان يعرف تفسير
قوله تعالى: (ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد...) (4).
ولعل أروع ما قيل في هذا المجال كلام الإمام علي (عليه السلام) قال: " واعلموا ان هذا
القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا
يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في
هدى، أو نقصان من عمى.
واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لاحد قبل القرآن من غنى
فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم، فان فيه شفاء من أكبر الداء
وهو الكفر والنفاق والغي والضلال، فاسألوا الله به وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا

(1) محمد: 24.
(2) و (3) بحار الأنوار 92: 106.
(4) قريب منه في تفسير القمي 2: 147 (القصص: 85).
23

به خلقه أنه ما توجه العباد إلى الله تعالى بمثله... فإنه ينادي مناد يوم القيامة:
" الا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن " فكونوا من
حرثته واتباعه واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه
آزاءكم واستغشوا فيه أهواءكم... " (1).
وعن علي أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا
لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه " (2).
وعن الزهري قال سمعت علي بن الحسن (عليه السلام) يقول: " آيات القرآن خزائن
العلم، فكلما فتحت خزائنه فينبغي لك أن تنظر فيها " (3).
والأحاديث في فضل التدبر في القرآن ودفع المسلمين نحو ذلك كثيرة، وقد ذكر
شيخنا المجلسي طائفة كبيرة من هذه الأحاديث (4).
ومن الطبيعي أن يتخذ الاسلام هذا الموقف، ويدفع المسلمين بكل ما يملك من
وسائل الترغيب إلى دراسة القرآن والتدبر فيه، لان القرآن هو الدليل الخالد على
النبوة، والدستور الثابت من السماء للأمة الاسلامية في مختلف شؤون حياتها،
وكتاب الهداية البشرية الذي اخرج العالم من الظلمات إلى النور، وأنشأ أمة،
وأعطاها العقيدة، وامدها بالقوة، وأنشأها على مكارم الأخلاق، وبنى لها أعظم
حضارة عرفها الانسان إلى يومنا هذا.

(1) نهج البلاغة. د. صبحي الصالح - الخطبة: 176.
(2) بحار الأنوار 92: 211.
(3) المصدر السابق: 216.
(4) بحار الأنوار: الجزء 92، طبعة دار احياء التراث العربي.
24

نزول القرآن الكريم (1)
نزول القرآن عن طريق الوحي:
تلقى النبي (صلى الله عليه وآله) القرآن الكريم عن طريق الوحي، ونظرا إلى أنه (صلى الله عليه وآله) كان
يتلقى الوحي الإلهي من جهة عليا معنوية وهي الله سبحانه يقال عادة: إن القرآن
نزل عليه، للإشارة باستعمال لفظ النزول إلى علو الجهة التي اتصل بها النبي عن
طريق الوحي وتلقى عنها القرآن الكريم.
والوحي لغة هو: (الاعلام في خفاء)، اي الطريقة الخفية في
الاعلام، وقد اطلق هذا اللفظ (الوحي) على الطريقة الخاصة التي يتصل
بها الله تعالى برسوله، نظرا إلى خفائها ودقتها وعدم تمكن الآخرين من
الاحساس بها.
ولم يكن الوحي هو الطريقة التي تلقى بها خاتم الأنبياء وحده كلمات الله، بل
هو الطريقة العامة لاتصال الأنبياء بالله، وتلقيهم الكتب السماوية منه تعالى، كما
حدث الله بذلك رسوله في قوله عز وجل: (انا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح
والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى
وأيوب ويونس وهارون وسليمان...) (2).

(1) كتب هذا البحث آية الله الشهيد الصدر (قدس سره).
(2) النساء: 163.
25

صور الوحي:
ويبدو من القرآن الكريم أن الوحي هذا الاتصال الغيبي الخفي بين الله
وأصفيائه له صور ثلاث:
الأولى: القاء المعنى في قلب النبي أو نفثه في روعه بصورة يحس بأنه تلقاه من
الله تعالى.
والثانية: تكليم النبي من وراء حجاب، كما نادى الله موسى من وراء
الشجرة (1) وسمع نداءه.
والثالثة: هي التي متى أطلقت انصرفت إلى ما يفهمه المتدين عادة من
لفظة الايحاء حين يلقي ملك الوحي المرسل من الله إلى نبي من الأنبياء
ما كلف القاؤه إليه، سواء انزل عليه في صورة رجل أم في صورته الملكية،
وقد أشير إلى هذه الصور الثلاث في قوله تعالى: (وما كان لبشر ان يكلمه
الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء انه علي
حكيم) (2).
وتدل الروايات على أن الوحي الذي تلقى عن طريقه الرسالة الخاتمة
وآيات القرآن المجيد كان بتوسيط الملك في كثير من الأحيان، وبمخاطبة الله
لعبده ورسوله من دون واسطة في بعض الأحيان، وكان لهذه الصورة من الوحي
التي يستمع فيها النبي إلى خطاب الله من دون واسطة أثرها الكبير عليه، ففي
الحديث أن الإمام الصادق سئل عن الغشية التي كانت تأخذ النبي أكانت عند
هبوط جبرئيل فقال: لا وانما ذلك عند مخاطبة الله عز وجل إياه بغير ترجمان
وواسطة.

(1) المقصود من وراء الشجرة، أن الكلام سمع من الشجرة وما حولها.
(2) الشورى: 51.
26

نزول القرآن الكريم على النبي (صلى الله عليه وآله) مرتين (1):
في رأي عدد من العلماء أن القرآن الكريم نزل على النبي مرتين، إحداهما: نزل
فيها جملة واحدة على سبيل الاجمال، والاخرى: نزل فيها تدريجا على سبيل
التفصيل خلال المدة التي قضاها النبي في أمته منذ بعثته إلى وفاته.
ومعنى نزوله على سبيل الاجمال: هو نزول المعارف الإلهية التي يشتمل
عليها القرآن وأسراره الكبرى على قلب النبي لكي تمتلئ روحه بنور المعرفة
القرآنية.
ومعنى نزوله على سبيل التفصيل هو نزوله بألفاظه المحددة وآياته المتعاقبة
والتي كانت في بعض الأحيان ترتبط بالحوادث والوقائع وفي زمن الرسالة بدون
كذلك مواكبة تطورها.
وكان انزاله على سبيل الاجمال مرة واحدة، لان الهدف منه تنوير النبي
وتثقيف الله له بالرسالة التي أعده لحملها.
وكان انزاله على سبيل التفصيل تدريجا، لأنه يستهدف تربية الأمة وتنويرها
وترويضها على الرسالة الجديدة، وكذلك تثبيت النبي في مواقفه وتسديده فيها،
وهذا يحتاج إلى التدرج.
وعلى ضوء هذه النظرية في تعدد نزول القرآن يمكننا أن نفهم الآيات الكريمة
الدالة على نزول القرآن بجملته في شهر رمضان، أو انزاله في ليلة القدر بصورة
خاصة نحو قوله تعالى: (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من
الهدى والفرقان...) (2) وقوله: (انا أنزلناه في ليلة القدر) (3) وقوله: (انا أنزلناه

(1) كتبه الشهيد الصدر (قدس سره).
(2) البقرة: 185.
(3) القدر: 1.
27

في ليلة مباركة انا كنا منذرين) (1) فان الانزال الذي تتحدث عنه هذه الآيات
ليس هو التنزيل التدريجي الذي طال أكثر من عقدين، وانما هو الانزال مرة
واحدة على سبيل الاجمال.
كما أن فكرة تعدد الانزال بالصورة التي شرحناها تفسر لنا أيضا المرحلتين
اللتين أشار إليهما القرآن الكريم في قوله تعالى: (... كتاب احكمت آياته ثم فصلت
من لدن حكيم خبير) (2) فان هذا القول يشير إلى مرحلتين في وجود القرآن،
اولاهما: إحكام الآيات، والثانية: تفصيلها وهو ينسجم مع فكرة تعدد الانزال
فيكون الانزال مرة واحدة على سبيل الاجمال هي مرحلة الاحكام، والانزال
على سبيل التفصيل تدريجا هي المرحلة الثانية اي مرحلة التفصيل.
التدرج في التنزيل (3):
استمر التنزيل التدريجي للقرآن الكريم طيلة ثلاث وعشرين سنة، وهي المدة
التي قضاها النبي (صلى الله عليه وآله) في أمته منذ بعثته إلى وفاته، فقد بعث (صلى الله عليه وآله) لأربعين سنة
من ولادته، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم هاجر إلى المدينة وظل
فيها عشر سنين، والقرآن يتعاقب ويتواتر عليه حتى مات وهو في الثالثة والستين
من عمره الشريف.
وقد امتاز القرآن عن الكتب السماوية السابقة عليه بانزاله تدريجا بخلاف ما
يشير إليه القرآن الكريم من انزال التوراة على شكل الواح دفعة واحدة أو في مدة
زمنية محدودة.

(1) الدخان: 3.
(2) هود: 1.
(3) كتبه الشهيد الصدر.
28

وكان لهذا التدرج في انزاله أثر كبير في تحقيق أهدافه وإنجاح الدعوة وبناء
الأمة.
كما أنه كان آية من آيات الاعجاز في القرآن الكريم، ويتضح كل ذلك في
النقاط التالية:
1 - مرت على النبي والدعوة حالات مختلفة جدا خلال ثلاث وعشرين سنة،
تبعا لما مرت به الدعوة من محن وقاسته من شدائد وما أحرزته من انتصار
وسجلته من تقدم، وهي حالات يتفاعل معها الانسان الاعتيادي وتنعكس على
روحه وأقواله وأفعاله ويتأثر بأسبابها وظروفها والعوامل المؤثرة فيها، ولكن
القرآن الذي واكب تلك السنين بمختلف حالاتها في الضعف والقوة، في العسر
واليسر، في لحظات الهزيمة ولحظات الانتصار، والتنزيل تدريجا خلال تلك
الأعوام كان يسير دائما على خطه الرفيع لم ينعكس عليه أي لون من ألوان
الانفعال البشري الذي تثيره تلك الحالات.
وهذا من مظاهر الاعجاز في القرآن التي تبرهن على تنزيله من لدن علي
حكيم، حيث لا يمكن ان توجد الانفعالات أو التأثيرات الأرضية على الذات
الإلهية، ولم يكن القرآن ليحصل على هذا البرهان لولا انزاله تدريجا في ظروف
مختلفة وأحوال متعددة (1).
2 - إن القرآن بتنزيله تدريجا كان امدادا معنويا مستمرا للنبي (صلى الله عليه وآله) كما قال
الله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به
فؤادك ورتلناه ترتيلا) (2).
فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية

(1) سوف نتعرف على مزيد من التوضيح لهذا المعنى في بحث اعجاز القرآن.
(2) الفرقان: 32.
29

بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك نزول الملك إليه وتجدد العهد به وتقوية أمله في النصر،
واستهانته بما يستجد ويتعاقب من محن ومشاكل.
ولهذا نجد أن القرآن ينزل مسليا للنبي مرة بعد مرة مهونا عليه الشدائد كلما
وقع في محنة، يأمره تارة بالصبر أمرا صريحا، فيقول: (واصبر على ما يقولون
واهجرهم هجرا جميلا) (1) وينهاه تارة أخرى عن الحزن كما في قوله: (ولا يحزنك
قولهم ان العزة لله جميعا) (2) ويذكره بسيرة الأنبياء الذين تقدموه من اولي العزم،
فيقول: (... فأصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل...) (3) ويخفف عنه أحيانا،
ويعلمه ان الكافرين لا يجرحون شخصه ولا يتهمونه بالكذب لذاته، وانما يعاندون
الحق بغيا كما هو شأن الجاحدين في كل عصر كما في قوله: (قد نعلم أنه ليحزنك
الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) (4).
3 - إن القرآن الكريم ليس كتابا كسائر الكتب التي تؤلف للتعليم والبحث
العلمي، وانما هو عملية تغيير الانسان تغييرا شاملا كاملا في عقله وروحه
وإرادته، وهدفه الأساس هو صنع أمة وبناء حضارة، وهذا العمل لا يمكن ان
يوجد مرة واحدة وانما هو عمل تدريجي بطبيعته، ولهذا كان من الضروري ان
ينزل القرآن الكريم تدريجا، ليحكم عملية البناء وينشئ أساسا بعد أساس، ويجتذ
جذور الجاهلية ورواسبها بأناة وحكمة.
وعلى أساس هذه الأناة والحكمة في عملية التغيير والبناء نجد أن الاسلام
تدرج في علاج القضايا العميقة بجذورها في نفس الفرد أو نفس المجتمع، وقاوم

(1) المزمل: 10.
(2) يونس: 65.
(3) الأحقاف: 35.
(4) الانعام: 33.
30

بعضها على مراحل حتى استطاع ان يستأصلها ويجتث جذورها، وقصة تحريم
الخمر وتدرج القرآن في الاعلان عنها من أمثلة ذلك، وكذلك الموقف من مختلف
قضايا الأخلاق والقتال والشريعة، فلو ان القرآن نزل جملة واحدة بكل احكامه
ومعطياته الجديدة لنفر الناس منه، ولما استطاع أن يحقق الانقلاب العظيم الذي
أنجزه في التأريخ.
4 - إن الرسالة الاسلامية كانت تواجه الشبهات والاتهامات والمواقف
السياسية والأطروحات الثقافية والاثارات والأسئلة المختلفة من قبل المشركين،
وكان النبي (صلى الله عليه وآله) بحاجة إلى أن يواجه كل ذلك بالموقف والتفسير المناسبين، وهذا
لا يمكن أن يتم إلا بشكل تدريجي، لان طبيعة هذه المواقف والنشاطات المعادية
هي طبيعة تدريجية وتحتاج إلى معالجة ميدانية مستمرة، وهذا لعله المراد من
سياق قوله تعالى: (ولا يأتوك بمثل الا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) (1).
نزول القرآن الكريم باللغة العربية:
لقد نزل القرآن الكريم باللغة العربية دون غيرها من اللغات، وهذه الظاهرة
قد يكون سببها الميزات التي تختص بها اللغة العربية من بين اللغات الأخرى، مما
يجعلها أشرف اللغات وأقدرها على استيعاب أوسع المعاني أو التعبير عنها، كما قد
يوحي ذلك بعض النصوص، أو تنتهي إليه دراسات علم اللغات وخصائصها.
ولكن الشئ الذي يمكن ان يستفاد من القرآن الكريم - وكذلك التأمل في
هذه الظاهرة - هو تفسيرها على أساس ارتباط هذه الظاهرة - أيضا - بالهدف
التغييري الذي أشرنا إليه، ولا ينافي هذا الارتباط شرف اللغة العربية وخصائصها
البلاغية.

(1) الفرقان: 33.
31

فبالرغم من أن القرآن نزل هداية للعالمين، ومن أجل أن يرسم الطريق لكل
البشرية، ولا يختص بقوم دون قوم، ولكن باعتبار أن الجماعة الأولى التي كان
يراد مخاطبتها بالقرآن هم عرب، واستهدف القرآن الكريم أن يخلق ضمن هذه
الجماعة القاعدة التي ينطلق منها الاسلام - كما أشرنا إلى ذلك سابقا - اقتضى ذلك
نزول القرآن باللغة العربية، ولولا ذلك لأمكن ان نفترض - والله العالم - نزول
القرآن بلغة أخرى، وبذلك ترتبط هذه الظاهرة بقضية الهدف التغييري، وإلا
لأمكن أن نفترض أن الهداية والمضمون يمكن أن يعطيا بأي لغة أخرى.
ولما كانت ضرورات التغيير - الذي يريد القرآن أن يحققه في البشرية -
اقتضت أن يكون منطلق هذا التغيير هو الجزيرة العربية (1)، لذا أصبح من
الضروري أن يكون القرآن باللغة العربية للأسباب التالية التي أشار القرآن إلى
بعضها في تفسير هذه الظاهرة:
أ - اللغة العربية عامل مؤثر في استجابة العرب الأوائل للقرآن:
إن القرآن لو نزل بغير اللغة العربية لكان من الممكن ان لا يستجيب العرب
لهدايته ونوره بسبب حاجز (الانا) والتعصب الذي كان يعيشه العرب في الجاهلية،
كما تشير إلى ذلك بعض الآيات القرآنية:
(لو نزلناه على بعض الاعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين) (2).
(ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين
آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من

(1) هذه القضية لا بد أن نأخذها في هذا البحث كبديهية مسلمة، واثباتها يحتاج إلى بحث
آخر تناولناه في بعض محاضراتنا عن البعثة النبوية واختصاص الجزيرة العربية ومكة
والمدينة بالذات بها.
(2) الشعراء: 198، 199.
32

مكان بعيد) (1).
ب - التفاعل الروحي أفضل مع لغة القوم:
إن التفاعل الروحي والنفسي الكامل مع الهداية والنور والمفاهيم القرآنية انما
يتحقق إذا كان الكتاب بلغة القوم الذين يراد ايجاد التغيير الفعلي فيهم، لان إثارة
العواطف والاحاسيس انما تكون من خلال التخاطب باللغة نفسها، وأما
المضمون فهو يتفاعل مع العقل والتفكير المنطقي، وتبقى العواطف والاحاسيس
محدودة على الأقل في مجال التفاعل وبعيدة عن التأثير.
ولعل هذا السبب يمثل خلفية السنة الإلهية في اختيار الأنبياء لكل قوم من
أولئك الافراد الذين يتكلمون بلغة القوم نفسها، حتى تكون الحجة بهؤلاء الرسل
أبلغ على أقوامهم، وحتى تكون قدرتهم على التأثير أكثر:
(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من
يشاء وهو العزيز الحكيم) (2).
(وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا
ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير) (3).
ج - التحدي انما يكون بلغة القوم:
إن القرآن الكريم كان معجزة ببيانه وأسلوبه - إضافة إلى المضمون - وهذا
الجانب من الاعجاز لا يمكن ان يتحقق إلا إذا كان بلغة القوم، لان (التحدي)
- الذي هو محتوى الاعجاز - انما يكون مقبولا إذا كان باللغة التي يتكلم بها
الناس، وإلا فلا معنى لان نتحدى من يتكلم بلغة أن يأتي بكتاب من لغة أخرى:

(1) فصلت: 44.
(2) إبراهيم: 4.
(3) الشورى: 7.
33

(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم
من دون الله إن كنتم صادقين) (1).
(أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم
صادقين) (2).
(أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون
الله إن كنتم صادقين) (3).
وقد كان التحدي في هذا الجانب من الاعجاز باعتبار ما كان يوليه ذلك العصر
من أهمية خاصة للبلاغة والبيان، الامر الذي كان له أثر كبير في الخضوع النفسي
لهؤلاء العرب لبلاغة القرآن وبيانه.
وقد لا يكون للمضمون في منظور بعض أولئك الجاهلين الأميين مثل هذه
الأهمية الخاصة للبيان، ولعله لهذا كان القرآن يتهم بأنه شعر وسحر.
د - اللغة طريق التصور الكامل للرسالة:
إن التصور الكامل لابعاد المضمون واستيعابه بحدوده لا يمكن أن يتم
- خصوصا في المرحلة الأولى من الرسالة - بلغة أخرى للتخاطب خصوصا إذا
أخذنا بنظر الاعتبار أن الكثير من المضامين القرآنية ترتبط بقضايا وآفاق بعيدة
عن تصورات وآفاق الانسان الجاهلي المعاصر لنزول القرآن، إما لارتباطها
بعالم الغيب أو لطرحها مفاهيم عقائدية أو اجتماعية وانسانية تمثل طفرة في النظرة
المحدودة لذلك الانسان وللعلاقات الاجتماعية والانسانية.
ونحن نلاحظ أن القرآن الكريم يضطر - أحيانا - من اجل أن يشرح المفهوم أو

(1) البقرة: 23.
(2) يونس: 38.
(3) هود: 13.
34

يقربه لأذهان أولئك الجاهليين إلى أن يستخدم صورا متعددة أو يكرر صورة
واحدة بأساليب مختلفة.
وحينئذ يصبح استخدام لغة التخاطب نفسها ضرورة من أجل خلق القاعدة
المستوعبة ولو نسبيا للرسالة ومفاهيمها، لتكون منطلقا لنشرها في الأمم والأقوام
الأخرى.
ولعل تأكيد القرآن وصفه باللسان العربي إنما هو باعتبار الإشارة إلى أهمية لغة
التخاطب في توضيح الحقائق والالتزام بالحجة والتأثير النفسي:
(وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به
فسيقولون هذا إفك قديم * ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق
لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) (1).
ومن الظاهر أن المراد من الذين ظلموا في هذه الآية هم المشركون من أهل
الحجاز، لان القرآن الكريم يعبر عن الشرك بالظلم كما ورد في قوله تعالى:
(... يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) (2).
وكذلك ما يفهم من الإشارة إلى كتاب موسى والاتهام بالإفك.
ويزداد ذلك وضوحا إذا لاحظنا أن وصف القرآن بالعربي جاء في القسم
المكي من السور فقط، الامر الذي يؤكد التفسير القائل بأن قضية التغيير كانت
منظورة في ذلك، لان مرحلة المكي هي مرحلة تأسيس القاعدة وانطلاق
التغيير.
وقد اقترن هذا الوصف بوصف آخر وهو وصف (مبين):
(وانه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من

(1) الأحقاف: 11، 12.
(2) لقمان: 13.
35

المنذرين * بلسان عربي مبين) (1).
كما أنه جاء في آيات كثيرة وصف القرآن بأنه الكتاب المبين، والقرآن المبين (2).
وهذا ما يؤكد قضية الوضوح في القرآن التي جاءت لتتناسب في كونها بلغة
التخاطب نفسها مع القاعدة التي يريد أن يحدثها في التغيير فعلا.
ونجد النقاط الأربع السابقة كلها تصب في مهمة الهدف التغييري للقرآن الكريم
الذي يهتم بخلق القاعدة للانطلاق كقضية مركزية وأساسية بالنسبة إلى المهمات
الأخرى التي اهتم بها القرآن الكريم، وأشار إليها في مجمل الاهداف.

(1) الشعراء: 192 - 195.
(2) تراجع سورة المائدة: 15، والانعام: 59، ويونس: 61، وهود: 6، ويوسف: 1،
والشعراء: 2، والنمل: 1، والقصص: 2، وسبأ: 3، ويس: 69، والزخرف: 2.
36

أسباب النزول (1)
معنى سبب النزول:
نزل القرآن الكريم لهداية الناس وتنوير أفكارهم وتربية أرواحهم وعقولهم،
وكان في نفس الوقت يحدد الحلول الصحيحة للمشاكل التي تتعاقب على الدعوة في
مختلف مراحلها، ويجيب عن ما هو جدير بالجواب من الأسئلة التي يتلقاها النبي
من المؤمنين أو غيرهم، ويعلق على جملة من الاحداث والوقائع التي كانت تقع في
حياة الناس، تعليقا يوضح فيه موقف الرسالة من تلك الاحداث والوقائع كما
ذكرنا آنفا.
وعلى هذا الأساس كانت آيات القرآن الكريم تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: الآيات التي نزلت لأجل الهداية والتربية والتنوير دون وقوع سبب
معين - في عصر الوحي - أثار نزولها، كالآيات التي تصور قيام الساعة ومشاهد
القيامة وأحوال النعيم والعذاب وغيرها، فإن الله تعالى أنزل هذه الآيات لهداية
الناس من غير أن تكون إجابة عن سؤال، أو حلا لمشكلة طارئة، أو تعليقا على
حادثة معاصرة.
والاخر: الآيات التي نزلت بسبب مثير وقع في عصر الوحي واقتضى نزول
القرآن فيه، كمشكلة تعرض لها النبي والدعوة وتطلبت حلا أو سؤالا استدعى
الجواب عنه، أو واقعة كان لا بد من التعليق عليها، وتسمى هذه الأسباب التي

(1) كتبه الشهيد الصدر (قدس سره).
37

استدعت نزول القرآن بأسباب النزول، فأسباب النزول هي: أمور وقعت في
عصر الوحي واقتضت نزول الوحي بشأنها.
وذلك من قبيل ما وقع من بناء المنافقين لمسجد ضرار بقصد الفتنة، فقد كانت
هذه المحاولة من المنافقين مشكلة تعرضت لها الدعوة وأثارت نزول الوحي
بشأنها، إذ جاء قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين
المؤمنين...) (1).
وكذلك سؤال بعض أهل الكتاب مثلا عن الروح من النبي فقد اقتضت الحكمة
الإلهية ان يجاب عنه في القرآن فنزل قوله تعالى: (... قل الروح من أمر ربي وما
أوتيتم من العلم الا قليلا) (2) وبهذا أصبح ذلك السؤال من أسباب النزول.
وكذلك أيضا ما وقع من بعض علماء اليهود، إذ سألهم مشركو مكة من أهدى
سبيلا محمد وأصحابه أم نحن؟ فتملقوا عواطفهم وقالوا لهم: أنتم أهدى سبيلا من
محمد وأصحابه، مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبي المنطبق عليه، وأخذ المواثيق
عليهم أن لا يكتموه، واشتراكهم مع المسلمين بالعقيدة الإلهية والايمان بالوحي
والكتب السماوية واليوم الآخر، فكانت هذه واقعة مثيرة أدت على ما جاء في
بعض الروايات إلى نزول قوله تعالى:
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون
للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) (3).
وكذلك المعارك التي خاضها المسلمون واعدوا في بدر وأحد والأحزاب
والحديبية وحنين وتبوك وغيرها.

(1) التوبة: 107.
(2) الاسراء: 85.
(3) النساء: 51.
38

فهذه قضايا وقعت في عصر الوحي، وكانت داعية إلى نزول الوحي بشأنها،
فكانت لأجل ذلك من أسباب النزول.
ويلاحظ في ضوء ما قدمناه من تعريف لأسباب النزول أن احداث الأمم
الماضية التي يستعرضها القرآن الكريم ليست من أسباب النزول، لأنها قضايا
تأريخية سابقة على عصر الوحي وليست أمورا وقعت في عصر الوحي واقتضت
نزول القرآن بشأنها، فلا يمكن ان نعتبر حياة يوسف وتآمر اخوته عليه ونجاته
وتمكنه منهم سببا لنزول سورة يوسف، وهكذا سائر المقاطع القرآنية التي تتحدث
عن الأنبياء الماضين وأممهم فإنها في الغالب تندرج في القسم الأول من القرآن
الذي نزل بصورة ابتدائية ولم يرتبط بأسباب نزول معينة.
الفائدة من معرفة السبب:
ولمعرفة أسباب النزول أثر كبير في فهم الآية وتعرف اسرار التعبير فيها، لان
النص القرآني المرتبط بسبب معين للنزول تجئ صياغته وطريقة التعبير فيه وفقا
لما يقتضيه ذلك السبب، فما لم يعرف ويحدد قد تبقى أسرار الصياغة والتعبير
غامضة عنه، ومثال ذلك قوله تعالى: (ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج
البيت أو اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما...) (1) فان الآية ركزت على نفي الاثم
والحرمة عن السعي بين الصفا والمروة دون أن تصرح بوجوب ذلك، فلماذا اكتفت
بنفي الحرمة دون أن تعلن وجوب السعي؟
إن الجواب عن هذا السؤال يمكن معرفته عن طريق ما ورد في سبب نزول
الآية من أن بعض الصحابة تأثموا من السعي بين الصفا والمروة، لأنه من عمل
الجاهلية فنزلت الآية الكريمة، فهي اذن بصدد نفي هذه الفكرة من أذهان الصحابة

(1) البقرة: 158.
39

والاعلان عن أن الصفا والمروة من شعائر الله، وليس السعي بينهما من مختلقات
الجاهلية ومفترياتها.
وقد أدى الجهل بمعرفة سبب النزول في هذه الآية عند بعضهم إلى فهم خاطئ
في تفسيرها... إذ اعتبر اتجاه الآية - نحو نفي الاثم بدلا من التصريح بالوجوب -
دليلا على أن السعي ليس واجبا وانما هو أمر سائغ، إذ لو كان واجبا لكان الأجدر
بالآية ان تعلن وجوبه بدلا من مجرد نفي الاثم، ولو كان هذا يعلم سبب النزول
والهدف المباشر الذي نزلت الآية لتحقيقه، وهو إزالة فكرة التأثم من أذهان
الصحابة لعرف السر في طريقة التعبير، والسبب في اتجاه الآية نحو نفي الاثم
والتركيز على ذلك.
تعدد الأسباب والمنزل واحد والعكس:
قد يتفق وقوع عدة أشياء في عصر الوحي كلها تتفق في إشارة واحدة
وتستدعي نزول القرآن بشأنها، كما إذا تكرر السؤال - من النبي مثلا - عن
مشكلة واحدة، فان كل سؤال يقتضي نزول الوحي بجوابه، ويقال في هذه الحالة
إن الأسباب متعددة والمنزل واحد.
ومن هذا القبيل ما يروى في أن النبي سئل مرتين عمن وجد مع زوجته رجلا
كيف يصنع، سأله عاصم بن عدي مرة، وسأله عويمر مرة أخرى، واتفق في مرة
ثالثة أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي بشريك بن سمحاء، فكانت هذه
أسبابا متعددة تستدعي نزول الوحي لتوضيح موقف الزوج من زوجته إذا اطلع
على خيانتها، وما إذا كان من الجائز له أن يقذفها ويتهمها بدون بينة أو لا يجوز له
ذلك الا ببينة، فان اتهم بدون بينة استحق حد القذف، كما هو شأن غير الزوج إذا
قذف امرأة أخرى، ولأجل ذلك نزل قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم
40

يكن لهم شهداء الا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين) (1)
فكان السبب متعددا والمنزل واحد.
وفي حالة تعدد السبب قد يوجد فاصل زمني كبير بين أحد السببين والاخر،
فيؤدي السبب الأول إلى نزول الآية فعلا، ثم يتجدد نزولها حينما يوجد السبب
الثاني بعد ذلك بمدة، فيكون السبب متعددا والنزول متعددا وان كانت الآية
النازلة في المرتين واحدة.
ويقال: إن سورة الاخلاص من هذا القبيل إذ نزلت مرتين، إحداهما: بمكة
جوابا للمشكرين من أهلها، والاخرى بالمدينة جوابا لأهل الكتاب الذين
جاورهم النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الهجرة.
وكما يتعدد السبب والمنزل واحد كذلك قد يتفق كون السبب واحدا لايات
متفرقة فقد روي أن أم سلمة قالت للنبي (صلى الله عليه وآله) يا رسول الله لا اسمع الله ذكر النساء
في الهجرة بشئ فنزل قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم اني لا اضيع عمل عامل
منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم وأوذوا في
سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار
ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب) (2) ونزل قوله تعالى: (ان المسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات...) (3).
فهاتان آيتان متفرقتان نزلتا بسبب واحد ادرجت إحداهما في سورة
آل عمران، والاخرى في سورة الأحزاب، وبذلك كان السبب في النزول واحدا
وهو حديث أم سلمة مع النبي والمنزل متعدد.

(1) النور: 6.
(2) آل عمران: 195.
(3) الأحزاب: 35.
41

وعلى هذا الأساس يجب أن لا نسرع إلى الحكم بالتعارض بين روايتين
تتحدثان عن أسباب النزول إذا ذكرت كل منهما سببا لنزول آية يغاير السبب
الذي ذكرته الرواية الأخرى لنزول نفس تلك الآية، أو إذا تحدثت الروايتان عن
سبب واحد فذكرت كل منهما نزول آية بذلك السبب غير الآية التي ربطتها
الرواية الأخرى به لان من الممكن في بعض الموارد فهم الاختلاف بين الروايتين
والتوفيق بينهما على أساس امكان تعدد سبب النزول لاية واحدة أو تعدد الآيات
النازلة بسبب واحد فلا يوجد بين الروايتين تعارض على هذا الأساس.
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
إذا نزلت الآية بسبب خاص، وكان اللفظ فيها عاما فالعبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب، فلا يتقيد بالمدلول القرآني في نطاق السبب الخاص للنزول أو
الواقعة التي نزلت الآية بشأنها، بل يؤخذ به على عمومه، لان سبب النزول يقوم
بدور الإشارة لا التخصيص، وقد جرت عادة القرآن أن ينزل بعض احكامه
وتعليماته وارشاداته على اثر وقائع واحداث تقع في حياة الناس وتتطلب حكما
وتعليما من الله، لكي يجئ البيان القرآني أبلغ تأثيرا وأشد أهمية في نظر المسلمين
وان كان مضمونه عاما شاملا، فآية اللعان مثلا تشرع حكما شرعيا عاما لكل
زوج يتهم زوجته بالخيانة وان نزلت في شأن هلال بن أمية، وآية الظهار تبين
حكم الظهار بصورة عامة وان كان نزولها بسبب سلمة بن صخر.
وعلى هذا الأساس اتفق علماء الأصول على أن المتبع هو مدى عموم النص
القرآني وشمول اللفظ فيه، وأن سبب النزول مجرد سبب مثير لنزول الحكم العام
وليس تحديدا له في نطاقه الخاص، لان مجرد نزول حكم اللعان عقيب قصة هلال
ابن أمية مثلا لا يدل اطلاقا على أن الحكم يختص به، ولا يبطل عموم اللفظ
42

وشمول النص لسائر الأزواج.
وقد جاءت نصوص عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تعزز هذا المعنى وتؤيده، ففي
تفسير العياشي عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) أنه قال: "... إن القرآن حي
لا يموت، والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات
القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين " (1).
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن القرآن حي لم يمت وإنه
يجري كما يجرى الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما
يجري على أولنا " (2) "... فلا تكونن ممن يقول للشئ: إنه في شئ واحد " (3).

(1) تفسير العياشي 2: 203.
(2) المصدر السابق.
(3) الكافي 2: 156، الحديث 28.
43

الهدف من نزول القرآن (1)
المقدمة: أهمية الموضوع:
يحسن بنا قبل الدخول في بحث أصل الموضوع (الهدف من نزول القرآن) أن
نتناول أهمية البحث فيه.
ويمكن أن نشير بهذا الصدد وبشكل مختصر إلى النقاط التالية:
الأولى: ان فهم القرآن الكريم يتأثر بمجموعة من القضايا: كأن تكون الرؤية
في تفسيره إسلامية، ومن منطلق أنه وحي إلهي وليس نتاجا بشريا، وأن نعرف
الظروف التي نزل فيها القرآن الكريم، وأسباب النزول التي تمثل القدر المتيقن من
المصداق في المفهوم القرآني.
ومن أهم هذه القضايا التي تؤثر في فهم القرآن الكريم معرفة الهدف من نزوله،
لان الهدف بطبيعة الحال يلقي بظلاله على المعنى القرآني، بحيث يكون إحدى
القرائن العامة المنفصلة التي تكتنف النص.
فعندما يتحدث القرآن الكريم عن الكتاب أنه تبيان لكل شئ (... ونزلنا
عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (2)، يمكن ان نفهم
(كل شئ) هنا على ضوء (الهدف من نزول القرآن)، فالمراد من التبيان هو
التبيان الشامل لما يرتبط بهذا الهدف، وهكذا في الموارد الأخرى.

(1) لخصنا هذا الموضوع من كتابنا الهدف من نزول القرآن.
(2) النحل: 89.
45

الثانية: ان معرفة الهدف القرآني سوف تساهم في تفسير مجموعة
من الظواهر القرآنية، حيث قد يختلف تفسير الظاهرة باختلاف تفسير
الهدف من القرآن، كما في تكرار القصة الذي يتجه بعضهم إلى تفسيره
على أساس بلاغي، بينما قد يكون الأساس التربوي هو التفسير
الصحيح.
الثالثة: ان القرآن الكريم يحظى بقدسية واهتمام بين المسلمين، باعتباره الوحي
الإلهي الذي لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه، وباعتباره الصيغة والنص
الإلهيين لهذا الوحي والمضمون.
ولذا لا بد للمسلمين أن يبقوا متفاعلين مع القرآن دائما، كما كانوا كذلك في
مختلف عصور التأريخ الاسلامي وإن كان بمستويات متفاوتة.
ولتشخيص الهدف من نزول (القرآن) أثر كبير على طبيعة هذا الاهتمام
والتفاعل ومستواه ومضمونه، إذ إن الاهتمام والتفاعل يكونان تارة على
مستوى حفظ النص القرآني وسلامة تركيبه، وأخرى على مستوى الاهتمام
بالمضمون القرآني وفهمه، وثالثة على مستوى التعرف على هداية
القرآن الكريم والحقائق العلمية والتأريخية والاجتماعية و... التي احتواها
القرآن الكريم، ورابعة على مستوى طرحه كشعار للانسان المسلم، يتزين
به ويردده في الصباح والمساء من خلال الإذاعات أو المناسبات أو المجالس
الدينية.
يبقى الأهم من ذلك أن يكون التفاعل والاهتمام بالقرآن على مستوى تحقيق
الهدف الحقيقي منه، الذي يجسد التفاعل والاهتمام الروحي الحقيقيين، ويشمل
في الوقت نفسه مختلف المستويات الأخرى، التي هي بمنزلة المقدمة أو الطريق
للوصول إلى هذا الهدف.
46

القرآن وتشخيص الهدف من نزوله:
قد يكون من الأفضل الرجوع إلى القرآن الكريم نفسه لتشخيص الهدف
من نزوله، ومن خلال استعراض الآيات القرآنية التي فسرت نزول
القرآن.
وفي مراجعة للقرآن الكريم نجد مجموعة كبيرة من الآيات والظواهر يمكن أن
تلقي الضوء على الهدف من نزول القرآن، ولكن هذه الآيات قد تبدو وكأنها
تتحدث عن أهداف متعددة أو مختلفة، وسوف نشير إلى نماذج من هذه الآيات
والاحتمالات المتعددة لها، ثم نستخلص من خلال المقارنة الهدف الرئيسي
المركزي من نزول القرآن:
1 - ورد في القرآن الكريم بصدد تشخيص الهدف أنه جاء (للانذار والتذكرة)
مثل قوله تعالى:
(... وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ...) (1).
2 - وفي آيات أخرى جاء القرآن لضرب الأمثال والعبر والدروس مثل قوله
تعالى:
(ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل...) (2).
(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل...) (3).
3 - وفي مكان آخر يبدو وكأن الهدف من القرآن هو إقامة الحجة والبرهان
والمعجزة، كما في قوله تعالى:
(وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما أنزل

(1) الانعام: 19.
(2) الاسراء: 89.
(3) الزمر: 27.
47

الكتاب على طائفتين من قبلنا...) (1).
(يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا) (2).
4 - وفي مواضع أخرى يبدو القرآن وكأنه كتاب دستور وشريعة وتفصيل
للأحكام:
(... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (3).
5 - وفي مواضع أخرى من القرآن الكريم أنه جاء من أجل الحكم وفصل
الخلاف والتفريق بين الحق والباطل:
(وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم
يؤمنون) (4).
6 - كما نجد في مواضع أخرى أن الهدف من القرآن هو تصديق الرسالات
السابقة وإمضاؤها وتصحيحها والهيمنة عليها، وبذلك يكون له دور تصحيحي
وتكميلي:
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة
ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات
إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) (5).
وبالرغم من أن هذه الاهداف التي أشرنا إليها قد تكون متداخلة يؤثر بعضها

(1) الانعام: 155، 156.
(2) النساء: 174.
(3) النحل: 89.
(4) النحل: 64.
(5) المائدة: 48.
48

بالآخر ويرتبط به في وجه من الوجوه، إلا أنها تبدو متعددة عندما تطرح في
الآيات الكريمة، ونريد أن نفسر الظاهرة القرآنية ونسعى إلى تشخيص الهدف
الأساس لها، بحيث يفهم أن القرآن الكريم جاء لتحقيق غايات وأهداف عديدة،
تتوزع على أيات القرآن وسوره ومضامينه.
ومن أجل أن نكون أكثر وضوحا في تحديد محور البحث لا بد لنا أن نطرح
السؤال كالتالي:
ما هو الهدف الأساس الذي سعت الظاهرة القرآنية الكريمة إلى تحقيقه من
خلال وجودها، بحيث يفسر لنا هذا الهدف كل آية في القرآن الكريم مهما كان
مضمونها ومحتواها وصيغتها؟
ومن خلال استعراض الاهداف السابقة والمقارنة بينها، يمكن أن نخرج بنتيجة
واضحة للجواب عن السؤال السابق، حيث نلاحظ أن القرآن الكريم استهدف
من نزوله تحقيق هدف واحد رئيس، له أبعاد ثلاثة، وساهمت بقية الاهداف
الأخرى بشكل أو بآخر في تحقيق هذا الهدف الرئيس.
بل أشار القرآن الكريم أحيانا إلى هذه المساهمة والترابط بين هذا الهدف
الرئيس وبقية الاهداف كما سنلاحظ ذلك فيما بعد.
وهذا الهدف الرئيس هو ايجاد التغيير الاجتماعي (الجذري) للانسانية، من
خلال رسم (الطريق والمنهج) لهذا التغيير، و (خلق القاعدة الثورية) التي تميزت
بهذا المنهج والتزمت وتغيرت على أساسه.
ابعاد الهدف الرئيس من نزول القرآن:
أ - التغيير الجذري:
(فالبعد الأول) هو (التغيير الجذري) وهو ما يعبر عنه بلغة العصر: بالثورة
49

وعبر عنه القرآن بعملية الاخراج من الظلمات إلى النور:
(... يخرجهم من الظلمات إلى النور...) (1) على أساس قاعدة: (... ان الله لا
يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم...) (2).
(ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم...) (3).
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا البعد في آيات عديدة تضمنت الهدف الأصلي
من القرآن، كما تضمنت أيضا الهدف الأصلي من مهمة النبي (صلى الله عليه وآله):
(... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل
السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) (4).
(ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم إلى
صراط العزيز الحميد) (5).
(هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وان الله
بكم لرؤوف رحيم) (6).
ففي هذه الآيات يشير القرآن الكريم إلى أن عملية التغيير الجذري التي يعبر
عنها بعملية الخروج من أحد القطبين المتناقضين إلى القطب الاخر (النور
والظلمات)، ليست فقط من الاهداف التي يحققها ويتصف بها، كما في الآية
الأولى، بل هي الهدف من أصل نزول القرآن، كما في الآية الثانية والثالثة.

(1) البقرة: 257.
(2) الرعد: 11.
(3) الأنفال: 53.
(4) المائدة: 15، 16.
(5) إبراهيم: 1.
(6) الحديد: 9.
50

ويؤكد هذا ما جاء في القرآن الكريم من وصف الله سبحانه بأنه: (نور
السماوات والأرض) الذي يعني أن هذا النور هو (الله) سبحانه، فيكون الهدف
من القرآن تغيير هذا الانسان تغييرا يجعله مرتبطا بالله تعالى:
(الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة
الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد
زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله
الأمثال للناس والله بكل شئ عليم) (1).
ومما يلقي الضوء على أن عملية التغيير الجذري (الاخراج من الظلمات إلى
النور) هي الهدف الرئيس، ما أشير إليه في القرآن الكريم من ربط هذه العملية
بشكل متضاد ومتعاكس بتوجهات علاقات الانسان المؤمن والكافر بالقطبين
(الله) و (الطاغوت) في مختلف مجالات حياته وممارساته ونتائج مسيرته:
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت
فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) (2).
(والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد *
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا
الألباب) (3).
كما جاء في القرآن الكريم أن الهدف الرئيس الذي وضع على عاتق الرسل هو
تحقيق هذا الهدف: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان

(1) النور: 35.
(2) النساء: 76.
(3) الزمر: 17، 18.
51

عاقبة المكذبين) (1).
وانما كان الامر كذلك لان ولاء الله يعني الخروج من الظلمات إلى النور، وولاء
الطاغوت هو الخروج من النور إلى الظلمات، و (الصيرورة) إلى الجنة والنار، انما
تكون على أساس هذا الولاء:
(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) (2).
ولعل التعبير بالمفرد عن النور، وبالجمع عن الظلمات للإشارة إلى أن طريق الله
واحد، والطريق إلى الطاغوت يأخذ اشكالا متعددة، لان الله واحد والطاغوت
متعدد.
شمولية عملية التغيير الاجتماعي:
وقد أشار القرآن الكريم إلى الابعاد الشمولية لعملية التغيير هذه، بحيث يكون
لنا صورة عن أعماق الجذور التي تتناولها هذه العملية التغييرية: (يخرجهم من
الظلمات إلى النور)، وذلك عندما تحدث عن مهمة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) تجاه أهل
الكتاب:
(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم
الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه
ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) (3).

(1) النحل: 36.
(2) البقرة: 257.
(3) الأعراف: 157.
52

وكذلك عندما تحدث عن مهمة النبي تجاه (الأميين) من الناس:
(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (1).
أولو العزم ومهمة التغيير الاجتماعي:
ولعل هذا البعد هو الذي يميز مهمة الأنبياء أولي العزم من الرسل عن غيرهم
من أنبياء الرسالات، حيث قد يكون المقصود من تلاوة الآيات: (يتلو عليهم
آياته) هذا البعد من العملية التغييرية.
وقد تكون الآية التي وردت في سورة إبراهيم بشأن موسى (عليه السلام) تشير إلى هذه
الحقيقة:
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام
الله إن في ذلك لايات لكل صبار شكور) (2).
خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنها وردت في سياق قوله تعالى:
(ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى
صراط العزيز الحميد) (3).
حيث قد يكون المقصود هو المقارنة بين المهمة الأصلية للنبي محمد (صلى الله عليه وآله) من
خلال القرآن ومهمة موسى (عليه السلام) التغييرية.
ب - المنهج الصحيح للتغيير:
وهذا التغيير الجذري بطبيعة الحال يحتاج إلى (منهج صحيح) وطريق مستقيم
يمثل (البعد الثاني) للهدف، ويتمثل هذا المنهج بالكتاب والحكمة: (ويعلمهم

(1) الجمعة: 2.
(2) إبراهيم: 5.
(3) إبراهيم: 1.
53

الكتاب والحكمة): " الكتاب " الذي يمثل الشريعة والدين، و " الحكمة " التي
تمثل معرفة الحقائق الكونية والروحية والقوانين والسنن العامة التي تتحكم في
الوجود، وفي تأريخ الانسان وحركته وتطوره، وتؤثر على سعادته وشقائه.
ومن هنا جاء القرآن الكريم ليرسم هذا الطريق، فهو المنهج الشامل الذي
يحدد العلاقات العامة في هذا الكون - ويمثل الانسان المحور الرئيس فيه -
ويتعرض لكل مناحي حياة الانسان ويتناول تفاصيلها، كما أنه يحدد المواقف
تجاه كل القضايا، ولا يختص بجماعة من الناس دون أخرى، بل يتكفل مسيرة
الانسانية، حاضرها ومستقبلها.
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات
أن لهم أجرا كبيرا) (1).
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا
خسارا) (2).
(... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (3).
وهذا المنهج الصحيح هو الذي يعبر عنه القرآن الكريم في مواضع عديدة
بالصراط المستقيم، والذي يمثل الطريق إلى الكمال الانساني، وتمام النعمة
للبشرية، ومنتهى طموحاتها وآمالها:
(اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا
الضالين) (4).

(1) الاسراء: 9.
(2) الاسراء: 82.
(3) النحل: 89.
(4) الفاتحة: 6، 7.
54

(قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين) (1).
(ان إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه
وهداه إلى صراط مستقيم) (2).
ج - خلق القاعدة الثورية:
إن عملية التغيير الاجتماعي الجذري تحتاج أيضا - بطبيعة الحال - إلى خلق
(القاعدة الثورية) التي تمثل (البعد الثالث) للهدف، ولعل هذا هو المراد بما أشير
إليه في عدة آيات من القرآن الكريم بالتزكية " ويزكيهم ".
ولذلك سعى القرآن الكريم إلى خلق هذه القاعدة الثورية، وأعطى ذلك أهمية
خاصة، واهتم بمعالجة القضايا الآنية والمستجدة التي يعيشها الرسول بشكل
خاص، وتابع الاحداث التي كانت تواجه الرسالة، واتخذ المواقف تجاهها ليحقق
هذا الهدف العظيم.
ومن الواضح أن خلق هذه القاعدة وتكوينها في الوقت الذي يمثل مهمة صعبة
وبالغة التعقيد، كذلك يمثل دورا ذا أهمية في مستقبل الرسالة وقدرتها على البقاء
والاستمرار، إضافة إلى قدرتها على الشمول والانتشار.
فإضافة إلى البعد الكيفي في عملية التغيير التي استهدفها القرآن، كان هناك بعد
كمي في الهدف يتوخى بشكل خاص أن يقوم النبي ببناء القاعدة للرسالة بحيث
يمكن لهذه الرسالة بعد ذلك - أي بعد وفاة الرسول وانقطاع الوحي - أن تستمر
وتنتشر من خلال هذه القاعدة التي أولاها القرآن الكريم أهمية خاصة، وأعطاها
قسطا كبيرا وحظا وافرا، كما نلاحظ ذلك في مجمل الآيات التي تناولت الاحداث

(1) الانعام: 161.
(2) النحل: 120، 121.
55

في عصر الرسالة وتفصيلاتها، وكذلك بعض التقاليد والعادات والقوانين، إضافة
إلى عنصر اللغة وأساليبها في القرآن.
فهناك توجه خاص في القرآن الكريم إلى سكان الجزيرة العربية: (... أم
القرى ومن حولها...) (1) من أجل أن يخلق منهم القاعدة الثورية للانطلاق
بالرسالة.
وهذا التوجه الخاص ليس على أساس وجود الامتياز لأبناء الجزيرة على
غيرهم من البشر، وانما هو على أساس تحقيق الهدف الكمي (المرحلي) للرسالة
الاسلامية، باعتبارهم مجال عمل النبي والجماعة التي بدأت الرسالة فيها (2):
(وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها
والذين يؤمنون وبالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون) (3).
(وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا
ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير) (4).
(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (5).
وفي مجال آخر يؤكد القرآن استمرار مسيرة التغيير نحو الأصلح ووراثة عباد
الله الصالحين للأرض:

(1) الانعام: 92.
(2) لتفسير نزول القرآن في هذه المنطقة دون غيرها بحث آخر تناولناه في محاضراتنا
القرآنية حول البعثة، كما أشرنا إلى ذلك في نزول القرآن باللغة العربية.
(3) الانعام: 92.
(4) الشورى: 7.
(5) الجمعة: 2.
56

(كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) (1).
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) (2).
(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الأرض يرثها عبادي الصالحون) (3).
ولكن هذه المسيرة التأريخية للانسان لا تتقيد أو ترتبط بجماعة معينة من الناس أو
أحد من البشر:
(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة
لائم...) (4).
(... وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) (5).
ومن المحتمل جدا أن أحد خلفيات تأكيد مجموعة من القضايا والمفردات في
القرآن الكريم هو قضية هذا التوجه الخاص لأبناء الجزيرة والاهتمام بهم، ويمكن
أن نلاحظ ذلك في قضية تأكيد إبراهيم (عليه السلام)، وكذلك تأكيد (الوحي) ومعالجته
بشكل خاص، وتأكيد رفض الأصنام، وكذلك قضية اللغة العربية والأسلوب في
القرآن أهمية خاصة كما نشاهده في السور القصار، إلى غير ذلك من المفردات
والقضايا.
وفي ضوء هذا التفسير للهدف القرآني الرئيس، يمكن ان نفهم دور الاهداف
الأخرى التي استعرضناها في تحقيق هذا الهدف، إضافة إلى موقعها الأصلي من

(1) المجادلة: 21.
(2) المؤمن: 51.
(3) الأنبياء: 105.
(4) المائدة: 54.
(5) محمد: 38.
57

الهدف الرئيس، فضلا عن أن يكون كل واحد منها هو الهدف الرئيس.
1 - فالانذار والتذكير اللذان ورد في القرآن ذكرهما كهدف لنزوله، كما في
بعض الآيات التي استعرضناها، كذلك ورد ذكرهما كمهمة يتولاها الأنبياء في
عملهم، هذا الانذار يمثل جزءا من مهمة الأنبياء، وجانبا من الهدف القرآني
والأسلوب الرئيس لتحقيق عملية التغيير الاجتماعي.
ويتضح ذلك عندما نلاحظ (الانذار) مذكورا إلى جانب قضايا أخرى
يتكفلها القرآن والنبي:
(... قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) (1).
فالموعظة إلى جانب الشفاء والهدى والرحمة.
(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم
الخبائث...) (2).
فالامر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جانب تحليل الطيبات وتحريم الخبائث
ورفع الاصر والاغلال.
كما أن الانذار يقترن في كثير من الآيات بالبشارة:
(كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب
بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما
جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (3).

(1) يونس: 57.
(2) الأعراف: 157.
(3) البقرة: 213.
58

ولعل هذ الآية الكريمة تلقي الضوء بشكل واضح على دور الانذار في القرآن
وعمل النبيين، وأن الانذار مهمة يقوم بها النبي إلى جانب الكتاب الذي يحكم
بالحق ويحل الاختلافات ويهدي إلى المنهج والصراط المستقيم.
وإذا عرفنا أن المعادلة الأصلية للدين تتوقف على قضية (الانذار) بالعقاب
و (البشارة) بالثواب في الدار الآخرة، عرفنا السبب في تأكيد القرآن الانذار
هدفا لنزوله ومهمة للأنبياء، ذلك أن صورة الحياة ومقاييسها التي يعتمدها الدين
في القسط والميزان ترتبط بشكل رئيس بقضية الحياة الآخرة والبشارة بالثواب
والانذار بالعذاب فيها.
وإقامة الحجة على الناس تجاه القضايا التي يطرحها الدين والنبي تدخل
كعنصر أساسي في هذه المعادلة، ولذا أكد القرآن هذا المفهوم.
كما أن تأكيد مهمة النبي هي (الانذار) أو (البلوغ) أو (إقامة الحجة)، وحده
يمكن ان يكون لمعالجة نفسية للنبي الذي قد يتصور أن تحقيق التغيير - الخارجي -
من مسؤوليته، بحيث عندما لا يتحقق هذا التغيير في الخارج يكون النبي أمام
موقف حرج عند الله، بالرغم من بذله لكل ما في طاقته من الجهد لتحقيقه، ولذا
جاء تأكيد القرآن: أن مهمة النبي والرسول تنتهي عند تحقيق الانذار والبلاغ
الأفضل:
(لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت
أعناقهم لها خاضعين) (1).
وحينئذ يحدد القرآن المسؤولية ب‍ (الانذار)، وهناك فرق بين المسؤولية وبين
المهمة والهدف الذي يتولاه النبي، فالنبي عليه ان يبذل كل طاقته، وهو مسؤول
عن الانذار وإقامة الحجة.

(1) الشعراء: 3، 4.
59

وأما التغيير فهو وإن كان هدفا له ومن المهمات التي يسعى إليها، ولكنه ليس
مسؤولا عن النتائج الخارجية له وعن تحقيق الهداية، وانما عليه أن ينجز
(المقدمات الأساسية لها) وهما الانذار والبلاغ:
(انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء...) (1).
كما أن تأكيد قضية الانذار أحيانا، لتوضيح أن النبي ليس له طمع في السلطان
والجاه والاجر المادي، وانما يريد القيام بواجبه وبمسؤوليته وهي الانذار:
(واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم ان كان كبر عليكم مقامي وتذكيري
بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم
اقضوا إلي ولا تنظرون * فان توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت
أن أكون من المسلمين) (2).
2 - وضرب الأمثال في القرآن انما جاء من أجل الانذار والتذكير، كما أشارت
إلى ذلك بعض الآيات:
(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون) (3).
3 - وعندما يكون القرآن حجة وبرهانا ومعجزة، فهو يساهم في عملية
الانذار والهداية، ولذلك نجد أن البرهان يقترن بالهداية والنور والصراط المستقيم
في القرآن نفسه:
(يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا * فأما الذين آمنوا
بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) (4).

(1) القصص: 56.
(2) يونس: 71، 72.
(3) الزمر: 27.
(4) النساء: 174، 175.
60

4 - وتفصيل الاحكام يمثل المنهج الذي تعتمد عليه عملية التغيير بصورة
أساسية - كما أشرنا إلى ذلك - ولذا يقترن تبيان كل شئ بالهداية والرحمة في
القرآن، الهداية التي تمثل المنهج والصراط المستقيم:
(... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (1).
5 - وهكذا هدف الفصل وحسم الخلاف والتفريق بين الحق والباطل، حيث
إن هذا جزء من المنهج العام والهدى والنور (2).
6 - (وتصديق) الرسالات وتكميلها الذي أشير إليه في بعض الآيات هدفا
للقرآن، لا يعني أن التغيير ليس (جذريا) في المجتمع، لان الانحراف الاجتماعي قد
يصل إلى مستوى بحيث يكون المجتمع بعيدا عن منظور الرسالات السابقة
وتأثيرها فضلا عن الرسالة الجديدة، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم في مناسبات
عديدة، خصوصا عند مناقشته لأهل الكتاب وتعصبهم وانحرافهم وشرائهم
بآيات الله ثمنا قليلا، فالقرآن في الوقت الذي يكمل الرسالات السابقة ويصدقها
ويهيمن عليها في عملية الاصلاح والكمال، يقوم أيضا بعمل (جذري) تجاه
المجتمع الذي ابتعد (عمليا) عن منظور تلك الرسالات ومفاهيمها، ويبين تلك
الرسالات التي تعرضت للتحريف على مستوى (النظرية) والأفكار والمفاهيم،
إضافة إلى بعد المجتمع عنها على مستوى الواقع العملي، اي على مستوى (النظرية)
و (التطبيق) معا.
وتصبح عملية التصديق للرسالات والهيمنة عليها جزءا من الهدى والصراط
المستقيم الذي يمثل عمل كل الأنبياء والرسل.
كما أشرنا إلى ذلك في الهدف الأساس للقرآن الكريم:

(1) النحل: 89.
(2) كما ورد في سورة البقرة: 213.
61

(قل انني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين) (1).
وبهذا نجد أن كل الاهداف الأخرى على أهميتها، انما هي أهداف فرعية
بالنسبة إلى الهدف الأساس، وهي تساهم في تحقيقه إلى حد بعيد، وهذا ما حصل
بالفعل في تأريخ القرآن.
القرآن الكريم يحقق الهدف من نزوله (2):
عندما نراجع مسيرة القرآن الكريم في عصر النبوة، نجد أنه استطاع أن يحقق
هذا الهدف التغييري بكل أبعاده الثلاثة، حيث تمكن ان يوجد الأمة الاسلامية
التي هي خير أمة أخرجت للناس والتي حملت أعباء الرسالة إلى العالم أجمع.
ابعاد التغيير في مجتمع الجزيرة العربية:
ويمكن ان نلاحظ ابعاد التغيير الذي أحدثه القرآن الكريم في مجتمع الجزيرة
العربية لنعرف هذه الحقيقة القرآنية، وذلك من خلال مراجعة الابعاد الثلاثة
التالية:
أ - تحرير القرآن للانسان من الوثنية:
كان العرب - الذين نزل القرآن الكريم على النبي (صلى الله عليه وآله) في حوزتهم - يعتقدون
في الله أنه خالق، مدبر للعالم: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله...) (3) ولكنهم
افترضوا - لضعف تفكيرهم، وبعد عهدهم من النبوة والأنبياء - وجود وسطاء

(1) الانعام: 161.
(2) كتبه الشهيد الصدر (قدس سره).
(3) الزخرف: 87.
62

وهميين بينهم وبين الله تعالى، وزعموا لهؤلاء الوسطاء الذين تخيلوهم قدرة على
النفع والضر، فجسدوهم في أصنام من الحجارة، وأشركوا هذه الأصنام مع الله في
العبادة، والدعاء حتى تطورت فكرة الوساطة في أذهانهم إلى الاعتقاد بالوهية
الوسطاء، ومشاركة تلك الأصنام لله في تدبير الكون:
(الا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى
الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون...) (1).
وكادت تمحى بعد ذلك فكرة التمييز بين الوسطاء والله تعالى، وسادت الوثنية
بأبشع أشكالها، وانغمس العرب في الشرك وعبادة الأصنام، وتأليهها، فكان لكل
قبيلة أو مدينة صنم خاص، بل كان لكل بيت صنم خصوصي، فقد قال الكلبي:
" كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان
آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا
دخل منزله أن يتمسح به أيضا " (2)، وقد كان في جوف الكعبة وفي فنائها ثلاثمائة
وستون صنما.
وأدى الامر بالعرب إلى تقديس الحجارة بصورة عامة، وإسباغ الطابع الإلهي
عليها، ففي صحيح البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: " كنا نعبد الحجر،
فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الاخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا
جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به " (3)، وقال الكلبي: " كان
الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا

(1) الزمر: 3.
(2) الأصنام للكلبي: 33.
(3) صحيح البخاري 5: 216.
63

وجعل ثلاث أثافي لقدره وإذا ارتحل تركه " (1).
ولم يقتصر العرب على عبادة الاحجار، بل كان لهم آلهة شتى، من الملائكة
والجن والكواكب، فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، واتخذوا من الجن
شركاء له وآمنوا بقدرتهم وعبدوهم:
(ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا
سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) (2).
ويروى عن حمير عبادة الشمس، وعن كنانة عبادة القمر، وعن لخم وجذام
عبادة المشتري، وعن أسد عبادة عطارد، وعن طي عبادة سهيل (3).
وكان في العرب يهود ونصارى إلى جانب تلك الكثرة من المشركين، ولكن
اليهودية والنصرانية لم يكن بامكانها أن تصنع شيئا بعد أن منيت هي نفسها
بالتحريف والزيغ، وأصبحت مجرد شعارات وطقوس، وبعد أن امتزجت
المسيحية العالمية بوثنية الرومان، وأضحت لونا من ألوان الشرك، فلم تكن
النصرانية أو اليهودية في بلاد العرب الا نسختين من اليهودية في الشام،
والنصرانية في بلاد الروم والشام، تحملان كل ما منيت بها هاتان الديانتان من
نكسات وزيف.
وهذه الصورة العامة عن الوثنية والشرك في بلاد العرب، تكفي لكي نتصور
ما بلغه الانسان الجاهلي من ضعة، وميوعة، وتنازل عن الكرامة الانسانية،
حتى أصبح يدين بعبادة الحجر، ويربط وجوده وكل آماله وآلامه بكومة من
تراب.

(1) الأصنام: 33.
(2) سبأ: 40، 41.
(3) الأصنام: 22 للكلبي.
64

وما من ريب في أن عبادة الأصنام، والاحساس بالعبودية والذلة بين يديها،
والسجود أمامها، كل ذلك يترك في النفس من الآثار الروحية والفكرية ما يفقد
الانسان كرامته، ويجمد فيه طاقاته المتنوعة، ويجعله أقرب للخضوع والخنوع
والاستسلام، لكل قوة أو قوى ما دام يستسلم لأخس الكائنات وأتفهها.
ولم يكن وضع العقيدة والعبادة، في سائر ارجاء العالم أحسن حالا منه في بلاد
العرب، لان الوثنية بمختلف اشكالها كانت هي المسيطرة، اما بصورة صريحة، كما
في الهند والصين وإيران، أو بصورة مبطنة، كما في أوروبا المسيحية التي تسللت
فيها وثنية الرومان إلى النصرانية وشوهت معالمها.
والعبادة للأصنام، أو للملوك، ولأرباب الأديان، كانت في كل مكان فلا تجد
الا انسانا يعبد نظيره أو ما هو أخس منه من الكائنات، أو انسانا يزعم لنفسه
العبادة والحق الإلهي في الطاعة والسيادة.
في هذا الجو الوثني المسعور جاء القرآن الكريم ليرتفع بالانسان من الحضيض
الذي هوى إليه، ويحرره من أسر الوثنية ومهانتها، ومختلف العبوديات المزيفة التي
مني بها، ويركز بدلا منها فكرة العبودية المخلصة لله وحده لا شريك له، ويعيد
للانسان إيمانه بكرامته وربه.
فانظروا إلى هذه النصوص القرآنية التالية لتجدوا كيف يؤكد القرآن فكرة
العبادة لله وحده، ويهيب بالانسان إلى التحرر من كل عبادة سواها:
(يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ان الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا
ذبابا ولو اجتمعوا له وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب
والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره ان الله لقوي عزيز) (1).
(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به

(1) الحج: 73، 74.
65

شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله...) (1).
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا الا
ليعبدوا الها واحدا لا اله الا هو سبحانه عما يشركون) (2).
وقد استطاع القرآن أن ينتصر على الوثنية وألوانها المختلفة، ويصنع من
المشركين أمة موحدة تؤمن بالله، لا ايمانا نظريا فحسب بل ايمانا يجري مع دمائها
وينعكس في كل جوانب حياتها.
وقد كان لهذا الايمان الذي زرعه القرآن في النفوس مثل فعل السحر، فما
يدخل في قلب الانسان الا حوله انسانا آخر، في مشاعره وعواطفه وقوة نفسه
وعظمة أهدافه واحساسه بكرامته، وفي المثالين التاليين نستطيع ان نتبين ذلك
بوضوح:
1 - عن أبي موسى قال: " انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه، وعمرو
ابن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون جلوس سماطسن وقد قال له
عمرو وعمارة: انهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا، بدرنا من عنده من القسيسين
والرهبان: اسجدوا للملك، فقال جعفر: لا نسجد الا لله عز وجل " (3).
2 - أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولا إلى رستم قائد الجيوش
الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير، وقد
جلس على سرير من ذهب وعليه تاجه المزين باليواقيت واللآلئ الثمينة، ودخل
ربعي بثياب صفيقة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على
طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه

(1) آل عمران: 64.
(2) التوبة: 31.
(3) البداية والنهاية 3: 89.
66

وبيضته على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك فقال: ان تركتموني هكذا والا
رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه، فقال له: ما جاء بكم
فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا
إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الاسلام (1).
هكذا استطاع القرآن عن طريق زرع الايمان بالله وتربية المسلمين على
التوحيد والشعور بالعبودية لله وحده، استطاع عن هذا الطريق أن يجعل من
أولئك الذين كانوا يخضعون للحجارة، ويدينون بسيادتها أمة موحدة لا تخضع الا
لله، ولا تتذلل لقوة على وجه الأرض ولا تستكين لجبروت الملك وعظمة الدنيا،
ولو في أحرج اللحظات وتمتد بأهدافها نحو تغيير العالم، وهداية شعوب الأرض
إلى التوحيد والاسلام، وانقاذها من أسر الوثنية، ومختلف العبوديات للالهة
المزيفة والأرباب المصطنعة.
ب - تحرير القرآن للعقول:
كانت الأساطير والخرافات شائعة بين العرب، نظرا لانخفاض مستواهم
الفكري وأميتهم بصورة عامة، فكانوا يعتقدون - مثلا - أن نفس الانسان طائر
ينبسط في جسم الانسان، فإذا ما مات أو قتل يكبر هذا الطائر حتى يصير في
حجم البوم، ويبقى ابدا يصرخ ويتوحش ويسكن في الديار المعطلة والمقابر
ويسمونه الهام. كما كانوا يعتقدون بالغيلان ويؤمنون بأساطيرها، ويزعمون أن
الغول يتغول لهم في الخلوات، ويظهر لخواصهم في أنواع من الصور، فيخاطبونها
وربما ضيفوها، وكانت لهم أبيات من الرجز يتناقلون حفظها، ويعتقدون أن
فائدتها هي طرد الغيلان إذا اعترضتهم في طريقهم وأسفارهم، إلى غير ذلك من
العقائد الخرافية التي كانوا يؤمنون بها.

(1) البداية والنهاية 7: 46.
67

وقد جاء القرآن الكريم برسالة الاسلام، فحارب تلك العقائد والخرافات،
ومحا تلك الأوهام عن طريق تنوير عقول العرب والدعوة إلى التفكير الأصيل،
والتدبر والاعتماد على العقل، والمطالبة برفض التقليد، وعدم الجمود على
تراث السلف، بدون تمحيص أو تحقيق، قال الله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما
انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه اباءنا أو لو كان اباؤهم لا يعقلون شيئا ولا
يهتدون) (1).
وقد أدت هذه الدعوة من القرآن إلى تعريض كل الأفكار السابقة والموروثة
إلى الامتحان من جديد في ضوء المنطق، والعقل، وعلى هدى الاسلام، فأسفر
ذلك عن اضمحلال تلك الخرافات، وزوال تلك العقائد الجاهلية، وتحرر العقول
من قيودها، وانطلاقها في طريق التفكير السليم.
وقد حث القرآن بصورة خاصة على التفكير في الكون، والتأمل في أسراره،
واكتشاف آيات الله المنتشرة فيه، ووجه الانسان هذه الوجهة الصالحة بدلا من
التشاغل بخرافات الماضين وأساطيرهم:
(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) (2).
(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ان الله
على كل شئ قدير) (3).
(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها
لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (4).

(1) البقرة: 170.
(2) يونس: 101.
(3) العنكبوت: 20.
(4) الحج: 46.
68

(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * والى السماء كيف رفعت * والى الجبال
كيف نصبت * والى الأرض كيف سطحت) (1).
ولم يكتف القرآن بالحث على دراسة الكون وما فيه من اسرار بل ربط ذلك
بالايمان بالله وأعلن ان العلم هو خير دليل للايمان بالله وان الايمان يتأكد كلما
ازداد اكتشاف الانسان وتقدم في ميادين العلم لأنه يطلع على عظيم آيات الله،
وحكيم صنعه وتدبيره، قال الله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
حتى يتبين لهم انه الحق أولم يكف بربك انه على كل شئ شهيد) (2).
وبذلك أعطى القرآن مفهوم مواكبة الايمان للعلم، وأن العقيدة بالله تتمشى مع
العلم على خط واحد، وأن اكتشاف الأسباب والقوانين في هذا الكون يعزز هذه
العقيدة بأنه يكشف عن عظيم حكمة الصانع وتدبيره.
وعلى أساس هذا الموقف القرآني، وما رفضه من التقليد، وما شجع عليه من
التفكير والتدبر كانت الأمة التي صنعها الكتاب الكريم مصدر العلم والثقافة في
العالم، بدلا من خرافات البوم والغيلان، حتى اعترف المؤرخون الأوربيون بهذه
الحقيقة أيضا، فقال الدوري الوزير والمؤرخ الفرنسي: " إن النبي جمع قبائل
العرب أمة واحدة رفعت أعلام التمدن في أقطار الأرض، وكانوا في القرون
المتوسطة مختصين بالعلوم، من بين سائر الأمم، وانقشعت بسببهم سحائب البربرية
التي امتدت على أوربا ".
ج - تحرير القرآن للانسان من عبودية الشهوة:
كما حرر القرآن عقيدة الانسان من الوثنية وعقله من الخرافة كذلك حرر
إرادته من سيطرة الشهوة، فصار الانسان المسلم - نتيجة لتربية القرآن له - قادرا

(1) الغاشية: 17 - 20.
(2) فصلت: 53.
69

على مقاومة شهواته وضبطها والصمود في وجه الاغراء وألوان الهوى المتنوعة،
وفيما يلي نموذج قرآني من نماذج تغذية هذا الصمود وتركيزه في نفوس المسلمين:
قال الله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة
من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله
عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد) (1).
بهذا وغيره من نماذج التربية والترويض استطاع القرآن والاسلام ان يحررا
الانسان من العبودية لشهواته الداخلية التي تختلج في نفسه، لتصبح الشهوة اداة
تنبيه للانسان إلى ما يشتهيه، لا قوة دافعة تسخر إرادة الانسان دون ان يملك
بإزائها حولا أو طولا، وقد اطلق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) على عملية تحرير الانسان
هذه من شهواته الداخلية اسم " الجهاد الأكبر ".
وإذا لاحظنا قصة تحريم الخمر في الاسلام استطعنا أن ندرك - من خلال هذا
المثال - مدى نجاح القرآن في تحرير الانسان المسلم من أسر الشهوة وتنمية إرادته
وصموده ضدها، فقد كان العرب في الجاهلية مولعين بشرب الخمر معتادين عليها،
حتى أصبح ضرورة من ضرورات الحياة بحكم العادة والألفة، وشغلت الخمر
جانبا كبيرا من شعرهم وتأريخهم وأدبهم، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم،
وكانت حوانيت الخمارين مفتوحة دائما ترفرف عليها الاعلام، وكان من شيوع
تجارة الخمر أن أصبحت كلمة التجارة مرادفة لبيع الخمر في مثل هذا الشعب المغرم
بالخمر نزل القرآن الكريم بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) (2).

(1) آل عمران: 14، 15.
(2) المائدة: 90.
70

فما قال القرآن (اجتنبوه) الا وانطلق المسلمون إلى زقاق خمورهم يشقونها
بالمدي والسكاكين يريقون ما فيها، يفتشون في بيوتهم لعلهم يجدون بقية من خمر
فاتهم ان يريقوها، وتحولت الأمة القرآنية في لحظة إلى أمة تحارب الخمر وتترفع
عن استعماله، كل ذلك حدث لان الأمة كانت مالكة لارادتها، (حرة) في مقابل
شهواتها، قادرة على الصمود امام دوافعها الحيوانية، وأن تقول بكل صرامة وجد
حين يدعو الموقف إلى ذلك، وبكلمة مختصرة كانت تتمتع " بحرية (حقيقية) تسمح
لها بالتحكم في سلوكها ".
وفي مقابل تلك التجربة الناجحة التي مارسها القرآن الكريم لتحريم الخمر نجد
أن أرقي شعوب العالم الغربي مدنية وثقافة في هذا العصر فشل في تجربة مماثلة، فقد
حاولت الولايات المتحدة الأميركية في القرن العشرين أن تخلص شعبها من
مضار الخمر فشرعت في سنة (1920) قانونا لتحريم الخمر، ومهدت لهذا القانون
بدعاية واسعة عن طريق السينما والتمثيل والإذاعة ونشر الكتب والرسائل، وكلها
تبين مضار الخمر مدعومة بالاحصائيات الدقيقة والدراسات الطبية.
وقد قدر ما أنفق على هذه الدعاية (65) مليونا من الدولارات، وسودت
تسعة آلاف مليون صفحة في بيان مضار الخمر والزجر عنها، ودلت
الاحصائيات للمدة الواقعة بين تأريخ تشريعه وبين تشرين الأول (1933) أنه
قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نسمة، وحبس نصف مليون نسمة، وغرم
المخالفون له غرامات تبلغ مليونا ونصف المليون من الدولارات، وصودرت
أموال بسبب مخالفته تقدر بأربعمائة مليون دولار، وأخيرا اضطرت الحكومة
الأميركية إلى الغاء قانون التحريم في أواخر سنة (1933)، وفشلت التجربة.
والسبب في ذلك أن الحضارات الغربية بالرغم من مناداتها بالحرية لم تستطع
بل لم تحاول ان تمنح الانسان الغربي (الحرية الحقيقية) التي حققها القرآن الكريم
71

للانسان المسلم، وهي حريته في مقابل شهواته وامتلاكه لإرادته امام دوافعه
الحيوانية، فقد ظنت الحضارات الغربية أن (الحرية) هي ان يقال للانسان: اسلك
كما تشاء وتصرف كما تريد، وتركت لأجل ذلك معركة التحرير الداخلي للانسان
من سيطرة تلك الشهوات والدوافع، فظل الانسان الغربي أسير شهواته عاجزا
عن امتلاك ارادته والتغلب على نزعاته، بالرغم من كل ما وصل إليه من علم
وثقافة ومدنية.
72

المكي والمدني (1)
ينقسم البحث حول المكي والمدني من القرآن إلى عدة بحوث نشير إلى بحثين
منها:
الاتجاهات في معنى المكي والمدني:
يقسم القرآن في عرف علماء التفسير إلى مكي ومدني، فبعض آياته مكية
وبعض آياته مدنية. وتوجد في التفسير اتجاهات عديدة لتفسير هذا المصطلح:
أحدها: الاتجاه السائد وهو تفسيره على أساس الترتيب الزماني للآيات،
واعتبار الهجرة حدا زمنيا فاصلا بين مرحلتين، فكل آية نزلت قبل الهجرة تعتبر
مكية، وكل آية نزلت بعد الهجرة فهي مدنية وإن كان مكان نزولها (مكة)،
كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكة وقت الفتح، فالمقياس هو الناحية
الزمنية لا المكانية.
والاتجاه الاخر هو الاخذ بالناحية المكانية مقياسا للتميز بين المكي والمدني،
فكل آية يلاحظ مكان نزولها، فان كان النبي (صلى الله عليه وآله) حين نزولها في مكة سميت
مكية، وإن كان حينذاك في المدينة سميت مدنية.
والاتجاه الثالث يقوم على أساس مراعاة اشخاص المخاطبين، فهو يعتبر أن
المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة.

(1) كتبه الشهيد الصدر (قدس سره).
73

ويمتاز الاتجاه الأول عن الاتجاهين الأخيرين بشمول المكي والمدني على
أساس الاتجاه الأول لجميع آيات القرآن، لأننا إذا أخذنا بالناحية الزمنية كانت
كل آية في القرآن إما مكية وإما مدنية، لأنها إذا كانت نازلة قبل هجرة النبي إلى
المدينة ودخوله فيها فهي مكية، وان نزلت على النبي في طريقه من مكة إلى
المدينة، أو كانت نازلة بعد دخول النبي مهاجرا إلى المدينة فهي مدنية، مهما كان
مكان نزولها.
وأما على الاتجاهين الأخيرين في تفسير المصطلح فقد نجد آية ليست مكية
ولا مدنية، كما إذا كان موضع نزولها مكانا ثالثا لا مكة ولا المدينة ولم يكن
خطابها لأهل مكة أو أهل المدينة، نظير الآيات التي نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله) في
معراجه أو اسرائه.
ترجيح أحد الاتجاهات الثلاثة:
وإذا أردنا أن نقارن بين هذه الاتجاهات الثلاثة لنختار واحدا منها فيجب ان
نطرح منذ البدء الاتجاه الثالث، لأنه يقوم على (أساس خاطئ) وهو الاعتقاد أن
من الآيات ما يكون خطابا لأهل مكة خاصة ومنها ما يكون خطابا لأهل المدينة،
وليس هذا بصحيح، فان الخطابات القرآنية عامة وانطباقها حين نزولها على أهل
مكة أو على أهل المدينة لا يعني كونها خطابا لهم خاصة أو اختصاص ما تشتمل
عليه من توجيه أو نصح أو حكم شرعي بهم، بل هي عامة ما دام اللفظ فيها عاما
كما عرفنا.
والواقع أن لفظ المكي والمدني ليس لفظا شرعيا حدد النبي مفهومه لكي نحاول
اكتشاف ذلك المفهوم، وانما هو مجرد اصطلاح تواضع عليه علماء التفسير، وما من
ريب في أن كل أحد له الحق في أن يصطلح كما يشاء، لا نريد هنا أن نخطئ الاتجاه
الأول أو الاتجاه الثاني ما دام لا يعبر كل منهما الا عن اصطلاح، من حق أصحاب
74

ذلك الاتجاه ان يضعوه، ولكنا نرى أن وضع مصطلح المكي والمدني على أساس
الترتيب الزمني - كما يقرره الاتجاه الأول - أنفع وأفيد للدراسات القرآنية، لان
التمييز من ناحية زمنية بين ما انزل من القرآن قبل الهجرة وما انزل بعدها أكثر
أهمية للبحوث القرآنية من التمييز على أساس المكان بين ما انزل على النبي في مكة
وما انزل عليه في المدينة، فكان جعل الزمن أساسا للتمييز بين المكي والمدني
واستخدام هذا المصطلح لتحديد الناحية الزمنية أوفق بالهدف.
وتتجلى أهمية التمييز الزمني من التمييز المكاني في نقطتين:
إحداهما: (فقهية) أي أنها ترتبط بعلم الفقه ومعرفة الأحكام الشرعية، وهي
أن تقسيم الآيات على أساس الزمن إلى مكية ومدنية وتحديد ما نزل قبل الهجرة
وما نزل بعدها يساعدنا على معرفة الناسخ والمنسوخ، لان الناسخ متأخر بطبيعته
على المنسوخ زمانا، فإذا وجدنا حكمين ينسخ أحدهما الاخر استطعنا ان نعرف
الناسخ عن طريق التوقيت الزمني، فيكون المدني منهما ناسخا للمكي لأجل
تأخره عنه زمانا (1).
والاخرى هي: أن التقسيم الزمني للآيات إلى مكية ومدنية يجعلنا نتعرف على
مراحل الدعوة التي مر بها الاسلام على يد النبي، فإن الهجرة المباركة ليست مجرد
حادث عابر في حياة الدعوة، وانما هي حد فاصل بين مرحلتين من عمر الدعوة،

(1) هذه النقطة انما تكون مهمة بناء على المذهب المعروف في علوم القرآن الذي يقول
بوجود النسخ بين الآيات القرآنية، من خلال افتراض وجود حكمين متخالفين أحدهما
متأخر عن الاخر زمانا فيفترض أن الثاني ناسخ للأول، وأما إذا التزمنا بعدم وجود النسخ
بهذا الشكل وانما موارد النسخ في القرآن مبينة من خلال نظر الآية الناسخة للآية
المنسوخة في مضمونها...، فلا تبقى قيمة لهذه النقطة وانما تكون مجرد فرضية، وللمزيد
من التوضيح يراجع بحث (النسخ) - المؤلف.
75

وهما مرحلة العمل في ضمن المجتمع الذي تحكمه السلطة الكافرة المهيمنة على جميع
الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، ومرحلة العمل ضمن دولة الاسلام،
ولئن كان بالامكان تقسيم كل من هاتين المرحلتين بدورها أيضا إلى مقاطع
زمنية، فمن الواضح على أي حال أن التقسيم الرئيس هو على أساس الهجرة.
فإذا ميزنا بين الآيات النازلة قبل الهجرة وما نزل منها بعد الهجرة استطعنا أن
نواكب تطورات الدعوة والخصائص العامة التي تجلت فيها خلال كل من
المرحلتين.
وأما مجرد أخذ مكان النزول بعين الاعتبار واهمال عامل الزمن فهو لا يمدنا
بفكرة مفصلة عن هاتين المرحلتين، ويجعلنا نخلط بينهما، كما يحرمنا من تمييز
الناسخ عن المنسوخ من الناحية الفقهية.
وسوف يتضح أيضا مزيد من الأهمية عند دراستنا لخصائص المكي والمدني،
فلهذا كله نؤثر الاتجاه الأول في تفسير المكي والمدني، وعلى هذا الأساس سوف
نستعمل هذين المصطلحين.
طريقة معرفة المكي والمدني:
بدأ المفسرون عند محاولة التمييز بين المكي والمدني بالاعتماد على الروايات
والنصوص التأريخية، التي تؤرخ السورة أو الآية وتشير إلى نزولها قبل الهجرة أو
بعدها، وعن طريق تلك الروايات والنصوص التي تتبعها المفسرون واستوعبوها
استطاعوا أن يعرفوا عددا كبيرا من السور والآيات المكية والمدنية ويميزوا
بينها.
وبعد أن توفرت لهم المعرفة بذلك اتجه كثير من المفسرين الذين عنوا بمعرفة
المكي والمدني إلى دراسة مقارنة لتلك الآيات والسور المكية والمدنية التي اكتشفوا
76

تأريخها عن طريق النصوص، وخرجوا من دراستهم المقارنة باكتشاف خصائص
عامة في السور والآيات المكية وخصائص عامة أخرى في المدني من الآيات
والسور فجعلوا من تلك الخصائص العامة مقاييس يقيسون بها سائر الآيات
والسور التي لم يؤثر توقيتها الزمني في الروايات والنصوص، فما كان منها يتفق مع
الخصائص العامة للآيات والسور المكية حكموا بأنه مكي، وما كان أقرب إلى
الخصائص العامة للمدني وأكثر انسجاما معها أدرجوه ضمن المدني من الآيات
بالسور.
وهذه الخصائص العامة التي حددت المكي والمدني بعضها يرتبط بأسلوب
الآية والسورة، كقولهم: إن قصر الآيات والسور وتجانسها الصوتي من
خصائص القسم المكي، وبعضها يرتبط بموضوع ومضمون النص القرآني، كقولهم
مثلا: إن مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم من خصائص السور المكية، ومحاورة
أهل الكتاب من خصائص السور المدنية.
ويمكن تلخيص ما ذكروه من الخصائص الأسلوبية والموضوعية للقسم المكي
فيما يأتي:
1 - قصر الآيات والسور وايجازها وتجانسها الصوتي.
2 - الدعوة إلى أصول الايمان بالله والوحي وعالم الغيب واليوم الآخر
وتصوير الجنة والنار.
3 - الدعوة للتمسك بالأخلاق الكريمة والاستقامة على الخير.
4 - مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم.
5 - استعمال السورة لكلمة " يا أيها الناس " وعدم استعمالها لكلمة " يا أيها الذين
آمنوا ".
وقد لوحظ أن سورة الحج تستثنى من ذلك لأنها استعملت الكلمة الثانية،
77

بالرغم من أنها مكية، فهذه الخصائص الخمس يغلب وجودها في السور المكية (1).
وأما ما يشيع في القسم المدني من خصائص عامة فهي:
1 - طول السورة والآية واطنابها.
2 - تفضيل البراهين والأدلة على الحقائق الدينية.
3 - مجادلة أهل الكتاب ودعوتهم إلى عدم الغلو في دينهم.
4 - التحدث عن المنافقين ومشاكلهم.
5 - التفصيل لاحكام الحدود والفرائض والحقوق والقوانين السياسية
والاجتماعية والدولية.
موقفنا من خصائص السور المكية والمدنية:
وما من ريب في أن هذه المقاييس المستمدة من تلك الخصائص العامة تلقي
ضوءا على الموضوع، وقد تؤدي إلى ترجيح لاحد الاحتمالين على الاخر في
السور التي لم يرد نص بأنها مكية أو مدنية، فإذا كانت إحدى هذه السور تتفق
مثلا مع السور المكية في أسلوبها وايجازها وتجانسها الصوتي وتنديدها بالمشركين
وتسفيه أحلامهم، فالأرجح أن تكون سورة مكية لاشتمالها على هذه الخصائص
العامة للسورة المكية.
ولكن الاعتماد على تلك المقاييس انما يجوز إذا أدت إلى العلم، ولا يجوز الاخذ
بها لمجرد الظن، ففي المثال المتقدم حين نجد سورة تتفق مع السور المكية في أسلوبها
وايجازها لا نستطيع أن نقول بأنها مكية لأجل ذلك، إذ من الممكن أن تنزل سورة
مدنية وهي تحمل بعض خصائص الأسلوب الشائع في القسم المكي، كما في سورة

(1) سورة الحج مدنية وليست مكية، وتستعمل فيها الكلمة الأولى والثانية، ولكن الأولى
أكثر كما أن سورة الحجرات مدنية بلا اشكال وتستعمل فيها كلمة (يا أيها الناس انا خلقناكم
من ذكر وأنثى...) الحجرات: 13 - المؤلف.
78

النصر وغيرها، صحيح أنه يغلب على الظن حينذاك أن السورة مكية لقصرها
وايجازها، ولكن الاخذ بالظن لا يجوز لأنه قول من دون علم: (ولا تقف ما ليس
لك به علم...) (1).
وإذا ما أدت تلك المقاييس إلى الاطمئنان والتأكد من تأريخ السورة وأنها
مكية أو مدنية فلا بأس بالاعتماد عليها عند ذاك.
ومثاله النصوص القرآنية التي تشتمل على تشريعات للحرب والدولة مثلا،
فإن هذه الخصيصة الموضوعية تدل على أن النص مدني، لان طبيعة الدعوة في
المرحلة الأولى التي عاشتها قبل الهجرة لا تنسجم اطلاقا مع التشريعات الدولية،
فنعرف من اجل هذا أن النص مدني نزل في المرحلة الثانية من الدعوة، اي في
عصر الدولة.
شبهات حول المكي والمدني
المقدمة:
لقد كان موضوع المكي والمدني من جملة الموضوعات القرآنية التي أثيرت
حولها الشبهة والجدل، وتنطلق الشبهة هنا من أساس هو: أن الفروق والميزات
التي تلاحظ بين القسم المكي من القرآن الكريم والقسم المدني منه تدعو في نظر
بعض المستشرقين إلى الاعتقاد بأن القرآن قد خضع لظروف بشرية مختلفة
- اجتماعية وشخصية - تركت آثارها على أسلوب القرآن وطريقة عرضه، وعلى
مادته والموضوعات التي عنى بها.
ويجدر بنا قبل ان ندخل في الحديث عن الشبهات ومناقشتها أن نلاحظ
الامرين التاليين، لما لهما من تأثير في فهم البحث ومعرفة نتائجه:

(1) الاسراء: 36.
79

الأول: أنه لا بد لنا ان نفرق منذ البدء بين فكرة تأثر القرآن الكريم، وانفعاله
بالظروف الموضوعية من البيئة وغيرها بمعنى انطباعه بها، وبين فكرة مراعاة
القرآن لهذه الظروف بقصد تأثيره فيها وتطويرها لصالح الدعوة.
فإن الفكرة الأولى تعني في الحقيقة: بشرية القرآن، حيث تفرض القرآن في
مستوى الواقع المعاش وجزءا من البيئة الاجتماعية يتأثر بها كما يؤثر فيها، بخلاف
الفكرة الثانية فإنها لا تعني شيئا من ذلك، لان طبيعة الموقف القرآني الذي
يستهدف التغيير، وطبيعة الاهداف والغايات التي يرمي القرآن إلى تحقيقها قد
تفرض هذه المراعاة، حيث تحدد الغاية والهدف طبيعة الأسلوب الذي يجب
سلوكه للوصول إليها.
فهناك فرق بين أن تفرض الظروف والواقع أنفسهما على الرسالة، وبين ان
تفرض الاهداف والغايات التي ترمي الرسالة إلى تحقيقها من خلال الواقع أسلوبا
ومنهجا للرسالة، لان الهدف والغاية ليسا شيئين منفصلين عن الرسالة ليكون
تأثيرهما عليها تأثيرا مفروضا من الخارج.
فنحن في الوقت الذي نرفض فيه الفكرة الأولى بالنسبة إلى القرآن، نجد أنفسنا
لا تأبى التمسك بالفكرة الثانية في تفسير الظواهر القرآنية المختلفة، سواء ما يرتبط
منها بالأسلوب القرآني أو الموضوع والمادة المعروضة فيه.
الثاني: ان تفسير أصل وجود الظاهرة القرآنية لا بد ان يعتبر هو المصدر
الأساس في جميع الأحكام التي تصدر على محتوى القرآن وأسلوب العرض فيه،
فقد تكون النقطة الواحدة في القرآن الكريم سببا في إصدار حكمين مختلفين نتيجة
للاختلاف في تفسير أصل وجود القرآن، وسوف نورد بعض الأمثلة لهذا الاختلاف
في الحكم عندما نذكر ان من شروط المفسر للقرآن ان يكون ذا ذهنية إسلامية (1).

(1) راجع بحث شروط المفسر.
80

ومن أجل ذلك فنحن لا نسوغ لأنفسنا ان نقبل حكما ما في تفسير نقطة حول
القرآن الكريم، لمجرد انسجام هذا الحكم مع تلك النقطة، بل لا بد لنا ننظر أيضا
- بشكل مسبق - إلى مدى انسجام الحكم مع التفسير الصحيح لوجود الظاهرة
القرآنية نفسها.
إن الظاهرة القرآنية - كما سنشرحها في البحوث القادمة - ليست نتاجا
شخصيا لمحمد (صلى الله عليه وآله) ومن ثم ليست نتاجا بشريا مطلقا، وانما هي نتاج الهي مرتبط
بالسماء، وعلى هذا الأساس يمكننا ان نجزم بشكل مسبق ببطلان جميع الشبهات
التي تثار حول المكي والمدني، لأنها في الحقيقة تفسيرات لظاهرة الفرق بين المكي
والمدني على أساس أن القرآن الكريم نتاج بشري.
وبالاحرى يجب ان يقال: إن شبهات المكي والمدني ترتبط في
الحقيقة بالشبهات التي أثيرت حول الوحي ارتباطا موضوعيا، لأنها ترتبط
بفكرة انكار الوحي، ولكن مع ذلك - من اجل توضيح الحقيقة - قد نحتاج إلى
مناقشة تفصيلية للشبهات التي أثيرت حول الوحي بشكل عام، وحول
المكي والمدني بشكل خاص، لابراز نقاط الإثارة والتلاعب التي ذكرها
المستشرقون، وبيان انسجام الظواهر القرآنية المختلفة مع ظاهرة الوحي
الإلهي، ولذا فسوف نناقش هذه الشبهات بعد التحدث عنها لايضاح بطلانها من
ناحية، وتقديم التفسير الصحيح للفرق بين المكي والمدني - بعد ذلك - من
ناحية ثانية.
وللشبهة حول المكي والمدني جانبان: جانب يرتبط بالأسلوب القرآني فيها،
وجانب آخر يرتبط بالمادة والموضوعات التي عرض القرآن لها في هذين
القسمين، وفي كل من القسمين تصاغ الشبهة على عدة اشكال، نذكر منها
صياغتين لكل واحد من القسمين:
81

أ - أسلوب القسم المكي يمتاز بالشدة والعنف والسباب:
فقد قالوا: إن أسلوب القسم المكي من القرآن يمتاز عن القسم المدني بطابع
الشدة والعنف، بل وبالسباب أيضا، وهذا يدل على تأثر محمد بالبيئة في مكة التي
كان يعيش فيها، لأنها مطبوعة بالغلظة والجهل، ولذا يزول هذا الطابع عن القرآن
الكريم عندما ينتقل محمد إلى مجتمع المدينة الذي، تأثر فيه - بشكل أو بآخر -
بحضارة أهل الكتاب وأساليبهم.
وتستشهد الشبهة بعد ذلك لهذه الملاحظة بالسور والآيات المكية المطبوعة
بطابع الوعيد والتهديد والتعنيف، أمثال: سورة (المسد) وسورة (العصر) وسورة
(التكاثر) وسورة (الفجر) وغير ذلك.
ويمكن ان نناقش هذه الشبهة بما يلي:
أولا: بعدم اختصاص القسم المكي من القرآن الكريم بطابع الوعيد والانذار
دون القسم المدني، بل يشترك المكي والمدني بذلك، كما أن القسم المدني لا يختص
أيضا - كما قد يفهم من الشبهة - بالأسلوب اللين الهادئ الذي يفيض سماحة
وعفوا، بل نجد ذلك في المكي، والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة.
فمن القسم المدني الذي اتسم بالشدة والعنف قوله تعالى: (فان لم تفعلوا ولن
تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) (1).
وقوله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان
من المس...) (2) و (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم
مؤمنين * فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم فلكم رؤس أموالكم لا
تظلمون ولا تظلمون) (3).

(1) البقرة: 24.
(2) (3) البقرة: 275 و 278، 279.
82

وقوله تعالى: (ان الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا
وأولئك هم وقود النار * كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله
بذنوبهم والله شديد العقاب * قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس
المهاد) (1).
إلى غير ذلك من الآيات التي سوف نشير إلى بعضها قريبا.
كما نجد في القسم المكي لينا وسماحة نحو قوله تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا
إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين * لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع
بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها الا الذين
صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) (2).
وقوله تعالى: (فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وابقى للذين
آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم
يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم
ينفقون * والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون * وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا
وأصلح فأجره على الله انه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من
سبيل * انما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم
عذاب اليم * ولمن صبر وغفر ان ذلك لمن عزم الأمور) (3).
وقوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم * لا تمدن عينيك
إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) (4).

(1) آل عمران: 10 - 12.
(2) فصلت: 33 - 35.
(3) الشورى: 36 - 43.
(4) الحجر: 87 - 88.
83

وقوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان
الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم) (1).
وثانيا: إنه ليس في القرآن الكريم سباب وشتم كيف وقد نهى القرآن نفسه في
القسم المكي عن السب والشتم، حيث قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من
دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم...) (2).
وليس في سورة (المسد) أو (التكاثر) سب أو بذاءة - كما يحاول المستشرقون
ان يقولوا ذلك - وانما فيهما تحذير ووعيد بالمصير الذي ينتهي إليه أبو لهب
والكافرون بالله.
نعم، يوجد في القرآن الكريم تقريع وتأنيب عنيف، وهو موجود في المدني كما
هو في المكي - وان كان يكثر وجوده في المكي - بالنظر لمراعاة ظروف الاضطهاد
والقسوة التي كانت تمر بها الدعوة، الامر الذي اقتضى ان يواجه القرآن ذلك
بالعنف والتقريع - أحيانا - لتقوية معنويات المسلمين من جانب، وتحطيم
معنويات الكافرين من جانب آخر، كما سوف نشير إليه قريبا.
ومن هذا التقريع في السور المدنية قوله تعالى: (ان الذين كفروا سواء عليهم
أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم
غشاوة ولهم عذاب عظيم * ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم
بمؤمنين... صم بكم عمي فهم لا يرجعون) (3).
وقوله تعالى: (... وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله ذلك
بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا

(1) الزمر: 53.
(2) الانعام: 108.
(3) البقرة: 6 - 18.
84

يعتدون) (1) وقوله: (بئسما اشتروا به أنفسهم ان يكفروا بما انزل الله بغيا أن ينزل
الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤا بغضب على غضب وللكافرين عذاب
مهين) (2).
وقوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه
للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) (3).
وقوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى اني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين
كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم
بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا
والآخرة وما لهم من ناصرين) (4).
وقوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب
عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء
السبيل) (5).
وقوله تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه
مبسوطتان...) (6).
ب - أسلوب القسم المكي يمتاز بقصر السور والآيات:
وقالوا أيضا: إن من الملاحظ قصر السور والآيات في القسم المكي على عكس
القسم المدني الذي جاء بشئ من التفصيل والاسهاب، فنحن نجد أن السور المكية
جاءت قصيرة ومعروضة بشكل موجز، في الوقت الذي نجد في القسم المدني
سورة البقرة وآل عمران والنساء وغيرها من السور الطوال.

(1) و (2) و (3) البقرة: 61 و 90 و 159.
(4) آل عمران: 55 و 56.
(5) و (6) المائدة: 60 و 64.
85

وهذا يدل على انقطاع الصلة بين القسم المكي والقسم المدني، وتأثرهما بالبيئة
التي كان يعيشها محمد (صلى الله عليه وآله)، فان مجتمع مكة لما كان مجتمعا أميا لم يكن النبي
بقدرته التبسط في شرح المفاهيم وتفصيلها، وانما واتته القدرة على ذلك عندما
أخذ يعيش مجتمع المثقفين المتحضر في يثرب.
وتناقش هذه الشبهة بالامرين التاليين:
الأول: أن القصر والايجاز ليسا مختصين بالقسم المكي، بل توجد في القسم
المدني سور قصيرة أيضا كالنصر والزلزلة والبينة وغيرها، كما أن الطول والتفصيل
ليسا مختصين بالقسم المدني، بل توجد في المكي أيضا سور طويلة، كالانعام
والأعراف.
وقد يقصد من اختصاص المكي بالقصر والايجاز: أن هذا الشئ هو الغالب
الشائع فيه.
وقد يكون هذا صحيحا، ولكنه لا يدل بوجه من الوجوه على انقطاع الصلة
بين القسمين المذكورين من القرآن الكريم، لأنه يكفي في تحقيق هذه الصلة ان
يأتي القرآن الكريم ببعض السور الطويلة المفصلة في القسم المكي، كدليل على
القدرة والتمكن من الارتفاع إلى مستوى التفصيل في المفاهيم والموضوعات.
إضافة إلى أن من الملاحظ وجود آيات مكية قد أثبتت في السور المدنية
والعكس يصح أيضا، وفي كلا الحالتين نجد التلاحم والانسجام في السورة، وكأنها
نزلت مرة واحدة، الامر الذي يدل بوضوح على وجود الصلة التامة بين القسمين.
الثاني: أن الدراسات اللغوية التي قام بها العلماء المسلمون وغيرهم دلت على
أن الايجاز يعتبر مظهرا من مظاهر القدرة الخارقة على التعبير، وهو من ثم من
مظاهر الاعجاز القرآني، وليس نقصا أو عيبا في القسم المكي، خصوصا إذا أخذنا
بعين الاعتبار أن القرآن قد تحدى العرب بأن يأتوا بسورة من مثله، حيث يكون
86

التحدي بالسورة القصيرة أروع وأبلغ منه حين يكون بسورة مفصلة.
ج - لم يتناول القسم المكي في مادته التشريع والاحكام:
وقالوا: إن القسم المكي لم يتناول - فيما تناول من موضوعات - جانب
التشريع من أحكام وأنظمة، بينما تناول القسم المدني هذا الجانب من التفصيل.
وهذا يعبر عن جانب آخر من التأثر بالبيئة والظروف الاجتماعية، حيث لم يكن
مجتمع مكة مجتمعا متحضرا، ولم يكن قد انفتح على معارف أهل الكتاب
وتشريعاتهم، على خلاف مجتمع المدينة الذي تأثر إلى حد بعيد بالثقافة والمعرفة
للأديان السماوية كاليهودية والنصرانية.
وتناقش هذه الشبهة بالامرين التاليين أيضا:
اولا: إن القسم المكي لم يهمل جانب التشريع، وانما تناول أصوله العامة وجملة
مقاصد الدين، كما جاء في قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الا
تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من املاق نحن نرزقكم واياهم
ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق
ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ
أشده...) (1).
كما طرحت من خلاله مجمل النظريات والتصورات القرآنية حول الكون
والحياة والمجتمع والانسان...
إضافة إلى أننا نجد في القسم المكي، وفي سورة الأنعام (2) بالخصوص مناقشة
لكثير من تشريعات أهل الكتاب والتزاماتهم، وهذا يدل على معرفة القرآن
الكريم بهذه التشريعات وغيرها مسبقا.

(1) الانعام: 151، 152.
(2) الآيات: 119 - 121 و 138 - 146.
87

وثانيا: إن هذه الظاهرة يمكن ان نطرح في تفسيرها نظرية أخرى تنسجم مع
الأساس الموضوعي لوجود الظاهرة القرآنية نفسها، وهذه النظرية هي ان يقال:
إن الحديث عن تفاصيل التشريع في مكة كان شيئا سابقا لأوانه، حيث لم يستلم
الاسلام حينذاك زمام الحكم بعد، بينما الامر في المدينة على العكس، فلم يتناول
القسم المكي تفاصيل التشريع، لان ذلك لا يتفق مع المرحلة التي تمر بها الدعوة،
وانما تناول الجوانب الأخرى التي تنسجم مع الموقف العام، كما سوف نشرح ذلك
قريبا.
د - لم يتناول القسم المكي في مادته الأدلة والبراهين:
وقالوا: إن القسم المكي لم يتناول أيضا الأدلة والبراهين على العقيدة
وأصولها، على خلاف القسم المدني، وهذا تعبير آخر أيضا عن تأثر القرآن
بالظروف الاجتماعية والبيئية، إذ عجزت الظاهرة القرآنية - بنظر هؤلاء - عن
تناول هذا الجانب الذي يدل على عمق النظر في الحقائق الكونية، عندما كان
يعيش محمد (صلى الله عليه وآله) في مكة مجتمع الأميين، بينما ارتفع مستوى القرآن في هذا الجانب
عندما أخذ محمد (صلى الله عليه وآله) يعيش إلى جانب أهل الكتاب في المدينة، وذلك نتيجة
لتأثره بهم لانهم أصحاب فكر وفلسفة ومعرفة بالديانات السماوية، ولتطور
الظاهرة القرآنية نفسها أيضا.
وتناقش هذه الشبهة من وجهين:
الأول: أن القسم المكي لم يخل من الأدلة والبراهين بل تناولها في كثير من
سوره، والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة وفي مجالات شتى فمن نماذج وموارد
الاستدلال على التوحيد قوله تعالى:
(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين *
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن
88

عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا
قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى
الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون *
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما انا من المشركين *
وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا ان يشاء
ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون
انكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن ان كنتم تعلمون
* الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون * وتلك حجتنا
آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له
إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب
ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين) (1).
وقوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق
ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) (2).
وقوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما
يصفون * لا يسأل عما يفعل وهم يسألون * أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم
هذا ذكر من معي وذكر من قبلي، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) (3).
وبصدد الاستدلال على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) وارتباط ما جاء به بالسماء: (وما كنت
تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات
في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا الا الظالمون * وقالوا لولا انزل عليه

(1) الانعام: 74 - 83.
(2) المؤمنون: 91.
(3) الأنبياء: 22 - 24.
89

آيات من ربه قل انما الآيات عند الله وانما ان نذير مبين * أو لم يكفهم انا أنزلنا عليك
الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) (1).
وبصدد الاستدلال على البعث والجزاء قوله تعالى: (ونزلنا من السماء ماء
مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد
وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج... أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق
جديد) (2).
وقوله تعالى: (أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم إلينا لا ترجعون) (3).
وقوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا
وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون * وخلق الله السماوات
والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون) (4).
وهكذا تتناول الأدلة جوانب أخرى من العقيدة الاسلامية والمفاهيم العامة:
بل إن القرآن الكريم تناول أكثر قصص الأنبياء والمناقشات والأدلة التي
دارت بينهم وبين أقوامهم في القسم المكي من القرآن على ما سوف نعرف.
الثاني: أنه لو تنازلنا عن ذلك فمن الممكن تفسير هذا الفرق على أساس
مراعاة طبيعة موقف المواجهة من الدعوة، حيث كانت تواجه الدعوة في مكة
مشركي العرب وعبدة الأصنام، والأدلة التي كان يواجه القرآن بها هؤلاء أدلة
وجدانية، من الممكن ان تستوعبها مداركهم ويقتضيها وضوح بطلان العقيدة
الوثنية، والقرآن - كما عرفنا - انما هو كتاب هداية وتغيير وتزكية وليس كتابا

(1) العنكبوت: 48 - 51.
(2) ق: 9 - 11 و 15.
(3) المؤمنون: 115.
(4) الجاثية: 21، 22.
90

علميا فهو كان يواكب تطور الدعوة الاسلامية ومسيرتها في آياته ونزوله، وحين
اختلفت طبيعة الموقف، وأصبحت الأفكار المواجهة تمتاز بكثير من التعقيد
والتزييف والانحراف - كما هو الحال في عقائد أهل الكتاب - اقتضى الموقف
مواجهتها، بأسلوب آخر من البرهان والدليل أكثر تعقيدا وتفصيلا (1).
الفروق الحقيقية بين المكي والمدني:
ولم نجد في الشبهات التي تناولناها - ولا نجد في غيرها - ما يمكنه ان يصمد أمام
النقد العلمي أو الدرس الموضوعي، ولكن مع كل ذلك يجدر بنا أن نقدم تفسيرا
منطقيا لظاهرة الفرق بين القسم المكي والقسم المدني، وان كنا قد ألمحنا إلى جانب
من هذا التفسير عندما تناولنا الشبهات بالنقد والمناقشة.
ويحسن بنا - قبل ذلك - ان نذكر الفروق الحقيقية التي امتاز بها المكي عن
المدني سواء ما يتعلق بالأسلوب أو بالموضوع الذي تناوله القرآن، ثم نفسر هذه
الفروق على أساس الفكرة التي أشرنا إليها في صدر البحث، والتي تقول: إن هذه
الفروق كانت نتيجة لمراعاة ظروف الدعوة والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها،
لان الهدف والغاية يلقيان - في كثير من الأحيان - بظلمهما على أسلوب العرض
والمادة المعروضة.
وتلخص هذه الفروق والخصائص التي يمتاز بها المكي عن المدني غالبا
بالأمور التالية (2):
1 - ان القسم المكي عالج بشكل أساسي مبادئ الشرك والوثنية، وأسسها
النفسية والفكرية، ومؤداها الأخلاقي والاجتماعي.

(1) للمزيد من التفصيل في عرض الشبهات ومناقشتها، راجع ما ذكره الزرقاني في
" مناهل العرفان " 1: 199.
(2) سبق أن أشرنا إلى هذه الميزات وغيرها عند البحث عن المكي والمدني.
91

2 - وقد اكد ما في الكون من بدائع الخلقة وعجائب التكوين، الامر الذي
يشهد بوجود الخالق المدبر لها. كما أكد (عالم الغيب) و (البعث والجزاء)
و (الوحي) و (النبوات) وشرح ما يرتبط بذلك من أدلة وبراهين، كما خاطب
الوجدان الانساني وما أودعه الله فيه من عقل وحكمة وشعور.
3 - والى جانب ذلك تحدث عن الأخلاق بمفاهيمها العامة، مع ملاحظة
مصاديقها الخارجية والجانب التطبيقي منها في المجتمع وحذر من الانحراف، وذلك
مثل الكفر والعصيان والجهل والعدوان والكبر وسفك الدماء ووأد البنات
واستباحة الاعراض وأكل أموال اليتامى ونقص الموازين وقطيعة الأرحام، إلى
غير ذلك من موارد الطغيان والهوى، وعرض إلى جانب ذلك الوجه الصحيح
للأخلاق، كالايمان بالله والطاعة له والعلم والعقل والمحبة والرحمة والعفو والصبر
والاخلاص والعزم والإرادة والشكر واحترام الآخرين وبر الوالدين واكرام
الجار وطهارة القلب واللسان والصدق في المعاملة والتوكل على الله، وغير ذلك
من موارد الخير والصلاح.
4 - وقد تحدث عن قصص الأنبياء والرسل والمواقف المختلفة التي كانوا
يواجهونها من قبل أقوامهم وأممهم في معركة الايمان والكفر، وما يستنبط من ذلك
من العبر والمواعظ.
5 - انه سلك طريق الايقاع الصوتي والايجاز في الخطاب، سواء في الآيات أو
السور.
ويكاد يكون المدني بخلاف ذلك في هذه الأمور على الغالب، وان كان قد امتاز
بالأمور التالية:
1 - دعوة أهل الكتاب إلى الاسلام مع مناقشتهم، وبيان انحرافهم عن العقيدة
والمناهج الحقة التي أنزلت على أنبيائهم.
92

2 - بيان التفصيلات في التشريع، التي تتناول الفرد والجماعة ونظام الحكم،
ومعالجة مشاكل العلاقات المختلفة في المجتمع الانساني، مثل علاقة الحاكم بالمحكوم
وعلاقة المؤمنين ببعضهم وعلاقتهم مع أعدائهم الداخليين والخارجيين ومع
المحايدين، والعلاقات الزوجية والدولية، والحرب والهدنة والمعاهدات وغيرها،
وتحديد المواقف السياسية والقانونية والأخلاقية منها.
3 - تناول حركة النفاق في المجتمع الاسلامي وخلفياتها الأخلاقية والسياسية،
وأهدافها وظواهرها والموقف السياسي منها.
التفسير الصحيح للفرق بين المكي والمدني:
وحين نريد أن ندرس ظاهرة الفرق بين المكي والمدني من خلال هذه
الخصائص والميزات نجد:
أولا: إن هذه الفروق لا تشكل حدا فاصلا بين هذين القسمين في القرآن
الكريم، وانما هي طابع عام لكل من القسمين، وإلا فنحن نلاحظ ان كلا من
القسمين تناول بعض أو كل الجوانب الأخرى للقسم الثاني بشكل أو بآخر
انسجاما مع الأسلوب القرآني العام، الذي تميز بمزج الأفكار والمفاهيم ليوجد
منها هذا التركيب الفريد المؤثر في عملية التغيير كما أسلفنا.
ثانيا: إن الدعوة الاسلامية بدأت في مكة وعاشت فيها ثلاث عشرة سنة،
وهذه المدة منسوبة إلى زمن نزول القرآن، تعتبر في الحقيقة مدة إرساء أسس
القواعد والمفاهيم العامة عن العقيدة الإلهية، أو عالم الغيب أو الأخلاق أو السنن
والقوانين التأريخية التي تحكم مسيرة التأريخ والمجتمع الانساني.
وسواء ما يتعلق بالجانب الايجابي من ذلك، كعرض مفاهيم الاسلام عن
الكون والحياة والأخلاق والمجتمع، أو ما يتعلق بالجانب السلبي، كمناقشة
الأفكار الكافرة أو المنحرفة والباطلة التي كانت تسود المجتمع آنذاك.
93

وهذه الحقيقة تفرض - بطبيعة الحال ان - يكون القسم المكي مرتبطا - بمادته
وموضوعاته - بالأسس والركائز للرسالة الجديدة، بحيث يكون أكثر شمولا
واتساعا في تناوله لهذا الجانب من جانب آخر، وهذا هو الذي يفسر لنا أيضا
غلبة المكي على المدني من الناحية الكمية، مع أن المدة المدنية تبدو - تأريخيا -
وكأنها زاخرة بالاحداث الجسام، والمجتمع المدني أكثر تعقيدا ومشاكل، لان
القرآن في القسم المدني لم يكن بحاجة كبيرة إلى تناول تلك الأسس والركائز بعد أن
كان قد تناولها في القسم المكي باستيعاب.
ثالثا: إن عملية التغيير الاجتماعي كانت بحاجة - على أساس الفكرة التي
أشرنا إليها في بداية هذا الفصل - إلى أن تهتم بمراعاة الظروف وطبيعة المجتمع التي
تتناوله عملية التغيير، وتركز على القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية،
والأمراض الأخلاقية التي يعيشها ذلك المجتمع، حتى يتحقق هذا التغيير بشكل
مناسب.
وبذلك يمكن تفسير الخصائص السابقة التي أشرنا إليها في الفرق بين المكي
والمدني.
فأما بالنسبة إلى الخصيصة الأولى: نلاحظ أن المجتمع المكي كان مجتمعا يتسم
بطابع الوثنية في الجانب العقيدي، فكان من الطبيعي تأكيد فكرة رفض الشرك
والوثنية والدخول في مناقشة طويلة معها بالأساليب والطرق شتى. إضافة إلى أن
ايضاح الموقف تجاه العقيدة الوثنية يشكل نقطة أساسية في القاعدة للرسالة
الجديدة، لأنها تتبنى التوحيد الخالص أساسا لكل جوانبها وتفصيلاتها الأخرى.
وبالنسبة إلى الخصيصة الثانية: نلاحظ أن المجتمع المكي لم يكن يؤمن بفكرة
الاله الواحد، كما لا يؤمن بعوالم الغيب والبعث والجزاء والوحي، وغير ذلك من
شؤون عالم الغيب، والتأثير المتبادل بينه وبين عالم الطبيعة وحياة الانسان
94

الاجتماعية، وهذه الأفكار من القواعد الأساسية للرسالة والعقيدة الاسلامية.
إضافة إلى أن مجتمع أهل الكتاب كان يؤمن بهذه الأصول جميعها مع بعض
الاختلاف في تفصيلها، فكان من الضروري أن يؤكد القسم المكي تأسيس هذه
الأصول وتوضيح المفاهيم العامة عنها، انسجاما مع طبيعة المرحلة المكية التي
تعتبر مرحلة متقدمة، كما أن بيانها في هذه المرحلة يجعل المرحلة الثانية المدنية في
غنى عن بيانها مرة أخرى، وتكون الحاجة حينئذ إلى تناول التفصيلات الأخرى
التي هي محل الاختلاف مع أهل الكتاب.
وبالنسبة إلى الخصيصة الثالثة: فلعل تأكيد دور الأخلاق في القسم المكي دون
المدني كان بسبب العوامل الثلاثة التالية:
أ - إن الأخلاق تعتبر قاعدة النظام الاجتماعي في نظر الاسلام، إضافة إلى أنها
هدف رسالي في تغيير الانسان وتربيته وتكامله، فتأكيد دورها يعني - في
الحقيقة - ارساء لقاعدة النظام الاجتماعي الذي يستهدفه القرآن، وتحقيقا للهدف
في تربية الانسان ورقيه.
ب - إن الدعوة كانت بحاجة - من اجل نجاحها - إلى استثارة العواطف
الانسانية الخيرة والفطرة السليمة، ليكون نفوذها في المجتمع وتأثيرها في الافراد
عن طريق مخاطبة هذه العواطف، والأخلاق هي الأساس الحقيقي لكل هذه
العواطف، وهي الرصيد الذي يمدها بالحياة والنمو.
ج - إن المجتمع المدني كان يمارس الأخلاق من خلال التطبيق الذي كان
يباشره الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) بنفسه، من خلال موقعه في قمة المجتمع الاسلامي،
وبذلك يكون القدوة الطبيعية لهذا المجتمع، أو من خلال تطبيقه لهذه الأخلاق
عمليا في العلاقات الاجتماعية القائمة، بعد أن تكون المجتمع الاسلامي وقامت
أركانه، فلم يكن بحاجة - بنفس الدرجة - إلى تأكيد المفاهيم الأخلاقية، على
95

العكس من المجتمع المكي الذي كان يعيش فيه المسلمون حياة الاضطهاد، وكان
المجتمع يمارس التطبيق فيه للأخلاق الجاهلية، حيث يكون المجتمع بحاجة إلى
التأكيد المفاهيمي للأخلاق.
وبالنسبة للخصيصة الرابعة: نجد القصص تتناول - من حيث الموضوع - أكثر
القضايا والنواحي التي عالجها القرآن الكريم، من العقيدة بالإله الواحد وعالم
الغيب والوحي والأخلاق والبعث والجزاء، إضافة إلى أنها تصور المراحل
المتعددة للدعوة والمواقف المختلفة منها، والقوانين الاجتماعية والتأريخية التي
تتحكم فيها وفي نتائجها، والمصير الذي يواجهه أعداؤها.
والى جانب ذلك تعتبر القصة في القرآن أحد أسباب الاعجاز فيه، وأحد
الأدلة على ارتباطه بالسماء، كما سوف نتعرف على ذلك.
وكل هذه الأمور لها صلة وثيقة بالظروف التي كانت تمر بها الدعوة والرسالة
الاسلامية في مكة، ولها تأثير كبير في تطويرها لصالح الدعوة وأهدافها الرئيسة.
ومع كل هذا لم يهمل القسم المدني القصة مطلقة، بل تناولها بالشكل الذي
ينسجم مع طبيعة المرحلة التي تمر بها، كما سوف نتعرف على ذلك عند دراستنا للقصة.
وبالنسبة إلى الخصيصة الخامسة: فقد كان لها ارتباط وثيق بجوانب مرحلية
واعجازية، لان المرحلة كانت تفرض كسر طوق الأفكار الجاهلية، الذي كان
مضروبا على المجتمع، فكان لهذا الأسلوب الصاعق الحاد تأثير فعال في تذليل
الصعوبات، وتحطيم معنويات المقاومة المضادة العنيفة.
وحين يتحدى القرآن الكريم العرب في أن يأتوا بسورة منه، يكون الايجاز في
السورة أبلغ في ايضاح الاعجاز القرآني، واعمق تأثيرا وابعد مدى.
وقد كانت المعركة - إضافة إلى ذلك كله في أولها - معركة شعارات وتوطيد
مفاهيم عامة عن الكون والحياة، والايجاز والقصر ينسجم مع واقع المعركة
96

وإطارها، أكثر من الدخول في تفصيلات واسعة، ولهذا نشاهد السور القصيرة
تمثل المرحلة الأولى تقريبا من مراحل القسم المكي.
وهذه الابعاد لم تكن تتوفر في مجتمع المدينة بعد أن أصبح الاسلام هو الحاكم
المسيطر على المجتمع، وبعد ان أصبحت مسألة الوحي والاتصال بالسماء مسألة
واضحة، وبعد ان جاء دور آخر للمعركة يفرض أسلوبا آخر في العرض والبيان.
ومن هذا الدرس لخصائص ومميزات القسم المكي تتضح مبررات خصائص
القسم المدني، من الدخول في تفصيلات الأحكام الشرعية والأنظمة الاجتماعية،
أو مناقشة أهل الكتاب في عقائدهم وانحرافاتهم، حيث فرضته ظروف الحكم في
المدينة.
وكذلك معالجة موقف المشركين، وقضية الجهاد والقتال معهم، واتخاذ المواقف
السياسية والاجتماعية تجاههم.
والحديث عن ظاهرة النفاق في المجتمع الاسلامي، وأسبابها والمواقف تجاهها،
وتوضيح طبيعة العلاقات السياسية في المجتمع، وموقع ولي الأمر فيها والحاجة إلى
تنظيم العلاقات بين الناس، كل ذلك يفرض الحاجة إلى بيان هذه التفصيلات في
التشريعات والأنظمة.
كما أن المعركة في المدينة انتقلت من الأصول والأسس العامة للعقيدة إلى
جوانب تفصيلية منها، ترتبط بحدودها واشكالها وبالعمل على تقويم الانحراف
الذي وضعه أهل الكتاب فيها، والأمراض التي يبتلى بها المجتمع في ظل الحكم
الجديد، والضغوط التي يواجهها من قبل الأنظمة الأخرى.
وبهذا نفسر الفرق بين المكي والمدني، بالشكل الذي ينسجم مع فكرتنا عن
الهدف الأصيل للقرآن، وفكرتنا عن مراعاته للظروف من اجل تحقيق أهدافه
وغاياته.
97

ثبوت النص القرآني
من البحوث القرآنية المهمة هذا البحث الذي نحن بصدده، لان نتيجة هذا
البحث سوف تؤكد لنا سلامة المضمون في النص القرآني، وسلامة الأسس
والمفاهيم والأحكام المذكورة فيه.
والنكتة موضوع البحث هي مدى مطابقة هذا النص القرآني - المثبت في
المصحف الشريف - للوحي الذي نزل على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بوصفه كلاما
إلهيا متعبدا بتلاوته، ومدى سلامة الطريقة التي وصلنا بها هذا النص، الامر الذي
يجعله في منجاة عن التحريف والتشويه.
وحين نريد أن نرجع إلى تأريخ هذا البحث نجده من البحوث القرآنية التي
تناولها الباحثون منذ العصور الأولى للبحث القرآني، خصوصا إذا نظرنا إليه من
خلال النصوص والأحاديث التي تناولته.
ولكن الآراء العلمية تكاد تتفق على نتيجة واحدة وهي قطعية التطابق بين
النص القرآني المتداول والوحي الذي نزل على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بعنوانه
قرآنا.
ومع كل هذا نجد أن خلافا نسب إلى علماء الإمامية وغيرهم في هذا الموضوع،
حيث قيل عنهم: إنهم يقولون بتحريف القرآن الكريم.
كما أن شبهة التحريف أصبحت فيما بعد مجال الاستغلال المتنوع للطعن في
القرآن الكريم من قبل مختلف التيارات الكافرة التي واجهها المسلمون في
99

عصورهم القديمة والحديثة، وكانت آخرها محاولات التبشير التي قادها
المستشرقون وغيرهم للتشكيك في سلامة النص القرآني.
وعلى أساس كل من الخلافين نجد البحث حول هذه النقطة يواجه مسؤوليتين:
الأولى: مسؤولية مناقشة هذه الشبهة وتحقيق فسادها وبطلانها على أساس
الفرضية الاسلامية ومستلزماتها التي تعترف بالنصوص الدينية، القرآنية أو
الصادرة من النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام (عليهم السلام).
الثانية: مسؤولية مناقشة هذه الشبهة على أساس البحث الموضوعي وما
تفرضه طبيعة الأشياء من نتائج دون الالتزام بالنصوص الدينية ومستلزمات
الايمان ببعضها.
والمواجهة الأولى قد تبدو أنها أسهل منالا ولكنها لا تحقق الغرض إلا تجاه
الفرد المسلم الذي يؤمن بالاسلام ونصوصه الدينية ورجاله الطيبين، الامر الذي
يفرض علينا أن نعطي المواجهة الثانية حقها من الأهمية، لأنها تحقق الغرض
بشكل شامل وتقطع الطريق على الشبهة عند كل واحد من الناس، حتى لو كان
غير مؤمن بشئ من الفرضية الاسلامية.
ونكتفي هنا بأن نشير - بصدد المواجهة الأولى - إلى أن الرأي السائد لدى
علماء الإمامية هو الالتزام بسلامة القرآن الكريم من التحريف، كما أن السيد
الخوئي (قدس سره) قد تحدث بشكل تفصيلي وجيد عن الشبهة حين تناولها في الاطار
الاسلامي، وانتهى إلى الحق الذي لا شبهة فيه وهو سلامة النص القرآني من
التحريف (1).
لذا فسوف نخص بالبحث المواجهة الثانية، وندرس الشبهة على أساس
موضوعي وبمقتضى ما تفرضه (طبيعة الأشياء) من نتائج.

(1) البيان في تفسير القرآن: 195 - 235.
100

تدوين القرآن في زمن النبي (صلى الله عليه وآله):
إن (طبيعة الأشياء) تدل بشكل واضح على أن القرآن قد تم تدوينه في زمن
النبي (صلى الله عليه وآله).
ونقصد بطبيعة الأشياء: مجموع الظروف والخصائص الموضوعية والذاتية
المسلمة واليقينية التي عاشها النبي والمسلمون والقرآن أو اختصوا بها، مما يجعلنا
نقتنع بضرورة قيام النبي (صلى الله عليه وآله) بجمع القرآن في عهده، وهذه الظروف والخصائص
هي ما يلي:
أ - يعتبر القرآن الكريم الدستور الأساسي للأمة الاسلامية وهو يشكل الزاوية
الرئيسة التي يقوم عليها كيان الأمة العقيدي والتشريعي والثقافي إلى جانب
المناهج الاسلامية الأخرى عن المجتمع والأخلاق، كما أنه يعتبر أتقن المصادر
التأريخية لديها وأروع النصوص الأدبية، ولم يكن المسلمون في صدر حياتهم
الاجتماعية يملكون شيئا من القدرات الفكرية والثقافية في مختلف الميادين التي
يخوضها الفكر الانساني غير القرآن الكريم، فالقرآن بالنسبة لهم بصفتهم أمة
حديثة يمثل المحتوى الروحي والفكري والاجتماعي لهم.
فمثلا لم تكن الأمة الاسلامية حينذاك تملك من الثقافة العقيدية ما تبني عليها
إيمانها الراسخ بوحدانية الله سبحانه والكون والحياة، أو بانحراف أصحاب
الديانات الأخرى في نظرتهم إلى المبدأ والمعاد غير الأدلة والبراهين القرآنية.
والكلام ذاته يمكن ان يقال بالنسبة إلى المجالات الأخرى، فكرية كانت أم روحية
أم ثقافية.
كل هذا يعطينا صورة بارزة عن الأهمية الذاتية التي يتمتع بها القرآن الكريم
بالنسبة إلى حياة المسلمين، ويحدد النظرة التي يحملها المسلمون - باعتبارهم أمة -
إلى القرآن الكريم.
101

ب - لقد عكف المسلمون - منذ البدء - على حفظ القرآن واستظهاره، انطلاقا
من نظرتهم إلى القرآن الكريم، وشعورا بالأهمية التي يحتلها في حياتهم الاجتماعية
ومركزه من الدور الذي ينتظرهم في الحياة الانسانية.
وقد تكونت نتيجة هذا الاقبال المتزايد منهم على حفظه واستظهاره جماعة
كبيرة، عرفت بحفظها القرآن الكريم واستظهارها لنصه بشكل مضبوط.
ولكن السؤال عن كفاية هذه الوسيلة في جعل القرآن بمأمن عن التحريف
والتزوير نتيجة للخطأ والاشتباه، أو تعرضهم لظروف وعوامل أخرى تمنعهم عن
القيام بدورهم في حفظ النص القرآني من هذه الاخطار.
إن الصحابة الذين عرفوا بحفظ القرآن مهما بلغوا من الورع والتقوى والأمانة
والاخلاص فهم لا يخرجون عن كونهم اشخاصا عاديين يعتورهم الخطأ
والنسيان، كما أن ظرفهم التأريخي وطبيعة المسؤولية الملقاة على عاتقهم كانت
تعرضهم للاستشهاد والقتل، والانتشار في الأقطار الاسلامية بغية الدعوة لله
سبحانه، وكل هذه الأمور التي كانت متوقعة تصبح خطرا على النص القرآني، إذا
ترك مرتبطا في حفظه بهذه الوسيلة ومرتهنا بهذا الأسلوب.
ويكفينا في تحقق هذا الخطر على النص القرآني أن يقع بعض الصحابة البعيدين
عن المدينة المنورة في اشتباه معين في النص القرآني، ليقع الاختلاف بعد ذلك حينما
يفقد المسلمون المرجع الأصيل لضبط النص.
ونحن هنا لا نريد ان نقول: إن هذا الشئ قد تحقق فعلا، وأن المسلمين قد
وقعوا في هذا الاختلاف والخطأ، ولكن لا نريد أن نؤكد أن هذا الامر كان خطرا
ماثلا يمكن أن يقع فيه المسلمون في بعض الظروف.
ج - وقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يعيش مع الأمة في آمالها وآلامها، مدركا لحاجاتها
وواعيا للمسؤولية العظيمة التي تفرضها طبيعة الظروف المحيطة بتكوينها
102

و (الاخطار) التي تتهددها. وهذا الادراك والوعي يكشف عنه الدور العظيم
الذي قام به النبي منذ البعثة حتى وفاته عليه الصلاة والسلام، فقد عاش حياة
الاضطهاد والضغط اللذين كانا وليدي قيامه بالدعوة إلى الله سبحانه وعمله على
تغيير الأمة، وقلب واقعها الفكري والسياسي والاجتماعي، ومثل هذا الدور
يحتاج إلى مهارة عظيمة وإدراك دقيق لواقع المجتمع، وتقدير للآثار والنتائج مع
فهم للنفس البشرية وما تنطوي عليه من خير وشر.
ثم عاش حياة القيادة وسياسة الأمة وادارة شؤونها في أصعب الظروف
التأريخية، حيث انشاء الدولة وتوطيد التشريع والنظام في مجتمع كان لا يعرف
- الا لونا باهتا - عن كل ما يمت إلى المجتمعات البشرية المنظمة بصلة، كما كان
يؤمن بمفاهيم وافكار بعيدة عن المفاهيم والأفكار الجديدة التي جاء بها الاسلام
فمارس الحرب والجهاد، وبلى المكر والخداع والنفاق والارتداد، إلى غير ذلك من
الأساليب والظروف المختلفة في ابعادها وآثارها.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا على معرفة بتأريخ الرسالات الإلهية ونهايتها على يد
المزورين والمحرفين وتجار الدين، كما يصرح بذلك القرآن الكريم وينعى على أهل
الكتاب هذا التحريف والتزوير.
فالانسان الذي يكون قد خبر الحياة الانسانية بهذا الشكل، وحمل أعباء
الرسالة والدعوة وقاد الانسان في مجاهل الظلام، حتى اورده مناهل النور والحق
لا يمكن ان نشك في ادراكه لمدى ما يمكن ان يتعرض له النص القرآني من (خطر)
حينما يربط مصيره بالحفظ والاستظهار في صدور الرجال.
د - ان امكانات التدوين والتسجيل كانت متوفرة لدى الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث لا
تعني هذه الامكانات حينئذ الا وجود اشخاص قادرين على الكتابة يتوفر فيهم
الاخلاص في العمل إلى جانب توفر أدوات الكتابة، وليس هناك من يشك
103

تأريخيا في تمكن المسلمين من كل ذلك.
ه‍ - ولا بد ان نعترف بوجود عنصر الاخلاص للقرآن الكريم واهدافه، إذ لا
يمكن ان نجد من يشك في توفر ذلك لدى النبي (صلى الله عليه وآله) مهما بلغ ذلك الشخص من
التطرف في الشك والتفكير. لان النبي (صلى الله عليه وآله) حتى على أسوأ التقادير والفروض
التي يفرضها الكافرون برسالته والمنكرون لنبوته لا يمكن إلا ان يكون مخلصا
للقرآن الكريم لأنه يؤمن بأن القرآن معجزته وبرهان دعوته الذي به تحدى
المشركين وهو على هذا الايمان بالقرآن لا بد وان يحرص على حفظه وصيانته
ويكون مخلصا في ذلك أبعد الاخلاص.
وهذه العناصر الخمسة: (أهمية القرآن الكريم، والخطر في تعرضه للتحريف
بدون التدوين وادراك النبي (صلى الله عليه وآله) لهذا الخطر، ووجود امكانات التدوين، وحرص
النبي (صلى الله عليه وآله) على القرآن والاخلاص له) هي التي تكون اليقين بأن القرآن الكريم
قد تم جمعه وتدوينه في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله)، لان أهمية القرآن الذاتية، مع وجود
الخطر عليه، والشعور بهذا الخطر، وتوفر أدوات التدوين والكتابة، ثم الاخلاص
للقرآن حين تجتمع لا يبقى مجال للشك بتدوين القرآن في عهد رسول الله وكتابته
في زمانه.
الشبهة حول طبيعة الأشياء:
وليس عندنا في مقابل دلالة طبيعة الأشياء على هذه الحقيقة غير الروايات
التي جاءت تذكر أن القرآن الكريم قد جمع في عهد أبي بكر، حيث جمع القرآن من
العسب والرقاق واللخاف ومن صدور الناس بشرط ان يشهد شاهدان على أنه
من القرآن، كما جاء ذلك في قصة جمع القرآن المروية عن زيد بن ثابت (1) أو
غيرها من النصوص التي تتحدث عن هذا الامر بطريقة أخرى.

(1) البخاري، باب جمع القرآن 6: 89.
104

والواقع ان النصوص والروايات التي جاءت تتحدث عن قصة الجمع ليست
متفقة على صيغة واحدة ولا على مضمون واحد، فهي تنسب الجمع إلى اشخاص
مختلفين، كما انها تختلف في زمان الجمع وطريقته والعهد الذي تم فيه (1).
وهي من اجل ذلك كله لا يمكن الاخذ بمضمونها الفعلي للتعارض الذي
يسقطها عن الاعتبار والحجية - كما ذكر علماء الأصول - وانما يمكن ان نفسر
وجودها بأحد تفسيرين:
الأول: أن هذه الروايات جاءت بصدد الحديث عن جمع القرآن بشكل
(مصحف) منتظم الأوراق والصفحات، الامر الذي تم في عهد الصحابة، وليست
بصدد الحديث عن عملية أصل تدوين وجمع القرآن بمعنى كتابته عن بعض
الأوراق المتفرقة أو صدور الرجال كما تشير إليه بعض هذه الأحاديث.
وهذا التفسير يقوم على أساس فرض الالتزام بصحة المضمون الاجمالي الذي
تؤكده الروايات بأكملها وهو حدوث عملية جمع للقرآن الكريم بعد النبي (صلى الله عليه وآله).
الثاني: أن هذه الروايات انما هي قصص وضعت في عهود متأخرة عن عهد
الصحابة لاشباع رغبة عامة لدى المسلمين في معرفة كيفية جمع القرآن. ونحن
نعرف من دراستنا للتأريخ الاسلامي أن حركة أدبية واسعة ظهرت في التأريخ
الاسلامي لتفسير الوقائع والاحداث التي عاشها المسلمون في الصدر الأول على
شكل قصة تتسم بالحيوية والبراعة والإثارة، بل امتد ذلك إلى الاحداث
الجاهلية، والقصة حين بدأت فإنما بدأت تعيش الاطار الديني وكان ذلك في
أواخر عهد الصحابة وتطورت في عهد التابعين ونمت في عصور متأخرة واعتمدت
بشكل رئيس على الإسرائيليات وعلى الوضع والخيال الذي يحاول ان يحقق
أغراضا اجتماعية أو سياسية أو نفسية أو ثقافية معينة.

(1) السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 247 - 249.
105

وهذه الحركة القصصية ليست بدعا في التأريخ الاسلامي فحسب بل هي
رغبة عامة عاشت في مختلف العصور التأريخية القديمة منها والحديثة، وما
زلنا نشاهد القصة التي تعتمد على احداث ووقائع حقيقية وتختلط بصور
وتفاصيل خيالية وتستمد مقوماتها واتجاهاتها واغراضها من الواقع الاجتماعي
المعاش.
ونحن وإن كنا نرغب أن نتجه في تفسير هذه الأحاديث إلى الطريقة الأولى،
ولكن لا نجد مانعا من طرح هذا التفسير الاخر كأساس للدراسة الموضوعية
المفصلة لهذه الأحاديث وغيرها.
وإضافة إلى ذلك كله نجد نصوصا أخرى تصرح بأن القرآن الكريم قد تم جمعه
في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) بحيث تصلح ان تقف في مواجهة هذه النصوص (1).
ومن هذه النصوص ما رواه جماعة من المحدثين والحفاظ منهم ابن أبي شيبة،
وأحمد بن حنبل، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والضياء
المقدسي، عن ابن عباس، قال: " قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم
إلى الأنفال وهي من المثاني، والى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا
بينهما سطر: (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ ووضعتموهما في السبع الطوال، ما
حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مما يأتي عليه الزمان
ينزل عليه السورة ذات العدد، وكان إذا نزل عليه الشئ يدعو بعض من يكتب
عنده فيقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من
أول ما انزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة
بقصتها، فظننت أنها منها، وقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يبين لنا أنها منها، فمن
اجل ذلك قرنت بينهما، ولم اكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها

(1) راجع البيان: 250 - 252.
106

في السبع الطوال " (1).
وروى الطبري، وابن عساكر عن الشعبي، قال:
" جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة نفر من الأنصار: أبي بن كعب،
وزيد ابن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعيد بن عبيد، وأبو زيد، وكان
مجمع ابن جارية قد اخذه إلا سورتين أو ثلاثا " (2).
وروى قتادة قال:
" سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: أربعة
كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد " (3).
وروى مسروق: ذكر عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود، فقال: " لا أزال
أحبه، سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود،
وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب " (4).
وأخرج النسائي بسند صحيح، عن عبد الله بن عمر، قال:
" جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أقرأه من شهر... " (5).
ولا بد ان يكون المراد من (الجمع) في هذه الروايات (التدوين) إلا فلا يعقل
أن يكون عدد الحفاظ هذا العدد المحدود.
إذن فمن الضروري ان نلتزم بأن القرآن الكريم قد تم جمعه وتدوينه زمن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشكل كامل متقن يمنع من تسرب التشويه والتزوير إليه.

(1) منتخب كنز العمال 2: 48.
(2) كنز العمال 2: 589.
(3) صحيح البخاري - باب القراء من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) 6: 202.
(4) المصدر السابق.
(5) الاتقان، النوع 20 / 1: 124.
107

تحريف القرآن:
لا شك أن القرآن الكريم أصبح معروفا ومتداولا بشكل واسع ومدونا بشكل
مضبوط بعد عهد الخليفة عثمان، حيث تمت كتابة مجموعة من نسخ المصحف
الشريف، وأرسل إلى الآفاق الاسلامية بشكل رسمي من أجل العمل بها وتداولها،
حيث أصدرت الأوامر الواضحة والمشددة بالمنع من تداول اي نسخة أخرى غير
هذه النسخ.
ولا بد لنا من اجل إيضاح سلامة النص القرآني من التحريف ان نذكر
الحالات التي يمكن ان نفترض وقوع التحريف فيها، مع مناقشة كل واحدة منها:
1 - ان يقع التحريف في عهد الشيخين بصورة عفوية دون قصد حذف شئ
من القرآن، وذلك بسبب الغفلة عن بعض الآيات أو عدم وصولها إلى أيديهم، كما
تفرضه قصة جمع القرآن الكريم التي رواها البخاري.
2 - ان يقع التحريف في عهد الشيخين مع فرض الاصرار منهما عليه بشكل
مسبق ومدروس.
3 - ان يقع التحريف في عهد الخليفة عثمان.
4 - ان يقع التحريف في عهد الأمويين، كما نسب ذلك إلى الحجاج بن يوسف
الثقفي.
وهناك حالة خامسة لا مجال أن تتصور وقوع التحريف فيها، وهي أن نفرض
وقوعه من قبل بعض أفراد الرعية من الناس، لان هؤلاء لا قدرة لهم على مثل
هذا العمل مع وجود السلطة الدينية التي تعرف القرآن الكريم وتحميه من
التلاعب، والتي هي المرجع الرسمي لتعيين آياته وكلماته لدى الناس.
أما الحالة الأولى: فيمكن ان تناقش من ناحيتين:
أ - النتيجة السابقة التي توصلنا إليها في دراستنا لتأريخ جمع القرآن وهي: أن
108

أصل عملية الجمع والتدوين تمت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وحينئذ فان القرآن الذي تم
جمعه في عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لا يمكن أن يكون إلا دقيقا ومتقنا لرعاية
الرسول لجمعه، ومع وجود هذا القرآن لا مجال لان نتصور وقوع الغفلة أو
الاشتباه من الشيخين أو من غيرهما، كما لا يمكن ان نحتمل عدم وصول بعض
الآيات إليهم.
ب - توفر عوامل عديدة لوجود القرآن الكريم بأكمله لدى جماعة كبيرة من
المسلمين، وهذا يشكل ضمانة حقيقية لوصول القرآن الكريم بكامله إلى الدولة في
عهد الشيخين دون نقيصة، وهذه العوامل يمكن أن نلخصها بالأسباب التالية:
1 - إن القرآن الكريم يعتبر من أروع النصوص الأدبية وأبلغها تعبيرا
ومضمونا، وقد كان العرب ذوي اهتمام بالغ بهذه النصوص، لأنها تكون ثقافتهم
الخاصة سواء في الناحية التعبيرية أو في الناحية الفكرية والاجتماعية، ونجد آثار
هذا الاهتمام ينعكس على حياتهم الخاصة والعامة، فيحفظون الشعر العربي
والنصوص الأدبية الأخرى ويستظهرونها، ويعقدون الندوات والأسواق
للمباراة والتنافس في هذه المجالات، وقد يصل بهم الاهتمام إلى درجة الاحتفاظ
ببعض النصوص في أماكن مقدسة تعبيرا عن التقدير والاعجاب بهذا النص، كما
يذكر ذلك بالنسبة إلى المعلقات السبع أو العشر في الكعبة الشريفة.
وقد دفعت هذه العادة الشائعة بين العرب المسلمين - حينذاك - كثيرا منهم إلى
لفظ القرآن الكريم واستظهاره.
2 - إن القرآن الكريم كان يشكل بالنسبة إلى المسلمين حجر الزاوية الرئيسة
في ثقافتهم وافكارهم وعقيدتهم، وقد تعرفنا على ذلك في النقطة الأولى من طبيعة
الأشياء التي سقناها لابراز مدى اهتمام المسلمين بالقرآن.
وكما أن هذا الامر دفع النبي (صلى الله عليه وآله) لتدوين القرآن الكريم لحفظه من الضياع،
109

كذلك دفع المسلمين إلى استظهار القرآن الكريم وحفظه بدافع الاحتفاظ بأفكاره
وثقافته ومفاهيمه والتعرف على السنن والتشريعات الاسلامية التي تضمنها.
3 - إن القرآن الكريم - على أساس ما يحتويه من ثقافة - كان يعطي الجامع له
امتيازا اجتماعيا بين الناس، يشبه الامتياز الذي يحصل عليه العلماء من الناس في
عصرنا الحاضر.
وتعتبر هذه الميزة الاجتماعية إحدى العوامل المهمة لتدارس العلوم وتحصيلها
في جميع العصور الانسانية، فمن الطبيعي أن تكون إحدى العناصر المؤثرة في
استظهار القرآن الكريم وحفظه.
وقد حدثنا التأريخ عن الدور الذي كان يتمتع به القراء في المجتمع الاسلامي
بشكل عام، وعن القداسة التي كان ينظر إليهم بها المسلمون.
4 - لقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) رائدا للأمة الاسلامية وموجها لها يحرض المسلمين
ويحثهم على حفظ القرآن واستظهاره.
ونحن نعرف ما كان يتمتع به النبي (صلى الله عليه وآله) من حب عظيم في نفوس كثير من
المسلمين، وما كان يملكه من قدرة على التأثير في حياتهم وسلوكهم، الامر الذي
كان يدفع المسلمين إلى الاستجابة له في كثير من التوجيهات، دون الالتفات إلى
مدى لزومها الشرعي.
5 - الثواب الجزيل الذي وضعه الله سبحانه لقراء القرآن وحفظته ورغبة كثير
من المسلمين حينذاك في الاستزادة من هذا الثواب، خصوصا أنهم كانوا جديدي
عهد بالاسلام، فهم يحاولون أن ينعكس الاسلام على جميع تصرفاتهم.
وقد كان لبعض هذه العوامل أو جميعها تأثير بالغ الأهمية في حياة المسلمين،
حيث حدثنا التأريخ الاسلامي عن وجود جماعات كثيرة من المسلمين عرفوا
بالقراء من ذوي العقيدة الصلدة، كان لهم دورهم في الحياة الاجتماعية وميزتهم في
110

ترجيح جانب على آخر عند الخلافات السياسية التي عاشها المسلمون.
6 - وإضافة إلى ذلك تفرض طبيعة الأشياء أن يكون قد دون القرآن الكريم
وكتبه كل مسلم عنده القدرة على التدوين والكتابة، لان اي جماعة أو أمة تهتم
بشئ وترى فيه معبرا عن جانب كبير من جوانب حياتها فهي تعمل على فظه
بوسائل شتى، ولا شك ان الكتابة - عند من يتقنها - من أيسر هذه الوسائل
وأسهلها.
ولذلك نجد بعض النصوص تشير إلى وجود عدد من المصاحف أو قطعات
مختلفة منه عند كثير من الصحابة.
ولا بد لنا ان ننتهي إلى أن القرآن الكريم بسبب هذه العوامل كان موجودا في
متناول الصحابة، ولم يكن من المعقول فرض التحريف نتيجة الغفلة أو الاشتباه أو
عدم وصول بعض الآيات القرآنية.
واما الحالة الثانية:
فهي فرضية غير صادقة اطلاقا، لان دراسة عهد الشيخين والظروف المحيطة
بهما تجعلنا ننتهي إلى هذا الحكم وتكذيب هذه الفرضية.
ذلك لان التحريف المتعمد يمكن ان يكون لاحد السببين التاليين:
أولا: أن يكون بسبب رغبة شخصية في التحريف.
ثانيا: أن يكون بدافع تحقيق اهداف سياسية، كأن يفرض وجود آيات قرآنية
تنص على موضوعات ومفاهيم خاصة تتنافى مع وجودهما أو متبنياتهما السياسية
مثل النص على علي (عليه السلام) أو الطعن بهما.
اما بالنسبة إلى السبب الأول، فنلاحظ عدة أمور:
1 - إن قيام الشيخين بذلك يعني في الحقيقة نسف القاعدة التي يقوم عليها
الحكم حينذاك، حيث إنه يقوم على أساس الخلافة لرسول الله والقيمومة على
111

الأمة الاسلامية وليس من المعقول ان يقدما على تحريف القرآن ويعملا على
معاداة الاسلام دون تحقيق اي مكسب ديني أو دنيوي، وهل يعني ذلك الا فتح
الطريق امام المعارضة التي كانت موجودة لتشن هجوما مركزا يملك أقوى
الأسلحة التي يمكن استخدامها حينذاك؟!
2 - إن الأمة الاسلامية كانت تشكل حينذاك ضمانة اجتماعية وسياسية قوية
تمنع قيام أحد من الناس مهما كان يملك من قدرة وقوة بمثل هذه العمل المضاد
للاسلام دون ان يكون لهذا العمل رد فعل قوي في صفوفها، لان المسلمين كانوا
ينظرون إلى القرآن الكريم على أنه شئ مقدس غاية التقديس، وأنه كلام الله
سبحانه الذي لا يقبل اي تغيير أو تبديل حتى من قبل الرسول نفسه كما اكد ذلك
القرآن الكريم (1). كما أنهم ناضلوا وجاهدوا في سبيل مفاهيم القرآن وآياته
واحكامه التي كانت تعايش حركتهم لمدة ثلاثة وعشرين عاما، وضحوا بأنفسهم
من أجل هذا الدين الجديد الذي كان يشكل التصرف في القرآن - في نظرهم -
خروجا عنه وارتدادا عن الالتزام به.
3 - إن الحكم في عهد الشيخين لم يسلم من وجود المعارضة التي كانت ترفع
أصواتها أحيانا من أجل خطأ يقع فيه الخليفة في تطبيق بعض الأحكام، ومع هذا
لا نجد في التأريخ أية إشارة إلى الاحتجاج أو ما يشبه الاحتجاج مما يشير إلى
وقوع هذه الفرضية، فكيف يمكن أن تسكت المعارضة في كلامها وأقوالها زمن
الشيخين أو بعدهم عن كل ذلك؟!
ومن هنا يتضح موقفنا من السبب الثاني:
فأولا: إن وعي الأمة ونظرتها المقدسة للكتاب وصلته بالله بشكل لا يقبل
التغيير والتبديل لا يسمح بوقوع مثل هذا العمل مطلقا.

(1) (... قل ما يكون لي ان أبدله من تلقاء نفسي ان اتبع إلا ما يوحى إلي...) يونس: 15.
112

ثانيا: إن المعارضة لا يمكن أن تترك هذه الفرصة تمر دون أن تستغلها في
صراعها مع العهد والخليفة، مع اننا لا نجد إشارة إلى ذلك في كلامهم.
ثالثا: إن هناك نصوصا سياسية واسعة تضمنت ملاحظات حول تصرفات
الخليفة أبي بكر وعمر، مثل المناقشة السياسية التي شنتها الزهراء (عليها السلام) ومن بعدها
أمير المؤمنين (عليه السلام) وجماعته المؤمنون بإمامته لم تتناول أي نص قرآني غير مدون
في القرآن الكريم الموجود بين أيدينا، ولو كان مثل هذا النص موجودا في القرآن
لكان من الطبيعي ان يستعملوه أداة لكسب المعركة إلى جانبهم وإظهار الحق الذي
ناضلوا من اجله.
واما الحالة الثالثة: فهي تبدو أكثر استحالة وبعدا عن الحقيقة التأريخية من
سابقتيها، وذلك للأسباب التالية:
أولا: إن الاسلام - والى جنبه القرآن الكريم - قد أصبح منتشرا بشكل كبير
بين الناس وفي آفاق مختلفة، وقد مر على المسلمين زمن كبير يتداولونه أو
يتدارسونه، فلم يكن في ميسور عثمان - لو أراد ان يفعل ذلك - ان ينقص منه
شيئا، بل ولم يكن ذلك في ميسور من هو أعظم شأنا من عثمان، وقد اعترض
المسلمون بالفعل على عثمان وقتلوه لأسباب مختلفة.
ثانيا: إن النقص إما أن يكون في آيات لا مساس فيها بخلافة عثمان، وحينئذ
فلا يوجد اي داع لعثمان ان يفتح ثغرة كبيرة في كيانه السياسي، وإما أن يكون في
آيات تمس خلافة عثمان وامامته السياسية، فقد كان من المفروض ان تؤثر مثل
هذه الآيات في خلافة عثمان نفسه، فتقطع الطريق عليه في الوصول إلى الخلافة.
ثالثا: إن الخليفة عثمان لو كان قد حرف القرآن الكريم لاتخذ المسلمون ذلك
أفضل وسيلة لتبرير الثورة عليه واقصائه عن الحكم أو قتله، مع أننا لا نجد في
مبررات الثورة على عثمان شيئا من هذا القبيل، ولما كانوا في حاجة للتذرع في
113

سبيل ذلك بوسائل وحجج أخرى ليست من الوضوح بهذا القدر.
رابعا: إن الخليفة عثمان لو كان قد ارتكب مثل هذا العمل لكان موقف الإمام
علي (عليه السلام) تجاهه واضحا، ولأصر على ارجاع الحق إلى نصابه في هذا الشأن،
فنحن حين نجد الامام عليا (عليه السلام) يأبى إلا ان يرجع الأموال التي أعطاها عثمان إلى
بعض أقربائه وخاصته ويقول بشأن ذلك: " والله لو وجدته قد تزوج به النساء
وملك به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه
أضيق " (1). وكذلك نجد منه نفس الموقف الحازم مع ولاة عثمان المنحرفين، فلا بد
ان نجزم باستحالة سكوته عن مثل هذا الامر العظيم على فرض وقوعه.
ومن هذه المناقشة التفصيلية للحالات الثلاث السابقة يتضح موقفنا من الحالة
الرابعة، فان الحجاج بن يوسف الثقفي أو غيره من الولاة لا يمكن ان نتصور فيهم
القدرة على تحريف القرآن الكريم بعد أن عم شرق الأرض وغربها.
كما لا نجد المبرر الذي يدعو الحجاج أو الأمويين إلى مثل هذا العمل الذي
يحمل في طياته الخطر العظيم على مصالحهم ويقضي على آمالهم.
جمع القرآن على عهد النبي (صلى الله عليه وآله):
جمع القرآن له معنيان:
أحدهما: حفظه في الصدور على سبيل الاستيعاب لجميع آياته، ومنها قولنا
جماع القرآن اي حفاظه.
والمعنى الاخر لجمعه: كتابته وتسجيله في أوراق بشكل كامل.
فاما جمع القرآن بمعنى حفظه في القلب واستظهاره فقد اوتيه رسول الله قبل
الجميع، فكان (صلى الله عليه وآله) سيد الحفاظ وأول الجماع كما كان يرغب المسلمين باستمرار في

(1) شرح نهج البلاغة 1: 269 فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان.
114

حفظ القرآن وتدارسه واستظهاره، ويدفع كل مهاجر جديد إلى أحد الحفاظ من
الصحابة ليعلمه القرآن، ويستعمل مختلف أساليب التشجيع لتعميم حفظ القرآن
وإشاعة تلاوته، حتى أصبح مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) عامرا بتلاوة القرآن يضج
بأصوات القراء، فأمرهم النبي (صلى الله عليه وآله) ان يخفظوا أصواتهم لئلا يتغالطوا.
فعن عبادة بن الصامت: " كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى رجل منا
يعلمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضجة بتلاوة القرآن، حتى
أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا " (1).
وشاعت قراءة القرآن في كل مكان في المجتمع الاسلامي، وافتتن المسلمون
بتلاوته وشغفوا بقراءته والاستماع إليه، وكان همهم الذي ملك عليهم قلوبهم،
حتى روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" اني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين حين يدخلون بالليل واعرف منازلهم
من أصواتهم بالقرآن بالليل، وان كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار " (2).
وكان تدارس القرآن واستظهاره رائجا بين الرجال والنساء.
أما جمعه بمعنى كتابته وتسجيله فقد عرفنا في بحث ثبوت النص القرآني ان
القرآن الكريم قد تم جمعه زمن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ولكن الرأي السائد في
أبحاث علوم القرآن أن جمعه قد تم في عهد الشيخين، وقد عرفنا أنه يمكن التوفيق
بين الرأيين في أن أصل الجمع تم في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجمعه على شكل مصحف
منتظم الأوراق فهو مما تم في عهد الشيخين، وقد عرفنا أيضا سلامة النص القرآني
من دون فرق بين الفرضية الأولى والثانية وأشرنا إلى بعض الشبهات التي أثيرت
حول الجمع بناء على الفرضية الثانية وناقشناها.

(1) البيان لاية الله السيد الخوئي، ح 255 نقلا عن مناهل العرفان: 324.
(2) كنز العمال 12: 56، الأشعريون.
115

شبهتان حول الجمع في عهد الشيخين ومناقشتهما:
وهناك بعض الشبهات الأخرى (1) تثار حول فرضية الجمع في عهد الشيخين
أيضا نذكر منهما الشبهتين التاليتين. ولعل من الجدير بالذكر أن هاتين الشبهتين قد
أثيرتا في الأبحاث الاسلامية كما أثيرت في أبحاث المستشرقين ومقلديهم من
الباحثين.
الشبهة الأولى:
إن بعض النصوص التأريخية المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم تذكر
وجود مصحف خاص لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يختلف عن المصحف الموجود
المتداول بين المسلمين في الوقت الحاضر. ويشتمل هذا المصحف على زيادات
وموضوعات ليست موجودة في المصحف المعروف.
وتتحدث هذه النصوص عن مجئ علي بن أبي طالب (عليه السلام) بهذا المصحف إلى
الخليفة الأول أبي بكر، بقصد أن يأخذ المصحف المذكور مكانه من التنفيذ بين
المسلمين، ولكن أبا بكر لم يقبل ذلك ورفض هذا المصحف.
ولما كان علي بن أبي طالب أفضل الصحابة علما ودينا والتزاما بالاسلام وحفاظا
عليه فمن الواضح حينئذ أن يكون المصحف الموجود فعلا قد دخل عليه التحريف
والنقصان، نتيجة للطريقة الخاطئة التي اتبعت في جمعه والتي عرفنا بعض تفاصيلها.
ومن اجل إيضاح هذه الشبهة يورد أنصارها بعض هذه النصوص التأريخية
وهي:
1 - النص الذي جاء في احتجاج علي (عليه السلام) على جماعة من المهاجرين
والأنصار: فقال له علي (عليه السلام) يا طلحة ان كل آية أنزلها الله - جل وعلا - على محمد

(1) اعتمدنا بصورة رئيسة في هذ البحث على ما كتبه استاذنا الكبير آية الله السيد
الخوئي (قدس سره) في البيان: 222 - 234.
116

عندي باملاء رسول الله وخط يدي، وتأويل كل آية أنزلها الله على محمد وكل
حرام وحلال أو حد أو حكم أو شئ تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة مكتوب
بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط يدي حتى أرش الخدش (1).
2 - النص الذي يتحدث عن احتجاج علي (عليه السلام) على الزنديق، والذي جاء
فيه: أنه اتى بالكتاب على الملا مشتملا على التأويل والتنزيل والمحكم والمتشابه
والناسخ والمنسوخ، لم يسقط منه حرف الف ولا لام فلم يقبلوا منه (2).
3 - النص الذي رواه محمد بن يعقوب الكليني في الكافي عن أبي جعفر
الباقر (عليه السلام) أنه قال: ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله، ظاهره
وباطنه غير الأوصياء (3).
4 - النص الذي رواه محمد بن يعقوب الكليني أيضا في الكافي عن الباقر (عليه السلام)
أنه: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما انزل إلا كذاب، وما جمعه
وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة من بعده (عليهم السلام).
وتناقش هذه الشبهة: أنه قد يفترض وجود مصحف لعلي (عليه السلام) يختلف مع
المصحف الموجود فعلا من حيث الترتيب، بل قد يختلف عنه أيضا لوجود
إضافات أخرى فيه.
ولكن الكلام في حقيقة هذه الزيادة، إذ لا دليل على أنها زيادات قرآنية،
وانما تفسير هذه الزيادات على أنها تأويلات للنص القرآني، بمعنى ما يؤول إليه
الشئ أو أنها تنزيلات من الوحي الإلهي نزلت على صدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في
تفسير وشرح القرآن وعلمها أخاه علي بن أبي طالب (عليه السلام).

(1) احتجاج الطبرسي 1: 223.
(2) تفسير الصافي المقدمة السادسة: 11.
(3) أصول الكافي 1: 228.
117

وليست كلمتا التأويل والتنزيل تعنيان في ذلك الوقت ما يراد منهما في
اصطلاح علماء القرآن، حيث يقصد من التأويل حمل اللفظ القرآني على غير
ظاهره والتنزيل خصوص النص القرآني، وانما يراد منهما المعنى اللغوي الذي هو
في الكلمة الأولى ما يؤول إليه الشئ ومصداقه الخارجي، وفي الثانية ما أنزله الله
وحيا على نبيه سواء كان قرآنا أو شيئا آخر.
وعلى أساس هذا التفسير العام للموقف تتضح كثير من الجوانب الأخرى
حيث يمكن ان تحمل الروايات التي أشارت لها الشبهة على معنى ينسجم مع هذا
الموقف أيضا، كما فعل العلامة الطباطبائي ذلك في بعض هذه الروايات (1).
وإضافة إلى ذلك نجد بعض هذه الروايات ضعيفة السند، لا يصح الاحتجاج
أو الاعتماد عليها في مقابل ثبوت النص القرآني.
الشبهة الثانية:
إن مجموعة كبيرة من الروايات الواردة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) دلت على
وقوع التحريف في القرآن الكريم، الامر الذي يجعلنا نعتقد أن ذلك كان نتيجة
للطريقة التي تم بها جمع القرآن الكريم، أو لأسباب طارئة أخرى أدت إلى هذا
التحريف.
وتناقش هذه الشبهة: بأن الموقف تجاه هذه الروايات المتعددة يتخذ أسلوبين
رئيسين:
الأول: مناقشة أسانيد وطرق هذه الروايات، فان الكثير منها قد تم أخذه من
كتاب أحمد بن محمد الباري الذي تم الاتفاق بين علماء الرجال على فساد مذهبه
وانحرافه (2) وكتاب علي بن أحمد الكوفي الذي رماه علماء الرجال بالكذب (3).

(1) المصدر نفسه.
(2) و (3) جامع الرواة 1: 67 و 553.
118

وبعض هذه الروايات وان كان صحيح السند إلا أنه لا يشكل قيمة كبيرة وان
كان مجموع هذه الروايات قد يوجب حصول الاطمئنان - كما يقول السيد
الخوئي - بصدور بعضها عن الإمام (عليه السلام).
الثاني: مناقشة دلالتها على وقوع التحريف في القرآن بمعنى وقوع الزيادة أو
النقيصة ومن ثم لا يمكن الاستدلال بها حتى لو تم سند بعضها أو التزامتا
بالاطمئنان بصدور بعضها اجمالا فيه.
ومن اجل أن يتضح الأسلوب الثاني من المناقشة يجدر بنا ان نقسم هذه
النصوص إلى أقسام أربعة تبعا لاختلافها في المضمون وما تطرحه من دعاوى
وأحكام.
القسم الأول:
النصوص التي جاء التصريح فيها بوقوع التحريف في القرآن الكريم عن طريق
استعمال كلمة (التحريف) فيها ووصف القرآن بها، ومن هذه النصوص الروايات
التالية:
1 - عن أبي ذر قال: لما نزلت هذه الآية (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه...) (1)
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ترد أمتي علي يوم القيامة على خمس رايات... ثم ذكر أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسأل الرايات عما فعلوا بالثقلين فتقول الراية الأولى: أما الأكبر
فحرفناه ونبذناه وراء ظهورنا، واما الأصغر فعاديناه وأبغضناه وظلمناه، وتقول
الراية الثانية أما الأكبر فحرفناه ومزقناه وخالفناه، وأما الأصغر فعادينا هو قاتلناه.
2 - عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنى فقال:
أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي
والكعبة والبيت الحرام، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) أما كتاب الله فحرفوا، وأما الكعبة

(1) آل عمران: 106.
119

فهدموا وأما العترة فقتلوا، وكل ودائع الله قد نبذوا ومنها قد تبرؤا.
3 - عن علي بن سويد قال كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) وهو في الحبس
كتابا... إلى أن ذكر جوابه (عليه السلام) بتمامه وفيه قوله (عليه السلام): اؤتمنوا على كتاب الله
فحرفوه وبدلوه.
4 - عن عبد الاعلى قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أصحاب العربية يحرفون
كلام الله عز وجل عن مواضعه.
ولا دلالة في هذه الروايات جميعها على وقوع التحريف في القرآن الكريم بمعنى
الزيادة والنقيصة، وانما تدل على وقوع التحريف فيه بمعنى حمل بعض ألفاظه على
غير معانيها المقصودة لله سبحانه ومن ثم تحريفها عن أهدافها ومقاصدها.
ونحن في الوقت الذي لا نشك بوقوع مثل هذا التحريف في القرآن الكريم من
قبل بعض المسلمين عن قصد أو بدون قصد نظر الاختلاف تفاسير القرآن
وتباينها لا نرى فيه ما يضر عظمة القرآن أو يفيد في تأييد هذه الشبهة، بل إن
القرآن في الآية السابعة من آل عمران التي تحدثت فيها عن المحكم والمتشابه أشار
إلى هذا النوع من التحريف، كما دلت الرواية التي رواها الكليني في الكافي عن
الإمام الباقر (عليه السلام) في رسالته إلى سعد الخير: " وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا
حروفه وحرفوا حدوده فهم يرونه ولا يرعونه والجهال يعجبهم حفظهم للرواية
والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية... " (1).
وقد يدل بعضها على تحريف بعض الكلمات القرآنية بمعنى قراءتها بشكل
يختلف عن القراءة التي أنزلت على صدر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا ينسجم مع الرأي
الذي ينكر تواتر القراءات السبع ويرى أنها نتيجة لاختلاف الرواية أو الاجتهاد،
أو لأسباب أخرى ذاتية أو مذهبية أو سياسية.

(1) الروضة من الكافي - رسالة سعد الخير 11: 352 شرح المازندراني. ط: طهران.
120

القسم الثاني:
الروايات التي تدل على أن القرآن الكريم قد صرح بذكر بعض أسماء أئمة أهل
البيت (عليهم السلام)، أو تحدث عن خلافتهم بشكل واضح ومنها النصوص التالية:
1 - عن محمد بن الفضيل عن الحسن (عليه السلام) قال: ولاية علي بن أبي طالب
مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله رسولا الا بنبوة محمد وولاية
وصيه صلى الله عليهما وآلهما.
2 - رواية العياشي عن الصادق (عليه السلام) لو قرئ القرآن كما نزل لألفيتنا فيه
مسمين (1).
3 - رواية الكافي والعياشي عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
القرآن نزل على أربعة أرباع: ربع فينا وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع
فرائض واحكام ولنا كرائم القرآن (2).
والموقف تجاه هذا القسم من النصوص يتخذ أشكالا ثلاثة:
الأول: أننا قد ذكرنا سابقا أن بعض التنزيل ليس من القرآن الكريم، وانما هو
مما أوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ولعل هذا هو المقصود من هذه الروايات، حيث جاء
ذكرهم في التنزيل تفسيرا لبعض الآيات القرآنية لا جزءا من القرآن الكريم
نفسه.
الثاني: أننا نكون مضطرين لرفض هذه الروايات إن لم نوفق لتفسيرها بطريقة
تنسجم مع القول بصيانة القرآن الكريم من التحريف للسببين التاليين:
أ - مخالفة هذه الروايات للكتاب الكريم، وقد وردت نصوص عديدة من
طريق أهل البيت تدل على ضرورة عرض اخبار أهل البيت على القرآن الكريم

(1) تفسير العياشي 1: 13.
(2) المصدر السابق: 9.
121

قبل الاخذ بمضمونها، مثل قول الصادق (عليه السلام): " الوقوف عند الشبهة خير من
اقتحام الهلكة، إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله
فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه (1).
ب - مخالفة هذه الروايات للأدلة المتعددة التي تحدثنا عنها في بحث ثبوت النص
القرآني.
الثالث: أن هناك نصوصا وقرائن تأريخية تدل على عدم ورود أسماء الأئمة في
القرآن الكريم بشكل صريح.
ومن هذه القرائن حديث الغدير، حيث نعرف منه أن الظروف التي أحاطت
بقضية الغدير تنفي أن يكون هناك تصريح من القرآن باسم علي (عليه السلام)، وإلا فلماذا
يحتاج النبي (صلى الله عليه وآله) إلى تأكيد بيعة علي (عليه السلام)، وحشد هذا الجمع الكبير من المسلمين
من اجل ذلك، بل لماذا يخشى الرسول الناس في إظهار هذه البيعة إذا كان قد
صرح القرآن بتسميته ومدحه، الامر الذي أدى إلى أن يؤكد القرآن الكريم
عصمة الله له من الناس في قوله تعالى:
(يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله
يعصمك من الناس...) (2).
ومن هذه القرائن أيضا: ان التأريخ لم يحدثنا أن عليا أو أحدا من أصحابه
احتج لامامته بذكر القرآن لاسمه، مع أنهم احتجوا على ذلك بأدلة مختلفة، ولا
يمكن ان نتصور اهمال هذا الدليل لو كان موجودا.
ومن هذه القرائن هذا النص الذي يتحدث عن عدم وجوداسم علي في القرآن:

(1) الوسائل 8: 86 الحديث 35، وسيأتي مزيد من التوضيح لهذا الموضوع في التفسير
عند أهل البيت (عليهم السلام).
(2) المائدة: 67.
122

" عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (... أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم...) (1) فقال: نزلت في علي بن أبي طالب
والحسن والحسين (عليهم السلام) فقلت له: إن الناس يقولون: فما له لم يسم عليا وأهل
بيته (عليهم السلام) في كتاب الله عز وجل؟ قال: فقال: قولوا لهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثا واربعا حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو
الذي فسر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسم لهم من كل أربعين درهما
درهم... " (2).
وهذا الحديث يكون واضحا للمعنى المراد من الأحاديث التي ساقتها الشبهة
ومقدما عليها لأنه يقف منها موقف المفسر وينظر إلى موضوعها ويوضح عدم
ذكر القرآن لاسماء الأئمة صريحا.
القسم الثالث:
الروايات التي تدل على وقوع الزيادة والنقصان معا في القرآن الكريم وان
طريقة جمع القرآن أدت إلى وضع بعض الكلمات الغريبة من القرآن مكان بعض
الكلمات القرآنية الأخرى كما ورد ذلك في النصين التاليين:
1 - عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) " صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب
عليهم ولا الضالين ".
2 - عن هشام بن سالم قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى: (ان الله
اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران...) (3). قال: هو آل إبراهيم وآل محمد
على العالمين فوضعوا اسما مكان اسم.

(1) النساء: 59.
(2) الكافي 1: 286 - 287.
(3) آل عمران: 33.
123

ويناقش هذا القسم من الروايات بما يلي:
أولا: إن الأمة الاسلامية بمذاهبها المختلفة أجمعت على عدم وقوع التحريف في
القرآن الكريم بالزيادة، إضافة إلى وجود النصوص الكثيرة الدالة على عدم
وجود مثل هذا التحريف.
ثانيا: إن هذا القسم يتنافى مع الكتاب نفسه. وقد أمر الأئمة من أهل
البيت (عليهم السلام) بلزوم عرض أحاديثهم على الكتاب الكريم، وان ما خالف الكتاب
فيضرب عرض الجدار.
القسم الرابع:
الروايات التي دلت على أن القرآن الكريم قد تعرض للنقصان فقط، مثل ما
رواه الكليني في الكافي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر: " قال دفع إلي أبو
الحسن (عليه السلام) مصحفا وقال لا تنظر فيه ففتحته وقرأت فيه: (لم يكن الذين
كفروا...) فوجدت فيها اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم.
قال: فبعث إلي: ابعث إلي بالمصحف " (1).
ويناقش هذا القسم بان الزيادة الموجودة في مصحف أبي الحسن (عليه السلام) أو غيره
تحمل على ما سبقت الإشارة إليه من أنها في مقام تفسير بعض الآيات، وفي المورد
الذي لا يمكن ان يتم فيه مثل هذا الحمل والتفسير لابد من طرح الرواية تمسكا
بالكتاب الكريم الذي أمرنا أهل البيت (عليهم السلام) بعرض أحاديثهم عليه قبل الاخذ
بمضمونها.

(1) الكافي 2: 631. الحديث 16.
124

القسم الثاني
أبحاث في القرآن
1 - اعجاز القرآن.
2 - المحكم والمتشابه في القرآن.
3 - النسخ في القرآن.
125

اعجاز القرآن (1)
ما هي المعجزة:
النبي - اي نبي - صاحب رسالة يريد أن ينفذ بها إلى قلوب الناس وعقولهم،
ليصنع الانسان الأفضل الذي يريده الله على وجه الأرض، ولا يمكنه أن يحقق
هذا الهدف ما لم يكسب ايمان الناس بنبوته، واعتقادهم بصدق دعواه في ارتباطه
بالله والأرض، لكي يتاح له أن يستلم زمام قيادتهم ويغذيهم برسالته ومفاهيمها
ومبادئها.
والناس لا يؤمنون بدون دليل، إذا كانت الدعوى التي يدعوهم إليها ذات
حجم كبير وتقترن بالمشكلات والمصاعب وترتبط بعالم الغيب، فلا يمكن للنبي ان
يدعوهم إلى الايمان به وبرسالته، ويكلفهم بذلك ما لم يقدم لهم الدليل الذي
يبرهن على صدق دعواه، وكونه رسولا حقا من قبل الله تعالى، فكما لا نصدق في
حياتنا الاعتيادية شخصا يدعي تمثيل جهة رسمية ذات أهمية كبيرة مثلا، ما لم
يدعم دعواه بالدليل على صدقه، ونرفض مطالبته لنا بتصديقه من دون برهان،
كذلك لا يمكن للانسان أن يؤمن برسالة النبي ونبوته الا على أساس الدليل.
والدليل الذي يبرهن على صدق النبي في دعواه هو المعجزة، وهي: ان يحدث
تغييرا في الكون - صغيرا أو كبيرا - يتحدى به القوانين الطبيعية التي ثبتت عن
طريق الحس والتجربة، فمن وضع الماء على النار ليكون حارا فارتفعت درجة

(1) كتبه الشهيد الصدر (قدس سره).
127

حرارته يطبق قانونا طبيعيا عرفه الناس عن طريق الحس والتجربة، وهو انتقال
الحرارة من الجسم الحار إلى الجسم الذي يجاوره، وأما من ادعى أنه يجعل الماء
حارا بدون الاستعانة بأي طاقة حرارية، وحقق ذلك فعلا فهو يتحدى قوانين
الطبيعة التي يكشف عنها الحس والتجربة، ومن أبرأ مريضا باعطائه مادة مضادة
للميكروب الذي أمرضه، يطبق قانونا طبيعيا يعرفه بالتجربة، وهو ان هذه المادة
بطبيعتها تقتل الميكروب الخاص، واما من أبرأ المريض بدون اعطاء اي مادة
مضادة فهو يتحدى قوانين الطبيعة التي يعرفها الناس بالتجربة، ويحقق المعجزة.
فإذا أتى النبي بمعجزة من هذا القبيل كانت برهانا على ارتباطه بالله تعالى،
وصدقه في دعوى النبوة، لان الانسان بقدرته الاعتيادية لا يمكنه ان يغير في
الكون شيئا، الا بالاستفادة من القوانين الكونية التي يعرفها عن طريق الحس
والتجربة، فإذا استطاع الفرد أن يحقق تغييرا يتحدى به هذه القوانين، فهو انسان
يستمد قدرة استثنائية من الله تعالى، ويرتبط به ارتباطا يميزه عن الآخرين،
الامر الذي يفرض علينا تصديقه إذا ادعى النبوة.
الفرق بين المعجزة والابتكار العلمي:
وفي ضوء ما قلناه نعرف أن سبق النوابغ من العلماء في الحقول العلمية، لا يعتبر
معجزة، فإذا افترضنا أن شخصا من العلماء اليوم سبق أنداده، ونجح في اكتشاف
الورم السرطاني مثلا، والمادة التي تقضي عليه فهو يستطيع بحكم اكتشافه ان
يبرئ مريضا من السرطان، بينما يعجز عن ذلك جميع العلماء الآخرين، ولكن
عمله هذا ليس معجزة لأنه انما يتحدى جهل العلماء الآخرين بالسر والعلة
والدواء، ولا يتحدى القوانين الكونية التي تثبت بالحس والتجربة، بل هو انما
استطاع ان يبرئ المريض من السرطان على أساس تجربة فذة قام بها في مختبره
128

العلمي، فاكتشف قانونا لم يعرفه غيره حتى الان، ومن الواضح أن معرفته بالقانون
الطبيعي عن طريق التجربة، ليست تحديا للقانون، وانما هي تطبيق للقانون
الطبيعي، وقد تحدى بذلك زملاءه الذين عجزوا عن اكتشاف القانون قبله.
القرآن هو المعجزة الكبرى:
وما دمنا قد عرفنا أن المعجزة هي أن يحدث النبي تغييرا في الكون يتحدى به
القوانين الطبيعية فمن الميسور أن نطبق فكرتنا هذه عن المعجزة على (القرآن
الكريم)، الذي أحدث تغييرا كبيرا جدا، وثورة كبرى في حياة الانسان لا تتفق
مع المألوف والمجرب من القوانين الكونية والسنن التأريخية للمجتمع.
فنحن إذا درسنا الوضع العالمي، والوضع العربي والحجازي بصورة خاصة،
وحياة النبي قبل البعثة، ومختلف العوامل والمؤثرات التي كانت متوفرة في بيئته
ومحيطه، ثم قارنا ذلك بما جاء به الكتاب الكريم، من رسالة عظمي تتحدى كل
تلك العوامل والمؤثرات، وما أحدثه هذا الكتاب من تغيير شامل كامل، وبناء
لامة تملك أعظم المقومات والمؤهلات، إذا لاحظنا كل ذلك وجدنا أن القرآن
معجزة كبرى، ليس لها نظير لأنه لم يكن نتيجة طبيعية لتلك البيئة المختلفة بكل ما
تضم من عوامل ومؤثرات، فوجوده إذن يتحدى القوانين الطبيعية ويعلو عليها،
وهدايته وعمق تأثيره لا تفسره تلك العوامل والمؤثرات.
ولكي يتجلى ذلك بوضوح يمكننا ان نستعرض البيئة التي ادى فيها القرآن
رسالته الكبرى ونقارن بينها وبين البيئة التي صنعها، والأمة التي أوجدها.
بعض أدلة اعجاز القرآن:
وبهذا الصدد يجب أن نأخذ النقاط التالية بعين الاعتبار، والتي يمكن ان تكون
129

كل واحدة منها دليلا على إعجاز القرآن:
1 - ان القرآن شع على العالم من جزيرة العرب، ومن مكة بصورة خاصة،
وهي منطقة لم تمارس أي لون من ألوان الحضارة والمدنية، التي مارستها مختلف
المجتمعات الراقية نسبيا يومئذ، وكانت هذه أولى المفارقات التي برهنت على أن
الكتاب لم يجر وفق القوانين الطبيعية الاعتيادية، لان هذه القوانين التجريبية تحكم
بأن الكتاب مرآة لثقافة عصره ومجتمعه، الذي عاشه صاحب الكتاب، وتثقف
فيه، فهو يعبر عن مستوى من مستويات الثقافة في ذلك المجتمع، أو يعبر على
أفضل تقدير عن خطوة إلى الامام في تلك الثقافة، وأما ان يطفر الكتاب طفرة
كبيرة جدا، ويأتي - بدون سابق مقدمات وبلا ارهاصات - بثقافة من نوع آخر
لا تمت إلى الأفكار السائدة بصلة ولا تستلهمها، وانما تقلبها رأسا على عقب، فهذا
ما لا يتفق مع طبيعة الأشياء في حدود التجربة التي عاشها الناس في كل عصر.
وهذا ما وقع للقرآن تماما فإنه اختار أكثر المناطق والمجتمعات تأخرا وبدائية،
وضيق أفق، وبعدا عن التيارات الفلسفية والعلمية، ليفاجئ العالم بثقافة جديدة،
كان العالم كله بحاجة إليها، وليثبت أنه ليس تعبيرا عن الفكر السائد في مجتمعه،
ولا خطوة محدودة إلى الامام، وانما هو شئ جديد بدون سابق مقدمات.
وهكذا نعرف أن اختيار البيئة والمجتمع، كان هو التحدي الأول للقوانين
الطبيعية التي تقتضي ان تولد الثقافة الجديدة في ارقى البيئات من الناحية الفكرية
والاجتماعية.
2 - إن القرآن بشر به النبي، وأعلنه على العالم فرد من أفراد المجتمع المكي، ممن
لم ينل ما يناله حتى المكيون من ألوان التعلم والتثقيف، فهو أمي، لا يقرأ ولا
يكتب، وقد عاش بين قومه أربعين سنة فلم تؤثر عنه طيلة هذه المدة محاولة تعلم
أو إثارة من علم أو أدب، كما أشار القرآن إلى ذلك:
130

(وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) (1).
(قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا
تعقلون) (2).
وهذا يعتبر تحديا آخر من القرآن للقوانين الطبيعية، إذ لو كان القرآن جاريا
وفق هذه القوانين، لما كان من الممكن ان يجئ به فرد أمي، لم يشارك حتى في
ثقافة مجتمعه، بالرغم من بساطتها، ولم يؤثر عنه اي بروز في عالم اللغة بمختلف
مجالاتها، فيبذ به الانتاج الأدبي كله ويبهر بروعته وحكمته وبلاغته، أعاظم
البلغاء والعلماء.
فهل رأيت في مجرى القوانين الطبيعية شخصا جاهلا بالطب لم يدرس عنه
شيئا يتقدم بكتاب في الطب يبهر عقول الأطباء بما يضم من اسرار العلم وآياته؟
وهل رأيت في مجراها شخصا لا يحسن أن يكتب في لغة ما، ولا يجيد شيئا من
علومها يأتي بالرائعة التأريخية في حياة تلك اللغة، ويكشف عن امكانيات
أدبية كبيرة جدا في تلك اللغة لم تكن تخطر على بال حتى يتصور الناس أنه
ساحر؟
والواقع أن المشركين في عصر (البعثة النبوية) أحسوا بهذا التحدي العظيم
وكانوا حائرين في كيفية تفسيره، ولا يجدون تفسيرا معقولا له وفق القوانين
الطبيعية، ولدينا عدة نصوص تأريخية تصور حيرتهم في تفسير القرآن وموقفهم،
القلق من تحديه للقوانين والعادات الطبيعية.
فمن ذلك أن الوليد بن المغيرة استمع يوما إلى النبي في المسجد الحرام وهو يقرأ
القرآن فانطلق إلى مجلس قومه بني مخزوم فقال: " والله لقد سمعت من محمد آنفا

(1) العنكبوت: 48.
(2) يونس: 16.
131

كلاما ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن وان له لحلاوة وان عليه لطلاوة
وان أعلاه لمثمر وان أسفله لمعذق وانه ليعلو وما يعلى " (1) ثم انصرف إلى منزله
فقالت قريش: صبا والله الوليد والله ليصبأن قريش كلهم، فقال أبو جهل: انا
أكفيكموه، فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزينا، فقال له الوليد مالي أراك حزينا
يابن أخي؟ فقال له: هذه قريش يصيبونك على كبر سنك، ويزعمون انك زينت
كلام محمد، فقام الوليد مع أبي جهل حتى اتى مجلس قومه، فقال لهم: تزعمون أن
محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟! فقالوا: اللهم لا، فقال: تزعمون أنه كاهن،
فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك؟! قالوا: اللهم لا، فقال: تزعمون أنه شاعر فهل
رأيتموه ينطق بشعر قط؟! قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب فهل جربتم
عليه شيئا من الكذب؟! فقالوا: اللهم لا، فما هو اذن؟ فغرق الوليد في الفكر ثم
قال: ما هو الا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فنزل
قوله تعالى: (انه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس
وبسر * ثم ادبر واستكبر * فقال إن هذا الا سحر يؤثر) (2).
وقد افترض بعض العرب - في تبرير هذه الحيرة - امام تحدي القرآن لهم
بنزوله على شخص أمي ان يكون أحد من البشر قد علم النبي القرآن، ولم يجرؤا
وهم الأميون على دعوى تعلمه من أحد منهم، فقد ادركوا بالفطرة أن الجاهل لا
يعلم الناس شيئا، وانما زعموا أن غلاما روميا أعجميا نصرانيا، يشتغل في مكة
قينا (حدادا) يصنع السيوف، هو الذي علم النبي القرآن، وكان ذلك الغلام على
عاميته يعرف القراءة والكتابة، وقد تحدث القرآن الكريم عن افتراض العرب
هذا، ورد عليه ردا بديهيا قال تعالى: (... لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا

(1) البداية والنهاية 3: 78.
(2) المدثر: 18 - 24.
132

لسان عربي مبين) (1).
3 - إن القرآن الكريم يمتد بنظره إلى الغيب المجهول في الماضي البعيد وفي
المستقبل على السواء، فهو يقص أحسن القصص عن أمم خلت، وما وقع في
حياتها من عظات وعبر، وما اكتنفها من مضاعفات، يتحدث عن كل ذلك حديث
من شاهد الاحداث كلها، وراقب جريانها، وعاش في عصرها بين أصحابها، قال
الله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل
هذا فاصبر ان العاقبة للمتقين) (2). وقال: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى
موسى الامر وما كنت من الشاهدين * ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما
كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين) (3). وقال: (ذلك من
أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون اقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت
لديهم إذ يختصمون) (4).
وكل هذه الآيات الكريمة تأكد تحدي القرآن للقوانين الطبيعية في استيعابه لتلك
الاحداث، واحاطته بالماضي المجهول، إذ كيف يمكن بحكم القوانين الطبيعية أن
يتحدث شخص في كتاب عن أحداث أمم في الماضي السحيق لم يعشها ولم
يعاصرها؟
وقد أحس المشركون بهذا التحدي أيضا: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي
تملى عليه بكرة وأصيلا) (5). وكانت حياة محمد (صلى الله عليه وآله) ردا مفحما لهم، فقد عاش

(1) النمل: 103.
(2) هود: 49.
(3) القصص: 44، 45.
(4) آل عمران: 44.
(5) الفرقان: 5.
133

في مكة ولم تتهيأ له أية دراسة لأساطير الأولين، أو كتب العهدين: التوراة
والإنجيل، ولم يخرج من المنطقة الا مرتين، سافر فيهما إلى الشام، إحداهما: في
طفولته مع عمه لقي فيها بحيرا، وهو ابن تسع سنين، فقال هذا الراهب لعمه:
" سيكون لابن أخيك هذا شأن عظيم " (1). والاخرى: في تجارة خديجة وهو
شاب وكان بصحبته ميسرة غلام خديجة، ولم يتجاوز (صلى الله عليه وآله) سوى مدينة بصرى،
في كلتا الرحلتين القصيرتين، فأين تأتى للنبي ان يدرس التوراة أو يكتب أساطير
الأولين؟!
والحقيقة ان مقارنة القصص التي جاءت في القرآن الكريم بالعهد القديم تؤكد
التحدي، إذ تبرز اعجاز القرآن بصورة أوضح، لان التوراة التي شهد القرآن
بتحريفها كانت قصصها وأحاديثها - عن ماضي الأمم وأحداثها - مشحونة
بالخرافات والأساطير وما يسئ إلى كرامة الأنبياء، ويبتعد بالقصة عن اهداف
التبليغ والدعوة، بينما نجد قصص تلك الأمم في القرآن، قد نقيت من تلك العناصر
الغريبة، وأبرزت فيها الجوانب التي تتصل بأهداف التبليغ، واستعرضت بوصفها
عظة وعبرة لا مجرد تجميع أعمى للمعلومات.
وكما كان القرآن محيطا بالماضي، كذلك كان محيطا بالمستقبل، فكم من خبر
مستقبل كشف القرآن حجابه فتحقق وفقا لما أخبر به، ورآه المشركون، ومن هذا
القبيل أخبار القرآن بانتصار الروم على الفرس في بضع سنين، إذ قال تعالى:
(غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع
سنين...) (2).
وقد أخبر القرآن بذلك على أعقاب هزيمة فضيعة مني بها الروم، وانتصار

(1) بحار الأنوار 35: 139.
(2) الروم: 2 - 4.
134

ساحق سجله الفرس عليهم، ففرح المشركون بذلك لانهم رأوا فيه انتصارا
للشرك والوثنية على رسالات السماء، نظرا إلى أن الفرس المنتصرين كانوا وثنيين
والروم كانوا نصارى، فنزل القرآن يؤكد انتصار الروم في المستقبل القريب، فهل
يمكن لكتاب غير نازل من الله تعالى ان يؤكد خبرا غيبيا في المستقبل القريب من
هذا القبيل، ويربط كرامته ومصيره بالغيب المجهول، وهو يهدد مستقبله بالفضيحة
إذا ظهر كذبه في نبوءته؟
وهكذا نجد أن القرآن يتحدى الغيب في الماضي والمستقبل على السواء،
ويتحدث بلغة المطمئن الواثق، الذي لا يخالجه شك فيما يقوله، وهذا ما لا يقدر
عليه انسان، أو كتاب انسان وفقا للقوانين الطبيعية.
كما أننا يمكن أن نجد أدلة أخرى على اعجاز القرآن، في مقدمتها ما أشرنا إليه
في بحث الهدف من نزول القرآن، من التغيير العظيم الذي أحدثه في أمة العرب
وبمدة زمنية قياسية.
135

شبهات حول اعجاز القرآن ومناقشاتها:
لقد أثيرت حول اعجاز القرآن الكريم - من قبل المستشرقين والمبشرين -
شبهات كثيرة نظرا لأهمية هذا البحث وعظمة الاهداف التي يحققها، وقد عرفنا في
بحث اعجاز القرآن الأدلة التي يمكن ان نستنتج منها أن القرآن الكريم ليس صنعة
بشرية وانما هو وحي الهي، ولم تكن الأدلة السابقة تعتمد في الوصول إلى هذه
النتيجة على ملاحظة الأسلوب البلاغي للقرآن الكريم، ولكن الأسلوب البلاغي
للقرآن الكريم كان وما زال أحد الأسس المهمة التي اعتمدها الباحثون لاثبات
اعجاز القرآن وسوف نرى في أكثر الشبهات الآتية أن نقد القرآن الكريم فيها
يعتمد على ملاحظة الأسلوب البلاغي له فحسب، لغرض اسقاط هذا الدليل
الذي يعتمد عليه أحيانا في اثبات اعجاز القرآن، كما سوف نرى بطلان هذه
الشبهات أيضا.
ويمكن تقسيم الشبهات الآتية إلى قسمين رئيسين: الأول الشبهات التي تحاول
ان تبرز جانب النقص والخطأ في الأسلوب والمحتوى القرآني، والثاني الشبهات
التي تحاول ان تثبت أن القرآن الكريم ليس معجزة لقدرة البشر على الاتيان بمثله.
القسم الأول من الشبهات حول اعجاز القرآن:
الشبهة الأولى:
إن الاعجاز القرآني يرتكز بصورة رئيسة على الفصاحة والبلاغة القرآنية،
ونحن نعرف أن العرب قد وضعوا قواعد وأسسا للفصاحة والبلاغة والنطق تعتبر
هي المقياس الرئيس في تمييز الكلام البليغ من غيره، وبالرغم من ذلك نجد في
القرآن الكريم بعض الآيات التي لا تنسجم مع هذه القواعد بل تخالفها، الامر
الذي يدعونا إلى القول بان القرآن الكريم ليس معجزا لأنه لم يسر على نهج
القواعد العربية وأصولها. وتسرد الشبهة بعض الأمثلة لذلك.
136

ويمكن ان تناقش هذه الشبهة - إضافة إلى ما أشرنا إليه من أن الدليل على
اعجاز القرآن لا يختص بالجانب البلاغي - بأسلوبين رئيسين:
الأول: ملاحقة الأمثلة والتفصيلات التي تسردها الشبهة وبيان انطباقها مع
القواعد العربية المختلفة وانسجامها معها، وملاحظة مختلف القراءات القرآنية التي
يتفق الكثير منها مع هذه القواعد، بالشكل الذي لا يبقى مجالا لورود الشبهة
عليها، وقد قام العلامة الشيخ محمد جواد البلاغي بجانب من ذلك (1)، كما يمكن ان
نعرف ذلك من خلال مراجعة الكتب التفسيرية التي تناولت هذا الجانب مثل
كتاب مجمع البيان للشيخ الطبرسي والكشاف للزمخشري.
الثاني: مناقشة أصل الفكرة التي تقوم عليها الشبهة ومدى امكان الاعتماد
عليها في الطعن باعجاز القرآن، وهذا ما سوف نقوم به في هذا البحث وذلك
بملاحظة الامرين التاليين:
أ - إن تأسيس قواعد اللغة العربية كان في وقت متأخر عن نزول القرآن
الكريم وفي العصور الأولى للدول الاسلامية، بعد أن ظهرت الحاجة إليها بسبب
التوسع الاسلامي الذي ادى إلى اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب، وقد كان
الهدف الرئيس لوضع هذه القواعد هو الحفاظ على النص القرآني ولغته، وقد
اتبعت في استكشاف هذه القواعد طريقة ملاحظة النصوص العربية الواردة قبل
هذا الاختلاط أو التي لم تتأثر به.
فلم تكن عملية وضع القواعد عملية تأسيس واختراع من قبل واضعي اللغة
العربية، وانما هي عملية استكشاف لما كان العرب يتبعه من أساليب في البيان
والنطق خلال كلامهم، ولذا كان الكلام العربي الأصيل هو الذي يتحكم في
صياغة القاعدة وتفصيلاتها.

(1) الهدى إلى دين المصطفى 1: 330.
137

ولا شك أن القرآن الكريم كان أهم تلك المصادر على الاطلاق التي اعتمد
عليها واضعو هذه القواعد في صياغتها وتأسيسها، لأنه أوثق المصادر العربية
والكلام البليغ الذي بلغ القمة، ولذلك نجد علماء العربية عندما يريدون الاستدلال
على صحة اي قاعدة يستدلون على ذلك بالآيات القرآنية أو بالنصوص التي
تثبت نسبتها إلى العرب الأوائل.
وعلى هذا الأساس التأريخي لوجود قواعد اللغة العربية يجب ان يكون
الموقف تجاهها ان نجعل القرآن هو القياس الذي يتحكم في صحتها وخطئها، لا ان
نجعل القواعد مقياسا نحكم به على القرآن، لان القاعدة العربية وضعت على ضوء
الأسلوب القرآني فإذا ظهر أنها خلاف هذا الأسلوب يكشف ذلك عن وقوع
الخطأ في عملية استكشاف القاعدة نفسها.
ب - ثم إذا لاحظنا موقف العرب المعاصرين للقرآن الكريم - وهم ذوو الخبرة
والمعرفة الفائقة باللغة العربية - وجدناهم قد أذعنوا واستسلموا للبلاغة القرآنية
وتأثروا بها ايمانا منهم بأنه يسير على أدق القواعد والأساليب العربية في البيان
والتعبير، ولو كان في القرآن الكريم ما يتنافى مع قواعد اللغة العربية وأصولها لكان
من الجدير بهؤلاء الأعداء ان يتخذوا ذلك وسيلة لنقد القرآن ومنفذا للطعن به.
الشبهة الثانية:
إن القرآن قد تحدث عن قصص الأنبياء، كما تحدثت الكتب الدينية الأخرى
كالتوراة والإنجيل عنها، وعند المقارنة بين ما ذكره القرآن وما ورد في التوراة
والإنجيل نجد القرآن يخالف تلك الكتب في حوادث كثيرة ينسبها إلى الأنبياء
وأممهم، الامر الذي يجعلنا نشك في أن يكون مصدر القرآن الوحي الإلهي لسببين:
الأول: ان هذه الكتب من الوحي الإلهي الذي اعترف به القرآن، وإذا كان
القرآن وحيا الهيا أيضا فلا يمكن ان يناقض الوحي نفسه في الاخبار عن حوادث
138

تأريخية واقعية.
الثاني: ان هذه الكتب ما زالت تتداولها أمم هؤلاء الأنبياء وهم بطبيعة
ارتباطهم الديني والاجتماعي بأنبيائهم لا بد وان يكونوا أدق اطلاعا على أحوالهم
من القرآن الذي جاء في أمة ومجتمع منفصل عن تأريخ هؤلاء الأنبياء.
وهذه الشبهة - كسابقتها - لا يمكن ان تصمد للمناقشة إذا عرفنا أن هذه الكتب
الدينية قد تعرضت للتحريف والتزوير - كما سوف نتعرض إلى ذلك في بحث
مستقل - وكان أحد أسباب التحريف هو الانفصال التأريخي الذي وقع بين
الأنبياء وأممهم، حيث تعرض اليهود - مثلا - إلى الأسر الجماعي ونقلوا إلى بابل
وأحرقت جميع الكتب ودمرت جميع المعابد وبقوا على هذا الحال مدة عقود من
الزمن حتى أنقذهم كورش الفارسي من ذلك، ويقال بأنهم دونوا التوراة
الموجودة على ما تبقى في ذاكرة بعض الاشخاص مما سمعوه من آبائهم، وكذلك
الحال بالنسبة إلى المسيحيين، حيث تعرض المسيح لمحاولة الصلب وتفرق
الحواريون ودون الإنجيل على ما تبقى في الذاكرة بعد مدة طويلة من هذه
الحادثة.
هذا الامر وغيره هو الذي جعلهم غير قادرين على الاحتفاظ الديني بها، وقد
أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة عند حديثه عن أمم هؤلاء الأنبياء
والجماعات التي نزلت فيهم هذه الكتب.
إضافة إلى أن ملاحظة محتوى الخلاف بين القرآن الكريم والكتب الدينية
الأخرى يدعونا بنفسه للايمان بصدق القرآن الكريم، بعد أن نجد التوراة والإنجيل
يذكران في قصص هؤلاء الأنبياء مجموعة من الخرافات والأوهام يتجاوزها
القرآن الكريم، وينسبان إلى الأنبياء أعمالا ومواقف لا يصح نسبتها إليهم ولا
تليق برسل الله والقوام على شريعته ودينه، بل لا تليق بمصلحين عاديين من عامة
139

البشر، كما في نسبة شرب الخمر والزنا إلى لوط (عليه السلام)، وكذلك نسبة وقوع داود
تحت تأثير الشهوة والعشق لامرأة أجنبية بحيث يفرط بأحد قادته الكبار في
الحرب وهو زوج هذه المرأة من اجل التخلص منه والزواج بها، إلى غير ذلك كما
يتبين ذلك بوضوح عند المقارنة بين القرآن والكتب الدينية الأخرى (1).
وقد عرفنا في بحث اعجاز القرآن أن إحدى النقاط المهمة التي يظهر فيها
اعجاز القرآن الكريم عرضه لقصص الأنبياء وحوادثهم، بشكل يبعث اليقين في
نفوسنا ان مصادر هذا العرض ليست هي الكتب الدينية، ثم يأتي هذا العرض
منسجما ومؤتلفا مع النظرة الواقعية الصحيحة للأنبياء والرسل، الامر الذي يدلل
على أن مصدره هو الوحي الإلهي.
الشبهة الثالثة:
إن أسلوب القرآن في تناول الأفكار والمفاهيم وعرضها لا ينسجم مع أساليب
البلاغة العربية ولا يسير على الطريقة العلمية في المنهج والعرض، وذلك لأنه يجعل
الموضوعات المتعددة متشابكة بعضها مع بعض، فبينما يتحدث القرآن في التأريخ
ينتقل إلى موضوع آخر من الوعد والوعيد والحكم والامثال والاحكام وغير
ذلك من الجهات، فلا يجعل القارئ قادرا على الالمام بالأفكار القرآنية، مع أن
الموضوعات القرآنية لو كانت معروضة على شكل فصول وموضوعات مستقلة
لكانت الفائدة المترتبة عليها أعظم والاستفادة منها أسهل، وكان العرض منسجما
مع الأسلوب العلمي المنهجي الصحيح.
وتناقش هذه الشبهة على أساس النقطتين التاليتين:
الأولى: أن القرآن الكريم ليس كتابا علميا ولا كتابا مدرسيا - كما عرفنا ذلك
في بحث الهدف من نزول القرآن - فهو ليس كتاب فقه أو تأريخ أو أخلاق، وانما هو

(1) يمكن مراجعة كتاب الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي: ج 2 في هذه المقارنة.
140

كتاب هداية وتربية وهدفه الأساس هو احداث التغيير الاجتماعي، والأسلوب
القرآني خضع لهذا الهدف في طريقة العرض وفي التدرج في النزول وفي غير ذلك
من الظواهر القرآنية، كوجود الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه. وهذه الطريقة
في العرض من الخصائص البارزة في القرآن الكريم التي خضعت لهذا الهدف
للتمكن من إحداث التأثير المطلوب في نفسية الانسان المعاصر لنزول القرآن، بل
ولكل انسان يستمع للقرآن الكريم أو يقرأه (1).
والنتائج العظيمة التي حققها القرآن الكريم في المجتمع الجاهلي أفضل شاهد
على انسجام هذا الأسلوب مع الهدف الأساس للقرآن الكريم.
الثانية: أن هذه الطريقة في العرض يمكن ان تعتبر إحدى الميزات التي يتجلى
فيها الاعجاز القرآني بصورة أوضح، فإنه بالرغم من هذا التشابك في
الموضوعات تمكن القرآن الكريم من الاحتفاظ بجمال الأسلوب وقوة التأثير
وحسن الوقع على الاسماع والنفوس، الامر الذي يدلل على براعة متناهية وقدرة
عظيمة على عرض الموضوعات وطرح الأفكار.
الشبهة الرابعة:
لا شك أن ذوي القدرة والمعرفة باللغة العربية يتمكنون من الاتيان بمثل بعض
الكلمات القرآنية، وحين تتوفر هذه القدرة في بعض الكلمات فمن المعقول ان تتوفر
أيضا في كلمات أخرى، وهذا ينتهي بنا إلى أن نجزم بوجود القدرة على الاتيان
بسورة أو أكثر من القرآن الكريم لدى أمثال هؤلاء لان من يقدر على بعض
القرآن يمكن أن نتصور فيه القدرة على الباقي بشكل معقول، وبذلك لا يكون

(1) تناولنا هذا التأثير والتأثر في كتابنا " الهدف من نزول القرآن "، حيث تعرضنا إلى تسع
من ظواهر القرآن الكريم بالدرس والتحليل: ومن هذه الظواهر: أسلوب القرآن
الكريم.
141

التحدي من قبل القرآن بالاتيان بسورة أو عشر سور واردا وصحيحا.
والمناقشة في هذه الشبهة واضحة:
لان الاعجاز القرآني يتمثل في جانبين رئيسين - كما أشرنا سابقا - جانب
الأسلوب والتركيب البياني وجانب المضمون والمحتوى والأفكار. وفي كلا
الجانبين لا مجال لهذا الوهم والخيال.
أما في جانب المضمون فمن الواضح أن القدرة على اعطاء فكرة أو فكرتين لا
يعني القدرة على إعطاء هذا المقدار الكبير المنسجم من الأفكار والمفاهيم وفي
نفس الظروف الموضوعية والذاتية التي جاء فيها القرآن الكريم، والتحدي الذي
شرحناه في بعض أبحاثنا السابقة عن اعجاز القرآن كان ضمن الظروف الخاصة
التي عاشها النبي (صلى الله عليه وآله) وجاء فيها القرآن الكريم.
وأما في جانب الأسلوب فإن القدرة على جملة أو مقدار من الكلمات لا يعني
القدرة على تمام التركيب بعناصره المتعددة التي لا يمكن ان توجد أو تتوفر إلا
ضمن التركيب بكامله، وهذا شئ واضح لا يحتاج إلى برهان، فإننا ندرك أن
كثيرا من الناس يملكون قدرة النطق ببعض الكلمات العربية ولكن ذلك لا يعني
أنهم قادرون على أن يكونوا خطباء أو ادباء أو شعراء، ويتمتعون بالبلاغة
والفصاحة أو حتى الاتيان بقطعة كلامية بليغة، كما أن كثيرا من الناس يتمكنون
من القيام ببعض الأعمال البسيطة، ولكنهم غير قادرين على القيام بالمشاريع
الضخمة التي تتركب من تلك الأعمال البسيطة كمشاريع البناء والصناعة
والفن.
الصرفة في الاعجاز القرآني:
ولعل هذه الشبهة أو الوهم هو الذي أدى بجماعة من متكلمي المسلمين
- كالنظام ومدرسته على ما نسب إليهم - إلى أن يفسروا ظاهرة الاعجاز القرآني
142

بأنها نحو من الصرفة (1)، حيث يمكن ان يكون قد وجدوا - نتيجة الانطلاق من
هذا الوهم - أن القدرة على الاتيان بمثل القرآن الكريم متوفرة، ولكن عدم توفر
أشخاص يأتون بمثل القرآن كان نتيجة لتدخل إلهي مباشر (صرفهم) عن
المعارضة والمباراة.
ولكن هذا التفسير لظاهرة الاعجاز واضح البطلان إذا كانوا يريدون من توفر
القدرة عند بعض الناس وجودها فعلا لديهم ولكن الله صرف أذهانهم عن
ممارستها، وذلك:
1 - لان محاولة المعارضة قد وقعت من بعض الناس وانتهت إلى الفشل
والخيبة، كما تحدثنا بذلك كثير من النصوص التأريخية وتدل عليها بعض الوقائع
في العصر القريب من قبل بعض المبشرين.
2 - إن صرف الأذهان انما يفترض بعد نزول القرآن الكريم، وأما قبله فلا
معنى للصرفة لعدم وجود القرآن، ولذلك ومن أجل التأكد من الاعجاز القرآني
ليس علينا الا مقارنة القرآن بالنصوص العربية السابقة على وجوده وملاحظة
مدى الامتيازات المتوفرة فيه دونها، بحيث لا يمكن مقايسته بهذه النصوص بل
هو يفوقها كما عرفنا في بحث الاعجاز.
نعم إذا كان يريد القائلون بالصرفة أن الله سبحانه له القدرة على أن يهب
إنسانا ما قدرة على الاتيان بمثل القرآن ولكنه لم يفعل فهذا لا يعني أن القرآن
الكريم ليس بمعجزة، لان الهدف الرئيس من المعجزة دلالتها فلا بد ان تكون لها
هذه الدلالة، وعنصر التحدي في مثل هذه المعجزة يكون موجودا ما دامت ليست

(1) مذهب الصرفة هو فرض أن الناس أو على الأقل البلغاء منهم قادرون على الاتيان بمثل
القرآن أو على الأقل بسورة منه، وانما لم يأتوا بذلك مع تحدي القرآن لهم لان الله تعالى
صرفهم بقدرته عن القيام بهذا العمل.
143

تحت قدرة الانسان الاعتيادية بالفعل، وهذا الشئ من الممكن أن يدعى في كل
معجزات الأنبياء أو المعجزات التي يمكن ان نتصورها.
الشبهة الخامسة:
إن النقطة الأساسية التي يستند إليها الاعجاز القرآني هي عدم قدرة العرب
على معارضته رغم تحدي القرآن الكريم لهم مرة تلو الأخرى ولكن هل العرب
حقيقة لم يكونوا قادرين على معارضته؟ أو أن أسبابا أخرى خارجية هي التي
منعتهم عن تحقيق هذه المعارضة؟!
وتفرض الشبهة - بصدد الجواب عن هذا التساؤل - عوامل معينة منعتهم عن
تحقيق هذه المعارضة وهذه العوامل هي:
أن العرب الذين عاصروا الدعوة أو تأخروا عنها بزمن قليل لم يعارضوا
القرآن الكريم خوفا على أنفسهم وأموالهم من المعارضة، بسبب سيطرة المسلمين
الدينية على الحكم، ومحاربتهم كل من يعادي الاسلام أو يظهر الخلاف معه، ولا
شك أن معارضة القرآن تعتبر في نظر الحكم ممن أبرز أنحاء العداء والمخالفة.
وحين انتهت السلطة إلى الأمويين الذين لم يكونوا مهتمين بالحفاظ على
الاسلام والالتزام به الامر الذي كان يفسح المجال لمن يريد أن يعارض القرآن
الكريم أن يظهر معارضته كان القرآن في ذلك الحين قد أصبح أمرا معروفا في
حياة الأمة، مألوفا لديها بأسلوبه وطريقة عرضه بسبب رشاقة ألفاظه ومتانة
معانية، فانصرف الناس عن التفكير بمعارضته لأنه أصبح من المرتكزات الموروثة
لهم.
ويمكن مناقشة هذه الشبهة بملاحظة النقاط التالية:
أولا: إن تحدي القرآن الكريم للمشركين كان منذ بداية الدعوة وفي ظروف
كان الاسلام فيها ضعيفا تجاه قوة المشركين، حيث مضت ثلاث عشرة سنة من
144

الزمن على الأقل على نزول القرآن والمسلمون مطاردون وضعفاء سياسيا،
وبالرغم من ذلك لم يستطع أحد من بلغاء العرب أن يقوم بهذه المعارضة.
ثانيا: إن سيطرة الاسلام في أواخر عصر النبي (صلى الله عليه وآله) وعصر الخلفاء الأربعة
الذين جاؤوا إلى الحكم من بعده لم تكن تعني منع الكفار من اظهار كفرهم، فقد أقر
الاسلام جماعات من الكفار على ديانتهم، كما حدث ذلك لأهل الكتاب حيث
كانوا يعيشون في ظل الدولة الاسلامية في طمأنينة ورفاهية، لهم ما للمسلمين
وعليهم ما عليهم، فلو كان واحد من هؤلاء قادرا على الاتيان بمثل القرآن
الكريم لتصدي لمعارضته والانتصار لديانته على الاسلام، خصوصا وأن
الاسلام والقرآن دخلا في مناقشات واسعة مع أهل الكتاب من اليهود
والنصارى، وكانوا يملكون استقلالهم سواء في المدينة أو في خارجها من
أراضي الشام وغيرها.
ثالثا: إن افتراض الخوف من المعارضة نتيجة للسيطرة الاسلامية انما يمنع
من إظهار المعارضة للقرآن الكريم وإعلانها، وأما المعارضة السرية فقد كانت
من الممكن ان تتم ضمن الحدود الخاصة للمعارضين من أصحاب هذه الديانات
دون أن تكون لها نتائج مضادة، ولو كان من الممكن الاتيان بمثل القرآن الكريم
لأمكن لهؤلاء ان يعارضوه ثم ينتظروا الفرصة السانحة لاظهار هذه المعارضة،
خصوصا إذا لاحظنا أن أهل الكتاب ما زالوا يحتفظون بمجموعة من النصوص
الدينية لهم ويتداولونها، مع أنها تتعارض مع القرآن الكريم في محتوياتها
ومضامينها.
رابعا: من الملاحظ عادة أن الكلام مهما بلغ من رتبة عالية في البلاغة ومتانة
الأسلوب وقوته فإنه يصبح كلاما عاديا إذا تكرر سماعه، ولذلك نرى القصيدة
البليغة تصبح عادية عندما يتكرر القاؤها عدة مرات، بحيث قد تبدو قصيدة
145

أخرى أقل منها بلاغة أبلغ منها بسبب عدم تكرارها، وهذا يعني أن الألفة
والانس بالقرآن الكريم - لو كان كلاما عاديا - تدعو إلى أن يصبح أيسر على
المعارضة والاتيان بمثله، لا ان ينصرف الناس عن التفكير بمعارضته نتيجة
لأنسهم به بالرغم من تحديه المستمر لهم وتعاليه عليهم.
الشبهة السادسة:
إن القرآن ليس معجزة وان كان يعجز جميع البشر عن الاتيان بمثله، لان
المعجزة يجب ان تكون صالحة لان يتعرف جميع الناس على جوانب التحدي فيها،
لأنها دليل النبوة التي يراد بواسطتها اثبات النبوة لهم، والكلام البليغ لا يكفي في
إعجازه عجز الناس عن الاتيان بمثله، لان معرفة جوانب التحدي والاعجاز فيه
من بلاغته وسمو التعبير فيه لا تتوفر الا للخاصة منهم الذين يتكلمون العربية
ويعرفون دقائق تركيبها وميزاتها.
ويمكن ان تناقش هذه الشبهة بما يلي:
أولا: إن هذه الشبهة تتضمن في الحقيقة اعترافا بالاعجاز القرآني، إلا أنها
تحاول التهرب من ذلك باعطاء المعجزة طابعا خاصا يرتبط بمدى دلالتها على
دعوى النبوة، فالشبهة لا تناقش الاعجاز من ناحية النقص في التركيب والمضمون
القرآني وعدم ارتفاعه إلى مستوى التحدي، وانما تناقشه من زاوية افتراض
عدم قدرة جميع الناس على فهم هذا الاعجاز واستيعابه، وانما يفهم الخاصة منهم
هذا الاعجاز.
ثانيا: إن طريق الايمان بالمعجزة لا يتوقف على معرفتها عن طريق التجربة
الشخصية المباشرة لها لكل الناس، وانما يمكن ان يتحقق عن طريق معرفة ذوي
الاختصاص والخبرة من الناس لها، الشئ الذي يجعلنا نصدق بالمعجزة لعجز
هؤلاء الناس المختصين، وهذا هو السبيل الوحيد لايماننا بكثير من حقائق الكون
146

وخصائص عالم الطبيعة، حيث يحصل لنا اليقين بها عن طريق معرفة ذوي
الاختصاص واخبارهم لنا بذلك بشكل لا يداخله الريب أو الشك، كما حصل
هذا الشئ بالنسبة إلى معجزة العصا التي جاء بها موسى (عليه السلام)، فان عجز السحرة
امام موسى وهزيمتهم في المباراة كانا دليلا قاطعا على أن تحول عصا موسى إلى
(حية) إنما هو معجزة، وإن لم يدرك هذه الحقيقة بشكل مباشر سائر الناس لعدم
معرفتهم بشؤون السحر.
فحين يقف العرب أجمع وذوو الاختصاص من الدارسين والعلماء باتجاهاتهم
المختلفة امام القرآن الكريم، ويعترفون بخصائصه الاعجازية وعجزهم إمام تحديه
لهم لا يبقى امامنا شك في اعجاز القرآن الكريم وارتباطه بالسماء.
ثالثا: إن فكرة الاعجاز في القرآن الكريم من الممكن ان تشرح وتوضح على
نطاق واسع وليس ذلك مما يتعسر فهمها فيفهما الناس على حد سواء، العربي منهم
وغير العربي وذوو الاختصاص وغيرهم، لان إعجاز القرآن لا يختص بالجانب
البلاغي من أسلوبه، بل هو المعجزة الخالدة التي لا تفنى والتي لا تختص بأمة دون
أخرى.
وقد أشرنا إلى بعض الجوانب في الاعجاز القرآني التي لا ترتبط بأسلوبه
وبلاغته في أبحاثنا السابقة من علوم القرآن (1).

(1) منهج السنة الأولى من محاضرات علوم القرآن الكريم (لكلية أصول الدين)
والقسم الثاني من هذا الكتاب.
اعتمدنا بصورة رئيسة في عرض الشبهات ومناقشتها على دراسة السيد الخوئي (رحمه الله) في كتابه
" البيان في تفسير القرآن ".
147

شبهة المستشرقين حول الوحي ومناقشتها:
مقدمة:
لقد أثار أعداء الاسلام من جاهليين قدامي ومستشرقين جدد الشبهات
الكثيرة حول الوحي القرآني، وكانت تستهدف هذه الشبهات في الغالب تأكيد أن
الوحي القرآني ليس مرتبطا بالسماء وانما هو نابع من ذات محمد الانسان (صلى الله عليه وآله).
وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض هذه الشبهات في مواضع مختلفة (1)، وردد
بعض المستشرقين هذه الشبهات وغيرها وحاول اضفاء طابع البحث والدراسة
وسمات الموضوعية عليها، كما هي الطريقة المضللة المتبعة لديهم في مثل هذه
الحالات.
ويحسن بنا أن نكون فكرة واضحة عن الوحي الذي نحن بصدد بحث الشبهة
حوله ومناقشتها تمهيدا للدخول في صلب الموضوع.
ما هو الوحي؟
الوحي لغة: هو الاعلام في خفاء (2)، ولكن ما هو الوحي الإلهي الذي اختص
به الله سبحانه النبيين من عباده، وتجلى بشكل واضح في القرآن الكريم؟
وبصدد الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن نقول: إن كل فكرة يدركها الانسان
فهي ترتبط في وجودها - بسبب أو بآخر - بالله سبحانه وتعالى خالق الانسان
ومدبر أموره، لان الله تعالى هو مسبب الأسباب، ولذا تنسب إليه الأشياء في
القرآن الكريم، ولكن شعور الانسان تجاه مصدر هذه الفكرة - بالرغم من إدراكه
العقلي لهذه الحقيقة - قد يكون مختلفا، ونذكر انحاء ثلاثة لهذا الشعور:
أ - أن يشعر بأن الفكرة نابعة من ذاته ووليدة جهده الخاص وادراكه الشخصي.

(1) منها الأنبياء: 21، والدخان: 14، والفرقان: 5، والنحل: 103، وغيرها.
(2) لسان العرب 15: 381 مادة (وحي).
148

وهذا الشعور هو ما نحس به في حالات الادراك الاعتيادية تجاه أفكارنا
العادية أو المبتكرة نتيجة الجهد العلمي فإننا - مع اعتقادنا بأن أفكارنا منسوبة إلى
الله تعالى على أساس أنه الخالق المدبر لعالم الوجود بجميع مقوماته، ومنه قدرتنا
على التفكر - نشعر وكأن هذه الفكرة وليدة هذا المزيج المركب الذي أودعه الله في
أنفسنا، وناتجة عن مجموعة المواهب والقدرات الشخصية لنا.
ب - ان يشعر الانسان بأن الفكرة قد القيت إليه من طرف آخر وجاءته من
خارج ذاته، وشعوره هذا بدرجة من الوضوح بحيث يحس بهذا الالقاء
والانفصالية بين الذات الملقية والذات المتلقية، ولكنه مع ذلك كله لا يكاد يحس
بالأسلوب والطريقة التي تمت فيها عملية إلقاء الفكرة.
وهذا النحو من الشعور تجاه الفكرة هو ما يحصل في حالات (الالهام)
الإلهي (1).
ج - أن يصاحب الشعور الحسي الذي شرحناه في فقرة (ب)، شعور حسي
آخر بالطريقة والأسلوب الذي تتم به عملية الالقاء والاتصال، وهذا الحس
والشعور - سواء الحس بأن الفكرة جاءت من اعلى أو الحس بأن مجيئها كان
بالأسلوب الخاص - لا بد فيه ان يكون واضحا وجليا وضوح ادراكنا للأشياء
بحواسنا العادية، غاية الامر في موارد الادراك بالحواس العادية (السمع والبصر
واللمس) يكون التلقي بالوسائل المادية التي هي طرق الاثبات العلمية المادية،
واما التلقي إذا لم يكن بالأدوات الحسية أو كان ولكن الطرف الآخر في الالقاء
كان غير حسي فهذا هو ما يحدث في حالات (الوحي) إلى الأنبياء، أو على الأقل
ما حدث في وحي القرآن الكريم إلى نبينا محمد (صلى الله عليه وآله). كما تؤكد ذلك مجموعة من
الأحاديث التي تصف حالات الوحي الإلهي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، نذكر منها ما يلي:

(1) قارن ذلك بما ذكره الدكتور صبحي الصالح في كتابه " مباحث في علوم القرآن ".
149

" عن عائشة، ان الحارث بن هشام سأل النبي (صلى الله عليه وآله) كيف يأتيك الوحي، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني
وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول.
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه
وان جبينه ليتفصد عرقا " (1).
وعن عبادة بن الصامت قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا انزل عليه الوحي كرب لذلك
وتربد وجهه (2).
وعنه قال: " كان نبي الله (صلى الله عليه وآله) إذا انزل الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه
رؤوسهم فلما اتلي عنه رفع رأسه " (3).
" عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) كيف لم يخف رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما
يأتيه من قبل الله ان يكون ذلك مما ينزغ به الشيطان؟ قال: فقال: إن الله إذا اتخذ
عبدا رسولا أنزل عليه السكينة والوقار فكان يأتيه من قبل الله عز وجل مثل
الذي يراه بعينه " (4).
" عن الأحول في حديث معتبر قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن (الرسول)
و (النبي) و (المحدث)، قال: الرسول: الذي يأتيه جبرئيل (عليه السلام) قبلا فيراه
ويكلمه، فهذا الرسول، وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (عليه السلام)
ونحو ما كان رآى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه
جبرئيل (عليه السلام) من عند الرسالة، وكان محمدا (صلى الله عليه وآله) حين جمع له النبوة وجاءته
الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل (عليه السلام) ويكلمه بها قبلا، ومن الأنبياء من جمع

(1) فتح الباري 1: 18. دار المعرفة، بيروت.
(2) و (3) صحيح مسلم 15: 89. دار احياء التراث العربي. بيروت.
(4) بحار الأنوار 18: 262 رقم 16 عن تفسير العياشي.
150

له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه من غير أن يكون يرى في
اليقظة، واما المحدث فهو الذي يحدث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه " (1).
" عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال بعض أصحابنا: أصلحك
الله أكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: جبرئيل، وهذا جبرئيل يأمرني، ثم يكون في
حال أخرى يغمى عليه؟ قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام) إنه إذا كان الوحي من الله
إليه ليس بينهما جبرئيل أصابه ذلك لثقل الوحي من الله، وإذا كان بينهما جبرئيل
لم يصبه ذلك، فقال: قال لي جبرئيل، وهذا جبرئيل " (2).
إذن فهناك فرق بين الادراك العادي الذي يكون نتيجة (الموهبة)، وبين
(الالهام)، و (الوحي).
لان إدراك (الموهبة) في الحقيقة، يعبر عن فكرة يدركها الانسان، مع شعوره
بأنها نتيجة للجهد الشخصي، وان كان يدرك بشكل عقلي ومنطقي أنها مرتبطة
بسبب أو بآخر بالله سبحانه.
والالهام: عبارة عن فكرة يدركها الانسان، مصحوبة بالشعور الواضح، بأنها
ملقاة من طرف أعلى منفصل عن الذات الانسانية، وان كان لا يدرك الانسان
شكل الطريقة التي تم فيها هذا الالقاء.
والوحي: عبارة عن فكرة يدركها الانسان، مصحوبة بالشعور الواضح، بأنها
ملقاة من طرف أعلى منفصل عن الذات الانسانية، وشعور آخر واضح بالطريقة
التي تم فيها الالقاء، مع وجود عنصر الغيب والخفاء في هذه العملية، ولذا تسمى
بالوحي.

(1) بحار الأنوار 18: 268 رقم 30 عن امالي الشيخ الطوسي، ورواه البرقي في المحاسن
بسند معتبر بهذا المعنى.
(2) المصدر السابق.
151

الشبهة حول الوحي:
هناك ارتباط وثيق بين هذا الموضوع وبحث إعجاز القرآن، لأننا نتعرف من
خلال ذلك البحث، على أن القرآن ليس ظاهرة بشرية، ومن ثم ليس من صنع
محمد (صلى الله عليه وآله)، وانما يكشف بجوانب التحدي فيه عن ارتباطه بعالم الغيب، كما أشرنا
إلى ذلك في بحث اعجاز القرآن.
وعلى هذا الأساس: نجد أن مناقشة الشبهات، التي تثار حول الوحي
القرآني، لا بد وان تعتمد بصورة رئيسة على نتائج بحث اعجاز القرآن. ولذا
فنحن عندما نذكر هنا بعض ما يثار حول الوحي، نقصد بذلك ان نعالج بعض
التفاصيل ذات العلاقة بهذه الإثارة دون الجانب الأساسي للمسألة.
ولعل من أخبث الأساليب في إثارة الشبهة حول الوحي، هو الأسلوب الذي
يحاول ان يضفي على النبي محمد (صلى الله عليه وآله) صفات الصدق والأمانة والاخلاص
والذكاء، ولكن يفترض أن يتخيل له أنه مما يوحى إليه، وهو ما يسمى بالوحي
النفسي، فإن هذا الأسلوب يحاول ان يستر دوافعه المغرضة، بمظاهر الانصاف
والمحبة والاعجاب.
وهذا الأسلوب طرحه بعض المستشرقين وتبعه بعض المذاهب والأحزاب
المادية في البلاد العربية.
القرآن وحي نفسي لمحمد (صلى الله عليه وآله):
وخلاصة ما قيل في صياغة هذه الشبهة: أن محمدا (صلى الله عليه وآله) قد أدرك بقوة عقله
الذاتية، ومما يتمتع به من نقاء وصفاء روحي ونفسي بطلان ما كان عليه قومه من
عبادة الأصنام، كما أدرك ذلك أيضا أفراد آخرون من قومه.
وأن فطرته الزكية - إضافة إلى بعض الظروف الموضوعية كالفقر - حالت دون
أن يمارس أساليب الظلم الاجتماعي من الاضطهاد، واكل المال بالباطل، أو
152

الانغماس بالشهوات، وارتكاب الفواحش كالاستمتاع بالسكر والتسري وعزف
القيان وغير ذلك من القبائح.
وأنه طال تفكيره من أجل إنقاذهم من ذلك الشرك القبيح وتطهيرهم من تلك
الفواحش والمنكرات.
وقد استفاد من النصارى الذين لقيهم في أسفاره أو في مكة نفسها كثيرا من
المعلومات عن الأنبياء والمرسلين، ممن بعثهم الله في بني إسرائيل وغيرهم،
فأخرجوهم من الظلمات إلى النور.
كما أنه لم يقبل جميع المعلومات التي وصلت إليه من هؤلاء النصارى، لما عرض
للنصرانية من الأفكار الوثنية والانحرافات، كألوهية المسيح وامه، وغير ذلك
من البدع.
وأنه كان قد سمع أن الله سيبعث نبيا مثل أولئك الأنبياء من عرب الحجاز بشر
به عيسى المسيح وغيره من الأنبياء، وتولد في نفسه أمل ورجاء في أن يكون هو
ذلك النبي الذي آن اوانه، وأخذ يتوسل إلى تحقيق هذا الامل بالانقطاع إلى عبادة
الله تعالى في خلوته بغار حراء.
وهنالك قوي ايمانه وسما وجدانه، فاتسع محيط تفكيره وتضاعف نور بصيرته،
فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات والدلائل البينة - في السماء والأرض - على
وحدانية الله سبحانه خالق الكون ومدبر أموره. وبذلك أصبح أهلا لهداية الناس
وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ثم ما زال يفكر ويتأمل ويتقلب بين الآلام والآمال، حتى أيقن أنه هو النبي
المنتظر الذي يبعثه الله لهداية البشرية، وتجلى له هذا الاعتقاد في الرؤى المنامية،
ثم قوي حتى صار يتمثل له الملك يلقنه الوحي في اليقظة.
واما المعلومات التي جاءته من هذا الوحي، فهي مستمدة في الأصل من تلك
153

المعلومات، التي حصل عليها من اليهود والنصارى، ومما هداه إليه عقله وتفكيره
في التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ولكنها كانت تتجلى وكأنها وحي السماء،
وخطاب الخالق عز وجل، يأتيه بها الناموس الأكبر، الذي كان ينزل على موسى
ابن عمران وعيسى بن مريم، وغيرهما من النبيين (عليهم السلام).
مناقشة الشبهة:
وإذا أردنا أن ندرس هذه النظرية (نظرية الوحي النفسي)، لا نجدها
تصمد أمام النقد والمناقشة العلميتين، إذ يمكن ان يلاحظ عليها من خلال أبعاد
ثلاثة:
الأول: أن الدلائل التأريخية القطعية وطبيعة الظروف التي مر بها النبي (صلى الله عليه وآله)
تأبى التصديق بهذه النظرية وقبولها.
الثاني: أن المحتوى الداخلي للقرآن الكريم - بما يضم من تشريع واخلاق
وعقائد وتأريخ - لا يتفق مع هذه النظرية في تفسير الوحي القرآني.
الثالث: أن موقف النبي (صلى الله عليه وآله) من الظاهرة القرآنية، يشهد بوضوح على رفض
تفسير الظاهرة القرآنية بنظرية الوحي النفسي.
أ - الدلائل التأريخية تناقض نظرية الوحي النفسي:
لقد ذكر السيد رشيد رضا - بصدد مناقشته للمقدمات التأريخية وغيرها التي
رتبها (درمنغام) لعرض نظرية الوحي النفسي - عشر ملاحظات، وسوف نقتصر
على تلخيص بعضها:
الأولى: أن أكثر المقدمات التي بنى عليها أصحاب النظرية بنيانهم ونظريتهم،
لا تقوم على أساس تأريخي صحيح، وانما تنطلق من نقطة مفروضة على البحث
بشكل مسبق، وهي أن الوحي القرآني ليس وحيا الهيا منفصلا عن الذات
المحمدية، الامر الذي كان يدعو أصحاب النظرية إلى اختلاق الحوادث
154

والاخبار، أو تخيلها من أجل إكمال الصورة الكاذبة ووصل بعض الحلقات
ببعضها الاخر.
ومن الأمثلة على ذلك ما يذكرونه من تفاصيل - ليس لها مصدر تأريخي - في
مسألة لقاء الراهب بحيرا مع محمد (صلى الله عليه وآله) وهو بصحبة عمه أبي طالب، الامر الذي
يدعوهم إلى الاستنتاج وافتراض محادثات دينية وفلسفية معقدة جرت بينهما.
وما يذكرونه أيضا بصدد تعليل اطلاعه على أخبار عاد وثمود، من أنه كان
نتيجة مروره بأرض الأحقاف، بالرغم من أن هذه الأرض لا تقع على الطريق
الاعتيادي لمرور القوافل التجارية، كما أن التأريخ لم يذكر لنا مرور النبي بها إلى
غير ذلك من الاحداث والقضايا.
الثانية: أن افتراض تعلم النبي (صلى الله عليه وآله) من نصارى الشام وغيرهم لا يتفق مع
واقع الحيرة والتردد في موقف المشركين من دعوة رسول الله ونسبته الرسالة إلى
الوحي الإلهي، لان مثل هذه العلاقة - لو كانت موجودة - لا يمكن التستر عليها
أمام أعداء الدعوة من المشركين وغيرهم، الذين عاصروه وعايشوه في مجتمع
ضيق وعرفوا أخباره وخبروا حياته العامة بما فيها من سفرات ورحلات.
وبالرغم من أن هؤلاء لم يمسكوا عن اطلاق تهم وأراجيف شتى ضد رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وافترضوا في الوحي الفروض المتعددة، ومنها فرض التعلم والتلقي من
أشخاص معينين كالرومي الحداد في مكة (1)، ولكن مع ذلك كله لم يكن ليفرضوا
ان يكون قد تعلم من نصارى الشام أو غيرهم من أهل الكتاب.
الثالثة: أنه لم يعرف عن الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) أنه كان ينتظر أن يفاجأ بالوحي،
أو يأمل ان يكون هو الرسول المنتظر، لينمو ويتطور هذا الامل في نفسه، فيصبح

(1) كما عرفنا في بحث اعجاز القرآن وأشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: (ولقد تعلم أنهم
يقولون انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) النحل: 103.
155

واقعا نفسيا، بالرغم من تدوين كتب السيرة النبوية لأدق الاحداث والتفصيلات
عن حياة الرسول الشخصية.
ولعل من القرائن التأريخية التي تشهد بكذب هذا الافتراض: هو ما ذكرته كتب
السيرة من اضطراب النبي - في البداية - وخوفه حين فاجأه الوحي في غار حراء.
الرابعة: أن هذه النظرية تفرض ان يكون إعلان النبوة نتيجة مرحلة معينة من
التكامل العقلي والنفسي، ونتيجة مراحل طويلة من المعاناة والتفكير والتأمل
والحساب وهذا يستلزم بطبيعة الحال ان ينطلق الرسول في اللحظة الأولى من
دعوته إلى طرح مفاهيمه وأفكاره ومناهجه عن الكون والحياة والمجتمع بجوانبه
المتعددة، لأن المفروض أن الصورة كانت متكاملة عنده نتيجة التفكير الطويل
ودراسة الكتب واعمال الأنبياء السابقين، مع أن التأريخ يؤكد أن أسلوب الدعوة
وطريقتها كانا يختلفان عن ذلك تماما، وان البداية كانت هي الخوف والاضطراب
ثم الدعوة إلى التوحيد، ومن ثم الانطلاق إلى المجالات الأخرى سواء على
مستوى المفاهيم أو الموقف بشكل تدريجي مع ما كان يتخلل ذلك من حالات
ركود وانقطاع في الوحي.
ب - المحتوى الداخلي للظاهرة القرآنية يناقض نظرية الوحي النفسي:
إن للمحتوى الداخلي للظاهرة القرآنية وما تتصف به من مواصفات، ولسعة
النظرية القرآنية وآفاقها المتعددة ومجالاتها المتشعبة، أهمية كبرى في رفض نظرية
الوحي النفسي، إذ إن هذه المواصفات وهذا الاتساع والشمول لا يتفق مع طبيعة
المصادر التي تفرضها النظرية، ويتضح ذلك عندما نلاحظ الأمور التالية:
1 - ان الموقف العام للقرآن الكريم تجاه الديانتين اليهودية والمسيحية هو
موقف المصدق لهما والمهيمن عليهما، فقد صدق القرآن الكريم الأصل الإلهي
لهاتين الديانتين وارتباطهما بالمبدأ الاعلى، ولكنه في نفس الوقت جاء مهيمنا
156

ورقيبا وحاكما على ما فيهما من ضلالات.
وجاءت هذه الرقابة دقيقة شاملة، فلم تترك مفهوما أو حكما أو حادثة الا
ووضعت المقياس الصحيح له. ولا يمكن ان نتصور محمدا (صلى الله عليه وآله) وهو يأخذ عن
أهل الكتاب ويراهم قد أخذوا عن الوحي الإلهي، ومع ذلك يتمكن من أن
يصفهم بالجهل والتحريف والتبديل بمثل هذا اليقين والثبات، ثم يوضح الموقف
الصحيح في المسائل الكبرى التي اختلفوا فيها أو خالفوا الواقع الصحيح للديانة،
ثم تأتي نظريته بعد ذلك كاملة شاملة ودقيقة ليس فيها تناقض ولا اختلاف!
ولكن الحقيقة هي أن محمدا لم يكن قد أخذ منهم شيئا، وانما تلقى كل ذلك عن
الوحي الإلهي الذي جاء مصداقا لما سبقه من الوحي ومهيمنا على الانحراف
والتحريف معا.
2 - ونجد القرآن أيضا يخالف التوراة والإنجيل في بعض الاحداث التأريخية،
فيذكرها بدقة متناهية ويتمسك بها بإصرار، في الوقت الذي كان بإمكانه أن
يتجاهل بعضها على الأقل، تفاديا للاصطدام بالتوراة والإنجيل.
ففي قصة موسى: يشير القرآن إلى أن التي كفلت موسى هي امرأة فرعون، مع
أن سفر الخروج من التوراة يؤكد انها كانت ابنته. كما أن القرآن يذكر غرق
فرعون بشكل دقيق، ولا يتجاهل حتى مسألة نجاة بدن فرعون من الغرق مع
موته وهلاكه:
(فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وان كثيرا من الناس عن آياتنا
لغافلون) (1).
في الوقت الذي نجد التوراة تشير إلى غرق فرعون بشكل مبهم، ويتكرر نفس
الموقف في قضية العجل، حيث يذكر التوراة ان الذي صنعه هو هارون، وفي قصة

(1) يونس: 92.
157

ولادة مريم للمسيح (عليهما السلام) وغيرهما من القضايا.
ولا يصح لمحمد (صلى الله عليه وآله) وهو الانسان الصادق الأمين الذكي ان يذكر هذه
التفاصيل التي لا وجود لها في التوراة والإنجيل، فيصطدم بالتوراة والإنجيل دون
سبب معقول، لولا أن يكون قد تلقى ذلك عن طريق الوحي الإلهي الذي لا يستطيع
مخالفته.
3 - ان سعة التشريع الاسلامي وعمقه وشموله للمجالات المختلفة من الحياة،
مع دقة التفاصيل التي تناولها، والانسجام الكبير بين هذه التفصيلات، برهان
واضح على تلقيه ذلك عن طريق الوحي، إذ لم يكن محمد - وهو الانسان الأمي،
الذي كان يعيش في ذلك العصر المظلم، كما أنه قضى أكثر حياة دعوته في خضم
الصراع الاجتماعي - ليتمكن بصفته أنسانا ان يفعل ذلك لولا أن يكون قد تلقى
ذلك عن طريق الوحي والسماء.
ج - موقف النبي من الظاهرة القرآنية شاهد على رفض نظرية الوحي
النفسي (1):
إن موقف النبي محمد (صلى الله عليه وآله) من الظاهرة القرآنية هو من أفضل الشواهد على
بطلان نظرية الوحي النفسي، فقد كان النبي محمد (صلى الله عليه وآله) يدرك بشكل واضح
الانفصال التام بين ذاته المتلقية والذات الإلهية الملقية من أعلى. وهذا الادراك
هو حقيقة الوحي الذي أشرنا إليه سابقا، وقد صور الرسول (صلى الله عليه وآله) هذا الوعي
والادراك في مناسبات متعددة، وأوضحه للمسلمين فيما روى عنه، حيث قال:
" أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما

(1) لخصنا هذا الموضوع - بتصرف - عن الدكتور صبحي الصالح في كتابه " مباحث علوم
القرآن ": 28 - 38 وهو بدوره أخذه - كما يظهر - من الدكتور محمد عبد الله دراز في
كتابه " النبأ العظيم " ومالك بن نبي في كتابه " الظاهرة القرآنية ".
158

قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول " (1).
وقد انعكس هذا الشعور الواعي بالانفصال في الوحي، بين الذات الإلهية
الامرة المعطية والذات المحمدية المخاطبة المتلقية على الظاهرة القرآنية ونصوص
القرآن الكريم. وكان له مظاهر عديدة نذكر منها الاشكال الثلاثة التالية:
الشكل الأول:
الصورة التي يبدو فيها النبي من خلال الظاهرة القرآنية عبدا ضعيفا لله سبحانه،
يقف بين يدي مولاه يستمد منه العون ويطلب منه المغفرة ويمتثل أوامره، ونواهيه،
ويتلقى منه العقاب بمختلف مراتبه واشكاله، والامثلة القرآنية على ذلك كثيرة:
1 - فالقرآن يصور محمدا (صلى الله عليه وآله) في صورة الانسان المطيع الذي لا يملك لنفسه
شيئا، ويخاف ربه إن عصاه، فيلتزم الحدود التي وضعها له ويرجو رحمته وليس
من شئ يأتيه الا من قبل ربه، فهو يعترف بالعجز المطلق تجاه إرادة الله أو تبديل
حرف من القرآن:
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو
بدله قل ما يكون لي ان أبدله من تلقاء نفسي ان اتبع الا ما يوحى إلي، إني أخاف ان
عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا ادراكم به فقد لبثت
فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) (2).
(قل انما انا بشر مثلكم يوحى إلي انما إلهكم اله واحد...) (3).
(قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت

(1) بحار الأنوار 18: 260.
(2) يونس: 15 - 16.
(3) الكهف: 110.
159

من الخير وما مسني السوء...) (1).
(قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول لكم اني ملك ان اتبع
الا ما يوحى إلي...) (2).
ومن يقرأ هذه الآيات القرآنية ونظائرها ويترك لوجدانه الحكم، لا يسعه الا
ان يقتنع من أعماق قلبه ونفسه بالفرق بين الذات الإلهية الامرة الملقية والذات
المحمدية المطيعة المتلقية.
2 - ثم يزداد هذا الفرق وضوحا بين ذات الله المتكلم منزل الوحي وصفاته،
وبين ذات رسوله المخاطب متلقي الوحي وصفاته في الآيات التي يعتب الله فيها
على نبيه عتابا خفيفا أو شديدا، أو يعلمه فيها بعفوه عنه وغفرانه ما تقدم من ذنبه
وما تأخر:
فمن العتاب الخفيف المقترن بالعفو خطابه لرسوله في شأن من أذن لهم بالقعود
عن القتال في غزوة تبوك: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا
وتعلم الكاذبين) (3).
أو في موضع آخر حين يقول: (ليغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته
عليك ويهديك صراطا مستقيما) (4).
وأشد من هذا ما يوجه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) من الانذار والتهديد في مثل قوله
تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله
يعصمك من الناس) حيث ورد ذلك في قضية الاعلان بولاية علي (عليه السلام) للامر بعد

(1) الأعراف: 88، 1.
(2) الانعام: 50.
(3) التوبة: 43.
(4) الفتح: 2.
160

النبي الذي تم في يوم الغدير. حيث تردد النبي في ذلك خوفا من تكذيب المنافقين
له، أو ردهم لهذا الامر وادعائهم ان هذا الامر بدوافع القرابة والمحبة الشخصية، أو
قوله تعالى: (وان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا
لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * اذن لأذقناك
ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا) (1).
وهذا الانذار يبلغ القمة، فيستصغر بعده كل تهديد وكل وعيد حين يقول الله
تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لاخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه
الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين) (2).
ومن خلال هذه الآيات المتوعدة المنذرة وتلك المعاتبة المؤدبة يبدو لنا رسول
الله (صلى الله عليه وآله) مخلوقا ضعيفا بين يدي ربه ذي القدرة القاهرة، والقوى الكبرى والإرادة
التي لا معقب لها.
3 - ويبدو لنا أيضا: كامل الوعي للفرق بين ذاته المأمورة وذات الله الامرة،
وبوعيه الكامل هذا كان (عليه السلام) يفرق بوضوح بين الوحي الذي ينزل عليه وبين
أحاديثه الخاصة التي كان يعبر عنها بإلهام من الله، لذلك كان يتعامل مع القرآن
بطريقة خاصة، حيث نهى (عليه السلام) أول العهد لنزول الوحي عن تدوين شئ عنه
سوى القرآن لكي يحفظ للقرآن صفته الربانية. ويحول دون اختلاطه بشئ ليست
له هذه الصفة القدسية (3)، بينما كان عند نزول الوحي - ولو آية أو بعض آية -

(1) الاسراء: 73 - 75.
(2) الحاقة: 44 - 47.
(3) هذا النهي رواه بعض المؤرخين، وإذا صح فهو بالنسبة إلى عامة الناس لا الخاصة منهم
كعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وغيره ممن كان يميز بوضوح بين القرآن وغيره، وان كنا نشك
أصلا في وجود مثل هذا النهي، وعلى اي حال فيكفي في هذا الامر اهتمام النبي بتدوين
القرآن بشكل مضبوط على ما عرفنا في بحث ثبوت النص القرآني.
161

يدعو أحد الكتبة فورا ليدون ما نزل من القرآن، وأما أحاديثه الأخرى وحتى
الأحاديث القدسية فكان يترك أمرها للمسلمين ليحفظوها بطريقتهم الخاصة.
الشكل الثاني:
يبدو النبي في القرآن الكريم بمظهر الخائف من ضياع بعض الآيات القرآنية
ونسيانها، الامر الذي كان يدعوه إلى أن يعجل بقراءة القرآن، قبل أن يقضى إليه
وحيه ويأخذ بترديده ويجهد نفسه وفكره من اجل ان لا يفوته شئ من ذلك،
ويتضح هذا في قوله تعالى: (... ولا تعجل بالقرآن من قبل ان يقضى إليك وحيه وقل
رب زدني علما) (1)، ومن اجل ذلك يطمئنه سبحانه ويتعهد له بحفظه وجمعه: (لا
تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن
علينا بيانه) (2).
ولا يسعنا ازاء هذه الحقيقة إلا أن نعترف باستقلال ظاهرة الوحي عن ذات
النبي استقلالا مطلقا، وتفردها عن العوامل النفسية تفردا كاملا، فالنبي لا يملك
حتى استخدام ذاكرته في حفظ القرآن، بل الله يتكفل بتحفيظه إياه، وقانون التذكر
نفسه بطل الان سحره وعفا اثره تجاه إرادة الله. فكيف لا يعي النبي - بعد هذا
كله - الفرق العظيم بين ذاته المأمورة وذات الله الامرة وهو يرى بنفسه أنه لا يملك
من أمر نفسه شيئا؟!
الشكل الثالث:
يبدو النبي من خلال تأريخ نزول القرآن أنه كان مقتنعا بأن التنزيل القرآني
مصحوب بانمحاء ارادته الشخصية، وأنه منسلخ عن الطبيعة البشرية حتى ما بقي
له عليه الصلاة والسلام اختيار فيما ينزل إليه أو ينقطع عنه، فقد يتتابع الوحي

(1) طه: 114.
(2) القيامة: 16 - 19.
162

ويحمي حتى يشعر انه يكثر عليه، وقد يفتر عنه بل وينقطع وهو يشعر أنه أحوج
ما يكون إليه.
فقد كان الوحي ينزل على قلبه صلوات الله عليه في أحوال مختلفة:
أنه ليأوي إلى فراشه فما يكاد يغفو إغفاءة حتى ينهض ويرفع رأسه مبتسما،
فقد أوحيت إليه سورة الكوثر (الخير الكثير) وانه ليكون وادعا في بيته وقد بقي
من الليل ثلثه، فتنزل عليه آية التوبة في الثلاثة الذين خلفوا: (لقد تاب الله على
النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب
فريق منهم ثم تاب عليهم انه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا ان لا ملجأ من الله إلا
إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) (1).
إن الوحي لينزل على قلب النبي في الليل الدامس والنهار الأضحيان وفي البرد
القارس أو لظى الهجير، وفي استجمام الحضر أو أثناء السفر، وفي هدأة السوق أو
وطيس الحرب.
ثم ها هو ذا الوحي ينقطع عن النبي، وهو أشد ما يكون إليه شوقا وله طلبا،
فبعد أن نزل عليه جبريل بأوائل سورة العلق: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) (2)
فتر الوحي ثلاث سنوات فحزن النبي. ثم حمى الوحي وتتابع فاستبشر النبي
وتبدل انتظاره الحزين فرحة غامرة، وأيقن أن هذا الوحي الذي استعصى عليه
ولم يوافه طوع ارادته، مستقل عن ذاته خارج عن فكره، فاستقر في ضميره
الواعي أن مصدر هذا الوحي هو الله علام الغيوب.
ومن ذا الذي ينسى كيف ابطأ الوحي بعد (حديث الإفك) الذي رمى به

(1) التوبة: 117 - 118.
(2) العلق: 1.
163

المنافقون زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، وأثاروا به حولها الفضيحة حتى عصفت بقلب الرسول
الريبة، من ذا الذي لا يدرك أن هذه المدة التي تصرمت على الحادثة من غير أن
يتلقى النبي خلالها وحيا، كانت أثقل عليه من سنين طويلة، بعد أن خاض
المنافقون في زوجه خوضا باطلا؟ فما بال النبي الذي كان فريسة للشك والقلق
يظل صامتا ينتظر واجما يتربص حتى نزلت آيات سورة النور تبرئ أم المؤمنين؟
وما له لا يسرع إلى التدخل في أمر السماء - إذا كان الوحي نفسيا - فيرتدي
مسوح الرهبان، ويهئ الأسجاع ويطلق البخور، ويبري زوجه من قذف القاذفين؟
ولقد كان النبي يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، وظل يقلب وجهه في
السماء ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة
إلى البيت الحرام، ولكن رب القرآن لم ينزل في هذا التحويل قرآنا رغم تلهف
رسوله الكريم إليه، الا بعد قرابة عام ونصف العام: (قد نرى تقلب وجهك في
السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام...) (1).
فلماذا لم يسعف النبي بوحي عاجل يحقق ما يصبو إليه ويتمناه؟
إن الوحي ينزل ويكثر على محمد (صلى الله عليه وآله) حين يشاء رب محمد (صلى الله عليه وآله) ويفتر إذا
شاء له رب محمد (صلى الله عليه وآله) الانقطاع، فما تنفع التعاويذ والأسجاع، ولا تقدم عواطف
محمد (صلى الله عليه وآله) ولا تؤخر في أمر السماء.
وحين نلتفت إلى هذه الاشكال الثلاثة بصورها المختلفة، ونضيف إليها البعدين
الآخرين السالفين، لا يبقى لدينا مجال لأي تردد في شأن حقيقة الظاهرة القرآنية،
وانفصالها عن الذات المحمدية، وبطلان الوحي النفسي وما إليه من شبهات قد
تثار.

(1) البقرة: 144.
164

المحكم والمتشابه في القرآن
المحكم والمتشابه بمعناهما اللغوي:
أ - المحكم:
قال صاحب القاموس: " احكمه اتقنه فاستحكم ومنعه عن الفساد كحكمه
حكما وعن الامر رجعه فحكم منعه مما يريد كحكمه " (1).
وقال صاحب لسان العرب: " احكمت الشئ فاستحكم: صار محكما،
واحتكم الامر واستحكم: وثق. ونقل عن الزهري ان حكمت تأتي بمعنى
احكمت " (2).
وبملاحظة هذين النصين اللغويين نحصل على النتائج الثلاث التالية في شأن
هذه المادة لغة:
1 - إن (محكم) مشتق من احكم وحكم.
2 - إن (حكم) تأتي بمعنى وثق وأتقن، فهي ذات معنى وجودي
ايجابي.
3 - إن (حكم) تأتي بمعنى المنع من تسرب الفساد، وهي ذات معنى عدمي
سلبي.
وقد حاول بعض الباحثين في علوم القرآن ان يرجع مادة الاحكام بمشتقاتها

(1) القاموس - مادة (حكم).
(2) لسان العرب - مادة (حكم).
165

المتعددة، كالحكم والحكمة وحكم واحكم وغيرها إلى معنى واحد يجمعها وهو
المنع (1).
ولكن المتبادر من مادة (الاحكام) معنى وجودي ايجابي هو: الاتقان
والوثوق، كما يشير إلى ذلك تصريح أهل اللغة في تفسير أصل المادة، والمنع من
تسرب الفساد يمكن ان يكون من مستلزمات هذا المعنى الايجابي (الاتقان) الامر
الذي صحح استعمال المادة فيه أيضا مجازا، من باب استعمال اللفظ الموضوع
للملزوم في اللازم.
ب - المتشابه:
قال صاحب القاموس: الشبه (بالكسر والتحريك)... المثل جمعه: أشباه
وشابهه وأشبهه: ماثله. وتشابها واشتبها: أشبه كل منهما الاخر حتى التبسا.
وأمور مشتبهة ومشبهة كمعظمة: مشكلة. والشبهة (بالضم) الالتباس والمثل.
وشبه عليه الامر تشبيها: لبس عليه. وفي القرآن المحكم والمتشابه (2).
وقال صاحب لسان العرب: الشبه والشبه والشبيه: المثل، والجمع أشباه.
وأشبه الشئ الشئ: ماثله. وأشبهت فلانا وشابهته واشتبه علي وتشابه الشيئان
واشتبها: أشبه كل واحد منهما صاحبه. والمشتبهات من الأمور: المشكلات.
والمتشابهات: المتماثلات والتشبيه: التمثيل. والشبهة: الالتباس. وأمور مشتبهة
ومشبهة: مشكلة يشبه بعضها بعضا. وشبه عليه: خلط عليه الامر حتى اشتبه
بغيره (3).

(1) راجع بهذا الصدد الفخر الرازي، التفسير الكبير 7: 179 والزرقاني، مناهل العرفان
2: 166 ورشيد رضا، تفسير المنار 3: 163.
(2) القاموس: مادة (شبه).
(3) لسان العرب - مادة شبه.
166

وبملاحظة هذين النصين نجد:
1 - أن شابهه وأشبهه بمعنى ماثله. وكذا تشابه واشتبه، ولكنهما يدلان على
وجود الوصف في الطرفين، فهو من قبيل المفاعلة.
2 - أن الشبه يأتي بمعنى المثل، فهو معنى وجودي ذو طابع موضوعي واقعي،
ولكنه قد يطلق - في نفس الوقت - على ما يستلزمه أحيانا من (الالتباس) الذي
هو من المعاني ذات الطابع الذاتي القائم في عالم النفس، بل قد تطلق المادة ويراد
منها خصوص نوع من المماثلة المؤدية إلى الالتباس، كما قد يرمي إلى ذلك
صاحب القاموس في قوله الانف: " وتشابها واشتبها أشبه كل منهما الاخر حتى
التبسا ". وهذا النوع من الاستعمال نجده في كل مادة تطلق على معنى يقبل الشدة
والضعف، حيث قد يكون أحد مصاديق المعنى مستلزما وجود شئ آخر.
القرآن محكم ومتشابه:
لقد جاء في التنزيل وصف جميع القرآن الكريم بأنه كتاب محكم: (الر كتاب
احكمت آياته ثم فصلت...) (1). وقال بعضهم في قوله تعالى: (الر تلك آيات
الكتاب الحكيم) (2) إن (حكيم) هنا بمعنى محكم (3).
كما جاء في التنزيل أيضا وصف جميع القرآن بأنه كتاب متشابه: (الله نزل
أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني...) (4).
وفي مقابل هذا الاستعمال الشامل لهذين الوصفين يوجد استعمال آخر لهما في

(1) هود: 1.
(2) يونس: 1.
(3) لسان العرب: مادة (حكم) 13: 53 ط. دار صادر - بيروت.
(4) الزمر: 23.
167

التنزيل يطلقهما بشكل يجعل الاحكام مختصا ببعض الآيات القرآنية، ويجعل
التشابه مختصا ببعض آخر منها، كما جاء ذلك في قوله تعالى: (هو الذي انزل
عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات فأما الذين في
قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا
الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا اولو
الألباب) (1).
ويكاد الباحثون في علوم القرآن يتفقون على تعيين معنى كل من الوصفين في
استعمالهما الأول الشامل، حيث يجدون أن العلاقة التي صححت اطلاق وصف
الاحكام على الآيات القرآنية كلها هي: ما في القرآن من احكام النظم وإتقانه،
وما فيه من التماسك والانسجام في الأفكار والمفاهيم والأنظمة والقوانين.
كما يجدون أن العلاقة التي صححت إطلاق وصف (المتشابه) عليه هي: محض
(التماثل والتشابه) بين بعضه وبعضه الاخر في الأسلوب والهدف، وسلامته من
التناقض والتفاوت والاختلاف: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (2).
ولكنهم اختلفوا منذ البداية حين حاولوا ان يحددوا المعنى المراد من هذين
الوصفين (المحكم والمتشابه) في الاستعمال الثاني الآية (السابعة من آل عمران)،
الامر الذي أدى إلى ولادة علم من علوم القرآن سمي: بالمحكم والمتشابه.
ومن الواضح أن البحث حين يدور حول فهم المعنى القرآني المراد من كلمتي:
المحكم والمتشابه في هذه الآية الكريمة لا يكون بحثا اصطلاحيا ولا شبيها بالمعنى
الاصطلاحي - كما هو الحال في البحث عن المراد بالمكي والمدني - لأنه يحاول

(1) آل عمران: 7.
(2) النساء: 82.
168

ان يحقق غاية موضوعية وهي معرفة ما أراده الله سبحانه من هاتين الكلمتين (1).
وقد تعددت الاتجاهات والاراء في معنى المحكم والمتشابه المراد من هذه الآية،
نظرا لاستمرار البحث فيها منذ العصور الأولى للتفسير، ولأهميتها من ناحية
مذهبية، حتى إن بعض الباحثين ذكر ستة عشر رأيا في حقيقة المحكم والمتشابه.
سوف نكتفي في بحثنا هذا بدراسة الاتجاهات الرئيسة المهمة منها.
مختارنا في المحكم والمتشابه:
وتفرض علينا طبيعة البحث أن نذكر الرأي الصواب في تحديد معنى هاتين
الكلمتين، ليتضح - في ضوئه - مدى صحة بقية الاتجاهات وانسجامها مع المدلول
اللغوي والمحتوى الفكري للآية الكريمة.
وبهذا الصدد يجدر بنا ان نستذكر تقسيما تعرضنا له في بحوثنا السابقة، وهو أن
التفسير تارة: يكون للفظ، وذلك بتحديد مفهومه اللغوي العام الذي وضع له
اللفظ، واخرى: يكون للمعنى، وذلك بتجسيد ذلك المعنى في صورة معينة
ومصداق خاص.
وعلى أساس هذا التقسيم نتصور التشابه المقصود في الآية الكريمة ضمن نطاق
التشابه في تجسيد صورة المعنى وتحديد مصداقه الواقعي الموضوعي، لا في نطاق
التشابه في العلاقة بين اللفظ ومفهومه اللغوي (المعنى)، وسواء في هذا النفي
التشابه الذي يكون بسبب الشك في أصل وجود العلاقة بين اللفظ والمفهوم
اللغوي (المعنى)، كما إذا تردد اللفظ في استعماله بين معنيين أو أكثر قد وضع اللفظ
لهما، أو التشابه الذي يكون بسبب الشك في طبيعة هذه العلاقة، كما إذا عرفنا
بوجود العلاقة بين اللفظ وأكثر من معنى، ولكن تردد اللفظ بينهما للتردد في

(1) قارن بهذا ما ذكره الزرقاني في مناهل العرفان 2: 166.
169

استعماله بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.
وهذا التفسير للتشابه لا نتبناه على أساس عدم صلاحية كلمة التشابه
بحدودها اللغوية لاستيعاب هذا اللون من التشابه اللغوي، وانما نقرر ذلك على
أساس وجود قرينة خاصة في الآية الكريمة، تجعلها تأبى الانفتاح على هذا اللون
من التشابه.
وهذه القرينة هي ما نستفيده من قوله تعالى: (... فيتبعون ما تشابه منه...) (1)
فان مفهوم (الاتباع) المستفاد من هذه الفقرة لا ينطبق إلا في حالة ما إذا كان للفظ
مفهوم لغوي يكون أخذه والعمل به اتباعا له، إذ ليس من اتباع الكلام - اي كلام -
ان نأخذ بأحد معانيه المشتركة أو المرددة إذا لم يكن له ظهور فيها، وانما يكون هذا
العمل من اتباع الهوى والرأي الشخصي في تعيين المعنى، لان الكلام لا يعينه.
وحين نلاحظ استعمال كلمة الاتباع في مجال آخر نجد هذا الاستنساخ أمرا
واضحا، فنحن نعرف وجود نصوص كثيرة تأمرنا بضرورة اتباع القرآن الكريم
والسنة النبوية والتمسك بهما، فهل نتوهم فيمن يأخذ بأحد المعاني المشتركة للفظ
خاص ورد في الكتاب الكريم أو في السنة النبوية أنه متبع للكتاب والسنة؟ أو
لا بد لانطباق هذا المفهوم في حقه من الاخذ بالمعنى الذي يكون للنص ظهور
فيه؟
ولا شك بتعيين الشق الثاني.
اذن فالتشابه المقصود في الآية الكريمة نوع خاص، لا بد فيه ان يكون قابلا
للاتباع، وهذه القابلية تنشأ من عامل وجود مفهوم لغوي معين للفظ يكون العمل
به اتباعا له.
فالتشابه لم ينشأ من ناحية الاختلاط والتردد في معاني اللفظ ومفهومه

(1) آل عمران: 7.
170

اللغوي، لأننا فرضنا ان يكون للفظ مفهوم لغوي معين، وانما ينشأ من ناحية
أخرى وهي الاختلاط والتردد في تجسيد الصورة الواقعية لهذا المفهوم اللغوي
المعين، وتحديد مصداقه في الذهن من ناحية خارجية.
فحين نأتي إلى قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (1) نجد للفظ
الاستواء مفهوما لغويا معينا اختص به، وهو الاستقامة والاعتدال مثلا، وليس
هناك اي تشابه بينه وبين معنى آخر في علاقته باللفظ، فهو كلام قرآني قابل
للاتباع ولكنه متشابه، لما يوجد فيه من التردد في تحديد صورة هذا الاستواء من
ناحية واقعية، وتجسيد مصداقه الخارجي بالشكل الذي يتناسب مع الرحمن
الخالق الذي ليس كمثله شئ.
وحين نفهم المتشابه بهذا اللون الخاص لا بد لنا ان نفهم المحكم على أساس هذا
اللون الخاص أيضا، وهذا شئ تفرضه طبيعة جعل المحكم في الآية مقابلا
للمتشابه، فليس المحكم ما يكون في دلالته اللغوية متعين المعنى والمفهوم فحسب،
بل لا بد فيه من التعيين في تجسيد صورته الواقعية وتحديد مصداقه الخارجي، ففي
قوله تعالى: (... ليس كمثله شئ...) (2) نجد الصورة الواقعية لهذا المفهوم
متعينة، فهو ليس كالانسان ولا السماء ولا كالأرض ولا كالجبال... إلى آخره من
الأشياء.
(فالمحكم) من الآيات ما يدل على مفهوم معين، لا نجد صعوبة أو ترددا في
تجسيد صورته أو تشخيصه في مصداق معين.
و (المتشابه) ما يدل على مفهوم معين تختلط علينا صورته الواقعية ومصداقه
الخارجي.

(1) طه: 5.
(2) الشورى: 11.
171

الاتجاهات الرئيسة في المحكم والمتشابه:
أ - اتجاه الفخر الرازي:
الاتجاه الأول: إن المحكم هو ما يسمى في عرف الأصوليين بالمبين، والمتشابه
ما يسمى في عرفهم بالمجمل، وقد جاءت صياغة هذا الاتجاه بأساليب مختلفة،
ولعل ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره الكبير هو أوضح صياغة وأوفاها
بالمقصود، قال:
" اللفظ الذي جعل موضوعا لمعنى، فاما ان يكون محتملا لغير ذلك المعنى، واما
ان لا يكون، فإذا كان اللفظ موضوعا لمعنى ولا يكون محتملا لغيره فهذا هو
النص، وأما ان كان محتملا لغيره فلا يخلو: إما ان يكون احتماله لأحدهما راجحا
على الاخر، وإما ان لا يكون كذلك، بل يكون احتماله لهما على السواء، فان كان
احتماله لأحدهما راجحا على الاخر سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح (ظاهرا)
وبالنسبة إلى المرجوح (مؤولا)، وأما ان كان احتماله لها على السوية كان اللفظ
بالنسبة إليهما معا (مشتركا) وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين (مجملا) فقد
خرج من التقسيم الذي ذكرناه ان اللفظ إما ان يكون (نصا) أو (ظاهرا) أو
(مؤولا) أو (مشتركا) أو (مجملا).
أما (النص) و (الظاهر) فيشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح
مانع من الغير، والظاهر راجح غير مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمى
(بالمحكم)، وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة
وان لم يكن راجحا لكنه غير مرجوح، والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا
بحسب الدليل المنفرد (1)، فهذا القدر المشترك هو المسمى (بالمتشابه) لان عدم
الفهم حاصل في القسمين جميعا.

(1) يقصد بالدليل المنفرد: الدليل والقرينة الخارجية المنفردة عن الكلام واللفظ.
172

وقد بينا أن ذلك يسمى متشابها، إما لان الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابها
للاثبات في الذهن، وإما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم،
فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقا لاسم السبب على المسبب " (1). ويمكن
ان نلخص رأي الرازي بالشكل التالي:
اللفظ بحسب دلالته على المعنى ينقسم إلى أربعة أقسام:
أ - النص: وهو ما كانت دلالته على المعنى بالشكل الذي لا تفسح مجالا
لاحتمال معنى آخر.
ب - الظاهر: وهو ما كانت دلالته على المعنى بشكل راجح مع احتمال معنى
آخر.
ج - (المشترك) و (المجمل): وهو ما كان دالا على معنيين بشكل متساو.
د - المؤول: وهو ما كان دالا على المعنى بشكل مرجوح، فهو عكس الظاهر.
و (المحكم): ما كانت دلالته على المعنى من القسم الأول والثاني لوجود
الترجيح فيهما.
و (المتشابه): ما كانت دلالته على المعنى من القسم الثالث والرابع لاشتراكهما
في أن دلالة اللفظ فيهما غير راجحة، وانما سميا متشابها لعدم حصول فهم المعنى
فيهما.
ويمكن أن نلاحظ على هذا الاتجاه بالملاحظتين التاليتين:
1 - إننا انتهينا من دراستنا الآية الكريمة إلى ضرورة الالتزام بأن المتشابه
المقصود فيها هو: التشابه في تجسيد صورة المعنى، وتحديد مصداقه، لا التشابه في
علاقة اللفظ بالمعنى بقرينة اخذ مفهوم الاتباع في المتشابه، وهو لا يتحقق في
موارد الاجمال اللغوي.

(1) الفخر الرازي: التفسير الكبير 7: 180.
173

2 - وحين نساير الفخر الرازي، ونتصور التشابه بسبب علاقة اللفظ بالمعنى،
لا نجد هناك ما يبرر حصر نطاق التشابه في هذه العلاقة فحسب، بل يمكننا أن
نتصور سببا آخر للتشابه وهو: التشابه بسبب تجسيد صورة المعنى وتحديد
مصداقه. والفخر الرازي بتقسيمه السابق يحاول أن يغلق علينا هذا الطريق،
حيث لا يتصور التشابه إلا من زاوية علاقة اللفظ بالمعنى، مع أنه يمكن ان يتصور
أيضا في علاقة المعنى بتشخيص مصاديقه الواقعية.
ب - اتجاه الراغب الأصفهاني:
الاتجاه الثاني الذي ذهب إليه الراغب الأصفهاني وهو: أن المتشابه ما
أشكل تفسيره لمشابهته بغيره، سواء كان الاشكال من جهة اللفظ أو من جهة
المعنى.
وقد ذكر الراغب تفاصيل طويلة في شرح هذا الاتجاه قال: " فالمتشابه في
الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط،
ومتشابه من جهتهما. والمتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما يرجع إلى
الألفاظ المفردة، وذلك إما من جهة غرابته، نحو الأب ويزفون، وإما من جهة
مشاركة في اللفظ، كاليد والعين، والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك
ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى
فانكحوا ما طاب لكم من النساء...) (1)، وضرب لبسط الكلام نحو: (... ليس
كمثله شئ...) (2) لأنه لو قيل ليس مثله شئ كان أظهر للسامع، وضرب لنظم
الكلام نحو: (... أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما...) (3) تقديره

(1) النساء: 3.
(2) الشورى: 11.
(3) الكهف: 1 و 2.
174

الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، وقوله: (... ولولا رجال مؤمنون...) (1) إلى قوله:
(... لو تزيلوا...). والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم
القيامة، فان تلك الصفات لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم
نحسه أو لم يكن من جنس ما نحسه. والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعا خمسة
أضرب، الأول: من جهة الكمية، كالعموم والخصوص نحو: (... فاقتلوا
المشركين...) (2) والثاني من جهة الكيفية، كالوجوب والندب نحو: (... فانكحوا
ما طاب لكم...) والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو: (... اتقوا الله
حق تقاته...) (3)، والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو: (... وليس
البر بان تأتوا البيوت من ظهورها...) (4) وقوله (انما النسئ زيادة في
الكفر...) (5) فان من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه
الآية، والخامس من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد، كشروط الصلاة
والنكاح. وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير
المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم (6).
ويلاحظ على هذا الاتجاه بالملاحظة الأولى التي ذكرناها في مناقشة الاتجاه
الأول، ولكنه يتفادى الملاحظة الثانية حيث ينفتح على تصور التشابه بسبب
المعنى، بغض النظر عن اللفظ وعلاقته بالمعنى.

(1) الفتح: 25.
(2) التوبة: 5.
(3) آل عمران: 102.
(4) البقرة: 189.
(5) التوبة: 37.
(6) مفردات الراغب الأصفهاني: مادة شبه.
175

ج - اتجاه الأصم:
الاتجاه الثالث: المحكم من الآيات ما كان دليله واضحا لائحا، كدلائل
الوحدانية والقدرة والحكمة. والمتشابهات ما يحتاج في معرفتها إلى تأمل وتدبر
وقد نسب الفخر الرازي هذا الاتجاه إلى الأصم (1).
ويلاحظ على هذا الاتجاه: أنه يرجع الاحكام والتشابه إلى عامل خارجي لا
ينبع من نفس الكتاب الكريم، وهذا العامل الخارجي هو مدى وضوح الدليل
وخفائه على متبنيات القرآن الكريم ومفاهيمه، في الوقت الذي تدل الآية الكريمة
على أن الاحكام والتشابه ينشئان من عامل داخلي يرتبط بالكتاب نفسه، ولذلك
ينفتح مجال استغلال اتباع المتشابه في الفتنة، وحين يكون الدليل على إحدى
دعاوى القرآن الكريم غير واضح على سبيل الفرض لا يكون استغلاله اتباعا
للقرآن ابتغاء الفتنة، وانما يكون نقدا للقرآن الكريم نفسه.
أضف إلى ذلك أنه على أساس هذا التفسير للمحكم لا يمكننا ان نفهم المحكم
على أنه أم الكتاب، بعد أن كان الدليل الخارجي هو العامل في الاتقان والوثوق
لانفس الآية الكريمة.
د - اتجاه ابن عباس:
الاتجاه الرابع: ان المحكم ما يؤمن به ويعمل به، والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل
به، وقد صيغ هذا الاتجاه بأساليب مختلفة نسب بعضها إلى ابن عباس، وبعضها إلى
ابن تيمية (2) وقد ورد هذا التفسير للمحكم والمتشابه في بعض النصوص المروية
عن أهل البيت (عليهم السلام) (3).

(1) الفخر الرازي، التفسير الكبير 7: 172.
(2) العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 33.
(3) تفسير العياشي 1: 11، الحديث 6.
176

ولعل هذا الاتجاه يقوم على أساس فهم حرمة العمل بالمتشابه من الآية
الكريمة، ولزوم الايمان به فحسب، بخلاف المحكم فإنه مما يؤمن به ويعمل به أيضا.
وقد لاحظ العلامة الطباطبائي على هذا الاتجاه بأنه لا يقوم بتحديد معنى
المحكم والمتشابه - كما هو المقصود - وانما يبين حكما من أحكامها، وهو لزوم
الايمان والعمل معا بالمحكم والايمان فقط بالمتشابه. ونحن بحاجة إلى تعيين معنى
كل واحد من المحكم والمتشابه في المرحلة الأولى ليمكن ترتيب الأثر عليهما، لنعمل
بالأول ونكتفي بالايمان بالثاني (1).
ويمكن ان نضيف إلى ذلك أن الآية الكريمة لا تمنع من العمل بالمتشابه، وانما
تحرم اتباع المتشابه بقصد الفتنة والتأويل، دون العمل به بعد ارجاعه إلى المحكم.
ولعل هذا هو المقصود من حرمة العمل بالمتشابه، اي حرمة العمل به وحده دون
ارجاعه إلى المحكم.
ه‍ - اتجاه ابن تيمية:
الاتجاه الخامس: ان المتشابه هو آيات الصفات خاصة أعم من صفات الله
سبحانه، كالعليم والقدير والحكيم والخبير. وصفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى
ابن مريم (عليهما السلام): (... وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه...) (2) وما يشبه ذلك (3).
ويكاد ينهج الاتجاه الخامس المنهج الذي سار عليه الاتجاه الرابع، حيث لا
يعطينا تحديدا معينا للمحكم والمتشابه، وانما يعرفنا على المتشابه من خلال ذكر
بعض مصاديقه وأمثلته كالصفات.
أضف إلى ذلك أنه لا مبرر لحصر المتشابه في الصفات دون غيرها في الوقت

(1) العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 36.
(2) النساء: 171.
(3) العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 36.
177

الذي نجد أن أكثر المفاهيم التي تتحدث عن عوالم يوم القيامة تشترك مع الصفات
في التشابه، وكذلك بعض المفاهيم التي تتحدث عن عالم الغيب بشكل عام، مع
أنها ليست من الصفات في شئ، على أن التشابه في صفات الأنبياء انما كان بسبب
إضافة هذه الصفة إلى الله سبحانه كما في الآية الكريمة، واما صفة النبي باعتباره
انسانا فليس فيها تشابه.
و - اتجاه العلامة الطباطبائي (قدس سره):
الاتجاه السادس: ما تبناه السيد الطباطبائي (قدس سره) في تفسيره (الميزان) بعد أن
ناقش الاتجاهات المختلفة في تحديد معنى المحكم والمتشابه قال:
" ان الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه ان تكون الآية - مع حفظ كونها آية -
دالة على معنى مريب مردد، لا من جهة اللفظ بحيث تعالجه الطرق المألوفة عند
أهل اللسان كارجاع العام والمطلق إلى المخصص والمقيد ونحو ذلك، بل من جهة
كون معناها غير ملائم لمعنى آية أخرى لا ريب فيها تبين حال المتشابه " (1).
وقال في موضع آخر: " إن المراد بالتشابه كون الآية لا يتعين مرادها لفهم
السامع بمجرد استماعها، بل يتردد بين معنى ومعنى، حتى يرجع إلى محكمات
الكتاب فتعين هي معناها وتبينها بيانا، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة
بواسطة الآية المحكمة، والآية المحكمة محكمة في نفسها " (2).
ويمكننا ان نوضح رأي العلامة الطباطبائي في هذا البحث بالنقاط التالية:
1 - إن التشابه لا ينشأ من دلالة اللفظ على المعنى، حيث يجب أن تكون الآية
المتشابهة دالة على معنى معين عرفي.
ويستند هذا الالتزام إلى أن التشابه في الآية الكريمة أخذ بالشكل الذي يمكن

(1) العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 40.
(2) المصدر السابق 3: 19.
178

استغلاله في مجال الفتنة، وإذا لم يكن اللفظ له ظهور في معنى معين لا يمكن استغلاله
في مجال الفتنة، حيث " جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم ان (لا يتبعوا) ما
هذا شأنه من الألفاظ، فلم يقدم على مثله أهل اللسان، سواء في ذلك أهل الزيغ
منهم والراسخون في العلم " (1).
2 - أن تكون الآية المتشابهة دالة على معنى يتعارض مع مدلول آية أخرى
غير مريب وهي الآية المحكمة، ويستند هذا الالتزام إلى أن الآيات المحكمة هي أم
الكتاب وتعني الأمومة هذه حل التشابه عند الرجوع إلى المحكمات بالشكل الذي
يتعين به مدلول الآية المتشابهة على ضوء مدلول الآية الأخرى المحكمة، وهذا لا
يتحقق إذا لم يكن تعارض بين الآيتين (2).
3 - أن يكون المعنى المدلول للآية المتشابهة مرددا ومريبا.
ويستند هذا الشرط إلى ضرورة وجود المقياس الذي نرجع إليه في معرفة
الآية المحكمة الام من الآية المتشابهة التي نرجع إليها - بعد وجود التعارض بينهما -
وهذا المقياس هو ريب المعنى في المتشابه واستقراره في المحكم.
4 - إن ظاهر الآية (السابعة من آل عمران) هو انقسام الآيات القرآنية بشكل
استيعابي إلى المحكم والمتشابه بحيث تنعدم الواسطة (3).
ويمكننا أن نلاحظ على هذا الاتجاه بعدة ملاحظات:
فأولا: نجد هذا الاتجاه غير قادر على تحديد الموقف تجاه الآيات التي تكون
دالة على معنى مردد بين معنى مريب ومعنى غير مريب، لان هذه الآيات لا تكون
واجدة لميزان المتشابه لفقدانها الظهور اللفظي، كما انها غير محكمة لما فيها من

(1) المصدر السابق 3: 33.
(2) المصدر السابق: 43.
(3) المصدر السابق 2: 32.
179

التردد في الدلالة على المعنى.
وحين يعجز الاتجاه عن تحديد موقفه من هذه الآيات نجد النقطة الرابعة غير
واردة في المحكم والمتشابه، وقد يتشبث هذا الاتجاه بالمذهب الذي يقول بضرورة
ان تكون جميع الآيات القرآنية ظاهرة في معان معينة، على أساس أن القرآن
الكريم كتاب هدى ونور مبين، وحينئذ فلا يبقى مجال لمثل هذه الفرضية في آيات
القرآن الكريم.
ولكن هذه الضرورة القرآنية انما يلتزم بها في الحدود التي تقول بعدم وجود
آية قرآنية غامضة بشكل مطلق، بحيث لا يوجد في القرآن ما يوضحها ويفسرها،
والا فمن الممكن الالتزام بوجود آيات قرآنية مجملة الدلالة - من ناحية مفهومها
اللغوي - مع الالتزام بوجود ما يوضحها في القرآن الكريم نفسه، وهذا الالتزام لا
يزيد عن الالتزام - من حيث الروح - عن الالتزام الذي آمن به هذا الاتجاه بان
يكون اللفظ ظاهرا في معنى مريب يفسره المحكم.
وبعد هذا لا مجال لادعاء أن الآية المتشابهة لا بد وأن تكون ظاهرة في معنى،
إذ يكشف هذا عن التزام غريب من القرآن الكريم، يتلخص في أنه كلما أراد معنى
غير مريب من لفظ غير ظاهر فيه يستعمل لفظا ظاهرا في معنى مريب، ويكشف
عن ارادته للمعنى غير المريب بواسطة المحكم، دون ان يستعمل اللفظ في معنى
مردد بين المريب وغير المريب، ويكشف عن هذا التردد بواسطة المحكم.
وثانيا: إن هذا الاتجاه يلتزم بضرورة قيام الآية المحكمة بدور احكام الآية
المتشابهة بعد ارجاعها إليها، مع أن الآية المحكمة لا تقوم الا بدور تضييق نطاق
تصور المعنى في الآية المتشابهة، في ضوء ما تعطيه الآية المحكمة من معنى، لا ان
تجعل من الآية المتشابهة آية محكمة، بشكل تتحدد صورة معناها ويتجسد
مصداقه.
180

إذ يكفي في صدق مفهوم الاحكام على الآية ان تقوم بدور الوقاية من تسرب
صور ومصاديق المعاني الباطلة إلى المعنى المتشابه، وهذا يكون في بعض الأحيان
نتيجة طبيعية لتصورنا للمحكم والمتشابه، حيث اخذناه على أساس التشابه في
تحديد صورة المعنى ومصداقه، لا في تحديد مدلول اللفظ ومعناه.
وبهذا نجد الفرق بين احكام القرينة اللفظية لذي القرينة بشكل يجعله مختصا
بمعنى خاص، وبين احكام الآية المحكمة للآية المتشابهة، مع أننا نتصور هذا الشئ
في القرينة اللفظية أيضا.
وثالثا: إن هذا الاتجاه يلتزم بضرورة التعارض المفهومي بين المحكم والمتشابه
- كما جاء في النقطة الثانية - في الوقت الذي عرفنا أن الآية المتشابهة لا تدل على
مفهوم لغوي باطل، ليلتزم بتعارضه مع المفهوم اللغوي للآية المحكمة، وانما ينشأ
الزيغ من محاولة تأويل الآية المتشابهة الذي يعني تجسيدها في مصداق معين
وصورة محددة، الامر الذي يفرض علينا الرجوع إلى المحكم في محاولة تحديده
وتجسيده. وهذا الشئ هو الذي يستفاد من معنى الآية الكريمة حيث إن الآية
المتشابهة لو كانت دالة - بحسب ظهورها - على معنى باطل لكان مجرد اتباعه زيغا
دون محاولة تأويله، مع أن الآية تقول: إنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة
وابتغاء تأويله.
ونخلص من مجموعة هذه الآراء والمناقشات إلى تلخيص الرأي المختار بالنقاط
التالية:
1 - إن الآية المتشابهة لا بد وأن تكون ذات ظهور خاص في معنى لغوي معين،
بقرينة قوله تعالى: (فيتبعون).
2 - إن المعنى الذي تدل عليه الآية المتشابهة لا يكون بمفهومه اللغوي باطلا
وانما يكون صحيحا، والفتنة والزيغ انما يكونان بمحاولة تجسيده في صورة
181

ومصداق باطلين.
3 - إن التشابه انما يكون في المعنى نفسه، وذلك بتحديد صورة المعنى وتجسيد
مصداقه، لا في علاقة المعنى باللفظ، والاحكام ما يكون قبال هذا التشابه، بان
تكون صورة المعنى المحكم محددة ومصداقه الواقعي مجسدا، بشكل يستقر إليه
القلب ولا يتردد فيه.
فأي معنى قرآني إذا لاحظناه:
فان كنا نتردد في تحديد صورته وتجسيد مصداقه فهو معنى متشابه، والآية
التي تتضمنه آية متشابهة.
وان كنا لا نتردد في تحديد صورته وتجسيد مصداقه، وانما يركن القلب والعقل
إلى صورة واضحة ومصداق معين فهو معنى محكم، والآية التي تتضمنه آية
محكمة.
الحكمة في وجود المتشابه في القرآن الكريم:
لقد تعرض الباحثون في علوم القرآن لهذا البحث، وذكروا لاثارته سببين:
الأول: ان القرآن الكريم كتاب هداية ونور مبين، ووجود المتشابه فيه لا
يتفق مع هذه الحقيقة، لان المتشابه لا يعلمه الا الله والراسخون في العلم.
الثاني: ما أشار إليه الفخر الرازي ونسبه إلى الملاحدة: ان وجود المتشابه في
القرآن كان سببا لاختلاف المذاهب والاراء، وتمسك كل واحد منها بشئ من
القرآن بالشكل الذي ينسجم مع متبنياته، وهذا يناقض الاهداف التي جاء من
اجلها القرآن الكريم.
ولذا عمل الباحثون في علوم القرآن على استكشاف وجوه الحكمة في وجود
المتشابهات في القرآن، وعلى هذا الأساس ذكرت وجوه متعددة ومختلفة تتأرجح
182

بين الضعف وغاية القوة والمتانة (1).
وسوف نشير في بحثنا إلى بعضها، مع مناقشة ما يستحق النقد منها.
الأول: ما ذكره الشيخ محمد عبده: ان الله سبحانه انزل التشابه ليمتحن قلوبنا
في التصديق به، فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب واضحا لا شبهة فيه عند أحد
من الأذكياء ولا من البلداء، لما كان في الايمان به شئ من معنى الخضوع لما انزل
الله تعالى، والتسليم لما جاءت به رسله (2).
وقد ناقشه العلامة الطباطبائي بان الخضوع هو انفعال معين، وتأثر خاص من
قبل الضعيف في مقابل القوي، ولا يكون ذلك من الانسان الا لما يدرك عظمته،
أو لشئ لا يتمكن من ادراكه لعظمته وكبره، كقدرة الله وعظمته وسائر صفاته
التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة به، وهذان الأمران غير
واردين في المتشابه، لأنه وان كان من الأمور التي لا يدركها العقل ولا ينالها،
ولكنه يغتر باعتقاده لادراكها وحينئذ قد يزيغ الانسان فيغتر بادراكه لكنهه،
ومن هنا جاء تمحيص القلوب بالمتشابه، فإذا صدق الانسان به واستسلم له فهو
قد ثبت على الايمان، وإذا اغتر به وحاول معرفة تأويله فقد زاغ قلبه. وهذا ما
أشار إليه القرآن الكريم حيث قال: (... والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل
من عند ربنا...) (3) فهو شئ تمحص به القلوب، فمن كان في قلبه مرض وزيغ
اتبعه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
ولكن هذا التفسير انما ينفع في بعض آيات المتشابه، التي هي من قبيل مفاهيم

(1) راجع بهذا الصدد الفخر الرازي، التفسير الكبير 7: 184 - 185، والسيوطي، الاتقان
2: 12 - 13، والزرقاني، مناهل العرفان 2: 178 - 181.
(2) رشيد رضا، تفسير المنار 3: 170.
(3) آل عمران: 7.
183

عالم الغيب، كاللوح والعرش والقلم، حيث يكون موقف الانسان منها هو الايمان
المطلق بها، واما الآيات المتشابهة التي يمكن فهمها بعد عرضها على المحكم فلا بد
ان يكون لوجودها غرض آخر وهو الهدى المترتب عليها.
الثاني: ما ذكره الشيخ محمد عبده أيضا: ان وجود المتشابه في القرآن كان
حافزا لعقل المؤمن إلى النظر، كي لا يضعف فيموت، فان السهل الجلي جدا لا
عمل للعقل فيه، والعقل أعز القوى الانسانية التي يجب تربيتها، والدين أعز شئ
على الانسان، فإذا لم يجد العقل مجالا للبحث في الدين يموت عامل العقل فيه، وإذا
مات فيه لا يكون حيا بغيره (1).
وقد ناقشه العلامة الطباطبائي: ان القرآن الكريم اهتم بالعقل وتربيته اهتماما
بالغا، فامر باستعمال العقل في الآيات (الآفاقية) (والأنفسية) اجمالا في بعض
الموارد، كما فصل ذلك في موارد أخرى، كالأمر بالتدبر في خلق السماوات،
والأرض، والجبال، والشجر، والدواب، والانسان، واختلاف الألسنة والألوان،
كما حث على التفكير والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين، وحرض
العقل والفكر ومدح العلم بأبلغ المدح، وفي كل ذلك ما يغني عن سلوك طريق
آخر هو انزال المتشابهات الذي يكون مزلقة للاقدام ومصرعا للعقل (2).
الثالث: ما ذكره الشيخ محمد عبده أيضا: ان الأنبياء بعثوا إلى جميع الأصناف
من عامة الناس وخاصتهم، وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وهناك من
المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه، بحيث
يفهمه الجميع على السواء، وانما يفهمه الخاصة منهم عن طريق الكناية والتعريض،
ويؤمر العامة بتقويض الامر فيه إلى الله تعالى عند حد المحكم، فيكون لكل نصيبه

(1) رشيد رضا، تفسير المنار 3: 170.
(2) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 58.
184

على قدر استعداده (1).
وقد ناقشه العلامة الطباطبائي: بان الكتاب الكريم كما يشتمل على
المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين هذه المتشابهات عند الرجوع
إليها، ولازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات من المعاني ما هو أزيد مما تكشف عن
المحكمات، وعند ذلك يبقى سؤالنا: (ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب وأي
حاجة إليها مع وجود المحكمات؟) على حاله.
والسبب في هذا الاشتباه الذي وقع فيه الشيخ محمد عبده: أنه اخذ المعاني
نوعين متباينين:
الأول: معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات.
الثاني: معان لا يدرك حقيقتها الا الخاصة ولا يتلقاها غيرهم وهي المعارف
الإلهية والحكم الدقيقة، فكان من نتيجته أن من المتشابهات ما لا ترجع معانيها
إلى المحكمات، وقد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر
بعضه بعضا وغير ذلك (2).
ويمكن ان نلاحظ على المناقشة: أنه ما هو الشئ الذي يمنع من وجود هذين
القسمين من المعاني؟
إذا كان المانع من ذلك هو ما يشير إليه العلامة الطباطبائي من امومة المحكمات
للمتشابهات... فقد عرفنا أن هذه الأمومة لا تعني أكثر من وضع حدود خاصة
معينة للمتشابهات تمنع عن الزيغ فيها، وتسقط من الحساب جميع الصور
والتجسيدات غير المنسجمة مع روح القرآن.
وهذا لا يعني تحديد الصورة الحقيقية للمعنى المتشابه، وتعيينها في مصداق

(1) رشيد رضا، تفسير المنار 3: 170 - 171.
(2) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 58.
185

خاص حتى تختفي الفائدة منه، فقوله تعالى: (... ليس كمثله شئ...) (1) محكم
يسقط من الحساب جميع التجسيدات التي (تشبه الأشياء) في مفهوم (الاستواء)
على العرش في قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (2) ولكنه لا يعطينا
الصورة الواقعية والمصداق المجسد لهذا (الاستواء)، فهو معنى لا يمكن ان نفهمه من
ذلك المحكم: (ليس كمثله شئ).
وإذا عرفنا دور المحكم تجاه المتشابه أمكننا ان نتصور بسهولة: أن بعض المعاني
لا يدركها - على مستوى المصداق - الا الراسخون في العلم دون العامة، خصوصا
المعاني التي ترتبط ببعض المعلومات الكونية الطبيعية، كجريان الشمس:
(والشمس تجري لمستقر لها...) (3) أو تلقيح الرياح: (وأرسلنا الرياح
لواقح...) (4) أو جعل الماء مصدرا للحياة: (... وجعلنا من الماء كل شئ
حي...) (5) فان كل هذه المعلومات حين تنكشف لدى العلماء تكون من
المعلومات التي أشار إليها القرآن الكريم، ويعرفها الخاصة من الناس دون
غيرهم.
والعلامة الطباطبائي نفسه تصور هذا التمايز بين الناس في الادراك للمعاني،
وإن حاول ان يصوغه بشكل آخره " فظهر ان للناس - بحسب مراتب قربهم
وبعدهم منه تعالى - مراتب مختلفة من العمل والعلم، ولازمه ان يكون ما يتلقاه
أهل واحدة من المراتب والدرجات غير ما يتلقاه أهل المرتبة والدرجة الأخرى

(1) الشورى: 11.
(2) طه: 5.
(3) يس: 38.
(4) الحجر: 22.
(5) الأنبياء: 30.
186

التي فوق هذه أو تحتها، فقد تبين للقرآن معان مختلفة مترتبة " (1).
فهو يتعقل في المعنى القرآني التعدد، ولكنه يتصوره على أساس التعدد في
الدرجة والمرتبة للمعنى الواحد، كما يتعقل في الفهم الانساني هذا التعدد أيضا.
وحين نتعقل ذلك لا يبقى ما يمنع إرادة القرآن الكريم بآية معينة مرتبة ودرجة
خاصة من معنى معين دون غيرها، وحينئذ لا يقدر على فهم هذه المرتبة والدرجة
الا ذلك القريب من الله.
الرابع: ما ذكره العلامة الطباطبائي: ان التربية الاسلامية سارت على منهج
معين، يقوم على أساس فرض الواقع للانسان، وعلاقته بالله سبحانه خالق الكون
ومدبر أموره، وبالمعاد والجزاء.
وهذا المنهج يتلخص في: أن عامة الناس لا تكاد تتجاوز أفهامهم وعقولهم
المحسوسات المادية إلى عالم ما وراء الطبيعة، ولا يمكن ان يعطى انسان ما معنى
من المعاني، الا عن طريق تصوراته ومعلوماته الذهنية التي حصلت له خلال
حياته المادية والعقلية، والناس في هذه التصورات والمعلومات على مراتب
ودرجات، تختلف باختلاف الممارسة المادية والعقلية.
والهداية القرآنية ليست مختصة بجماعة دون أخرى، وانما هي هبة الله سبحانه
للناس كافة.
وهذا الاختلاف في الفهم وعموم الهداية القرآنية: يفرضان ان يسوق القرآن
الكريم بياناته مساق الأمثال، بان يستثمر ما يعرفه الانسان ويعهده في ذهنه من
المعاني والصور، ليبين ما لا يعرفه من هذه المعاني والصور.
وقد يكون ذلك في القرآن الكريم، مع عدم وجود التوافق الكلي بين المعنى
الذي يعرفه الانسان مسبقا والمعنى الجديد الذي يحاول القرآن الكريم تعريف

(1) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 67.
187

الانسان عليه، وانما يلحظ القرآن جانبا معينا من الانسجام والتوافق، كما نفعل
ذلك في حياتنا العملية، حين نستثمر الأوزان والمكاييل للتعريف بالمواد الغذائية
وغيرها، مع عدم وجود التوافق بينها وبين المواد الغذائية، في شكل أو صورة أو
حجم.
وحين نستعمل الصورة المادية المحسوسة - التي عرفها الانسان في حياته -
كأمثال للمعارف الإلهية المجردة يقع الفهم الانساني في ادراكه لهذه المعارف الممثلة
بين أمرين، قد يستلزم كل منهما محذورا:
الأول: الجمود بهذه المعارف في مرتبة الحس المادي، وحينئذ تنقلب عن
واقعها المجرد الذي استهدفته الهداية القرآنية.
الثاني: الانعتاق من الاطار المادي للمثال، والقيام بعملية تجريد للخصوصيات
غير الداخلة في التمثيل، وهذا يستلزم - أحيانا - الزيادة والنقيصة في هذه العملية
أو الشدة والضعف.
ولذا نجد القرآن يلجأ إلى عملية واسعة في التمثيل تفاديا لهذه المشاكل العقلية
والنفسية، وذلك بتوزيع المعاني التي يريد من الانسان ادراكها، وتربيته على
تصورها إلى أمثال مختلفة، وجعلها في قوالب متنوعة، حتى يفسر بعضها بعضا،
ويوضح بعضها أمر بعض، لينتهي الامر إلى تصفية عامة تؤدي إلى النتيجتين
التاليتين:
الأولى: ان البيانات القرآنية ليست الا أمثالا، لها في ما ورائها حقائق ممثلة،
وليس الهدف والمقصود منها مرتبطا باللفظ المأخوذ من الحس والمحسوسات،
فنتخلص بذلك من محذور الجمود.
الثانية: بعد الالتفات إلى أن البيانات القرآنية أمثال نعلم حدود المعنى الإلهي
المقصود من وراء هذه البيانات، حين نجمع بين هذه الأمثال المتعددة وننفي بكل
188

واحد منها خصوصية من الخصوصيات المأخوذة من عالم الحس، الموجودة في
المثال الاخر، فنطرح ما يجب طرحه من الخصوصيات المحيطة بالكلام، ونحتفظ بما
يجب الاحتفاظ به منها (1).
ولا شك ان هذا الوجه من أروع ما قيل في تفسير ظاهرة وجود المتشابه،
ويمكن ان يعتبر تعليلا وجيها لورود الكثير من الآيات المتشابهة، ولكننا لا نقبله
تعليلا شاملا لكل ما ورد في القرآن من المتشابهات، حيث نرى أن بعضها لا يمكن
تحديد مصداقه بشكل قاطع، بناء على مذهبنا في حقيقة المتشابه الذي عرفنا فيه
أن المفهوم اللغوي له مفهوم صحيح، وليس باطلا لينتفي الريب بواسطة الأمثلة
الأخرى القرآنية.
وفي نهاية المطاف يجدر بنا أن نذكر خلاصة الوجه الصحيح في حكمة ورود
المتشابه في القرآن، وبهذا الصدد يحسن بنا ان نقسم المتشابه إلى قسمين رئيسين:
الأول: المتشابه الذي لا يعلم تأويله ومصداقه إلا الله.
الثاني: المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، ولو كان
ذلك بتعليم الله تعالى لهم.
اما ورود القسم الأول في القرآن، فلان من الاهداف الرئيسة التي جاء من
أجلها القرآن الكريم هو: ربط الانسان الذي يعيش الحياة الدنيا بالمبدأ الاعلى
وهو الله سبحانه، وبالمعاد وهو الدار الآخرة وعوالمها، وهذا الربط لا يمكن ان
يتحقق إلا عن طريق إثارة الموضوعات التي تتعلق بعالم الغيب وما يتصل به من
أفكار ومفاهيم، لينمي غريزة الايمان التي فطر الانسان عليها، ويشده إلى عالمه
الذي سوف ينتهي إليه، فلم يكن هناك سبيل أمام القرآن الكريم يتفادى به

(1) العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 58 - 65. وقد لخصنا كلامه، وتركنا
بيان الأمثلة والايضاحات الفكرية التي أوردها لتأييد مدعياته.
189

المتشابه في القرآن بعد أن كان هو السبيل الوحيد الذي يوصل إلى هذا الهدف
الرئيس.
واما ورود القسم الثاني في القرآن الكريم بهذا الأسلوب فإنه أراد أن يطرح
أمام العقل البشري قضايا جديدة، كبعض المسائل الكونية أو الانسانية وغيرها
من المفاهيم الغيبية، لينطلق في تدبر حقيقتها واكتشاف ظلماتها المجهولة، أو يقترب
منها بالقدر الذي تسمح له معرفته ودرجته في تلك المعرفة، كما ذكر العلامة
الطباطبائي.
ونحن في هذا العصر حين نعيش التطور المدني العظيم في المجالات العلمية
المختلفة ندرك قيمة بعض الآيات القرآنية التي ألمحت إلى بعض الحقائق العلمية،
ووضعتها تحت تصرف الانسان لينطلق منها في بحثه وتحقيقه، وكذلك بعض
المصاديق الانسانية (1).
وبهذا يمكن ان نقدم تفسيرا لحكمة ورود المتشابه في القرآن الكريم.

(1) سيأتي بعض التوضيح لهذه الأفكار عند تناولنا " التفسير عند أهل البيت " وكذلك في
كتابنا " الهدف من نزول القرآن الكريم " في معالجتنا لظاهرة المحكم والمتشابه.
190

النسخ في القرآن (1)
توطئة عن فكرة النسخ:
حين نريد ان نتعرف فكرة النسخ (موضوع البحث) يحسن بنا أن نفهمها من
خلال مشابهاتها في حياتنا الاجتماعية المعاصرة.
فإننا نشاهد أن بعض الدول أو المجتمعات قد تضع قانونا لتنظيم علاقة الناس
بعضهم ببعض حكاما أو محكومين، ثم نراها بعد تطبيقه مدة من الزمان تستبدل به
قانونا آخر يتكفل تنظيما جديدا للعلاقات بين الناس، وحينئذ يمكن ان يقال: إن
هذا القانون الاخر نسخ القانون الأول وأصبح بدلا منه.
كما نشاهد أيضا أن بعض الدول تضع مادة معينة في القانون الذي يجري تطبيقه
ثم ترى ان تستبدلها بمادة أخرى مع الاحتفاظ بالقانون نفسه كمنهج عام للتنظيم
الاجتماعي.
وهذان النوعان من النسخ: نسخ القانون للقانون، ونسخ مادة لمادة من القانون
نفسه يمكن ان نتصورهما في التشريع الإلهي بأن تنسخ شريعة سماوية شريعة
أخرى أو مادة في شريعة سماوية مادة من تلك الشريعة.
ولكن يوجد فارق أساسي بين النسخ والتشريع الإلهي والنسخ في التشريعات

(1) اعتمدنا في كتابة هذا البحث بشكل رئيس على دراسة النسخ في القرآن لاية الله السيد
الخوئي في كتابه " البيان في تفسير القرآن " المدخل: 189 - 276، وكتاب " النسخ في
القرآن " للدكتور مصطفى زيد.
191

الوضعية، ذلك أن النسخ في التشريع الإلهي لا يكون إلا بعد علم مسبق بوقوعه في
ظروفه المعينة وفي وقته المحدد بخلاف النسخ في التشريع الوضعي، حيث يكشف
في أكثر الأحيان عن جهل بالواقع الموضوعي الذي وضع التشريع لمعالجته،
وعندما ينكشف تخلف التشريع عن تحقيق غاياته، ينسخ بتشريع آخر في سبيل
محاولة لتحقيق تلك الغايات والأهداف.
نعم في القوانين الوضعية قد يوضع القانون منذ البداية بشكل مؤقت، ثم ينسخ
عند انتهاء وقته كما في الدساتير المؤقتة عند حصول تغييرات أساسية في المجتمع،
وهذا النوع يشبه إلى حد كبير النسخ في الشريعة الإلهية، حيث يكون الحكم
المنسوخ فيها منذ البداية مؤقتا في الواقع.
النسخ لغة واصطلاحا:
أ - اللغة: للنسخ معان متعددة ذكرت في كتب اللغة وهي تدور بين (النقل)
و (الإزالة) و (الابطال). فتقول: (نسخ زيد الكتاب إذا نقله عن معارضه).
ونسخ النحل إذا نقله من خلية إلى أخرى، وتقول: نسخ الشيب شبابه، إذا
أزاله وحل محله. وتقول: نسخت الريح آثار القوم، إذا أبطلتها وعفت عليها (1).
واللغويون حين يذكرون هذه المعاني المتعددة يختلفون في أي واحد منها هو المعنى
الحقيقي للكلمة، أو أنها بأجمعها معان حقيقية؟
وتمييز المعنى الحقيقي للكلمة عن المعنى المجازي ليس في الواقع من الأهمية
بقدر تحديد المعنى اللغوي الذي ينسجم مع فكرة النسخ ذاتها، وبهذا الصدد نجد
أن الإزالة هي أوفق المعاني اللغوية انسجاما مع الفكرة التي عرضناها عن النسخ،
خصوصا إذا لاحظنا أن فكرة النسخ في القرآن الكريم ورد التعبير عنها بمواد

(1) راجع بهذا الصدد لسان العرب 4: 28 ط. بولاق.
192

مختلفة تنسجم كلها مع الإزالة، لان كل واقعة لا يمكن ان تخلو من الحكم الشرعي،
فإذا أزيل حكم فلا بد ان يحل محله حكم آخر. واما في القرآن كقوله تعالى: (ما
ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها...) (1)، وقوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء
ويثبت وعنده أم الكتاب) (2)، وقوله تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية - والله أعلم
بما ينزل - قالوا انما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) (3) فنجد الإزالة هي المعنى
الذي ينسجم مع المحو والتبديل أيضا.
ب - الاصطلاح: وحين نلاحظ كلمة النسخ في إطلاقات علماء القرآن
والمفسرين نجد الكلمة قد مرت بمراحل متعددة من التطور حتى انتهى الامر بها
إلى خصوص الفكرة التي عرضناها سابقا.
وهذه المراحل تبدأ منذ العصور الأولى لهذا العلم، حيث كان يطلق بعض
الصحابة كلمة النسخ على مجرد مخالفة آية لاخرى في الظهور اللفظي، حتى لو
كانت هذه المخالفة على نحو العموم والخصوص من وجه أو نحو التخصيص، أو
كانت إحدى الآيتين مطلقة والاخرى مقيدة.
وهذه السعة في الاطلاق قد تكون نتيجة للتوسع في فهم أصل الفكرة، كما يمكن
ان تكون نتيجة فهم ساذج لبعض الآيات القرآنية. ومن هنا وقع الاختلاف بين
علماء القرآن في تعيين الآيات المنسوخة والآيات الناسخة، فنجد بعضهم يتوسع
في تعدادها، وبعضهم الاخر يقتصر على كمية محدودة منها.
ولكن بعد مضي مدة من الزمن على الدراسات القرآنية نرى بعض العلماء
يحاول أن يميز بين النسخ وبين (التقييد) و (التخصيص) و (البيان)، ويقصر النسخ

(1) البقرة: 106.
(2) الرعد: 39.
(3) النحل: 101.
193

على الفكرة التي عرضناها سابقا، وقيل: إن أول محاولة في ذلك كانت من قبل
(الشافعي).
وقد ذكر الأصوليون للنسخ تعاريف كثيرة أصبحت بعد ذلك مجالا واسعا
للمناقشة والنقد، ولكننا نقتصر هنا على ما ذكره السيد الخوئي (رحمه الله) من تعريف
للنسخ لأنه يفي بالمقصود.
النسخ: " رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه سواء أكان
ذلك الامر المرتفع من الأحكام التكليفية - كالوجوب والحرمة - أم من الأحكام الوضعية
كالصحة والبطلان، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من
الأمور التي ترجع إلى الله تعالى بما انه شارع " (1).
ويلاحظ في هذا التعريف أن الرفع في النسخ انما يكون لأمر ثابت في أصل
الشريعة، ولذا فلا يكون شاملا لمثل ارتفاع الحكم الشرعي الذي يكون بسبب
انتهاء موضوعه، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان، أو ارتفاع ملكية
شخص لماله بسبب موته، فان هذا النوع من ارتفاع الحكم لا يسمى نسخا، ولا
نجد من يخالف في امكانه ووقوعه، وقد أوضح السيد الخوئي (رحمه الله) لنا الفرق بين
الارتفاع الذي يكون نسخا، والارتفاع الذي لا يكون من النسخ في شئ وذلك
بالبيان التالي:
ان الحكم المجعول في الشريعة المقدسة له مرحلتان من الثبوت:
الأولى: ثبوت الحكم في عالم التشريع والانشاء، والحكم في هذه المرحلة
يكون مشرعا على نحو (القضية الحقيقية) حيث لا يفرق في صدقها وثبوتها وجود
الموضوع في الخارج وعدم وجوده، وانما يكون قوام ثبوت الحكم ووجوده فيها
بفرض وجود الموضوع.

(1) البيان للسيد الخوئي: 277. طبعة دار الزهراء - بيروت.
194

فإذا قال الشارع: شرب الخمر حرام (مثلا) فليس معناه أن هنا خمرا في
الخارج وأن هذا الخمر محكوم بحرمة شربه، وانما معناه أن الخمر متى ما فرض
وجوده في الخارج فشربه محكوم بالحرمة في الشريعة، سواء كان في الخارج خمر
بالفعل أم لم يكن، ورفع مثل هذا الحكم في هذه المرحلة من ثبوته لا يكون الا
بالنسخ.
الثانية: ثبوت الحكم في الخارج بأن يتحول إلى حكم فعلي بسبب فعلية
موضوعه وتحققه خارجا، كما إذا تحقق وجود الخمر خارجا في مثالنا السابق،
فان الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل خارجا، وهذه الحرمة
تكون مرتهنة في وجودها بوجود الموضوع خارجا وتستمر باستمراره، فإذا
انعدم الموضوع أو ارتفع كما إذا انقلب خلا مثلا فلا ريب في ارتفاع تلك الحرمة
الفعلية التي كانت ثابتة للخمر حال خمريته وتحل محلها الحلية للخل (1).
وهذا الارتفاع للحكم ليس من النسخ في شئ، وليس لا حد شك في جوازه
ولا في وقوعه.
جواز النسخ عقلا ووقوعه شرعا:
أ - جواز النسخ عقلا:
المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم جواز النسخ عقلا، وقد خالف في
هذا الرأي بعض اليهود والنصارى، وذلك في محاولة للطعن في الاسلام والتمسك
ببقاء الديانتين اليهودية والمسيحية واستمرارهما، وقد استندوا في هذا الموقف إلى
بعض الشبهات التي حاولوا صياغتها بأساليب مختلفة، كما قام بعضهم بمحاولة
تعضيد ذلك ببعض النصوص الواردة المتداولة اليوم، وسوف نعرض الصياغة

(1) البيان للسيد الخوئي: 278. طبعة دار الزهراء - بيروت.
195

الرئيسة للشبهة في هذا الموضوع مع الإجابة عليها بالشكل الذي يتضح به الموقف
تجاه الصياغات الأخرى لها.
وخلاصة هذه الشبهة أن النسخ يستلزم أحد أمرين باطلين: (البدء، أو
العبث) لان النسخ إما ان يكون بسبب حكمة ظهرت للناسخ بعد أن كانت خفية
لديه، أو يكون لغير مصلحة وحكمة، وكلا هذين الامرين باطل بالنسبة إلى الله
سبحانه، ذلك أن تشريع الحكم من الحكيم المطلق وهو الله سبحانه لا بد ان يكون
بسبب مصلحة يستهدفها ذلك الحكم فتقتضي تشريعه، حيث إن تشريع الحكم
بشكل جزافي يتنافى وحكمة الشارع، وحينئذ فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه
بسبب المصلحة، اما ان يكون مع بقاء حاله على ما هو عليه من وجه المصلحة
وعلم ناسخة بها، وهذا ينافي حكمة الجاعل وهو العبث نفسه، واما ان يكون من
جهة البداء وجهله بواقع المصلحة والحكمة وانكشاف الخلاف لديه على ما هو
الغالب في الاحكام والقوانين الوضعية، وعلى كلا الفرضين يكون وقوع النسخ في
الشريعة محالا لأنه يستلزم المحال. اما البداء أو العبث، فهما محال على الله لأنهما
نقص لا يتصف بهما (1).
ومن اجل ان يتضح الجواب عن هذه الشبهة نقسم الحكم المجعول من قبل
الشارع إلى قسمين رئيسين:
الأول: الحكم المجعول الذي لا يكون وراءه طلب وزجر حقيقيان كالأوامر
والنواهي التي تجعل ويقصد بها الامتحان ودرجة الاستجابة للحكم دون ان
يستهدف المشرع تحرك المكلف، كما في أمر الله سبحانه نبيه إبراهيم بذبح ولده
إسماعيل، وهذا ما نسميه بالحكم الامتحاني.
الثاني: الحكم المجعول الذي يكون بداع حقيقي من البعث والزجر حيث يقصد

(1) البيان للسيد الخوئي: 279.
196

منه تحقيق متعلقه بحسب الخارج، وهذا ما نسميه بالحكم الحقيقي.
ونجد من السهل الالتزام بالنسخ في القسم الأول من الحكم، إذ لا مانع من رفع
هذا الحكم بعد اثباته بعد أن كانت الحكمة في نفس إثباته ورفعه، لان دوره ينتهي
بالامتحان نفسه فيرتفع حين ينتهي الامتحان ولحصول فائدته وغرضه، والنسخ
في هذا النوع من الحكم لا يلزم منه العبث ولا ينشأ منه البداء الذي يستحيل في
حقه تعالى.
واما القسم الثاني من الحكم فإننا يمكن ان نلتزم بالنسخ فيه دون ان يستلزم
ذلك شيئا من البداء أو العبث، حيث يمكن ان نضيف فرضا ثالثا إلى الفرضين
اللذين ذكرتهما الشبهة.
وهذا الفرض هو ان يكون النسخ لحكمة كانت معلومة لله سبحانه من أول
الامر ولم تكن خافية عليه وان كانت مجهولة عند الناس غير معلومة لديهم، فلا
يكون هناك بداء لأنه ليس في النسخ من جديد على الله لعلمه سبحانه بالحكمة
مسبقا، كما أنه لا يكون عبثا لوجود الحكمة في متعلق الحكم الناسخ وزوالها في
متعلق الحكم المنسوخ، وليس هناك ما يشكل عقبة في طريق تعقل النسخ هذا الا
الوهم الذي يأبى تصور ارتباط مصلحة الحكم بزمان معين بحيث تنتهي عنده،
والا الوهم الذي يرى في كتمان هذا الزمان المعين عن الناس جهلا من الله بذلك
الزمان.
وهذا الوهم يزول حين نلاحظ بعض النظائر الاجتماعية التي ترى فيها شيئا
اعتياديا ليس فيه من المحال أثر ولا من العبث والبداء.
فالطبيب حين يعالج مريضا ويرى أن مرحلة من مراحل المرض التي يجتازها
المريض يصلح لها دواء معين فيصف له هذا الدواء لمدة معينة ثم يستبدله بدواء
آخر يصلح لمرحلة أخرى لا يوصف عمله بالعبث والجهل، مع أنه قام بوضع
197

احكام معينة لهذا المريض في زمان محدود ثم رفعها عنه بعد مدة من الزمن، وحين
وضع الحكم كانت هناك مصلحة تقتضيه كما أنه حين رفع الحكم كانت هناك
مصلحة تقتضي هذا الرفع، وهو في كل من الحالين كان يعلم المدة التي يستمر بها
الحكم والحكمة التي تقتضي رفعه.
ونظير هذا يمكن ان نتصوره في النسخ، فان الله سبحانه حين وضع الحكم
المنسوخ وضعه من اجل مصلحة تقتضيه، وهو سبحانه يعلم الزمان الذي سوف
ينتهي فيه الحكم وتتحقق المصلحة التي من اجلها شرع، كما أنه حين يستبدل
الحكم المنسوخ بالحكم الناسخ استبدله من اجل مصلحة معينة تقتضيه، فكل من
وضع الحكم ورفعه كان من اجل حكمة هي معلومة عند جعل الحكم المنسوخ.
فليس هناك جهل وبداء، كما أنه ليس هناك عبث لتوفر عنصر العلم والحكمة
في الجعل والرفع.
نعم هناك جهل الناس بواقع جعل الحكم المنسوخ حيث كان يبدو استمرار
الحكم نتيجة للاطلاق في البيان الذي وضع الحكم فيه ولكن النسخ انما يكون
كشفا عن هذا الواقع الذي كان معلوما لله سبحانه من أول الامر.
ب - وقوعه خارجا:
والى جانب ما ذكرناه من تصوير النسخ بالشكل الذي لا يستلزم البداء أو
العبث منه سبحانه وتعالى، يمكن ان نضيف شيئا آخر في احباط شبهة القائلين
باستحالة النسخ من اليهود والنصارى وغيرهم، وذلك بملاحظة الموارد التي تحقق
فيها النسخ سواء في الشريعة الموسوية، أو الشريعة المسيحية، أو الشريعة
الاسلامية، حيث جاءت نصوص في التوراة والإنجيل وفي الشريعة الاسلامية
تتضمن النسخ، ورفع ما هو ثابت في نفس الشريعة أو في غيرها من الشرائع
السابقة، نذكر منها الموارد الآتية:
198

1 - تحريم اليهود العمل الدنيوي في يوم السبت، مع الاعتراف بان هذا الحكم لم
يكن ثابتا في الشرائع السابقة، وانما كان يجوز العمل في يوم السبت كغيره من أيام
الأسبوع (1).
2 - أمر الله سبحانه بني إسرائيل قتل أنفسهم بعد عبادتهم للعجل ثم رفعه لهذا
الحكم عنهم بعد ذلك (2).
3 - الامر ببدء الخدمة في خيمة الاجتماع في سن الثلاثين، ثم رفع هذا
الحكم وابداله بسن خمس وعشرين سنة، ثم رفعه بعد ذلك وابداله بسن
العشرين (3).
4 - النهي عن الحلف بالله في الشريعة المسيحية - مع ثبوته في الشريعة
الموسوية - والالزام بما التزم به في النذر أو اليمين (4).
5 - الامر بالقصاص في الشريعة الموسوية (5)، ثم نسخ هذا الحكم في الشريعة
المسيحية ونهي عن القصاص (6).
6 - تحليل الطلاق في الشريعة الموسوية (7)، ونسخ هذا الحكم في الشريعة
المسيحية (8).

(1) انظر سفر الخروج 16: 25 - 26، و 20: 8 - 12، و 23: 12، و 31: 16 - 7، و 35: 1
- 3، وسفر اللاويين 23: 1 - 3 وسفر التثنية 5: 12 - 15.
(2) سفر الخروج 32: 21 - 29.
(3) سفر العدد 4: 2 - 3 و 8: 23 - 24، وسفر أخبار الأيام الأول 23: 24 و 32.
(4) سفر العدد 30: 2، إنجيل متي 5: 33 - 34.
(5) سفر الخروج 21: 23 - 25.
(6) إنجيل متي 5: 138.
(7) سفر التثنية 14: 1 - 3.
(8) إنجيل متي 5: 31 - 32 وإنجيل مرقس 10: 11 - 12.
199

الفرق بين النسخ والبداء:
لقد أثيرت إلى جانب مسألة النسخ مسألة أخرى هي مسألة (البداء) وقد
عرفنا من مطاوي حديثنا السابق عن النسخ - خصوصا فيما يتعلق بدراستنا
لشبهة اليهود والنصارى في استحالة النسخ - أن البداء محال على الله سبحانه.
ومع كل هذا فالمعروف من مذهب الإمامية الاثني عشرية أنهم يقولون بفكرة
البداء.
وعلى هذا الأساس نجد بعض الباحثين من إخواننا السنة يحملون على
إخوانهم الامامية بشكل عنيف، متهمين إياهم بالانحراف والضلال، حتى إن
بعضهم يكاد أن يقول: أن الامامية أشد انحرافا من اليهود والنصارى حين حاولوا
انكار النسخ، لان أولئك أنكروا النسخ في محاولة لتنزيه الله سبحانه من النقص،
وهؤلاء قالوا بالبداء فأثبتوا الجهل والنقص لله سبحانه (1).
لذا يجدر بنا ونحن ندرس النسخ أن نلقي ضوءا على هذه الفكرة أيضا، لنحدد
موقفنا منها بشكل دقيق وواضح، ونعرف مدى صحة هذه التهم التي رمى بها
بعض المسلمين مذهب الإمامية في قولهم بالبداء.
فالبداء تارة نفهمه على أساس ان يعتقد الله شيئا، ثم يظهر له أن الامر بخلاف
ما اعتقده، كأن يرى في الحكم مصلحة ثم يظهر له خلاف ذلك، أو يرى خلق شئ
من مخلوقاته حسنا ثم يظهر له خلاف ذلك فهذا شئ باطل لا يقول به أحد من
المسلمين - من دون فرق بين الاماميين وغيرهم - بل أنكره اليهود والنصارى،
ونزهوا الله عنه.
وقد وردت النصوص التي تؤكد هذا المعنى عن طريق أهل البيت (عليهم السلام)، فقد

(1) بهذا الصدد راجع الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم
الكتاب) - البقرة: 106 - والدكتور مصطفى زيد، النسخ في القرآن 1: 27.
200

روى الصدوق في اكمال الدين عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " من زعم أن الله عز
وجل يبدو له في شئ لم يعلمه أمس فابرؤا منه " (1).
والبداء - تارة أخرى - نفهمه على أساس آخر بان نتصوره نسخا في التكوين،
فليس هناك فرق أساسي بينه وبين النسخ من حيث الفكرة، وانما الفرق بينهما في
الموضوع الذي يقع النسخ فيه أو البداء، فالازالة والتبديل إذا وقعا في التشريع
سميناهما نسخا، وإذا وقعا في الأمور الكونية من الخلق والرزق والصحة والمرض
وغيرها سميناهما بداء.
والجدير بالذكر أن هذه الفكرة للبداء من شبهة أثارها اليهود حول قدرة الله
- تعالى - وسلطانه، وأشار القرآن الكريم إليها كما ناقشها أيضا بقوله تعالى:
(وقالت اليهود: يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق
كيف يشاء...) (2).
وخلاصة الشبهة: أن الله سبحانه إذا خلق شيئا وقضى فيه أمره استحال عليه
ان تتعلق مشيئته بخلافه، فهو حين يخلق قانون الجاذبية للأرض - مثلا - أصبح
مسلوب القدرة والسلطان امام هذا القانون، فلا يقدر ان يشاء خلافه أو ينسخه،
شأنه في هذا شأن صاحب البندقية، فإنه حين يضغط على الزناد يفقد قدرة
التحكم في الرصاصة.
وهذا المعنى هو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله: (وقالت اليهود يد الله
مغلولة) كما جاء ذلك في رواية الصدوق عن الصادق (عليه السلام) حيث قال: " لم يعنوا
أنه هكذا ولكنهم قالوا فرغ عن الامر فلا يزيد ولا ينقص ".

(1) راجع في النصوص التي نذكرها في موضوع البداء آية الله السيد الخوئي، البيان في
تفسير القرآن: 270 - 277.
(2) المائدة: 64.
201

وقد ناقض القرآن الكريم هذه الشبهة في مجالات متعددة، منها الآية الكريمة
التي سبق ذكرها، ومنها قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم
الكتاب) (1) وغير ذلك.
فالقول بالبداء عند الإمامية يعني فكرة النسخ مطبقة في المجال التكويني
ومنطلقة من مفهوم قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان ينفق ما يشاء) وقوله تعالى:
(يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فهي تؤمن بعلم الله سبحانه بما يقدمه
وما يؤخره، وما ينقصه وما يزيده، وما يستبدل به، كما انها تؤمن بقدرته على
هذا التقديم والتأخير والاستبدال، وهناك نصوص كثيرة تؤكد أن فكرة الامامية
عن البداء لا تتعدى حدود هذا المعنى ولا تتجاوز عنه.
ففي رواية العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله يقدم ما يشاء ويؤخر
ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وعنده أم الكتاب. وقال: فكل أمر
يريده الله فهو علمه قبل ان يصنعه، وليس شئ يبدو له الا وقد كان علمه، ان الله
لا يبدو له عن جهل (2).
وروى الكليني عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): " ما بدا لله في شئ الا كان في
علمه قبل ان يبدو له " (3).
وروى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة عن الرضا (عليه السلام): " قال علي بن
الحسين وعلي بن أبي طالب قبله ومحمد بن علي وجعفر بن محمد (عليهم السلام): كيف
لنا بالحديث مع هذه الآية: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فأما
من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشئ الا بعد كونه فقد كفر وخرج

(1) الرعد: 39.
(2) تفسير العياشي 2: 218. الحديث 71.
(3) الكافي 1: 148. الحديث 9.
202

عن التوحيد " (1).
وبعد هذا كله لا نجد مجالا للتشكيك في فكرة البداء إذا أخذناها في حدود
فكرة النسخ مطبقة على التكوين، ولا يكون اتهام الامامية بالانحراف لانهم قالوا
بهذه الفكرة، الا شبيها بالاتهام الذي وجهه اليهود والنصارى إلى عامة المسلمين
لأخذهم بفكرة النسخ.
النسخ في الشريعة الاسلامية:
وأما النسخ في الشريعة الاسلامية فهو أمر ثابت لا يكاد يشك فيه أحد من
علماء المسلمين، سواء في ذلك ما كان نسخا لاحكام الشرائع السابقة أو ما كان
نسخا لبعض أحكام الشريعة الاسلامية نفسها، ومن هذه النسخ ما صرح به
القرآن الكريم، حيث نسخ حكم التوجه في الصلاة إلى القبلة الأولى وأمر بالتوجه
شطر المسجد الحرام، ولكن مع ذلك نجد النسخ مثارا للخلاف في علوم القرآن
حيث وقع الجدال في أن شيئا من الاحكام الثابتة في القرآن الكريم منسوخ
بالقرآن الكريم نفسه أو بالسنة النبوية المتواترة.
وهذا الخلاف جاء على صياغتين الأولى: الخلاف الذي أثاره أبو مسلم
الأصفهاني المتوفى سنة (322 ه‍) حيث ذهب - على أحسن الاحتمالات
في كلامه - إلى عدم جواز وقوع النسخ في القرآن الكريم، مستدلا على ذلك بقوله
تعالى في وصف القرآن: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم
حميد) (2).
فهذه الآية تقول: أن القرآن لا يعتريه البطلان، ولما كان النسخ إبطالا لما في

(1) كتاب الغيبة: 430. مؤسسة المعارف الاسلامية.
(2) فصلت: 42.
203

الآية من حكم فهو لا يرد على القرآن الكريم، ولكن هذه الآية الكريمة لا يمكن ان
تكون دليلا لمذهب أبي مسلم، لان النسخ ليس باطلا حتى يكون وروده على
القرآن الكريم خلافا لمنطوق الآية، وانما هو محض حق وموافق لواقع الحكمة
والمصلحة على أساس ما ذكرناه عن حقيقته، وإذا كان النسخ باطلا فلا نحتاج في
رفضه إلى الاستعانة بالآية الكريمة بل يكفي بطلانه سببا لذلك.
ففكرة أبي مسلم هذه تقوم في الحقيقة على أساس من المغالطة والايهام، حيث
يقصد من الباطل هنا ما يكون قبالة الحق سواء في العقيدة أو في النظام أو
الأسلوب البياني، والقرآن الكريم لا يأتيه شئ من الباطل في كل هذه الجوانب،
ولا يقصد منه الابطال والإزالة اللذان هما بمعنى النسخ.
والثانية: الخلاف الذي اثاره بعض علماء القرآن، حيث ذهبوا إلى عدم وقوع
النسخ في القرآن الكريم خارجا، وان كان لا يوجد مانع عقلي أو شرعي عنه.
ويكاد يقول آية الله السيد الخوئي (رحمه الله) في كتابه " البيان في تفسير القرآن " بهذا
الرأي، حيث ذكر لذلك مناقشة واسعة، أشار فيها إلى الآيات التي يحتمل فيها
النسخ، ونقد مبدأ النسخ فيها على هدي دراسة علمية دقيقة - عدا آية النجوى -
وخلص إلى الرأي الانف الذكر.
هل للنسخ أقسام؟
ويجدر بنا ان نتعرف أقسام النسخ التي ذكرها الباحثون في علوم القرآن قبل
ان ندخل في البحث التفصيلي حول الآيات المنسوخة، وذلك من أجل ان نعرف
اي قسم منها هو الهدف الرئيس من هذا البحث.
فقد قسموا النسخ إلى ثلاثة اقسام نوجزها بما يلي:
الأول: نسخ التلاوة دون الحكم: ويقصد بهذا النسخ ان تكون هناك آية
204

قرآنية نزلت على الرسول (صلى الله عليه وآله)، ثم نسخت تلاوتها ونصها اللفظي مع الاحتفاظ
بما تضمنه من احكام.
وقد مثلوا لهذا القسم بآية الرجم التي روي عن عمر بن الخطاب نصها: " إذا
زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " حيث قيل
إنها كانت آية في القرآن الكريم نسخت تلاوتها مع الاحتفاظ بحكمها.
وهذا القسم وان كاد يعترف به أكثر الباحثين من علماء الجمهور في علوم
القرآن، الا أنه لا يكاد يعترينا الشك ببطلانه وعدم ثبوته في القرآن الكريم عندما
ندرسه بشكل موضوعي، وذلك لأنه:
أولا: نجد أن الاعتراف بهذا اللون من النصوص والروايات التي أوردتها
بعض الكتب الصحيحة (السنية) يؤدي بنا إلى الالتزام بالتحريف، لان منطوق
هذه الروايات يصر على ثبوت هذه الآية وغيرها في القرآن الكريم حتى وفاة
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنها سقطت منه في المدة المتأخرة من حياته.
وثانيا: نجد أن هذه الروايات لم تصل إلينا الا بطريق الآحاد، ولا يجوز لنا ان
نلتزم بالنسخ على أساس رواية الآحاد لاجماع المسلمين على ذلك، مضافا إلى
طبيعة الأشياء التي تحكم بضرورة شيوع الأمور المهمة بين الناس ومن هذه الأمور
المهمة نسخ آية من القرآن الكريم، فكيف يقتصر النقل فيه على خبر الآحاد؟
الثاني: نسخ التلاوة والحكم معا: ويقصد بهذا القسم ان تكون آية قرآنية
ثابتة لفظا ومعنى في وقت من أيام الشريعة، ثم تنسخ تلاوتها ومضمونها.
وقد مثلوا لهذا القسم بآية الرضاعة المروية عن عائشة بهذا النص: " وكان فيما
انزل من القرآن " وعشر رضعات يحرمن " ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهن فيما يقرأ من القرآن " (1).

(1) صحيح مسلم 4: 167.
205

ويناقش هذا القسم بنفس المناقشتين اللتين ذكرناهما في القسم الأول من
النسخ.
الثالث: نسخ الحكم دون التلاوة، ويقصد به النسخ الذي ينصب على جانب
المضمون في الآية القرآنية، مع الاحتفاظ بصياغتها وطريقة التعبير فيها.
وهذا القسم هو ما اشتهر بين العلماء والمؤلفين، حتى ألفوا كتبا مستقلة فيه.
والنسخ في هذا القسم يمكن ان نتصوره على انحاء ثلاثة:
أ - ان ينسخ الحكم الثابت في القرآن الكريم بالسنة المتواترة أو بالاجماع
القطعي الذي يكشف عن صدور النسخ من المعصوم.
ب - ان ينسخ الحكم الثابت في القرآن الكريم بآية أخرى من القرآن، ناظرة
في طريقة عرضها وبيانها إلى الحكم المنسوخ، وهذان النحوان لا اشكال فيهما من
ناحية واقعية، وان كان الشك في وقوعهما بحسب الخارج.
ج - ان ينسخ الحكم الثابت بالقرآن الكريم بآية أخرى، غير ناظرة إلى الحكم
المنسوخ ولا مبينة لرفعه وانما يلتزم بالنسخ على أساس التعارض بين الاثنين،
فيلتزم بنسخ الآية المتقدمة زمانا بالآية المتأخرة.
وقد ناقش السيد الخوئي (رحمه الله) في جواز هذا النحو من النسخ على أساس أنه
يتنافى ومنطوق الآية القرآنية التي تقول: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند
غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (1)، وحين يقع التنافي بين الآيتين يتحقق هذا
الاختلاف الذي نفاه الله سبحانه عن القرآن، ولا تنفع لتفادي الاختلاف دعوى
النسخ، لان مثل هذه الدعوى يمكن ان تقال في كل اختلاف يقع في كلام غير الله
سبحانه.
وإضافة إلى هذه المناقشة نجد السيد الخوئي (رحمه الله) يكاد يذهب إلى أنه ليس هناك

(1) النساء: 82.
206

حكم ثابت في القرآن الكريم منسوخ بشئ من القرآن ولا بغيره.
ونحن وان كنا نختلف مع استاذنا السيد الخوئي (رحمه الله) في بعض الجوانب التي
جاءت في مناقشته هذه، وقد نختلف معه من ثم في شمول مبدئه للآيات القرآنية
كلها، ولكننا سوف نقتصر في دراستنا هذه على مناقشة بعض الآيات بالطريقة
التي سار عليها تقريبا.
نماذج من الآيات التي ادعي نسخها مع مناقشاتها:
الآية الأولى:
قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا
من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره. ان الله
على كل شئ قدير) (1).
وقد روى جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم (2) القول بأنها آية منسوخة
بآية السيف وهي قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا
يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون) (3).
فان الآية الأولى تأمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب، مع أنهم يودون من
صميم قلوبهم ان يردوا المؤمنين كفارا، والآية الثانية تأمر بقتال أهل الكتاب
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولما كانت الآية الثانية متأخرة عن
الآية الأولى كان الالتزام بنسخ آية السيف لاية سورة البقرة أمرا لا مناص منه.

(1) البقرة: 109.
(2) تفسير مجمع البيان 1: 185.
(3) التوبة: 29.
207

وقد ناقش السيد الخوئي (رحمه الله) القول بالنسخ هذا بمناقشتين:
الأولى: أنه لا يمكن القول بنسخ الآية بالآية الثانية بعد أن كان الحكم في الآية
المدعى نسخها له غاية ووقت، وهما وان كانا مذكورين فيها على سبيل الاجمال
لا التعيين الا ان هذا المقدار يكفي في عدم الالتزام بالنسخ فيها، حيث إن النسخ لا
يكون في حكم المؤقت الذي يرتفع بانتهاء وقته، وانما يكون في الحكم الذي يكون
ظاهره الاستمرار والتأبيد بحسب اطلاق اللفظ دون ان يكون صريحا في ذلك،
وعلى هذا الأساس يكون دور الآية الثاني هو: بيان الوقت والغاية للحكم
المذكور في الآية الأولى دون ان تكون ناسخة له.
الثانية: أن آية السيف لا تأمر بقتل أهل الكتاب بشكل مطلق حتى تصبح
معارضة للآية الأولى، وانما هي تأمر بقتالهم عند عدم دفعهم للجزية (1).
وحينئذ فمجرد ان يكونوا من أهل الكتاب لا يكفي في جواز قتالهم، وانما
يشترط في قتالهم توفر إحدى حالات ثلاث، كما يستفاد ذلك من مجموع الآيات
القرآنية وهي:
أ - مبادأة أهل الكتاب المسلمين بالقتال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين
يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين) (2).
ب - محاولتهم فتنة المسلمين عن دينهم: (... والفتنة أشد من القتل...) (3).
ج - امتناعهم عن اعطاء الجزية للآية المتقدمة.
وفي غير هذه الحالات لا يجوز قتال أهل الكتاب، وانما يكتفى بالصفح والعفو
عنهم، كما جاء في الآية الأولى المدعى نسخها، فتكون الآية الثانية مقيدة لاطلاق
الآية الأولى لا ناسخة لها.

(1) البيان: 288.
(2) و (3) البقرة: 190 و 191.
208

الآية الثانية:
قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم
فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا *
واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا واصلحا فأعرضوا عنهما ان الله كان توابا
رحيما) (1).
وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم أن الآية الأولى من
هاتين الآيتين مختصة بزنا النساء، والعقاب فيها هو الايذاء بالشتم والإهانة
وضرب النعال - كما جاء عن ابن عباس (2) ذلك - وهما في كلا الموردين تشملان
البكر والثيب منهما.
وقد نسخت كلتا الآيتين بحكم الجلد مائة مرة للبكر من النساء والرجال، كما
في قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما
رأفة في دين الله) (3) وبحكم الرجم للمحصن من النساء والرجال، كما ثبت ذلك
في السنة النبوية.
وقد ناقش السيد الخوئي (رحمه الله) مبدأ النسخ في هذه الآية، على أساس أن كل
واحدة من هذه الآيات تبين حكما يختلف عن الحكم المبين في الآية الأخرى، ولا
مانع من الاخذ بهذه الأحكام كلها لاختلاف موضوعاتها.
ومن أجل ان تتضح هذه المناقشة لا بد من أن نستعرض بعض الأمور التي لها
ارتباط وثيق في تفسير الآيتين المدعى نسخهما، لنعرف بعد ذلك مدى صحة
دعوى النسخ فيهما:

(1) النساء: 15 - 16.
(2) تفسير مجمع البيان 2: 21.
(3) النور: 2.
209

1 - إن للفظ الفاحشة في اللغة والقرآن الكريم معنى واسعا شاملا، ينطوي تحته
كل ما تزايد قبحه وتفاحش، دون ان يكون مختصا بعملية الزنا وحدها، فقد تكون
لواطا أو سحاقا أو زنا، ولا ظهور ولا انصراف للفظ الفاحشة في خصوص الزنا.
2 - إن المقصود بالسبيل في الآية الكريمة هو المخرج والمخلص الذي يكون في
حقيقته وواقعه أقل كلفة وضررا على المرأة من الحبس في الدار، لان الآية تجعل
السبيل للمرأة لا عليها، وحينئذ فلا يمكن تفسير السبيل بالعقوبة التي وضعها
الاسلام الحنيف بالنسبة إلى الزانية والزاني - البكر منهما والثيب - لان هذه العقوبة
ليست سبيلا للمرأة تخلص به من شدة الحبس وعقابه، وانما هو أشد وأقسى من
الحبس نفسه.
3 - إن لفظ الايذاء في الآية الكريمة ليس له ظهور في الشتم والسب والإهانة
وضرب النعال، وانما هو معنى شامل لهذه الأمور ولغيرها من ألوان الايذاء
الأخرى كالجلد والرجم وغيرهما.
وبعد ملاحظة هذه النقاط الثلاث يمكن ان نذهب في خصوص الآية الأولى إلى
أن المقصود بالفاحشة: (المساحقة) وحكمها الثابت بالآية هو الحبس حتى
الموت، أو السبيل الذي يهيئه الله سبحانه لها بان تتوفر الظروف التي تجعل المرأة
في مأمن من ارتكاب المنكر، كأن تتزوج أو تبلغ العمر الذي تموت فيه طاقتها
الجنسية أو تخمد أو تتوب وتصلح.
وبهذا اللون من التفسير يمكننا ان نلتزم بعدم النسخ في هذه الآية لبقاء حكمها،
في الوقت الذي يلتزم به بالجلد والرجم بالنسبة إلى الزاني. وإضافة إلى ذلك يمكننا
ان نذهب إلى أن الحكم بالحبس ليس عقابا وحدا لارتكاب الفاحشة، وانما هو
عمل وقائي رادع عن العودة لارتكاب المنكر مرة أخرى، ويجب في كل الحالات
التي يستشعر فيها الخطر من الوقوع في المنكر حتى قبل وقوعه، وحينئذ فلا
210

ضرورة للالتزام بالنسخ حتى مع الالتزام بأن المقصود من الفاحشة في الآية
الكريمة خصوص زنا النساء، لان الالتزام بالجلد والرجم يمكن ان ينسجم مع
الالتزام - في الوقت ذاته - بثبوت الحكم الوقائي الرادع.
وفي خصوص الآية الثانية يكون المقصود بالفاحشة اللواط، وحكمه الايذاء،
سواء فسرنا الايذاء بالشكل الذي روي عن ابن عباس، أم بالشكل الاخر
الواسع، فإنه في كل من الفرضين يمكن أن نلتزم بالحد الشرعي الثابت في الشريعة
المقدسة، على أن تفسير مفهوم الايذاء بشكل يشمل الجلد والرجم يجعل آية الجلد
وغيرها في موقف المفسر المحدد لنوعية الايذاء المتخذ ضد الزاني من الرجال
والنساء، دون ان يكون ناسخا للآية الأولى.
وهناك قرينة لفظية في الآية تدل على أن المراد من الاسم الموصول (اللذان)
هو خصوص الرجلين دون الرجل والمرأة، كما هو التفسير القائل بالنسخ، وهذه
القرينة هي ملاحظة سياق الآيتين الذي يقرر أن المراد من ضمير الجمع المخاطب
المذكور فيهما ثلاث مرات من جنس واحد، بحيث لا يختلف الثالث عن الأوليين.
ولما كان المراد بالأوليين منهما خصوص الرجال، لإضافة النساء في أحدهما
للضمير وربط الشهادة بالرجال في الثاني، ويجب ان يكون المراد من الثالث
خصوص الرجال أيضا، وهذا ينتهي بنا إلى أن المراد بالاسم الموصول خصوص
الرجال، ومع هذه القرينة لا بد من الالتزام بان المراد من الفاحشة هي اللواط
بالخصوص.
الآية الثالثة:
قوله تعالى: (... فما استمعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة...) (1).
ولا بد من معرفة مفاد الآية الكريمة قبل البحث عن كونها آية منسوخة الحكم.

(1) النساء: 24.
211

وبهذا الشأن فقد جاءت الروايات الكثيرة من طريق أهل السنة والامامية
تذكر أن المقصود من الآية الكريمة نكاح المتعة (الزواج المؤقت).
ولذلك اشتهر بين علماء العامة أن الآية منسوخة، حيث ذهب هؤلاء إلى أن
حلية نكاح المتعة قد نسخت بعد تشريعه لمدة من الزمان في الشريعة المقدسة، وقد
وقع الاختلاف بين الباحثين في أمر الناسخ لهذه الآية الكريمة، وبهذا الصدد
ذكرت أقوال أربعة:
الأول: أن الناسخ لها قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن
لعدتهن...) (1) على أساس أن نكاح المتعة لا طلاق فيه، وانما تنفسخ عقدة
النكاح فيه بانتهاء المدة المضروبة في النكاح أو هبة الباقي منها، كما أن عدته
تختلف عن عدة الطلاق في النكاح الدائم، ولما كانت هذه الآية تذكر الطلاق
طريقا لانفصال الزوجية كانت ناسخة للنكاح الذي يكون انفصال الزوجية فيه
عن طريق آخر، في الوقت الذي تختلف عدته عن عدة النكاح الذي يقع فيه
الطلاق.
وهذا القول يكاد يكون أوهن الأقوال وابعدها عن الفهم القرآني الصحيح،
لان الآية الثانية لا تشير - لا من قريب ولا من بعيد - إلى موارد الطلاق وأنه لا
بد في كل زواج ان يقع الانفصال فيه بالطلاق، وانما هي بصدد بيان ضرورة العدة
في حالة وقوع الطلاق.
على أن نكاح المتعة تجب العدة فيه أيضا، ولا تعرض في الآية إلى مقدار العدة
ومدتها، فهي بعيدة عن النسخ كل البعد وليست لها علاقة بآية المتعة.
الثاني: ان الناسخ هو قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم...) (2) على

(1) الطلاق: 1.
(2) النساء: 12.
212

أساس أن نكاح المتعة لا توارث فيه وهذه الآية تقرر باطلاقها وراثة الزوج لكل
زوجة، فيدور الامر بين القول بوراثة الزوج للزوجة في نكاح المتعة - وقد ثبت
عدمه - وبين القول بنسخ المتعة، ليبقى اطلاق الآية على حاله، وهو المطلوب من
دعوى النسخ.
وهذا القول كسابقه من حيث مجافاته للواقع والفهم العرفي، لأنه يمكن الالتزام
بان الدليل الذي دل على عدم التوارث بين الزوجين في نكاح المتعة يكون مخصصا
لمفاد الآية الكريمة دون اللجوء إلى القول بنسخ آية المتعة، كما يلتزم بذلك
المسلمون في بعض الموارد الأخرى من الإرث، فان الزوجة إذا كانت كافرة لا
ترث زوجها، أو إذا كان أحد الزوجين قاتلا للاخر فإنه لا ارث بينهما أيضا.
الثالث: أن الناسخ هو النصوص التي تدل على أن نكاح المتعة قد نسخ بعد
تشريعه في الاسلام، وقد رويت هذه النصوص بطرق مختلفة كان ينتهي بعضها إلى
الإمام علي (عليه السلام)، وبعضها إلى الربيع بن سبرة، وبعضها إلى سلمة وغير ذلك (1).
ولكن تناقش هذه النصوص بالوجوه الثلاثة التالية:
أولا: إن النسخ لا يثبت بخبر الواحد، لما أشرنا إليه سابقا من الاجماع على
ذلك، وان طبيعة النسخ تقتضي شيوع النسخ واشتهاره بين المسلمين.
ثانيا: إن هناك نصوصا متواترة مروية عن طريق أهل البيت، تعارض
بمضمونها هذه النصوص وتكذبها، الامر الذي يفرض علينا الاخذ بنصوص أهل
البيت خاصة، لانهم الثقل الثاني للكتاب الذي ثبت عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنهم لا
يفترقون عنه.
ثالثا: النصوص الكثيرة التي وردت في الصحاح التي توكد بقاء حلية هذا
النكاح حتى وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، والنسخ لا يجوز من غير النبي، وقد ذكر السيد

(1) البيان: 317. السيد الخوئي (رحمه الله).
213

الخوئي (رحمه الله) بعض هذه النصوص والتي وردت في صحيح مسلم وسنن البيهقي
ومسند أحمد وغيرهم، ومن هذه الروايات ما رواه مسلم عن أبي الزبير قال:
" سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على
عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر، حتى نهى عنه (نكاح المتعة) عمر في شأن عمرو
ابن حريث " (1) مع مناقشته للنصوص الأخرى الدالة على النسخ في كتابه
(البيان).
الرابع: أن الناسخ هو اجماع الأمة على حرمة نكاح المتعة.
وهذا الدليل يمكن مناقشته بالامرين التاليين:
الأول: أن دعوى الاجماع غير صحيحة فان جماعة من المسلمين، ومنهم جمع
من أصحاب رسول الله كانوا يقولون بجواز المتعة، وقولهم هذا موافق لقول أهل
البيت (عليهم السلام) الذين هم ثقل الكتاب وقد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا،
ومن هؤلاء الصحابة علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله
ابن مسعود، وعبد الله بن عباس.
الثاني: أن هذا الاجماع لو تم فهو ليس بحجة، لان حجية الاجماع - كما تم
تحقيقه في علم الأصول - تتوقف على كشفه عن رأي المعصوم، ولم يكن تحريم
نكاح المتعة على عهد رسول الله ولا بعده إلى أن مضت مدة من عهد عمر، ولا
يصح بأي حال الاعراض عن كتاب الله وسنة نبيه لمجرد اجماع جماعة من
المسلمين لم يعصموا عن الخطأ والاشتباه، وإلا لأمكن نسخ كل الأحكام الشرعية
بهذه الطريقة.

(1) صحيح مسلم: باب نكاح المتعة 4: 141، راجع البيان: 318 - 324.
214

القسم الثالث
التفسير والمفسرون
التفسير والتأويل.
التفسير في عصر الرسول.
التفسير في عصر الصحابة والتابعين.
التفسير في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
215

التفسير والتأويل
التفسير (1):
1 - التفسير بمعناه اللغوي:
التفسير في اللغة: البيان والكشف (2). وفي القرآن الكريم بهذا المعنى، قال
تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) (3) فتفسير الكلام - اي
كلام - معناه: الكشف عن مدلوله، وبيان المعنى الذي يشير إليه اللفظ.
وعلى هذا الأساس يمكن ان نطرح السؤال التالي: هل يعتبر بيان المعنى
الظاهر من اللفظ الذي يتبادر منه تفسيرا، بحيث يصدق عليه لفظ التفسير بمعناه
اللغوي أو لا؟
فهناك اتجاه يقول: إن الكشف والبيان الذي أخذناه في معنى التفسير يستبطن
افتراض وجود درجة من الخفاء والغموض في المعنى، ليكشف ويزال الغموض
عنه بعملية التفسير، فلا يصدق التفسير حينئذ إلا في حالة الغموض والخفاء، فمن
يسمع كلاما له معنى ظاهر يتبادر من ذلك الكلام، فيعلن عن ذلك المعنى لا يكون
مفسرا للكلام، لأنه لم يكشف عن شئ خفي، وانما يصدق التفسير على الجهد
الذي يبذله الشخص في سبيل اكتشاف معنى الكلام المكتنف بشئ من الغموض

(1) كتبه الشهيد الصدر (قدس سره).
(2) لسان العرب: مادة (فسر).
(3) الفرقان: 33.
217

والخفاء، وبتعبير آخر أن من أظهر معنى اللفظ يكون قد فسره، واما حيث يكون
المعنى ظاهرا ومتبادرا بطبيعته فلا اظهار ولا تفسير.
وسيرا مع هذا الاتجاه لا يكون من التفسير الا اظهار أحد محتملات اللفظ،
واثبات انه هو المعنى المراد، أو اظهار المعنى الخفي غير المتبادر، واثبات انه هو
المعنى المراد بدلا من المعنى الظاهر المتبادر، واما ذكر المعنى الظاهر المتبادر من
اللفظ فلا يكون تفسيرا.
وهذا الاتجاه يمثل الرأي السائد لدى الأصوليين.
ولكن الصحيح هو أن ذكر المعنى الظاهر قد يكون في بعض الحالات تفسيرا
أيضا، واظهارا لأمر خفي، كما أنه - في بعض الحالات الأخرى - قد لا يكون
تفسيرا لأنه يفقد عنصر الخفاء والغموض، فلا يكون اظهارا لأمر خفي أو إزالة
لغموض.
ومن أجل تعرف موارد الظهور التي ينطبق عليها (التفسير) والموارد التي لا
ينطبق عليها معنى (التفسير) نقسم الظهور إلى قسمين:
أحدهما: الظهور البسيط: وهو الظهور الواحد المستقل المنفصل عن سائر
الظواهر الأخرى.
والاخر: الظهور المعقد: وهو الظهور المتكون نتيجة لمجموعة من الظهورات
المتفاعلة.
ولأجل توضيح هذا التقسيم نضرب مثالا لذلك من العرف، بأن يقول شخص
لولده: اذهب إلى البحر في كل يوم، أو يقول له: اذهب إلى البحر في كل يوم،
واستمع إلى كلامه.
فبالنسبة إلى القول الأول نعتبر الظهور ظهورا بسيطا، إذ لا توجد في الكلام
إلا صورة واحدة تتبادر إلى الذهن وهي: صورة بحر من الماء، يطلب الأب من
218

ولده أن يذهب إليه في كل يوم.
وأما بالنسبة إلى القول الثاني فالظهور معقد لأنه مزدوج، فهناك نفس الظهور
السابق، إذ يتبادر إلى الذهن من كلمة البحر: البحر من الماء، يذهب إليه الولد في
كل يوم. ويقابله ظهور آخر وهو ظهور الاستماع إلى كلام البحر، إذ يتبادر إلى
الذهن من ذلك: أن البحر ليس بحرا من ماء بل هو بحر من العلم، لان بحر الماء لا
يستمع إلى كلامه، لأنه ليس له كلام، وانما يستمع إلى صوت أمواجه.
وهكذا نواجه في القول الثاني ظهورين بسيطين متعارضين، وحين نلاحظ
الكلام بصورة كاملة متفاعلة يجب أن ندرس نتيجة التفاعل بين ذينك الظهورين،
وما ينجم عنهما من ظهور بعد تصفية التناقضات الداخلية بينهما، وهذا الظهور
الناجم عن ذلك نسميه: بالظهور المعقد أو المركب.
وإذا ميزنا بين الظهور البسيط والظهور المعقد أمكننا أن نعرف أن ابراز الظهور
المعقد، وتحديد معنى الكلام على أساسه يعتبر (تفسيرا)، لان تعقيده وتركيبه
يجعل فيه درجة من الخفاء والغموض جديرة بالكشف والإبانة، فيصدق عليه
اسم: (التفسير)، واما الظهور البسيط ففي الغالب لا يعتبر ابراز معنى الكلام على
أساسه تفسيرا، لان المعنى ظهر بطبيعته فلا يحتاج إلى إظهار.
والنتيجة أن في صدق التفسير على بيان المعنى في موارد الظهور اتجاهين:
أحدهما: القائل بعدم صدقه مطلقا، سواء كان الظهور بسيطا أو معقدا.
والاخر: - وهو الاتجاه الصحيح - القائل بأن التفسير ليصدق على بيان المعنى
في موارد الظهور المعقد، دون بعض موارد الظهور البسيط.
أهمية التمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى:
والتمييز بين تفسير اللفظ على صعيد المفاهيم، وتفسير المعنى بتجسيده في
صورة محددة على صعيد المصاديق يعتبر نقطة جوهرية جدا في تفسير القرآن
219

الكريم، وأداة لحل التناقض الظاهري الذي قد يبدو بين حقيقتين قرآنيتين
وهما:
الحقيقة الأولى: أن القرآن كتاب هداية للبشرية، أنزله الله سبحانه لاخراجها
من الظلمات إلى النور، وإرشادها إلى الطريقة الفضلى في جوانب حياتها، وقد
وصف نفسه بأنه (... هدى للناس...) (1) و (... نور وكتاب ومبين) (2) (... تبيانا
لكل شئ...) (3). وهذه الحقيقة تفرض ان يجئ القرآن ميسر الفهم، وان يتاح
للانسان استخراج معانيه منه، إذ لا يحتاج للقرآن ان يحقق أهدافه ويؤدي رسالته
لو لم يكن مفهوما من قبل الناس.
والحقيقة الثانية: ان كثيرا من الموضوعات التي يستعرضها القرآن أو يشير
إليها لا يمكن فهمها بسهولة، بل قد تستعصي على الذهن البشري، ويتيه في مجال
التفكير فيها لدقتها وابتعادها عن مجالات الحس والحياة الاعتيادية التي يعيشها
الانسان، وذلك نظير ما يتعلق من القرآن باللوح، والقلم، والعرش، والموازين،
والملك، والشيطان، وإنزال الحديد، ورجوع البشرية إلى الله، والخزائن،
وملكوت السماء، وتسبيح ما في السماوات والأرض وما إلى ذلك من موضوعات.
اذن فحقيقة أهداف القرآن الكريم ورسالته تفرض أن يكون ميسر الفهم،
وواقع بعض موضوعاته يستعصي على الفهم ويتيه فيها الذهن البشري.
وحل التناقض الظاهري بين هاتين الحقيقتين انما يكون بالتمييز بين تفسير
اللفظ وتفسير المعنى، لان الحقيقة الأولى اهداف القرآن ورسالته انما تفرض ان
يكون القرآن ميسر الفهم، بوصفه كلاما دالا على معنى: اي بحسب تفسير اللفظ،

(1) البقرة: 185.
(2) المائدة: 15.
(3) النحل: 89.
220

وهو بهذا الوصف ميسر الفهم، سهل على الناس استخراج معانيه، وانما الصعوبة
في تحديد الصور الواقعية لمعانيه ومفاهيمه.
فكل الآيات التي استعرضت تلك الموضوعات التي أشرنا إليها في الحقيقة
الثانية تعتبر مفهومة من ناحية لغوية، ولا صعوبة في التفسير اللفظي لها، وانما
الصعوبة تكمن في تفسير معنى اللفظ لا في تفسير اللفظ نفسه، لان تلك
الموضوعات ترتبط بعوالم ارقى من عالم الحس الذي يعيشه الانسان، فيكون من
الطبيعي ان يواجه الانسان صعوبات كبيرة إذا حاول تحديد المعنى في مصداق
معين، وتجسيد المفهوم في الذهن ضمن واقع خاص.
وقد يتساءل هنا عن الضرورة التي دعت القرآن الكريم إلى أن يتعرض لمثل
هذه المعاني التي يستعصي تفسيرها على الذهن البشري، فيخلق بذلك صعوبات
ومشاكل هو في غنى عنها.
ولكن الواقع أن القرآن الكريم لم يكن بامكانه ان يتفادى هذه الصعوبات
والمشاكل، لان القرآن بوصفه كتاب دين يستهدف بصورة رئيسة ربط البشرية
بعالم الغيب، وتنمية غريزة الايمان بالغيب فيها، أو تقريب صورته إلى الذهن
الانساني المادي (1)، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق تلك الموضوعات التي تنبه
الانسان إلى صلته بعالم أكبر من العالم المنظور، وإن كان غير قادر على الإحاطة
بجميع أسراره وخصوصياته.
2 - التفسير معنى اضافي أم موضوعي:
وعلى ضوء الاتجاه الصحيح نعرف: أن التفسير معنى (اضافي)، لان التفسير
بيان المعنى وإيضاحه حتى في مورد ظهور اللفظ. والمعنى الواحد قد يكون بحاجة
إلى البيان والكشف بالنسبة إلى شخص، ولا يحتاج إلى بيان وكشف عندما نضيفه

(1) هناك المزيد من التوضيح لهذه الفكرة في بحث المحكم والمتشابه.
221

إلى شخص آخر، فيكون بيانه - إضافة إلى من يحتاج البيان - تفسيرا دون
الشخص الاخر.
وأما إذا أخذنا بالاتجاه الاخر الذي يرى: أن التفسير لا يشمل موارد حمل
اللفظ على معناه الظاهر مهما كان الظهور معقدا، وأن التقسيم مختص بحمل اللفظ
على ما يكون ظاهرا من اللفظ فبالامكان أن نتصور للتفسير معنى (موضوعيا)
مطلقا لا يختلف باختلاف الافراد، لأننا نلاحظ عندئذ اللغة نفسها، فإن كان
المعنى الذي يذكر للفظ هو المعنى الذي يقتضيه الاستعمال اللغوي بطبيعته فلا
يكون ذلك تفسيرا، حتى إذا كان محاطا بشئ من الخفاء والغموض بالنسبة إلى
بعض الاشخاص، وان كان المعنى معنى آخر لا يقتضيه الاستعمال اللغوي بطبيعته،
وانما عيناه بدليل خارجي فهو (التفسير).
3 - تفسير اللفظ وتفسير المعنى:
والتفسير على قسمين باعتبار الشئ المفسر:
1 - تفسير اللفظ.
2 - تفسير المعنى.
وتفسير اللفظ عبارة عن (بيان معناه لغة)، وأما تفسير المعنى فهو: تحديد
مصداقه الخارجي الذي ينطبق عليه ذلك المعنى.
فحين نسمع شخصا يقول: إن دول الاستكبار الكافر تملك أسلحة ضخمة،
تارة نتساءل: ما هو معنى الأسلحة؟ ونجيب عن هذا السؤال: إن الأسلحة هي
الأشياء التي يستعين بها صاحبها في قهر عدوه، واخرى نتساءل: ما هي نوعية
السلاح الذي تملكه تلك الدول؟ ونجيب: إن سلاحها القنابل الذرية أو الصواريخ
بعيدة المدى أو أقمار التجسس الفضائية أو الغواصات الذرية أو...
ففي المرة الأولى فسرنا اللفظ إذ ذكرنا معناه لغة، وفي المرة الثانية فسرنا المعنى
222

إذ حددنا المصداق الذي ينطبق عليه معنى الجملة ويشير إليه، فتسمى المرحلة
الأولى بمرحلة (تفسير اللفظ) أو التفسير اللغوي، وهي مرحلة تحديد المفاهيم،
وتسمى المرحلة الثانية: مرحلة (تفسير المعنى) وهي مرحلة تجسيد تلك المفاهيم
في صور معينة محددة.
وأمثلة ذلك من القرآن الكريم كثيرة، فنحن نلاحظ في القرآن أن الله سبحانه
يوصف بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، ونواجه بالنسبة إلى هذه
الكلمات بحثين:
أحدهما: البحث عن مفاهيم هذه الكلمات من الناحية اللغوية.
والاخر: البحث عن تعيين مصداق تلك المفاهيم بالنسبة إلى الله تعالى.
فكيف يسمع سبحانه؟ وهل يسمع بجارحة أو لا؟ وكيف يعلم؟ وهل يعلم
بصورة زائدة على ذاته؟
والأول: يمثل التفسير اللفظي للآية أو تفسير اللفظ، والثاني: يمثل التفسير
المعنوي أو تفسير المعنى.
ومن أمثلة ذلك أيضا قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين
يديه...) (1) وقوله: (... وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد...) (2) وقوله: (وأنزلنا
من السماء ماء بقدر فاسكناه في الأرض...) (3) فنحن نجد هذه الآيات تتحدث عن
أشياء قد أنزلت من قبيل: (الكتاب) (الحديد) (الماء) وتفسير اللفظ يعني
- بصدد هذه الآيات - أن نشرح معنى (النزول) لغة ونحدد مفهوم كلمة " أنزلنا "
الواردة في الآيات الثلاث، ونعرف أنها تستبطن معنى (الهبوط من جهة عالية

(1) الانعام: 92.
(2) الحديد: 25.
(3) المؤمنون: 18.
223

مرتفعة) وتفسير المعنى هو: أن ندرس حقيقة هذا الانزال، ونوع تلك (الجهة
العالية) التي هبط منها الكتاب والحديد والماء، وهل هي جهة مادية أو معنوية؟
التفسير بوصفه علما:
وأما التفسير بوصفه علما فهو علم يبحث فيه عن القرآن الكريم بوصفه كلاما
لله تعالى (1).
وتوضيح ذلك: أن القرآن الكريم له عدة اعتبارات: فهو تارة يلحظ بوصفه
حروفا كتابية ترسم على الورق واخرى: يلحظ بوصفه أصواتا نقرؤها ونرددها
بلساننا، وثالثة: يلحظ باعتباره كلاما لله تعالى.
والقرآن الملحوظ بأي واحد من هذه الاعتبارات يقع موضوعا لعلم يتكون
من بحوث خاصة به.
فالقرآن من حيث إنه حروف تكتب: موضوع لعلم الرسم القرآني الذي
يشرح قواعد كتابة النص القرآني.
والقرآن من حيث إنه يقرأ: موضوع لعلم القراءة وعلم التجويد.
والقرآن من حيث إنه كلام الله: يقع موضوعا لعلم التفسير.
فعلم التفسير يشتمل على جميع البحوث المتعلقة بالقرآن بوصفه كلام الله، ولا
يدخل في نطاقه البحث في طريقة كتابة الحرف، أو طريقة النطق بصوته، لان
الكتابة والنطق ليسا من صفات نص القرآن بوصفه كلاما لله، إذ ليس لكونه كلاما
لله دخل في كيفية كتابته أو قراءته.
وانما يدخل في علم التفسير في ضوء ما ذكرناه له من تعريف البحوث الآتية:
اولا: البحث عن مدلول كل لفظ أو جملة في القرآن الكريم، لان كون هذا

(1) قارن هذا التعريف بما ذكره الزركشي في البرهان 1: 13، وما نقله الذهبي عن بعضهم
في " التفسير والمفسرون " 1: 15، وما ذكره الزرقاني في " مناهل العرفان " 1: 481.
224

المعنى أو ذاك مدلولا للفظ القرآني من صفات القرآن بوصفه كلاما لله، وليس من
صفات الحروف أو أصواتها بما هي حروف أو أصوات.
ثانيا: البحث عن اعجاز القرآن والكشف عن مناحي الاعجاز المختلفة فيه،
فان الاعجاز من أوصاف القرآن باعتباره كلاما دالا على المراد.
ثالثا: البحث عن أسباب النزول، لان الآية حين ندرس سبب نزولها نلاحظها
بما هي كلام، اي بما هي لفظ مفيد دال على معنى، لان ما لا يكون كلاما ولا يدل
على معنى، لا يرتبط بحادثة معينة لتكون سببا لنزول الآية.
رابعا: البحث عن الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمقيد والمطلق، فان كل
ذلك يتناول النص القرآني بوصفه كلاما دالا على معنى.
خامسا: البحث عن أثر القرآن في التأريخ، ودوره العظيم في بناء الانسانية
وهدايتها، فإن اثر القرآن ودوره مردهما إلى فعالية القرآن بوصفه كلاما لله لا
بوصفه مجرد حروف تكتب أو صوت أو أصوات تقرأ.
إلى غير ذلك من البحوث التي ترتبط بالقرآن باعتباره كلاما لله تعالى.
ومن خلال تعريف علم التفسير نحدد موضوعه أيضا وهو (القرآن) من حيث
كونه كلاما لله تعالى.
وفي هذا الضوء نعرف أن اطلاق اسم علم (الناسخ والمنسوخ) أو علم (أسباب
النزول) أو علم (اعجاز القرآن): على البحوث المتعلقة بهذه الموضوعات، لا
يعني عدم امكان اندراجها جميعا في نطاق علم واحد باسم علم: (التفسير) فهي
في الحقيقة جوانب من هذا العلم، لوحظ في كل جانب منها تحقيق هدف خاص
يتعلق بالبحث في ناحية خاصة من كلام الله، ففي علم (اعجاز القرآن) يدرس
كلام الله في القرآن مقارنا بالنتاج البشري أو بالامكانات البشرية، ليدلل على أنه
فوق تلك الامكانات وهو معنى الاعجاز، وفي علم (أسباب النزول) يدرس
225

كلام الله في القرآن من حيث ارتباطه بالاحداث والوقائع التي لابست نزوله،
وهكذا الامر في سائر الجوانب الأخرى.
وإنما أفردت هذه الأسماء وأعطيت عناوين مستقلة، باعتبار أن العلماء بعد
التوسع في علم التفسير أفردوها أحيانا بالبحث للتركيز على الاهداف التفصيلية
لها، كما صنعوا ذلك في آيات الاحكام وفي القصص والامثال وأسلوب القرآن
وغيرها، مع أن هذه الأبحاث وجدت وترعرعت في أحضان علم التفسير.
التأويل (*):
والتأويل كلمة أخرى ظهرت إلى جانب كلمة: (التفسير) في بحوث القرآن
عند المفسرين، واعتبروها متفقة بصورة جوهرية مع كلمة التفسير في المعنى،
فالكلمتان معا تدلان على بيان معنى اللفظ والكشف عنه، قال صاحب
القاموس: " أول الكلام تأويلا: دبره وقدره وفسره " (1).
والمفسرون الذين كادوا اتفقوا على التوافق بين الكلمتين بشكل عام اختلفوا في
تحديد مدى التطابق بين الكلمتين.
ونحن هنا نذكر بعض الاتجاهات والمذاهب في ذلك:
1 - الاتجاه العام لدى قدماء المفسرين الذي يميل إلى القول بالترادف بينهما،
فكل تفسير تأويل، والعكس صحيح أيضا، وعلى هذا فالنسبة بينهما هي
التساوي، ولعل منه قول مجاهد: إن العلماء يعلمون تأويله، وقول ابن جرير
الطبري عند تفسيره للآية " القول في تأويل قوله كذا... واختلف أهل التأويل في
الآية... ".

* - كتبه الشهيد الصدر (قدس سره).
(1) القاموس: مادة (أول).
226

2 - الاتجاه العام لدى من تأخر عنهم من المفسرين الذي يميل إلى القول بأن
التفسير يخالف التأويل في بعض الحدود: اما في طبيعة المجال المفسر والمؤول، أو
في نوع الحكم الذي يصدره المفسر والمؤول، أو في طبيعة الدليل الذي يعتمد عليه
التفسير والتأويل، فهنا مذاهب نذكر منها ثلاثة:
أ - التمييز بين التفسير والتأويل في طبيعة المجال المفسر، ويقوم هذا المذهب على
أساس القول بأن التفسير يخالف التأويل بالعموم والخصوص، فالتأويل يصدق
بالنسبة إلى كل كلام له معنى ظاهر، فيحمل على غير ذلك المعنى فيكون هذا الحمل
تأويلا، والتفسير أعم منه لأنه بيان مدلول اللفظ مطلقا أعم من أن يكون هذا
المدلول على خلاف المعنى الظاهر أو لا.
ب - التمييز بين التفسير والتأويل في نوع الحكم، ويقوم هذا المذهب على
أساس القول بأن التفسير والتأويل متباينان، لان التفسير هو: القطع بأن مراد الله
كذا، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون قطع، وهذا يعني أن المفسر احكامه
قطعية، والمؤول أحكامه ترجيحية.
ج - التمييز بينهما في طبيعة الدليل: ويقوم هذا المذهب على أساس القول بأن
التفسير هو: بيان مدلول اللفظ اعتمادا على دليل شرعي، والتأويل هو بيان اللفظ
اعتمادا على دليل عقلي.
موقفنا من هذه الاتجاهات:
والبحث في تعيين مدلول كلمة التأويل، والمقارنة بينها وبين كلمة التفسير يتسع
- في الحقيقة - بقبول كل هذه الوجوه حين يكون بحثا اصطلاحيا يستهدف تحديد
معنى مصطلح معين لكلمة التأويل في علم التفسير، لان كل تلك المعاني داخلة في
نطاق حاجة المفسر، فيمكنه أن يصطلح على التعبير عن اي واحد منها بكلمة
التأويل، لكي يشير إلى مجال خاص أو درجة معينة من الدليل، ولا حرج عليه في
227

ذلك، ولكن الامر يختلف عندما يكون البحث عن معنى كلمة (التأويل) عندما
ترد في الكتاب والسنة، فإن الخطر يكمن في اتخاذ المعنى المصطلح معنى وحيدا
للفظ، وفهم كلمة (التأويل) على أساسه إذا جاءت في النص الشرعي (القرآن أو
السنة).
ونحن إذا لاحظنا كلمة التأويل وموارد استعمالاتها في القرآن نجد لها معنى
آخر، لا يتفق مع ذلك المعنى الاصطلاحي الذي يجعلها بمعنى التفسير ولا يميزها
عنه إلا في الحدود والتفصيلات، فلكي نفهم كلمة التأويل يجب أن نتناول إضافة
إلى معناها الاصطلاحي معناها الذي جاءت به في القرآن الكريم.
وقد جاءت كلمة التأويل في سبع سور من القرآن الكريم:
الأولى: سورة آل عمران، ففيها قوله تعالى: (هو الذي انزل عليك الكتاب منه
آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما
تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله...) (1).
والثانية: سورة النساء، ففيها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ان
كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) (2).
والثالثة: سورة الأعراف، ففيها قوله تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على
علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون الا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين
نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق...) (3).
والرابعة: سورة يونس، ففيها قوله: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما

(1) آل عمران: 7.
(2) النساء: 59.
(3) الأعراف: 52.
228

يأتهم تأويله...) (1).
والخامسة: سورة يوسف، جاء فيها قوله: (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من
تأويل الأحاديث...) (2).
والسادسة والسابعة: سورتا الاسراء والكهف (3)، إذ جاءت فيهما كلمة
التأويل على هذا المنوال أيضا.
وبدراسة هذه الآيات نعرف أن كلمة التأويل لم ترد فيها بمعنى التفسير وبيان
مدلول اللفظ، بل يبدو عدم إمكانية ورودها بهذا المعنى إلا في الآية الأولى فقط،
لان التأويل في الآية الأولى أضيف إلى الآيات المتشابهة، ولهذا ذهب كثير من
مفسري الآية إلى القول: بأن تأويل الآية المتشابهة هو تفسيرها وبيان مدلولها،
وتدل الآية عندئذ على عدم جواز تفسير الآية المتشابهة، ومن ثم على أن قسما
من القرآن يستعصي على الفهم ولا يعلمه إلا الله أو الله والراسخون في العلم، على
الاحتمالين في الوقف والوصل، وأما ما يتاح للانسان الاعتيادي فهمه وتفسيره
ومعرفة معناه من القرآن فهو الآيات المحكمة منه فقط.
وهذا الموقف الذي وقفه أولئك المفسرون من هذه الآية الكريمة، وحملهم لكلمة
التأويل على ضرب من التفسير يأتي نتيجة لانسياقهم مع المعنى الاصطلاحي
لكلمة التأويل، ونحن بإزاء موقف من هذا القبيل يجب أن نعرف قبل كل شئ أن
المعنى الاصطلاحي هل كان موجودا في عصر القرآن؟ وهل جاءت كلمة
التأويل بهذا المعنى وقتئذ؟ ولا يكفي مجرد انسياق المعنى الاصطلاحي مع سياق
الآية لنحمل كلمة التأويل فيها عليه.

(1) يونس: 39.
(2) يوسف: 6.
(3) الاسراء: 35، والكهف: 78.
229

وملاحظة ما عدا الآية الأولى من الآيات التي جاءت فيها كلمة التأويل تدل
على أنها كانت تستعمل في القرآن الكريم بمعنى آخر غير التفسير، ولا نملك دليلا
على أنها استعملت بمعنى التفسير في مورد ما من القرآن.
والمعنى الذي يناسب تلك الآيات هو ان يكون المراد بتأويل الشئ هو ما
يؤول وينتهي إليه في الخارج والحقيقة، كما تدل عليه مادة الكلمة نفسها، ولهذا
أضيف التأويل إلى الرد إلى الله والرسول تارة، والى الكتاب أخرى، والى الرؤيا،
والى الوزن بالقسطاس المستقيم.
وهذا نفسه هو المراد - كما عرفنا سابقا - من كلمة التأويل في الآية الأولى التي
أضيف فيها التأويل إلى الآيات المتشابهة في قوله تعالى: (.... فأما الذين في
قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله...) (1)، فتأويل الآيات
المتشابهة ليس بمعنى بيان مدلولها وتفسير معانيها اللغوية، بل هو ما تؤول إليه
تلك المعاني، لان كل معنى عام حين يريد العقل ان يحدده ويجسده ويصوره في
صورة معينة، فهذه الصورة المعينة هي تأويل ذلك المعنى العام.
وعلى هذا الأساس يكون معنى التأويل في هذه الآية هو ما أطلقنا عليه اسم
تفسير المعنى، لان الذين في قلوبهم زيغ كانوا يحاولون أن يحددوا صورة معينة
لمفاهيم الآيات المتشابهة إثارة للفتنة، لان كثيرا من الآيات المتشابهة تتعلق
معانيها بعوالم الغيب، فتكون محاولة تحديد تلك المعاني وتجسيدها في صورة ذهنية
خاصة - مادية أو منسجمة مع هوى ورأي المؤول - عرضة للخطر وللفتنة.
ونستخلص من ذلك أمرين:
أحدهما: التأويل جاء في القرآن بمعنى ما يؤول إليه الشئ لا بمعنى التفسير،
وقد استخدم بهذا المعنى للدلالة على تفسير المعنى لا تفسير اللفظ، اي على تجسيد

(1) آل عمران: 7.
230

المعنى العام في صورة ذهنية معينة.
والاخر: ان اختصاص الله سبحانه والراسخين في العلم بالعلم بتأويل الآيات
المتشابهة لا يعني أن الآيات المتشابهة ليس لها معنى مفهوم، وان الله وحده الذي
يعلم بمدلول اللفظ وتفسيره، بل يعني أن الله وحده الذي يعلم بالواقع الذي تشير
إليه تلك المعاني، ويستوعب حدوده وكنهه. وأما معنى اللفظ في الآية المتشابهة
فهو مفهوم بدليل أن القرآن يتحدث عن اتباع مرضى القلوب للآية المتشابهة، فلو
لم يكن لها معنى مفهوم لما صدق لفظ (الاتباع) هنا، فما دامت الآية المتشابهة يمكن
ان تتبع فمن الطبيعي ان يكون لها معنى مفهوم، وكيف لا يكون لها معنى مفهوم
وهي جزء من القرآن الذي أنزل لهداية الناس وتبيان كل شئ!
والواقع أن عدم التمييز بين تفسير اللفظ وتفسير معنى اللفظ هو الذي أدى إلى
الاعتقاد بأن التأويل المخصوص علمه بالله هو تفسير اللفظ ومن ثم إلى القول بأن
قسما من الآيات ليس لها معنى مفهوم، لان تأويلها مخصوص بالله، ونحن إذا
ميزنا بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى نستطيع أن نعرف أن المخصوص بالله هو
تأويل الآيات المتشابهة، بمعنى تفسير معانيها لا تفسير ألفاظها.
وهكذا يمكننا في هذا الضوء ان نضيف إلى المعاني الاصطلاحية التي مرت
بكلمة التأويل معنى آخر يمكن استنباطه من القرآن الكريم هو: تفسير معنى
اللفظ، والبحث عن استيعاب ما يؤول إليه المفهوم العام، ويتجسد به من صورة
ومصداق.
231

التدبر والتفسير بالرأي:
ومن خلال هذا الفهم للتفسير والخلفية الذهنية التي يجب أن يتمتع بها المفسر،
يمكن أن نميز بين التفسير الصحيح، الذي يعتمد على القرآن الكريم والسنة النبوية،
والذي يمكن ان نسميه عملية (التدبر)، وبين التفسير الباطل الذي يطلق عليه اسم
التفسير بالرأي.
وهذا الموضوع من القضايا ذات البعد التأريخي، الذي يرجع إلى عهد
الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله) النهي عن التفسير بالرأي، فعنه (صلى الله عليه وآله):
" من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " (1).
ولعل الآية الكريمة: (... فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء
الفتنة...) (2) تشير إلى أحد مصاديق هذا النوع من التفسير أيضا.
أضافة إلى عدد كبير من الأحاديث الواردة عن المعصوم (عليه السلام) والمروية عن
طرق الفريقين، والتي تدل على هذا المعنى (3).

(1) أخرجه الترمذي 11: 67 بألفاظ مختلفة عن ابن عباس، ورواه الصدوق في الغنية في
حديث طويل عن النبي (صلى الله عليه وآله) بلفظ آخر.
وقد أورد الحر العاملي في كتابه المعروف " وسائل الشيعة " مجموعة من الأحاديث
في الجزء 18، الباب 13، من أبواب صفات القاضي، منها الحديث القدسي: " ما آمن
بي من فسر كلامي برأيه " الحديث 28، و " من فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله
الكذب " الحديث 37، و " من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ فقد خر
أبعد من السماء " الحديث 66. وأحاديث عديدة أخرى.
(2) آل عمران: 7.
(3) تناول علماء الأصول هذا البحث بشكل مفصل مرتبطا مع موضوع آخر في بحث
(حجية الظاهر).
ولعل أفضل من تناول هذا البحث هو استاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) من المتأخرين، كما
جاء في تقريراته التي كتبها الحجة السيد محمود الهاشمي حفظه الله.
وقد تناولناه هنا مختصرا وبالمقدار الذي يناسب البحث.
232

ومن أجل توضيح المقصود من التفسير بالرأي الذي يعتبر أمرا مهما يحسن بنا
أن نبحث هذا الموضوع.
وهناك احتمالات ثلاثة في معنى (التفسير بالرأي) الذي يكون موضوعا لذاك
النهي الوارد عن المعصوم (عليه السلام) في روايات متواترة في مضمونها (بالتواتر
الاجمالي) ولا بد من تمحيصها، وهذه الاحتمالات الثلاثة هي:
الأول: أن المراد من التفسير بالرأي هو أن يفسر الانسان النص القرآني
اعتمادا على رأيه وذوقه الشخصي، في مقابل الفهم العام للقرآن المتمثل بالظهور
العرفي والذي يعتمد على القرائن السابقة.
وتوضيح ذلك: أن علماء الأصول يذكرون أن ظهور الكلام يمكن ان يكون
على نحوين:
أحدهما: (الظهور النوعي): وهو ان يكون ظهور الكلام ظهورا قائما لدى العرف
العام ويفهمه (نوع الناس) وعامة الناس.
والاخر: (الظهور الشخصي): وهو الفهم الذي يختص به شخص ما من الناس
والذي يعتمد عادة على الظروف الذهنية والنفسية والذوقية لذاك الانسان، حيث
تجعله تحت تأثيرات معينة بحيث يفهم من الكلام معنى خاصا لا يفهمه غيره من
الناس.
وهذا النحو من الفهم للقرآن الكريم وهو الفهم الشخصي له والمعتمد على
الظهور الشخصي لدى المفسر هو تفسير للقرآن بالرأي وهو التفسير المنهي عنه،
مثل تفسير المتصوفة أو بعض أصحاب العقائد الفاسدة الذين لهم ذهنيات
ومصطلحات خاصة تكونت ضمن ثقافتهم، ويفسرون القرآن على أساس تلك
التصورات والمصطلحات.
233

وهذا النحو من التفسير يختلف تماما عن فهم القرآن وتفسيره اعتمادا على
الخلفية الذهنية والعقائدية الصحيحة للمفسر، لان هذا التفسير تفسير معتمد على
رأي شخصي ووفق ظروف الشخص وأوضاعه، وأما ذلك فهو رأي وفهم للقرآن
الكريم بقرينة العقيدة الصحيحة المأخوذة من القرآن ذاته، كما ذكرنا سابقا.
الثاني: أن يكون النهي الوارد على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) عن التفسير بالرأي هو
معالجة لظاهرة برزت في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) في تفسير القرآن وبشكل محدد، ثم
تطورت وبشكل واسع حتى تكونت على أساسها مدارس في المجتمع الاسلامي.
حيث ورد النهي آنذاك عن البحث في تفسير الآيات العقائدية أو التأريخية
تأثرا بالديانات السابقة، وفلسفاتها وتأريخها كاليهودية والنصرانية والبوذية
وغيرها، الامر الذي أدى إلى ابتعاد بعض المسلمين عن المفاهيم القرآنية.
ونتيجة لذلك، فقد حاول بعض المسلمين الأوائل ان يفرضوا مثل هذه الآراء
على القرآن، ويفسروا بها على خلاف مضمونه ومعناه الصحيح، متأثرين في ذلك
بالمتبنيات الذهنية والفكرية والعقائدية المسبقة على القرآن: (... وقد كان فريق
منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه...) (1).
(... يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به...) (2).
ولا شك أن هذا النوع من التفسير يختلف عن تفسير القرآن على أساس
العقائد المستنبطة من القرآن نفسه.
الثالث: وهو المعنى الذي ينسجم مع معنى (الرأي) في (مدرسة الرأي) في
الفقه الاسلامي، ففي الفقه الاسلامي يوجد اتجاهان في (الاستنباط):
أحدهما: الاتجاه الذي يعتمد في الاستنباط وفهم الحكم الشرعي على القرآن

(1) البقرة: 75.
(2) المائدة: 13.
234

وسنة المعصوم (عليه السلام) باعتبارهما المصدرين الأساسيين، واليهما يرجع (العقل) و
(الاجماع) أيضا.
والاخر: اعتماد الفقيه في استنباط الحكم الشرعي - إذا لم يجد نصا يدل عليه في
الكتاب والسنة - على (الاجتهاد) و (الرأي) بدلا من النص، و (الاجتهاد) هنا
يعني الرأي الشخصي للفقيه، مثل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها.
وحينئذ يكون (الاجتهاد) دليلا من أدلة الفقه ومصدرا من مصادره، إضافة
إلى الكتاب والسنة.
وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وقامت منذ
أواسط القرن الثاني مدرسة فقهية كبيرة كانت تحمل اسم مدرسة (الرأي
والاجتهاد)، حيث إنه لم يصح لدى أبي حنيفة صاحب هذه الدروس إلا عدد
محدود من الأحاديث قيل: إنها دون العشرين.
وقد انتقد الأئمة (عليهم السلام) هذه المدرسة واتجاهها انتقادا شديدا، وقد يشكل هذا
الانتقاد الشديد للأئمة (عليهم السلام) قرينة على أن المراد من (التفسير بالرأي) المنهي عنه
هو (الرأي) في هذه المدرسة باعتبار أنها تشكل اتجاها خطيرا في الفكر
الاسلامي، لا من ناحية النتائج التي انتهت إليها فقهيا فقط، وانما باعتبار الاتجاه
والطريق الخاطئ الذي انتهجته في عملية الاستنباط والمعتمد بالأساس على
القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وما أشبه ذلك من قضايا مرجعها إلى
الرأي، والتي تنتهي في نهاية المطاف إلى انحراف خطير في فهم القرآن والسنة (1).

(1) وهذه النتائج الخطرة هي التي انتهت بعد ذلك إلى سد باب الاجتهاد في تلك المدارس
نفسها، حيث لم يكن خط الانحراف واضحا في البداية، ولكن عندما امتد الزمن بنشاط
هذه المدرسة أصبح من الواضح مقدار ما تسببه هذه المدرسة من المشاكل والانحراف
عن المنهج الاسلامي الأصيل في الفقه.
235

وعلى هذا الأساس كان النقد الذي وجهه أهل البيت إلى هذا الاتجاه أكبر من
نقد المذاهب الفقهية الأخرى، والتي لم تلتزم بهذا الطريق الخطير في عملية
الاستنباط وان كانت نتائجها غير صحيحة أيضا.
وحينئذ قد يراد من التفسير بالرأي هذ النوع من الرأي هو الاعتماد في فهم
المضامين القرآنية على الذوق والاستحسان فيرى أن هذا النوع من المضمون هو
الأقرب إلى النفس أكثر من غيره.
وفرق هذا الرأي عن الرأي الأول، هو أن الحالة الذاتية كان لها دور في فهم
(تفسير اللفظ) في الرأي الأول، بينما كان لها دور في فهم و (تفسير المعنى،
وتشخيص المصداق) بناء على هذا الرأي.
وعلى هذا الأساس نجد أن الكثير من المفسرين وقع في خطأ حينما فسروا بعض
مفاهيم القرآن، متأثرين بكثير من القضايا الغربية التي أنشأت في أنفسهم
استحسانات معينة، ففسروا آية الشورى مثلا تفسيرا يجعل مفهوم الشورى في
الاسلام مفهوما مطابقا لمفهوم (الديمقراطية) أو الانتخابات البرلمانية الغربية، وهكذا.
إن هذا النوع من الاستحسان والقياس والاعتماد على الجانب الشخصي في
تفسير (المعنى) هو في الواقع من تفسير القرآن بالرأي، ومن ثم يكون واقعا في
طريق النهي الوارد بخصوص التفسير بالرأي.
وهذا الاحتمال الثالث لا يكون متضاربا مع ما ذكرناه من صحة تفسير القرآن
اعتمادا على الخلفية العقائدية الصحيحة، لان هذه العملية ليست عملية استحسان
وقياس، وانما هي تصورات عقائدية مأخوذة من القرآن الكريم ومفاهيمه.
وقد حاول بعض المفسرين ان يعطي لقضية (التفسير بالرأي) ومفهوم
(الرأي) دائرة أوسع، بحيث تشمل كل جهد يمارسه الانسان الباحث والمفسر
العالم في فهمه للقرآن الكريم، ويفترض بأن هذه النتائج هي (رأي)، لأنه انتهى
236

إليه من خلال جهده ونظره ومن ثم يكون مصداقا لذلك الحديث: " من فسر
القرآن برأيه فقد هوى ".
وبهذه الطريقة يحاول هذا (البعض) أن يعطل البحث في القرآن الكريم
وتفسيره، ويقول بأن الشئ الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في تفسير القرآن
الكريم انما هو النصوص الواردة عن المعصومين (عليهم السلام).
وقد أكد هذا الاتجاه بعض النصوص المروية عن أهل البيت والتي حاول أن
يفهمها أصحاب هذا الاتجاه على أنها تمنع من ممارسة التفسير ما لم يعتمد على
النصوص الواردة عن المعصومين (1).
ولعل من الآثار التي تركها وجود هذا النوع من التفكير في مدرسة أهل
البيت (عليهم السلام) هو: عدم تطور حركة التفسير في هذه المدرسة تطورا يناسب التطورات
المهمة في المجالات الأخرى لهذه المدرسة المعطاءة ذات المستوى العالي، والذي
يمكن ملاحظته من خلال ما وصلت إليه بحوث علم الفقه والحديث والأصول

(1) البحث حول هذه النصوص يتم عادة في علم الأصول تحت عنوان " حجية ظواهر
القرآن " وهناك يستدل بشكل واضح على عدم صحة استنباط هذا المعنى من هذه
النصوص، وكنموذج لها قال أبو عبد الله في رسالة: " فأما ما سألت عن القرآن فذلك
أيضا من خطراتك المتفاوتة... فليس يعلم ذلك ابدا ولا يوجد... " وسائل الشيعة 18:
141 الحديث 38، باب 13، من أبواب صفات القاضي.
مع أن أئمة أهل البيت أوضحوا ذلك في نصوص أخرى منها عن أبي جعفر (عليه السلام) أن رجلا
قال له أنت الذي تقول: ليس شئ من كتاب الله إلا معروف، قال: ليس هكذا قلت، إنما
قلت: ليس شئ من كتاب الله إلا عليه دليل ناطق عن الله في كتابه مما لا يعلمه الناس، إلى أن
قال: " إن للقرآن ظاهرا، وباطنا، ومعاينا، وناسخا، ومنسوخا، ومحكما، ومتشابها،
وسننا، وأمثالا، وفصلا، ووصلا، وأحرفا، وتصريفا، فمن زعم أن الكتاب مبهم فقد هلك
وأهلك... " وسائل الشيعة 18: 141 الحديث 39، الباب 13، من أبواب صفات القاضي.
237

والكلام فيها بل بقي التفسير فيها مواكبا للحركة العامة للتفسير لدى المسلمين.
إلا أن هذا الفهم للتفسير بالرأي فهم خاطئ، وهناك مجموعة من الأدلة والبراهين
تشير إلى عدم صحته، كما أن هناك طريقين يمكن اتباعهما لاثبات ذلك، وهما:
اولا: البحث في الروايات والنصوص الواردة في موضوع التفسير بالرأي
تفصيلا، حيث نتوصل من خلال ذلك إلى أن ما ذكر فيها لا ينطبق على هذا
المفهوم الواسع المذكور للتفسير بالرأي، وهذا البحث نؤجله إلى بحث المحكم
والمتشابه في الأبحاث التفسيرية.
ثانيا: إن يتم من خلال الرجوع إلى مجموعة القرائن والأدلة والشواهد
الموجودة في الكتاب والسنة الشريفة، مما لا يمكن ان ينسجم مع افتراض أن
يكون (الرأي) المقصود بهذه الروايات هو هذا المعنى (الواسع) الشامل لحالة
الجهد الشخصي الذي يتخذ مسيرا صحيحا، وينتهي إلى رأي تفسيري معين،
حتى وإن لم يكن هذا التفسير مرتبطا بالرواية عن المعصومين (عليهم السلام)، ومن هذه
القرائن والأدلة ما يلي:
الدليل الأول: ما ورد من الآيات القرآنية المؤكدة: أن القرآن الكريم قد نزل
بلسان عربي مبين، وأنه نور وهدى للعالمين، وأنه فيه تبيان كل شئ كقوله تعالى:
(... لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (1).
(... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) (2).
(وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن
جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي إلى صراط مستقيم) (3).

(1) النحل: 103.
(2) المائدة: 15.
(3) الشورى: 52.
238

(ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (1).
(... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ...) (2).
فان هذه الآيات وآيات كثيرة وإن جاءت بأساليب ومضامين متعددة، كلها
تصب في مصب واحد، هو: أن القرآن الكريم وبحسب طبيعته يمكن ان يتفاعل
معه الانسان العادي، ويشكل القرآن حينئذ مصدر الهداية ويكون تبيانا لكل
شئ، مما يدل على امكانية فهم الكثير من المضامين والمعاني والهداية والنور
الموجود فيه، وبشكل مباشر، ولا يكون هذا الفهم من التفسير بالرأي حتى إذا
كان بدون الاستناد إلى رواية أو حديث معين، وانما نتيجة لجهد
الانسان الشخصي من خلال مراجعته لمجموعة المعلومات والقرائن المتوفرة
عنده.
وتأكيد القرآن: أنه (... لسان عربي مبين) (3) يؤكد هذه الحقيقة، إذ إن هذه
الإبانة لا يمكن ان تفترض في كتاب لا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى الروايات
الموجودة في كتب الحديث، لان الإبانة حينئذ لا تكون - في الواقع - إبانة للقرآن
الكريم، بل للأحاديث وهي التي ستكون (المبين)، وهذا هو خلاف الافتراض في
أن القرآن بنفسه فيه حالة الإبانة والتوضيح والهداية.
خصوصا وأن هذه الإبانة أحيانا تنسب إلى النص القرآني من قبيل قوله
تعالى: (لسان عربي) واللسان يعبر عن حالة النص والجانب المرتبط باللفظ لا
الجانب المرتبط بالمضمون.
ولذا فلا مجال لادعاء أن هذا المضمون القرآني لا نفهمه إلا من خلال الروايات

(1) البقرة: 2.
(2) النحل: 89.
(3) النحل: 103.
239

عن الأئمة (عليهم السلام)، وحينئذ يكون مبينا بعد فهمه من خلال الروايات.
الدليل الثاني: وهو ما ورد في آيات الحث على التدبر والتأمل، وفهم القرآن
وأخذ معانيه والاهتداء بهديه، كقوله تعالى:
(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (1).
(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر اولوا الألباب) (2).
(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (3).
إن هذه الآيات تختلف عن تلك الآيات التي تشير إلى وجود النور والهدى في
القرآن الكريم، لاحتوائها على أمر المسلمين بالتدبر والتفكر في معاني ومفاهيم
القرآن.
ومثل هذه الأوامر تكون أوامر لا فائدة منها لو فرضنا بأن القرآن الكريم لا
يمكن أن يفهم مباشرة، إلا بالاستعانة بالروايات والأحاديث الشريفة، خصوصا
وأن هذه الروايات لم تأت إلا في عصور متأخرة.
الدليل الثالث: هي الروايات المتواترة عن الأئمة (عليهم السلام) والتي وردت في طلب
عرض أخبارهم، وكذلك الشروط التي تشترط في (العقود) و (المعاملات) على
القرآن، من أجل التعرف على أن مضمون هذا الشرط أو الخبر هل هو منسجم مع
الشريعة أم لا؟ فعن الصادق (عليه السلام): " ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو
زخرف " (4).
وعنه (عليه السلام): " الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل

(1) محمد: 24.
(2) ص: 29.
(3) النساء: 82.
(4) وسائل الشيعة 18: 78 الباب 9، أبواب صفات القاضي الحديث: 12.
240

حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب
الله فدعوه " (1).
" وكل شرط خالف كتاب الله فهو رد " (2).
" فإذا كان شرط يخالف كتاب الله فهو رد إلى كتاب الله عز وجل " (3).
بحيث جعلوا (عليهم السلام) القرآن الكريم ميزانا وفرقانا لمعرفة الشرط الصحيح من
غيره والأخبار الصحيحة (مضمونا) من غيرها.
وهذا لا يمكن أن يتم إلا بافتراض إمكانية فهم النص القرآني والتفاعل معه
بشكل مباشر، وافتراض صحة هذا التعامل والنتائج التي يتوصل إليها حتى وإن
احتيج في هذا إلى إعمال نظر وبذل وجهد، كما أن في هذا الامر دلالة على أن
الروايات نفسها تحتاج إلى أن يؤيد النص القرآني مضامينها، فكيف يمكن حصر
طريق فهم النص القرآني بها فقط؟!
وهذا الامر من الأمور الواضحة جدا عند مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بل عند
المسلمين جميعا.
والدليل الرابع: هو السيرة الواضحة والمتواترة للأئمة (عليهم السلام) في تعليمهم
المسلمين في أن يأخذوا من القرآن الكريم مباشرة.
فقد ورد في كثير من أحاديث الأئمة (عليهم السلام) استشهادهم على الاحكام التي
يصدرونها بآية قرآنية، مما يدل على إمكانية فهم هذا الحكم وبشكل مباشر من
الآية القرآنية، إذ لو كان النص القرآني مغلقا لما كان لهذا الاستشهاد معنى، ولكان
على الإمام (عليه السلام) ان يقول: أنا أفهم من الآية هكذا...

(1) المصدر السابق: حديث 35.
(2) وسائل الشيعة 13: 43 الباب 15 من أبواب بيع الحيوان الحديث 1.
(3) المصدر السابق: 165 الباب 4 من أبواب الصلح الحديث 1.
241

فقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثلا: " يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز
وجل (... وما جعل عليكم في الدين من حرج...) " (1).
فقد استشهد الإمام (عليه السلام) بهذه الآية في مقام استنباط حكم شرعي من قاعدة
كلية وهي قاعدة (لا حرج).
وقد علم الإمام (عليه السلام) السائل كيف يستنبط هذا (الحكم) من تلك (القاعدة) الكلية.
وهذا معناه أن الآية المباركة: (... وما جعل عليكم في الدين من حرج...)
يمكن أن يفهمها هذا الانسان وبشكل مباشر، مما يدل على صحة فهم المعنى من
النص القرآني مباشرة، وان اعتمد على جهد الباحث.
وخلاصة القول: أن (التفسير بالرأي) المنهي عنه قد يشتمل على أحد
الاحتمالات الثلاثة المذكورة سابقا، وليس لهذا علاقة بقضية التدبر في القرآن
وفهم معانيه، والتي تؤدي بالانسان إلى الهداية والى الصراط المستقيم (2)، الامر
الذي أمر القرآن الكريم نفسه بهذا التدبر، كما قرأناه في الآيات السابقة.
المفسر (3):
الشروط التي يجب توفرها في المفسر:
والتفسير بوصفه علما تتوقف ممارسته على شروط كثيرة لا يمكن بدونها ان

(1) وسائل الشيعة 1: 327 الباب 39 من أبواب الطهارة الحديث 5 (الحج: 78).
(2) لا يعني هذا الكلام الاستغناء عن أحاديث النبي وأهل البيت التي وردت في التفسير،
حيث يمكن أن تشكل تلك الأحاديث قرينة منفصلة شأنها في ذلك شأن القرائن
الأخرى، ولا بد من معرفتها ليمكن فهم القرآن بشكل كامل، ولكن لا يعني ذلك أيضا
أننا لا يمكن ان نفهم القرآن إلا من خلال الرواية.
(3) كتبه الشهيد الصدر.
242

ينجح البحث في القرآن ويوفق المفسر في مهمته، ويمكن ان نلخص تلك الشروط
في الأمور الأربعة التالية:
1 - يجب على المفسر أن يدرس القرآن ويفسره بذهنية (اسلامية) أي: ضمن
الاطار الاسلامي للتفكير، فيقيم بحوثه دائما على أساس أن القرآن كتاب الهي،
انزل للهداية وبناء الانسانية بأفضل طريقة ممكنة، ولا يخضع للعوامل والظروف
والمؤثرات التي يخضع لها النتاج البشري في مختلف حقول المعرفة الانسانية، فان
هذا الأساس هو الأساس الوحيد لامكان فهم القرآن وتفسير ظواهره بطريقة
صحيحة.
واما حين يستعمل المفسر في دراسة القرآن نفس المقاييس التي يدرس في
ضوئها أي كتاب دعوى أخرى أو أي نتاج بشري، فهو يقع نتيجة لذلك في
أخطاء كبيرة واستنتاجات خاطئة، كما يتفق ذلك لبحوث المستشرقين الذين
يدرسون القرآن في ضوء نفس المقاييس التي يدرسون بها أي ظاهرة من ظواهر
المجتمع التي تنشأ فيه، وترتبط بمؤثراته وعوامله وتتكيف بموجبها.
وهذا الشرط تفرضه طبيعة الموقف العلمي، لان المفهوم الذي يكونه المفسر
عن القرآن ككل يشكل القاعدة الأساسية لفهم تفصيلاته، ودرس مختلف
جوانبه، فلا بد أن يبنى التفسير على قاعدة سليمة ومفهوم صحيح عن القرآن،
يتفق مع الاطار الاسلامي للتفكير، لكي يتجه اتجاها صحيحا في الشرح
والتحليل، وأما إذا أقيم التفسير على أساس تقييم خاطئ للقرآن ومفهوم غير
صحيح عنه، فسوف ينعكس انحراف القاعدة على التفصيلات، ويفرض على
اتجاه البحث انحرافا في التحليل والاستنتاج.
وفيما يلي نذكر بعض الأمثلة التي يتجلى فيها مدى الفرق في الاتجاه بين دراسة
القرآن بوصفه كتابا الهيا للهداية، ودراسته بوصفه ظاهرة في مجتمع تتأثر به
243

وتتفاعل مع عوامله ومؤثراته، وكيف تنعكس القاعدة التي يقام على أساسها
التفسير في التفصيلات وطريقة التحليل والاستنتاج؟
أ - ففي اقرار القرآن لعدد من الأعراف وألوان من السلوك التي كانت سائدة
بين العرب قبل بزوغ نور الرسالة الجديدة، قد يخيل لمن ينطلق من قاعدة خاطئة
ويحاول أن يفسر القرآن بمقاييس غيره من منتجات الأرض أن ذلك الاقرار يعبر
عن تأثر القرآن بالمجتمع الذي وجد فيه، ولكن هذا التفسير لا معنى له حين ننطلق
من القاعدة الصحيحة، ونفهم القرآن الكريم بوصفه كتابا الهيا للهداية وبناء
الانسانية، بالصورة التي تعيد إليها فطرتها النقية، وتوجهها نحو أهدافها الحقيقية
الكبرى.
بل نستطيع على أساس هذه القاعدة الصحيحة ان نفهم ذلك الاقرار من القرآن
فهما صحيحا، إذ ليس من الضروري لكتاب هداية من هذا القبيل ان يشجب كل
الوضع الذي كانت الانسانية عليه قبله، لان الانسانية مهما تفسد وتنحرف عن
طريق الفطرة والأهداف الحقيقية الكبرى فهي لا تفسد كلها، بل تبقى في العادة
جوانب صالحة في حياة الانسانية تمثل فطرة الانسان أو تجاربه الخيرة، فمن
الطبيعي للقرآن ان يقر بعض الجوانب ويشجب أكثر الجوانب في عملية التغيير
العظيم التي مارسها، وحتى هذ الذي أقره وضعه في إطاره الخاص وربطه بأصوله
وقطع صلته بالجاهلية وجذورها.
ب - وفي تدرج القرآن الكريم في التشريع، قد يخيل لمن ينطلق من القاعدة
الخاطئة التي تقول ببشرية القرآن يرتبط بطبيعة عملية البناء التي يمارسها القرآن،
لان القرآن لم ينزل ليكون كتابا علميا يدرسه العلماء، وانما نزل لتغيير الانسانية
وبنائها من جديد على أفضل الأسس، وعملية التغيير تتطلب التدرج.
ج - وفي القرآن الكريم نجد كثيرا من التشريعات والمفاهيم الحضارية التي
244

كانت متبناة من قبل الشرائع السماوية الأخرى كاليهودية والنصرانية. وقد يخيل
لمن يدرس القرآن على أساس القاعدة الخاطئة بأن القرآن قد تأثر وانفعل في ذلك
بهذه الأديان، فانعكس هذا الانفصال ومن ثم على القرآن نفسه.
ولكن الواقع - وعلى أساس المفهوم الصحيح - أن القرآن يمثل الاسلام الذي
هو امتداد لرسالات السماء وخاتمها، ومن الطبيعي ان تشتمل الرسالة الخاتمة على
الكثير مما احتوته الرسالات السماوية السابقة، وتنسخ الجوانب التي لا تتلائم مع
التطورات النفسية والفكرية والاجتماعية للمرحلة التي وصل إليها الانسان بشكل
عام، لان مصدر الرسالات هذه كلها واحد وهو الله سبحانه.
خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار ايمان الاسلام بهذه الوحدة في مصدر
الرسالات وتأكيده إياها.
2 - وبعد سلامة القاعدة الأساسية في فهم القرآن وتقييمه يجب ان يتوفر في
المفسر مستوى رفيع من الاطلاع على اللغة العربية ونظامها، لان القرآن جاء
وفق هذا النظام، فإذا لم تكن لدينا صورة عن النظام العام للغة العربية لا نستطيع
أن نستوعب معاني القرآن، فيحتاج المفسر إلى الاطلاع على علم النحو،
والصرف، والمعاني، والبيان، وغيرها من العلوم العربية، والقدر اللازم توفره من
هذا الشرط يختلف باختلاف الجوانب التي يريد المفسر معالجتها من القرآن
الكريم، فحين يريد ان يدرس فقه القرآن مثلا، لا يحتاج التعمق في أسرار اللغة
العربية بالدرجة التي يحتاجها المفسر إذا أراد أن يدرس الفن القصصي في القرآن،
أو المجاز في القرآن مثلا.
3 - ولا بد للمفسر ان يحاول إلى أكبر درجة ممكنة الاندماج كليا في القرآن
عند تفسيره، ونقصد بالاندماج في القرآن أن يدرس النص القرآني ويستوحي
معناه دون تقييد مسبق باتجاه معين غير مستوحى من القرآن نفسه، كما يصنع
245

كثير من أصحاب المذاهب الذين يحاولون في تفسيرهم اخضاع النص القرآني
لعقائدهم، فلا يدرسون النص ليكتشفوا اتجاهه بل يفرضون عليه اتجاههم
المذهبي، ويحاولون فهمه دائما ضمن إطارهم العقائدي الخاص، وهذا ليس
تفسيرا وانما هو محاولة توجيه للمذهب وتوفيق بينه وبين النص القرآني، ولهذا
كان من أهم الشروط في المفسر ان يكون على درجة من التحرر الفكري تتيح له
الاندماج بالقرآن، وجعله قاعدة لتكوين أي اطار مذهبي بدلا من جعل الاتجاه
المذهبي المحدد قاعدة لفهم القرآن.
4 - وأخيرا لا بد للمفسر من منهج عام للتفسير، يحدد فيه عن اجتهاد علمي
طريقته في التفسير، ووسائل الاثبات التي يستعملها، ومدى اعتماده على ظهور
اللفظ وعلى نصوص السنة، وعلى اخبار الآحاد، وعلى القرائن العقلية في تفسير
النص القرآني، لان في كل واحد من هذه الأمور خلافا علميا، ووجهات نظر
عديدة، فلا يمكن ممارسة التفسير دون أن تدرس تلك الخلافات درسا دقيقا،
والخروج من هذه الدراسة بوجهات نظر معينة تؤلف المنهج العام للمفسر، الذي
يسير عليه تفسيره. ولما كانت تلك الخلافات تتصل بجوانب من الأصول والكلام
والرجال وغيرها كان لزاما على المفسر لدى وضعه للمنهج ودراسته لتلك
الخلافات ان يكون ملما إلماما كافيا بتلك العلوم.
246

التفسير في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) (1)
بالرغم من أن القرآن الكريم تميز بأسلوب فريد في اللغة العربية، وصل به إلى
مستوى الاعجاز ولكنه جاء أيضا وفقا للنظام العام للغة العربية، وتطبيقا
لقواعدها ومناهجها في التعبير، ومتفقا مع الذوق العربي العام في فنون الحديث،
وعلى هذا الأساس كان يحظى بفهم اجمالي من معاصري الوحي - على وجه
العموم - ولأجل ذلك كان البيان القرآني يأخذ بألباب المشركين، ويفتح قلوبهم
للنور، وكثيرا ما اتفق للشخص أن يستجيب للدعوة، ويشرح الله صدره للاسلام
بمجرد أن يسمع عدة آيات من القرآن، فلولا وجود فهم اجمالي عام للقرآن لم
يكن بالامكان أن يحقق القرآن هذا التأثير العظيم السريع في نفوس الافراد،
الذين عاشوا البيئة الجاهلية وظلامها.
ولكن هذا لا يعني أن معاصري الوحي، وقتئذ كانوا يفهمون القرآن كله فهما
كاملا شاملا من ناحية المفردات والتراكيب، بنحو يتيح لهم أن يحددوا المدلول
اللفظي لسائر الكلمات والجمل والمقاطع التي اشتمل عليها القرآن الكريم، كما
زعم ابن خلدون حيث قال في مقدمته: " إن القرآن نزل بلغة العرب وعلى
أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه، في مفرداته وتراكيبه ".
فان نزول القرآن بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم لا يكفي وحده دليلا على
أنهم كانوا - على وجه العموم - يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه،

(1) كتبه الشهيد الصدر.
247

ويدركون كل ما يدل عليه اللفظ القرآني من احكام ومفاهيم، لان كون الشخص
من أبناء لغة معينة لا يعني اطلاعه عليها اطلاعا شاملا، واستيعابه لمفرداتها
وأساليبها في التعبير، وفنونها في القول، وانما يعني فهمه للغة بالقدر الذي يدخل في
حياته الاعتيادية.
ومن ناحية أخرى لا يتوقف فهم الكلام واستيعابه على المعلومات اللغوية
فحسب، بل يتوقف إضافة إلى ذلك على استعداد فكري خاص، ومران عقلي
يتناسب مع مستوى الكلام، ونوع المعاني التي سيق لبيانها، وإذا كان العرب
- وقتئذ - يعيشون حياة جاهلية من القاعدة إلى القمة، ويعبرون عن تراث
جاهلي سيطر على مختلف شؤون حياتهم قرونا عديدة فمن الطبيعي ان لا يتيسر
لهم حين الدخول في الاسلام - بصورة تلقائية - الارتفاع ذهنيا وروحيا إلى
المستوى الذي يتيح لهم استيعاب مدلولات اللفظ القرآني، ومعاني الكتاب الكريم
الذي جاء لهدم الحياة الجاهلية ويقوض أسسها، ويبني الانسان من جديد.
ومن ناحية ثالثة نحن نعرف أن عملية فهم القرآن الكريم لا يكفي فيها النظر
إلى جملة قرآنية أو مقطع قرآني، بل كثيرا ما يحتاج فهم هذا المقطع أو تلك الجملة
إلى مقارنة بغيره، مما جاء في الكتاب الكريم أو إلى تحديد الظروف والملابسات،
وهذه الدراسة المقارنة لها قريحتها، وشروطها الفكرية الخاصة، وراء الفهم اللغوي
الساذج، وهكذا نعرف ان طبيعة الأشياء تدل على أن العرب المعاصرين لنزول
القرآن كانوا يفهمون القرآن فهما اجماليا، وأنهم لم يكونوا على وجه العموم
يفهمونه بصورة تلقائية، فهما تفصيليا يستوعب مفرداته وتراكيبه.
الشواهد على عدم توفر الفهم التفصيلي:
وهذا الذي تدل عليه طبيعة الأشياء أكدته أحاديث ووقائع كثيرة، دلت على
248

أن المعاصرين لرسول الله كانوا كثيرا ما لا يستوعبون النص القرآني ولا يفهمون
معناه، إما لعدم اطلاعهم على مدلول الكلمة القرآنية المفردة من ناحية لغوية، أو
لعدم وجود استعداد فكري يتيح لهم فهم المدلول الكامل، أو لفصل الجملة أو
المقطع القرآني عن الملابسات والأمور التي يجب أن يقرن المقطع القرآني بها لدى
فهمه (1).
واليكم عددا من هذه الأحاديث والوقائع:
1 - عن الحاكم في المستدرك أن أنس قال بينا عمر جالس في أصحابه، إذ تلا
هذه الآية (فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا *
وفاكهة وأبا) (2)، ثم قال هذا: كله عرفناه فما (الأب)؟ قال وفي يده عصية
يضرب بها الأرض، فقال: هذا لعمر الله التكلف، فخذوا أيها الناس بما بين لكم
فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه.
وروي أيضا أن عمر كان على المنبر فقرأ: (أو يأخذهم على تخوف...) (3)
فسأل عن معنى التخوف، فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص.
وجاء عن ابن عباس أنه قال: كنت لا أدري ما فاطر السماوات حتى أتاني
اعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها يقول أنا ابتدأتها.
كما روي عنه في تفسير الطبري أنه سأل ابا الجلد عن معنى البرق في الآية 12
من سورة الرعد، فذكر له أن معناه هنا المطر.
2 - وجاء في تفسير الطبري أن عمر سأل الناس عن هذه الآية (أيود أحدكم

(1) ذكرنا وجود شواهد كثيرة على هذه الحقيقة وردت في كتب الحديث والتفسير، مثل
الطبرسي وصحيح البخاري والمستدرك للحاكم وغيرها.
(2) عبس: 27 - 31.
(3) النحل: 47.
249

ان تكون له جنة من نخيل وأعناب...) (1) فما وجد أحد يشفيه، حتى قال ابن
عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين: إني أجد في نفسي منها شيئا، فتلفت إليه
فقال: تحول ها هنا لم تحقر نفسك؟! قال: هذا مثل ضربه الله عز وجل، فقال أيود
أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتى إذا كان أحوج ما
يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره، واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل
أهل الشقاء فافسده كله فحرقه، وهو أحوج ما يكون إليه.
وعن البخاري: ان عدي بن حاتم لم يفهم معنى قوله تعالى: (وكلوا واشربوا
حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) وبلغ من امره ان اخذ
عقالا اسود فلما كان بعض الليل نظر إليهما فلم يستبينا، فلما أصبح أخبر الرسول
بشأنه فافهمه المراد.
3 - وروي ان عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على
عمر فقال: ان قدامة شرب فسكر. فقال عمر: من يشهد على ما تقول قال
الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول. فقال عمر: يا قدامة، اني جالدك. قال:
والله لو شربت كما يقولون ما كان لك ان تجلدني قال عمر: ولم؟ قال: " ليسر على
الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا
الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا " فانا من اللذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا
وآمنوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله بدرا واحدا والخندق والمشاهد فقال
عمر: ألا تردون عليه قوله فقال ابن عباس: ان هذه الآيات أنزلت عذرا
للماضين وحجة على الباقين، لان الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا انما الخمر
والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان). فقال عمر: صدقت.
فهذه الوقائع تدل على أن بعض الصحابة كثيرا ما كانوا لا يفهمون القرآن

(1) البقرة: 266.
250

بصورة تلقائية، ويحتاجون في فهمه إلى السؤال، والبحث، اما لعدم الاطلاع على
المدلول اللغوي للكلمة كما في القسم الأول، أو لعدم الارتفاع فكريا إلى مستوى
اغراض القرآن ومعانيه كما في القسم الثاني، أو للنظرة التجزيئية التي ورطت
قدامة بن مظعون في فهم خاطئ للآية الكريمة كما في القسم الثالث.
ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدم نقطة أخرى أيضا وهي: أن الآية قد تكون من
الناحية اللغوية في مستوى معلومات الشخص، ولكنه يبقى مع ذلك - عند محاولة
استيعاب المعنى - بحاجة إلى البحث، والسؤال لتعيين المصداق الذي يتجسد فيه
مدلول اللفظة، ففي قوله تعالى: (والفجر * وليال عشر) (1) من الطبيعي ان يعرف
الصحابة جميعا - بحكم نشأتهم العربية - معنى كلمة " ليال " ومعنى كلمة " عشر "،
ولكن يبقى بعد ذلك أن يعرفوا المصداق، وما هي الليالي العشر التي عناها الله
تعالى. وكذلك الامر في قوله تعالى: (والعاديات ضبحا) (2) (والذاريات
ذروا) (3) فالمعرفة باللغة وحدها لا تكفي في هذه المجالات.
وهكذا نستنتج أن المسلمين في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يكن الفهم التفصيلي
للقرآن ميسرا لهم على وجه العموم، بل كانوا في كثير من الأحيان بحاجة إلى
السؤال والبحث والاستيضاح لفهم النص القرآني.
دور الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في التفسير:
وكان من الطبيعي أن يقوم الرسول الأعظم بدور الرائد في التفسير، فكان هو
المفسر الأول يشرح النص القرآني، ويكشف عن أهدافه، ويقرب الناس إلى

(1) الفجر: 1 و 2.
(2) العاديات: 1.
(3) الذاريات: 1.
251

مستواه كلا حسب قابلياته واستعداده الخاص، ويحل للمسلمين ما تعترضهم من
مشاكل في تفهم النص الكريم، وتحديد معطياته وما يلتبس عليهم من احكام
ومفاهيم، لان النبي بوصفه صاحب الرسالة، ومهبط الوحي كان قد أعد اعدادا
الهيا لهذه المهمة كغيرها من مهام الدعوة والرسالة، وتكفل الله تعالى له بالحفظ
والبيان (ان علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه) (1) ولا
يختلف المسلمون في الدور الرائد الذي قام به النبي الأعظم، بوصفه المفسر الأول
للقرآن إلى جانب دوره الرائد في مجال التطبيق لمفاهيم القرآن ونظرته العامة إلى
الكون والحياة.
ولكن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد عادة هو السؤال عن حدود التفسير
الذي مارسه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ومداه، فهل شمل القرآن كله بأن كان يفسر
الآيات تفسيرا شاملا؟ أو اقتصر على جزء منه؟ أو كان يتناول الآيات التي
يستشكل الصحابة في فهمها، ويسألون عن معناها فحسب؟
فهناك من يعتقد أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يفسر إلا آيات من القرآن، ويستند أصحاب
هذا القول في ذلك إلى روايات تنفي ان يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد فسر القرآن كله
تفسيرا شاملا، وعلى رأس هؤلاء السيوطي (2).
فمن تلك الروايات ما أخرجه البزار عن عائشة قال: " ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يفسر... آيا بعدد... " (3).
وأهم ما يعزز هذا القول هو طبيعة الأشياء والواقع المشهود، لان ندرة ما صح
عن الصحابة من التفسير المأثور عن النبي (صلى الله عليه وآله) تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن قد

(1) القيامة: 17 - 19.
(2) الاتقان في علوم القرآن 4: 196، 200 للسيوطي، ط 2، منشورات الرضي - بيدار.
(3) التفسير والمفسرون 1: 51، للذهبي، دار الكتب الحديثة.
252

فسر للصحابة على وجه العموم آيات القرآن جميعا تفسيرا شاملا، وإلا لكثرت
روايات الصحابة عنه بهذا الشأن، ولما وجدنا الكثرة الكاثرة منهم أو كبار
رجالاتهم يتحيرون في معنى آية، أو كلمة من القرآن ويغيب عنهم حتى المدلول
اللفظي للنص، والعبرة المباشرة التي يستهدفها كما سبق في الروايات والوقائع
المتقدمة.
ولكن توجد في مقابل ذلك أدلة وشواهد من القرآن الكريم وغيره تشير إلى
أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقوم بعملية تفسير شامل للقرآن كله، ولعل في طليعة ذلك قوله
تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا، ويزكيكم ويعلمكم الكتاب
والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) (1).
وقوله تعالى: (... وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم
يتفكرون) (2).
وطبيعة الأشياء حين ننظر إليها من زاوية أخرى، غير الزاوية السابقة التي
نظرنا من خلالها في إطار القول الأول تدل على أن النبي قد فسر القرآن تفسيرا
شاملا كاملا لأننا عرفنا:
من ناحية أن الفهم الاجمالي للقرآن لم يكن كافيا، لكي يفهم الصحابة القرآن
فهما شاملا دقيقا، ولم يكن انتساب الصحابة غالبا إلى اللغة العربية ضمانا كافيا
لاستيعاب النص القرآني، وادراك معانيه.
ومن ناحية أخرى نحن نعرف: أن القرآن لم يكن في حياة المسلمين مجرد
نص أدبي أو أشياء ترتل ترتيلا في عباداتهم وطقوسهم، وانما كان الكتاب
الذي انزل لاخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتزكيتهم وتثقيفهم

(1) البقرة: 151.
(2) النحل: 44.
253

والارتفاع بمختلف مستوياتهم، وبناء الشخصية الاسلامية الواعية للفرد والأسرة
والمجتمع.
ومن الواضح أن هذا الدور العظيم لا يمكن للقرآن الكريم أن يؤديه بصورة
كاملة شاملة ما لم يفهم فهما كاملا شاملا، ويصل المسلمون إلى أهدافه ومعانيه،
ويندمجون بمفاهيمه، ومصطلحاته.
وأما إذا ترك القرآن بدون تفسير موجه توجيها رساليا فسوف يفهم من قبل
المسلمين ضمن إطاراتهم الفكرية، وعلى المستوى الثقافي والذهني الذي كان
الناس يعيشونه - وقتئذ - وتتحكم في تفسيره كل الرواسب، والمسبقات الذهنية
التي كانت لا تزال تتحكم في كثير من الأذهان.
وهكذا نجد أنفسنا امام تناقض بين قولين لكل منهما شواهده ومعززاته،
ويحتاج هذا التناقض إلى حل.
وقد لا نجد حلا منطقيا أقرب إلى القبول من القول: بأن النبي (صلى الله عليه وآله) فسر القرآن
الكريم على مستويين:
فقد كان يفسره على (المستوى العام) في حدود الحاجة، ومتطلبات الموقف
الفعلي، ولهذا لم يستوعب القرآن كله.
وكان يفسره على مستوى خاص تفسيرا شاملا كاملا بقصد إيجاد من يحمل
تراث القرآن، ويندمج به اندماجا مطلقا بالدرجة التي تتيح له أن يكون مرجعا
بعد ذلك في فهم الأمة للقرآن، وضمانا لعدم تأثر الأمة في فهمها بإطارات فكرية
خاصة ومسبقات ذهنية، أو رواسب جاهلية.
ونحن إذا فسرنا الموقف في هذا الضوء، وجدنا أنه يتفق مع طبيعة الأشياء من
كل ناحية.
فندرة ما صح عن الصحابة من الروايات عن النبي (صلى الله عليه وآله) في التفسير مردها إلى
254

أن التفسير على (المستوى العام) لم يكن يتناول جميع الآيات، بل كان يقتصر
على قدر الحاجة الفعلية.
ومسؤولية النبي (صلى الله عليه وآله) في ضمان فهم الأمة للقرآن، وصيانته من الانحراف يعبر
عنها (المستوى الخاص) الذي مارسه من التفسير، فقد كان لا بد للضمان من هذا
المستوى الخاص، ولا يكفي المستوى العام لحصول هذا الضمان حتى لو جاء
التفسير مستوعبا، لأنه يجئ عندئذ متفرقا ولا يحصل الاندماج المطلق، الذي هو
شرط ضروري لحمل أمانة القرآن.
ونفس المخطط كان لا بد من اتباعه في مختلف الجوانب الفكرية للرسالة من
تفسير وفقه وغيرهما.
المرجعية الفكرية لأهل البيت (عليهم السلام):
وهذا الحل المنطقي للموقف تدعمه النصوص المتواترة الدالة على وضع
النبي (صلى الله عليه وآله) لمبدأ مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) في مختلف الجوانب الفكرية للرسالة،
ووجود تفصيلات خاصة لدى أهل البيت (عليهم السلام) تلقوها عن النبي (صلى الله عليه وآله) في مجالات
التفسير والفقه وغيرهما.
أما النصوص التي تمثل مبدأ مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) في الجوانب الفكرية
للرسالة فهي كثيرة نذكر عدة نصوص منها:
الأول: حديث الثقلين، وقد جاء بصيغ عديدة نذكر منها ما رواه الترمذي في
صحيحه بسنده عن أبي سعيد والأعمش، عن حبيب بن ثابت، عن زيد بن أرقم
قالا: " قال رسول الله صلى الله عليه] وآله [وسلم: إني تارك فيكم ما ان تمسكتم
به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الاخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء
إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف
255

تخلفوني فيهما " (1).
الثاني: حديث الأمان، فقد روى الحاكم في مستدرك الصحيحين بسنده عن
ابن عباس، قال: " قال رسول الله صلى الله عليه] وآله [وسلم: النجوم أمان
لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لامتي من الاختلاف، فإذا خالفتها
قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ". قال الحاكم هذا حديث صحيح
الاسناد، كما ذكر ابن حجر في صواعقه وصححه (2).
الثالث: حديث السفينة،، فقد روى الحاكم في المستدرك وغيره كثير، أن
النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقول: " مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف
عنها غرق " (3).

(1) صحيح الترمذي 2: 308.
وقد روي حديث الثقلين بأسانيد وطرق عديدة عن مجموعة من الصحابة والتابعين،
مثل زيد بن أرقم وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وحذيفة بن أسيد الغفاري وعلي بن
أبي طالب وأبي هريرة، كما جاء هذا الحديث بصيغ متعددة حيث رواه الترمذي ومسلم في
صحيحيهما والحاكم في مستدرك الصحيحين، وأحمد بن حنبل في مسنده، وأبو نعيم في حلية
الأولياء، والهيثمي في مجمعه، وابن حجر في صواعقه، والمتقي في كنز العمال، والطبراني في
الكبير، وابن الأثير الجزري في أسد الغابة، وابن جرير في تهذيب الآثار، والخطيب
البغدادي في تأريخ بغداد، وغيرهم كثيرون، وقال السمهوري على ما روى عنه المناوي في
فيض الغدير: وفي الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة، وقال ابن حجر في صواعقه:
ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضعة وعشرين صحابيا لا حاجة لنا ببسطها.
راجع فضائل الخمسة في الصحاح الستة وغيرها من كتب أهل السنة 2: 52 - 60.
(2) مستدرك الصحيحين 3: 149، والصواعق: 140.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 343، وقال إنه حديث صحيح على شرط مسلم،
ورواه أيضا بطريق آخر عن حنش، عن أبي ذر الغفاري في 3: 16، وذكره المتقي في
كنز العمال، وابن جرير والهيثمي والبزار والطبراني في الكبير والأوسط والصغير وأبو
نعيم في الحلية، وأحمد بن حنبل والخطيب البغدادي والسيوطي والمناوي والمحب
الطبري وغيرهم، راجع فضائل الخمسة 2: 64 - 66.
256

الرابع: حديث الحق، فقد روى الترمذي في صحيحه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" رحم الله عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار " (1)، كما روي هذا الحديث بصيغ
أخرى منها: " علي مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض
يوم القيامة " (2).
الخامس: حديث القرآن، فقد روى الحاكم في المستدرك وغيره أن النبي قال:
" علي مع القرآن والقرآن مع علي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (3).
السادس: حديث الحكمة، فقد روى الترمذي في صحيحه وغيره أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) قال: " أنا دار الحكمة وعلي بابها " وقد شرح المناوي في هامش فيض
القدير كلمة " علي بابها ": اي علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الباب الذي يدخل منه
إلى الحكمة (4).
السابع: حديث المدينة، فقد روى الحاكم في المستدرك وغيره عن ابن عباس،
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت
الباب ". قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد (5).
الثامن: حديث الاختلاف، فقد روى الحاكم في المستدرك وغيره، أن
النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): " أنت تبين لامتي ما اختلفوا فيه بعدي " قال: هذا

(1) الترمذي 2: 298.
(2) الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد 14: 321، راجع تفصيل الرواة في الفضائل الخمسة
2: 122 - 124.
(3) مستدرك الصحيحين 3: 124، وفضائل الخمسة 2: 126.
(4) الترمذي 2: 299 ورواه غيره، انظر فضائل الخمسة 2: 279 - 280.
(5) مستدرك الصحيحين 3: 126، انظر فضائل الخمسة 2: 281 - 283.
257

حديث صحيح على شرط الشيخين (1).
التاسع: حديث السؤال، فقد روى جماعة من المحدثين منهم المتقي
في كنز العمال، وابن سعد في طبقاته، وابن جرير في تفسيره، وابن حجر في
تهذيب التهذيب، وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهم بألفاظ مختلفة أن علي
ابن أبي طالب (واللفظ للمتقي في كنز العمال)، قال: " سلوني فوالله لا
تسألوني عن شئ يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم، سلوني عن كتاب الله
فوالله ما من آية إلا أنا اعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل نزلت أم في
جبل... " (2).
إضافة إلى هذه الأحاديث وأمثالها الكثيرة، نجد أن الصحابة في عصر الخلافة
الأولى كانوا يرجعون إلى علي (عليه السلام) في مختلف القضايا المهمة والمستعصية،
وخصوصا في مجال تفسير القرآن والقضاء ومعرفة الشريعة، حيث وردت
النصوص الكثيرة والتي صححها أصحاب الحديث تؤكد هذا الموقف العملي من
الصحابة وهذه الحقيقة الناصعة.
فقد روى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه في باب قوله تعالى: (ما
ننسخ من آية أو ننسها...) (3) بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، حديثا
قال فيه: قال عمر " وأقضانا علي... " ورواه بقية رجال الحديث مثل الحاكم في
المستدرك، وأحمد بن حنبل في مسنده و... (4).
كما روى ابن ماجة في صحيحه حديثا بسندين عن انس بن مالك قال فيه: إن

(1) المصدر السابق 3: 122، وانظر فضائل الخمسة 2: 284 - 285.
(2) كنز العمال: 1: 228، راجع أيضا فضائل الخمسة 2: 226 - 267.
(3) البقرة: 106.
(4) راجع فضائل الخمسة 2: 296 - 298.
258

النبي قال: " وأقضاهم علي بن أبي طالب "، وفي رواية أخرى للحاكم صحيحة
على شرط الشيخين، أن ابن مسعود كان يقول: " إن اقضي أهل المدينة علي بن
أبي طالب ".
وقد روى أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود قال: " إن القرآن نزل على سبعة
أحرف ما منها حرف إلا له ظهر وبطن، وان علي بن أبي طالب (عليه السلام) عنده علم
الظاهر والباطن " (1).
وقد كان يعترف بهذه الحقيقة حتى أعداء علي (عليه السلام)، أمثال الطاغية الحجاج بن
يوسف الثقفي، حيث يقول: " إننا لم ننقم على علي قضاءه، قد علمنا أن عليا كان
أقضاهم " (2).
وقد رجع أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وحتى معاوية بن أبي
سفيان بالرغم من العداء القائم بينهما، وكذلك الكثير من كبار الصحابة، مثل
عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) وعبد الله بن عمر وغيرهما ممن كان يرجعون - أو يدلون
الناس على الرجوع إلى علي (عليه السلام) - في عدد كبير من القضايا ذكرها كبار رجال
أهل الحديث والتأريخ، أمثال البخاري وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس وابن
داود والحاكم والبيهقي وغيرهم، وخصوصا في عهد الخليفة الثاني عمر بن
الخطاب (3).
لقد كانت هذه المرجعية حقيقة قائمة على مستوى الواقع العملي لدى الخلفاء
وبعض أهل المعرفة من الصحابة، ولكنها كانت عند الضرورة ومواطن الاحراج
والاشكال، ولم يتم الاعتراف بها - مع الأسف الشديد - على المستوى الرسمي

(1) حلية الأولياء 1: 65.
(2) راجع فضائل الخمسة 2: 296 - 298.
(3) المصدر السابق 2: 306 - 344.
259

للخلافة والحكم، لأسباب متعددة لا مجال لذكرها في هذا البحث (1)، الامر الذي
جعل الباب مفتوحا امام الصحابة والتابعين أو غيرهم - حتى الأدعياء - أن يمارسوا
العملية التفسيرية للقرآن الكريم، من خلال المستوى العام لفهم القرآن الكريم.
وقد ظهرت معالم الخلل في هذا الانفتاح الواسع على مرجعية الصحابة، دون
التمييز بين هذه الخصائص الفريدة التي كان يختص بها أهل البيت (عليهم السلام)، وفي
مقدمتهم علي (عليه السلام) وبين بقية الصحابة الذين تناولوا القليل من العلم، فضلا عن
أولئك الاشخاص الذين لم يكونوا في الحقيقة من أصحاب النبي، وإنما كانوا من
(الأدعياء) الذين حاولوا أن يتسلقوا هذا الموقع الروحي المقدس بعد وفاة
الرسول (صلى الله عليه وآله) فألصقوا أنفسهم به.
ولعل خير ما يصور لنا بدايات هذا الخلل، ووجود هذين المستويين من
التفسير ما رواه الكليني والصدوق وغيرهما، عن سليم بن قيس الهلالي، عن
علي (عليه السلام)، قال سليم: " قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): إني سمعت من سلمان والمقداد
وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه وآله) غير ما في أيدي
الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء
كثيرة من تفسير القرآن، ومن الأحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه وآله) أنتم تخالفونهم فيها
وتزعمون بأن ذلك كله باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله)

(1) لقد حاول الأمويون أعداء أهل البيت (عليهم السلام) بعد ذلك أن يعمقوا حالة الانحراف في الأمة،
من خلال إصرارهم على طرح الأدعياء من الصحابة كمرجع للأمة في الشؤون الدينية،
في الوقت الذي أخذوا يطاردون كل من يذكر عليا، أو يذكر الاخذ من علي (عليه السلام)، كما
تشير إلى ذلك الوقائع والاحداث والنصوص التأريخية، واستجاب لهذا الخط الانحرافي
العباسيون، بسبب الشعور بالخوف من غلبة وظهور أبناء علي (عليه السلام) على الساحة
السياسية، إذا ارتبطت الأمة بهم فكريا ومذهبيا.
260

متعمدين ويفسرون القرآن بآرائهم؟ قال فأقبل علي فقال:
قد سألت فافهم الجواب: إن في أيدي الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا...
وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده حتى قام خطيبا، فقال:
" أيها الناس قد كثرت علي الكذابة، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من
النار "، ثم كذب عليه من بعده، وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس:
رجل منافق يظهر الايمان، متصنع بالاسلام، لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب
على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم
يصدقوه، ولكنهم قالوا هذا صحب رسول الله ورآه وسمع منه، وهم لا يعرفون
حاله، وقد أخبره الله عن المنافقين بما اخبره، ووصفهم بما وصفهم، فقال عز وجل:
(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم...) (1).
ثم بقوا بعده... فهذا أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يحفظه على وجهه ووهم فيه، ولم يتعمد
كذبا، فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه فيقول: انا سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه، ولو علم هو أنه وهم لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا أمر به، ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو
سمع ينهى عن شئ، ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، ولو
علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مبغض للكذب خوفا من الله، وتعظيما
لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يسه، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كما سمع، لم يزد فيه
ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإن
أمر النبي (صلى الله عليه وآله) ناسخ ومنسوخ وخاص وعام ومحكم ومتشابه، قد كان يكون من

(1) المنافقون: 4.
261

رسول الله الكلام له وجهان، كلام عام وكلام خاص مثل القرآن.
وقال الله عز وجل في كتابه: (... ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه
فانتهوا...) (1) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله، وليس كل
أصحاب رسول الله كان يسأله عن الشئ فيفهم، وكان منهم من ولا يسأله ولا
يستفهمه، حتى كانوا يحبون أن يجئ الاعرابي والطاري، فيسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله)
حتى يسمعوا، وقد كنت أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل يوم دخلة، وكل ليلة
دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم
يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني، وأقام عني نساءه فلا يبقى عنده
غيري، وإذا اتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني،
وكنت إذا سألته أجابني، وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على
رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا اقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي، وعلمني
تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها،
ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله تعالى، ولا علما
أملاه علي وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولا
حرام، ولا أمر ولا نهي، كان أو يكون، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة
أو معصية إلا علمنيه وحفظته، فلم أنس حرفا واحدا " (2).
التفسير في عصر التكوين (*):
عرفنا دور الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في تفسير القرآن، وتفسيره على مستويين

(1) الحشر: 7.
(2) الكافي 1: 62. الحديث 1.
* - كتبه الشهيد الصدر.
262

عام وخاص، وتعيين النبي أهل البيت (عليهم السلام) للمرجعية الدينية بعد أن فسره لهم
بشكل خاص.
ويحسن بنا - بعد ذلك - أن نرى مسيرة تكون علم التفسير عند المسلمين، في
ظل الظروف والمعطيات السياسية والاجتماعية والمواصفات التي كان يتصف بها
مجتمع المسلمين في عصر نزول القرآن الكريم وبعده، ومع غض النظر عن التخطيط
الذي وضعه الرسول الأعظم.
إن من البديهيات الاسلامية أن القرآن الكريم لم يكن كتابا علميا جاء به
الرسول الأعظم من اجل تفسير مجموعة من النظريات العلمية، وانما هو كتاب
استهدف منه الاسلام بصورة رئيسة تغيير المجتمع الجاهلي وبناء الأمة الاسلامية
على أساس المفاهيم والأفكار الجديدة التي جاء بها الدين الجديد، وهو من أجل
تحقيق هذه الغاية، والوصول إلى هذا الهدف الرئيس جاء منجما متفرقا من اجل
أن يعالج القضايا في حينها، ويضع الحلول للمشاكل في أوقاتها المناسبة، مراعيا في
ذلك كل ما تفرضه عملية التغيير والبناء من تدرج وأناة، وليحقق التغيير في كل
الجوانب الاجتماعية والانسانية، منطلقا مع المحتوى الداخلي للفرد المسلم ليشمل
البنيات الفوقية للمجتمع.
وعلى هذا الأساس لم يكن شعور المسلمين بشكل عام تجاه المحتوى القرآني
ذلك الشعور الذي يجعلهم ينظرون إلى القرآن الكريم كما ينظرون إلى الكتب
العلمية التي تحتاج إلى الدرس والتمحيص، وانما هو شعور ساذج بسيط لان القرآن
كان يسير معهم في حياتهم الاعتيادية، بما زخرت به من ألوان مختلفة فيعالج
أزماتهم الروحية والسياسية، ويتعرض بالنقد للأفكار والمفاهيم الجاهلية،
ويناقش أهل الكتاب في انحرافاتهم العقيدية والاجتماعية، ويضع الحلول الآنية
للمشاكل التي تعتريهم، ويربط بين كل من هذه الأمور بعرض مفاهيم الدين
الجديد عن الكون والمجتمع والأخلاق.
263

كل ذلك قام به القرآن الكريم ولكن بشكل تدريجي يسمح لعامة المسلمين أن
ينظروا إليه كأحداث تشكل جزءا من حياتهم الاجتماعية، وقد كان المسلمون
يفهمون القرآن من خلال هذه النظرة وعلى أساس ما لديهم من خبرة عامة، وهي
تعني جميع المعلومات التي تحصل لدى الانسان في مجرى حياته الاعتيادية، وهذه
الخبرة العامة التي كان المسلمون يفهمون النص القرآني بموجبها في ذلك العصر
ذات عناصر مختلفة نعرف من خلالها أنهم كانوا يمتازون بها علينا وعلى العصور
الأخرى المتأخرة بالرغم من بساطتها، ويمكن ان نلخصها بالأمور التالية:
أ - الثقافة اللغوية العامة، فالقرآن نزل باللغة العربية التي كانت تمثل لغة
المسلمين في ذلك العصر، لان الوجود الاسلامي حينذاك لم يكن قد انفتح على
الشعوب الأخرى، وهذه الثقافة اللغوية كانت تمنح المسلمين فهما إجماليا للقرآن
من ناحية لغوية.
ب - تفاعل المسلمين مع الاحداث الاسلامية وأسباب النزول، ذلك أن القرآن
- كما نعرف - نزل في كثير من الأوقات بسبب حوادث معينة أثارت نزول
الوحي، والمسلمون بحكم ارتباطهم بهذه الحوادث، واطلاعهم على ظروفها
الخاصة المحيطة بها كانوا يتعرفون بشكل إجمالي أيضا محتوى النص القرآني
ومعطياته واهدافه.
ج - الفهم المشترك للعادات والتقاليد العربية، فنحن نعرف أن القرآن الكريم
حارب بعض العادات والتقاليد العربية وندد بها، والعرب بحكم ظروفهم
الاجتماعية كانوا على اطلاع بما تعنيه هذه العادات، ومن ثم على المفهوم الجديد
عنها، فمن الطبيعي ان يفهموا قوله تعالى: (انما النسئ زيادة في الكفر...) (1)

(1) التوبة: 37.
264

وقوله تعالى: (... وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها...) (1) وقوله: (... انما
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام...) (2) لانهم يعرفون (النسئ) (واتيان
البيوت من ظهورها) (والانصاب والأزلام) أمورا كانت قائمة في المجتمع
الجاهلي، وكانوا يعيشونها.
د - دور الرسول (صلى الله عليه وآله) في التفسير، فقد كان الرسول الأعظم يباشر التفسير
أحيانا في مجرى الحياة الاعتيادية للمسلمين - كما عرفنا - فكان يجيب على
الأسئلة التي تدور في أذهان المسلمين عن القرآن ومعانيه، ويشرح النص القرآني
في المناسبات التي يفرضها الموقف القيادي الذي كان يضطلع به الرسول من
موعظة أو توجيه أو حث على العمل في سبيل الله والاسلام.
وهذه العناصر في الحقيقة تمثل ما كان عليه المسلمون من فهم بسيط وساذج
للقرآن، لأنها عناصر كانت تعيش مع المسلمين في مجرى حياتهم الاعتيادية دون
ان تكلفهم مجهودا ذهنيا، أو عناء علميا.
ولدينا عدة نصوص، تؤكد هذا الفهم الساذج للقرآن الذي كان عليه المسلمون
في هذه المرحلة من حياتهم الفكرية، فنحن نجد عمر بن الخطاب في مرحلة
متأخرة عن هذا الوقت يجد في فهم كلمة " أبا " تكلفا ونجد عدي بن حاتم يقع في
حيرة حين يحاول ان يفهم: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود)
ويشاركه في هذه الحيرة جماعة من المسلمين، ولا ترتفع حيرتهم الا بعد أن
يراجعوا الرسول (صلى الله عليه وآله) (3) ونجد ابن عباس لا يعرف معنى " فاطر " حتى يطلع

(1) البقرة: 189.
(2) المائدة: 90.
(3) راجع البخاري، فتح الباري 9: 249 وغيره من النصوص التي ذكرناها في فصل
التفسير في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله).
265

عليه من قبل اعرابي (1).
فهذه الاحداث على ضالتها تعكس لنا المرحلة التي كان يعيشها المسلمون
عصر نزول القرآن.
ولعل من الدلائل على هذا الفهم الساذج للقرآن من قبل المسلمين ما نلاحظه
في القراءات المتعددة للقرآن، الشئ الذي قد يكون ناتجا عن سذاجة بعض القراء
من الصحابة في ضبط الكلمة القرآنية، وقراءتها بالشكل الذي يتفق مع بعض
الاتجاهات اللغوية التي عاصرت نزول القرآن، ثم تداولها المسلمون على أساس
أنها قراءة اسلامية تمت بالنسب إلى شخص النبي (صلى الله عليه وآله).
ومن الممكن ان يكون أحد العوامل التي كان لها تأثير فاعل في هذا الفهم
الساذج للقرآن هو حياة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) المثقلة بالاعمال والاحداث، ومن
ثم تأثر حياة المسلمين بشكل عام من جراء ذلك، وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) في
حديثه المتقدم الذي رواه ثقة الاسلام الكليني إلى هذه الظاهرة العامة التي
كانت تشمل الصحابة حيث قال: " ورجل سمع من رسول الله فلم يحفظه على
وجه ووهم فيه، ولم يتعمد كذبا... ورجل ثالث سمع من رسول الله شيئا أمر به ثم
نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ
منسوخه ولم يحفظ الناسخ... " (2) ولسنا بحاجة لان نؤكد هنا أن هذا الفهم الساذج
للقرآن الكريم من قبل عامة المسلمين لم يكن يتنافى مع الدور القيادي الذي
يضطلع به الرسول الأعظم، بعد أن عرفنا أن حياته (صلى الله عليه وآله) كانت مثقلة بالاعمال
والاحداث، الامر الذي لم يكن يتيح له الفرصة الكافية للقيام بدور المفسر لعامة
المسلمين.

(1) راجع الفصل السابق (التفسير في عصر الرسول).
(2) الكافي 1: 62. الحديث 1.
266

بذور تكون علم التفسير:
والى جانب هذا الفهم الساذج للقرآن الذي لا يسمح لنا باطلاق اسم " العلم "
عليه نلاحظ ملامح خبرة خاصة بدأت بالنمو والتجمع عند عدد من الصحابة،
نتيجة عوامل متعددة ذاتية وموضوعية، من قبيل حرص بعضهم بشكل أكثر من
غيرهم على الاستفادة من مجالس الرسول وحفظ ما يرد في كلامه من شرح
للنص القرآني أو تعليق عليه، ومحاولة الواعين منهم التعرف على تفصيلات أكبر
مقدار ممكن من المعاني القرآنية، أو بسبب ظروفهم الموضوعية التي كانت تفرض
وجودهم مع الرسول في المدينة، وفي غزواته المتعددة، ولدينا عدة نصوص تشير
إلى هذا المعنى في عدد من الصحابة:
1 - عن عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرؤن القرآن. أنهم
كانوا إذا تعلموا من النبي (صلى الله عليه وآله) عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من
العلم والعمل... قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة
في حفظ السورة (1).
2 - عن شقيق بن سلمة، خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: والله لقد أخذت من
في رسول الله (صلى الله عليه وآله) بضعا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) أني من
أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم (2).
3 - عن أبي الطفيل: قال شهدت عليا (عليه السلام) يخطب وهو يقول: سلوني، فوالله
لا تسألوني عن شئ الا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا
وانا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل.
4 - عن نصير بن سليمان الأحمسي عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال: والله ما نزلت

(1) الاتقان 2: 176. ط 1368.
(2) البخاري، فتح الباري 1: 423.
267

آية الا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، إن ربي وهب لي قلبا عقولا، ولسانا
سؤولا (1).
فنحن نلاحظ في هذه النصوص أن بذور المعرفة التفسيرية القائمة على العناية
والتخصص، انما كانت على مستوى خاص من الصحابة، الامر الذي أدى إلى
ولادة التفاوت بين المسلمين في جميع المعارف الاسلامية، ومن ثم في خصوص
المعرفة التفسيرية.
بعد هذا يمكننا ان نتصور بوضوح التطور الذي سارت به هذه المعرفة الخاصة،
حتى انتهت إلى الفارق الكبير الذي أخذ يفصل مستوى الخبرة الخاصة عن
مستوى الخبرة العامة الامر الذي سمح للباحثين ان يطلقوا (علم التفسير) على
هذه الخبرة الخاصة التي كان يتمتع بها هؤلاء الاشخاص، ومن اجل ان نتعرف
على ملامح هذا الفاصل لا بد من ملاحظة العاملين التاليين:
أ - ان المسلمين بصورة عامة، اخذت معرفتهم التفسيرية تتضاءل بسبب
تضاءل خبرتهم العامة، لان التوسع الاسلامي جعل كثيرا من الافراد والشعوب
تنضم إلى الجماعة الاسلامية وهم لا يملكون ذلك المستوى العام من الخبرة،
ففقدوا بعض العناصر التي كانت تعتمد عليها الخبرة العامة، سواء كانت مرتبطة
بالجانب اللغوي للقرآن أم بالجانب الاجتماعي والحياتي لهم، فلم يكن الافراد
الجدد تتوفر فيهم المعرفة اللغوية التي كانت متوفرة لدى عامة المسلمين الذين
عاصروا نزول الوحي، كما لم يكونوا مطلعين على الحوادث التأريخية التي ارتبطت
بها بعض الآيات القرآنية والعادات والتقاليد العربية، كما هو الحال بالنسبة إلى
الاشخاص الذين عاشوا هذه الاحداث والعادات والتقاليد.
ب - وفي الجانب الاخر نجد أن الخبرة الخاصة أخذت بالتضخم والنمو نتيجة

(1) المصدر نفسه 2: 187.
268

الشعور المتزايد بالحاجة إلى فهم القرآن، ومواجهة المشاكل الجديدة على ضوء
مفاهيمه وافكاره، وكثرة طلب تفهم القرآن من قبل المسلمين الجدد الذين
يريدون أن يتعرفوا الاسلام بجوانبه المتعددة، من خلال تعرفهم القرآن الكريم
الذي يقوم بدور المعبر الصحيح عنه.
ولعلنا نجد في النص التأريخي التالي ما يعبر لنا عن هذا التفاوت في المعرفة بين
الصحابة، هذا الشئ الذي نريد ان نتصوره كبداية لتكون علم التفسير.
عن مسروق: " جالست أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) فوجدتهم كالاخاذ (الغدير)
فالاخاذ يروي الرجل والاخاذ يروي الرجلين، والاخاذ يروي العشرة
والاخاذ يروي المائة، والاخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم " (1) وهكذا
تكون التفسير في بدء بدئه.

(1) نقل هذا الحديث في " التفسير والمفسرون " 1: 36.
269

التفسير في عصر الصحابة والتابعين
1 - طبيعة التفسير في هذا العصر:
من خلال البحث السابق عرفنا أن علم التفسير تكون ووجد في عصر
الصحابة، وتطور بشكل واضح في عصر التابعين، ومع ذلك فنحتاج من أجل
الإحاطة بأبعاد التفسير في هذا العصر ان نتعرف على الطبيعة العامة للتفسير
والمصادر الرئيسة له ونقد هذه المرحلة وتقويمها.
ومن الممكن ان نجزم بأن الظاهرة التي كانت تعم التفسير في هذه المرحلة هي
مواجهة القرآن الكريم كمشكلة لغوية وتأريخية، ومن اجل ان نكون أكثر ادراكا
لطبيعة هذه المرحلة لا بد لنا ان نعرف ما تعنيه (المشكلة اللغوية والتأريخية) من
معنى:
فالكلام في اللغة - وعلى الأخص اللغة العربية - تشترك في تحديد معناه عوامل
مختلفة يمكن أن نلخصها بالأمور التالية:
أ - الوضع اللغوي للفظ، فإن كل لفظ في اللغة نجد في جانبه معنى خاصا
محددا له.
ب - القرائن اللفظية ذات التأثير الخاص على الوضع اللغوي والتي تسبب
صرف اللفظ عن معناه الحقيقي، وهذا هو الشئ الذي يحصل في الاستعمالات
المجازية، بما للمجاز من مدلول عام يشمل الاستعارة والكناية وغيرهما.
ج - القرائن الحالية التي يكون لها أيضا تأثير خاص على المدلول اللفظي،
271

ونعني بها الظروف الموضوعية التي يأتي الكلام بصددها أو يكون مرتبطا بجانب
من جوانبها.
فهذه العوامل الثلاثة تشترك في تكوين المدلول العام للفظ والكلام.
وحين نواجه الكلام من أجل التعرف على مدلوله ونصطدم بشئ من هذه
الأمور الثلاثة في سبيل ذلك فنحن نواجه مشكلة لغوية.
وحين نحاول ان نتعرف خصوصيات الظروف الموضوعية لعصر نزول القرآن
الكريم، أو التي تحدث عنها فيما قبل نزول القرآن، مثل قصص الأنبياء والأقوام
الماضين، أو التي تنبأ بوقوعها في المستقبل فإن ذلك يمثل مشكلة تأريخية.
وفي ضوء هذا المفهوم للمشكلة اللغوية والتأريخية يمكننا ان نتبين طبيعة
المرحلة التفسيرية التي مر بها الصحابة والتابعون حين واجهوا الكلام الإلهي
(القرآن الكريم) وحاولوا معرفة معانيه ومدلولاته.
فنحن - حين نتصفح التفسير الذي وصلنا من هذا العصر - نجد أمورا ثلاثة
رئيسة كانت موضع اهتمام الصحابة والتابعين ومن بعدهما، وهي كالتالي:
أ - التعرف على ما تعنيه المفردات القرآنية من معنى في اللغة العربية، مع مقارنة
الكلام القرآني بالكلام العربي لتحديد الاستعارة القرآنية.
ب - تتبع أسباب النزول أو الاشخاص والحوادث التأريخية أو القضايا التي
ارتبطت ببعض الآيات القرآنية.
ج - التفصيلات التي وردت في بيانات الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أو التي أوردتها
النصوص الإسرائيلية عن قصص الأنبياء أو غيرها من الحوادث التي أشار إليها
القرآن الكريم.
وهذه الأمور الثلاثة لها علاقة وثيقة في تحديد المعنى من ناحية لغوية أو
تأريخية، لأنها تنتهي إلى العوامل المؤثرة في تكوين مدلول اللفظ والكلام أو
272

تشخيص الظروف والأوضاع في حركة التأريخ.
ولعل من الشواهد على ما نذكره عن طبيعة هذه المرحلة هو ما نعرفه عن ابن
عباس الذي يعتبر من أبرز الصحابة في التفسير، حيث كان يعتمد في تفسيره
للقرآن - في أغلب الأحيان - على ما يعرفه من مفردات اللغة العربية وما يحفظه
من شعر العرب أو أسباب النزول.
وقد اعتبر هذا الاطلاع الواسع على مفردات اللغة من قبل ابن عباس أساس
امتيازه في التفسير وعلو شأنه.
وهذا الطابع العام نجده أيضا في محاولات بقية الصحابة والتابعين أيضا، فإذا
لاحظنا صحيح البخاري - وهو أحد الكتب التي تتعرض للتفسير في هذه
المرحلة - نجده يذكر التفسير في حدود هذه المشكلة ذاتها ولا يكاد يتعداها، وهذا
الشئ نفسه نجده عندما نلاحظ الكتب التفسيرية الأخرى التي تنقل إلينا آراء
الصحابة والتابعين بدقة.
والى جانب هذا الاستقراء توجد لدينا بعض الشواهد التأريخية ذات الدلالة
البينة على طبيعة المرحلة، والتزام الصحابة لحدودها في محاولاتهم التفسيرية، فقد
روي أن رجلا يقال له: (ابن صبيغ) قدم المدينة - في زمن عمر بن الخطاب -
فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه الخليفة وضربه بعراجين النخل حتى
ترك ظهره دبره، ثم تركه حتى يرى، ثم عاد وبعد ان تكرر ذلك للمرة الثالثة دعا
به ليعود، فقال ابن صبيغ ضارعا! ان كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا أو ردني
إلى أرضي بالبصرة، فاذن له إلى ارضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري الا
يجالسه أحد من المسلمين (1).
وهذه الرواية تدلنا على مدى استنكار الصحابة للدخول في مشاكل عقلية

(1) جولد تسيهر، مذاهب التفسير الاسلامي: 74. نقلا عن لوائح الأنوار البهية.
273

حول فهم القرآن الكريم وتفسيره، لان البحث في المتشابهات يتصف بالطابع
العقلي دون اللغوي (1).
ويمكن ان نفهم الشئ ذاته من جميع النصوص التي وردت في النهي عن تفسير
القرآن بالرأي أو تفسير القرآن بشكل مطلق (2)، إذ لا نشك في مزاولة الصحابة
للتفسير في حدود المشكلة اللغوية والتأريخية، وهو في هذه الحدود ليس من
تفسير القرآن بالرأي أو القول بغير علم، ولا يبقى في نطاق الشك والنهي غير
مواجهة القرآن بشكل أعمق لا يتفق وطبيعة المرحلة ولا يعيش حدود المشكلة
اللغوية.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نشكك في كل محاولة تفسيرية تنسب إلى الصحابة
ولا تعيش حدود هذه المشكلة وجوانبها، ولا تتسم بسماتها وطابعها.
فمن المعقول أن يداخلنا الشك في صحة ما ينسب إلى ابن عباس في تفسيره
لسورة (النصر) حين يحاول أن يحمل السورة معنى فوق طاقتها اللغوية، ويجعل

(1) لم يكن اسم السائل (ابن صبيغ) بل اسمه (صبيغ بن عسل التميمي) ولم يكن السؤال
عن متشابه القرآن وانما كان السؤال عن (والذاريات ذروا) (نقش أئمة در احياء دين 6:
117) وهو بحث عن تفسير لغوي. وإذا رجعنا إلى قوله تعالى: (... فأصبح هشيما تذروه
الرياح...) (الكهف: 45) عرفنا تفسير اللفظ.
كما أن الخليفة عمر قرأ على المنبر: (فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا... وأبا) قال: كل
هذا قد عرفناه، فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت في يده فقال: لعمر الله هو التكلف فما
عليك ان لا تدري ما الأب، اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب، فاعملوا به وما لم تعرفوه
فكلوه إلى ربه (الدر المنثور 6: 317).
وكذلك عندما سئل أيضا عن " فاكهة وأبا " أقبل عليهم بالدرة (الدر المنثور 6: 317)
مع أن تفسير اللفظين ورد بعدهما في قوله تعالى: (متاعا لكم ولأنعامكم) (عبس: 32).
(2) راجع بصدد هذه النصوص الترمذي 11: 68.
274

من الفتح فيها رمزا وعلامة لمجئ أجل الرسول (صلى الله عليه وآله) كما جاء في البخاري (1).
ويمكننا ان نؤاخذ على هذا الحديث إضافة إلى خروجه عن نطاق طبيعة
المرحلة، هذا اللون الخاص من محاولة تمجيد ابن عباس، ولو كان ذلك على
حساب القرآن الكريم، الامر الذي يدعونا ان نلحقه بموضوعات العصر
العباسي (2).

(1) أخرج البخاري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: " كان عمر يدخلني مع
أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال لم يدخل هذا معنا وان لنا أبناء مثله؟! فقال
عمر انه ممن علمتهم، فدعاهم ذات يوم فادخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ
الا ليريهم، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح)؟ فقال بعضهم:
أمرنا ان نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي
أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت لا فقال ما تقول؟ فقل هو اجل رسول الله (صلى الله عليه وآله) اعلمه
له: فقال (إذا جاء نصر الله والفتح) فذلك علامة أجلك (فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان
توابا) فقال عمر لا اعلم منها إلا ما تقول ". الاتقان 2: 187.
(2) من الملاحظ في التفسير تأكيد دور ابن عباس فيه مع أن ابن عباس لم يعاصر الرسول
الا مدة قصيرة من حياته، ويحاول بعضهم ان يعلل ذلك بأن النبي قد دعا له بالعلم
والفهم، فكان هذا الانتاج الكبير.
ومع غض النظر عن هذا التفسير الغيبي يمكن ان نفسر هذه الظاهرة بأحد أمور ثلاثة،
ومن خلالها لا بد من دراسة ما ورد عن ابن عباس:
الأول: ان العباسيين حاولوا - لأهداف سياسية - ان يركزوا على دور ابن عباس في
مجال التفسير والعلوم الدينية، في مقابل أهل البيت ودورهم في هذا المجال، وهذا هو
ما أشرنا إليه في المتن.
الثاني: ان ابن عباس كان من تلامذة الإمام علي (عليه السلام) - كما تشير إلى ذلك مجموعة
من النصوص والقرائن الأخرى - وان ما اثر عنه في التفسير انما تلقاه من الإمام علي
(عليه السلام)، إلا أنه لم ينسب للإمام علي (عليه السلام) بسبب ظروف الاضطهاد الأموي والعباسي،
وبعد ذلك نسب إلى ابن عباس مباشرة.
الثالث: ان ابن عباس كانت لديه تجربة واسعة في الممارسة العلمية والسياسية
والاجتماعية، خصوصا في عهد عمر الذي كان يقربه لأسباب سياسية وعلمية، وان ما
ورد عنه في التفسير انما هو اجتهاده الخاص وليس رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله).
ونحن نميل إلى الاحتمال الثالث لما أشرنا إليه من النصوص والقرائن، وان كان العامل
الأول والثاني بشكل خاص لا يمكن انكار تأثيرهما في مجمل ما ورد عن ابن عباس.
275

ويمكن ان يعترينا مثل هذا الشك أيضا حين ننظر إلى المحاولة التفسيرية التي
جاءت على لسان ابن عباس أيضا حين يريد ان يعين (ليلة القدر) المذكورة في
القرآن الكريم على أنها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، ويفهم ذلك على
أساس اهتمام الاسلام بالعدد (سبعة) حيث أخذ في متعلق بعض الأحكام
الاسلامية (1).
فان هذا الاستنتاج إضافة إلى بعده عن المنطق الصحيح لا يتفق مع البساطة
والذوق العربي اللذين كان يعيشهما ابن عباس.
ولقد كان من الطبيعي أن ينظر إلى القرآن في هذه المرحلة على أساس أنه
(مشكلة لغوية) لان هذه المرحلة تمثل بداية التطور في المعرفة التفسيرية عند

(1) " أخرج أبو نعيم، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، ان عمر بن الخطاب جلس
في رهط من المهاجرين من الصحابة، فذكروا ليلة القدر، فتكلم كل بما عنده، فقال عمر:
ما لك يا ابن عباس صامت لا تتكلم، تكلم لا تمنعك الحداثة. قال ابن عباس: قلت يا
أمير المؤمنين إن الله وتر ويحب الوتر، فجعل أيام الدنيا تدور على سبع، وخلق أرزاقنا من سبع،
وخلق الانسان من سبع، وخلق فوقنا سماوات سبعا، وخلق تحتنا ارضين سبعا، وأعطى
من المثاني سبعا، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع، وقسم المواريث في كتابه على
سبع، ونقع في السجود من أجسادنا على سبع، فطاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالكعبة سبعا، وبين
الصفا والمروة سبعا، ورمي الجمار بسبع... فأراها في السبع الأواخر من شهر رمضان،
فتعجب عمر، فقال ما وافقني فيها أحد إلا هذا الغلام الذي لم تستو شؤون رأسه، ثم قال يا
هؤلاء من يؤديني في هذا كاداء ابن عباس؟! " الاتقان 2: 188.
276

المسلمين، بعد أن كانوا يفهمون القرآن فهما ساذجا وفي مستوى الخبرة العامة
المتوفرة لديهم حينذاك (1).
2 - مصادر المعرفة التفسيرية في هذا العصر:
وفي ضوء معرفتنا لطبيعة هذه المرحلة يمكن ان نتعرف أيضا على المصادر التي
كانت تعتمد عليها المرحلة في معرفة مدلول النص القرآني، والأدوات التي كانت
تستعملها لمواجهة المشكلة اللغوية والتأريخية، ويمكن ان نلخص هذه المصادر
بالأمور التالية:
أ - (القرآن الكريم نفسه) لان القرآن الكريم بحكم طريقة نزوله، والأهداف
التي كان يتوخاها من وراء هذه الطريقة التدريجية جاء - في بعض الأحيان -
مبينا لما قد أجمله سابقا أو مقيدا أو مخصصا لما كان مطلقا أو عاما، أو ناسخا لحكم
كان ثابتا في وقت سابق، وهذه الطريقة من القرآن الكريم تسمح لنا ان نستفيد من
بعض الآيات القرآنية لنفهم بها بعض الآيات الأخرى.
وقد سلك المفسرون هذا المنهج في طريقهم للتعرف على المعاني القرآنية
واكتشاف اسرارها، ويمكن ان نعتبر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) - بما لدينا من شواهد -
الرائد الأول لهذه الطريقة التي سار عليها بعض الصحابة من بعده، واتخذها بعض
المفسرين منهجا عاما لتفسير القرآن.
فقد روى عبد الله بن مسعود أنه لما نزل قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا
ايمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) (2) شق ذلك على أصحاب رسول الله

(1) يراجع الاتقان 1: 115 - 142. ففي هذه الصفحات نجد أن جميع ما يروى عن ابن
عباس أو غيره يعيش هذه المشكلة.
(2) الانعام: 82.
277

وقالوا: أينا لم يلبس ايمانه بظلم. فقال: انه ليس بذاك، انما هو الشرك، ألم تسمعوا
قول لقمان: (... ان الشرك لظلم عظيم) (1).
كما أن التأريخ يحدثنا أيضا أن علي ابن أبي طالب (عليه السلام) اتخذ مثل هذه الطريقة
للتعرف على بعض المعاني القرآنية، فقد اخرج الحافظان ابن أبي حاتم، والبيهقي
عن الدئلي: ان عمر بن الخطاب رفعت إليه امرأة ولدت لستة أشهر، فهم برجمها،
فبلغ ذلك عليا، فقال: ليس عليها رجم. فبلغ ذلك عمر (رضي الله عنه) فأرسل إليه فسأله.
فقال: قال تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين...) (2) وقال:
(... وحمله وفصاله ثلاثون شهرا...) (3) فستة أشهر حمله، وحولين رضاعه،
فذلك ثلاثون شهرا، فخلى عنها (4).
فقد فسر الإمام علي (عليه السلام) مدة الحمل بستة أشهر على أساس الآية الأخرى
التي تحدد مدة الرضاع ب‍ (حولين كاملين).
ب - المأثور عن النبي (صلى الله عليه وآله) في تفسير القرآن، فقد كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)
يقوم بتفسير القرآن الكريم على المستوى العام - كما عرفنا ذلك في بحث التفسير في
عصر الرسول - وهو على هذا المستوى وان لم يكن قد فسر القرآن كله الا أنه كان
يفسر بمقدار ما تفرضه ظروفه بصفته صاحب رسالة، وقائد دولة تواجهه مشاكل
المسلمين وأسئلتهم، وبمقدار ما تقتضيه الدعوة إلى الله وتبيان المفاهيم العامة عن
الاسلام وتشريعاته، فكان هذا الشئ - الذي يصدر منه بهذا الصدد - يتلقاه
المسلمون ويحفظه الكثير منهم، واعتمدوا عليه من بعده في ايضاح بعض جوانب

(1) لقمان: 13. رواه البخاري بصورة مختلفة راجع فتح الباري 1: 95 و 10: 131.
(2) البقرة: 233.
(3) الأحقاف: 15.
(4) الغدير 6: 93.
278

القرآن بالنسبة إلى غيرهم.
وفي كتب الحديث شواهد كثيرة على ذلك فعن سعيد بن جبير: في تأويل قوله
تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حقبا) (1).
" قال: قلت لابن عباس: إن نوفا يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو
موسى صاحب بني إسرائيل. فقال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب أنه سمع من
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: اي الناس
اعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه] إلى الله [. فأوحى الله إليه:
إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال:
تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم... " (2).
فمن اجل ان يظهر ابن عباس خطأ نوف في دعواه استند إلى رواية أبي بن كعب
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ج - حديث بعض الصحابة الذين عاصروا أحداث نزول القرآن، لان من
المعروف أن بعض القرآن الكريم ارتبط في نزوله ببعض الاحداث التي عاشتها
الدعوة الاسلامية في مراحلها المختلفة، وبما أن هذه الاحداث تشكل جزءا من
عوامل تحديد المعنى القرآني، وتساهم في حل المشكلة اللغوية والتأريخية ذات
الجوانب المتعددة التي واجهت المسلمين بعد الرسول فمن الطبيعي ان يلتفت
المسؤولون عن حل هذه المشكلة إلى الاشخاص الذين عاصروا الاحداث
ليتعرفوا منهم على ظروفها وخصوصياتها، ومن ثم على ما تمنحه للمعنى القرآني
من ايضاح وتبيين.
وقد اهتم الباحثون بمعرفة (أسباب النزول) على أساس الارتباط الوثيق بينها

(1) الكهف: 60.
(2) رواه البخاري. فتح الباري 10: 24.
279

وبين تحديد المعاني القرآنية، واعتبروا فهم القرآن الكريم متوقفا على معرفتها.
فقد قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها،
وبيان النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن.
وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية (1).
والشواهد في حياة الصحابة على هذا الارتباط بين أسباب النزول وفهم الآية
القرآنية كثيرة، عرفنا منها قضية قدامة بن مظعون (2) وقد ذكر السيوطي لذلك
بعض الأمثلة (3).
د - معرفة اللغة العربية المتداولة في الكلام العربي على اختلاف لهجاتها، فان
القرآن الكريم - كما نعرف - نزل بلغة العرب، ولم يكن الصحابة على اطلاع كامل
بمفردات اللغة العربية، ولذا كانوا يتوقفون في بعض الأحيان عند بعض الكلمات
القرآنية لعدم معرفتهم معناها، حتى يقع في أيديهم شئ من كلام العرب يتضح به
ما غمض لديهم من القرآن.
وقد أشرنا إلى بعض الشواهد التي حصل فيها مثل هذا الشئ في بحث
سابق (4).
كما أن طبيعة المرحلة وهي مواجهة القرآن كمشكلة لغوية تفرض ان يكون من
أبرز المصادر للتفسير هو اللغة العربية نفسها، كشرط أساسي في محاولة تفسير
القرآن الكريم (5).

(1) نقل هذه الأقوال السيوطي في مقدمة كتابه أسباب النزول: 3.
(2) راجع بحث التفسير في عصر الرسول.
(3) الاتقان 1: 29.
(4) التفسير في عصر الرسول.
(5) البرهان للزركشي 2: 160 و 164.
280

ويبدو أنه قد أثير الجدل في مدة متأخرة عن هذا العصر حول صحة الاعتماد
على نصوص اللغة العربية لمعرفة معاني القرآن وخصوصيات أسلوبه، وقد أشار
السيوطي إلى ذلك في كلام نقله عن أبي بكر بن الأنباري، هذا نصه: " قد جاء عن
الصحابة والتابعين كثيرا الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر، وأنكر
جماعة لا علم لهم على النحويين ذلك، وقالوا إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلا
للقرآن، قالوا: وكيف يجوز ان يحتج بالشعر على القرآن وهو مذموم في القرآن
والحديث؟!
قال: وليس الامر كما زعموه من أنا جعلنا الشعر أصلا للقرآن، بل أردنا تبيين
الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لان الله تعالى قال: (انا جعلناه قرآنا
عربيا...) (1) وقال (بلسان عربي مبين) (2). وقال ابن عباس: " الشعر ديوان
العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى
ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه " (3).
ففي هذا النص نجد ابن الأنباري يناقش المسألة على أساس طبيعة الموقف
التفسيري، وتصرف الصحابة والتابعين الذين كانوا يعتمدون على نصوص اللغة
العربية عند محاولتهم التعرف على المعاني القرآنية، ويستشهد بما روى عن ابن
عباس في ذلك.
والشواهد العملية في حياة الصحابة وتفسيرهم على ذلك كثيرة، ويكفينا أن
نذكر منها ما رواه السيوطي في الاتقان بسنده المتصل عن حميد الأعرج وعبد الله
ابن أبي بكر بن محمد عن أبيه قالوا:

(1) الزخرف: 3.
(2) الشعراء: 195.
(3) الاتقان 1: 119 طبعة المكتبة التجارية الكبرى.
281

" بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن
تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ
على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه، فقالا: إنا نريد ان نسألك عن أشياء
من كتاب الله فتفسرها لنا وتأتينا بمصادقة من كلام العرب، فان الله تعالى انما انزل
القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما. فقال نافع:
اخبرني عن قول الله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال عزين) (1) قال العزون
الحلق الرقاق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عبيد بن
الأبرص وهو يقول:
فجاؤوا يهرعون إليه حتى يكونوا حول منبره عزينا (2)
وعلى هذا الشكل يستمر نافع في السؤال، ويستمر ابن عباس في الجواب حتى
يصل العدد إلى نحو مائتي مسألة (3).
ويدخل في مفردات اللغة العربية بعض المصطلحات والأسماء التي كانت

(1) المعارج: 37.
(2) الاتقان 1: 120.
(3) من المعقول ان يأخذنا الشك في صحة هذه الرواية بتفاصيلها المروية في الاتقان على
أساس استبعاد وقوع مثل هذه المناقشة الطويلة في مجلس واحد، واستحضار ابن عباس
لكل هذه النصوص العربية - كما تحاول الرواية ادعاء ذلك - ولكن من المعقول أيضا أن
يكون لهذه الرواية أصل يقتصر على بعض هذه المناقشة، وأضيف إليها بعد ذلك الاجزاء
الأخرى مما روى عن ابن عباس تكملة للفائدة أو لأغراض سياسية أشرنا إليها سابقا.
خصوصا إذا لاحظنا أن المحدثين الذين أخرجوها في وقت سابق على السيوطي لم
يخرجوها بهذا التفصيل، كما يصرح السيوطي نفسه بذلك، والذي نريد اثباته هنا بهذه
الرواية هو أن نصوص اللغة العربية كانت مصدرا لتفسير القرآن، وفي هذا يكفي ان نثبت
أصل هذه الرواية.
282

متداولة ويعرفها المعاصرون من الصحابة أو العارفون باللغة العربية، مثل
الأنصاب والأزلام واللات والعزى ومناة، أو غير ذلك من العادات والتقاليد.
ه‍ - أقوال أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ذلك لان القرآن الكريم عالج
موضوعين مهمين لهما صلة بأهل الكتاب. وهما ما يلي:
أحدهما: تحدث القرآن الكريم عن الحوادث والوقائع التي وقعت لبعض
الأنبياء والشعوب التي سبقت الاسلام، من اجل ان يستخلص العبرة والموعظة
للمسلمين من خلال ذلك، ولذلك جاء الحديث القرآني عنها غير مستوعب
للتفاصيل والجزئيات التي لا تمت إلى هذه الغاية بصلة، في الوقت الذي تتحدث
فيه التوراة والإنجيل المتداولان عند أهل الكتاب فعلا عن هذه الأمور حديث
المؤرخ للقضايا والوقائع، فتسرد فيهما الحوادث بشكل تفصيلي ومحدد.
والاخرى: انتقد القرآن الكريم أهل الكتاب في الكثير من عاداتهم وتقاليدهم
وأساليبهم، كما كشف التحريفات التي تعرض لها كتاب التوراة والإنجيل، وكان في
بعض الأحيان يخاطب أهل الكتاب أنفسهم مشيرا إلى انحرافاتهم: (ما جعل الله
من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب
وأكثرهم لا يعقلون) (1).
وقد كان من الطبيعي أن يلجأ الصحابة إلى أهل الكتاب لاستيضاح هذه
الجوانب ومعرفة التفصيلات - بعد إقصاء أهل البيت عن المرجعية الفكرية (2) -
عندما تواجههم الأسئلة عنها، ولا يجدون فيما لديهم من معرفة تفسيرية ما يسد

(1) المائدة: 103.
(2) أشير إلى نصوص دلت على أن النبي أرجع المسلمين في معرفة القرآن والاسلام إلى
أهل البيت (عليهم السلام) ولكنهم بعده لم يرجعوا إلى أهل البيت بشكل عام، بل رجعوا إلى عموم
الصحابة وبشكل جزئي إلى أهل البيت، لأسباب لا مجال للحديث عنها في هذا البحث.
283

هذا الفراغ ويجيب عن هذه الأسئلة، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن
بعض أهل الكتاب ممن رجع إليهم الصحابة في هذه التفصيلات قد أظهر
الاسلام، وانسجم مع القادة المسلمين في احكامهم وإطاراتهم، الامر الذي
ادى إلى أن يصبحوا من المقربين والمستشارين لهؤلاء القادة، أمثال كعب
الأحبار.
وخير ما يشهد لنا على رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب في تفسير
القرآن هو التفصيلات التي وردت على لسان الصحابة في التفسير عن الاحداث
التأريخية السابقة المرتبطة بقصص الأنبياء، لأننا نعرف أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم تسمح
له ظروفه الخاصة بأن يفسر القرآن بهذا الشكل الواسع الدقيق وعلى المستوى
العام للمسلمين، اضف إلى ذلك اتفاق تفاسيرهم مع ما جاء في التوراة والإنجيل
في الخصوصيات (1)، ونحن حين نقول ذلك لا نعني أن النصوص التي تصرح بهذا
الاعتماد غير متوفرة (2) كما أن العلماء اعترفوا بهذه الحقيقة التأريخية عندما تحدثوا
عن التفسير (3).

(1) تفسير الطبري 1: 225 - 227 وغير ذلك من المواضع.
(2) راجع تفسير الطبري 1: 151، 152، 230، 231، 235.
(3) راجع الاتقان 2: 205. فقد نقل عن ابن كثير أن ابن عباس تلقى حديثا طويلا من
الإسرائيليات.
284

نقد التفسير في عصر الصحابة والتابعين *:
يجدر بنا - ونحن نريد أن نمحص نتاج هذه المرحلة التفسيرية (1) - أن
نستذكر حصيلة أبحاثنا السابقة، خصوصا فيما يتعلق بالمحتوى الداخلي
لرجال المرحلة من الصحابة والتابعين، ذلك لان المعرفة التفسيرية تتأثر
- بطبيعة الحال - بخصائص هذا المحتوى ومقوماته، لأنها عطاؤه
ونتاجه.
وعندما نريد ان نتعرف على هذا المحتوى نقسمه إلى جانبين رئيسين:
الأول: الجانب الفكري، ونعني به مقدار الثقافة الاسلامية التي كان يتمتع بها
الصحابة، وما يستلزم ذلك من وعي وشعور بالمسؤولية تجاه الثقافة ومعرفة
الأساليب لحمايتها.
الثاني: الجانب الروحي، ونعني به درجة التفاعل مع الثقافة
الاسلامية، والامتزاج الروحي والوجداني بها، ومدى الايمان بصحتها
والاخلاص لها.

(1) حينما ندرس التفسير في عصر الصحابة والتابعين لا يفوتنا أن نؤكد أمرين، منعا لما
يمكن ان يقع فيه بعض القراء من الالتباس:
1 - اننا ندرس الصحابة على أساس المستوى العام الذي كان يتمتع به هؤلاء الرجال
والذي كان يمثل روح ذلك العصر من ناحية فكرية واجتماعية، وهذا لا يعني وجود
بعض الرجال من الصحابة والتابعين، ممن كانوا على درجات متفاوتة وعالية من الوعي
والاخلاص والعلم.
2 - لا يمكننا - بالرغم من كل نقاط الضعف التي أصيبت بها المعرفة التفسيرية في
عصر الصحابة والتابعين - ان ننكر عظيم الخدمات التي قام بها هؤلاء الرجال والعطاء
الذي وهبوه للمعرفة التفسيرية، الشئ الذي كان موضع استلهام كثير من المدارس
التفسيرية حتى عصرنا الحاضر.
285

وبهذا الصدد عرفنا سابقا: أن الصحابة بالنسبة إلى الجانب الأول كانوا على
جانب من البساطة الفكرية، وذلك بحكم أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لم يخطط إلى
تهيئة عامة الصحابة لقيادة التجربة الاسلامية بشكل رئيس، لان مجمل الظروف
لم تكن تساعده على انجاز هذه المهمة، وانما أوكل القيادة السياسية والفكرية إلى
أشخاص معينين هيأهم لهذه المهمة القيادية وهم أهل البيت (عليهم السلام) (1) ولكنهم
اقصوا عنها بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) (2) فكان من نتائج ذلك:
أ - عدم استيعاب عامة الصحابة للثقافة الاسلامية، نتيجة لعدم تفسير الرسول
الأعظم للقرآن بشكل شامل على المستوى العام.
ب - سذاجة الوسائل التي اتبعها الصحابة في ضبط وحماية أقوال الرسول
وسلوكه.
ج - بقاء الصحابة على سذاجتهم الفكرية وميلهم للبساطة وعدم التعمق،
وتأثرهم في فهم الاسلام بإطاراتهم الفكرية الخاصة.
وأما بالنسبة إلى الجانب الثاني فقد عرفنا أن عامة الصحابة كانوا مختلفين في
درجة الانفعال بالثقافة الاسلامية والاخلاص لها، نتيجة لمختلف الظروف
الموضوعية التي أحاطت بظروف انتمائهم إلى الاسلام واتصالهم بالنبي (صلى الله عليه وآله) ومدى
طموحهم وآمالهم، فقد كان بعضهم على مستوى عال من التأثر الروحي والنفسي
بالثقافة الاسلامية، بل يمكن ان يكون هذا التفاعل هو الطابع العام للسابقين
الأولين من المهاجرين والأنصار الذين دخلوا الاسلام عن يقين ومعرفة، بخلاف
عامة المسلمين الذين دخلوا الاسلام في مرحلة متأخرة من الفتح أو كانوا من

(1) راجع التفسير في عصر الرسول.
(2) ذكرنا ذلك في تكون علم التفسير.
286

أعراب البادية.
وقد رجعت الأمة - بعد اتساع دائرة الاسلام بشكل كبير - إلى جميع هؤلاء
دون تمييز بين المخلصين منهم أو الأقل اخلاصا أو المنافقين، لانهم طرحوا جميعا
للأمة على أساس أنهم يمثلون المرجع الفكري لها بسبب وجود الفراغ في هذا
الجانب، فكان من نتائج ذلك تأثر الثقافة الاسلامية التي أعطيت للمسلمين - من
قبل الصحابة - ما يلي:
أ - بالاتجاهات السياسية المختلفة أو الثقافات الرسوبية التي عاشتها تلك
الحقبة.
ب - بالاتجاهات المصلحية ذات الطابع الشخصي أو القبلي.
مظاهر هذه النتائج في المعرفة التفسيرية:
وقد تأثرت المعرفة التفسيرية بهذه النتائج التي فرضها المحتوى الداخلي
للصحابة على الثقافة الاسلامية، فاتسمت بدورها بنفس نقاط الضعف التي
اتسمت بها الثقافة الاسلامية بشكل عام في ذلك العصر.
ومن أجل ان نحدد هذه النقاط ونوضح مدى تأثر المعرفة التفسيرية بها يجدر
بنا ان نذكر بعض الشواهد من المعرفة التفسيرية على مظاهر نقاط الضعف،
ولنأخذ كل واحد منها بشكل مستقل:
اولا: عدم استيعاب عامة الصحابة للثقافة الاسلامية:
لسنا بحاجة هنا إلى أن نرجع مرة أخرى لنعرف مدى صحة هذا الحكم بعد أن
عرفنا ذلك في بحث (التفسير في عصر الرسول) ولا نريد هنا إلا أن نبحث عن
المظاهر التي أشاعتها في المعرفة التفسيرية نقطة الضعف هذه، ويمكن ان نلخص
ذلك في النقاط التالية:
287

أ - ان طبيعة المرحلة التي عرفناها سابقا وهي مواجهة القرآن الكريم
كمشكلة لغوية وتأريخية يمكن ان ترجع ببعض جوانبها إلى هذه النقطة، لان
الصحابة حين فقدوا العنصر الخارجي (1) الأصيل الذي كان من الممكن ان
يساهم في معرفتهم التفسيرية مساهمة فعالة، كان من الطبيعي ان ينحصر نتاجهم
التفسيري بما يقتضيه المحتوى الداخلي لهم والمعلومات العامة التي حصلوا عليها
من خلال معاشرتهم العامة مع النبي (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن ذلك المحتوى بالمستوى الذي
يمكنه ان يواجه القرآن الكريم بشكل أعمق من المشكلة اللغوية والتأريخية،
فجاءت هذه المرحلة وهي لا تعنى بكثير من الجوانب العقلية والاجتماعية التي
اهتمت بها مراحل متأخرة، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار التطورات المهمة
التي حصلت في المجتمع الاسلامي في عصر الصحابة بسبب الفتح وانتشار
الاسلام.
ب - انفتاح باب الرأي والاستحسان، الامر الذي ادى إلى نتائج خطيرة في
المعرفة التفسيرية، وانتهى إلى ظهور الصراع التأريخي بين مذاهب التفسير
بالمأثور والتفسير بالرأي.
ج - اعتماد الصحابة على أهل الكتاب في تفسير القرآن، لان السبب الرئيس
لوقوع الصحابة في مثل هذه المفارقة هو الفراغ الذي كانوا يعانونه في المعرفة
التفسيرية، نتيجة لعدم الاستيعاب - من جانب - والمتطلبات الفكرية التي كانت
تواجههم كقادة فكريين - من جانب آخر - وسوف نعرف قريبا مدى الخطأ الذي

(1) نقصد بالعنصر الخارجي الأصيل: الوحي الإلهي الذي كان يأتي على يد النبي (صلى الله عليه وآله) من
خلال تعليمه وتفسيره، والدور التعليمي المهم الذي كان يمكن ان يقوم به الإمام علي
(عليه السلام) ومدرسته، والعنصر الخارجي غير الأصيل وهم أهل الكتاب الذين كانوا
يمثلون مصدرا من مصادر التفسير.
288

وقع فيه بعض الصحابة نتيجة هذا الرجوع منهم إلى هذا المصدر في
التفسير.
د - بعض المضاعفات التي سوف نتعرف عليها في نقاط الضعف الآتية، حيث
كان من الممكن تفادي هذه الأخطاء لو تهيأت للصحابة الظروف التي تجعلهم في
مستوى الثقافة الاسلامية في التفسير، ومن هذه المضاعفات تأثرهم ببعض
الإطارات الفكرية الخاصة في تفسيرهم للقرآن، أو فهمهم للاستعارة القرآنية
بشكل آخر لا ينسجم مع الواقع القرآني، بسبب عدم اطلاعهم على الاطار
الفكري والنظرية العامة لتلك الاستعارة القرآنية.
ثانيا: سذاجة الصحابة في ضبط وحماية المعرفة الاسلامية:
لم يكن أكثر الصحابة في عصر الرسول الأعظم يتمتعون بالمقدار الكافي
من الوعي للظروف والمضاعفات السلبية التي سوف تواجهها المعرفة
الاسلامية وما يستدعيه مرور الزمن وانتهاء عصر الوحي من مشكلات، ولذا
لا نجد التخطيط المركزي الذي يتخذ المبادرة لوضع الضمانات لحماية
المعرفة التفسيرية وغيرها من المعرفة الاسلامية وضبطها، فنجم عن هذا
الاهمال مجموعة من المضاعفات ونقاط الضعف أصابت جوانب من المعرفة
التفسيرية.
فقد عرفنا: أن المعرفة التفسيرية في عصر الصحابة والتابعين اعتمدت على
مجموعة من المصادر كان منها النص القرآني، والمأثور عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأقوال
الصحابة الذين عاشوا الاحداث الاسلامية التي ارتبط بها النص القرآني، ومن
اجل ان تكون هذه المصادر الأصيلة ذات دور ايجابي في عملية التفسير كان يجب
ان تكون موضع اهتمام في صيانتها وضبطها وحمايتها، ليمكنها ان تؤدي مهمتها في
تغذية المعرفة التفسيرية.
289

ونحن نلاحظ مجموعة من نقاط الضعف اكتنفت عملية الاستفادة من هذه
المصادر نتيجة للسذاجة في الضبط والحماية، الامر الذي نجم عنه مجموعة من
المشكلات:
1 - مشكلة تعدد القراءات:
نلاحظ أن بعض الألفاظ القرآنية تقرأ بأساليب مختلفة، تؤدي في بعض
الأحيان إلى الاختلاف في معنى اللفظ ومؤداه، هذ الشئ الذي أدى في نهاية
تطوره إلى ولادة علم القراءات.
وقد حاول بعضهم أن يفسر ظاهرة تعدد القراءات في البحوث التفسيرية
العامة على أساس أن القرآن الكريم جاء به الوحي إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بهذا
الشكل المتعدد، وأنه نزل على عدة حروف، وأن القراءات المتعددة هي هذه
الحروف المتعددة.
وإذا كنا نقبل هذه المعالجة في بعض الحالات لا يمكن أن نقبلها بشكل مطلق وفي
جميع الحالات، خصوصا في الحالات التي يكون لاختلاف القراءة تأثير على
المعنى، ويكون المعنى بدوره مرتبطا بحكم شرعي كما في " يطهرن " بالتخفيف
و " يطهرن " بالتشديد، إذ في مثل هذه الحالة لا يمكن ان نتعقل الترديد في الحكم
الشرعي المستفاد منها (1).
وحينئذ نجد أنفسنا أمام تفسيرين لهذه الظاهرة بشكل عام، أو على الأقل في
بعض الحالات:
أحدهما: هو اهمال ضبط الكلمات القرآنية بشكل معين في عهد الرسول من

(1) يحسن بهذا الصدد مراجعة البيان في تفسير القرآن لاية الله السيد الخوئي (قدس سره)
(المدخل): 102 - 117.
290

قبل بعض الصحابة أنفسهم، أو نسيان الطريقة الصحيحة لنطق اللفظ نتيجة عدم
التدوين.
والاخر: تدخل عنصر الاجتهاد والاستحسان في القراءة بعد فقدان حلقة
الوصل التي كانت تربط بين بعض الصحابة والرسول.
ومن الممكن ان يكون السببان مشتركين في نشوء هذه الظاهرة.
ويبدو لنا بشكل واضح تأثير اختلاف القراءات على فهم النص القرآني، إذا
لاحظنا هذا النص التأريخي عن مجاهد أحد كبار مفسري التابعين: " لو كنت
قرأت قراءة ابن مسعود لم احتج إلى أن أسأل ابن عباس عن كثير من
القرآن " (1).
2 - ظاهرة ادعاء نسخ التلاوة:
ولعل من أبرز مظاهر عدم الضبط وأبعدها أثرا في القرآن الكريم هو ما يقال
عن نسخ التلاوة، حيث لا يمكن تفسير بعض النصوص التي تتحدث عن هذا
النسخ - إذا أردنا ان نحسن الظن في الصحابي الذي رواها - إلا على أساس أنه
كان يسمع من النبي (صلى الله عليه وآله) الحديث أو الدعاء فيتصوره قرآنا أو يختلط عليه الامر
بعد ذلك، وإلا فكيف نفسر ادعاء عمر بن الخطاب آية الرجم، أو ادعاء عائشة
آية الرضاع، مع أنها تصرح أنها مما مات عنه الرسول وهو يقرأ من القرآن؟! (2)

(1) الترمذي 11: 6.
(2) البخاري 8: 26 طبعة بيروت. والاتقان 1: 58. وصحيح مسلم 4: 167.
وإليك الروايتين:
1 - روى ابن عباس أن عمر قال فيما قال وهو على المنبر:
" ان الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما انزل الله آية
الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورجمنا بعده،
فأخشى ان طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله،
فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا احصن من
الرجال... ".
2 - روت عمرة عن عائشة أنها قالت: كان فيما انزل من القرآن " عشر رضعات
معلومات يحرمن " ثم نسخن ب‍ " خمس معلومات " فتوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهن فيما
يقرأ من القرآن ".
291

وهل معنى ذلك إلا القول بتحريف القرآن أو الالتزام بعدم ضبط هؤلاء الصحابة
للنص القرآني بشكل كامل (1).
3 - ظاهرة اختلاف الحديث والتأريخ:
والى جانب القرآن الكريم تعرض المأثور عن رسول الله إلى هذه الظاهرة،
ونلاحظ ذلك في اختلاف ما يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التفسير (2).
كما نجد مثل هذا الشئ في نقل الحوادث التأريخية التي ارتبطت بها بعض
الآيات القرآنية، حيث نلاحظ مفارقات كثيرة في ذلك مما أدى في بعض العصور
المتأخرة الاسلامية إلى نشوء بعض الفرق والمذاهب المختلفة، ويظهر ذلك بمراجعة
اي كتاب من كتب أسباب النزول (3) ومن الواضح أن تفسير هذه الظاهرة انما

(1) ذكرنا في بحث النسخ عدم صحة ادعاء نسخ التلاوة، لأنه يؤدي إلى القول بتحريف
القرآن، وأشرنا إلى الشواهد على عدم صحة هذه الروايات.
(2) كمثال على ذلك قارن بين الروايات التي يذكرها السيوطي في الاتقان 2: 191 -
205.
(3) وبصدد أسباب النزول نجد علماء التفسير يأخذون قول الصحابي بمنزلة المرفوع في
أسباب النزول من دون تردد، والكثير منهم يعمم هذا الحكم إلى جوانب المعرفة
التفسيرية، في الوقت الذي يجب علينا كباحثين ان نميز بين الصحابة الذين عاشوا هذه
الاحداث عن كثب وشاهدوا تفاصيلها، وبين الآخرين الذين اعتمدوا في نقلهم لها على
الشائعات والأقاويل، الامر الذي يؤدي في أكثر الأحيان إلى الالتباس في نقل
الخصوصيات والتفصيلات، فنحن حين نشاهد بعض المسلمين يختلفون في زمن
الرسول (صلى الله عليه وآله) في المسجد الذي أسس على التقوى هل هو مسجد " قبا " أو مسجد
الرسول (صلى الله عليه وآله) ويرفعون هذا الاختلاف للرسول الأعظم ليحكم فيه... نسمح لأنفسنا ان
نشكك في كل ما يروى عن الصحابة بهذا الشأن إذا لم يكن الشخص الراوي قد عاش
الحادثة بنفسه. (الترمذي 11: 245 - 246) ويروي الترمذي بعد هذه الرواية نصا آخر
يدل بالدلالة الالتزامية على أن المسجد هو مسجد " قبا " في الوقت الذي نجد هذه
الرواية تصرح بأن المسجد هو مسجد النبي.
292

يكون بموجب نفس الأسس السابقة التي عللنا بها ظاهرة تعدد القراءات، حيث
يمكن ارجاع ذلك لعدم ضبط الصحابة لأقوال الرسول وسلوكه، أو إلى عدم
التدوين الذي أدى في عصر ما بعد الصحابة إلى هذا الاختلاط.
4 - ظاهرة الإسرائيليات:
وقد تعرضت المعرفة التفسيرية إلى نقطة ضعف مهمة نتيجة لهذه البساطة في
الشعور بالمسؤولية وعدم التقدير الواعي لظروف الحماية وأساليبها، حيث نجد
المرحلة تعتمد بشكل رئيس على أقوال أهل الكتاب ونظرياتهم.
وقد وقع بعض الصحابة نتيجة لهذا الاعتماد في مفارقات فكرية وعقيدية
تختلف عن الاتجاهات الاسلامية الصحيحة، فهناك كثير من الأفكار الإسرائيلية
عن الأنبياء وعالم الآخرة والملائكة أضيفت إلى القرآن الكريم نتيجة هذا الربط
التفسيري بين الوقائع التي تسردها الكتب الإسرائيلية أو التي يرويها الإسرائيليون،
والوقائع التي يشير إليها القرآن الكريم لاستخلاص العبرة والموعظة منها.
والشواهد على هذه المفارقات في النصوص التفسيرية (الصحيحة!) المأثورة
عن الصحابة كثيرة، واليك نماذج منها:
أ - عن أبي هريرة في قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
293

ذريتهم...) (1) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط
كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل انسان منهم
وبيصا (2) من نور ثم عرضهم على آدم. فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال
هؤلاء ذريتك. فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال: أي رب من
هذا؟ فقال: رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود. فقال رب كم جعلت
عمره؟ قال ستين سنة. قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة. فلما مضى آدم
جاءه ملك الموت. فقال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟! قال أو لم تعطها ابنك
داود؟ فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم
فخطئت ذريته (3).
وهذا الحديث وان كان يرويه أبو هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكننا نقطع بعدم
صدوره من رسول الله لوجود التشابه بينه وبين الإسرائيليات في نظرتها إلى
الأنبياء واتهامها لهم بعظائم الأمور، كما أنه يحاول أن يصور بني إسرائيل على
أساس أنهم آخر الأمم، وعدم وجود ارتباط واضح بين الفقرات الثلاث
الأخيرة وواقع القصة، ان لم نقل يتناقضها.
ب - عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " لما أغرق الله فرعون قال: (آمنت
أنه لا اله الا الذي آمنت به بنو إسرائيل...). فقال جبرئيل فلو رأيتني وأنا آخذ من
حال (4) البحر فأدسه في فيه مخافة ان تدركه الرحمة " (5).

(1) الأعراف: 172.
(2) الوبيص: البريق. ابن الأثير، البداية والنهاية 4: 191.
(3) الترمذي 11: 196 - 199.
(4) الحال: الطين الأسود كالحمأة. ابن الأثير، البداية والنهاية 10: 273.
(5) يونس: 90، الترمذي 11: 271 راجع الحديث الذي بعده.
294

فان هذه الرواية تصور لنا جبرئيل شخصا يحب الانتقام من الناس وهلاكهم،
فإذا قارنا ذلك بما ينظر اليهود به إلى جبرئيل وأنه ملك العذاب كما جاءت بذلك
بعض النصوص التأريخية في أسباب نزول قوله تعالى: (من كان عدوا لله
وملائكته ورسله وجبريل وميكال...) (1)... نعتقد أن هذه الرواية لم تأت عن النبي
وانما جاءت على لسانه تأييدا لوجهة النظر الإسرائيلية، أو تأثرا بأفكار
الإسرائيليات، والا فنحن لا نفهم لماذا يخاف جبرئيل ان تدرك رحمة الله أحدا
من الناس حتى لو كان ذلك فرعون!.
ج - عن أبي هريرة رفعه " لم يكذب إبراهيم الا في ثلاث: قوله: (... اني
سقيم...) ولم يكن سقيما. وقوله لسارة: أختي. وقوله: (... بل فعله كبيرهم
هذا...) " (2).
ولا يمكننا الا ان ننسب هذا الحديث إلى الإسرائيليات لما فيه من اتهام إبراهيم
بالكذب على هذه الصورة المشينة، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار عدم ورود
قصة ادعاء إبراهيم ان سارة أخته في القرآن الكريم مع وجود تفسير واضح لكل
من الحادثتين الأخريين لا يتسم بالكذب.
د - جاء في الطبري عن سعيد بن المسيب أنه كان يحلف ان آدم لم يأكل من
الشجرة الا بعد أن شرب الخمر (3).
وسعيد بن المسيب هذا نجده في موضع آخر لا يرضى ان يقول في القرآن شيئا
من التفسير؟! (4) فكيف يمكن ان نوفق بين يمينه ذاك ورأيه هذا؟!

(1) البقرة: 98.
(2) الصافات: 89، الأنبياء: 63، الترمذي 12: 24.
(3) تفسير الطبري 1: 237.
(4) المصدر السابق 1: 38.
295

ه‍ - عن أبي سعيد الخدري قال: " قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) (وانذرهم يوم
الحسرة...) (1) قال يؤتى بالموت كأنه كبش أملح، حتى يوقف على السور بين
الجنة والنار. فيقال: يا أهل الجنة! فيشرئبون. ويقال يا أهل النار! فيشرئبون.
فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت. فيضجع فيذبح. فلولا ان الله
قضى لأهل الجنة الحياة فيها والبقاء لماتوا فرحا، ولولا أن الله قضى لأهل النار
الحياة فيها لماتوا ترحا " (2).
ويمكن ان نعرف مدى صحة هذا النص إذا درسنا النصوص التي تروى عن أبي
سعيد هذا ووجدنا أنها تلتقي في نقطة واحدة وهي التحدث عن أشياء غريبة
ترتبط بعالم الآخرة، وكأنه شخص اختصاصي لا يمارس الا هذا اللون من
التفسير (3).
قيمة الإسرائيليات في المعرفة التفسيرية:
ويجدر بنا ونحن نتحدث عن المفارقات التي وقع فيها بعض الصحابة والتابعين،
نتيجة اعتمادهم على الإسرائيليات في التفسير ان نعرف مدى قيمة هذا المصدر من
ناحية اسلامية في المعرفة التفسيرية.
ويمكننا ان نجزم بسهولة بأن هذا المصدر لا يمثل في وجهة النظر الاسلامية أي
قيمة حقيقية بعد أن نلاحظ الامرين التاليين:
اولا: ان القصص والتفصيلات التي سردتها التوراة والإنجيل بوجودهما الفعلي
لا يمكن الاعتماد عليها لأنها محرفة، وفيها اتجاهات أخلاقية وعقيدية لا يقرها

(1) مريم: 39.
(2) الترمذي 12: 14.
(3) يمكن ملاحظة ما رواه السيوطي في الاتقان عنه 2: 191 - 205. والترمذي في كتاب
التفسير.
296

الاسلام الحنيف، وقد صرح القرآن الكريم في مواضع مختلفة بهذا التحريف الذي
أصاب هذين الكتابين، وذم أهل الكتاب بصورة عامة على قيامهم بهذا التحريف
والتزامهم له، فكيف يصح لنا بعد هذا كله ان نعتمد على شئ من هذه التفصيلات
في تفسير القرآن الكريم.
ثانيا: ان الصحابة والتابعين حين كانوا يأخذون من أهل الكتاب هذه
التفصيلات لم تكن لديهم وسائل الاطلاع على ذات التوراة والإنجيل، وانما كانوا
يعتمدون في ذلك على بعض من دخل الاسلام من أهل الكتاب وغيرهم، وقد
كان بعض هؤلاء قد تظاهر بالاسلام وهو غير مخلص له، فمن الطبيعي ان يقوم
بعملية تشويه للمفاهيم الاسلامية بادخال بعض الاتجاهات الفكرية والأخلاقية
فيما يرويه عن التوراة والإنجيل بصورة محرفة، وهذا الشئ وان كان غير وارد في
الوقت الحاضر على أساس انتشار العهدين القديم والجديد، ولكنه كان ذا مفعول
قوي في تشويه الفكر الاسلامي أيام الصحابة والتابعين.
بل نجد في ثقافة أهل الكتاب معلومات وأفكارا كانوا يتداولونها ويتوارثونها
جيلا عن جيل ويحرفونها ويحورونها لأسباب مختلفة، وهي ليست موجودة
بالأصل في التوراة والإنجيل، بل هي من الثقافة العامة لهم، ولذا كان يعاتبهم
القرآن ويدعوهم - أحيانا - للرجوع إلى ما بأيديهم من التوراة والإنجيل لمعرفة
الحقيقة.
وقضية اعتماد بعض الصحابة على الإسرائيليات في التفسير يمكن ان تعتبر
بداية المشكلة لعصر التابعين، حيث كان هذا الاتجاه اتجاها رئيسا في عصرهم
قامت عليه بعض المدارس التفسيرية وتبنته بعض الأساليب الثقافية كمصدر مهم
من مصادر التموين.
فقد ظهرت في هذه المدة من الزمن حركة اتخذت من سرد الحوادث التأريخية
297

حرفة خاصة (1). وبرزت الإسرائيليات التي تتحدث عن حياة الأنبياء السابقين
- بصفتها جزءا من الثقافة الاسلامية العامة - إلى جانب السيرة النبوية
وتفصيلاتها.
بل تأثر بهذا الأسلوب رواة السيرة النبوية وتأريخ الفتح الاسلامي وملاحم
العرب الجاهلية، فوضعوا القصص والملاحم والكتب التي تتحدث عن الغزوات
ومعارك المسلمين والجاهليين من العرب وبشكل أسطوري له اهداف سياسية أو
ثقافية معينة.
كما اختلقت قصص وأساطير وهمية حول شخصيات حقيقية أريد منها تشويه
الحقائق السياسية والاجتماعية، وتبرير أو تغطية الخلافات القبلية التي برزت في
عهد الأمويين، أو السياسية والمذهبية، بل حتى تمادى بعضهم باختلاق
الشخصيات ونسبة أدوار مهمة لهم من أجل هذه الاهداف، مثل قصص عنترة بن
شداد، أو عبد الله بن سبأ، أو القعقاع التميمي، أو أيام العرب الجاهلية وغيرهم من
الشخصيات الوهمية أو الحقيقية التي أحيطت بهالات وأطر وبطولات وهمية.
وبعد هذا كله يمكننا أن ندرك بوضوح مقدار ما أصاب الثقافة الاسلامية من
ضياع وتشويه نتيجة هذه السذاجة في الضبط والحماية.
ثالثا: سذاجة عامة الصحابة الفكرية، وميلهم للبساطة، وتأثرهم في فهم
الاسلام بإطارتهم الخاصة:
لقد كانت السذاجة الفكرية لجمهور الصحابة، وتأثرهم في فهم الاسلام
بإطاراتهم الخاصة إحدى النقاط المهمة التي كانت لها نتائجها ومضاعفاتها في
المعرفة التفسيرية، ونذكر من تلك النتائج ما يلي:

(1) يشير إلى هذا ما ذكره هبة الله بن سلامة في كتابه الناسخ والمنسوخ المطبوع بهامش
أسباب النزول للواحدي: 6 - 8.
298

1 - فقد كان من مظاهر ذلك ما أشرنا إليه سابقا من طبيعة المرحلة التي فرضت
على الصحابة أن يعيشوا القرآن كمشكلة لغوية وتأريخية، فان ذلك كان بسبب
عاملين:
أحدهما خارجي: وهو عدم استيعاب الصحابة للثقافة الاسلامية.
والاخر داخلي: وهو المستوى العقلي والفكري الذي كان يعيشه رجال المرحلة،
حيث كانوا ينظرون إلى البحث والتأمل خارج حدود المشكلة اللغوية والتأريخية
بحثا غير اسلامي، قد ينتهي بهم إلى الانحراف في فهم الدين والضلال عنه.
في الوقت الذي نجد القرآن الكريم يحث على التأمل في الكون، والتدبر في آيات
القرآن الكريم ومفاهيمه، واستعمال العقل أداة لادراك بعض المفاهيم الكونية
والاجتماعية من خلال النظرية الاسلامية ومفاهيمها.
2 - كما كان من نتائج هذه السذاجة موقف الصحابة من القرآن الكريم - بصفته
مصدرا مهما من مصادر المعرفة التفسيرية في ذلك العصر - حيث لم يتمكنوا من
الاستفادة الكاملة من العطاء القرآني في هذا المجال، ويلاحظ ذلك في ندرة ما ورد
عنهم من محاولات تفسيرية تعتمد في فهم القرآن الكريم على القرآن نفسه، في
الوقت الذي نعرف أن طبيعة نزول القرآن الكريم وأسلوبه وترابط النظرية
الاسلامية وتكاملها يحتم علينا فهم المقطع القرآني في ضوء جميع ما ورد في القرآن
الكريم بصدد معناه.
وفي بعض الموارد حاول الصحابة الاستفادة من عطاء هذا المصدر الأصيل،
فتجدهم يخضعون النص القرآني لإطاراتهم الفكرية الخاصة.
ومن الشواهد التي تدل على ذلك تلك المحاولة التي تنسب إلى بعض الصحابة،
حين حاول التعرف على حقيقة إبليس وماهيته، وانه من الجن أو الملائكة حيث
خرج - بعد مقارنته لقوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا
299

إبليس أبى...) (1) مع قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا
إبليس كان من الجن...) (2) - بنتيجة معينة تقول: إن إبليس كان ينتمي إلى قبيلة
من الملائكة تسمى بالجن (3).
3 - وعملية اخضاع النص القرآني للإطارات الفكرية الخاصة التي كان
يعيشها بعض الصحابة والتابعين هي: إحدى المظاهر التي أصيبت بها المعرفة
التفسيرية في ذلك العصر نتيجة للسذاجة الفكرية، ولدينا شواهد كثيرة على هذا
التأثر في العمليات التفسيرية المنسوبة إلى بعض الصحابة والتابعين (4).
4 - والى جانب ذلك كانت تبدو البساطة في فهم المعنى القرآني، والاستعارة
القرآنية واضحة المعالم في تفاسير بعض الصحابة والتابعين:
فعكرمة أحد التابعين يرى في قوله تعالى: (... لهم عذاب شديد بما نسوا يوم
الحساب) (5) على أنه من تقديم ما حقه التأخير، إذ يفهم الآية على أساس أن
تركيبها الأصلي " لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا " حيث لا يرى عكرمة
أن نسيان يوم الحساب يمكن ان يكون سببا معقولا للعذاب الشديد (6).
وكذلك ابن عباس يرى في قوله تعالى: (... فقالوا أرنا الله جهرة...) (7) أن
(جهرة) كان حقها التقديم في الكلام، فتأخرت حيث لا يعقل أن تتصف الرؤية

(1) البقرة: 34.
(2) الكهف: 50.
(3) الطبري 1: في تفسير الآية 34 من سورة البقرة. دار المعرفة - بيروت.
(4) راجع بهذا الصدد الاتقان 1: 144 و 2: 141. والترمذي 11: 246.
(5) ص: 26.
(6) الاتقان 2: 13.
(7) النساء: 153.
300

ب‍ (الجهرة) لانهم إذا رأوا فقد رأوا، وانما كان قولهم الذي طلبوا فيه الرؤية جهرة
وعلنا (1).
وهكذا نجد الصحابة في هذا ونظائره يفسرون القرآن حسب مدركاتهم
واجتهاداتهم العقلية الخاصة، ويخضعون المجاز القرآني بأقسامه المختلفة لهذه
المدركات على بساطتها وسذاجتها.
5 - وقد انفتح بعض الصحابة والتابعين - نتيجة لهذه السذاجة الفكرية - على
بعض الأفكار الإسرائيلية وتفسيراتهم لبعض الألفاظ القرآنية، حين لم يجدوا فيها
ما يتنافى مع أفكارهم الخاصة ومدركاتهم العقلية، خصوصا ما يرتبط منها بعالم
الغيب، هذا العالم الذي كانوا يجهلون الكثير من تفاصيله ودقائقه (2)، فكان أن
فرضت على الثقافة القرآنية مجموعة غريبة من الأفكار والمفاهيم، ونظر إليها في
العصور المتأخرة على أساس أنها جزء من الثقافة الاسلامية.
رابعا: التفسير لأغراض سياسية وشخصية:
لقد عرفنا سابقا أن تسلم الصحابة لقيادة المسلمين فكريا لم يتم على
أساس التمييز بين رفاق النبي (صلى الله عليه وآله) الذين أخلصوا له ولرسالته، وبين الآخرين
الذين لم يكونوا قد انفعلوا بدرجة كافية برسالة الاسلام وامتزجوا بها
روحيا.
وكان لهذا التوجيه الخاطئ نتائجه الكثيرة في الثقافة الاسلامية بشكل عام،
ولم تسلم المعرفة التفسيرية من مضاعفاته وآثاره، فتعرضت ثقافة القرآن الكريم
للتزوير والتشويه بقصد الاستفادة السياسية أو الشخصية.
ويلاحظ الباحث في المعرفة التفسيرية لذلك العصر مواقف كثيرة كانت تتسم

(1) الاتقان 2: 13.
(2) راجع الترمذي 11: 284. والاتقان 2: 141 وغير ذلك.
301

بهذا الاتجاه الخاص وتحقق أغراضا وأهدافا معينة.
وهناك شواهد كثيرة تشير إلى اتهام أولئك الابطال الذين اشتروا آيات الله
بأثمان قليلة، فراحوا يخدمون جهات معينة سياسية أو شخصية، ويتقاضون أجر
ذلك منصبا زائلا أو ذهبا رنانا.
ولعل من أبرز هذه الشواهد هو ما نفهمه حين نقارن بين ما يذكره علماء القرآن
في شأن المفسرين من الصحابة، حيث يذكرون: أن عليا (عليه السلام) من أكثر الصحابة
تفسيرا للقرآن، وأن أبا هريرة من أقلهم تفسيرا (1)... وبين ما يذكر في كتب
التفسير (الصحيحة!) حيث نجد ما يروى عن أبي هريرة أكثر مما يروى عن
علي (عليه السلام) (2).
ولا شك أن هذه المفارقة ذات الدلالة على الظروف السياسية التي منعت من
الرواية عن علي (عليه السلام) ودفعت الناس للاخذ من أبي هريرة، الامر الذي سمح
لهؤلاء نسبة ما يقولونه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقرآن الكريم.
نماذج للتفسير بدوافع مختلفة:
أ - نماذج من التفسير لأغراض سياسية:
1 - أحتج أبو بكر على الأنصار يوم السقيفة بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (3) وفسر " الصادقين " في هذه الآية بالمهاجرين
بقرينة قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون

(1) الاتقان 2: 187 - 189.
(2) قارن ما ذكرناه، بالروايات المذكورة عن علي (عليه السلام) وأبي هريرة من كتابي التفسير
للبخاري والترمذي.
(3) التوبة: 119.
302

فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) (1) (2). إذ من
الواضح أن هذا اللون من التفسير لم يقصد منه الا الغرض السياسي مع ابتعاده عن
الغرض القرآني الأصيل.
2 - عن علي بن أبي طالب: قال صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا
وسقانا الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: قل يا
أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون! قال فأنزل الله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون...) (3).
ولا يشك أي مسلم يعرف القليل عن شخصية الإمام علي (عليه السلام) بوضع هذا
الحديث على لسانه، حيث إن الإمام علي (عليه السلام) تربى في حجر الرسول منذ أن كان
طفلا وتخلق باخلاقه، فكيف يمكن ان نتصور وقوع هذا الشئ منه، خصوصا إذا
أخذنا بعين الاعتبار نزول بعض الآيات القرآنية في ذم الخمر قبل هذا الوقت، وإذا
لاحظنا وجود بعض النصوص التي تذكر نزول الآية في شخص آخر من كبار
الصحابة، ممن كان قد اعتاد شرب الخمر في الجاهلية عرفنا الهدف السياسي
فيها.
ب - نماذج من التفسير لأغراض شخصية:
1 - عن عمر بن الخطاب، قال: " قال رسول الله يوم أحد اللهم العن أبا
سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية، فنزلت (ليس

(1) الحشر: 8.
(2) ذكر هذه الواقعة الزركشي في كتابه: البرهان في علوم القرآن 1: 156. ولسنا على
يقين من صحة صدور هذا التفسير عن شخص أبي بكر، ولكن الرواية - مع ذلك - تدل
على لون من ألوان الوضع السياسي في عصر متأخر عن أبي بكر.
(3) الترمذي 11: 157. وسورة النساء: 43.
303

لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم...) (1) فتاب عليهم فأسلموا فحسن
اسلامهم " (2).
ومن الواضح أن هذا الحديث وضع لصالح الأمويين على لسان عمر بن
الخطاب، إذ لا يتفق هذا الحديث مع الواقع التأريخي المعروف عن هؤلاء
الاشخاص بعد اسلامهم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وبعدها.
ولكن يبدو أن التزوير غير متقن، لأنه يفرض صدور التوبة من الله
قبل اسلامهم!.
2 - عن أبي بكر قال: " كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنزلت عليه هذه الآية:
(... من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) (3) قلت يا
رسول الله بأبي أنت وأمي أينا لم يعمل سوءا وانا لمجزون بما عملنا، فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله) أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله
وليس لكم ذنوب، واما الآخرون فيجمع لهم حتى يجزوا به يوم القيامة " (4).
فهذا الحديث بالرغم من مخالفته لظهور كثير من الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية يحاول أن يبرئ موتى المسلمين - كما ترى - من التبعات الأخروية
لاعمالهم، ليبقوا أولياء على كل حال في نظر الناس.
3 - روى مسلم عن ابن عباس في رواية باذان: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد
ابن الوليد في سرية إلى حي من أحياء العرب، وكان معه عمار بن ياسر فسار
خالد حتى إذا دنا من القوم، عرس لكي يصبحهم، فأتاهم النذير، فهربوا عن

(1) آل عمران: 128.
(2) الترمذي 11: 131.
(3) النساء: 123.
(4) الترمذي 11: 169 - 170.
304

رجل قد كان أسلم، فأمر أهله أن يتأهبوا للمسير، ثم انطلق حتى أتى عسكر
خالد، ودخل على عمار، فقال يا أبا اليقظان اني منكم وان قومي لما سمعوا بكم
هربوا وأقمت لاسلامي أفنافعي ذلك، أو أهرب كما هرب قومي؟ فقال: أقم فان
ذلك نافعك، وانصرف الرجل إلى أهله وأمرهم بالمقام.
وأصبح خالد فغار على القوم فلم يجد غير ذلك الرجل، فأخذه وأخذ ماله،
فأتاه عمار فقال أخل سبيل الرجل فإنه مسلم، وقد كنت آمنته فأمرته بالمقام،
فقال خالد أنت تجير علي وأنا الأمير، فقال: نعم أنا أجير عليك وأنت الأمير،
فكان في ذلك بينهما كلام، فانصرفوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبروه خبر الرجل، فآمنه
النبي (صلى الله عليه وآله) وأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير بعد ذلك على أمير بغير اذنه.
قال واستب عمار وخالد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأغلظ عمار لخالد، فغضب
خالد وقال يا رسول الله أتدع هذا العبد يشتمني، فوالله لولا أنت ما شتمني، وكان
عمار مولى لهاشم بن المغيرة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا خالد كف عن عمار، فإنه
من يسب عمارا يسبه الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله. فقام عمار فتبعه خالد
فأخذ بثوبه، وسأله أن يرضى عنه فرضي عنه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: (يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) (1) وأمر بطاعة
اولي الامر (2).
والتلفيق في هذه الرواية واضح لما فيها من التناقض في الاحكام والمواقف
بالشكل الذي لا ينسجم مع أوضاع أبطالها الثلاثة: رسول الله وعمار وخالد،
فلماذا يحتاج هذا الرجل المسلم إلى أن يجيره شخص من السرية، ليكون آمنا ولا
يكفيه اسلامه في ذلك حتى يقع النزاع بين عمار وخالد فيمن يجير؟! وكيف يسب

(1) النساء: 59.
(2) الواحدي، أسباب النزول: 118.
305

عمار خالدا بعد أن حقق عمار هدفه في الحصول على أمان للرجل من رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وبعد نهي رسول الله له - كما تفرض الرواية - بمخالفة أمير السرية؟! ثم
كيف ينتصر النبي لعمار على خالد والرواية تظهر عمارا كظالم لخالد؟! ثم كيف
يترضى خالد عمارا بعد ظلم عمار له، وبعد أن تكشف خالد عن نفسية جاهلية
تأبى عليه هذا الذل؟!
وبعد كل هذا ألا يجوز لنا أن نحكم بتزوير هذه الرواية لمصلحة خالد بن الوليد
على حساب الصحابي المجاهد المناهض للظلم عمار بن ياسر؟
306

التفسير في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
تمهيد:
من أجل أن نوضح المعالم الأساسية والميزات الخاصة التي تتميز بها
مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في التفسير، لا بد أن نشير إلى نقطتين لهما أهمية بهذا
الصدد:
الأولى: نظرة أهل البيت (عليهم السلام) إلى القرآن الكريم.
الثانية: نظرة أهل البيت (عليهم السلام) العامة إلى طرق إثبات الحقائق والوصول إلى
فهم القرآن الكريم والشريعة الاسلامية ومعرفة السنة النبوية.
نقطتان مميزتان للتفسير في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):
النقطة الأولى: نظرة أهل البيت (عليهم السلام) إلى القرآن الكريم:
في البداية لا بد أن نشير إلى نظرة أهل البيت (عليهم السلام) المتميزة في تقديس القرآن
الكريم، حيث يضعونه في المرتبة الثانية بعد الله تعالى، والى اهتمامهم الخاص في
حفظ وتعلم القرآن الكريم وقراءته فإنها أفضل العبادات، واحترامه وأهميته
والتفاعل معه والتفكير والتدبر في آياته من خلال مئات الأحاديث التي وردت
عنهم (عليهم السلام) في الحث على ذلك، وتقديرهم واحترامهم الخاص لحملة القرآن
ودورهم في الحياة الاجتماعية وذكر مقاماتهم عند الله تعالى، وبيان الأجر والثواب
المترتب على كل هذه الأعمال المرتبطة بالقرآن، فهو شفيع، يشفع يوم
307

القيامة، بل هو أفضل شفيع... (1) إضافة إلى كل ذلك نذكر أمرين رئيسين:
أحدهما: ثبوت النص القرآني:
إن القرآن الكريم المتداول بين المسلمين هو مجموع ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله) في
مدة نبوته ورسالته، باعتباره كلاما إلهيا دون زيادة أو نقصان، وهو ما نسميه
بثبوت النص القرآني وسلامته من التحريف بالزيادة أو النقيصة، وقد أوضحنا
القرائن والأدلة على هذه الحقيقة في بحثنا السابق ثبوت النص القرآني.
وبهذا الصدد لا بد أن نشير إلى ظاهرتين مهمتين توضحان الصورة والموقف
تجاه قضية تحريف القرآن الكريم:
1 - إن المسلمين جميعا سنة وشيعة - بالرغم من اختلاف مذاهبهم الفقهية
والكلامية، وتعدد آرائهم، ومواقفهم في فهم التأريخ والسنة وتفسيرهم
للاحداث - متفقون على تداول نص واحد من القرآن الكريم وفي جميع العصور،
بحيث لا نجد في جميع الأصقاع والاقطار الاسلامية أو غيرها، وفي زوايا المكتبات
القديمة والحديثة أي نص آخر للقرآن الكريم غير النص الذي يتداولونه بشكل
عام، الامر الذي يؤكد حقيقة سلامة النص القرآني ويبطل كل الشبهات
والاثارات التي يتداولها بعض الاشخاص لاتهام فرقة أو جماعة من المسلمين
بأنهم يعتقدون بالتحريف.
ولا شك أن هذه الإثارات والشبهات لها خلفية وأهداف سياسية أو اجتماعية
أو مذهبية متعصبة، وان كان بعض من يتداولها ممن وقع في هوة التضليل والجهالة
دون نية سيئة.
2 - اننا نجد على مستوى الروايات والأحاديث، وأحيانا على مستوى الأبحاث

(1) راجع ما ذكره صاحب كتاب جامع أحاديث الشيعة الجزء: 15، فإنه ذكر أكثر من
سبعمائة حديث تتناول مختلف هذه الابعاد.
308

العلمية والاراء النظرية ما يمكن أن يوهم بالتحريف والنقيصة، سواء على مستوى
علماء وحفاظ جمهور المسلمين، كالبخاري ومسلم وغيره، أو مستوى حفاظ
وعلماء أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، الامر الذي لا بد من معالجته بالموقف الواضح
والتسالم القطعي بين المسلمين على سلامة القرآن من التحريف أو تأويل هذه
الروايات والأحاديث أو الآراء، كما أشرنا إلى ذلك في بحث ثبوت النص القرآني.
ولا يستفيد من مثل هذه الإثارات إلا أعداء الاسلام والقرآن من المستشرقين
والمبشرين والصهاينة والاستكبار العالمي الغربي، أو الملاحدة والمرتدين من
أوساط المجتمعات الاسلامية.
ولكن لا بد أن نشير هنا إلى أن هذه الروايات والاثارات انما كانت إحدى
النتائج الخطرة - التي تمت الإشارة إليها في البحث السابق - بسبب عدم التمييز بين
المستويين (العام والخاص) من التفسير، وإبعاد أهل البيت (عليهم السلام) عن دورهم في
المرجعية الدينية على المستوى الخاص وخصوصا في التفسير، الامر الذي جعل
الأمور تختلط على المسلمين بهذا الشكل، ولولا العناية الإلهية والاهتمام الخاص
الذي أولاه النبي (صلى الله عليه وآله)، وأهل البيت (عليهم السلام) وكبار الصحابة والمسلمون بشكل عام،
في استظهار القرآن وحفظه لحدثت كارثة بين المسلمين تشبه ما تعرضت له
الديانات الإلهية السابقة.
والاخر: القرآن الكريم هو المرجع العام للرسالة الاسلامية:
إن القرآن الكريم هو المرجع الأول والمصدر العام للرسالة الاسلامية بكل
أبعادها - والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - ومنها العقيدة
والشريعة الاسلامية والسنن التأريخية والنظرة العامة للكون والحياة والمجتمع
والسلوك الانساني.
والسنة النبوية وان كانت تمثل المرجع الاخر، إلا أن القرآن الكريم يمتاز على
309

السنة النبوية في ثبوته بنصه يقينا وفي قدسيته باعتباره الكلام الإلهي، ومن ثم
يكون المرجع للسنة عند الشك في ثبوت مضمونها أو نصها، ولا يقبل من الحديث
إلا ما كان موافقا للقرآن الكريم.
كما أن أهل البيت (عليهم السلام) ينظرون إلى السنة النبوية القطعية نظرة التقديس،
ويضعونها حكما يمكن تمييز صحة حديثهم من خلال موافقتها، كما يمكن رد
الحديث والحكم عليه بالبطلان من خلال مخالفته للسنة النبوية فضلا عن مخالفته
للقرآن، ولا يجدون أي مبرر للاجتهاد في مقابل النص القرآني، ويمكن أن نحدد
- بشكل إجمالي - نظرة أهل البيت إلى منزلة القرآن الكريم من هذه الزاوية في
الابعاد التالية:
1 - إن القرآن الكريم يمثل شاهدا على الحق والباطل في مضمون الأحاديث
والروايات التي تنسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أو أهل البيت (عليهم السلام)، حيث يمكن من خلاله
تمييز الحق من الباطل.
فقد روى ثقة الاسلام الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن
النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إن على كل
حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب
الله فدعوه ". وقد رواه البرقي في المحاسن والصدوق في الأمالي بسندهما عن
النوفلي والسكوني (1).
وفي رواية أخرى للكليني صحيحة السند عن هشام بن الحكم وغيره، عن أبي
عبد الله (الصادق) (عليه السلام) قال: خطب النبي (صلى الله عليه وآله) بمنى، فقال: " أيها الناس ما
جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله " (2).

(1) وسائل الشيعة 18: 78.
(2) المصدر السابق: 79 الحديث 15.
310

وقد رواه البرقي في المحاسن أيضا.
وفي صحيحة أخرى للكليني عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله
(الصادق) (عليه السلام) قال: " الوقوف عند الشبهة خير من اقتحام الهلكة، إن على كل
حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب
الله فدعوه " (1).
2 - وقد ورد في بعض الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) أن لكل شئ في الشريعة
الاسلامية أصلا في القرآن الكريم، ولكن لا يمكن لعامة الناس أن يفهموه
ويرجعوه إلى القرآن الكريم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " ما من أمر يختلف
فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه العقول " (2).
وسيأتي مزيد من التوضيح لهذا البعد في هذا البحث.
3 - ارجاع جميع الشروط والالتزامات والعهود والعقود إلى القرآن الكريم،
بحيث لا يصح أن نقبل أي شئ من هذه الالتزامات والعهود، إذا كان مخالفا
للكتاب.
وقد ورد هذا المعنى في الأحاديث المروية عن طرق الفريقين وهو أمر متفق
عليه بين عامة المسلمين.
ففي حديث عن الصادق (عليه السلام): " المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط خالف
كتاب الله عز وجل فلا يجوز " وفي حديث آخر " وإن كان شرطا يخالف كتاب الله
عز وجل فهو رد إلى كتاب الله " (3).
4 - الرجوع إلى الكتاب لتمييز وترجيح أحد الحديثين المختلفين في حالة

(1) وسائل الشيعة 18: 86 الحديث 35، والصفحة 86 الحديث 37.
(2) المصدر السابق 17: 581 الحديث 3.
(3) المصدر السابق 12: 353 الحديث 2 و 4.
311

التعارض وذلك في الموارد التي يكون فيها الحديث مخصصا أو مقيدا أو مبينا
للقرآن الكريم، ولكن يوجد ما يعارضه في مضمونه، فإن ما يكون موافقا للعام
القرآني واطلاق الكتاب الكريم يكون مقدما ومرجحا على الحديث الاخر.
فقد روى سعيد بن هبة الله الراوندي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله
قال: قال الصادق (عليه السلام): " إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على
كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه... " (1).
كما روى الصدوق في عيون الاخبار بسند صحيح، عن محمد بن عبد الله
السمعي، عن أحمد بن الحسن الميثمي أنه سأل الرضا (عليه السلام) يوما وقد اجتمع عنده
قوم من أصحابه، وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
في الشئ الواحد، فقال - في حديث -: " ما ورد عليكم من خبرين مختلفين
فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتبعوا
ما وافق كتاب الله... " (2).
كما إن في الأحاديث التي وردت بصدد البعد الأول ما يؤيد ويؤكد هذا المعنى.
النقطة الثانية: نظرة أهل البيت: العامة إلى طرق الاثبات:
إن من الملاحظ أن أهل البيت (عليهم السلام) قد أكدوا في كثير من الروايات والنصوص
أهمية سلوك طريق العلم والمناهج العلمية في الوصول إلى حقائق الاسلام
والقرآن.
وهنا يمكن أن يثار هذا السؤال وهو أننا نعرف بأن القرآن الكريم تناول هذا
الموضوع بشكل واسع في مثل قوله تعالى: (... ان الظن لا يغني من الحق شيئا) (3)

(1) وسائل الشيعة 18: 84 الحديث 29.
(2) المصدر السابق: 82 الحديث 21.
(3) النجم: 28.
312

وقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان
عنه مسؤولا) (1) وغير ذلك من الآيات الكثيرة.
كما أن السنة النبوية الثابتة لدى المسلمين جميعا أكدت ذلك أيضا خصوصا في
مجال تفسير القرآن، حيث ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): أنه من فسر القرآن برأيه فقد
كفر، فما هو السبب في شدة تأكيد أهل البيت هذا الموضوع؟ وهل هو مجرد انسجام
مع القرآن الكريم والسنة النبوية، أو أن الأوضاع التي كان يعيشها المسلمون
تقتضي هذا التأكيد؟
والذي يبدو من خلال مراجعة التأريخ الاسلامي وخصوصا تأريخ تطور
(علم الحديث) من ناحية، والظروف التي مر بها العالم الاسلامي في الصدر الأول
للاسلام من ناحية أخرى، والنصوص الكثيرة التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام)،
أن هناك مجموعة من القضايا والمشاكل والظواهر شهدتها الأمة الاسلامية أدت
إلى هذه الإثارات والتأكيدات من قبل مدرسة أهل البيت، منها:
1 - المنع الذي فرضه الخليفة الثاني عمر على تدوين الحديث - وقد استمر إلى
عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز مع غض النظر عن تفسير خلفياته
وأسبابه - أدى بطبيعة الحال إلى ضياع الكثير من السنة النبوية أو عدم ضبطها
بشكل مناسب، الامر الذي فتح الباب واسعا أمام حركة (الرأي) و (الظن)
و (الاجتهاد) للوصول إلى الحكم الشرعي.
2 - المشكلات الجديدة التي واجهها العالم الاسلامي بسبب الفتح الاسلامي
الواسع سواء على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، أو الحكم وادارته، أو على
مستوى الفرد والجماعة والعلاقات السياسية والتي تحتاج إلى معالجة على ضوء
الشريعة الاسلامية.

(1) الاسراء: 36.
313

3 - اضفاء الشرعية والحجية - في القول والعمل - على كل من عاصر النبي أو
سمع منه ولو لمدة بسيطة أو في الأماكن العامة بحيث يكون مرجعا للمسلمين في
الشؤون الدينية، استنادا إلى فكرة عدالة جميع هؤلاء الافراد على الاطلاق دون
وضع أصول وضوابط في ذلك، مثل: الورع، والضبط، والاستيعاب، والاحاطة
بالظروف الحالية والمقالية التي ورد فيها النص، أو حتى الاطلاع على النصوص
الأخرى والمعالم المتعددة للسنة النبوية من أقوال وأفعال واقرار، والتي تلقي
الضوء على مضمون النص أو تفسيره وتوضيحه وتبيينه، فكان شأن المسلمين
حينذاك في كثير من الأحيان شأن من يحاول استنباط الأحكام الشرعية في
العصور المتأخرة بمجرد الرجوع إلى رواية يجدها في أحد الكتب الحديثة دون
الفحص عن الروايات الأخرى أو رجال الحديث الذين رووا هذه الرواية.
إن صحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) شئ مقدس ولها نتائج وإيحاءات روحية ومعنوية
عظيمة، ولكن اضفاء هذا العنوان على كل من عاصر رسول الله أو التقى به أو سمع
منه، مع أن فيهم (المنافق الذي مرد على النفاق)، و (الاعرابي)، و (الساذج)، أو
الذي خلط عملا صالحا بآخر سيئ، أو عرف من الاسلام مجرد مفاهيم عامة
وشعارات وطقوس دون أن يدخل الايمان إلى قلبه أو يتربى على المعرفة
والأخلاق والعقائد والآداب الاسلامية، أو دون أن يعرف التقوى حق المعرفة،
أو كان ممن بقيت في أعماقه رواسب العادات والأخلاق الجاهلية والأفكار
الوثنية.
إن وجود مثل هذه الأصناف في المجتمع الاسلامي الذي عاصر الرسول (صلى الله عليه وآله)
حقيقة لا يمكن لاحد انكارها، حيث تحدث عنها القرآن الكريم والسنة النبوية
والتأريخ الاسلامي، ودلت على هذه الحقيقة مجمل الاحداث والتصرفات
والمواقف والسلوكيات التي صدرت عن هؤلاء المعاصرين.
314

4 - الأغراض السيئة لبعض الجماعات والافراد التي كان لها مواقع في المجتمع
الاسلامي، وخصوصا في العهد الأموي من دون فرق بين الأغراض السياسية، أو
النفعية الذاتية، أو الأخلاقية التي تنطلق من الحسد والحقد أو النعرات الجاهلية في
الصراعات القبلية الموروثة.
إن هذه الأغراض كان لها دور كبير ومهم في ايجاد الفوضى والاضطراب،
واستغلال الفراغ الذي تركه عدم تدوين السنة النبوية وعدم تشخيص المرجعية
الدينية للمسلمين المتمثلة بأهل البيت (عليهم السلام).
ولا نريد بهذه المعالجة أن نشير إلى جميع هذه القضايا والمشاكل، ولكن نريد
ان نوضح الأوضاع والظروف التي ولدت فيها حركة الرأي والاجتهاد والحدس
الذي لا يعتمد على الضوابط والأصول.
كما لا نريد هنا أيضا أن نتناول قضية تم بحثها في علم الأصول ترتبط بالأدلة
الظنية التي أنكرها أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، مثل (القياس) و (الاستحسان)
و (المصالح المرسلة) و (رأي الصحابي) وغيرها، فإن بحث هذا الموضوع له مجال
آخر، وإنما نريد أن نشير هنا إلى نقطة محورية في هذا البحث وهي: أن أهل
البيت (عليهم السلام) كانوا يرون أن طريق الوصول إلى حقائق الاسلام بقي مفتوحا
وميسورا من خلالهم، أي من خلال الإمام علي (عليه السلام) الذي هو باب مدينة العلم
الذي اعتمده النبي (صلى الله عليه وآله) وعلمه القرآن وتفسيره، حيث دون كل هذه المعلومات
في صحيفة جامعة، اشتملت على جميع تفاصيل الشريعة حتى أرش الخدش
وأحاط بالقرآن الكريم:
في المضمون وفي العمق، فهو يعرف ظاهره وباطنه ومحكمه ومتشابهه،
وفي نصه وآفاقه، فهو يعرف ناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه ومطلقه
ومقيده.
315

وفي الظروف المحيطة به والقرائن الحالية التي اقترنت بنزوله، فهو يعرف في أي
وقت نزلت وفي أي الاشخاص والجماعات، ولأجل أي غرض أو هدف.
وحتى أولئك الذين يرون صحة الرجوع إلى القياس وغيره من الأدلة الظنية
انما يصح ذلك في رأيهم أو يقولون بحجية هذه الأدلة إذا فقدوا الدليل والنص على
الحكم الشرعي والمعرفة الاسلامية، أي (إذا انسد باب العلم) إلى هذه الحقائق كما
يعبر الأصوليون.
وأما إذا كانت الفرصة قائمة وموجودة للوصول إلى الحكم الشرعي والمعرفة،
من خلال طريق العلم ووسائل الاثبات اليقينية فلا يصح ذلك بالاجماع.
وهذا ما عناه وأكده أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الروايات الكثيرة وهو الذي كان
سببا رئيسا في هذا القدر من الانكار والاستنكار على مدرسة الرأي.
والايمان بصحة هذا الامر هو الذي دعا جماعة كبيرة من كبار فقهاء الجمهور في
عصور الأئمة المختلفة للرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) من أجل أن يعرفوا هذه
الحقائق اليقينية، وتأثروا بهم في مختلف مجالات المعرفة وخصوصا في
التفسير (1).
وهنا نشير إلى بعض الروايات التي تعكس هذا التصور والفهم للموقف من
قبل أهل البيت (عليهم السلام):
1 - الرواية التي رواها ثقة الاسلام الكليني وكذلك الصدوق في العقائد عن
سليم بن قيس والتي تقدمت الإشارة إليها في هذا الموضوع.
2 - ما رواه ثقة الاسلام الكليني بسند صحيح عن أبي الصباح (الكناني) قال:
والله قال لي جعفر بن محمد (عليهما السلام): إن الله علم نبيه (صلى الله عليه وآله) التنزيل والتأويل، فعلمه

(1) تناولنا هذا الموضوع في كتابنا " دور أهل البيت في الحياة الاسلامية " الذي نأمل منه
تعالى أن يوفقنا لاكماله وطبعه.
316

رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام)، ثم قال وعلمنا - والله - الحديث (1).
3 - عن موسى بن عقبة ان معاوية (بن أبي سفيان) أمر الحسين (عليه السلام) ان يصعد
المنبر فيخطب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
نحن حزب الله الغالبون وعترة نبيه الأقربون، وأحد الثقلين اللذين جعلنا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثاني كتاب الله، فيه تفصيل لكل شئ لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه، والمعول علينا في تفسيره لا نتظنى تأويله بل نتبع حقائقه،
فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله مقرونة. قال الله تعالى:
(... أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه
إلى الله والرسول...) (2) وقال:
(ولو ردوه إلى الرسول والى اولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه
منهم...) (3).
وروى الطبري نحوه في بشارة الاسلام بسنده عن الحسن بن علي (4).
4 - وروى الكليني بسند صحيح عن أبي عبيدة (الحذاء) قال: قال أبو جعفر
(الباقر) (عليه السلام): " من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة
وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه " (5).
وروى أيضا بسند معتبر في حديث عن أبي الحسن موسى (الكاظم) (عليه السلام)

(1) وسائل الشيعة 18: 135 الحديث 19.
(2) النساء: 59.
(3) النساء: 83.
(4) وسائل الشيعة 18: 144 الحديث 45.
(5) المصدر السابق: 9 الحديث 1 ولاحظ أحاديث هذا الباب والتأكيد الذي ورد عن أئمة
أهل البيت بعدم الفتيا أو القضاء بغير علم، وأهمية التعلم ووجوبه.
317

قال: " ما لكم والقياس، انما هلك من قبلكم بالقياس... ثم قال:
إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به، وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها (وأومأ بيده إلى
فيه) ثم قال:
إن أبا حنيفة كان يقول: قال علي (عليه السلام) وقلت، وقالت الصحابة وقلت، ثم
قال:
أكنت تجلس إليه؟ قلت: لا، ولكن هذا كلامه، فقلت: أصلحك الله، أتى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس بما يكتفون به في عهده؟ قال: نعم. وما يحتاجون إليه يوم
القيامة. فقلت: فضاع من ذلك شئ؟ فقال لا هو عند أهله " (1).
معالم نظرية أهل البيت (عليهم السلام) في التفسير:
بعد أن عرفنا منطلقات أهل البيت (عليهم السلام) إلى القرآن الكريم وتفسيره، يحسن
بنا أن نشير إلى معالم نظرية أهل البيت في التفسير، حيث يمكن أن نلخصها في
المعالم الأربعة التالية:
الأول: الوحدة البيانية للقرآن:
النظر إلى القرآن الكريم كوحدة لفظية وكلامية متكاملة بحيث لا يمكن أن نفهم
فقراته أو آياته إلا من خلال النظر إلى جميع أبعاد وجوانب هذه الوحدة اللفظية
وكذلك إلى جميع فقراتها.
ويعتمد هذا الفهم للقرآن الكريم على رؤية علمية وواقعية مستنبطة من القرآن
الكريم وطبيعة الظروف التي أحاطت بنزوله.

(1) وسائل الشيعة 18: 23 حديث 3. راجع أيضا حديث 5 و 16 و 18 و 33 و 41 و 49
وغيرها من أحاديث الباب 6 من أبواب صفات القاضي ج 18.
318

فالقرآن الكريم كما نعرف هو (... كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم
خبير) (1). فهو (كلام واحد) يعبر عن تصور متكامل وشامل للكون والحياة
والدين، ولكن شاءت الحكمة الإلهية أن ينزل هذا الكلام بشكل تدريجي
و (منجما) لتحقيق أغراض عديدة تحدثنا عنها في محله من علوم القرآن، كما أشار
إليه القرآن الكريم نفسه (2).
وقد أحاطت بالنزول التدريجي هذا ظروف وأحداث تلقي الضوء على معانيه
وأهدافه من ناحية، وكان لها تأثير في أسلوب العرض والبيان والمقاصد أحيانا
أخرى.
فقد يأتي البيان في البداية (عاما) لمصلحة سياسية أو تربوية أو لرسم الأساس
الفكري والمنطلقات النظرية، ثم يأتي تخصيص هذا (العام) وبيان الاستثناءات
التي تقتضيها المصالح السياسية أو الاجتماعية، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار
أن بعض هذه التخصيصات جاءت من السنة النبوية الشريفة، وهو شئ يقبله
جمهور علماء الاسلام استنادا لقوله تعالى: (... ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم
عنه فانتهوا...) (3).
أو يثبت القرآن الكريم موقفا سياسيا أو حكما شرعيا مراعيا تطور الدعوة
والرسالة وحركتها في أرض الواقع، ثم (ينسخ) ذلك الموقف والحكم بعد أن تتغير
الظروف وتتطور لصالح تثبيت حكم آخر أكثر انسجاما مع تطور المرحلة
واستقرار الكيان السياسي أو الأوضاع الاجتماعية (4).

(1) هود: 1.
(2) تحدثنا عن هذه الظاهرة وأغراضها في أبحاث علوم القرآن الصفحة...
(3) الحشر: 7.
(4) تحدثنا عن تفسير النسخ وأهدافه وكذلك الغرض من العموم والخصوص والاطلاق
والتقييد في أبحاث علوم القرآن، راجع الصفحة...
319

ومن هنا فلا يمكن أن يفهم القرآن الكريم بشكل صحيح دون الإحاطة
الكاملة بكل هذه الابعاد والجوانب (العام والخاص) و (الناسخ
والمنسوخ)...
وفي جانب آخر اقتضت الحكمة الإلهية في نزول القرآن الكريم أن يكون
مشتملا على الآيات (المحكمة) التي هي أم الكتاب والاخرى (المتشابهة) التي
لا بد من ارجاعها إلى الآيات المحكمة لفهمها والاستفادة منها (1) حيث تعتمد
عملية تقريب الصورة للمعاني القرآنية واحاطتها بالابعاد المتعددة للمعنى على
هذه الآيات المتشابهة إضافة إلى أن طبيعة المداليل اللفظية تقبل الاحتمالات
المتعددة - كما سوف نشير إليه في بحث قريب - الامر الذي يفرض التشابه في
الكلام ومن ثم يمكن تحديد الصورة وفهمها بشكل كامل من خلال الرجوع إلى
المحكمات أو المقارنة بين المتشابهات المتعددة.
وعلى هذا الأساس كان يوجه أهل البيت الانتقاد إلى أولئك المفسرين الذين
كانوا يمارسون عملية التفسير دون هذه الإحاطة.
ففي رواية رواها البرقي في المحاسن عن أبي الوليد البحراني ثم البحري، عن أبي
جعفر (عليه السلام)، أن رجلا قال له: أأنت الذي تقول ليس شئ من كتاب الله إلا
معروف؟ " قال: ليس هكذا قلت. إنما قلت: ليس شئ من كتاب الله إلا عليه
دليل ناطق عن الله في كتابه مما لا يعلمه الناس... إلى أن قال: إن للقرآن ظاهرا
وباطنا ومعانيا وناسخا ومنسوخا ومحكما ومتشابها وسننا وأمثالا وفصلا ووصلا

(1) ذكرنا السبب في اشتمال القرآن الكريم على الآيات المتشابهة في بحث المحكم
والمتشابه.
320

وأحرفا وتصريفا، فمن زعم أن الكتاب مبهم فقد هلك وأهلك... " (1).
الثاني: الإحاطة بظروف النص القرآني:
الإحاطة الكاملة بجميع ظروف النص القرآني سواء على مستوى الاحداث
والوقائع التي اقترن بها نزول النص القرآني وما يسمى ب‍ " أسباب النزول "، أو
على مستوى العادات والتقاليد التي كان يعيشها المجتمع الجاهلي خصوصا في مكة
والمدينة، أو على مستوى الأوضاع السياسية والأخلاقية التي كان يعيشها
المسلمون أنفسهم.
إذ من الواضح أن القرآن الكريم، في الوقت الذي يمثل الكتاب الإلهي الذي
جاء لتبيان رسالة الأمة الخاتمة، كذلك يمثل الكتاب الذي استهدف تغيير الأمة التي
نزل في أوساطها من الأميين وأبناء أم القرى بشكل مباشر من اجل أن يخلق قاعدة
قوية ثابتة قادرة على تحمل أعباء الرسالة ومسؤولية ابلاغها وإيصالها إلى الأمم
والناس جميعا (2). ولذلك نجد القرآن الكريم راعى الظروف والأوضاع السياسية
والاجتماعية والنفسية والعادات والتقاليد التي كان يعيشها المجتمع الجاهلي، ولم
يأت مجردا عن كل هذه الظروف، فهي بطبيعة الحال تلقي بظروفها على فهم
القرآن الكريم ومقاصده، وفهمها ومعرفتها له دور كبير في فهم القرآن وتفسيره.
إضافة إلى أن فرز وتمييز المعاني أو الجوانب المرتبطة بالاحداث خصوصا عن
غيرها من المفاهيم ذات الطبيعة الشمولية تحتاج إلى هذه الإحاطة والاستيعاب
الكامل لكل هذه الظروف، وهذا ما يؤكده أهل البيت (عليهم السلام) في بعض الروايات

(1) وسائل الشيعة 18: 141 الحديث 39، 142 الحديث 40 و 42، وص 138 الحديث
31 و 38.
(2) أوضحنا هذه الفكرة في كتابنا (الهدف من نزول القرآن الكريم).
321

من خلال بيان معرفتهم بزمان نزول الآيات ومن نزلت فيه و... (1)، فإن هذا
التأكيد لا يراد منه مجرد بيان سعة علمهم بالاحداث، وانما لبيان ارتباط ذلك بفهم
القرآن وتفسيره.
الثالث: الاعتماد على السنة الصحيحة في التفسير:
الاخذ المباشر في التفسير عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والاعتماد على السنة النبوية،
وتعليم رسول الله القواعد والضوابط التي يمكن من خلالها تفسير القرآن وفهمه
ومعرفة مقاصده وأغراضه، كل تلك الأمور شدد أهل البيت (عليهم السلام) على الالتزام
بها في أحاديثهم انطلاقا من نقطتين رئيستين:
الأولى: ما أشرنا إليه من تعليم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) تفسير القرآن
بشكل كامل، إضافة إلى النصوص السابقة التي أشرنا إليها، نجد بعض النصوص
تؤكد هذا المعنى بشكل خاص.
الثانية: إن القرآن الكريم والسنة النبوية قد استوعبا كل القضايا التي يحتاجها
الانسان في حياته، لأنهما يمثلان الرسالة الخاتمة للبشرية ولا بد لهما من هذا
الاستيعاب، ولذلك فلا بد من الرجوع إليهما في كل هذه القضايا، وعدم جواز
الاخذ بالرأي والقياس والاجتهاد والظنون.
غاية الامر أن الناس العاديين ليس لهم القدرة على فهم القرآن والسنة
بالشكل الذي يستوعب كل هذه القضايا، أو لم يتلقوا من الرسول (صلى الله عليه وآله) كل هذه
الأمور كما ذكرنا في النقطة الأولى.
ومن هنا نجد أهل البيت (عليهم السلام) يؤكدون هذه الشمولية والاستيعاب للقرآن
الكريم والسنة النبوية، ويرفضون أي طريق آخر للوصول إلى الأحكام الشرعية،
ولا يسمحون حتى لأصحابهم أن يسلكوا الطرق الاجتهادية، كالقياس من دون

(1) راجع النص السابق الذي رواه الكليني عن سليم بن قيس.
322

فرق في ذلك بين الاستناد إلى الأحاديث العامة أو الأحاديث الخاصة التي
عرفوها عن أئمتهم.
فقد روى الكليني بسند صحيح عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام)، قال: " إن
الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شئ حتى - والله - ما ترك شيئا يحتاج
إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا انزل في القرآن؟ إلا وقد
أنزله الله فيه " (1).
وفي حديث آخر معتبر عن أبي عبد الله قال: سمعته يقول: " ما من شئ إلا
وفيه كتاب وسنة " (2).
ويتحدث أهل البيت (عليهم السلام) عن وجود صحيفة جامعة عند علي (عليه السلام) تشتمل
على تفاصيل الشريعة وقواعدها وأصولها: روى الكليني بسنده عن أبي شيبة،
قال: " سمعت أبا عبد الله (الصادق) (عليه السلام) يقول ضل علم (ابن شبرمة)، عندنا
(الجامعة) املاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط علي (عليه السلام) بيده: إن (الجامعة) لم تدع لاحد
كلاما، فيها علم الحلال والحرام، إن أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم
يزدادوا من الحق إلا بعدا، إن دين الله لا يصاب بالقياس " (3).
ويؤكد أهل البيت (عليهم السلام) أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام
إلى يوم القيامة، فلا بد أن يكون كل ذلك مذكورا ومعروفا من قبل رسول الله:
روى الكليني بسند معتبر عن زرارة، قال: سألت أبا عبد الله (الصادق) (عليه السلام)
عن الحلال والحرام، فقال: " حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه
حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجئ غيره وقال: قال علي (عليه السلام):

(1) الكافي 1: 59 الحديث 1.
(2) المصدر السابق، الحديث 4.
(3) المصدر السابق: 57، الحديث 14 وص 238، الحديث 1 وص 241، الحديث 5 و 6 و 7.
323

ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة " (1).
الرابع: القرآن تحدث عن كل عصر وزمان:
إن القرآن الكريم حي لا يموت، تجري أحكامه وأمثاله ومفاهيمه في جميع
الأزمان والعصور، فهو وإن كان قد نزل في عصر معين وعالج قضايا وأحداثا
خاصة، وتحدث عن أشخاص معينين ماضين أو معاصرين في القصص، أو
أحداث نزول الرسالة وتطورها مما يرتبط بأسباب النزول، وبنى قاعدة بشرية
قوية من خلال هذه المعالجة تحملت أعباء الرسالة الاسلامية - كما أشرنا سابقا -
إلا أن القرآن - مع ذلك كله - هو الكتاب الإلهي للرسالة الخاتمة والمعجزة الخالدة
للاسلام ونبيه الكريم، يتحدث إلى جميع الناس في مختلف العصور والأزمان.
وفي هذا المجال توجد نظرة شمولية يتميز بها أهل البيت (عليهم السلام)، فإنه بالرغم من
أن أكثر علماء الاسلام ذهبوا إلى مبدأ " إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب " ومن ثم فهم يرون أن خصوص السبب لا يتقيد بخصوص الاحداث
والوقائع التي تحدث عنها أو نزل فيها، لان جميع هذه القضايا انما جاء بها القرآن
الكريم للعبرة والهداية والموعظة، كما دلت على ذلك الآيات الكريمة:
(لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق
الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) (2).
(هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) (3).
(ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا) (4).

(1) الكافي 1: 58 الحديث 19 راجع أيضا الحديث 1 و 2 و 3.
(2) يوسف: 111.
(3) آل عمران: 138.
(4) الاسراء: 89.
324

حيث نلاحظ أن القرآن الكريم ضرب الأمثال وتحدث عن الاحداث
والوقائع بروح التربية والتزكية والهداية، فكما ان هذا المثل له مصاديقه في عصر
النزول، فهو له مصاديق (يؤول) إليها في العصور الأخرى.
وكما أن قصة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء تمثل حقائق
عاصرها الأنبياء، ولم يذكرها القرآن الكريم لمجرد التسلية أو تسجيل حوادث
التأريخ وتوثيقها، بل لأنها تمثل أيضا حقائق وقعت في عصر نزول القرآن،
فكذلك هي - في نظر أهل البيت (عليهم السلام) - تمثل حقائق متشابهة ومطابقة لها في
العصور والأزمنة الأخرى التي تلت عصر الرسالة الاسلامية، وفي كل عصر
وزمان.
وهكذا الحال في الأحكام الشرعية والأخلاق الاسلامية والسنن التأريخية
والحقائق الكونية كلها تتحدث عن مصاديق ونظائر ومفردات وتطبيقات لعصر
الرسالة، بل ولكل عصر وزمان.
ونحن هنا لا نريد ان نفصل في الاستدلال على صحة هذه (الرؤية) فإن لذلك
مجالا آخر، وانما نريد هنا أن نذكر الجانب (التصوري) لهذه (النظرية) من خلال
ما ذكره أهل البيت (عليهم السلام).
ولعل هذا المعلم يمثل أحد أهم المعالم التي تتميز بها (رؤية) أهل البيت
لتفسير القرآن الكريم بشكل واضح وأساسي عن بقية النظريات في المذاهب
الاسلامية.
نظرية أهل البيت (عليهم السلام) في فهم القرآن الكريم:
لقد تناول هذا الموضوع عدد كبير من الروايات التي وردت عن أهل
البيت (عليهم السلام)، كما ورد بعضها عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وذكرت في كتب علماء أهل السنة،
الامر الذي يؤكد أهمية الموضوع ودقته.
325

كما أننا نلاحظ أيضا في هذه الروايات أنها متفاوتة في مضامينها بحيث قد تبدو
أحيانا وكأنها متناقضة أو متضاربة أو مختلفة، وفي نفس الوقت اختلفت آراء
العلماء في تفسيرها والاخذ منها حتى تباينت واضطربت.
وقد تركز البحث فيها حول موضوعين رئيسين:
أحدهما: بحث (المحكم والمتشابه) والتفسير والتأويل الذي دار حول الآية
السابعة من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه
آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما
تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا اولوا الألباب) (1).
والاخر: بحث (التفسير بالرأي) الذي ورد النهي عنه في أحاديث مسلمة عند
المسلمين، وجاء فيها الوصف بالكفر لمن صنع ذلك في القرآن الكريم، حيث وقع
الخلاف في تحديد معنى (الرأي) هذا.
ولعل من أفضل الأبحاث استيعابا وتحليلا واختصارا وفائدة هو ما ذكره
العلامة الطباطبائي (قدس سره) في كتابه " الميزان في تفسير الميزان " والذي استنبط فيه
النظرية القرآنية التي تبناها أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المجال واستند فيها إلى الآيات
الشريفة والسنة النبوية المروية عن النبي وأهل بيته الكرام (2).
ومن أجل أن تتضح صورة هذا المعلم من التفسير، نشير إلى مجموعة من
الروايات والنصوص التي تدل أو تشير إلى وجود مستويين من تفسير القرآن
والاخذ منه:
الأول: تفسير القرآن على مستوى الظاهر أو المحكم أو التنزيل... حسب ما

(1) آل عمران: 7.
(2) راجع الميزان 3: 19 - 87 لمعرفة تفصيل حديثه.
326

ورد في التعبير عنه في هذه النصوص.
الثاني: التفسير على مستوى الباطن أو المتشابه أو التأويل...
حيث يبدو من هذه النصوص وغيرها أن المستوى الأول من التفسير يمكن
تناوله لعامة الناس، بعد الإحاطة الكاملة بالقرآن الكريم ومفاهيمه وآياته.
وأما المستوى الاخر من التفسير فهو مما اختص به النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام.
وهذا المستوى (الكامل) يمكن أن نراه في أحد الخطوط التالية التي أشارت
إليها الروايات والأحاديث من هذه الطائفة:
أ - المعلومات القرآنية التي تجري مجرى المعلومات الغيبية في مستقبل
الاحداث التي تمر بالانسان والحياة، والتي يمكن استنباطها من القرآن الكريم.
ب - المعلومات المرتبطة بتفاصيل الشريعة الاسلامية ذات العلاقة
بالموضوعات الشرعية التي تناولها القرآن الكريم، أو التي لها علاقة بالأمور
المستجدة والمستحدثة في الحياة الاسلامية، والتي تعلمها الإمام علي (عليه السلام) وأولاده
الأئمة المعصومون من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ج - التطبيق الدقيق للمفاهيم والسنن والاحداث التي أشار إليها القرآن الكريم
والتشخيص الكامل للمصاديق والمفردات الخارجية لها، والتي (تؤول) إليها
الأوضاع الاجتماعية والسياسية في حركة المجتمع الاسلامي في مختلف العصور
والأزمنة.
د - التمثيل والتشبيه للمضامين القرآنية والامثال والمفردات التي وردت في
القرآن الكريم، نظير الأمثلة التي ضربها القرآن الكريم مفهوميا، أو من خلال
الإشارة لاحداث سابقة بشكل ينطبق على أحداث الرسالة، حيث قام الأئمة
أيضا بضرب هذه الأمثلة من خلال النصوص القرآنية وتطبيقها على أحداث
كانت في عصر الرسالة أو بعدها، فإن علم هذا النوع من التفسير مختص بالنبي
327

والأئمة من أهل بيته عليهم الصلاة والسلام.
وهنا نشير إلى مجموعة من الروايات ذات العلاقة بهذه الطائفة من الاخبار:
1 - روى محمد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات بسند معتبر عن فضيل
ابن يسار، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية: ما من القرآن آية إلا ولها
ظهر وبطن، قال: ظهره وبطنه تأويله، ومنه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما
تجري الشمس والقمر كلما جاء تأويل شئ يكون على الأموات كما يكون على
الاحياء، قال الله: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) (1) نحن نعلمه (2).
2 - روى الصفار أيضا في بصائر الدرجات بسند معتبر (3) عن إسحاق بن عمار
قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن للقرآن تأويلا، فمنه ما قد جاء، ومنه ما لم
يجئ، فإذا وقع التأويل في زمان إمام من الأئمة عرفه إمام ذلك الزمان (4).
3 - عن جميل بن دراج، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تفسير القرآن
على سبعة أوجه، منه ما كان، ومنه ما لم يكن بعد، تعرفه الأئمة (عليهم السلام) (5).
4 - روى الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن حمران بن أعين قال: سألت
أبا جعفر (عليه السلام) عن ظهر القرآن وبطنه، فقال: ظهره الذين نزل فيهم القرآن، وبطنه
الذين عملوا باعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك (6).

(1) آل عمران: 7.
(2) وسائل الشيعة 18: 145 الحديث 49.
(3) اعتبار السند لان المرزبان بن عمر روى عنه صفوان بن يحيى فيكون معتمدا لأن صفوان
من الثلاثة التي أجمعت الصحابة على تصحيح ما يصح عنهم، كما ذكر الشيخ الطوسي في
العدة وهم محمد بن أبي عمير وأحمد بن محمد بن أبي نصر وصفوان بن يحيى.
(4) وسائل الشيعة 18: 145 الحديث 47.
(5) المصدر السابق: 154 الحديث 50.
(6) بحار الأنوار 92: 83 الحديث 14.
328

ملاحظات واستنتاجات عامة:
وفي ختام هذا الحديث يحسن بنا أن نسجل بعض الملاحظات العامة
والاستنتاجات حول مجموع ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) بشأن تفسير القرآن:
الملاحظة الأولى: توثيق الروايات سندا ومضمونا:
إن هذه الروايات التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) تحتاج إلى بحث علمي
دقيق طبقا للضوابط والأصول المحققة في علم الحديث.
ذلك أن حديث أهل البيت قد تعرض إلى مجموعة من المشاكل الأساسية
والمهمة التي ألقت بثقلها على هذه الروايات، باعتبار أهمية القرآن الكريم من
ناحية والارتباط الوثيق بينه وبين أهل البيت من ناحية ثانية، وتعرض القرآن
إلى التفسير بالرأي لتحقيق أغراض سياسية أو ذاتية أو لمجرد ضعف التقوى
والايمان والتساهل في الدين، أو لأي سبب آخر من الأسباب التي أشرنا إليها
سابقا من ناحية ثالثة.
ثم تصدى أهل البيت باعتبار شعورهم بالمسؤولية تجاه الاسلام والأمة
الاسلامية لكل هذه القضايا، وما تعرضت له الأمة الاسلامية من مشكلات
ثقافية أو عقائدية أو سياسية.
ويمكن أن نلخص أهم هذه المشكلات التي تعرض لها حديث أهل البيت (عليهم السلام)
بالأمور التالية:
1 - الدس والوضع والتزوير في حديثهم، حيث تعرض حديثهم لذلك في زمن
الأئمة فضلا عن العصور المتأخرة عنهم، ويمكن أن نلاحظ هذه الظاهرة بوضوح
من خلال مراجعة ترجمة بعض الاشخاص في كتب الرجال، ولعل من أطرف
الروايات في هذا المجال ما رواه الكشي عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس
ابن عبد الرحمن، قال ابن عبيد: " إن بعض أصحابنا سأل يونس بن عبد الرحمن
329

وأنا حاضر، فقال له يا أبا محمد ما أشدك في الحديث، وأكثر انكارك لما يرويه
أصحابنا، فما الذي يحملك على رد الأحاديث؟! فقال: حدثني هشام بن الحكم
أنه سمع أبا عبد الله (الصادق) (عليه السلام) يقول: " لا تقبلوا علينا حديثنا إلا ما وافق
القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد
لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقولوا
علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) فانا إذا حدثنا قلنا: قال الله
عز وجل وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) " (1).
" قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر
(الباقر) (عليه السلام) ووجدت أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) متوافرين، فسمعت منهم
وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فأنكر منها أحاديث
كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله (عليه السلام)، وقال لي: ان أبا الخطاب كذب
على أبي عبد الله (عليه السلام)، لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب، يدسون
في هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أبي عبد الله (عليه السلام)، فلا تقبلوا علينا
خلاف القرآن، فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة... " (2).
2 - الغلو والتطرف في حب أهل البيت (عليهم السلام) والاعتقاد بهم، حيث كان لهذه
الحركة السياسية والعقائدية أسبابها وظروفها المختلفة السياسية والاجتماعية
والنفسية والثقافية، وانعكست على الاخبار في فهمها أو تزويرها وتحريفها.
وكتب رجال الحديث فيها عدد من تراجم من كان يرمى بالغلو، أو ممن
طردهم أئمة أهل البيت من حوزتهم ومصاحبتهم وأعلنوا البراءة منهم.
3 - الانحرافات والانشقاقات التي كانت تحصل في جماعة أتباع أهل البيت،

(1) بحار الأنوار 2: 249.
(2) رجال الكشي: 146.
330

بسبب الظروف السياسية أو الأخلاقية والاجتماعية، كما حصل في ظهور الزيدية
والإسماعيلية والواقفية وغيرهم، حيث استمرت هذه الظاهرة إلى زمن الإمام الحسن
العسكري (عليه السلام) وبعده.
4 - ظروف الاضطهاد والمطاردة والسرية في العمل والحركة، الامر الذي كان
سببا مهما لاختفاء البيانات الواقعية أو للدس والتزوير تحت شعار (التقية) (1)
حيث استغل أعداء أهل البيت أو الفاسدون من الاشخاص الذين يتظاهرون
بالارتباط بهم هذه الظروف، لتمرير الكثير من الأحاديث أو تشويهها وتزويرها.
5 - التعصب والنصب والعداء وعمليات كتمان الحقائق أو التشويه وإلصاق
التهم الباطلة ونشر الإشاعات، حيث كان كل ذلك سببا لنشر الكثير من الأحاديث
ووضعها وتضليل البسطاء من المسلمين بها، وقد أشرنا سابقا إلى أن هذا العداء
والتعصب كان سببا لكتمان الكثير من أسباب النزول المرتبطة بأهل البيت (عليهم السلام).
6 - عدم الدقة النقل أو سوء الفهم والتلقي والاخذ عن الأئمة، ولذلك نجد (عليهم السلام)
يؤكدون الضبط وأهميته من ناحية وأن في أحاديثهم المحكم والمتشابه من ناحية
أخرى، كما سوف نوضح ذلك.
7 - الجمود على نصوص الألفاظ وفصلها بعضها عن بعض.
8 - ضياع الكثير من القرائن الحالية والمقالية التي كانت تقترن بالروايات
والأحاديث وتوضح المقصود منها (2).

(1) بحثنا موضوع التقية في كتابنا " الوحدة الاسلامية من منظور الثقلين " وبحث التقية في
نظر الشيخ المفيد، حيث وضع أهل البيت ضوابط لتمييز موارد التقية عن غيرها.
(2) للمزيد من الاطلاع والوضوح راجع بحث سيدنا الأستاذ الشهيد (قدس سره) في بحوث علم
الأصول، تقريرات آية الله السيد محمود الهاشمي 7: 28.... وكذلك كتب الرجال مثل
كتاب الخلاصة للعلامة الحلي، قسم الضعفاء.
331

إن هذه الطوائف والاخبار يجب أن تخضع للبحث والتمحيص والغربلة العلمية
سواء على مستوى السند أو المضمون والدراية، وكذلك إلى المقارنة بين بعضها
وبعضها الاخر لمعرفة المحكم من المتشابه منها، والعام من الخاص، والمطلق من
المقيد، والراجح من المرجوح، إلى غير ذلك من الموازين العلمية.
وهنا لا بد أن نشير إلى أنه لا يوجد في (مدرسة أهل البيت) (عليهم السلام) (حديث)
لا يقبل الدرس والمناقشة والتمحيص إلا النادر من الأحاديث المتواترة، ولذلك
فهم يخضعون كل هذه الأحاديث وغيرها مهما كانت الكتب التي دونتها أو الرجال
الذين رووها إلى الدرس والتمحيص.
نعم يوجد اتجاه بين العلماء من الأخباريين من يحاول أن يضفي صفة الاعتبار
والصحة على الكتب الأربعة المعروفة، وهي الكافي للشيخ الكليني، ومن لا
يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، والتهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي، ولكن
الاتجاه العام والسائد عند علماء مدرسة أهل البيت لا يقبل مثل ذلك (1).
ومن هذا المنطلق نجد سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) يرفض الاخبار التي
تقول بأن فهم القرآن مختص بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) بعد أن يسلم دلالتها، لأنها
مخالفة للقرآن الكريم والسنة النبوية القطعية، ولان رواتها ضعفاء متهمون بالغلو (2).
ولكن العلامة الطباطبائي - كما عرفنا - يحاول أن يؤول هذه الأخبار بأنها
بصدد بيان أن (الأئمة) لهم دور التعليم والدلالة إلى طريق التفسير، لا ان القرآن
لا يفهمه إلا الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ولكننا يمكن أن نحمل هذه الروايات على أنهم
(عليه السلام) بمستوى خاص من التفسير.
الملاحظة الثانية: التفسير مفهوم واسع:

(1) راجع معجم رجال الحديث للسيد الخوئي 1: 22 - 36.
(2) بحوث في علم الأصول 4: 284.
332

ان التفسير في نظر أهل البيت له مفهوم واسع يشمل فهم الظهور القرآني، كما
يشمل معرفة المصاديق والامثلة والتفاصيل المرتبطة بالقرآن الكريم، سواء كانت
في قصص الأنبياء أو الأمثال المضروبة أو الاحكام التفصيلية للشريعة، أو
الاحداث التي اقترنت بنزول القرآن الكريم، أو التطبيقات التي يمكن أن تتحقق
في مستقبل الأيام، كما أوضحنا ذلك قبل الحديث عن الملاحظات.
وهذا الفهم للتفسير يعتمد على عدة منطلقات - أشرنا إليها سابقا - مثل تعرض
القرآن وبيانه لكل شئ (1)، وكذلك ثبوت تفسير النبي (صلى الله عليه وآله) للقرآن الكريم بهذا
الشكل الواسع وتعليمه للإمام علي (عليه السلام) بشكل خاص (2)، أو ارتباط بقاء القرآن
الكريم حيا ونورا هاديا على مر العصور والأجيال بهذا الفهم الواسع للتفسير (3).
وهذا الفهم لشمولية التفسير لا ينافي أيضا ما عرفناه في بعض الاخبار
والنصوص من هداية القرآن وأنه مبين وبيان وهداية ورحمة، وقد حث أئمة أهل
البيت على الاخذ به والرجوع إليه والعرض عليه، فإن ذلك لا شك أمر قائم
وموجود في القرآن، حيث يمكن للناس في كل عصر وزمان أن يفهموا ظاهره
ومحكماته، ويتعرفوا على مصاديقه بالمقدار الذي آتاهم الله من العلم والفهم وما
اكتسبوه من التعلم واتصفوا به من الطهارة، ولا يجب أن يعرف كل واحد من
الناس جميع الابعاد والوجوه الأخرى.
خصوصا إذا عرفنا انه لا يوجد أي منافاة بين الظاهر والباطن أو المحكم
والمتشابه، أو التنزيل والتأويل، بل كل واحد من الظاهر والمحكم والتنزيل يدل
على الباطن والمتشابه والتأويل بنحو من الدلالة، غاية الامر أن بعض هذه الدلالة

(1) الانعام: 38، ويوسف: 111، والاسراء: 12، والنحل: 89، وغيرها.
(2) راجع فصل مرجعية أهل البيت في هذا البحث.
(3) راجع الروايات التي ذكرناها سابقا عند التعرض لنظرية أهل البيت في التفسير.
333

لا يعلمها إلا الله تعالى والراسخون في العلم بعد أن علمهم الله تعالى إياها، أو بما
وفقهم إليه من الطهارة والنقاوة والمعرفة.
وشأن ذلك شأن الحوادث المستجدة أو المكتشفات العلمية الحديثة أو
الموضوعات الشرعية الجديدة الحادثة التي يمكن أن نفهم مضمونها والإشارة إليها
أو إلى حكمها من القرآن الكريم مع أنها لم تكن معلومة سابقا، وكانت بالنسبة
لانسان عصر النزول من عوالم الغيب وعرفها اللاحقون فكانت من عالم الشهود،
فمعرفة كل ذلك يمثل تفسيرا للقرآن الكريم كان يعلمه أهل البيت (عليهم السلام).
أو شأن ذلك شأن تأويل الأحاديث الذي أشار إليه القرآن الكريم في قصة
يوسف (عليه السلام)، حيث أمكن ليوسف أن يفهم من الرؤيا التي رآها الملك هذا المعنى
الخاص الذي يمثل باطنا للصورة الظاهرية التي انعكست في ذهنه عند الرؤيا،
فالبقرات العجاف والسنابل اليابسة هي سنين القحط، والبقرات السمان والسنابل
الخضراء هي سنين الرخاء، وكذلك الرؤيا التي رآها السجينان في السجن
ومداليلها الباطنية.
الملاحظة الثالثة: التأويل في نظر القرآن وأهل البيت (عليهم السلام):
ان أهل البيت (عليهم السلام) ركزوا بشكل واضح في هذه الروايات - على اختلافها -
على قضية التأويل والظاهر والباطن، وهذا الموضوع مما أجمع المسلمون على
صحته ونسبته للقرآن الكريم وإن اختلفوا في تحديد مفهومه.
ومن أجل أن تتضح الفكرة الأساسية في نظرية أهل البيت بشكل أفضل،
بحيث تنسجم مع ما ورد في القرآن الكريم من نصوص من ناحية ومع المضمون
الاجمالي للروايات السابقة من ناحية أخرى، يحسن بنا أن نقف عند كلمة
(التأويل) بعض الشئ، ويمكن من خلالها أن نفهم الباطن والمتشابه أيضا إضافة
334

إلى التوضيحات التي قدمها العلامة الطباطبائي في بحثه السابق (1).
لقد اختلف علماء الاسلام والقرآن بشكل خاص حول تحديد المقصود من
كلمة التأويل خصوصا المعنى المصطلح لها، ونحن هنا لا نريد أن نعالج الجانب
الاصطلاحي ولا حتى الجانب اللغوي المفهومي لها، إذ يمكن معرفة ذلك من خلال
بحثنا السابق في التفسير والتأويل.
وإنما نريد أن نعالج هنا مدلول الكلمة قرآنيا على مستوى (تفسير المعنى)
وتشخيص المصداق، من خلال مراجعة الآيات الشريفة التي وردت في القرآن
الكريم وسياقها.
وفي هذا المجال يمكن أن نرى أمامنا إرادة المصاديق التالية من القرآن الكريم:
1 - في سورة يوسف الآيات (6 و 21 و 36 و 37 و 44 و 45 و 100 و 101)
حيث يبدو منها أنها وردت في بيان تفسير وتأويل الأحلام والرؤى في المنام،
بمعنى بيان مصاديقها وتجسيداتها الخارجية.
2 - في سورة الكهف الآيتان (78 و 82) حيث يراد بالتأويل منهما بيان سلامة
وصحة سلوك (العبد الذي آتاه الله من لدنه علما) وانسجامه مع الحق والعدل
والمصلحة، مع أنه كان يبدو بحسب الظاهر الذي كان يراه موسى (عليه السلام) (2) أنه غير
منسجم مع الشرع والمصلحة العقلائية، ولذا أثار استغرابه وتعجبه وتساؤله.
3 - في سورة يونس الآية (39) جاء التأويل فيها بمعنى تحقق ما ذكره القرآن
الكريم من تصديق الرسالات السابقة وتفاصيل الشريعة والرسالة، وما يمكن أن
يتحقق في مسيراتها بعد ذلك من أحداث.

(1) راجع الميزان 3: 80 - 87.
(2) لم يصرح القرآن أن موسى هو النبي موسى (عليه السلام)، ولكن المفسرين يستظهرون ذلك إذ لم
يأت في القرآن ذكر لموسى آخر غير النبي، مع أنه تحدث كثيرا عن موسى النبي.
335

4 - في سورة الأعراف الآية (53) جاء التأويل فيها بمعنى تحقق ما أخبر به
الكتاب أو القرآن الكريم بما يقع يوم القيامة من العذاب والثواب ومصائر الناس،
حيث يصدق الانسان ما جاءت به الرسل عن الله تعالى من حقائق هذا اليوم.
5 - في سورة آل عمران الآية (7) جاء التأويل فيها بمعنى الاخذ بالمتشابه
بتطبيقه على أحد مصاديقه التي تؤدي إلى الفتنة والزيغ، بدون الرجوع إلى المحكم
من القرآن لتشخيص المصداق الصحيح.
6 - في سورة النساء الآية (59) جاء التأويل فيها بمعنى بيان الموضوع أو
تشخيص نوع الحكم الشرعي عند الاختلاف فيه.
7 - في سورة الإسراء الآية (35) جاء التأويل فيها بمعنى الالتزام بالضوابط
والموازين في تشخيص الحقائق ومعرفة المقادير.
وإذا أردنا أن نجمع بين مصاديق هذه الموارد نرى بوضوح أن التأويل هو بيان
الحقيقة والواقع الذي يغيب عن نظر الانسان عادة، كالأمور الغيبية أو الدقيقة
التي قد يحصل الاختلاف فيها، وإن كان هناك ما يدل عليها ويومئ إليها مثل
الرؤى والصور في المنام، أو الاخبارات الغيبية بواسطة الوحي الإلهي، أو الافعال
الصادرة عن أهل العلم والحكمة والدين، أو الموازين والضوابط الشرعية،
كالرجوع إلى مصدر الشريعة والمرجع فيها، أو الموازين العقلائية كاستخدام
الكيل أو الوزن لمعرفة المقادير.
ويؤكد هذ الفهم لمعنى التأويل الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، حيث
تشير أيضا إلى أن التأويل في الغالب هو تطبيق مفاهيم القرآن على المصاديق
المستقبلية، كما يفهم ذلك من رواية الفضيل بن يسار المعتبرة، ورواية المرزبان
عن إسحاق بن عمار المعتبرة أيضا، ورواية زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) والتي
مرت الإشارة إليها.
336

أو يكون التأويل هو اتباع الضوابط في تشخيص موارد الاختلاف والوجوه
المتعددة، مثل رواية العياشي عن عبد الرحمن السلمي: " ان عليا مر على قاض
فقال له أتعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا. قال: هلكت وأهلكت، تأويل كل
حرف من القرآن على وجوه " (1).
أو رواية النعماني في تفسيره عن إسماعيل بن جابر في قول الصادق (عليه السلام):
" ذلك بأنهم ضربوا القرآن بعضه ببعض واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه،
الناسخ واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام، واحتجوا بأول الآية
وتركوا السنة في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام والى ما
يختمه... " (2).
وكذلك حديث أبي داود عن أنس بن مالك، عن النبي (صلى الله عليه وآله): " يا علي أنت
تعلم الناس تأويل القرآن مما لا يعلمون، فقال علي: على ما أبلغ رسالتك
من بعدك يا رسول الله؟ قال: تخبر الناس بما يشكل عليهم من تأويل
القرآن " (3).
إذن فالتأويل عملية تطبيق وتشخيص تنسجم مع الظاهر والتنزيل والمحكم،
وتعتمد على المعلومات والقواعد والضوابط العامة أو الخاصة التي يتلقاها
الانسان الصالح من الله تعالى، كما في قوله تعالى:
(... وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) (4).
وكذلك قوله تعالى في أول سورة يوسف:

(1) وسائل الشيعة 18: 149، الحديث 65.
(2) المصدر السابق: الحديث 62.
(3) المصدر السابق: 144، الحديث 46.
(4) الكهف: 82.
337

(وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث...) (1).
وقوله تعالى في وسطها:
(قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني
ربي...) (2).
وقوله تعالى في آخرها:
(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات
والأرض...) (3).
أو تعتمد على الضوابط والقوانين والقواعد اللغوية أو القرائن الحالية والمقالية
أو المعلومات العلمية أو الحسية أو الشرعية أو الطبيعية أو غير ذلك من قوانين
العلم والتوثيق.
الملاحظة الرابعة: اختصاص أهل البيت (عليهم السلام) بهذا العلم:
أن أهل البيت (عليهم السلام) وهم رسول الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) والصديقة الزهراء
والأئمة الاثنا عشر (عليهم السلام) يختصون من بين المسلمين بامتيازات كثيرة، أحدها هي
أنهم يعلمون تنزيل القرآن وتأويله وظاهره وباطنه ومحكمه ومتشابهه.
ومع غض النظر عن مصدر هذا العلم (4) فإنه لا بد أن نشير في هذا المجال إلى
عدة نقاط:

(1) يوسف: 6.
(2) يوسف: 37.
(3) يوسف: 101.
(4) يوجد بحث كلامي وروائي في أن هذا العلم هل هو من باب التلقي عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو
من باب الالهام والالقاء من الله تعالى، أو من باب العلم بالغيب الذي اطلع الله تعالى بعض
عباده عليه، أو هو من جميع هذه المصادر ولا يهمنا الان الدخول في هذا البحث.
338

الأولى: إن المراد من اختصاصهم بهذا العلم كما هو مقتضى الجمع بين هذه
الروايات هو اختصاص العلم ب‍ (جميع) تفسير القرآن و (كل) القرآن بهذا المعنى
الواسع الذي أشرنا إليه، لا أن القرآن لا يفهمه غير أهل البيت (عليهم السلام)، ولذا جاء
التعبير بهذا الاختصاص مقرونا - أحيانا - بكلمة (كل) و (جميع) (1)، وجاء هذا
التعبير مقرونا - أحيانا أخرى - ببيان تفصيل أبعاد هذا العلم (2).
وهذا المعنى لا ينافي - كما ذكرنا - أن يكون القرآن هاديا للبشرية ولجميع
الناس، حيث يمكن للناس أن يفهموا القرآن ويرجعوا إليه فيما يعرفونه من معانيه،
وفق الضوابط والقوانين العلمية الصحيحة.
الثانية: أن أهل البيت في الكثير من هذه الروايات كانوا يحاولون معالجة
الواقع الخطير الذي كان عليه بعض المفسرين للقرآن الذين اعتمدوا على الرأي
والظنون دون الرجوع إلى الضوابط العلمية والسنة المروية والعترة الطاهرة التي
جعلها النبي الأكرم مرجعا للمسلمين والثقل الاخر الذي لا يفترق عن القرآن
الكريم. فأهل البيت أنكروا على بعض المسلمين العدول عن العلم إلى الظن، وهذا
غير جائز باجماع المسلمين.
الثالثة: أن من الطبيعي أن يكون أهل البيت (عليهم السلام) لهم هذا النوع من
الاختصاص إذا أخذنا التفسير بمعناه الواسع الذي أشرنا إليه.
فكما صح أن يكون هذا النوع من الاختصاص ليوسف (عليه السلام) وهو من أنبياء
بني إسرائيل، أو يكون لعبد من عباد الله الصالحين آتاه الله العلم والمعرفة، يمكن
أن يكون هذا الامر للأئمة الطاهرين وهم ورثة النبي في علمه.

(1) الكافي 1: 228، الحديث 1 و 2 وص 229، الحديث 5 وص 257، الحديث 3.
(2) وسائل الشيعة 18: 135، الحديث 23 وص 136، الحديث 25 وص 141، الحديث
39.
339

وهذا النوع من المعلومات لا دليل على وجود قواعد وضوابط يمكن من
خلالها الاطلاع عليها وتعلمها - كما يحاول أن يذهب إلى ذلك العلامة
الطباطبائي - بل قد تكون هي من الأمور الغيبية التي يكون علمها عند الله
- تعالى - وهو الذي يلقيها ويعلمها للأنبياء، أولهم وللأوصياء والأولياء الذين
يختارهم - تعالى - ويصطفيهم عندما تقتضي حكمته ذلك، أو يحجبها عنهم عند
اقتضاء الحكمة ذلك.
ولعل هذا هو وجه الجمع بين الالتزام بالوقف على قوله تعالى: (... لا يعلم
تأويله إلا الله...) (1) وبين قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) (2). فالراسخون
في العلم لا يعلمون التأويل الذي هو من الغيب بل يؤمنون به و (... يقولون آمنا به
كل من عندنا ربنا...) (3)، ولكنهم في نفس الوقت يعلمون التأويل بتعليم الله تعالى
لهم عندما يكونوا من المطهرين كما أشار إلى ذلك العلامة الطباطبائي نفسه.
فأهل البيت (عليهم السلام) يختصون بعلم (جميع) تفسير القرآن، وهذا الاختصاص
أمر طبيعي بعد أن كان هذا الجانب من العلم من الأمور الغيبية التي علمهم الله
- تعالى - إياها.
كما أنهم في نفس الوقت يشاركون الناس، بل أهل المعرفة بالعلم بظواهر
القرآن الكريم، بل هم أحد الضوابط والموازين المهمة في هذه المعرفة العامة
للناس وبهذا يمكن أيضا أن نجمع بين روايات اختصاص تفسير القرآن
بأهل البيت (عليهم السلام) وما ورد من الآيات والروايات التي تدل على أن القرآن ميسر
الفهم لجميع الناس. حيث يكون القرآن ميسرا لفهم طبقا للضوابط العامة للغة التي

(1) آل عمران: 7.
(2) الواقعة: 79.
(3) آل عمران: 7.
340

يمكن للعلماء أن يعرفوها. ولكن في - الوقت نفسه يكون هناك جانب من
الاختصاص يرتبط بتطبيق مفاهيم القرآن على الأمور الغيبة وتفاصيل الشريعة و
غيرها كما أشار إلى ذلك العلامة الطباطبايي، فلا نحتاج إلى رد هذه الروايات
بسبب مخالفتها للقرآن كما قد يفهم ذلك من الشهيد الصدر في بحوثه الأصولية
التي أشرنا إليها.
341

القسم الرابع
التفسير الموضوعي
القصص القرآني.
فواتح السور.
استخلاف آدم (الانسان).
342

التفسير الموضوعي
تمهيد: التعريف بالتفسير الموضوعي:
حين نريد أن نلاحظ الدراسات التفسيرية منذ العصور الاسلامية الأولى نجد
بينها اختلافا كثيرا في الانطباعات، وتفاوتا كبيرا بالموضوعات ذات العلاقة في
البحوث القرآنية، حيث نرى بعض المفسرين يتجه إلى تأكيد الجوانب اللغوية
واللفظية في النص القرآني، وبعضهم الاخر يتجه إلى تأكيد الجانب التشريعي
والفقهي من القرآن، وبعض آخر يتجه إلى تأكيد الجانب العقيدي أو الأخلاقي أو
العلمي التجريبي أو الجانب العرفاني منه، وهكذا بالنسبة إلى بقية الموضوعات
القرآنية كالقصة وغيرها.
وبالرغم من هذا الاختلاف الكبير لا نكاد نجد اختلافا مهما في منهج الدراسة
والبحث، ذلك أنهم اعتادوا على أن ينهجوا في البحث طريقة تفسير الآيات
القرآنية بحسب تسلسل عرضها في القرآن الكريم، وتنتهي مهمة تفسيرها عند
تحديد معنى الآية موضوع البحث مع ملاحظة بعض ظروف السياق أو بعض
الآيات الأخرى المشتركة معها في نفس الموضوع، ويمكن أن نسمي هذا المنهج
بالتفسير التجزيئي أو الترتيبي للقرآن الكريم.
نعم نلاحظ ان مجموعة من الآيات اهتم المفسرون بها بشكل خاص لوجود
قاسم مشترك بينها، كآيات الاحكام أو القصص القرآني أو الآيات الناسخة
والمنسوخة أو غيرها، ولكن لم تدرس كموضوع مستقل بل باعتبار وجود الجامع
343

والخصوصية المشتركة.
وفي وقت متأخر من تأريخ علم التفسير أخذت تنمو بوادر منهج جديد في
التفسير أو البحث القرآني، يقوم على أساس محاولة استكشاف النظرية القرآنية
في جميع المجالات: العقيدية والفكرية والثقافية والتشريعية والسلوكية من خلال
عرضها في مواضعها المختلفة من القرآن الكريم.
فحين نريد أن نعرف رأي القرآن الكريم في (الألوهية)، يستعرض هذا المنهج
الجديد الآيات التي جاءت تتحدث عن هذا الموضوع في مختلف المجالات وفي
جميع المواضع القرآنية، سواء في ذلك ما يتعلق بأصل وجود الاله أو بصفاته
وحدوده، ومن خلال هذا العرض العام والمقارنة بين الآيات، وحدودها
نستكشف النظرية القرآنية في (الاله).
ونظير هذا الموقف يتخذه في كل المفاهيم والنظريات أو بعض الظواهر
القرآنية، فيبحث عن (الأسرة) أو (التقوى) أو (الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر) أو (المجتمع) أو (الجهاد) أو (فواتح السور) أو (القصص القرآني) أو
(الانسان) أو غير ذلك من الموضوعات القرآنية.
وقد يقتصر البحث على مقطع قرآني واحد لان القرآن لم يعرض لموضوع
البحث إلا في هذا المقطع، ومع ذلك نجد هذا الاختلاف بين المنهج الجديد والمنهج
السابق في دراسة هذا المقطع الواحد، حيث تكون مهمة المنهج الجديد استخلاص
الفكرة والنظرية من خلال هذا المقطع دون المنهج السابق.
فالتفسير الموضوعي - إذن - يقوم على أساس دراسة موضوعات معينة
تعرض لها القرآن الكريم في مواضع متعددة أو في موضع واحد، وذلك من أجل
تحديد النظرية القرآنية بملامحها وحدودها في الموضوع المعين، ومن أجل أن يتضح
المراد من التفسير الموضوعي يحسن بنا أن نفهم مصطلح الموضوعية، كما شرحه
344

استاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) فقد ذكر ثلاثة معان لمصطلح الموضوعية:
أولا: (الموضوعية) في مقابل (الذاتية) و (التحيز)، والموضوعية بهذا المعنى
عبارة عن الأمانة والاستقامة في البحث (1)، والتمسك بالأساليب العلمية المعتمدة
على الحقائق الواقعية في نفس الامر والواقع، دون أن يتأثر الباحث بأحاسيسه
ومتبنياته الذاتية ولا أن يكون متحيزا في الاحكام والنتائج التي يتوصل إليها.
وهذه (الموضوعية) أمر صحيح ومفترض في كلا المنهجين (التجزيئي)
و (الموضوعي) ولا اختصاص لأحدهما بها.
ثانيا: (الموضوعية) بمعنى أن يبدأ في البحث من (الموضوع)، الذي هو (الواقع
الخارجي) ويعود إلى (القرآن الكريم) (2) لمعرفة الموقف تجاه الموضوع الخارجي.
" فيركز] المفسر في منهج التفسير الموضوعي [نظره على موضوع من
موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية، ويستوعب ما أثارته تجارب
الفكر الانساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدمه الفكر الانساني من
حلول، وما طرحه التطبيق التأريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ، ثم يأخذ النص
القرآني... ويبدأ] معه [حوارا، فالمفسر يسأل والقرآن يجيب... وهو يستهدف
من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح... " (3).
وقد سمى هذا المنهج أيضا بالمنهج (التوحيدي) " باعتبار أنه يوحد بين
(التجربة البشرية) و (القرآن الكريم) لا بمعنى أنه يحمل التجربة البشرية على
القرآن... بل بمعنى أنه يوحد بينهما في سياق بحث واحد لكي يستخرج نتيجة هذا
السياق... المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدد موقف الاسلام تجاه هذه التجربة أو

(1) المدرسة القرآنية، الدرس الثاني: 29. ط. بيروت.
(2) المصدر نفسه: 28.
(3) المصدر نفسه: 19.
345

المقولة الفكرية " (1).
ثالثا: وقد يراد من (الموضوعية) ما ينسب إلى الموضوع، حيث يختار المفسر
موضوعا معينا ثم يجمع الآيات التي تشترك في ذلك الموضوع فيفسرها، ويحاول
استخلاص نظرية قرآنية منها فيما يخص ذلك الموضوع.
ويمكن أن يسمى مثل هذا المنهج منهجا توحيديا أيضا " باعتبار انه يوحد بين
هذه الآيات ضمن مركب نظري واحد " (2).
ولا شك أن المعنى الأول ليس موضوع البحث، إذ لا يختلف التفسير الموضوعي
عن التفسير التجزيئي في ضرورة توفر هذا الوصف فيه، ويبقى عندنا المعنى الثاني
والثالث.
وقد خضع هذا المنهج في البحث لقانون التطور الذي يحدث عادة في مناهج
البحث فمر بمراحل متعددة، حيث قام المنهج القديم للتفسير بدور الحضانة له ثم بلغ
رشده وانفصل عنه، فإذا بالموضوعات القرآنية المتخلفة تتخذ صفة البحث
المستقل عن (الهيكل العام للتفسير القديم).
حاجة العصر إلى التفسير الموضوعي (3):
لقد عرف الاسلام في أنظمته وتشريعاته طريقه إلى المجتمع في بداية الامر من
خلال التطبيق، وذلك لان الجانب الاجتماعي من الاسلام لم يطرحه الرسول

(1) المدرسة القرآنية، الدرس الثاني: 28.
(2) المصدر نفسه.
(3) لمعرفة مزيد من أهمية التفسير الموضوعي وميزاته تراجع المدرسة القرآنية للشهيد
الصدر (قدس سره) - الدرس الأول والثاني، وكراس محاضرات في تفسير القرآن (مقدمة
التفسير) لمؤلف هذا الكتاب.
346

الأعظم (صلى الله عليه وآله) كنظريات عامة ومبادئ دستورية عن المجتمع وعلاقاته المختلفة، ثم
جاء التشريع والتقنين بناء فوقيا لها ليشمل جميع مناحي الحياة، وانما طرحه
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في كثير من الأحيان من خلال التقنين والتشريع وبيان
الاحكام المختلفة في قضايا المجتمع التفصيلية.
ومن هنا لا نجد البحث الموضوعي النظري يدخل في الشريعة الاسلامية الا في
العصور المتأخرة من تأريخ المسلمين، لان المجتمع الاسلامي كان يباشر التطبيق
للقانون الاسلامي على أساس أنه تشريع واحكام من قبل الله سبحانه لا بد من
الالتزام بها ضمن نطاقها المعين وفي حدودها الخاصة، بلا حاجة إلى معرفة النظرية
التي يقوم عليها الحكم الشرعي، وكيفية معالجتها لمشاكل الحياة الاجتماعية.
ويكاد يختص هذا الامر بالشريعة فقط دون الجانب العقيدي للاسلام، فإنه
كان ولا يزال مجالا للبحث النظري بسبب أن جانب التطبيق فيه هو فهم النظرية
والايمان بها، وهذا ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنه طرح في العقيدة النظرية
الاسلامية بشكلها العام.
وحين انحسر الاسلام عن التطبيق في مجتمع المسلمين وواجه النظريات
المذهبية المختلفة ظهرت الحاجة الملحة إلى البحث الموضوعي القرآني في مختلف
المجالات، لان الاسلام أصبح بحاجة إلى أن يعرض ك‍ (نظرية) مذهبية جاء بها
الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) عن طريق الوحي، وذلك من أجل مواجهة النظريات المذهبية
الأخرى، ومن أجل أن يتضح مدى صلاحيته لمعالجة مشاكل الحياة المعاصرة
وصلته بتلك النظريات المذهبية، كما أن فهم الاسلام ك‍ (نظرية) عامة هو الذي
ييسر لنا سبيل ان نتبناه نظاما للحياة، ندافع عنه ونكافح من أجل تطبيقه وصيانته.
فالحاجة إلى التفسير الموضوعي في هذا العصر تنبع - في الحقيقة - من الحاجة
إلى عرض الاسلام ومفاهيم القرآن عرضا نظريا، يتكفل الأساس الذي تنبثق
347

منه جميع التفصيلات والتشريعات الأخرى، حيث من الممكن ان نستكشف
النظريات العامة من خلال التشريع والقانون الاسلامي لوجود الارتباط الوثيق
بين النظرية والتطبيق (1).
الموضوعات التي عرض لها القرآن اجمالا وطريقته في هذا العرض:
لقد عرض القرآن الكريم إلى موضوعات كثيرة، حيث تناول في ما تعرض له
أكثر الجوانب الفكرية والثقافية المرتبطة بالحياة والكون والمجتمع سواء، ما يتعلق
منها بالعقيدة أو بالتشريع أو بالأخلاق أو الحكم والعلاقات الاجتماعية أو التأريخ
أو غير ذلك من الجوانب الأخرى.
وهنا نشير إلى فهرست عام للنقاط الرئيسة التي تناولها القرآن الكريم، علما
بأن أكثر هذه النقاط تتفرع إلى نقاط أخرى وموضوعات ثانوية تصلح للبحث
الموضوعي والدرس العلمي، وهذه النقاط هي كالتالي:
الألوهية، أفعال الله، عالم الغيب، الانسان قبل الدنيا، الانسان في هذه الدنيا،
الانسان بعد هذه الدنيا، الأخلاق الانسانية، التشريع الاسلامي، الكون والحياة،
وحركة الدعوة الاسلامية.
وتتناول النقطة الأولى: كل المعلومات التي ترتبط بأسماء الله سبحانه وصفاته
من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها.
وتتناول النقطة الثانية: كل المعلومات التي ترتبط بالخلق والإرادة والامر
والمشيئة والهداية والاضلال والقضاء والقدر والجبر والتفويض والرضا والسخط
والحب وغيرها.
وتتناول النقطة الثالثة: كل المعلومات التي ترتبط بالحجب واللوح والقلم

(1) راجع بهذا الصدد " اقتصادنا " لأستاذنا السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) 2: 16.
348

والعرض والكرسي والبيت المعمور والسماء والأرض والملائكة والشياطين والجن،
وغير ذلك.
وتتناول النقطة الرابعة: كل المعلومات التي ترتبط بآدم وكيفية خلقه وخلافته
وخلق إبليس وعلاقته بآدم وذريته وحياته في الجنة مع زوجه وغيرها.
وتتناول النقطة الخامسة: كل المعلومات التي ترتبط بتأريخ الانسان ومزاجه
النفسي والروحي والعقلي والقوانين الاجتماعية العامة التي تتحكم في سلوكه
وعلاقاته وحركته الاجتماعية والتأريخية، ومدى صلته بالسماء وأساليب هذه
الصلة من النبوة والوحي والالهام والدين والكتاب والشريعة، وجميع صفات
الأنبياء التي تستنبط من قصصهم.
وتتناول النقطة السادسة: كل المعلومات التي ترتبط بالبرزخ والمعاد والجنة
والنار...
وتتناول النقطة السابعة: كل المعلومات التي ترتبط بالقيم والمثل والصفات
التي يجب أن يتحلى بها الانسان والتي ترتفع به في عالم الانسانية وتوصله إلى
الكمال المنشود، وكذلك الأمثال والمواعظ التي لها دور في تربية هذا الانسان
وتكميله وتوجيهه.
وتتناول النقطة الثامنة: كل المعلومات التي ترتبط بالشريعة الاسلامية
بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والفردية والتجارية والحربية وغيرها (1).
وتتناول النقطة التاسعة: كل المعلومات المرتبط بالسماء والأرض والجبال
والماء والحيوان والنبات والمطر والرياح، والعوالم التي تحيط بهذا الانسان في هذا
الكون الواسع.
وتتناول النقطة العاشرة: كل الاحداث التي واجهها النبي والمسلمون، والمواقف

(1) راجع بهذا الصدد الميزان، مقدمة تفسير الميزان: 11.
349

التي اتخذها القرآن الكريم تجاهها، وكذلك الإثارات والأسئلة والشبهات
والمشكلات التي كانت تطرح من قبل أعداء الرسالة أو المسلمين أنفسهم
ومعالجتها والتطورات والمراحل التي مرت بهذه الرسالة والقضايا ذات العلاقة
ببناء القاعدة الانسانية الثورية التي حملت أعباء الرسالة بعد ذلك.
وقد سلك القرآن الكريم لتبيان هذه الموضوعات منهجا فريدا يكاد يتميز عن
سائر مناهج الكتب الدينية الأخرى حيث نرى أنه لا تكاد تمر سورة من القرآن
الكريم أو جزء منه إلا وقد تناول الكثير من هذه الموضوعات، بأسلوب غاية في
التناسق والربط والانسجام.
كما نجد القرآن الكريم - من ناحية أخرى - يعمل على ايضاح بعض المفاهيم
والأفكار غير المادية (الغيبية) عن طريق الأمثلة والصور المادية، ليقرب بذلك
(الفكرة) إلى ذهن الانسان الذي لا يدرك إلا من خلال هذه الصور ويحدد
الفكرة عن طريق تكرار الأمثلة وتكثير الصور، لتخلص مما قد يعلق بها من
شوائب المادة وحدودها، كما أشرنا إلى ذلك في بحث المحكم والمتشابه.
ونحن نعرف أن الهدف الأساس الذي استهدفه القرآن الكريم في نزوله هو
التربية والتغيير الاجتماعي لا التثقيف والتعليم فحسب، ولذا نجد الأسلوب
القرآني يخضع في جميع مراحله إلى هذا الهدف ويأتي بهذا الشكل الذي قد يبدو
متداخلا ولكنه يؤدي إلى الغاية والهدف، وقد أوضحنا في بعض أبحاثنا السابقة
جوانب متعددة من هذه الطريقة في العرض والبيان.
وباعتبار أن موضوعات القرآن الكريم واسعة وكثيرة، لذا سوف نختار في بحثنا
هذا بعض النماذج من الموضوعات لبحث التفسير، حيث نكون على معرفة من
هذا المنهج من خلال التطبيق أولا، والاستفادة من المضمون العلمي لهذه الموضوعات
ثانيا، وقد اخترنا الموضوعات التالية لأهميتها في بحث علوم القرآن:
350

1 - القصص القرآني.
2 - فواتح السور المقطعة.
3 - خلافة الانسان.
351

القصص القرآني
الفرق بين القصص القرآني وغيره:
يختلف القصص القرآني عن غيره من القصص في ناحية أساسية هي ناحية
الهدف والغرض الذي جاء من أجله، ذلك أن القرآن الكريم لم يتناول القصة
لأنها عمل (فني) مستقل في موضوعه وطريقة التعبير فيه، كما أنه لم يأت بالقصة
من أجل التحدث عن أخبار الماضين وتسجيل حياتهم وشؤونها - كما يفعل
المؤرخون - وانما كان عرض القصة في القرآن الكريم مساهمة في الأساليب
العديدة التي سلكها لتحقيق أهدافه وأغراضه الدينية التي جاء الكتاب الكريم من
أجلها، بل يمكن أن نقول: ان القصة هي من أهم هذه الأساليب.
فالقرآن الكريم - كما عرفنا في وقت سابق عند الحديث عن الهدف من نزول
القرآن - رسالة دينية قبل كل شئ تهدف بصورة أساسية إلى عملية التغيير
الاجتماعي بجوانبها المختلفة، هذه العملية التي وجدنا بعض مظاهرها وآثارها في
طريقة نزول القرآن التدريجي وفي طريقة عرض المفاهيم المختلفة، وفي ربط نزول
القرآن بالاحداث والوقائع والأسئلة، وفي أسلوب القرآن في القصر والايجاز، أو
المزج بين الصور والمشاهد المتعددة، الامر الذي أدى إلى نشوء كثير من
الدراسات القرآنية، عرفنا منها الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمكي
والمدني وغيرها.
لذا فلا بد لنا - حين نريد أن ندرس القصة القرآنية - أن نضع أمامنا هذا الهدف
353

القرآني العام لنتعرف من خلاله على الأسلوب الذي اتبعه القرآن الكريم في
عرضه القصة القرآنية مساهمة منه في تحقيق هذا الهدف.
أغراض القصة في القرآن الكريم (*):
لقد جاءت القصة في القرآن الكريم لتساهم في عملية التغيير الانساني بجوانبها
المتعددة، فما هي الأغراض ذات الأثر الرسالي التي استهدفتها القصة القرآنية؟
وبهذا الصدد نجد القصة القرآنية تكاد تستوعب في مضمونها وهدفها جميع
الأغراض الرئيسة التي جاء من أجلها القرآن الكريم (1)، ونظرا لكثرة هذه
الأغراض تشعبها نجد من المستحسن أن نقتصر في عرضنا لأغراض القصة في
القرآن على الأغراض القرآنية المهمة، لنتعرف - من خلال ذلك - أهمية ذكر
القصة في القرآن الكريم والفوائد التي تترتب عليها:
أ - اثبات الوحي والرسالة:
ان ما جاء به القرآن الكريم لم يكن من عند محمد (صلى الله عليه وآله) وانما هو وحي أوحاه
الله تعالى إليه وأنزله هداية للبشرية.

* راجع في بحث أغراض القصة ما كتبه سيد قطب في كتابه " التصوير الفني في القرآن ":
120 - 141، وما سجله السيد رشيد رضا في مواضع مختلفة من كتابه " تفسير المنار ".
(1) يمكن ان نقسم الأغراض القرآنية للقصة إلى قسمين رئيسين:
أولا: الأغراض ذات المدلول الموضوعي، كمحاولة القرآن الكريم من وراء سرد
القصة اثبات صحة النبوة أو اثبات وحدة الرسالات الإلهية أو شرح بعض القوانين
والسنن التأريخية التي تتحكم في مسيرة المجتمع الانساني.
ثانيا: الأغراض ذات المدلول الذاتي التربوي، كمحاولة القرآن الكريم من وراء
سرد القصة تربية الانسان على الايمان بالغيب أو خضوعه للحكمة الإلهية أو التزامه
بالأخلاق الاسلامية والاعتبار أو الاقتداء بسيرة الماضين.
354

وقد أشرنا إلى هذا الهدف القرآني من القصة عند بحثنا لاعجاز القرآن الكريم
حيث عرفنا: أن حديث النبي محمد (صلى الله عليه وآله) عن اخبار الأمم السالفة وأنبيائهم
ورسلهم بهذه الدقة والتفصيل والثقة والطمأنينة، مع ملاحظة ظروفه الثقافية
والاجتماعية كل ذلك يكشف عن حقيقة ثابتة وهي تلقيه هذه الانباء والاخبار
من مصدر غيبي مطلع على الاسرار وما خفي من بواطن الأمور، وهذا المصدر هو
الله سبحانه وتعالى.
وقد نص القرآن الكريم على أن من أهداف القصة هو هذا الغرض السامي،
وذلك في مقدمة بعض القصص القرآنية أو ذيلها، فقد جاء في سورة يوسف:
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وان كنت من قبله لمن
الغافلين) (1).
وجاء في سورة القصص بعد عرضه لقصة موسى: (وما كنت بجانب الغربي إذ
قضينا إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين * ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم
العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين * وما كنت
بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم
يتذكرون) (2).
وجاء في سورة آل عمران في مبدأ قصة مريم: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه
إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ
يختصمون) (3).
وجاء في سورة (ص) قبل عرضه لقصة آدم: (قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه

(1) يوسف: 3.
(2) القصص: 44 - 46.
(3) آل عمران: 44.
355

معرضون * ما كان لي من علم بالملأ الاعلى إذ يختصمون * ان يوحى إلي الا انما أنا
نذير مبين) (1).
وجاء في سورة هود بعد قصة نوح: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت
تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر ان العاقبة للمتقين) (2).
فكل هذه الآيات الكريمة وغيرها تشير إلى أن القصة انما جاءت في القرآن
تأكيدا لفكرة الوحي التي هي الفكرة الأساس في الشريعة الاسلامية.
ب - وحدة الدين والعقيدة لجميع الأنبياء:
أكدت القصة أن الدين كله من الله سبحانه وان الأساس للدين الذي جاء به
الأنبياء المتعددون هو أساس واحد لا يختلف بين نبي وآخر، فالدين واحد
ومصدر الدين واحد أيضا وجميع الأنبياء أمة واحدة تعبد هذا الاله الواحد
وتدعو إليه.
وهذا الغرض من الاهداف الرئيسة للقرآن الكريم حيث يهدف القرآن من
جملة ما يهدف إليه ابراز الصلة الوثيقة بين الاسلام الحنيف وسائر الأديان الإلهية
الأخرى التي دعا إليها الرسل والأنبياء الآخرون، ليحتل الاسلام منها مركز الخاتمية
التي يجب على الانسانية أن تنتهي إليها، ويسد الطريق على الزيغ الذي يدعو إلى
التمسك بالأديان السابقة على أساس أنها حقيقية موحاة من قبل الله تعالى.
إضافة إلى ذلك تظهر الدعوة على انها ليست بدعا في تأريخ الرسالات وانما
هي وطيدة الصلة بها في أهدافها وأفكارها ومفاهيمها: (قل ما كنت بدعا من
الرسل...) (3)، بل انها تمثل امتدادا لهذه الرسالات الإلهية وتلك الرسالات تمثل

(1) ص: 67 - 70.
(2) هود: 49.
(3) الأحقاف: 9.
356

الجذر التأريخي للرسالة الاسلامية، فهي رسالة أخلاقية وتغييرية لها هذا الامتداد
في التأريخ الانساني ولها هذا القدر من الأنصار والمضحين والمؤمنين.
وعل أساس هذا الغرض تكرر ورود عدد من قصص الأنبياء في سورة
واحدة ومعروضة بطريقة خاصة، لتؤكد هذا الارتباط الوثيق بينهم في الوحي
والدعوة التي تأتي عن طريق هذا الوحي، ولنضرب لذلك مثلا ما جاء في سورة
الأنبياء (1):
(ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين * الذين يخشون ربهم
بالغيب وهم من الساعة مشفقون * وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون؟).
(ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه
التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا: وجدنا آباءنا لها عابدين) إلى قوله (وأرادوا
به كيدا فجعلناهم الأخسرين * ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين *
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا
وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وأقام الصلاة وايتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين).
(ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث انهم كانوا
قوم سوء فاسقين * وأدخلناه في رحمتنا انه من الصالحين).
(ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من
القوم الذين كذبوا بآياتنا انهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين).
(وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم
شاهدين. ففهمناها سليمان - وكلا آتينا حكما وعلما - وسخرنا مع داود الجبال يسبحن
والطير وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم
شاكرون؟).

(1) الأنبياء: 48 - 82.
357

(ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل
شئ عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم
حافظين).
(وأيوب إذ نادى ربه اني مسني الضر وأنت ارحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا
ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين).
(وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين * وأدخلناهم في رحمتنا انهم
من الصالحين).
(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ان لا اله الا
أنت سبحانك اني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي
المؤمنين).
(وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا
له يحيى وأصلحنا له زوجه انهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا
وكانوا لنا خاشعين).
(والتي احصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين).
(ان هذه أمتكم أمة واحدة وانا ربكم فاعبدون) (1).
ويبدو أن القرآن الكريم يريد أن يشير إلى الغرض الأصيل من هذا الاستعراض
لقصص الأنبياء بالآية الخاتمة المعبرة عن هذه الوحدة العميقة الجذور في القدم
للأمة المؤمنة بالإله الواحد، وتأتي بقية الأغراض الأخرى في ثنايا هذا الغرض.
ومثال آخر يوضح وحدة العقيدة الأساسية التي استهدفها الأنبياء في تأريخهم
الطويل وفي نضالهم المتواصل، هذه العقيدة التي تدعو إلى الايمان بالله سبحانه الها
واحدا لا شريك له في ملكه، وذلك ما جاء في سورة الأعراف:

(1) الأنبياء: 83 - 92.
358

(لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره...) (1).
(والى عاد أخاهم هودا قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره...) (2).
(والى ثمود أخاهم صالحا قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره...) (3).
(والى مدين أخاهم شعيبا قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره...) (4).
فالإله واحد والعقيدة واحدة والأنبياء أمة واحدة والدين واحد وكله لواحد
هو الله سبحانه.
ج - تشابه طرق الدعوة والمجابهة:
من اغراض القصة بيان ان وسائل الأنبياء وأساليبهم في الدعوة واحدة
وطريقة مجابهة قومهم لهم واستقبالهم متشابهة، وان القوانين والسنن الاجتماعية
التي تتحكم في تطور الدعوة وسيرها واحدة أيضا، فالأنبياء يدعون إلى الاله
الواحد ويأمرون بالعدل والاصلاح والناس يتمسكون بالعادات والتقاليد البالية
ويصر على ذلك أصحاب المنافع الشخصية والأهواء الخاصة بشكل خاص،
والطواغيت والجبابرة منهم بشكل أخص.
وتبعا لهذه الاهداف ترد قصص كثيرة من الأنبياء مجتمعة مكررة فيها طريقة
الدعوة على نحو ما جاء في سورة هود:
(ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه: إني لكم نذير مبين * ان لا تعبدوا الا الله اني أخاف
عليكم عذاب يوم أليم * فقال الملا الذين كفروا من قومه ما نراك الا بشرا مثلنا وما
نراك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم

(1) الأعراف: 59.
(2) الأعراف: 65.
(3) الأعراف: 73.
(4) الأعراف: 85.
359

كاذبين) إلى أن يقول: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ان أجري الا على الله...)
والى ان يقولوا له: (... يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا ان كنت من
الصادقين) (1).
(والى عاد أخاهم هودا قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره ان أنتم الا
مفترون * يا قوم لا أسألكم عليه أجرا ان أجري الا على الذي فطرني أفلا تعقلون؟)
إلى قوله: (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك
بمؤمنين * ان نقول: الا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال: إني أشهد الله واشهدوا اني
برئ مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) (2).
(والى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره هو أنشأكم من
الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه ان ربي قريب مجيب * قالوا: يا
صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا واننا لفي شك مما
تدعونا إليه مريب) (3).
ومثل هذه المواقف نجدها في سورة الشعراء أيضا.
د - النصر الإلهي للأنبياء:
بيان نصرة الله لأنبيائه وان نهاية المعركة تكون في صالحهم مهما لاقوا من
العنت والجور والتكذيب - كل ذلك - تثبيتا لرسوله محمد (صلى الله عليه وآله) وأصحابه وتأثيرا
في نفوس من يدعوهم إلى الايمان.
وقد نص القرآن الكريم على هذا الهدف الخاص أيضا بمثل قوله تعالى:
(وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق

(1) هود: 25 - 32.
(2) هود: 50 - 55.
(3) هود: 61 - 62.
360

وموعظة وذكرى للمؤمنين) (1).
وتبعا لهذا الغرض وردت بعض قصص الأنبياء مؤكدة على هذا الجانب بل
جاءت بعض هذه القصص مجتمعة ومختومة بمصارع من كذبوهم وقد يتكرر
عرض القصة نتيجة لذلك كما جاء في سورة هود والشعراء والعنكبوت ولنضرب
مثلا من سورة العنكبوت:
(لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث الف سنة - الا خمسين عاما - فأخذهم الطوفان
وهم ظالمون * فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين).
(وإبراهيم إذ قال لقومه: اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون) (2).
إلى أن يقول: (فما كان جواب قومه الا ان قالوا: اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من
النار ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون) (3).
(ولوطا إذ قال لقومه انكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من
العالمين) (4).
إلى أن يقول: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون
* ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون).
(والى مدين أخاهم شعيبا فقال: يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا
في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين).
(وعادا وثمودا - وقد تبين لكم من مساكنهم - وزين لهم الشيطان أعمالهم
فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين).

(1) هود: 120.
(2) العنكبوت: 14 - 16.
(3) العنكبوت: 24.
(4) العنكبوت: 28.
361

(وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض
وما كانوا سابقين).
(فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم
من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون) (1) فهذه هي النهاية الحتمية التي يريد ان يصورها القرآن الكريم
لمعارضي الأنبياء والمكذبين بدعوتهم.
ه‍ - تصديق التبشير والتحذير:
فقد بشر الله سبحانه عباده بالرحمة والمغفرة لمن أطاعه منهم وحذرهم من
العذاب الأليم لمن عصاه منهم، ومن أجل ابراز هذه البشارة والتحذير بصورة
حقيقية متمثلة في الخارج عرض القرآن الكريم لبعض الوقائع الخارجية التي
تتمثل فيها البشارة والتحذير، فقد جاء في سورة الحجر التبشير والتحذير أولا،
ثم عرض النماذج الخارجية لذلك ثانيا:
(نبئ عبادي أني انا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم) (2).
وتصديقا لهذه أو ذلك جاءت القصص على النحو التالي:
(ونبئهم عن ضيف إبراهيم * إذ دخلوا عليه فقالوا: سلاما قال: انا منكم وجلون
* قالوا: لا توجل انا نبشرك بغلام عليم) (3)... وفى هذه القصة تبدوا لرحمة والبشارة.
ثم (فلما جاء آل لوط المرسلون * قال إنكم قوم منكرون * قالوا بل جئناك بما
كانوا فيه يمترون * وأتيناك بالحق وانا لصادقون * فأسر باهلك بقطع من الليل واتبع
ادبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون * وقضينا إليه ذلك الامر: ان دابر

(1) العنكبوت: 34 - 40.
(2) الحجر: 49، 50.
(3) الحجر: 51، 52.
362

هؤلاء مقطوع مصبحين) (1). وفي هذه القصة تبدو (الرحمة) في جانب لوط ويبدو
(العذاب الأليم) في جانب قومه المهلكين.
ثم: (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين * وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها
معرضين * وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين * فأخذتهم الصيحة مصبحين * فما
أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) (2). وفي هذه القصة يبدو (العذاب الأليم) للمكذبين،
وهكذا يصدق الانباء ويبدو صدقه في هذه القصص الواقع بهذا الترتيب.
و - اللطف الإلهي بالأنبياء:
بيان نعمة الله على أنبيائه ورحمته بهم وتفضله عليهم وذلك توكيدا لارتباطهم
وصلتهم معه، كبعض قصص سليمان وداود وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريا
ويونس وموسى. ذلك أن الأنبياء يتعرضون - عادة - إلى مختلف ألوان الآلام
والمحن والعذاب، فقد يتوهم السذج والبسطاء من الناس أن ذلك اعراض من الله
تعالى عنهم، فيأتي الحديث عن هذه النعم والالطاف الإلهية التي شملتهم تأكيدا
لعلاقة الله سبحانه وتعالى بهم، ولذلك نشاهد أن بعض الحلقات من قصص هؤلاء
الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتى، ويكون ابرازها هو الغرض الأول منها
وما سواه يأتي في هذا الموضوع عرضا.
ز - عداوة الشيطان:
بيان غواية الشيطان للانسان وعداوته الأبدية له وتربصه به الدوائر والفرص
وتنبيه بني آدم لهذا الموقف المعين منه، ولا شك أن ابراز هذه المعاني والعلاقات
بواسطة القصة يكون واضحا وأدعى للحذر والالتفات، لذا نجد قصة آدم تكرر
بأساليب مختلفة تأكيدا لهذا الغرض، بل يكاد أن يكون هذا الغرض هو الهدف

(1) الحجر: 61 - 66.
(2) الحجر: 80 - 84.
363

الرئيس لقصة آدم كلها.
ح - أهداف بعثة الأنبياء:
بيان أن الغايات والأهداف من ارسال الرسل والأنبياء هي من أجل هداية
الناس وارشادهم وحل الاختلافات والحكم بالعدل بينهم ومحاربة الفساد في
الأرض، وفوق ذلك كله هو إقامة الحجة على الناس، ولذا جاء استعراض قصص
الأنبياء بشكل واسع لبيان هذه الحقائق.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الهدف من القصة في عدة مواضع:
(كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب
بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه...) (1).
(رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله
عزيزا حكيما) (2).
(وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا
هم يحزنون) (3).
فإنها وردت في سياق قوله تعالى:
(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم
يتضرعون...) (4).
(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة
الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا * وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل

(1) البقرة: 213.
(2) النساء: 165.
(3) الانعام: 48.
(4) الانعام: 42.
364

الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا) (1).
وكذلك ما ورد في تعقيب قصص الأنبياء من سورة الشعراء من قوله تعالى:
(إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) (2).
ط - أهداف تربوية أخرى:
وبيان أغراض آخري ترتبط بالتربية الاسلامية وجوانبها المتعددة، فقد
استهدف القرآن بشكل رئيس تربية الانسان على الايمان بالغيب وشمول القدرة
الإلهية لكل الأشياء، كالقصص التي تذكر الخوارق والمعاجز كقصة خلق آدم،
ومولد عيسى، وقصة إبراهيم مع الطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كل جبل
جزءا منه، وقصة (... الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها...) (3) وإحياء
الله له بعد موته مائة عام.
كما استهدف تربية الانسان على فعل الخير والأعمال الصالحة وتجنبه الشر
والفساد، وذلك ببيان العواقب المترتبة على هذه الأفعال، كقصة النبي آدم وقصة
صاحب الجنتين، وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم، وقصة سد مأرب، وقصة
أصحاب الأخدود.
ومما استهدفه القرآن الكريم في التربية الاستسلام للمشيئة الإلهية والخضوع
للحكمة التي أرادها الله سبحانه من وراء العلاقات الكونية والاجتماعية في الحياة،
وذلك ببيان الفارق بين الحكمة الإلهية ذات الهدف البعيد والعميق في الحياة
الانسانية والفهم الانساني للظواهر في الحياة الدنيا، والحكمة الانسانية القريبة
العاجلة، كما جاء في قصة موسى التي جرت مع عبد (... من عبادنا آتيناه رحمة من

(1) الكهف: 55 - 56.
(2) الشعراء: 158، 159.
(3) البقرة: 259.
365

عندنا وعلمناه من لدنا علما) (1) إلى آخر ذلك من الأغراض الوعظية والتربوية
الأخرى التي سوف نطلع على بعضها في دراستنا التفصيلية لقصة موسى (عليه السلام).
ظواهر عامة في القصة القرآنية:
وفي ضوء هذه الاهداف للقصة يحسن بنا أن ندرس ثلاث ظواهر أساسية
برزت في مجمل القصة القرآنية:
أ - ظاهرة التكرار في القصة القرآنية.
ب - ظاهرة اختصاص قصص الأنبياء في القرآن بأنبياء منطقة الشرق
الأوسط.
ج - ظاهرة تأكيد قصص بعض الأنبياء كإبراهيم وموسى (عليهما السلام).
أ - تكرار القصة في القرآن الكريم:
من ظواهر القصة في القرآن الكريم هي ظاهرة تكرار القصة الواحدة في
مواضع مختلفة من القرآن، وقد أثيرت بعض المشاكل حول هذه الظاهرة حيث
يقال: إن هذا التكرار قد يشكل نقطة ضعف في القرآن الكريم، لان القصة بعد أن
تذكر في القرآن مرة واحدة تستنفد أغراضها الدينية والتربوية والتأريخية، وقد
أثيرت هذه المشكلة في زمن متقدم من البحث العلمي، لذا نجد الإشارة في
مفردات الراغب الأصفهاني، وفى مقدمة تفسير التبيان للشيخ الطوسي (2). والطوسي
وان كان يبدو أنه لم يعالج المشكلة بشكل رئيس، ولكنه يدل على الأقل أن
المشكلة قد طرحت على صعيد البحث القرآني.
ونحن هنا نذكر بعض الوجوه التي يمكن أن تكون تفسيرا لتكرار القصة

(1) الكهف: 65.
(2) التبيان، مقدمة المؤلف 1: 14.
366

الواحدة في القرآن الكريم:
الأول: ان التكرار انما يكون بسبب تعدد الغرض الديني الذي يترتب على
القصة الواحدة، وقد عرفنا في بحثنا السابق لأغراض القصة (1). أن أهداف القصة
متعددة، فقد تجئ القصة في موضع لأداء غرض معين وتأتي في موضع آخر لأداء
غرض آخر وهكذا.
الثاني: أن القرآن الكريم اتخذ من القصة أسلوبا لتأكيد بعض المفاهيم
الاسلامية لدى الأمة المسلمة، وذلك عن طريق ملاحظة الوقائع الخارجية التي
كانت تعيشها الأمة، وربطها بواقع القصة من حيث وحدة الهدف والمضمون.
وهذا الربط بين المفهوم الاسلامي في القصة والواقعة الخارجية المعاشة
للمسلمين قد يؤدي إلى فهم خاطئ للمفهوم المراد اعطاؤه للأمة، فيفهم انحصاره
في نطاق الواقعة التي عاشتها القصة وظروفها الخاصة، فتأتي القصة الواحدة في
القرآن الكريم مكررة من أجل تفادي هذا الحصر والتضييق في المفهوم من أجل
تأكيد شموله واتساعه لكل الوقائع والاحداث المتشابهة ليتخذ صفة القانون
الأخلاقي أو التأريخي الذي ينطبق على كل الوقائع والاحداث... إضافة إلى
فاعليته كمنبه للأمة على علاقة القضية الخارجية التي تواجهها - في عصر النزول
أو بعده - بالمفهوم الاسلامي لتستمد منه روحه ومنهجه.
ولعل هذا السبب هو ما يمكن أن نلاحظه في تكرار قصة موسى والفرق بين
روحها العامة في القصص المكي وروحها في القصص المدني، فإنها تؤكد في
القصص المكي منها العلاقة العامة بين موسى من جانب وفرعون وملئه من جانب
آخر، دون أن تذكر أوضاع بني إسرائيل تجاه موسى نفسه، إلا في موردين يذكر
فيهما انحراف بني إسرائيل عن العقيدة الإلهية بشكل عام، وهذا بخلاف الروح

(1) لزيادة الايضاح، راجع التصوير الفني في القرآن 128 - 134.
367

العامة لقصة موسى في السور المدنية فإنها تتحدث عن علاقة موسى مع بني إسرائيل
، وتتحدث عن هذه العلاقة وارتباطها بالمشاكل الاجتماعية والسياسية.
وهذا قد يدلنا على أن هذا التكرار للقصة في السور المكية انما كان يعني نزول
القصة لمعالجة روحية تتعلق بحوادث مختلفة كانت تواجه النبي والمسلمين، ومن
أهداف هذه المعالجة توسعة نطاق المفهوم العام الذي تعطيه قصة موسى في العلاقة
بين النبي والجبارين من قومه أو القوانين التي تحكم هذه العلاقة، وان هذه العلاقة
مع نهايتها لا تختلف فيها حادثة عن حادثة أو موقف عن موقف.
ولعل إلى هذا التفسير تشير الآيات الكريمة التي جاءت في سورة الفرقان:
(وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك
ورتلناه ترتيلا * ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا * الذين يحشرون
على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا * ولقد آتينا موسى الكتاب
وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا) (1).
فان من الملاحظ في هذه الآيات أن القرآن يذكر ان السبب في التدرج
والترتيل في القرآن الكريم هو التثبيت للنبي من ناحية، والاتيان بالحق والتفسير
الأفضل للوقائع والاحداث والامثال من ناحية أخرى، ثم يأتي بهذا التفسير
الأحسن من قصة موسى (عليه السلام).
الثالث: ان الدعوة الاسلامية مرت بمراحل متعددة في سيرها الطويل، وقد
كان القرآن الكريم يواكب هذه المراحل ويماشيها في عطائه وطبيعة أسلوبه، وهذا
كان يفرض أن تعرض القصة الواحدة بأساليب متفاوتة في الطول والقصر، نظرا
لطبيعة الدعوة وطريقة بيان المفاهيم والعبر فيها، كما نجد ذلك في قصص الأنبياء
حين تعرض في السورة القصيرة المكية، ثم يتطور العرض بعد ذلك إلى شكل أكثر

(1) الفرقان: 32 - 41.
368

تفصيلا في السور المكية المتأخرة أو السور المدنية.
الرابع: ان تكرار القصة لم يأت في القرآن الكريم بشكل يتطابق فيه نص القصة
مع نص آخر لها، وانما تختلف الموارد في بعض التفاصيل وطريقة العرض، وطريقة
عرض القصة القرآنية قد تستبطن مفهوما دينيا يختلف عن المفهوم الديني الاخر
الذي تستنبطه طريقة عرض أخرى، هذا الامر الذي نسميه بالسياق القرآني
وهذا يقتضي التكرار أيضا لتحقيق هذا الغرض السياقي الذي يختلف عن الغرض
السياقي الاخر لنفس القصة، وسوف تتضح معالم هذه النقاط بشكل أكثر عند
دراستنا التطبيقية التالية لقصة موسى في القرآن الكريم.
ب - اختصاص القصة بأنبياء الشرق الأوسط:
وأما الظاهرة الثانية فمن الملاحظ ان القرآن الكريم تحدث عن مجموعة من
الأنبياء يشتركون في خصوصية: أنهم يعيشون جميعا في منطقة الشرق الأوسط،
أي المنطقة التي كان يتفاعل معها العرب الذين نزل القرآن في محيطهم
ومجتمعهم.
وقد تفسر هذه الظاهرة لأول وهلة بأن النبوات لما كانت بالأصل في هذه
المنقطة ومن خلالها انتشر الهدى في جميع أنحاء العالم، حيث كانت البشرية تعيش
في البداية بهذه المنطقة ولا يوجد في المناطق الأخرى نبوات وأنبياء، كما قد يفهم
ذلك من خلال الاستعراض التأريخي للنبوات وتأريخ الانسان في التوراة،
وحينئذ لا تعني هذه الخصوصية ظاهرة تحتاج إلى تفسير، بل هي قضية فرضتها
الحقيقة التأريخية ويكفي في تفسيرها هذا الواقع التأريخي.
الرسالات الإلهية لا تختص بمنطقة الشرق الأوسط:
ولكن توجد شواهد في القرآن الكريم تنفي هذا التفسير لهذه الظاهرة،
فالقرآن يشير في بعض آياته إلى أن هناك مجموعة أخرى من الأنبياء لم يتحدث
369

عنهم، مع أن حياتهم لا بد وأنها كانت زاخرة بالاحداث شأنهم في ذلك شأن
الأنبياء الآخرين:
(إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان
وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم
الله موسى تكليما) (1).
كما أن هذا المضمون جاء أيضا في سورة غافر: (78). علما بأن سورة النساء
من السور المدنية المتأخرة، ومن هنا فلا مجال لاحتمال أن هذه الآية نزلت في مدة
زمنية لم يكن القرآن قد تعرض فيها إلى جميع قصص الأنبياء التي وردت في
القرآن الكريم فعلا.
كما أن هناك مجموعة من الآيات تدل على أن الأنبياء والرسل كانوا يبعثون إلى
كل قرية ومدينة لإقامة الحجة من الله على الناس، كما نفهم من الآية (165) من
سورة النساء، التي جاءت في سياق الآيتين السابقتين:
(رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله
عزيزا حكيما) (2).
إضافة إلى موارد أخرى لها هذه الدلالة:
(ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى
الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة
المكذبين) (3).

(1) النساء: 163 - 164.
(2) النساء: 165.
(3) النحل: 36.
370

(وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون...) (1).
(ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) (2).
(إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وان من أمة إلا خلا فيها نذير) (3).
وجاء التعبير في بعض الآيات عن ذلك بوجود الشهيد في كل أمة (4).
تفسير الاختصاص بالمنطقة المحدودة:
ومن هنا فلابد من تفسير هذه الظاهرة بتفسير آخر، ويمكن أن يكون هذا التفسير هو
أن القرآن الكريم انما خص هؤلاء الأنبياء بالذكر باعتبار أن الغرض الأساس من
القصة - كما ذكرنا - هو انتزاع العبرة واستنباط القوانين والسنن التأريخية منها، ولم
يكن الغرض من القصة السرد التأريخي لحياة الأنبياء أو كتابة تأريخ الرسالات،
ولذلك يتحدث القرآن عن الأمور العامة المشتركة بين هؤلاء الأنبياء عدا بعض
الموارد التي يكون هناك غرض خاص في طرح بعض القضايا فيها.
ولما كان تأثير القصة في تحقيق هذه الأغراض يرتبط بمدى ايمان الجماعة
بواقعيتها، وادراكهم لحقائقها، ومدى انطباق ظروفها على ظروف الجماعة نفسها،
لذا تكون القصة المنتزعة من تأريخ الأمة نفسها، ومن واقعها وظروفها وحياتها،
أكثر تأكيدا وانطباقا على السنة التأريخية.
وبهذا تكون هذه القصص أكثر انسجاما مع هذا الهدف القرآني، بلحاظ أن
القاعدة التي يريد أن يحقق القرآن الكريم التغيير فيها في المرحلة الأولى هي

(1) التوبة: 115.
(2) يونس: 47.
(3) فاطر: 24.
(4) النساء: 41، النحل: 84، القصص: 75.
371

الشعوب التي تسكن هذه المنطقة، وتتفاعل مع هذا التأريخ، وهذا لا يعني أن
القرآن تختص هدايته بهذه الشعوب، بل إن أحد أغراض القرآن هو ايجاد التغيير
في هذه الشعوب كقاعدة ينطلق منها التغيير ويستند إليها في مسيرته إلى بقية
الشعوب كما حصل ذلك فعلا.
صحيح أنه قد تكون القصة المنتزعة من تأريخ النبوات التي كانت في الهند أو
الصين - على فرض وجودها في تلك المناطق وهو فرض منطقي ومقبول جدا -
مؤثرة في الشعب الهندي أو الصيني، إلا أن القرآن الكريم كان مهتما بشكل
خاص وفي مرحلة نزوله بتغيير القاعدة التي تتمثل بالشعب العربي والشعوب
المتفاعلة معه فعلا في ذلك الوقت، وضرب الأمثال وسرد القصص عن هذه الأمم،
مع أنها لم تكن موجودة في المحيط الذي نزل فيه القرآن، يبعد القصة بأكملها عن
الواقعية التي كان يحرص القرآن الكريم على تأكيدها في قصصه، ولم يكن يكتفي
منها انها مجرد أمثال وتصورات، بل كان يؤكد صدقها.
وبلحاظ أن التغيير العام للانسان الذي كان يستهدفه القرآن أيضا، أريد له أن
يطلق من تلك القاعدة، وهذه القصص هي التي يمكن أن تساهم في تحقيقه. وتبقى
النتائج العامة المشتركة بين الأنبياء ذات تأثير عام بالنسبة إلى مختلف الشعوب،
فقصة النبي الواحد لها تأثير خاص يرتبط بالوسط الذي تواجد فيه ذلك النبي،
باعتبارها حالة التجسيد المعاش في ذلك الوسط، وذات التأثير الشعوري
والوجداني بالنسبة إلى ذلك الوسط، وفي الوقت نفسه يكون للقصة تأثير عام
ضمن المفاهيم العامة والسنن التأريخية التي توحي بها القصة، والعبر التي يمكن أن
تستلخص منها، وهذا ما يمكن أن تستفيد منه كل الشعوب.
وبذلك يتحقق للقرآن الكريم بعده العام الشامل ويبقى حيا ومؤثرا في هذا
الوسط وغيره من الأوساط الانسانية.
372

ولكن يكون للبعد الأول المتمثل في التأثير الخاص أثره في تحقيق الهدف
التغييري في خلق القاعدة التي تنطلق منها الرسالة.
نعم من الصحيح أن نقول أيضا: إن أنبياء مثل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى
يمثلون الأصول العامة للنبوات في كل العالم، وكان خاتمهم النبي محمد (صلى الله عليه وآله) يمثل
امتدادا لتلك النبوات، ولكن نجد أن القرآن لم يتحدث عن هذه الأصول
وتفرعاتها فحسب، بل تحدث عن أنبياء مثل صالح وشعيب وهود ويونس
وإدريس وغيرهم ممن يمثلون نبوات ليست بهذا القدر من الأهمية على الظاهر.
والله هو العالم بحقائق الأمور.
ج - ظاهرة تأكيد دور إبراهيم وموسى (عليهما السلام):
وأما الظاهرة الثالثة: فمن الملاحظ ان القرآن الكريم أكد دور بعض الأنبياء في
ذكر تفاصيل حياتهم وظروفهم أكثر من دور بعضهم الاخر وبالخصوص النبي
إبراهيم وموسى (عليهما السلام)، مع أن الخصائص العامة التي يراد منها بالأصل استنباط
العبرة والموعظة واستخلاص القانون والسنة التأريخية متشابهة، ولذا تأتي
الإشارة إلى قصص مجموعة من الأنبياء في كثير من الموارد في سياق واحد، فهل
يعني هذا التأكيد أهمية شخصية هذا النبي وفضله بالمقارنة مع بقية الأنبياء فقط؟
أو يمكن أن يكون وراء ذلك - إضافة إلى هذه الأهمية - مقاصد وأهداف أخرى
اقتضت هذا اللون من التأكيد؟
قد يكون في الحقيقة أن بعض هؤلاء الأنبياء أفضل من بعضهم الاخر كما أنه قد
يكون هذا (البعض) هو إبراهيم وموسى، ولكن لا يعني ذلك أن يؤكد القرآن دور
هذين النبيين مثلا، أو غيرهما كعيسى الذي جاء الحديث عنه بنسبة أقل لمجرد
فضلهم، لان القرآن بالأصل ليس بصدد تقييم عمل هؤلاء الأنبياء والحديث عن
التفاضل بينهم، وانما الاهداف الأصلية للقصة التي أشرنا إليها وذكرها القرآن
373

هي: العبرة والموعظة والتثبيت وإقامة الحجة والبرهان على صدق نبوة
محمد (صلى الله عليه وآله) ومضمون رسالته:
(وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق
وموعظة وذكرى للمؤمنين) (1).
(لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق
الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) (2).
(رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله
عزيزا حكيما) (3).
ولذلك يمكن أن نقول بأن القرآن انما كان يؤكد دور هؤلاء الأنبياء في حديثه
عنهم لأنه كان يواجه حقيقة هي: أن لهؤلاء الأنبياء اتباعا وأقواما يرتبطون بهم
فعلا في المجتمع الذي كان يتفاعل القرآن معه عند نزوله، وهذا الامر كان يفرض
- من أجل ايجاد القاعدة التغييرية - أن يتحدث عنهم القرآن باسهاب.
أهمية تأكيد دور إبراهيم (عليه السلام):
فالنبي إبراهيم (عليه السلام) كان يمثل لدى القاعدة (المشركين، واليهود، والنصارى)
أبا لجميع الأنبياء ويحظى باحترام الجميع.
وتأكيد ارتباط الاسلام وشعائره به له أهمية خاصة في اعطاء الرسالة
الاسلامية جذرا تأريخيا ممتدا إلى ما هو أبعد من الديانتين اليهودية والنصرانية،
ويعطي فكرة التوحيد التي طرحها القرآن على المشركين أصلا وانتماء يعيشه
هؤلاء المشركون في تأريخهم:

(1) هود: 120.
(2) يوسف: 111.
(3) النساء: 165.
374

(وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة
أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم
وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم
فنعم المولى ونعم النصير) (1).
ويتجلي هذا الربط التأريخي بشكل أوضح بحيث يصبح إبراهيم (عليه السلام) هو المبشر
بالنبي العربي الأمي، وتكون بعثة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) استجابة لدعاء إبراهيم (عليه السلام)
وذلك في مثل قوله تعالى:
(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا انك أنت السميع
العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا
إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم
الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) (2).
إضافة إلى أنه يعطي الرسالة الاسلامية شيئا من الاستقلال عن اليهودية
والنصرانية، ومن ثم عدم الشعور بالتبعية لعلماء اليهود والنصارى:
(ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين
* إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي
المؤمنين) (3).
(وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين) (4).

(1) الحج: 78.
(2) البقرة: 127 - 129.
(3) آل عمران: 67 - 68.
(4) البقرة: 135.
375

ومن هنا يأتي تأكيد قصة إبراهيم في بناء الكعبة التي جاءت في عدة موارد من
القرآن الكريم، وندائه بالحج، وذلك للموقع الخاص الذي كانت تحتله الكعبة بين
العرب عامة، وللقرار الذي كان القرآن قد اتخذه بجعل الكعبة قبلة للمسلمين،
تأكيدا لاستقلالية الرسالة في كل معالمها لان صرف الانظار عن الأرض المقدسة
وبيت المقدس الذي كان يحظى بالقدسية الخاصة - وما زال - بسبب نشوء
الديانات المختلفة فيه، ووجود إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل كلهم في هذه الأرض
يحتاج إلى اعطاء هذه الأهمية للبيت والكعبة المشرفة وهذا الانتساب الأصيل إلى
إبراهيم (عليه السلام).
أهمية تأكيد دور موسى (عليه السلام):
وأما النبي موسى (عليه السلام) فان موقعه من الديانة اليهودية والشعب الإسرائيلي
والانجاز السياسي والاجتماعي الذي حققه لهم، وكذلك ما تحقق من خلال التوراة
من تشريع وحكمة وقانون، إضافة إلى معاناته الطويلة التي تشبه معاناة رسول
الله (صلى الله عليه وآله) سواء تجاه الطغاة الفراعنة أم المنافقين من الإسرائيليين، أم في توطيد
دعائم الحكم الإلهي في الأرض، وموقعه من الديانتين اليهودية والنصرانية، لان
النصرانية أيضا كانت تعترف بالتوراة القائمة (العهد القديم) كل هذه الأمور كانت
تفرض هذا اللون من التأكيد.
ونجد ملامح الظروف الموضوعية القائمة التي كانت تواجهها الرسالة والقرآن
الكريم في موطن نزوله، والمجتمع الذي يعمل على تغييره موجودة في كل هذه
الأمور المرتبطة بهذين النبيين العظيمين، لان القرآن كان يعايش ويتفاعل
باستمرار مع أهل الكتاب وعلمائهم وأقوامهم، وكان بحاجة إلى هذه التفاصيل،
والحديث - أحيانا - حتى عن الحياة الشخصية لموسى (عليه السلام)، لما في ذلك من التأثير
في أوساطهم.
376

خصوصا وان العرب المشركين كانوا ينظرون إلى علماء اليهود - الذين
يتصلون بهم أحيانا - أنهم أهل الذكر والكتاب والوحي والمعرفة كما أشار القرآن
الكريم إلى ذلك، وبذلك يكون القرآن الكريم أكثر تأثيرا في هذه الأوساط أيضا
عندما يتحدث عن النبي موسى (عليه السلام).
كما أن القرآن كان يسعى جادا لاعطاء فكرة أن هذه الرسالات انما تمثل
امتدادا واحدا في الوحي الإلهي، وانتسابا واحدا إلى السماء في الوقت الذي كان
يؤكد استقلالية الرسالة الاسلامية، بمعنى أنها ليست تابعة ومتشعبة من التحرك
الرسالي أو السياسي للرسالات الأخرى، كما انها ليست عملا تغييرا في اطار تلك
الرسالات، بل هي من جانب مصدقة لها، ولكنها من جانب آخر وفي الوقت
نفسه مهيمنة عليها:
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة
ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات
إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) (1).
ويتضح ذلك بشكل أفضل بملاحظة سياق الآيات السابقة عليها والتي يشير
فيها القرآن الكريم إلى نزول التوراة والإنجيل والنسبة بينهما، والتي تختلف عن
نسبة القرآن إليهما.
الحديث عن عيسى (عليه السلام):
ومن الملاحظ أيضا - عندما ندرس ظاهرة القصة في ضوء الهدف التغييري -
أن القرآن الكريم تعرض لقصص بعض الأنبياء، أو لتفاصيل فيها على الأقل، من
أجل أن يزيل ما علق في أذهان الجماعة التي نزل فيها القرآن من أفكار

(1) المائدة: 48.
377

وتصورات منحرفة عن الأنبياء تنافي عصمتهم أو علاقتهم بالله أو طبيعة
شخصيتهم، كما يتضح ذلك بشكل خاص في الحديث عن عيسى (عليه السلام) الذي تحدث
القرآن الكريم عن شخصيته وظروفها أكثر مما تحدث عن أعماله ونشاطاته:
(إن مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك
فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع
أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على
الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز
الحكيم) (1).
وكذلك ما جاء من الحديث في القرآن عن حياة مريم وولادة عيسى في سورة
آل عمران أو سورة مريم، أو الاهتمام بمناقشة فكرة ألوهية عيسى التي جاءت في
عدة موارد، منها ما جاء في سورة المائدة.

(1) آل عمران: 59 - 62.
378

دراسة قصة موسى (عليه السلام):
بعد دراسة الظواهر السابقة للقصة يحسن بنا أن نتناول قصص الأنبياء
موضوعا من موضوعات التفسير الموضوعي.
ومن هذا المنطلق نجد أمامنا أبعادا متعددة وكثيرة لدراسة القصة في القرآن
الكريم، من أهمها البعد الأدبي والتصويري وكذلك البعد الذي يرتبط ببيان
أغراض القصة في هذا الموضع أو ذاك، إضافة إلى الجانب التأريخي أو السنن
والمفاهيم العامة التي يمكن انتزاعها منها.
ولكن سوف نتناول هنا مثالا واحدا للقصة وهو (قصة موسى) (عليه السلام)، حيث
تعتبر قصة موسى (عليه السلام) من أكثر قصص الأنبياء ورودا في القرآن الكريم
وتفصيلا.
ونعني هنا بالموارد القرآنية لهذه القصة: الموارد التي تحدث القرآن الكريم
فيها عن علاقة موسى مع فرعون أو علاقته مع قومه أو لحالة اجتماعية قارنت
عصره.
وسوف ندرس قصة موسى في القرآن الكريم لنأخذها نموذجا لدراسة تفصيلية
يمكن أن تستوعب قصص جميع الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم، كما اننا
سوف ندرسها من خلال بعض الابعاد المهمة ذات العلاقة بالمضمون، وبالقدر
الذي يتناسب مع هذه الدراسة من حيث الاختصار والمنهج.
1 - دراسة القصة بحسب مواضعها في القرآن الكريم:
ونأخذ النقاط التالية بعين الاعتبار في دراستنا للقصة هذه:
أ - التنبيه إلى أسرار تكرار القصة الواحدة في القرآن.
ب - التنبيه إلى الغرض الذي سيقت له في كل مقام.
ج - التنبيه إلى أسرار تغاير الأسلوب في القصة بحسب المواضع.
379

2 - قصة موسى بحسب تسلسلها التأريخي.
3 - دراسة عامة للقصة من خلال المراحل التي مر بها موسى والموضوعات
العامة التي تناولها.
ونكتفي هنا بالتنبيه بشكل اجمالي إلى هذه النقاط، لنترك معالجة
جميع التفصيلات وكذلك الابعاد الأخرى إلى دراسة مستوعبة في ظرف
آخر.
وعلى هذا الأساس سوف نتناول القصة من زاوية نحو تسعة عشر موضعا من
القرآن الكريم ونترك المواضع الأخرى التي جاءت فيها القصة بشكل إشارات أو
تلميحات.
1 - قصة موسى (عليه السلام) بحسب مواضعها من القرآن الكريم:
الموضع الأول:
الآيات التي جاءت في سورة البقرة والتي تبدأ بقوله تعالى:
(وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم
ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم
وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون * وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل
من بعده وأنتم ظالمون) (1) إلى أن يختم بقوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد
ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وان من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وان منها لما
يشقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما
تعملون) (2).

(1) البقرة: 49 - 51.
(2) البقرة: 74.
380

والملاحظ في هذا المقطع:
اولا: جاء في سياق قوله تعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت
عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) (1).
ثانيا: انه يتناول احداثا معينة أنعم الله بها على بني إسرائيل مرة بعد الأخرى،
مع الإشارة إلى ما كان يعقب هذه النعم من انحراف في الايمان بالله تعالى أو في
الموقف العبادي الذي تفرضه طبيعة هذا الايمان.
ثالثا: ان القرآن الكريم بعد أن يختم هذا المقطع يأتي ليعالج المواقف الفعلية
العدائية لبني إسرائيل من الدعوة ويربط هذه المواقف بالمواقف السابقة لهم بقوله
تعالى:
(أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من
بعدما عقلوه وهم يعلمون... وأني فضلتكم على العالمين) (2).
وعلى أساس هذه الملاحظة يمكننا أن نقول: إن هذا المقطع جاء يستهدف
غرضا مزدوجا وهو تذكير بني إسرائيل بنعم الله المتعددة عليهم، وذلك موعظة
وعبرة لهم تجاه موقفهم الفعلي من ناحية، ومن ناحية أخرى كشف الخصائص
الاجتماعية والنفسية العامة التي يتصف بها الشعب الإسرائيلي للمسلمين، لئلا يقع
المسلمون في حالة الشك والريب في هذه المواقف، فيتصور بعضهم أنها تنجم عن
رؤية موضوعية تجاه الرسالة، الامر الذي جعل اليهود يتوقفون عن الايمان بها،
خصوصا وأن اليهود هم أهل الكتاب في نظر عامة المسلمين فأراد القرآن هنا أن
يبين أن هذا الموقف انما هو موقف نفسي وذاتي ومتأثر بهذه الخصائص الروحية
والاجتماعية.

(1) البقرة: 40.
(2) البقرة: 75 - 122.
381

وهذا الغرض فرض أسلوبا معينا على استعراض الاحداث إذ اقتصر المقطع
على ذكر الوقائع التي تلتقي مع هذا الغرض وتتناسب مع هذا الهدف، دون أن
يعرض التفصيلات الأخرى للاحداث التي وقعت لموسى (عليه السلام) مع فرعون أو
الإسرائيليين.
الموضع الثاني:
الآيات التي جاءت في سورة النساء، والتي تبدأ بقوله تعالى:
(يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من
ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما
جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا) إلى قوله تعالى:
(وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم
عذابا أليما) (1).
والملاحظ في هذا المقطع:
أولا: إنه جاء ضمن سياق عرض عام لمواقف فئات ثلاث من أعداء الدعوة
الاسلامية تجاهها وهو موقف المنافقين وموقف اليهود من أهل الكتاب وموقف
النصارى من أهل الكتاب، وعرض الموقف الأول يبدأ بقوله تعالى: (بشر
المنافقين بأن لهم عذابا أليما) (2) وعرض الموقف الثاني يبدأ بقوله تعالى:
(ان الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون ان يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن
ببعض ونكفر ببعض ويريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلا) (3).
وعرض الموقف الثالث يبدأ بقوله تعالى:

(1) النساء: 153 - 161.
(2) النساء: 138.
(3) النساء: 150.
382

(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق انما المسيح عيسى
ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا
ثلاثة...) (1).
ثانيا: إن المقطع يتناول بعض الاحداث ذات الدلالة على نبوة موسى،
والمواثيق الغليظة المأخوذة على اليهود بصدد الامتثال والطاعة، وموقف اليهود
من ذلك والمخالفات التي ارتكبوها، سواء فيما يتعلق بالجانب العقيدي من الفكرة
أو بالجانب العملي التطبيقي منها.
وعلى أساس هاتين الملاحظتين يمكن أن نستنتج:
أن هذا المقطع من القصة جاء ليوضح أن موقف اليهود من الدعوة بطلبهم
المزيد من الآيات والبينات ليس نابعا من الشك بالرسالة، وانما هو موقف شكلي
ذرائعي يستبطن الجحود والطغيان، ولذا نجد المقطع يكتفي بعرض هذا الطلب
العجيب الذي تقدم به اليهود إلى موسى، ويضيف إلى ذلك المواثيق التي اخذت
منهم في الطاعة ونكولهم عنها بمخالفاتهم العديدة، الامر الذي يكشف عن
اصرارهم على الجحود والطغيان وأنهم يتذرعون بمثل هذه المطالب.
وقد فرض السياق العام للسورة الكريمة تكرار القصة على أساس ايضاح
ومعالجة موقف اليهود من الدعوة إلى جانب ايضاح ومعالجة موقف المنافقين
والنصارى من أهل الكتاب، لان هذه المواقف هي المواقف الرئيسة التي كانت
تواجهها الدعوة الاسلامية حينذاك.
الموضع الثالث:
الآيات التي جاءت في سورة المائدة وهي قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه
يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت

(1) النساء: 171.
383

أحدا من العالمين * يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على
أدباركم فتنقلبوا خاسرين) إلى قوله تعالى: (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة
يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) (1).
ويلاحظ في هذا المقطع:
اولا: انه جاء في سياق دعوة عامة لأهل الكتاب إلى الايمان بالرسول الجديد،
مع إيضاح حقيقة رسالته، ومناقشة ما يقوله اليهود والنصارى وإقامة الحجة
عليهم بذلك، إذ يختم هذا السياق بقوله تعالى:
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما
جاءنا من بشير ولا نذير، فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير) (2).
ثانيا: إن المقطع يكتفي بأن يذكر دعوة موسى لقومه إلى دخول الأرض
المقدسة حيث كان دخولها منتهى آمالهم، ولكنهم يأبون ذلك فيكون مصيرهم
التيه أربعين سنة.
وعلى أساس هاتين الملاحظتين يمكن أن نستنتج: أن القرآن الكريم يبدو
وكأنه يريد أن يذكر أهل الكتاب ويفتح الطريق أمامهم ليحققوا أهدافهم
الصحيحة من وراء الدين والشريعة بدخولهم دعوة الاسلام، ولا يكون موقفهم
كموقف قوم موسى حين دعاهم إلى دخول الأرض المقدسة، مع أنها أمنيتهم
وهدفهم، فتفوتهم الفرصة السانحة ويصيبهم التيه الفكري والعقائدي والاجتماعي
في عصر نزول الرسالة، كما أصابهم التيه السياسي والاجتماعي من قبل.
ومن هنا نعرف السر الذي كان وراء اكتفاء القرآن الكريم بذكر هذا الموقف
الخاص لبني إسرائيل دون غيره لأنه هو الذي يحقق هذا الغرض، خصوصا إذا

(1) المائدة: 20 - 26.
(2) المائدة: 19.
384

عرفنا أن هذه القصة مما يؤمن به اليهود والنصارى.
كما أن هذا الجانب من القصة لم يذكر في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع.
الموضع الرابع:
الآيات التي جاءت في سورة الأعراف والتي تبدأ بقوله تعالى:
(ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان
عاقبة المفسدين) والتي تختم بقوله تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا
أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) (1).
ونلاحظ في هذا الموضع من القصة عدة أمور:
الأول: أن القصة جاءت في عرض قصصي مشترك مع قصة نوح، وهود،
ولوط، وشعيب، تكاد تتحدد فيه صيغة الدعوة والتكذيب والعقاب الذي ينزل
بالمكذبين.
الثاني: أن هذا العرض القصصي العام يأتي في سياق بيان القرآن الكريم لحقيقة
حشر المخلوقات وصورته وأنهم يحشرون أمما بكاملهم من الجن والإنس، وعلى
صعيد واحد يتلاعبون بينهم، أو يتحابون: (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم
من الجن والإنس في النار، كلما دخلت أمة لعنت أختها، حتى إذا اداركوا فيها جميعا
قالت أخراهم لأولاهم: ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار، قال: لكل ضعف
ولكن لا تعلمون) (2).
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة
هم فيها خالدون * ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق،

(1) الأعراف: 103 - 171.
(2) الأعراف: 38.
385

ونودوا ان تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) (1). ثم يعرض القرآن الكريم
مشاهد متعددة من هذا الحشر وبعض العلاقات التي تسود الناس فيه، وانه
تصديق لدعوة الرسل وما بشروا وأنذروا منه.
الثالث: أن القصة على ما جاء فيها من التفصيل واستعراض للحوادث تبدأ في
سرد الوقائع من حين بدء البعثة والدعوة، كما انها تذكر الوقائع في حدود المجابهة
- التي كان يواجهها الرسول - الخارجية مع فرعون وملئه، والداخلية مع بني إسرائيل
وفي اطار بيان ما ينزل بالمكذبين والمنحرفين من عذاب وعقاب
واضرار.
الرابع: أن القصة تتناول في معرض حديثها عن الحوادث جوانب من المفاهيم
الاسلامية العامة والسنن التأريخية كتأكيد أهمية (الصبر)، و (وراثة المتقين
للأرض)، وأن الرحمة لا تنال إلا الذين اتقوا وآتوا الزكاة وآمنوا بآيات الله
واتبعوا الرسول الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم.
وعلى أساس هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج:
أن القصة جاءت منسجمة مع السياق العام للعرض القصصي ومحققة لأغراضه
على ما أشرنا إليه في حديثنا عن أغراض القصة، ومع ذلك فإنه لا تغفل عن
الفرصة المناسبة لتأكيد المفاهيم الاسلامية العامة منسجمة مع الهدف القرآني العام
في التربية.
كما أنها تؤكد بصورة خاصة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) وكأنها سيقت بتفاصيلها لتحقيق
ربط هذه الدعوات والرسالات بهذه النهاية الخاتمة لها، وان هذه المفاهيم والسنن
والأهداف التي عاشتها هذه الرسالات سوف تتحقق في نهاية المطاف في اتباع
رسالة الاسلام: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم

(1) الأعراف: 42 - 43.
386

في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم
عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم...) (1).
على أن هناك شيئا تجدر الإشارة إليه وهو أن القرآن الكريم يهتم عادة بتفصيل
قصص الرسل الذين هم من اولي العزم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ذلك
لأغراض متعددة (2) يمكن أن يكون من جملتها:
أ - ان هؤلاء الأنبياء يمثلون مراحل مختلفة لرسالة السماء، وأنهم مع صلة القربى
والوحدة في دعوتهم نجدهم يشكلون مواضع فاصلة في تطور الدعوة الدينية
النازلة من السماء.
ب - ان لبعض هؤلاء الأنبياء اتباعا وأمما عاشت حتى نزول رسالة الاسلام
مما يفرض الاهتمام بمعالجة أوضاعهم وعلاقتهم بدعوة الاسلام الجديدة.
ج - ان أحداثا مفصلة ومختلفة عاشها هؤلاء مع أممهم وأقوامهم تمثل جوانب
عديدة مما تعيشه كل دعوة دينية عامة واسعة النطاق تستهدف تغييرا جذريا
لواقع ذلك المجتمع.
الموضع الخامس:
الآيات التي جاءت في سورة يونس والتي تبدأ بقوله تعالى: (ثم بعثنا من بعدهم
موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين) (3) والتي
تختم بقوله تعالى: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما
اختلفوا حتى جاءهم العلم ان ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (4).

(1) الأعراف: 157.
(2) تحدثنا عن هذا الموضوع بشئ من التفصيل في بداية هذا الفصل.
(3) يونس: 75.
(4) يونس: 93.
387

وتلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصة الأمور التالية:
اولا: إن المقطع جاء بعد مقارنة عرضها القرآن الكريم بين مصير اتباع الحق
والمؤمنين بالله وبالرسل والمصدقين بهم، ومصير اتباع الباطل والمفترين على الله
والمكذبين بالرسل: (الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي
الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم... قل ان الذين يفترون على الله
الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما
كانوا يكفرون) (1).
ثانيا: إن هذا المقطع من القصة جاء بعد إشارة قصيرة إلى نبأ نوح وقومه،
تتبعها لمحة عامة عن الرسل من بعد نوح وموقف قومهم منهم.
ثالثا: إن المقطع لا يتناول من التفاصيل الا القدر الذي يرتبط بموقف فرعون
وملئه من موسى والمصير الذي لاقاه هؤلاء، نتيجة لاعراضهم عن الدعوة
وتكذيبهم بها كما أنه يشير إلى نهاية بني إسرائيل الطيبة بعد معاناتهم الطويلة في
المجتمع الفرعوني.
وبعد هذه الملاحظة يمكن ان نستنتج:
أن القصة انما جاءت هنا من أجل تصديق (الحقيقة) التي ذكرها القرآن الكريم
في مقارنته بين الذين آمنوا والذين يفترون على الله الكذب.
كما أن السياق العام هو الذي فرض مجئ القصة بشئ من التفصيل لان قصة
موسى تمثل بتفاصيلها الانقسام بين جماعتين، إحداهما مؤمنة به، والاخرى كافرة
بدعوته، حيث يقع الصراع بينهما وينتهي بالغلبة للمؤمنين على الكافرين، بخلاف
قصص الأنبياء الآخرين فإنها تعرض في القرآن الكريم على أساس أن النبي لم
يؤمن به إلا النزر اليسير من الناس، ولذلك ينزل العذاب بقومه بشكل عام، فهذه

(1) يونس: 63 - 70.
388

القصص تمثل جانبا واحدا من المقارنة وهو جانب المصير الذي يواجهه المكذبون
والمنحرفون، بخلاف قصة موسى فإنها تمثل الجانبين معا: جانب المؤمنين وجانب
المكذبين، ومن هنا يمكن أن نفسر مجئ قصة نوح في هذا الموضع مختصرة مع
الإشارة العامة لموقف بقية الأنبياء.
إضافة إلى أن نوحا يمثل بداية الأنبياء الذي لاقى قومهم العذاب في قصص
القرآن وموسى يمثل نهايتهم وختامهم.
ويؤكد هذا التفسير لسياق القصة ما أشرنا إليه في الملاحظة الثالثة من أن
التفاصيل التي تناولها المقطع انحصرت في بيان التزام بني إسرائيل الحق، دون
أن تتعرض إلى الجوانب الأخرى لموقفهم، والتي تمثل الانحراف والعصيان
لأوامر موسى، وهذا الالتزام يكاد يشعرنا ان القصة سيقت لابراز صدق هذه
المقارنة في التأريخ الانساني والتي كانت تتحكم في المواجهة التي يلاقيها
الأنبياء.
ومن الممكن أن نلاحظ في تكرار القصة بهذا المقطع ملامح السبب الرابع من
أسباب التكرار التي ذكرناها سابقا، حيث إن طريقة عرض القصة في هذا المقطع
حققت غرضا معينا ما كان يحصل لو عرضت القصة بجميع تفاصيلها كما أشرنا.
الموضع السادس:
الآيات التي جاءت في سورة هود وهي قوله تعالى:
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون
وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود *
واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) (1).
ويلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصة ما يلي:

(1) هود: 96 - 99.
389

اولا: إنه جاء في عرض قصصي عام يبدأ بنوح (عليه السلام) ويختم بهذه اللمحة عن
قصة موسى (عليه السلام).
ثانيا: إن هذا العرض العام جاء في سياق الحديث عن مكذبي الرسول (صلى الله عليه وآله)
وما يجب أن يكون الموقف العام منهم والمصير الذي ينتظرهم في الآخرة، كما أنه
يختم العرض بما يشبه بيان الغاية منه، وهو قوله تعالى: (ذلك من أنباء القرى
نقصه عليك منها قائم وحصيد * وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم
آلهتهم التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيت *
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) (1).
ثالثا: إن المقطع جاء لمحة عابرة عن القصة ونهايتها على خلاف قصص الأنبياء
الآخرين التي جاءت في شئ من التفصيل.
ومن هنا يمكن أن نستنتج أن الاتيان بهذا المقطع من القصة كان من أجل إكمال
الصورة التي بدأها بنوح وأراد القرآن الكريم ان يختمها بموسى، ليظهر بذلك
الارتباط الوثيق بين أسلوب الأنبياء في الدعوة إلى الله وجهودهم في سبيل هذه
الغاية والمواجهة التي كانوا يلاقونها من أممهم وأقوامهم، والنتيجة الحاسمة التي
كان ينتهي إليها مصير هذه الأمم من العذاب الشديد والعقاب القاسي.
الموضع السابع:
الآيات التي جاءت في سورة إبراهيم وهي قوله تعالى:
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ان أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام
الله ان في ذلك لايات لكل صبار شكور * وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم
إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم
وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان

(1) هود: 100 - 102.
390

عذابي لشديد * وقال موسى ان تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فان الله لغني
حميد) (1).
ويلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصة ما يلي:
أولا: إن القرآن الكريم قد مهد لهذه الإشارة بقوله: (وما أرسلنا من رسول إلا
بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم) (2).
ثانيا: إن القرآن يتحدث بعد هذا المقطع من القصة عن المفاهيم العامة التي كان
يطرحها الرسل، والأساليب التي كانوا يسلكونها لتحقيق أغراضهم الرسالية.
ثالثا: إن الحديث عن القصة في المقطع جاء بشكل مختصر وقد أكد المشكلة
العامة التي كان يعانيها الإسرائيليون، والنعمة العامة التي تفضل بها عليهم
والدعوة لشكر النعمة وان الله لا يضره كفرانها.
ومن هنا يمكن أن نستنتج:
أن المقطع قصد به التمثيل على صدق الحقيقة التي أشار إليها القرآن الكريم من
مجئ كل رسول بلسان قومه، حيث قد يراد بلسان القوم اللغة التي يتكلم بها
القوم - كما لعله هو الظاهر - ولكن قد يراد من اللسان - كما يشير إليه السياق - هو
الجوانب والمشاكل الاجتماعية والسياسية والانسانية المثيرة التي تستقطب اهتمام
الأمة ونظرتها ومشاعرها، فيكون تأكيدها أسلوبا ولسانا لالفات نظر الأمة إلى
الدعوة وقيمتها الروحية والاجتماعية، ولذا جاءت قصة موسى مثالا لهذه الحقيقة
لأنه دعا لانقاذ قومه من مشكلة اجتماعية عامة كانوا يعانونها.
ولعل ما يؤكد هذا القصد هو أن العرض جاء بلسان الخطاب إلى القوم لا
بلسان الحديث عن القضايا والاحداث.

(1) إبراهيم: 5 - 8.
(2) إبراهيم: 4.
391

ولما كانت الغاية الحقيقية من ارسال الرسل هي هداية الناس وارشادهم،
لذلك نجد القرآن الكريم، بعد هذه الإشارة إلى قصة موسى وتصديق الحقيقة يعود
فيتحدث عن المفاهيم العامة التي كان يطرحها الرسل، على أساس انها الشئ
المطلوب من الناس التصديق به، دون أن يكون للأسلوب المعين المتبع في تحقيق
هذا الهدف أهمية ذاتية خاصة.
الموضع الثامن:
الآيات التي جاءت في سورة الإسراء وهي قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى
تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون اني لأظنك يا موسى
مسحورا * قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السماوات والأرض بصائر واني
لأظنك يا فرعون مثبورا * فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا *
وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم
لفيفا) (1).
ويلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصة ما يلي:
اولا: أنه جاء في سياق المطاليب التعجيزية المتعددة التي كان يقترحها
المشركون والكفار على الرسول (صلى الله عليه وآله) وعدم اكتفائهم بالقرآن الكريم دليلا
ومعجزة على النبوة: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر
الناس الا كفورا * وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك
جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا
كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا) (2).
ثانيا: إن القرآن الكريم يعقب على القصة بالحديث عن القرآن بقوله:

(1) الاسراء: 101 - 104.
(2) الاسراء: 89 - 92.
392

(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك الا مبشرا ونذيرا) (1).
ثالثا: إن القرآن لم يشر في هذا المقطع من القصة الا إلى الآيات التسع التي جاء
بها موسى، ورفض فرعون لدعوته ومصيره نتيجة لهذا الرفض.
ويمكن أن نستنتج من هذه الملاحظة:
أن القصة انما جاءت هنا شاهدا على أن هذه المطالب المتعددة التي صدرت من
الكفار لم تكن بسبب حاجة نفسية يحسها هؤلاء الكافرون تجاه هذه المطاليب
وانما هو أسلوب عام يتذرع به الكفار للتمادي في الضلال والاصرار عليه،
والشاهد على ذلك قصة موسى (عليه السلام)، حيث جاء موسى بتسع آيات ومع ذلك فقد
كان موقف فرعون منها موقف المكذبين، بالرغم من أن هذه الآيات التسع
جاءت في أزمنة متعددة.
فالسياق هو الذي فرض الاتيان بالقصة على أساس الاستشهاد بها وهذا
شئ تفرضه طبيعة الواقع التأريخي لرسالة موسى الذي أرسله الله سبحانه
بالآيات التسع.
كما أن التكرار كان بسبب تأكيد مفهومين:
الأول: أن طلبات الكفار وتمنياتهم ليست نتيجة لواقع نفسي يدعوهم
إلى الشك بالرسالة ويفرض عليهم التأكد من صحتها، ولا يكون عدم اتيان
الرسول بمطاليبهم حينئذ بسبب فقدان صلته بالسماء، وانما بسبب كفاية
القرآن الكريم لإقامة الحجة عليهم، كما دلت الآية الكريمة بعد القصة على
ذلك.
الثاني: ان مصير هؤلاء المكذبين كمصير فرعون من الهلاك والهزيمة، وان
اتباع النبي يصيرون إلى ما صار عليه بنو إسرائيل من وراثة الأرض.

(1) الاسراء: 105.
393

الموضع التاسع:
الآيات التي جاءت في سورة الكهف والتي تبدأ بقوله تعالى: (وإذ قال موسى
لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا
حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا) (1) والتي تختم بقوله تعالى: (وأما الجدار
فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن
يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم
تسطع عليه صبرا) (2).
ويبدو هذا المقطع منفصلا عن قصة موسى المذكورة في مواضع مختلفة من
القرآن الكريم، لأنه يتحدث عن جانب معين من شخصية هذا الانسان يختلف عن
الجوانب الأخرى التي تصورها القصة، والتي تظهر فيها شخصية موسى النبي
صاحب الرسالة والدعوة الذي يجاهد من أجل التوحيد وإقامة العدل الإلهي
والدفاع عن المستضعفين، أو تتحدد فيها معالم هذه الشخصية من خلال سيرته
ونشأته الذاتية، أما هنا فيبدو موسى الانسان الذي يسير في طريق التعلم
والحريص على تفسير الظواهر غير العادية.
وحين نلاحظ أن القرآن الكريم يأتي بهذا المقطع في سياق قوله تعالى: (وربك
الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من
دونه موئلا * تلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) (3) قد نستنتج
أن الاتيان به كان من أجل التدليل على مدى مطابقة الحكمة الإلهية للمصلحة
وانسجامها مع واقع الأشياء مهما بدت غير واضحة المقصد والهدف.

(1) الكهف: 60 - 61.
(2) الكهف: 82.
(3) الكهف: 58 - 59.
394

فان هاتين الآيتين اللتين جاء المقطع في سياقهما تشيران إلى وجود حكمة الهية
من وراء تأخير العذاب وعدم التعجيل به مع استحقاق الظالمين له، مع أنه قد يبدو
في النظرة السطحية الانسانية ان التعجيل بالعذاب أوفق بالمصلحة، حيث يكون
رادعا للآخرين عن الظلم، فجاء المقطع تأكيدا لحقيقة الحكمة الإلهية ونظرتها
البعيدة، وان هذه الحكمة قد تخفى حتى على الأنبياء أنفسهم، حيث نلاحظ في هذا
المقطع ثلاثة أعمال وتصرفات يقوم بها العبد الصالح كلها تبدو في ظاهرها أنها
بعيدة عن العدل والمصلحة، الامر الذي يثير استغراب موسى إلى الحد الذي يجعله
يتخلى عن التزامه السابق بعدم السؤال، ثم يشرح العبد الصالح هذه الأعمال
ويبين مدى انسجامها مع العدل والمصلحة العامة.
فالسياق العام للسورة هو الذي فرض الاتيان بالقصة في هذا المورد، ولا
حاجة إلى تكراره في مواضع أخرى مستقلا أو في سرد الحوادث لأنه، لا يحقق
الغرض الذي جئ به في هذا المورد.
الموضع العاشر:
الآيات التي جاءت في سورة مريم وهي قوله تعالى: (واذكر في الكتاب
موسى انه كان مخلصا وكان رسولا نبيا * وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا
* ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) (1).
وقد جاءت هذه اللمحة من القصة في عرض قصصي مشترك عن الأنبياء،
وذلك بصدد تعداد من أنعم الله عليهم من عباده وأنبيائه، ومقارنتهم بمن خلف
بعدهم ممن أضاع الصلاة واتبع الشهوات: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين
من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا
تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا * فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة

(1) مريم: 51 - 53.
395

واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) (1).
فالسياق العام هو الذي فرض مجئ هذه القصة بهذا الشكل من العرض
والاختصار وذلك لتعداد العباد الصالحين ونعمة الله عليهم.
الموضع الحادي عشر:
الآيات التي جاءت في سورة طه والتي تبدأ بقوله تعالى: (وهل أتاك حديث
موسى * إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا اني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد
على النار هدى) (2). والتي تختم بقوله تعالى: (قال فاذهب فان لك في الحياة أن
تقول لا مساس وان لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى الهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه
ثم لننسفه في اليم نسفا انما إلهكم الله الذي لا اله الا هو وسع كل شئ علما) (3).
ونلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصة الأمور التالية:
الأول: ان القصة جاءت في سياق بيان أن القرآن الكريم لم ينزل من أجل أن
يشقى النبي ويتألم، لمجرد أن قومه لم يؤمنوا به أو يظن في نفسه التخلف والتقصير أو
القصور عن أداء الرسالة، وانما نزل القرآن تذكرة لمن يخشى من الناس:
(طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى) (4).
الثاني: ان هذا المقطع القرآني ينتهي بقوله: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد
سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا) (5).
الثالث: ان المقطع يؤكد بشكل خاص ملامح معاناة النبي موسى (عليه السلام) في سبيل

(1) مريم: 58 - 59.
(2) طه: 9 - 10.
(3) طه: 97 - 98.
(4) طه: 1 - 3.
(5) طه: 99.
396

الدعوة، سواء في ذلك المعاناة النابعة من الذات: من الانفعالات والمخاوف النفسية
أو الحرص الشديد على نجاح الدعوة وسلامتها والتزام أبنائها بها، أو التي تكون
نتيجة العقبات والمشاكل والصعوبات التي تثار عند المواجهة والتطبيق سواء من
قبل الكافرين بالدعوة أصلا أو المؤمنين بها، أو نعم الله وألطافه به من خلال ذلك.
فهناك عدة انعكاسات لمواقف الرسالة والدعوة في ذات موسى:
الأول: مفاجأته بالرسالة، وكذلك فزعه من المعجزة وتحول العصا إلى حية.
الثاني: تردده في الاقدام على الدعوة بمفرده، وطلبه انضمام أخيه هارون إليه.
الثالث: خوفه مع أخيه من التحدث إلى فرعون ومواجهته بالدعوة، مع أنهما
أمرا أن يقولا قولا لينا.
الرابع: احساسه بالخوف من سحرهم وتوجسه من نتائج المباراة.
الخامس: موقفه مع ربه في المواعدة ومخاطبة الله له بأنه قد أعجل عن قومه.
السادس: غضب موسى وأسفه وموقفه الصارم من قومه وأخيه والسامري.
وقد صاغ القرآن الكريم هذه الانفعالات من خلال طريقة العرض على
الشكل الذي يؤكد معاناة النبي ويبرز ملامح شخصيته، حيث كان يؤكد في طريقة
العرض ضمير المخاطبة سواء بين الله وموسى أو بين موسى والآخرين.
وإضافة إلى ذلك نجد أمام موسى (عليه السلام) مجموعة من العقبات والمشاكل الحقيقية
المهمة مثل محاولة السحرة تضليل الناس، أو استخدام فرعون لاسلوب القمع
والتهديد به، أو مطاردة فرعون وجيشه لموسى وبني إسرائيل في محاولتهم للعبور،
أو فتنة السامري للإسرائيليين وتمردهم على هارون.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج:
أولا: إن القصة سيقت لابراز معاناة الأنبياء في دعواتهم بصفتها نتيجة طبيعية
لعظم المسؤولية التي يتحملونها والمشاكل التي تواجههم، وبشكل خاص تشير
397

إلى المعاناة الذاتية، ويشهد لذلك أن القصة تؤكد المواقف التي تظهر فيها انفعالات
الرسول كما انها تؤكد ما ينعم به الله على الرسول خلال المجابهة، وحين ينتهي
عرض دور الانفعال نجد القصة تنتقل إلى عرض الدور الاخر دون أن تقف عند
المشاهد الأخرى، فهي مثلا تنتقل من العبور إلى المواعدة رأسا.
كما اننا حين نقارن بين هذا المورد الطويل من القصة والمورد السابق الطويل
منها الذي جاء في سورة الأعراف، أو المورد الثالث الطويل منها الذي يأتي في
سورة القصص نجد هذا المورد هو الوحيد بينها يؤكد بهذا التفصيل هذه الملامح
لشخصية الرسول.
ثانيا: إن السبب الذي فرض على القصة هذا الأسلوب الخاص من العرض
والتصوير واقتضى في نفس الوقت بعض التكرار هو مخاطبة الرسول وتخفيف الألم
والعذاب النفسي اللذين كان يعانيهما تجاه الدعوة ويدلنا على ذلك ما لاحظناه في
الامر الأول والثاني، حيث استهدف القرآن الكريم ابراز الصلة الوثيقة بين ما
يعانيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في دعوته وبين ما كان الأنبياء السابقون يعانونه: (ما
أنزلنا عليك القرآن لتشقى * الا تذكرة لمن يخشى) (كذلك نقص عليك من أنباء ما
قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا).
الموضع الثاني عشر:
الآيات التي جاءت في سورة الشعراء والتي تبدأ القصة فيه بقوله تعالى: (وإذ نادى
ربك موسى ان ائت القوم الظالمين * قوم فرعون الا يتقون) (1) والتي تختم بقوله
تعالى: (ان في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وان ربك لهو العزيز الرحيم) (2).
ويلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصة الأمور التالية:

(1) الشعراء: 10 - 11.
(2) الشعراء: 67 - 68.
398

الأول: أن المقطع من القصة جاء بعد عتاب من الله سبحانه لرسوله محمد (صلى الله عليه وآله)
في اجهاده لنفسه وارهاقها حتى يكاد يقتلها بسبب ان قومه لم يكونوا مؤمنين:
(لعلك باخع نفسك الا يكونوا مؤمنين) (1) وبعد هذا العتاب يذكر القرآن الكريم
قانونا اجتماعيا يتحكم في التأريخ وهو أن كل ذكر جديد من الله سبحانه يحدث
ردة فعل كهذه لدى الكفار حيث يقاومونه ويعرضون عنه، ولم يكن ذلك بسبب
عجز الله سبحانه وعدم قدرته على اخضاعهم لرسالته وارغامهم عليها: (إن نشأ
ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين * وما يأتيهم من ذكر من
الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين) (2).
الثاني: أن القرآن الكريم ينبه - بعد هذا التفسير العام للتأريخ - إلى أن هذا
الموقف العام للكافرين تجاه الذكر لم يكن بسبب عدم توفر الدليل الصالح على
صحة الرسالة: (أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * ان في ذلك
لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وان ربك لهو العزيز الرحيم) (3).
الثالث: أن هذا المقطع جاء في عرض قصصي مشترك للأنبياء يتميز بطابع
خاص إلى جانب هذا التفسير التأريخي للموقف العام وهو أن كل نبي نجده يبذل
جهده في استعمال الأساليب المختلفة من الكلام اللين الهادئ أو التذكير بالنعم
الإلهية الظاهرة التي يتمتع بها أقوامهم، وقد يعضد أقواله هذه أحيانا بآية ومعجزة
سماوية تشهد له على صحة دعوته، ومع كل ذلك تكون النتيجة واحدة ويختتم
بقوله تعالى: (ان في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين).
الرابع: أن القرآن الكريم بعد أن يأتي على نهاية العرض القصصي المشترك هذا

(1) الشعراء: 3.
(2) الشعراء: 4 - 5.
(3) الشعراء: 7 - 9.
399

يرجع فيتحدث عن (آيات الكتاب المبين) بوصفها شيئا مرتبطا بالسماء ومتصفا
بجميع الصفات التي تبرز هذا الاتصال، مما يسمح لذوي البصيرة والقلوب النيرة
ان يطلعوا على واقعه ويهتدوا به.
وعلى أساس هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج أن القصة جاءت لتحقيق هدفين
ضمن عرض قصصي مشترك:
أحدهما: ايضاح القانون الطبيعي الذي يتحكم في مواجهة الأفكار الإلهية
الجديدة، وان تلكؤ الكافرين في الايمان بالدعوة الاسلامية ورسالتها ليس بسبب
تخلف الرسول (صلى الله عليه وآله) عن المستوى الأمثل للعمل والنضال، أو نتيجة لعدم توفر
الأدلة الكافية على صحة الرسالة، وانما هو قانون عام له أسبابه النفسية
والاجتماعية الأخرى وخضعت له الرسالات الإلهية كلها.
والاخر: ان النهاية سوف تكون لعباد الله الصالحين وانهم هم الذين يرثون
الأرض، ومن أجل الفات النظر إلى هذا الهدف - الذي قد يضيع ضمن العرض
العام للقصص - وتأكيده جاءت قصة موسى بشئ من التفصيل الذي يؤكد هذا
الجانب، ويمكن أيضا أن نفسر التكرار للقصة بأحد السببين التاليين أو كليهما:
الأول: تأكيد هدف وغرض سبق أن استهدفه القرآن الكريم من قصة موسى
نفسها في سورة طه وهو التخفيف من الألم الذي يعانيه الرسول (صلى الله عليه وآله) وهذا هو
السبب الثاني من الأسباب الموجبة للتكرار.
الثاني: أن القصة استهدفت غرضا دينيا جديدا وهو تصوير المفهوم الاسلامي
العام عن طبيعة موقف المشركين تجاه الرسالة، وانه هو الموقف العام لهم تجاه كل
الرسالات، وهذا هو السبب الأول من الأسباب الموجبة للتكرار.
وقد جاءت القصة في أسلوبها وطريقة عرض الاحداث فيها منسجمة مع
أهدافها وأغراضها حيث تناولت جوانب معينة من حياة موسى وعرضت بشكل
400

خاص تنتهي عند هذه الاهداف، فنجد الحديث في القصة مثلا ينتهي عند العبور،
كما انها أكدت شكل الأسلوب الذي سار عليه موسى وهارون في مخاطبة
فرعون.
الموضع الثالث عشر:
الآيات التي جاءت في سورة النمل والتي تبدأ بقوله تعالى:
(إذ قال موسى لأهله اني آنست نارا سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس
لعلكم تصطلون) (1) والتي تختم بقوله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم
ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) (2).
ويلاحظ في هذا المقطع القصير الذي يتحدث عن القصة بشكل عام الأمور
التالية:
الأول: أن القصة جاءت في سياق التحدث عن الكافرين بالآخرة وما سوف
يلاقون من عذاب، وعن واقع نزول القرآن وتلقيه: (ان الذين لا يؤمنون بالآخرة
زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم
الأخسرون * وانك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) (3).
الثاني: أن هذا المقطع يختم بقوله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما
وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين).
الثالث: أن المقطع على اختصاره يكاد يختص بذكر الحوادث والآيات الغيبية،
فهو يذكر المناداة ومعجزة العصا واليد، ويشير إلى الآيات التسع.
وهذه الملاحظة تدعونا لان نستنتج: أن القصة سيقت لاظهار حقيقة من

(1) النمل: 7.
(2) النمل: 14.
(3) النمل: 4 - 6.
401

الحقائق التي ترتبط بالجانب النفسي للمجتمع الذي يواجه دعوة جديدة، وهذه
الحقيقة هي أن نكران الآخرة وعدم الايمان بها انما يقوم على أساس نفسي
وعاطفي لا على أساس موضوعي ودراسة علمية، هذا الشئ الذي عبر عنه
القرآن الكريم بالجحود، وذلك لان الدراسة الموضوعية كانت تقتضي ان تنتهي
الحالة بالناس إلى الايمان بالآخرة بعد أن أكدت الآيات والمعاجز ارتباط النبي
بعالم الغيب، وهذه الآيات والمعاجز توفر عناصر اليقين عند الانسان العادي
الذي يعيش وضعية عاطفية مستوية ومستقيمة ونتيجة لذلك (وهو عدم الايمان
بالرغم من توفر الأدلة والحجج) ينزل العذاب بالكافرين بعد أن لم يستجيبوا
للحقائق والأدلة.
ولا يفوتنا ان ننبه هنا إلى نكتة دقيقة ولطيفة وشاهد يؤكد لنا أن القصة سيقت
لهذا الغرض هو أن القرآن يصور لنا خوف موسى من العصا بالشكل الذي يدعوه
إلى الهروب، وفي هذا تأكيد ان هذا التحول في حالة (العصا) كان نتيجة تدخل
غيبي ولذا ترك أثره على موسى نفسه، لا أنه نتيجة عمل بشري قام به موسى،
ولعل السر في تكرار القصة هنا هو السببان التاليان:
الأول: أن المقطع جاء في عرض قصصي مشترك لتأكيد تفسير اسلامي لموقف
المنكرين للقرآن والدعوة على أساس عدم كفاية الآيات والمعجزات لاثباتها وقد
عرفنا في هذا التأكيد السبب الثاني للتكرار كما سبق.
الثاني: أن القصة جاءت مختصرة في تصوير الموقف وهذا يدعونا لان نرى
أنها وردت في مرحلة متقدمة من مراحل الدعوة حين كان يعالج القرآن مشاكلها
بشكل مختصر، وهذا ما ذكرناه سببا ثالثا للتكرار.
الموضع الرابع عشر:
الآيات التي جاءت في سورة القصص والتي تبدأ بقوله تعالى: (نتلو عليك من
402

نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون) (1) والتي تختم بقوله تعالى: (وأتبعناهم في
هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) (2).
ويلاحظ في هذا المقطع من القصة الأمور التالية:
الأول: أن السورة تكاد تبدأ بالقصة دون ان يسبقها شئ عدا آيتين: هما قوله
تعالى: (طسم * تلك آيات الكتاب المبين) (3).
الثاني: أن القرآن الكريم يأتي في سياق القصة بعدها بقوله تعالى: (وما
كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين *... وما
كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين * وما كنت بجانب الطور
إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم
يتذكرون) (4).
الثالث: ان القصة تذكر تفاصيل وحوادث ذات طابع شخصي من حياة
موسى (عليه السلام) تكاد تكون جانبيه، كحادثة القائه في اليم، واستنقاذ آل فرعون له،
ورفضه للرضاعة من غير امه، وقتله الرجل ثم محاولته قتل الاخر وهروبه، ثم
قضية زواجه مع تفاصيلها.
الرابع: ان القصة تبدأ بذكر أحكام عامة عن الوضع الاجتماعي حينذاك
والغاية المتوخاة من تغييره: (ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا
يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحي نساءهم انه كان من المفسدين * ونريد
أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن

(1) القصص: 2.
(2) القصص: 42.
(3) القصص: 1 - 2.
(4) القصص: 44 - 46.
403

لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) (1).
وعلى ضوء هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج ان القصة استهدفت أمرين:
الأول: ان القرآن الكريم كتاب منزل من الله سبحانه وتعالى وانه ليس من
صنع محمد (صلى الله عليه وآله)، وهذا هو الهدف الرئيس من سرد القصة في هذا المورد - كما
يشير إلى ذلك الامر الأول والثاني - وهو في نفس الوقت من الاهداف المهمة التي
يؤكدها القرآن الكريم في مناسبات كثيرة لما له من تأثير في سير الدعوة.
وبهذا يمكن أن نفسر ما أشرنا إليه في الامر الثالث، لان في الحديث عن
تفاصيل جانبية من حياة الرسول دلالة قوية على ارتباط القرآن بعالم الغيب، حيث
من المفروض أن لا يطلع على هذه التفاصيل جميع الناس لأنها تعيش حياة الرسول
حين كان فردا عاديا في المجتمع، على خلاف تفاصيل حياته بعد النبوة فإنها
- بطبيعة الحال - تكون معروفة للناس لتسليط الأضواء على شخصيته من قبلهم.
الثاني: ايضاح أن عملية التغيير الاجتماعي قد تتم حتى في أبعد الظروف
ملاءمة واحتمالا، وفي ظل أشد ظروف الظلم والاضطهاد والطغيان، بحيث تبدأ
عملية التغيير من نقطة هي في منتهى البعد والضعف نسبة لهذه العملية وذلك نتيجة
للايمان الواعي بالله وما يستلزمه ذلك من الاصرار والصبر على تبني العقيدة
والنضال من أجلها.
ولذلك نجد القصة في هذا الموضع تؤكد ملامح الاضطهاد الذي كان يعانيه
المجتمع بشكل عام والإسرائيليون بشكل خاص، كما تؤكد الوضع القاسي الذي
كان يعيشه شخص الرسول في كونه منذ البداية في معرض خطر الموت والهلاك،
ثم مطاردا من المجتمع بتهمة القتل العدواني، ثم مهاجرا وبعيدا عن المواقع الطبيعية
لحركة التغيير. وفي هذين الهدفين ما يبرر التكرار الذي يمكن أن يكون بالسبب

(1) القصص: 4 - 6.
404

الأول أو الثاني من أسباب التكرار.
الموضع الخامس عشر:
الآيات التي جاءت في سورة المؤمن والتي تبدأ بقوله تعالى: (ولقد أرسلنا
موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) (1)
والتي تختم بقوله تعالى: (فستذكرون ما أقول لكم وافوض أمري إلى الله ان الله بصير
بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب) (2).
ويلاحظ في هذا المقطع من القصة ما يلي:
الأول: ان السورة التي جاء فيها هذا المقطع تتحدث في مطلعها عن مصير من
يجادل في آيات الله: (ما يجادل في آيات الله الا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في
البلاد) (3).
الثاني: ان القصة تأتي في سياق أن هذا المصير للمجادلين نتيجة طبيعية
لعنادهم بعد أن تأتيهم البينات فيكفرون بها: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا
كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض
فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق) (4).
الثالث: أن القصة تؤكد بشكل واضح موقف مؤمن آل فرعون والأساليب التي
استعملها في دعوته لهم ومحاولته ذات الجانب العاطفي في هدايتهم مع تذكيرهم
بمصير من سبقهم من الأمم وما ينتظرهم نتيجة لعنادهم وكفرهم. وقبالة هذا الموقف
يظهر لنا موقف فرعون وقد تمادى في غيه حتى حاول أن يطلع على اله موسى.

(1) المؤمن: 23 - 24.
(2) المؤمن: 44 - 45.
(3) المؤمن: 4.
(4) المؤمن: 21.
405

وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج: أن القصة سيقت لتوضيح مصير من
يجادل في آيات الله، مع ايضاح الفرق بين الأسلوب الذي يستعمله الداعية
والأسلوب الذي يستعمله المجادل والكافر، وان العذاب لا ينزل بهؤلاء إلا بعد
أن تتم الحجة عليهم.
وان الهداية والحجة من الوضوح بحيث يمكن أن يقتنع بها حتى أولئك
الاشخاص الذين يعيشون في الوسط المتنفذ والمترف - كما هو الحال بالنسبة إلى
مؤمن آل فرعون - كما انها تؤكد الدور الذي يجب أن يقوم به الانسان تجاه هداية
الآخرين، وأنها مسؤولية شرعية وانسانية يتحملها كل الناس حتى لو كان من
الوسط الضال، كما فعل مؤمن آل فرعون.
وفي هذا العرض القرآني للقصة يظهر لنا أيضا هذا الامتزاج بين الرحمة
والغفران، وبين النقمة وشدة العذاب: (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي
الطول لا إله إلا هو إليه المصير) (1) فان الله سبحانه يجعل تحت متناول عقول
عباده وأنظارهم آياته وأدلته وبراهينه، ويتوسل إلى هدايتهم بالوسائل المختلفة
التي لا تشل عنصر الاختيار فيهم، كل ذلك رحمة منه وفسحة لقبول التوبة
والاستغفار، ولكنه مع ذلك لا يعجزه شئ عن عقابهم أو القدرة على انزال
العذاب فيهم.
الموضع السادس عشر:
الآيات التي جاءت في سورة الزخرف والتي تبدأ بقوله تعالى: (ولقد أرسلنا
موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال اني رسول رب العالمين) (2) والتي تختم بقوله
تعالى: (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا

(1) المؤمن: 3.
(2) الزخرف: 140.
406

للآخرين) (1).
ويلاحظ في هذا الموضع من القصة ما يلي:
ان هذا المقطع القرآني من القصة جاء في سياق الحديث عن شبهة أثارها الكفار
في وجه الدعوة: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (2).
وقد ناقش القرآن الكريم هذه الشبهة من ناحيتين:
الأولى: أن الرزق والمال ليس عطاء بشريا أو نتيجة للجهد الشخصي والذكاء
والعبقرية والفضل فحسب بل هو عطاء الهي له غاية اجتماعية تنظيمية: (أهم
يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق
بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) (3).
الثانية: أن هذا العطاء الإلهي المادي ليس مرتبطا بالفضل والامتياز عند الله
والقربى لديه كما هو شأن العطاء البشري ومقاييسه، بل قد يكون العكس هو
الصحيح: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا
من فضة ومعارج عليها يظهرون) (4). فان ظاهر هذه الآية الكريمة هو أنه لولا
مخافة أن يكون الناس أمة واحدة على الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن... وقد
يكون ذلك تعويضا لهم عما يلحق بهم من الخسران والعذاب في الدار الآخرة فان
" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " (5).
ومن هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج:

(1) الزخرف: 55 - 56.
(2) الزخرف: 31.
(3) الزخرف: 32.
(4) الزخرف: 33.
(5) من لا يحضره الفقيه 4: 363.
407

ان هذا المقطع جاء ليضرب مثلا واقعيا تجاه هذه الحقيقة والفكرة التي عاشتها
الانسانية، وهذا المثل هو موقف فرعون من دعوة موسى، حيث نزلت الرسالة
على شخص فقير مطارد ويتعرض قومه إلى الاضطهاد، مع أن فرعون هو
صاحب الثروة والغنى.
والذي يؤكد هذا الاستنتاج إن المقطع يتبنى اظهار جانب ما يتمتع به فرعون
من ثروة وملك وغنى في مقابل موسى الذي هو مهين على حد تعبير فرعون
وليس في المواضع الأخرى من القرآن ما يشبه هذا الموقف من فرعون.
فالتكرار فرضه السياق القرآني إلى جانب تحقيق الغرض الديني.
الموضع السابع عشر:
الآيات التي جاءت في سورة الذاريات وهي قوله تعالى:
(وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين * فتولى بركنه وقال ساحر أو
مجنون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم) (1).
وهذه اللمحة العابرة التي تأتي في عرض قصصي مشترك عن الأنبياء من أجل
تعداد آيات الله سبحانه، واثبات صدق الدعوة والنبوة، نجد أسلوب السورة المكية
الذي كان يفرض طبيعة الموقف فيه ذكر القصص القرآنية بشكل مختصر وعابر.
الموضع الثامن عشر:
الآية التي جاءت في سورة الصف: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني
وقد تعلمون اني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم
الفاسقين) (2).
وفي هذه إشارة إلى موقف معين لبني إسرائيل تجاه موسى، حيث آذوه مع

(1) الذاريات: 38 - 40.
(2) الصف: 5.
408

علمهم بنبوته، وقد كان الغرض من الإشارة إليه هو مقارنة موقف أصحاب
النبي (صلى الله عليه وآله) تجاهه وموقف هؤلاء تجاه موسى، وكذلك موقف بني إسرائيل تجاه
عيسى (عليه السلام) من تكذيبه ومخالفته بعد أن جاءهم بالبينات، وفي هذا تذكير لأصحاب
النبي وتحذير لهم من الوقوع في مثل هذه المواقف والمخالفات، وإلا لساروا في
طريق النفاق، وكانوا ممن يقولون ما لا يفعلون، كما يدل السياق على ذلك.
الموضع التاسع عشر:
الآيات التي جاءت في سورة النازعات، وهي قوله تعالى:
(هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى * اذهب إلى فرعون
إنه طغى * فقل هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى * فأراه الآية
الكبرى * فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الاعلى *
فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) (1).
وهذا المقطع القرآني من القصة ينسجم مع السياق العام للسورة التي تتحدث
عن الحشر وتصور قدرة الله سبحانه على تحقيقه (بزجرة) واحدة، لان الموقف
فيها ينتقل من دعوة موسى لفرعون مع ما له من القدرة الدنيوية وتكبره وتجبره
وعظمته، إلى أخذ الله سبحانه له نكال الآخرة والأولى، فان هذا الانتقال يصور
لنا هذه السرعة والقدرة في الحشر والنشر، ولذا نجد القرآن يرجع بعد اعطاء هذه
الصورة الواقعية عن القدرة إلى الاستدلال على هذه الحقيقة بأدلة وجدانية:
(أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها
* والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها) (2).
وهذا المقطع القرآني من القصة ينسجم مع السياق العام للسورة التي تتحدث

(1) النازعات: 15 - 25.
(2) النازعات: 27 - 32.
409

عن الحشر وتصور قدرة الله سبحانه على تحقيقه (بزجرة) واحدة، لان الموقف
فيها ينتقل من دعوة موسى لفرعون مع ما له من القدرة الدنيوية وتكبره وتجبره
وعظمته، إلى أخذ الله سبحانه له نكال الآخرة والأولى، فان هذا الانتقال يصور
لنا هذه السرعة والقدرة في الحشر والنشر، ولذا نجد القرآن يرجع بعد اعطاء هذه
الصورة الواقعية عن القدرة إلى الاستدلال على هذه الحقيقة بأدلة وجدانية:
(أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها
* والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها) (1).
2 - قصة موسى (عليه السلام) في القرآن بحسب تسلسلها التأريخي (2):
الإسرائيليون في المجتمع المصري:
لقد عاش الإسرائيليون في المجتمع المصري وتكاثروا فيه منذ هجرة يوسف
وأبيه يعقوب وبقية أولاده إلى مصر، وقد اضطهد الفراعنة الإسرائيليين في الحقبة
السابقة على ولادة موسى، وبلغ الاضطهاد درجة مريعة حين اتخذ الفراعنة قرارا
بذبح أبناء الإسرائيليين واستحياء نسائهم من أجل الخدمة والعمل، فأراد الله
سبحانه وتعالى أن يتفضل على هؤلاء المستضعفين وينقذهم من حالتهم هذه فهيأ
لهم نبيه موسى فعمل على انقاذهم من الفراعنة (3) وهدايتهم من المجتمع الوثني إلى
المجتمع التوحيدي.
ولادة موسى وارضاعه:
وحين ولد موسى (عليه السلام) أوحى الله سبحانه إلى امه أن ترضعه وحين تخاف عليه

(1) النازعات: 27 - 32.
(2) نذكر من أحداث القصة بمقدار ما تعرض له القرآن الكريم.
(3) الأعراف: 141، إبراهيم: 6، القصص: 3 - 6.
410

من الذبح العام فعليها أن تضعه في ما يشبه الصندوق وتلقيه في اليم، وهكذا
شاءت إرادة الله أن يلقيه اليم إلى الساحل، وإذا بآل فرعون يلتقطونه فيعرفون
أنه من أولاد بني إسرائيل، فتدخل امرأة فرعون في شأنه وتطلب أن يتركوه لها
على أن تتخذه خادما أو ولدا تأنس به مع فرعون.
وقد عاشت والدة موسى لحظات حرجة من حين القائه في اليم، فأمرت أخته
أن تقص أثره وتتبع سير الصندوق فتتعرف على مصيره. ففعلت، وحين عرض
الطفل على المرضعات أبى أن يقبل واحدة منهن، فانتهزت أخته هذه الفرصة،
فعرضت على آل فرعون أن تدلهم على امرأة مرضعة تتكفل رعايته وحضانته
وارضاعه، وكانت هذه المرأة بطبيعة الحال هي أم موسى، وهكذا رجع الطفل إلى
امه ليطمئن قلبها وتعلم أن ما وعدها الله سبحانه من حفظه وارجاعه إليها حق لا
شك فيه. ولقد شب موسى في البلاط الفرعوني حتى إذا بلغ أشده وهبه الله سبحانه
العلم والحكمة (1).
خروج موسى من مصر:
ودخل موسى المدينة في يوم ما (على حين غفلة من أهلها) (متنكرا) فوجد
فيها رجلا من شيعته (من الإسرائيليين) يقاتل رجلا آخر من أعدائه
(الفرعونيين) فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه، فوكزه موسى فقضى
عليه ولم يكن ينتظر موسى أن تؤدي هذه الضربة إلى الموت، ولذلك ندم على هذا
العمل المتسرع الذي انساق إليه، فاستغفر ربه عليه.
وأصبح موسى في المدينة خائفا يترقب أن ينكشف أمره فيؤخذ بدم
الفرعوني، فينزل إلى المدينة مرة أخرى فإذا به يواجه قضية أخرى متشابهة،
وإذا الذي استنصره بالأمس فنصره يستصرخه اليوم أيضا، فعاتبه موسى على

(1) القصص: 7 - 14، طه: 37 - 40.
411

عمله ووصفه بأنه غوي مبين يريد توريطه واحراجه، ثم لما (أن أراد أن يبطش
بالذي هو عدو لهما) (موسى والإسرائيلي) ظن الإسرائيلي أن موسى يقصد
البطش به لا بالفرعوني، فقال لموسى: (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ان
تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض) وبذلك كشف الإسرائيلي عن هوية قاتل
الفرعوني الأول وفضح قتل موسى له، فعمل الملا وهم علية القوم على قتله بدم
الفرعوني.
(وجاء رجل من أقصى المدينة) وأعاليها يخبر موسى بالامر يقول له: (إن
الملا يأتمرون بك ليقتلوك) وطلب منه المبادرة إلى الخروج والهروب من
الفرعونيين.
فخرج موسى من المدينة خائفا يترقب ان يوافيه الطلب أو تصل إليه أيدي
الفرعونيين فدعا ربه ان ينجيه من القوم الظالمين (1).
موسى في أرض مدين:
وانتهى السير بموسى إلى أرض مدين فلما وصلها أحس بالأمن وانتعش الامل
في نفسه فقال: (عسى ربي ان يهديني سواء السبيل * ولما ورد ماء مدين وجد عليه
أمة من الناس) وهم الرعاة يسقون (ووجد من دونهم امرأتين) في حيرة من
أمرهما تذودان الأغنام وتجمعانها ولا تسقيان، فأخذه العطف عليهما فقال لهما:
(ما خطبكما) ولماذا لا تسقيان؟ قالتا له: (لا نسقي حتى يصدر الرعاء)
وينتهوا من السقي لأننا امرأتان (وأبونا شيخ كبير) لا يتمكن من القيام بهذه
المهمة الشاقة. فتولى موسى عنهما هذه المهمة، فسقى لهما، ثم انصرف إلى ناحية
الظل وهو يشكو ألم الجوع والغربة والوحدة فقال: (رب اني لما أنزلت إلى من
خير فقير).

(1) القصص: 15 - 21، وطه: 40.
412

ولما رجعت الامرأتان إلى أبيهما الشيخ وعرف منهما قصة هذا الانسان الغريب
الذي سقى لهما بعث إلى موسى إحداهما لتدعوه إليه فجاءته (تمشي على استحياء
قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا). فأجاب موسى الدعوة وحين
انتهى إلى الشيخ طلب منه ان يخبره عن حاله فقص موسى عليه قصة هربه وسببها
وحينئذ آمنه الشيخ وقال له: (لا تخف نجوت من القوم الظالمين).
وقد طلبت إحدى ابنتي الشيخ من أبيها ان يستأجر موسى للعمل عنده وليقوم
عنهما ببعض المهام الملقاة على عاتقهما نتيجة عجز الشيخ وضعفه وذلك نظرا لقوة
موسى وقدرته على القيام بالعمل مع أمانته وشرف نفسه.
فقال له الشيخ: (اني أريد ان أنكحك إحدى ابنتي هاتين) شريطة ان تأجرني
نفسك ثماني حجج (سنين) فإذا أتممتها عشرا فذلك من عندك، فوافق موسى على
هذا الزواج وتم العقد بينهما (1).
بعثة موسى (عليه السلام) ورجوعه إلى مصر:
وبعد أن قضى موسى الاجل (السنوات العشر) بينه وبين صهره سار بأهله
فإذا به يشاهد نارا من جانب الطور الأيمن وهو جبل صغير، وقد كان بحاجة
إليها، (فقال لأهله امكثوا اني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار
هدى * فلما أتاها) وجد شجرة وجاء نداء الله سبحانه من شاطئ الوادي الأيمن
في البقعة المباركة من جانب الشجرة: (أني انا الله رب العالمين * فاخلع نعليك انك
بالوادي المقدس طوى * وأنا اخترتك (لوحي ورسالتي) فاستمع لما يوحى) إليك.
ثم قال الله له: (ما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها
على غنمي ولي فيها مآرب أخرى)، قال الله له: (ألقها يا موسى) فإذا هي
تتحول إلى (حية تسعى)، (فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب)

(1) القصص: 22 - 28، طه: 40.
413

فناداه الله (يا موسى أقبل ولا تخف انك من الآمنين) (إني لا يخاف لدي
المرسلون) (1) سنعيدها سيرتها الأولى.
ثم قال له: (ادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) (2) ومرض،
فأدخل يده وإذا بها تخرج بيضاء، ثم ردها فعادت كما كانت.
وبعد ذلك أمره الله سبحانه أن يذهب بهاتين الآيتين المعجزتين إلى فرعون
وقومه ليدعوهم إلى الله سبحانه، فخاف موسى من تحمل هذه المهمة، فقال:
(ربي اني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلوني * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا
فأرسله معي) وذلك من أجل أن (يصدقني إني أخاف أن يكذبوني).
قال الله له: (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكما)
(فأتياه (فرعون) فقولا: إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد
جئناك بآية من ربك) (3).
وحينما عاد موسى إلى مصر توجه مع أخيه هارون إلى فرعون فقالا له:
إنا رسولا من ربك رب العالمين، ولا يمكن أن نقول على الله غير الحق الذي
أرسلنا به وقد جئناك ببينة من ربك فأرسل (معنا بني إسرائيل) وارفع عنهم
العذاب الذي تنزله فيهم، وقد قالا له ذلك بشكل لين وبأسلوب استعطافي
هادئ (4).
وكأن فرعون قد استغرب هذه الرسالة من موسى وأخيه لأنه كان يعرف

(1) القصص: 21 والنمل: 10.
(2) النمل: 12.
(3) الاسراء: 2 - 3، طه: 9 - 47، الفرقان: 35 - 36، القصص: 29 - 35، الشعراء: 10 -
16، النازعات: 15 - 19.
(4) الأعراف: 104 - 105، الشعراء: 17 و 22.
414

موسى وأحواله، فقال لموسى: (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين)،
ثم بعد ذلك (فعلت فعلتك التي فعلت) بأن قتلت رجلا من الفرعونيين؟ فأجابه
موسى: نعم لقد فعلت ذلك، ولكني لما خفتكم على نفسي فررت منكم (فوهب لي
ربي حكما وجعلني من المرسلين) (1).
فرعون يجادل موسى في ربوبية الله:
وبعد أن رأى فرعون اصرار موسى وهارون على الرسالة (قال فمن ربكما)
قال له موسى (ربنا الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى) وهو رب السماوات
والأرضين (وما بينهما وما تحت الثرى). قال فرعون (فما بال القرون الأولى)
وما هي مصيرها؟ فأجابه موسى (علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا
ينسى)، وهو (الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وانزل من السماء
ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) مختلف ألوانه واشكاله.
وقد استنكر فرعون هذه الدعوة الجديدة وهو يعتقد بنفسه الألوهية فتوجه
لمن حوله مستنكرا وقال: الا تسمعون؟ ولما رأى الاصرار من موسى وأخيه
اتهم موسى بالجنون وهدده بالسجن إذا اتخذ الها غيره (2). ولم يستسلم موسى
واخوه امام هذه التهمة والتهديد وانما حاولا ان يسلكا إلى فرعون طريقا آخر
لاقناعه أو احراجه، وهذا الطريق هو استثمار السلاح الذي وضعه الله بيد موسى
(معجزة العصا واليد)، فقال موسى لفرعون: اني قد جئتك من ربي بآية تبين لك
الحق الذي انا عليه، قال فرعون: إذا كنت صادقا فائت بهذه الآية والحجة
(فالقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين). ولم
يتمالك فرعون وملؤه أنفسهم امام هذا الموقف الا ان اتهموه بالسحر والشعوذة

(1) الشعراء: 18 - 21.
(2) طه: 49 - 55، الشعراء: 24 - 29،
415

وانه انما جاء بهذا السحر من أجل ان يخرجهم من أرضهم ويجلوهم عنها (1).
مباراة موسى مع السحرة:
وقد أشار قوم فرعون وخاصته عليه بأن يواجه موسى بالسحرة من بلاده
فيجمعهم في يوم يشهده الناس جميعا ليتباروا، وسوف يغلبونه وهم كثيرون
فيفتضح أمره ويترك دعوته، وعمل فرعون بهذه النصيحة فطلب من موسى
وأخيه أن يعطياه مهلة إلى وقت معين لمواجهته بالسحرة.
وجمع فرعون كيده وحشد جميع السحرة من بلادهم وعرض عليهم الموقف
وطلب منهم أن يحرجوا موسى ويغلبوه، وجمع الناس لهذه المباراة ظنا منه أنه
سوف ينتصر، وقد شجعه على ذلك تأكيد السحرة أنهم سوف يغلبون موسى وما
طلبه منه السحرة من أجر وأعطيات إذا كانوا هم الغالبين.
وحين اجتمع موسى بالسحرة خيروه بين أن يلقي قبلهم أو يكونوا هم الملقين
قبله، فاختار أن يكونوا هم الملقين، فألقى السحرة (حبالهم وعصيهم) وإذا بها
تبدو لاعين الناس - من سحرهم - كأنها تسعى كالحيات، وعندئذ أوجس موسى
(في نفسه خيفة) إذ لم يكن ينتظر أن يواجه بالأسلوب الذي اتبعه في معجزته
مع فرعون، فأوحى الله سبحانه له أن لا تخف فإنك أنت الذي سوف تنتصر
عليهم، وانما عليك ان تلقي عصاك وحينئذ تتحول إلى حية تلقف جميع ما صنعوا،
لان ما صنعوه ليس إلا (كيد ساحر ولا يفلح الساحر).
وعندما رأى السحرة هذا الصنع من موسى انكشفت لهم الحقيقة التي ارسل
بها، وأن هذا العمل ليس عمل ساحر وانما هو معجزة الهية، فآمنوا وقالوا: (آمنا
برب هارون وموسى).
وأمام هذا الموقف الرائع من السحرة في هذا المشهد العظيم من الناس وجد

(1) الأعراف: 106 - 109، الشعراء: 30 - 35، يونس: 75 - 78.
416

فرعون نفسه في وضع مخز ومحرج، الامر الذي اضطره لان يلجأ إلى الانذار
والوعيد والتهديد باستخدام أساليب القمع والارهاب، فقال للسحرة: (آمنتم له
قبل أن آذن لكم انه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف
ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى)، ولم يكن موقف
السحرة - بعد أن انكشفت لهم الحقيقة وهداهم الله إليها - إلا ليزداد صلابة وثباتا
واستسلاما لله رجاء مغفرته ورحمته (1).
اصرار فرعون وقومه على الكفر ومجئ موسى بالآيات:
وقد أصر فرعون وقومه على الكفر وصمموا على مواصلة خط اضطهاد بني إسرائيل
وتعذيبهم، حيث قال الملا من قومه (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في
الأرض ويذرك وآلهتك؟ قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وانا فوقهم قاهرون).
وواجه موسى وبنو إسرائيل ذلك بالصبر والثبات انتظارا للوقت الذي يحقق
الله سبحانه فيه وعده لهم بوراثة الأرض.
ولكن الله سبحانه أمر موسى أن يعلن لفرعون وقومه بأن العذاب سوف ينزل
بهم عقابا على تكذيبهم له وتعذيبهم لبني إسرائيل وامتناعهم عن اطلاقهم
وارسالهم، فجاءت الآيات السماوية يتلو بعضها بعضا فأصابهم الله بالجدب،
ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وكانوا كلما وقع
عليهم العذاب والرجز، (قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا
الرجز لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم
بالغوه إذا هم ينكثون) (2).

(1) الأعراف: 110 - 126، يونس: 80 - 89، طه: 57 - 76، الشعراء: 34 - 52.
(2) الأعراف: 127 - 135، غافر: 23 - 27، الاسراء: 101 - 102، طه: 59، النمل: 13
- 14، القصص: 36 - 37، الزخرف: 46 - 50، القمر: 41 - 42، النازعات: 20 - 21.
417

الائتمار بموسى (عليه السلام) لقتله وطغيان فرعون:
وأمام هذه الآيات المتتاليات التي جاء بها موسى لم يجد فرعون وقومه أسلوبا
يعالج به الموقف، غير الائتمار بموسى لقتله وادعاء القدرة على مواجهة آلهته، فنجد
فرعون يأمر هامان بأن يتخد له صرحا ليطلع منه على أسباب السماوات ويتعرف
على حقيقة إله موسى.
ولكن فرعون يفشل في كلا الجانبين، فلم يتمكن من أن يحقق غايته من وراء
بناء الصرح، كما لم تصل يده إلى موسى، لان أحد المؤمنين من آل فرعون يقف
فيعظهم ويؤنبهم على موقفهم من موسى، ويبادر إلى اخباره بنبأ المؤامرة فينجو (1).
خروج موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل من مصر:
وحين واجه موسى محاولة اغتياله ورأى اصرار فرعون وقومه على اضطهاد
بني إسرائيل وتعذيبهم، ووجد أنه لم تنفع بهم الآيات والمواعظ، صمم على
الخروج ببني إسرائيل من مصر والعبور بهم إلى جهة الأرض المقدسة، وقد نفذ
موسى هذه العملية وسار ببني إسرائيل متجها إلى سيناء.
ولم يقف فرعون - وقومه معه - امام هذه الهجرة مكتوف اليدين، بل جمع
جنده من جميع المدائن وقرر ملاحقة موسى وبنى إسرائيل وارجاعهم إلى عبوديته
بالقوة.
ووجد موسى وبنو إسرائيل نتيجة هذه المطاردة أنفسهم والبحر من امامهم
وفرعون وجنوده من خلفهم، وارتاع بنو إسرائيل من هذا الموقف وكادوا
يكذبون ما وعدهم به موسى من الخلاص، ولكن موسى بايمانه الوطيد اخبرهم
أن الله سبحانه سوف يهديه طريق النجاة، وتحقق ذلك - فعلا - إذ أوحى الله (إلى
موسى ان اضرب بعصاك البحر فانفلق كل فرق كالطود العظيم)، ويظهر بينهما طريق

(1) القصص: 38، غافر: 28 - 46.
418

يبس يعبر من خلاله بنو إسرائيل ويحاول فرعون وجنوده أن يتبعوهم من هذا
الطريق أيضا، وإذا بجانبي البحر يلتقيان فيغرق مع جنده (1).
موسى مع بني إسرائيل:
وتتوالى بعد ذلك الاحداث على موسى وإذا به يواجه المشاكل الداخلية
منفردا مع قومه بني إسرائيل، فيسمع طلبهم وهم يمرون على قوم يعبدون
الأصنام بأن يتخذ لهم أصناما يعبدونها كما أن لهؤلاء أصناما، ثم بعد ذلك
يتفضل الله سبحانه على بني إسرائيل عندما استسقوا موسى، فيأمره بضرب
الحجر فتتفجر منه العيون كما ينزل عليهم المن والسلوى ويبدلهم عنه ببعض المآكل
الأخرى، ويواجه موسى ردة من بني إسرائيل عند ذهابه لميقات ربه لتلقي
الشريعة في ألواح التوراة، فيخبره الله تعالى بعبادتهم للعجل الذي صنعه
السامري، فيرجع (إلى قومه غضبان أسفا) ويعتب بقسوة على أخيه هارون،
حيث كان قد استخلفه عليهم مدة ذهابه، ويطرد السامري ويفرض عليه عقوبة
المقاطعة، ويحرق العجل وينسفه، ثم يتوب الله على بني إسرائيل بعد أن فرض
عليهم عقابا صارما.
وعلى هذا المنوال يذكر لنا القرآن الكريم أحداثا مختلفة عن حياة موسى مع بني إسرائيل
، كقضية البقرة ونتق الجبل والدعوة للدخول إلى الأرض المقدسة
وذهابهم للمواعدة عندما طلبوا رؤية الله جهرة، وقصة قارون وتآمره مع
المنافقين على موسى، وفي بعض هذه الاحداث لا نجد القرآن الكريم يحدد المتقدم
منها على الاحداث الأخرى بشكل واضح.

(1) الأعراف: 136 - 137، يونس: 90 - 92، الاسراء: 103 - 104، طه: 77 - 79،
الشعراء: 52 - 66، القصص: 39 - 40، الزخرف: 55 - 56، الدخان: 17 - 31،
الذاريات: 38 - 40.
419

وبهذا القدر نكتفي من سرد القصة حسب تسلسلها الزمني (1).
3 - دراسة عامة مختصرة لقصة موسى (عليه السلام):
بعد أن انتهينا من بحث قصة موسى بحسب ذكرها في القرآن الكريم وعرضها
بتسلسلها التأريخي، يجدر بنا أن ندرسها من جانبين يختلفان عن جانب دراستنا
السابقة للقصة:
الجانب الأول: هو ملاحظة ميزات وخصائص المراحل العامة التي مر بها
موسى في حياته.
الجانب الثاني: هو ملاحظة الموضوعات التي تحدثت عنها القصة بشكل عام.
الأول: مراحل حياة موسى (عليه السلام):
وبصدد الجانب الأول نجد موسى (عليه السلام) قد مر بمراحل ثلاث رئيسة خلال
حياته، حيث تبدأ المرحلة الأولى بولادته وتنتهي ببعثته إلى فرعون وقومه،
وتبدأ الثانية من البعثة وتنتهي بالعبور، وتبدأ الثالثة بالخروج وتنتهي بنهاية
حياته.
ويعتمد هذا التحديد في المراحل الثلاث على المقدار الذي تحدث القرآن الكريم
فيه عن حياة موسى (عليه السلام).
وتتمثل المرحلة الأولى من حياة موسى في دورين:
الأول: ينتهي بخروجه من مصر خائفا.
الثاني: هو الذي ينتهي برؤيته النار عند بعثته.
وحين نلاحظ الظواهر العامة في هذين الدورين يبرز لنا موسى في شخصيته

(1) تراجع " قصص الأنبياء " لعبد الوهاب النجار بصدد الاحداث التي وقعت لموسى مع
قومه بني إسرائيل، وان كنا قد لا نتفق معه في بعض الخصوصيات التي يسردها.
420

ذلك الانسان الذي يريد الله سبحانه أن يعده لأعباء مهمة تخليص بني إسرائيل
من الظلم الاجتماعي الذي حاق بهم وتخليص شعب مصر من عبودية الأوثان
وهدايتهم لوحدانية الله سبحانه.
وتتلخص هذه الظواهر بميزات ثلاث لها دور كبير في شخصية الانسان القائد،
وهي كالتالي:
الأولى: المركز الاجتماعي الذي كان يتمتع به موسى دون بني إسرائيل نتيجة
لتبني العائلة المالكة في مصر تربيته ورعايته.
وهذا المركز الاجتماعي الفريد وان كان قد فقد تأثيره - إلى حد كبير - بعد
هروب موسى من مصر بسبب قتله الفرعوني، ولكننا يمكن أن نتصوره عاملا
مهما في اظهار موسى - في المجتمع بشكل عام والإسرائيلي بشكل خاص -
شخصية تتبنى قضية الدفاع عن بني إسرائيل وتعمل من أجلها.
ولعل ضياع هذا المركز الاجتماعي المهم بسبب قتل الفرعوني هو الذي يفسر لنا
نظرة موسى إلى قتل الفرعوني - نظرته - إلى ذنب يستحق الاستغفار والتوبة منه
إلى الله تعالى، حيث ضيع موسى بهذا العمل الارتجالي - الذي صدر منه بدوافع
نبيلة وصحيحة - فرصة ثمينة كان من الممكن استثمارها في سبيل استنقاذ الشعب
الإسرائيلي، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن موسى كان يتصف بالعلم
والحكمة في هذه المرحلة كما وصفه القرآن الكريم.
الثانية: الشعور الانساني والحس النبيل الذي كان يحس به موسى بوصفه
انسانا يتحلى بالأخلاق الكاملة، ويتمثل لنا هذا الخلق الانساني في ثلاثة مواقف
لموسى جاءت ضمن هذه المرحلة من حياته، وهي: قتله الفرعوني، ومحاولته
لضرب الفرعوني الاخر، وتبرعه بمعاونة ابنتي الشيخ الذي أصبح صهرا له بعد
ذلك وما يشعر به وصف ابنة الشيخ له بأنه قوي أمين.
421

فان هذه المواقف تعبر عن المحتوى الداخلي والشعور الانساني الذي كان
يعيشه موسى (عليه السلام)، فهو يبادر لنجدة المظلوم بالرغم من تربيته في البيت الفرعوني
المالك، هذه التربية التي كان من الممكن أن تعطيه الشعور بالتميز الطبقي الذي
يختلف عن عمله الانساني هذا، ثم لا يكتفي بأن يرتكب ذلك مصادفة بل يندفع
ليقوم بنفس العمل حين يجد من يستصرخه إليه مع شعوره بحراجة موقفه
الاجتماعي نتيجة لهذا العمل.
وفي موقفه من ابنتي الشيخ نجد موسى تدفعه ذاته الخيرة النبيلة للسؤال عن
تلكئهما في السقاية ويعرض المعاونة عليهما في حالة الحاجة إليها، ونجده يخف إلى
تنفيذ ذلك دون أن ينتظر منهما أجرا أو مثوبة مادية، على الرغم من ظروفه
الموضوعية الخاصة الصعبة.
الثالثة: القوة البدنية والشجاعة التي كان يتمتع بها موسى، ويكشف لنا عن
ذلك موقفه من الفرعوني وقضاؤه عليه بوكزة واحدة، والالتزام الذي أخذه على
نفسه بأن لا يكون ظهيرا للمجرمين حتى بعد قتله الفرعوني الأول وشعوره
بحراجة موقفه، ووصف ابنة الشيخ له بأنه (قوي)، خصوصا إذا أخذنا بالتفسير
الذي يقول: إن موسى حين سقى لابنتي الشيخ طرد السقاة عن البئر من أجل أن
يعجل بالسقاية لهما.
وهذه الميزات الثلاث تحقق شروطا ضرورية لحمل أعباء الرسالة التي أراد الله
سبحانه لنبيه موسى القيام بها، ولعل في الامداد الإلهي في قصة مولده ونجاته من
الذبح عاملا جديدا في خلق الأجواء النفسية والاجتماعية والروحية والظروف
المناسبة لتأهيل هذا الانسان لقيادة شعبه المضطهد.
وتمثل المرحلة الثانية مسؤوليتين:
إحداهما: هداية قوم فرعون إلى وحدانية الله والايمان بربوبيته.
422

والاخرى: دعوة بني إسرائيل للخلاص من الاضطهاد والظلم الذي كانوا
يعانونه في مصر.
وقد توسل موسى من أجل تحقيق هذين الهدفين البارزين في حياة دعوته
بأساليب مختلفة ومتعددة، كانت تبتدئ بالمناقشة الهادئة والكلام اللين والحجة
التي تعتمد على المنطق والعقل، وتنتهي بالعذاب والرجز الذي أنزله الله سبحانه
وتعالى عليهم في آيات عديدة.
كما أنه من جانب آخر كان يدعو بني إسرائيل إلى الاستعانة بالله والصبر على
المكاره ومواصلة الطريق من أجل الخلاص.
والقرآن الكريم وإن كان لا يتحدث عن المدة التي عاشها موسى من أجل
تحقيق ذلك، ولكن من الممكن أن نتبين أن هذه المدة كانت طويلة نسبيا، خصوصا
إذا لاحظنا الآيات القرآنية التي تشير إلى المعجزات التي جاءت على يد موسى
وأنها كانت في سنين متعددة.
كما يؤيد ذلك أيضا أمر الله سبحانه لموسى بأن يتخذ بيوتا مع قومه ويجعلها
قبلة تنطلق منها الدعوة.
ويبدو أن موسى لم يصل إلى نتيجة واضحة بصدد تحقيق الهدف الأول مع
فرعون وقومه، لذا قرر الهجرة ببني إسرائيل والعبور بهم إلى الجانب الاخر من
البحر.
ولا يشير القرآن بشكل قاطع إلى أن هذه الحركة في بدايتها كانت برضا فرعون
بعد أن شاهد هذه المعجزات وآيات العذاب، أو أنها كانت بدون رضاه، ولكن قد
يكون في قصة مطاردة فرعون بجنوده لموسى وبني إسرائيل دلالة على أن الحركة
كانت رغما على فرعون وبدون رضاه.
ونحن يمكن ان نلاحظ في هذه المرحلة أمورا ثلاثة:
423

الأول: أن بني إسرائيل كانوا يلتفون حول موسى دون أن يكون هناك خلاف
في صفوفهم أو دون أن يبرز هذا الخلاف إلى السطح الاجتماعي، والقرآن وان كان
لا يصرح بشئ من ذلك، ولكن تدعونا إلى هذا الحكم طبيعة الأشياء، حيث كان
الإسرائيليون بالأصل أهل كتاب ونبوات، كما أنهم كانوا يتعرضون لاشد ألوان
العذاب، وبذلك هم ينشدون الخلاص. إضافة إلى سكوت القرآن عن ابراز أي
خلاف بين بني إسرائيل وبين موسى في هذه المرحلة، واستجابة بني إسرائيل إلى
متابعة موسى في هذه الهجرة من مصر. نعم يشير القرآن إلى نقطتين قد يفهم
الخلاف منهما، هما: قلة الاشخاص الذين آمنوا بموسى من قومه، واعتراضهم
عليه بنزول الأذى، فيهم قبل موسى وبعده.
الثاني: أن موسى كان يعمل بوسائل شتى من اجل انجاح دعوته، فكان
يتوصل إلى ذلك بالمناقشات الهادئة مرة وبالمعاجز والآيات ذات الطابع
الانتقامي الشديد ثانية، وبالصبر والصمود والانتظار ثالثة.
وقد توصل نتيجة لذلك إلى تحقيق بعض أهدافه، حيث نجد الدعوة تحقق
نجاحا في صفوف بعض الفرعونيين أيضا كايمان السحرة له ووجود ظاهرة مؤمن
آل فرعون وايمان زوجة فرعون.
الثالث: أن موسى كان يعتمد للحماية من الغضب والانتقام الفرعوني على
جهات متعددة يمكن ان نلحظ منها التفاف بني إسرائيل حوله وهم يمثلون أمة
كبيرة من الناس وان كانت مضطهدة، ومركزه الاجتماعي السابق في البيت
الفرعوني المتميز، واستجابة بعض الفرعونيين لدعوته وخصوصا زوجة فرعون،
ولعل موقف مؤمن آل فرعون من الائتمار بموسى لقتله يشير إلى العنصر الأخير
من الحماية، وكذلك قبول فرعون بالدخول معه في مناقشة ومباراة تمثل العنصر
الثاني، إضافة إلى قضية الآيات والمعاجز وايمان السحرة به.
424

وتمثل المرحلة الثالثة: جانب استقلال الجماعة والحكم وما يستتبعه من
مضاعفات وخلافات، ذلك لان الدعوة في مرحلتها الأولى تعمل من أجل تحقيق
أهداف عامة وترفع شعارات معينة، وفي هذه الاهداف والشعارات قد تلتقي
آمال الشعب كله وتتجمع تدريجا، وأما حين يأتي دور تحديد هذه الاهداف في
صيغ معينة وطريقة خاصة، وتطبيق هذه الشعارات في نهج وأسلوب خاص
وتجسيدها عمليا فقد نجد بعض الأعضاء في المجموعة لا يلتقي مع هذا التحديد
والتطبيق في مصالحه الخاصة أو أفكاره وعقليته الاجتماعية، بل قد تتعارض
المصالح الخاصة أو المنافع التي يحصل عليها الانسان في مسيرة عمله أو المواقع التي
ينتهي إليها مع هذه الاهداف والشعارات، حيث إن الاهداف والشعارات الإلهية
الرسالية تنطلق من المبادئ ومتبنيات الفطرة الانسانية التي أودعها الله تعالى في
الانسان وهي في البداية لا تبدو أنها متناقضة مع رغبات الانسان وميوله، بل هي
محبوبة وحسنة في نظر الانسان خصوصا المظلومين من الناس. وأما في دور
التطبيق والتجسيد حيث تتحول هذه المبادئ إلى واقع خارجي وحدود وقيود
لهذه الحركة أو ذلك الموقف أو لتلك المصلحة، فعندئذ تتناقض مع الهوى
والشهوات والطموحات الذاتية للانسان.
ولذلك نجد في هذه المرحلة بوادر الخلاف تبدو في الشعب الإسرائيلي، وتطفو
على السطح اتجاهات شتى: فكرية ومصلحية ونفسية و... حتى إنها تتحول
أحيانا إلى المروق عن الدين أو إلى التمرد على الجماعة والنظام.
ففي جانب الفكر والعقيدة مثلا نجد تأثيرات المجتمع الوثني على الإسرائيليين
تظهر بشكل واضح، حيث يطلبون من موسى - عندما مروا على جماعة يعبدون
الأوثان - أن يتخد لهم أصناما وآلهة كما لهؤلاء القوم آلهة، مع أن الإسرائيليين
بالأصل هم ذرية إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين حملوا رسالة التوحيد ورفضوا
425

الوثنية والأصنام، كما تبرز هذه الرواسب والمخلفات مرة أخرى عندما اتخذوا
العجل إلها لمجرد أنهم رأوا فيه ظاهرة غير طبيعية، وفي موقفهم في الميقات عند
الاستغفار أيضا حينما طلبوا أن يروا الله جهرة.
وفي جانب المصالح نجد موقف قارون وجماعته وايذاءهم موسى وتمردهم على
أوامره وغير ذلك من الإشارات القرآنية التي تشير إلى عوامل النفاق
والمعارضة.
وفي جانب الواقع الروحي والنفسي تشير قصة الدخول إلى الأرض المقدسة
وغيرها من الإشارات القرآنية إلى رواسب الضعف والاستخذاء والخوف.
فالميزة الرئيسة لهذه المرحلة هي ظهور هذه الخلافات المتعددة ومعاناة النبي
موسى منها على اختلاف اتجاهاتها ودوافعها، وهذه الظواهر هي من مستلزمات
المجتمع الذي تتحكم فيه عقيدة جديدة ونظام جديد.
ونجد موسى في كل هذه الخلافات مثال القائد الحكيم والنبي العطوف الذي
يأخذ قومه بالشدة في مروقهم عن الدين كما في قضية العجل، وباللين في جوانب
أخرى فيدعو الله سبحانه لهم بالرحمة والمغفرة كما في قضية الميقات.
الثاني: موضوعات القصة:
وبصدد الجانب الثاني من دراسة القصة: نجد القصة تحدثت عن ستة
موضوعات رئيسة، وهي كالتالي:
1 - بعثة موسى ومعاجزه.
2 - أساليب الدعوة وأدلتها.
3 - مواجهة الكافرين له من فرعون واتباعه.
4 - التحريفية في العبادة.
5 - الحياة الشخصية لموسى.
426

6 - الأوضاع العامة للشعب الإسرائيلي.
وقد جاءت هذه الموضوعات الرئيسة المتعددة في مواضع من القرآن مختلفة
ومتفرقة، ويجدر بنا أن نشير إلى الاهداف العامة التي توخاها القرآن الكريم من
وراء الإشارة أو تأكيد هذه الموضوعات مع بيان المهم منها.
1 - بعثة موسى ومعاجزه:
لا شك أن من الاهداف الرئيسة التي تواخاها القرآن الكريم هو ربط الانسان
بعالم الغيب وتأكيد ايمانه وتوجيه فطرته الأصيلة التي فطره الله تعالى على الايمان
به وجهة صحيحة، لان الانسان بدأ من الغيب وينتهي بعالم الآخرة الذي هو غيب
ويبقى مرتبطا ومتفاعلا من الناحية الواقعية مع الغيب في كل أدوار حياته
وشؤونها. ومن أجل هذا الهدف الرئيس نجد القرآن يتحدث في مواضع كثيرة عن
عالم الغيب وجوانبه المتعددة وبعض القوانين العامة التي تتحكم فيه، والعلاقات
التي تسوده، إضافة إلى طرحه مفاهيم معينة عن هذا العالم قد لا يكون لها أثر كبير
في حياته الدنيوية غير هذا الربط الذي يهدف إليه القرآن الكريم، كما عرفنا ذلك
في طرح مفاهيم اللوح والقلم والكرسي والعرش عندما تناولنا تفسير المعنى.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نرى أن هذا الهدف مما استهدفه القران من قصة
موسى.
ولعل في هذا ما يبرر الاهتمام القرآني في تكرار هذا الموضوع واعطاء
تفصيلات كثيرة عنه في القصة، وإذا أردنا أن نقارن بين الآيات التي جاءت
تتحدث عن هذا الموضوع والآيات التي تحدثت عن بقية الموضوعات الأخرى
في القصة لوجدنا هذا الموضوع يكاد يطغى على بقية الموضوعات، من حيث ما
ذكر فيه من تفصيلات.
فقد وجدنا أن هذا الموضوع يشار إليه في مواطن عديدة منها: كيفية البعثة،
427

وفي معجزة العصا واليد، وفي توالى الآيات على الفرعونيين من الدم والجراد
والقمل والطوفان ونقص السنين، وفي انفلاق البحر لبني إسرائيل، وفي موت
الاشخاص الذين اختارهم موسى لميقات ربه ثم بعثهم، وفي قضية قارون
وخسف الأرض به، وفي نتق الجبل وغيرها من الآيات الأخرى، وتكاد قصة
موسى تستوعب هذه الأمور أكثر من غيرها.
وإضافة إلى هذا الهدف القرآني العام لاحظنا في دراستنا السابقة أهدافا ثانوية
فرضها السياق القرآني، وكان من أهمها:
ايضاح فكرة أن صدود الكافرين عن الدعوة وعدم انخراطهم فيها لم يكن
نتيجة سبب موضوعي مرتبط بالدعوة نفسها أو شخصية النبي، وإنما يكون بسبب
الظروف النفسية والاجتماعية التي يعيشها الكافرون أنفسهم، حيث تتحول
المواقف السلبية اليومية من خلال الصراع، أو العادات والتقاليد الموروثة، أو
الانحرافات الجزئية، إلى حالة نفسية تغلف القلب والعقل، وتختم عليه فيصبح
الجحود هو الموقف العام دون أن يستخدم الانسان عقله أو فطرته.
وبذلك يكون ايضاح هذا القانون الاجتماعي له تأثير كبير على فهم المواجهة
بين المسلمين والكافرين أيام النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وما بعدها.
كما أن الإشارة إلى تفاصيل الآيات بشكل خاص في عصر موسى وغيره يبين
بوضوح المبرر لعدم مجئ الآيات في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما أشار القرآن الكريم
إلى ذلك، حيث يصبح من الواضح أن الأنبياء السابقين بالرغم من أنهم جاؤوا
بالآيات ولكنهم لم يتمكنوا من خلالها أن يكسروا هذا الحاجز النفسي والقلبي،
وأن هذه الآيات انما جاءت للعذاب والانتقام.
2 - أساليب الدعوة وأدلتها:
لا شك أن العقيدة في الدعوة الإلهية تمثل جانبين:
428

الجانب الإلهي فيها وهو الايمان بوجود الله تعالى ووحدانيته وصفاته، وهذا
جانب يمكن أن يعتمد في معرفته على العقل والدليل والبرهان.
والجانب الاخر الذي يعبر عن ارتباط الداعية (الرسول) بالله سبحانه
وصدوره عن أمره تعالى، وهذا الجانب قد لا يمكن اثباته مبدئيا إلا عن طريق
المعجزة (1)، فالمعجزة تعبير عن الاستجابة إلى الحاجة في هذا الجانب من الدعوة
- كما شرحنا ذلك في بحث المعجزة - بخلاف الجانب الأول الذي يمكن فيه الاعتماد
على أسلوب الأدلة والبراهين المنطقية والوجدانية.
وعلى هذا الأساس أيضا لم يترك الأنبياء هذه الأدلة المنطقية والوجدانية في
مخاطبتهم للناس بالدعوة إلى الله وتوحيد الاله، ولم يكتفوا بالاتيان بالمعجزات
على أساس أنها الدليل الوحيد لاثبات ذلك وإن كنا لا ننكر ما للمعجزة من تأثير
كبير في الجانب الأول من العقيدة أيضا.
وفي قصة موسى نجد في الموضوعات التي تحدثت عنها القصة هذه الأساليب
والأدلة وأكدتها في مواضع عديدة، حيث تناولت بعض الأدلة والبراهين التي
اعتمدها موسى في مخاطبة فرعون إضافة إلى المعجزات.
بل نجد أن هذه المخاطبة (مخاطبة العقل والوجدان) جاءت قبل أن يستند
موسى إلى دليل آخر من الآيات والمعجزات لان التسلسل المنطقي للتفكير
والانفعال كان يفرض ذلك، فان النبي يخاطب العقل والوجدان في بداية الامر، ثم
يعمل بعد ذلك على كسر الحواجز النفسية والروحية التي تمنع العقل والوجدان من
الادراك والفهم.

(1) قد يكون اخبار النبي وهو انسان عاقل وموثوق، وعلى مستوى عال من الكمال كافيا
في تصديقه والايمان به، ولكن هذا الامر لا يمكن أن يكون عاما، لأنه قد يكون في
موضع الاتهام ولذا احتاج الأنبياء إلى المعجزة.
429

كما نجد موسى في هذه المخاطبة يتبع الأساليب المختلفة التي كانت تتصف باللين
والرفق تنفيذا لأمر ربه، فكان يتوسل إلى فرعون أحيانا، ويذكره بآيات الله
أحيانا أخرى، كما قد يشير إلى عذاب الآخرة وعاقبة الاصرار على الكفر
والطغيان، كل ذلك من أجل أن يحقق النبي غاياته التي يرمي إليها وهي هداية
الناس إلى الله سبحانه.
ويهدف القرآن الكريم من تناول هذا الموضوع في القصة وغيرها إلى هدف
من أهدافه الرئيسة وهو تأكيد أن مسألة الايمان بالله سبحانه ليست مسألة غريبة
في حياة الانسان، غرابة المعاجز والآيات، وانما هي شئ فطري ينبع من ذات
الانسان ويهديه إليها عقله وحسه ووجد انه، ولذلك اعتمد الأنبياء مخاطبة الناس
عن هذا الطريق قبل أن يخاطبوهم عن طريق المعجزة والآية.
كما أنه يهدف أيضا إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله) حين يدعو الناس إلى الله لا يكتفي
بطرح الفكرة فحسب، ويطلب منهم الايمان المقلد الساذج نتيجة لوجود المعجزة،
وانما يحاول أن يصل إليهم ويتوسل إلى ايمانهم عن طريق الدليل والبرهان العقلي
والمخاطبة الوجدانية.
وإضافة إلى الأدلة والبراهين نجد في القصة إشارات إلى عدة قضايا مهمة
ترتبط بالدعوة ونجاحها:
الأولى: قضية الصبر والصمود والأمل بالمستقبل والثقة بالله والتوكل عليه.
الثانية: قضية الطاعة للقيادة والنظم في العمل.
الثالثة: الاطلاع على موقف الأعداء وحركتهم، كما يظهر ذلك في قضية مؤمن
آل فرعون ومجئ الرجل من أقصى المدينة.
3 - مواجهة الكافرين والمنافقين:
يعطينا القرآن الكريم صورا وألوانا من المواجهة التي تحصل بين النبي وجماعته
430

من جانب، والكافرين بدعوته أو أولئك المنافقين المتظاهرين بقبولها، ولكنهم
يعادونها في مواقفهم وأعمالهم من جانب آخر.
وتتخذ هذه المواجهة صورا وألوانا مختلفة متفاوتة على اختلاف مدى نجاح
النبي في الدعوة، وسعة أهدافه، ومقدار معارضته للمفاهيم الاجتماعية السائدة.
وتكاد تكون هذه المواجهة شيئا طبيعيا نتيجة الصراع الذي يدور بين الفكرة
الجديدة وأنصارها والفكرة السائدة في المجتمع وحماتها.
والقرآن الكريم حين يعرض هذا الموضوع في قصة موسى يريد أن يؤكد هذا
المفهوم الاجتماعي والسنة التأريخية في الصراع، وأن هذه المعارضة التي حصلت
للنبي (صلى الله عليه وآله) ليست بدعا في التأريخ، وانما هي النتيجة الطبيعية للصراع الفكري
والسياسي، كما اننا نجد في هذا العرض للموضوع في القصة ايضاحا للأعباء التي
يتحملها النبي في سبيل الدعوة، وأنها ليست أعباء عادية يتمكن أي انسان من أن
يتحملها، وانما هي تحتاج إلى إرادة قوية وعزم شديد وتصميم عميق الجذور على
السير في خط الدعوة حتى في أشد الظروف الموضوعية قسوة وأبعدها ملائمة،
ويتعرض فيها الرسول إلى ألوان من العذاب النفسي والجسدي والاخطار التي
ترتبط بحياته وسمعته وشخصيته، بل قد ينتهي الامر بأن يتعرض النبي إلى القتل
والاغتيال نتيجة لذلك.
وهذه الآلام قد تكون بسبب الموقف الخارجي للأعداء الظاهرين العلنيين،
وقد تكون من مرضى القلوب والنفوس أو ضعفاء الايمان والبسطاء والجهال من
الناس.
وحين يشير القرآن إلى ألوان المواجهة وأساليبها في هذه القصة نجد أنفسنا أمام
الواقع الاجتماعي الذي كان يواجه به النبي (صلى الله عليه وآله) في دعوته وأمام الأساليب
431

والألوان نفسها، فكأن قصة موسى (عليه السلام) انما هي تعبير عن مسيرة دعوة النبي
وآلامه، ولعل هذا هو الذي يفسر لنا مجئ قصة موسى بهذا القدر من التفصيل في
القرآن الكريم.
4 - الجانب التحريفي في العبادة:
من الموضوعات المهمة التي تعرضت لها القصة هو الجانب التحريفي في العبادة،
فان بني إسرائيل وغيرهم - كما يبدو من انقيادهم لموسى - آمنوا به وبدعوته،
ولكن هذا الايمان بالشعارات العامة التي كان يرفعها موسى لا يعني أنهم كانوا
يعرفون محتواها الأصيل بأدق معانيه، الامر الذي لو حصل كان من الممكن أن
يصدهم عن الانسياق وراء أفكار وثنية أخرى، لذلك نجدهم وهم قد خلصوا من
عذاب فرعون ومطاردته تطفو على أفكارهم ومشاعرهم الكثير من الرواسب
الوثنية ذات المدلول المنحرف، هذه الرواسب التي كانوا قد تأثروا بها في المجتمع
الفرعوني الذي كانوا يعيشون فيه.
وهي حين تطفو على السطح لا يعني أنهم كانوا قد تنازلوا عن شعاراتهم
السابقة ومدلولاتها أو تخلوا عن عقيدة التوحيد، وانما يعني ذلك أنهم كانوا
يفهمون مدلول الشعارات بالشكل الذي ينسجم مع هذا العمل المنحرف، فالعجل
في نظرهم هو تجسيد للاله الذي دعا إليه موسى، والأصنام هي الوسائط المادية
للتعبير عن العبادة للاله الذي دعا إليه موسى... وهكذا.
ولعل القرآن الكريم يهدف في هذه الإشارة إلى ناحيتين:
الأولى: مناقشة أفكار الجاهليين المعاصرين لنزول القرآن، حين كانوا
يقولون في أصنامهم ويعللون عبادتهم لها: بأنهم اتخذوها واسطة وزلفى إلى الله.
الثانية: أن الانسان حين يؤمن بالرسول ويحظى بصحبته ويستمع إليه لا يعني
انه قد تجرد دفعة واحدة عن جميع محتوياته الداخلية، وقضى على كل الرواسب
432

التي لا تلتقي في واقعها مع أصالة الرسالة والدعوة التي يدعو إليها الرسول، وانما
غاية ما يدل عليه ذلك هو الايمان بالمدلول الحرفي للشعار مما أشار إليه القرآن في
بعض الموارد حين ميز بين ادعاء الاسلام والايمان:
(قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في
قلوبكم...) (1).
وهذه المظاهر من أخطر الظواهر التي واجهت الأديان الإلهية حيث تعرضت
للتحريف في العبادة والعلاقة مع الله تعالى مع الاحتفاظ بنفس المفاهيم
والشعارات الأصلية، ووجد المحرفون دائما المسوغات والذرائع والعناوين التي
يوجهون فيها هذه الانحرافات.
ومن أجل ذلك تبنى الاسلام مبدأ التوقيفية في العبادة والتزم بأنها منهج معين
يضعه الله سبحانه للانسان ليصوغ به غريزة التدين واحساسه بالدين، ويحدد فيه
شكل العلاقة بالله تعالى وصيغتها، ولا يصح للانسان أن يتصرف في هذا الامر
بحسب ميوله أو اجتهاده للتعبير عن هذه العلاقة، والسر في ذلك كله هو أن طبيعة
هذه العلاقة بين الله تعالى والانسان إنما هي علاقة غيبية، لان طرفها الاخر هو الله
تعالى ولا يمكن للانسان - وهو موجود مادي - أن يدرك الطريق الذي يوصله
للتقرب إلى الله تعالى بنفسه، فلا بد له من أجل تحقيق ذلك أن يشخص الله تعالى
هذا الطريق، فقد يكون ما يتصوره الانسان مقربا إلى الله مبعدا عنه، كما جاء ذلك
في بعض النصوص التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام).
5 - الحياة الشخصية لموسى:
لقد تناولت الموضوعات السابقة من قصة موسى بعض التفاصيل عن الحياة
والسيرة الشخصية لموسى خصوصا الوقت الذي سبق بعثته (عليه السلام).

(1) الحجرات: 14.
433

ولعل القرآن الكريم استهدف من وراء عرض هذا الموضوع في قصة موسى
هدفين:
الأول: ما أشرنا إليه سابقا في تحليلنا مقاطع القصة من سورة القصص من أن
هذه التفصيلات قد تدل على جانب من اعجاز القرآن، حيث يدل الاطلاع عليها
على مدلول يختلف عن مدلول الاطلاع على أحوال موسى (الرسول) لان أحوال
موسى (الرسول) كانت تتحرك في المجتمع العام، وبذلك تكون معروفة بشكل
طبيعي ويتناقلها التأريخ، على خلاف أحوال موسى (الرسول) قبل البعثة،
خصوصا إذا كانت هذه التفاصيل مما ينفرد به القرآن الكريم عن الكتب السماوية
الأخرى.
الثاني: ما أشرنا إليه في بحث مراحل الدعوة من أن هذا الجانب يبرز لنا موسى
في صورة الانسان الذي قد أعده الله تعالى للقيام بأعباء الرسالة، وانه يتمكن بما
يتمتع به من خلق وعاطفة وجرأة ومكانة على تحمل أعباء الدعوة.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك أيضا أن من خلال تعرف حياة موسى الشخصية
سوف تتكشف لنا بعض الأوضاع الاجتماعية السائدة حينذاك في المجتمع
الفرعوني، ومستوى الظلم الذي كان يعاني منه الإسرائيليون واستسلامهم لهذا
الواقع المرير، وما أنعم الله به سبحانه على بني إسرائيل عامة وموسى بشكل
خاص.
6 - الأوضاع العامة للشعب الإسرائيلي:
لقد تناول القرآن الكريم بعض الأوضاع والصفات العامة للشعب الإسرائيلي،
وأشرنا إلى بعضها عند دراستنا للمرحلة الثالثة من دعوة موسى، ويمكن أن
نلخص ما تكشف عنه هذه الأوضاع والصفات التي تناولها القرآن في: أن الشعب
الإسرائيلي كان يتصف بازدواجية مريعة نتيجة لمختلف الظروف التأريخية
434

والاجتماعية التي مر بها، والتي تراكمت آثارها المتنوعة والعميقة في سلوكه
الاجتماعي ومحتواه النفسي والروحي.
وكانت تتمثل هذه الازدواجية في الشعور بالعظمة والامتياز والقربى من الله
بوحي من تأريخه المجيد الذي عاشه آباؤه وأجداده، كتأريخ النبوات والمقام
الاجتماعي المتميز الذي كان ليوسف (عليه السلام) وانقاذه للمجتمع من الكوارث الطبيعية،
والتخطيط الاقتصادي الرائع الذي قام به، في الوقت الذي قاسى هذا الشعب
حياة طويلة من الاضطهاد والاستعباد ورزح في ظل مستلزماتها من جهل وفقر
وانحطاط خلقي ونفسي واجتماعي.
ولعل هذه الازدواجية هي التي تفسر لنا تململ الإسرائيليين وعدم تحملهم
لأعباء الرسالة وعملية الخلاص والانقاذ من ناحية، وتمادي الإسرائيليين في
الطلبات وكثرة تمنياتهم على موسى وعدم استجابتهم للخط الذي رسمه لهم
لانقاذهم من ناحية أخرى، على ما يتمتع به موسى من مكانة عظيمة عندهم لأنه
كان مخلصهم ومنقذهم من الظلم الفرعوني.
وقد استهدف القرآن من وراء اعطاء هذه الصورة للشعب الإسرائيلي تسليط
الأضواء على واقع اليهود الذين كانوا يعايشون المسلمين، وكان ينظر إليهم قبل
ظهور الاسلام على أنهم أهل الكتاب والمعرفة بالأديان وبكل ما يتصل بعالم
الغيب، وحيث تتكشف هذه الصورة الواقعية لهذا الشعب (الازدواجية) وتتضح
معالمها فسوف يظهر للمسلمين مدى امكان الاعتماد عليهم وعلى نظرتهم للأشياء،
ويتضح تفسير موقفهم من الرسالة والنبي (صلى الله عليه وآله).
كما يمكن أن نلاحظ أيضا مدى الأثر الذي تركته سنوات الاضطهاد والظلم
على الأوضاع النفسية والروحية للإسرائيليين، والشعور بالضعف والحذر، ومعاناة
موسى (عليه السلام) في محاولة التغلب على ذلك. حيث يظهر هذا الامر بشكل واضح في
435

قضية دعوة موسى قومه للدخول إلى الأرض المقدسة التي كانت هدفهم وأملهم،
خصوصا أن هذه الدعوة جاءت بعد الانتصارات العظيمة التي حققها لهم موسى
والاستقلال والعزة والكرامة الانسانية، ومع ذلك رفضوا هذه الدعوة بسبب
الخوف.
ويبدو هذا الامر واضحا - بالمقارنة - مع دعوة النبي للمسلمين إلى قتال الروم
في معركة " تبوك " حيث استجاب عامة المسلمين لذلك باستثناء نفر منهم كانوا
يشعرون بهذا اللون من الخوف والضعف.
436

فواتح السور (1)
من الموضوعات القرآنية التي تناولها الباحثون هو فواتح السور، ونعني بفواتح
السور هذه الحروف المقطعة الموجودة في فاتحة بعض السور القرآنية، وتزداد
أهمية هذا الموضوع عندما نلاحظ ما أثير حوله من مشاكل وشبهات قد تؤدي
إلى الشبهة في القرآن الكريم نفسه. وسوف يعالج هذا البحث تفسير هذه الظاهرة
في القرآن الكريم، ومن خلال ذلك نعرف الجواب الاجمالي على الشبهات التي
أثيرت حول هذا الموضوع، ونترك معالجة الشبهات حولها تفصيلا إلى بحث
قرآني آخر.
وقد جاءت هذه الحروف المقطعة في سور متعددة من القرآن وعلى أشكال
مختلفة:
منها ما هو ذو حرف واحد مثل: (ص والقرآن ذي الذكر) و (ق والقرآن
المجيد) و (ن والقلم وما يسطرون).
ومنها ما هو ذو حرفين مثل: (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) و (يس *
والقرآن الحكيم) و (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم).
ومنها ما هو ذو ثلاثة حروف أو أكثر مثل (ألم) و (المص) و (المر...)

(1) يراجع في هذا البحث: التبيان 1: 47 - 51، والكشاف 1: 21 - 25، والتفسير الكبير
2: 802، وابن كثير 1: 64 - 69، والمنار 1: 122 - 123، ومناهل العرفان 1: 219 -
220، وتفسير القرآن لشلتوت 35: 64.
437

و (كهيعص) و (حم * عسق) (1)...
وحين نأتي لمعالجة هذه الظاهرة في القرآن الكريم لا نجد العرب قد عرفوا
الأسلوب عند افتتاح كلامهم، كما اننا لا نجد لهذه الحروف معنى بإزائها غير
مسمياتها من الحروف الهجائية.
ولم يؤثر عن الرسول (صلى الله عليه وآله) شئ صحيح في تفسير هذه الحروف بل يكاد لا
يؤثر عنه شئ في ذلك مطلقا - إلا النزر القليل - ليكون هو القول الفصل فيها،
ولعل هذا هو السبب في تعدد آراء العلماء واختلاف وجهات النظر فيما بينهم بصدد
تفسير هذه الحروف الامر الذي زاد من غموض هذه الظاهرة.
وهناك اتجاهان رئيسان في تفسير هذه الحروف:
الاتجاه الأول: هو الذي يرى أن هذه الحروف من الأشياء التي استأثر الله
سبحانه بعلمها، ولذا فليس من الممكن لاحد أن يصل إلى معرفة المراد منها،
ويؤيد هذا الاتجاه ما روي عن عدد من الصحابة والتابعين من أن الفواتح سر
القرآن وأنها سر الله فلا تطلبوه، وذهب إليه كثير من العلماء والمحققين، كما جاء
ذلك أيضا في بعض الروايات عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) (2).
والاتجاه الثاني: هو الذي يرى أنه ليس في القرآن الكريم شئ غير مفهوم
لنا أو غير معروف لدى العلماء والمحققين، وذلك انطلاقا من حقيقة أن الله
سبحانه وتعالى وصف القرآن الكريم بصفات متعددة لا تتفق مع هذا الخفاء
والاستتار، فهو جاء (بلسان عربي مبين) (3)، كما أنه نزل (... تبيانا لكل

(1) في السور الآتية على الترتيب: ص: 1، ق: 1، القلم: 1، طه: 1 - 2، يس: 1 - 2،
الجاثية: 1 - 2، البقرة: 1، الأعراف: 1، الرعد: 1، مريم: 1، الشورى: 1 - 2.
(2) التبيان 1: 48، مجمع البيان 1: 32.
(3) الشعراء: 195.
438

شئ...) (1) وهدى للناس وغير ذلك، وحين يكون القرآن بهذه الصفة لا يمكن
إلا أن يكون مفهوما للناس وواضحا لهم. وقد نسب هذا الاتجاه إلى المتكلمين من
علماء الاسلام (2).
وعلى أساس هذا الاتجاه نجد كثيرا من العلماء يحاولون تفسير هذه الحروف
المقطعة، الامر الذي استلزم تعدد مذاهبهم في ذلك، وقد ذكر الشيخ الطوسي
مذاهب مختلفة في تفسير هذه الحروف، وعد منها الفخر الرازي واحدا وعشرين
تفسيرا، وسوف نقتصر على ذكر المهم منها، إضافة إلى أن بعضها يمكن إرجاعه
إلى بعض الاخر.
مذاهب تفسير فواتح السور:
المذهب الأول: ما نسب إلى ابن عباس من أن هذه الحروف ترمز إلى بعض
أسماء الله وصفاته وأفعاله، فقد روي عنه في (ألم): " أنا الله أعلم "، وفي
(المر): " أنا الله أعلم وأرى " (3) إلى غير ذلك. ويؤيده ما روي عن معاوية بن
قرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) من أنها حروف من أسماء الله (4).
الثاني: أنها أسماء للقرآن الكريم كالكتاب والفرقان والذكر، والى هذا المذهب
صار جماعة من التابعين كقتادة ومجاهد وابن جريج والكلبي والسدي (5).
ويناقش هذان المذهبان بأنهما لا يستندان إلى دليل علمي أو قرينة معتمدة،

(1) النحل: 89.
(2) التفسير الكبير 2: 3، وقد فصلنا هذا الموضوع في بحث التفسير.
(3) المصدر السابق: 6.
(4) التبيان 1: 51.
(5) التفسير الكبير 2: 6، والتبيان 1: 47.
439

وانما هما من الرجم بالغيب فلا مناسبات الظروف الموضوعية، ولا مناسبات
الكلام اللغوية هي التي تشير إلى هذا المعنى، وحالهما حال كل تفسير أو فرضية
أخرى يمكن أن تذكر في هذا المجال، شريطة أن لا تتنافى مع بديهيات العقيدة
القرآنية.
الثالث: أن هذه الحروف مقتطعة من أسماء لها دلالة معينة بحسب الواقع، وهي
مجهولة لنا معلومة للنبي (صلى الله عليه وآله)، ويؤيد ذلك أن هذه الطريقة كانت معروفة لدى
بعض العرب في مخاطباتهم وأحاديثهم، وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن
مسعود وجماعة من الصحابة (1).
كما أن ما ذهب إليه الطبري وروي عن ابن أنس يكاد يتفق مع هذا
المذهب أيضا، وهذا المذهب قريب إلى المذهب الأول الذي روي عن ابن عباس
أيضا.
ويمكن ان يناقش هذا المذهب بنفس مناقشتنا للمذهبين السابقين.
الرابع: انها أسماء للسور التي جاءت فيها، ف‍ (ألم) اسم لسورة البقرة
و (كهيعص) اسم لسورة مريم و (ن) اسم لسورة القلم وهكذا...
وقد أختار هذا الرأي أكثر المتكلمين وجماعة من اللغويين (2) واستحسنه الشيخ
الطوسي كما رجحه الطبرسي ودافعا عنه بعد أن أوردا عليه بعض الشبهات (3) كما
اختاره أيضا الشيخ محمد عبده (4).
وتحمس الفخر الرازي في تأييده وأطنب في بيان الشبهات التي أوردوها عليه

(1) التبيان 1: 47 - 48.
(2) التفسير الكبير 2: 5.
(3) التبيان 1: 49.
(4) المنار 1: 122.
440

ونقضها (1) وأهم ما اورد عليه الشبهتان التاليتان:
الشبهة الأولى:
أن الاسم انما يوضع للتمييز بين المسميات، وهذا لا يتفق مع تسمية عدة سور
باسم واحد كما حدث في البقرة وآل عمران، فأنه ورد في اولهما (ألم) وحدث في
السجدة وغافر وفصلت فأنه في اولها (حم).
الشبهة الثانية:
أن الاسم لا بد ان يكون غير المسمى في الوقت الذي قام الاجماع على أن هذه
الحروف جزء من السور التي جاءت فيها.
وقد أجاب الشيخ الطوسي عن الشبهة الأولى: بأنه لا مانع من تسمية عدة
أشياء باسم واحد مع التمييز بينهما بعلامة مميزة، وقد وقع هذا في الاعلام الشخصية
كثيرا.
كما أجاب عن الشبهة الثانية بأنه لا مانع من تسمية الشئ ببعض ما فيه، كما
حدث في تسمية سورة البقرة وآل عمران والأعراف من السور.
ولكن مع كل هذا - قد يلاحظ على هذا الرأي -: ان الحروف تقرأ مقطعة بذكر
أسمائها (ألف - لام - ميم) لا مسمياتها، وهذا لا يناسب أن تكون أسماء للسور،
وإلا لكانت قراءتها بمسمياتها كما هي مكتوبة، وهذه الكيفية من القراءة تناسب
أن تكون الحروف مقصودة في نفسها بالذكر لا أنها أسماء لأشياء أخرى وقد أشار
الزمخشري (2) إلى هذه الملاحظة ولكن بصياغة أخرى ثم ردها.
فقد قال الزمخشري: فان قلت فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف
أنفسها لا على صور أساميها؟

(1) التفسير الكبير 2: 8 - 11.
(2) الكشاف 1: 28.
441

قلت: لان الكلم لما كانت مركبة من ذوات الحروف، واستمرت العادة حتى
تهجيت، وحتى قيل للكاتب اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء وتقع في الكتابة
الحروف أنفسها عمل على تلك الشاكلة المألوفة في كتابة الفواتح (1).
وهذا الرد الذي ذكره الزمخشري يؤكد ملاحظتنا - بصيغتها الصحيحة - في أن
هذه الكيفية من النطق تعني أن الحروف هي المقصودة بذاتها لا أن المقصود
الإشارة إلى السورة المسماة بهذه الحروف، وإلا لنطقت الحروف بنفسها لا
بأسمائها، ولذا نرى صحة هذه الملاحظة بهذه الصيغة.
الخامس: أن هذه الحروف إنما جئ بها ليفتتح بها القرآن الكريم وليعلم بها
ابتداء السورة وانقضاء ما قبلها، وقد اختار هذا الرأي البلخي وروي عن مجاهد
أيضا، وذكر له الشيخ الطوسي بعض الأمثلة من استعمالات العرب (2)، ويؤيده
قول أحمد ابن يحيى بن ثعلب: إن العرب إذا استأنفت كلاما فمن شأنهم أن يأتوا
بشئ غير الكلام الذي يريدون استئنافه فيجعلونه تنبيها للمخاطبين على قطع
الكلام الأول واستئناف الكلام الجديد (3).
وقد يلاحظ على هذا الرأي بعدم شمول هذه الطريقة لجميع سور القرآن
الكريم، ويبقى الاختصاص حينئذ سرا نحتاج إلى ايضاحه والكشف عنه.
نعم قد يقال: إن هذه الطريقة انما كانت الحاجة إليها موجودة في السور الطوال
التي كانت تنزل تدريجيا وليس في جميع سور القرآن الكريم، حيث كان بعضها
ينزل دفعة واحدة، كما في السور القصار.
ولكن الملاحظة الأساسية الأخرى على هذا الرأي هي أن البسملة يمكن أن

(1) الكشاف 1: 28.
(2) التبيان 1: 47.
(3) التفسير الكبير 2: 7.
442

تقوم بهذا الدور في تمييز الانتهاء من السورة والشروع بالسورة الأخرى، حيث
وردت الأحاديث التي تؤكد ان البسملة كان لها دور تمييز انقضاء السورة من
ابتدائها (1).
السادس: أنها أسماء للحروف الهجائية المعروفة، وإنما جئ بها تنبيها للناس
على أن القرآن الكريم الذي عجزوا عن مباراته والاتيان بمثله ليس إلا مؤلفا من
هذه الحروف ومركبا منها، فلم يكن التحدي به لأنه يحتوي على مادة غريبة
عنهم وانما كان بشئ مركب من هذه الحروف التي يتكلمون ويتحادثون بها، وقد
عجز عن الاتيان بمثله أهل الفصاحة والبلاغة، وقد ذهب المبرد وجمع كبير من
المحققين إلى هذا المذهب (2).
وقد يناقش هذا المذهب بأن مجرد ذكر الحروف في أول السورة بهذا الشكل
المتقطع لا يكفي في ايضاح هذه الحقيقة، وقد لا يشعر الناس بذلك فلا يحقق حينئذ
القرآن هدفه من ذكرها، إلا إذا كانت القرائن الخارجية والحالية التي تحيط الكلام
لها دور في الافهام وتحقيق هذا الهدف، وهذا ما لا يمكن أن نعرفه من نفس هذه
الحروف.
وقد كان من الممكن أن يصل القرآن إلى ذلك عن طريق ايضاح الفكرة ببيان
قضية عامة تستوعب هذا المضمون وتشرحه، فالفكرة التي يتبناها هذا المذهب

(1) الدر المنثور 1: 7. أخرج أبو داود والبزار والطبراني والحاكم وصححه البيهقي في
المعرفة عن ابن عباس، قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) لا يعرف فصل السورة (يعني خاتمتها) حتى
تنزل (بسم الله الرحمن الرحيم) وزاد البزار والطبراني فإذا نزلت عرف أن السورة قد
ختمت واستقبلت أو ابتدأت سورة أخرى، إضافة إلى أحاديث أخرى لها مثل هذه
الدلالة.
(2) ن. م 2: 6.
443

وإن كانت صحيحة ولكنها تحتاج إلى ابراز القرائن الحالية التي كانت تؤدي دور
الافهام، كما سوف نشير إلى ذلك.
السابع: أن هذه الحروف انما جاءت في أول السور ليفتح القرآن اسماع
المشركين الذين تواصوا بعدم الانصات إليه، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في
قوله تعالى - على لسانهم -: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) (1)
فكانت هذه الحروف - بطريقة عرضها وغموضها - سببا للفت أنظار المشركين
إلى استماع القرآن الكريم رجاء أن يتضح لهم منه هذا الغموض والابهام عند
استماعهم له.
ويزداد هذا المذهب وضوحا إذا لاحظنا الحالة النفسية التي كان يعيشها
المشركون آنذاك، حيث ينظرون إلى القرآن الكريم على أنه صورة المعجزة المدعاة
وانه ذو صلة بالغيب وعوالمه العجيبة، فهم ينتظرون في كل لحظة ان تحدث ظاهرة
غريبة تفسر لهم الموقف وتأتيهم بالأمور العجيبة.
الثامن: أنها حروف من حساب الجمل، لان طريقة الحساب الأبجدي
المعروفة الان كانت متداولة بين أهل الكتاب آنذاك، فهذه الحروف تعبر عن
آجال أقوام معينين.
ومن هنا نجد - كما روي عن ابن عباس - ابا ياسر ابن اخطب اليهودي يحاول
ان يتعرف على أجل الأمة الاسلامية وعمرها من خلال هذه الحروف (2).
وقد لاحظ ابن كثير على هذا الرأي بقوله: " واما من زعم أنها دالة على
معرفة العدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى
ما ليس له، وطار في غير مطاره وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك

(1) فصلت: 26.
(2) الدر المنثور 2: 7.
444

أدل على بطلان هذه المسلك من التمسك به على صحته... " (1).
كما لاحظ عليه السيد رشيد رضا بمثل هذه الملاحظة حيث قال: " إن أضعف
ما قيل في هذه الحروف وأسخفه إن المراد بها الإشارة باعداها في حساب الجمل
إلى مدة هذه الأمة أو ما يشابه ذلك " (2).
التاسع: أن ذكر هذه الحروف في القرآن الكريم يدل على ناحية اعجازية تشبه
دلالة بقية الآيات القرآنية، وذلك لان النطق بهذه الحروف وإن كان متيسرا
بالنسبة إلى كل من يتكلم العربية، ولكن أسماءها لم تكن تتيسر إلا للمتعلم من
العرب، ولما كان النبي (صلى الله عليه وآله) أميا - كما يعرفه بذلك معاصروه - فقدرته على معرفة
أسمائها قرينة على تلقيه ذلك من قبل الغيب، ويكون ذلك من قبيل ذكر القصص
القرآني الذي لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله) طريق للاطلاع عليه غير الوحي الإلهي لعدم
اطلاع قريش عليه قبل هذا، وأيضا هو بمنزلة من يتكلم باللغة الأجنبية من دون
أن يسمعها أو يتعلمها من أحد، ولعل هذا هو السبب في تقديم ذكرها على السورة
كلها.
وقد أوضح الزمخشري هذه الفكرة بابداء ملاحظة أخرى هي: أن ظاهرة
غريبة تلاحظ حين نريد أن ندرس هذه الحروف بدقة تدعونا إلى الحكم بأن هذه
الحروف قد اختيرت بعناية فائقة لا تتوفر إلا لدى المتخصصين من علماء العربية،
ذلك أن هذه الحروف تمثل نصف أسامي الحروف العربية، حيث إن عددها أربعة
عشر، كما انها جاءت في تسع وعشرين سورة هي عدد حروف المعجم كلها
بإضافة الهمزة، ثم إذا نظرت في هذه الحروف الأربعة عشر وجدتها مشتملة على
أنصاف أجناس الحروف من المهموسة والمجهورة، والشديدة والرخوة، والمطبقة

(1) تفسير القرآن العظيم 1: 68.
(2) المنار 1: 132.
445

والمنفتحة، والمستعلية والمنخفضة.
وقد أضاف أحمد بن المنير في شرحه للكشاف إضافات أخرى عديدة (1).
وهذه الملاحظة يمكن أن تكون مؤكدة هذه الفكرة، كما يمكن أن تؤيد أيضا
القول السادس الذي أشار إليه الزمخشري أيضا، في ذيل هذه الملاحظة وكأنه
حاول أن يوائم بين القول: السادس والتاسع (2).
العاشر: ما ذكره ابن كثير وأوضحه السيد رشيد رضا وحاصله: أن من
الملاحظ أنه قد جاء بعد هذه الحروف ذكر الكتاب الكريم ونبأ تنزيله، ولم تتخلف
عن ذلك إلا سور أربع هي مريم والعنكبوت والروم والقلم، وفي كل واحدة منها
نجد أمرا مهما يشبه مسألة الكتاب وانزاله.
فإننا نجد في فاتحة سورة مريم خلق يحيى من امرأة عاقر كبيرة ومن شيخ
عجوز وهو أمر يخالف القوانين التجريبية السائدة، وفي فاتحة العنكبوت والروم
نجد أمرين مهمين يرتبطان بالدعوة ومصيرها، حيث جاء في فاتحة العنكبوت
بيان قانون اجتماعي وضعه الله لاختبار الناس وتمييز الصالح منهم عن غيره، ولهذا
القانون تأثير كبير على سير الدعوة، حيث يوضح أن الفتنة والعذاب لا يمكن أن
يكون دليلا على خذلان الله لأحبائه وانما هما اختبار لصدق ايمانهم ورسوخه.
وفي فاتحة الروم قضية الاخبار بغلبة الروم على الفرس في بضع سنين.
وفي فاتحة القلم وخاتمتها تبرئة الرسول من تهمة الجنون التي كانت من أول ما
رمي به النبي (صلى الله عليه وآله) من تهم، كما أن السورة كانت من أول ما نزل من القرآن.
ومن الواضح ان هذه القضايا ترتبط جميعا بالوحي الإلهي أو الرسالة بصورة
مباشرة، وهذا الارتباط بين الحروف المقطعة وبين تأكيد الكتاب وانزاله من

(1) الزمخشري، الكشاف 1: 23 - 24. واقرأ تعليق أحمد بن المنير الإسكندري أيضا.
(2) المصدر السابق: 29 - 30.
446

السماء والرسالة وعلاقتها بالسماء يدعونا للقول: إنه انما جئ بها لغاية قرع
الاسماع وهز القلوب ودفع الناس إلى استماع القرآن الكريم والانصات إليه (1).
وهذا المذهب يكاد ينطلق من المذهب السابع - كما اعترف بذلك السيد رشيد
رضا - كما أن السيد رشيد رضا يخطئ حين يتصور أنه انفرد به حيث سبقه
للإشارة إليه ابن كثير، وان كان قد اختار تضعيفه.
موقفنا من هذه المذاهب:
وموقفنا من هذه المذاهب يتحدد في ضوء بعض الظواهر العامة التي عاشتها
مسألة (فواتح السور) وهي:
1 - عدم ورود تفسير واضح للفواتح عن الرسول.
2 - سكوت الصحابة بشكل عام عن سؤال الرسول بصدد هذا الموضوع.
3 - عدم تعارف استعمال العرب لهذا الأسلوب في كلامهم.
وهذه الظواهر الثلاث تجعلنا نؤمن بأن الموقف تجاه هذه الحروف من قبل
معاصري الوحي والنبوة كان واضحا وجليا، الامر الذي أدى إلى سكوت النبي
عن بيانه والصحابة عن سؤاله، وحينئذ فاما أن يكون هذا الوضوح نتيجة
توضيح النبي بأنها من المتشابهات التي يحسن السكوت عنها والتسليم بها. أو أنه
كان نتيجة أن الغاية من استعمالها كانت جارية على نهج المذهب السادس أو
السابع، فإنهما المذهبان الوحيدان اللذان يفسران هذه الظاهرة بشكل ينسجم مع
هذه الظواهر المسلمة بدون الحاجة إلى السؤال والاستفسار.

(1) تفسير القرآن العظيم 1: 68، والمنار 8: 256 - 289. ولكن ابن كثير يذكر هذه
الملاحظات بصدد التنبيه على ارتباط الحروف بالاعجاز كما ذكره في الوجه السادس
حيث اختاره.
447

أما المذهب السادس فباعتبار ان هذه الألفاظ هي أسماء للحروف ومن
الطبيعي أن نفترض أن العرب كانوا يفهمون منها مسمياتها، وكانوا يفسرون
ذكرها في أوائل السور على أساس هذا الترابط بين هذه الحروف وقضية التحدي
في القرآن.
وأما المذهب السابع فباعتبار أن هذا الأسلوب كان يمثل عملية خارجية
يمارسها النبي (صلى الله عليه وآله) لاسكاتهم وإلفات أنظارهم وكانت بوجودها الخارجي
والقرائن الحالية تدل على مضمونها وهدفها من دون حاجة إلى تفسير، نظير
بعض الإشارات باليد أو العين أو الافعال التي كان يقوم بها النبي (صلى الله عليه وآله) وكان
يفهمها المشاهدون مباشرة دون حاجة إلى سؤال أو استفسار أو شرح.
ويكون هذا الأسلوب في الالفات من الأساليب التي برع القرآن في استعمالها.
448

استخلاف آدم (الانسان)
(وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة قالوا: أتجعل فيها من يفسد
فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال: إني أعلم ما لا تعلمون *
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم
صادقين * قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم
أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم اني أعلم غيب السماوات
والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) (1).
هذه الآيات العشر تتحدث عن قضية استخلاف الله سبحانه لادم على
الأرض، وقضية الاستخلاف تشتمل على جانبين وفصلين:
الفصل الأول منهما يتناول معنى الاستخلاف والحكمة والعلة فيه، وهذا الجانب
من قصة آدم يكاد ينحصر ذكره والحديث عنه في القرآن الكريم بهذا المقطع
القرآني فقط (2)، وإن كان من الممكن أن تكون جميع آيات الاستخلاف مؤكدة

(1) البقرة: 30 - 39.
(2) بالإضافة إلى بعض الإشارات الأخرى مثل قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على
السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها منها وحملها الانسان انه كان ظلوما
جهولا) الأحزاب: 72، وأيضا قوله تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض
ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وانه
لغفور رحيم) الانعام: 165، وكذلك فاطر: 39، وأيضا الزخرف: 60، وغيرها.
449

هذا المقطع وإن لم تكن بهذا الوضوح.
والفصل الثاني يتناول العملية التي تم بها انجاز هذا الاستخلاف، وهذا الجانب
تحدث عنه القرآن في مواضع متعددة لا بد من دراستها بشكل عام.
الفصل الأول: الحكمة في استخلاف آدم:
وهو ما يعنينا في دراسة هذا المقطع القرآني الشريف، البحث في هذا المقطع وما
تضمنه من معلومات ومفاهيم له جانبان:
الجانب الأول: تحديد الموقف العام تجاه دراسة هذا المقطع القرآني وتصوير ما
يعنيه القرآن الكريم منه.
الجانب الثاني: تحديد الموقف القرآني والاسلامي تجاه بعض المفاهيم التي
جاءت في المقطع بالشكل الذي ينسجم مع المسلمات القرآنية والظهور اللفظي لهذا
المقطع بالخصوص.
وفيما يتعلق بالجانب الأول نجد الشيخ محمد عبدة تبعا لبعض الدارسين المتقدمين
يذكر رأيين مختلفين بحسب الشكل وان كانا يتفقان في النهاية، حسب ما يقول:
الرأي الأول: هو الذي سار عليه السلف واختاره الشيخ محمد عبدة نفسه
أيضا، حيث يقول: " وأما ذلك الحوار في الآيات فهو شأن من شؤون الله مع
ملائكته، صوره لنا في هذه الفصول بالقول والمراجعة والسؤال والجواب، ونحن لا
نعرف حقيقة ذلك القول، ولكننا نعلم أنه ليس كما يكون منا، وان هناك معاني
قصدت إفادتها بهذه العبارات، وهي عبارة عن شأن من شؤونه تعالى قبل خلق
آدم وأنه كان يعد له الكون، وشأن مع الملائكة يتعلق بخلق نوع الانسان، وشأن
آخر في بيان كرامة هذا النوع وفضله " (1).

(1) المنار 1: 254.
450

والرأي الثاني: الرأي الذي سار عليه الخلف من المحققين وعلماء الاسلام
الذين بذلوا جهدهم في دراسة القرآن والتعرف على مقاصده، حيث يرون أن هذه
القصة بمواقفها المختلفة انما جاءت على شكل التمثيل ومحاولة تقريب النشأة الادمية
الانسانية وأهميتها وفضيلتها، وأن جميع المواقف والمفاهيم التي جاءت فيها يمكن
تحديد المعاني والأهداف التي قصدت منها.
فالرأي الأول والثاني وان كانا يلتقيان في حقيقة تنزيه الله سبحانه وتعالى
وعالم الغيب عن مشابهة المخلوقات المادية المحسوسة في هذه المواقف المختلفة،
وكادا يتفقان أيضا في الاهداف والغايات العامة المقصودة من هذا المقطع القرآني
ولكنهما مع ذلك يختلفان في امكانية تحديد بعض المفاهيم التي وردت في المقطع، كما
سوف يتضح ذلك عند معالجتنا للمقطع القرآني من جانبه الاخر.
وفيما يتعلق بالجانب الثاني نجد السلف انسجاما مع موقفهم في الجانب الأول
يقفون من دراسة المقطع موقفا سلبيا، ويكتفون - في بعض حالات الانفتاح -
بذكر الفوائد الدينية التي تترتب على ذكر القرآن لهذا المقطع القرآني (المتشابه).
وقد أشار الشيخ محمد عبدة إلى بعض هذه الفوائد، ونكتفي بذكر فائدتين منها:
الأولى: أن الله سبحانه وتعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده ان يسألوه عن
حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه.
الثانية: أن الله سبحانه لطيف بعباده رحيم بهم، يعمل على معالجتهم بوجوه
اللطف والرحمة، فهو يهدي الملائكة في حيرتهم ويجيبهم عن سؤالهم عندما
يطلبون الدليل والحجة بعد أن يرشدهم إلى واجبهم من الخضوع والتسليم:
(... اني اعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة...) (1).
واما الخلف فقد حاولوا ايضاح المفاهيم التي وردت في هذا المقطع القرآني

(1) البقرة: 30 - 31.
451

ليتجلى بذلك معنى استخلاف الله سبحانه وتعالى لادم، وسوف نعرض هنا أهم
هذه المفاهيم المرتبطة بقضية الاستخلاف، مع ذكر الآراء المختلفة فيها ثم نتحدث
عن المعنى العام للمقطع القرآني:
مفاهيم حول الاستخلاف:
1 - الخلافة:
الخليفة بحسب اللغة: من خلف من كان قبله وقام مقامه وسد مسده،
وتستعمل أيضا بمعنى النيابة (1)، ومن هذا المنطلق يطرح هذا السؤال: لماذا سمي
آدم خليفة؟
توجد هنا عدة آراء:
الأول: أن آدم سمي خليفة لأنه خلف مخلوقات الله سبحانه في الأرض،
وهذه المخلوقات إما أن تكون ملائكة أو يكونوا الجن الذين أفسدوا في الأرض
وسفكوا فيها الدماء، كما روي عن ابن عباس، أو يكونوا آدميين آخرين قبل
آدم هذا.
الثاني: أنه سمي خليفة لأنه وأبناءه يخلف بعضهم بعضا، فهم مخلوقات تتناسل
ويخلف بعضها بعضا الاخر، وقد نسب هذا الرأي إلى الحسن البصري.
الثالث: أنه سمي خليفة لأنه يخلف الله سبحانه في الأرض، وفي تفسير هذه
الخلافة لله سبحانه وارتباطها بالمعنى اللغوي تعددت الآراء واختلفت:
أ - انه يخلف الله في الحكم والفصل بين الخلق.
ب - يخلف الله سبحانه في عمارة الأرض واستثمارها، من انبات الزرع
واخراج الثمار وشق الأنهار وغير ذلك (2).

(1) مفردات الراغب: مادة (خلف).
(2) هذا الرأي وما قبله ذكره الطوسي في التبيان 1: 131.
452

ج - يخلف الله سبحانه في العلم بالأسماء كما ذهب إلى ذلك العلامة الطباطبائي (1).
د - يخلف الله سبحانه في الأرض بما نفخ الله فيه من روحه ووهبه من قوة غير
محدودة، سواء في قابليتها أو شهواتها أو علومها، كما ذهب إلى ذلك الشيخ محمد
عبدة (2).
ولعل المذهب الثالث هو الصحيح من هذه المذاهب الثلاثة، خصوصا إذا
أخذنا في مدلوله معنى واسعا لخلافة الله في الأرض بحيث يشمل مجمل الآراء
الأربعة التي أشرنا إليها في تفسيره، لان دور الانسان في خلافة الله في الأرض
يمكن أن يشمل جميع الابعاد والصور التي ذكرتها هذه الآراء، فهو يخلف الله في
الحكم والفصل بين العباد بما منح الله هذا الانسان من صلاحية الحكم بين الناس
بالحق: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع
الهوى فيضلك عن سبيل الله...) (3).
وكذلك يخلفه في عمارة الأرض واستثمارها من انبات الزرع واخراج الثمار
والمعادن وتفجير المياه وشق الأنهار وغير ذلك: (... فامشوا في مناكبها وكلوا من
رزقه وإليه النشور) (4) ولعل أكثر موارد استعمال (خلائف وخلفاء واستخلاف)
أريد منه هذا النوع من الاستخلاف: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم
في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا
تعثوا في الأرض مفسدين) (5).

(1) الميزان 1: 118.
(2) المنار 1: 260.
(3) ص: 26.
(4) الملك: 15.
(5) الأعراف: 74.
453

وكذلك يخلف الانسان الله في الأرض بعلمه بالأسماء والمعارف والكمالات التي
يتكامل من خلالها ويسير بها نحو الله تعالى.
ولعل ما ذكره الشيخ محمد عبدة انما يمثل السر في منح الانسان هذه الخلافة لأنه
يتميز بهذه المواهب والقوى والقابليات.
2 - كيف عرف الملائكة أن الخليفة يفسد في الأرض:
لقد ذكر المقطع القرآني أن جواب الملائكة على اخبارهم بجعل آدم خليفة في
الأرض أنهم تساءلوا عن سبب انتقاء هذا الخليفة الذي يفسد في الأرض، فكيف
عرف الملائكة هذه الخصيصة في هذا الخليفة، وهنا عدة آراء:
الأول: أن الله سبحانه وتعالى أعلمهم بذلك، لان الملائكة لا يمكن أن يقولوا
هذا القول رجما بالغيب وعملا بالظن (1).
الثاني: أنهم قاسوا ذلك على المخلوقات التي سبقت هذا الخليفة الذي سوف
يقوم مقامها، كما يشير إلى ذلك بعض الروايات والتفاسير (2).
الثالث: أن طبيعة الخلافة تكشف عن ذلك بناء على الرأي الأول من المذهب
الثالث في معنى الخلافة، حيث يفترض الاختلاف والنزاع، ولازمه الفساد في
الأرض وسفك الدماء، كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره.
الرابع: أن طبيعة الخليفة نفسه تقتضي ذلك، وهنا رأيان:
أ - ان المزاج المادي والروحي لهذا المخلوق الذي يريد ان يجعله الله خليفة،
والأساس الاجتماعي للعلاقات الأرضية التي سوف تحصل بين أبناء هذه
المخلوقات هي التي جعلت الملائكة يعرفون ذلك، يقول العلامة الطباطبائي
" ان الموجود الأرضي بما انه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية والدار

(1) التبيان 1: 132.
(2) المصدر السابق: 133.
454

دار التزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات، مركباتها في معرض الانحلال
وانتظاماتها واصطلاحاتها مظنة الفساد ومصب البطلان، لا تتم الحياة فيها الا
بالحياة النوعية ولا يكمل البقاء فيها الا بالاجتماع والتعاون فلا تخلو من الفساد
وسفك الدماء " (1).
ب - ان الإرادة الانسانية بما أعطيت من اختيار يتحكم في توجيهه العقل
بمعلوماته الناقصة هي التي تؤدي بالانسان إلى أن يفسد في الأرض ويسفك
الدماء، قال محمد عبدة: " أخبر الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، نفهم
من ذلك أن الله يودع في فطرة هذا النوع الذي يجعله خليفة ان يكون ذا إرادة
مطلقة واختيار في عمله غير محدود، وان الترجيح بين ما يتعارض من الأعمال
التي تعن له تكون بحسب علمه، وان العلم إذا لم يكن محيطا بوجوه المصالح
والمنافع فقد يوجه الإرادة إلى خلاف المصلحة والحكمة، وذلك هو الفساد وهو
معين لازم الوقوع لان العلم المحيط لا يكون إلا لله تعالى " (2).
ويبدو أن الرأي الأول هو الصحيح، حيث إنه تعالى لا بد وأنه قد أعلم
الملائكة بحال وطبيعة هذا المخلوق الذي ينتهي به الحال إلى هذه النتائج.
وأما ما بين من هذه الطبيعة فلعل الصحيح هو بيان أمرين: أحدهما
الخصوصية المادية التي أشار إليها العلامة الطباطبائي والهوى في طبيعة هذا
الخليفة.
والاخر: هو أن هذا الانسان مريد ومختار يعمل بإرادته، كما ذكر الشيخ محمد
عبدة، ويمكن أن نفهم ذلك من قرينة تعقيب الملائكة أنفسهم، الامر الذي
استدعى التوضيح الإلهي الذي يشتمل على بيان الخصوصية التي تجعل هذا

(1) الميزان 1: 115، والتفسير الكبير 1: 121، والميزان 1: 119.
(2) المنار 1: 256.
455

الموجود مستحقا لهذه الخلافة وهو العلم.
3 - الأسماء:
والأسماء من المفاهيم التي وقع الخلاف فيها بين علماء التفسير حول حقيقتها
والمراد منها، والاراء فيها تسير في الاتجاهين التاليين:
الأول: أن المراد من الأسماء الألفاظ التي سمى الله سبحانه بها ما خلقه من
أجناس وأنواع المحدثات وفي جميع اللغات، وهذا الرأي هو المذهب السائد عند
علماء التفسير ونسب إلى ابن عباس وبعض التابعين (1).
وينطلق أصحاب هذا المذهب في تفكيرهم إلى أن الله سبحانه كان قد علم آدم
جميع اللغات الرئيسة. وقد كان ولده على هذه المعرفة، ثم تشعبت بعد ذلك
واختص كل جماعة منهم بلغة غير لغة الجماعة الأخرى.
الثاني: أن المراد من الأسماء: المسميات، أو صفاتها وخصائصها، لا الألفاظ
وحينئذ فنحن بحاجة إلى القرينة القرآنية أو العقلية التي تصرف اللفظ إلى هذا
المعنى الذي قد يبدو أنه يخالف ظاهر الاطلاق القرآني لكلمة (الأسماء) الدالة على
الألفاظ. ويمكن ان نتصور هذه القرينة في الأمور التالية:
أ - كلمة (علم) التي تدل على أن الله سبحانه منح آدم (العلم) وبما " أن العلم
الحقيقي انما هو ادراك المعلومات أنفسها والألفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف
اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح فهي تتغير وتختلف والمعنى لا تغيير فيه
ولا اختلاف " (2). فلا بد أن يكون هو المسميات التي هي المعلومات الحقيقية.
ب - قضية التحدي المطروحة في الآيات الكريمة، ذلك أن الأسماء حين يقصد
منها الألفاظ واللغات فهي اذن من الأشياء التي لا يمكن تحصيلها إلا بالتعليم

(1) التبيان 1: 138، والتفسير الكبير 2: 176.
(2) المنار 1: 262.
456

والاكتساب، فلا يحسن تحدي الملائكة بها، إذ لا دلالة في تعليمها آدم على وجود
موهبة خاصة فيه يتمكن بها من معرفة الأسماء، وهذا على خلاف ما إذا قلنا: إن
المقصود منها المسميات، فإنها مما يمكن ادراكه ولو جزئيا - عن طريق اعمال
العقل الذي يعد موهبة خاصة فيكون لمعرفة آدم بها دلالة على موهبة خاصة
منحه الله إياها.
قال الطوسي: " إن الأسماء بلا معان لا فائدة فيها ولا وجه لايثاره الفضيلة
بها " (1). وقال الرازي: " وذلك لان العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة، بل
ذلك لا يحصل الا بالتعليم فان حصل التعليم حصل العلم به والا فلا، اما العلم
بحقائق الأشياء فالعقل متمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي فيه " (2).
ج - عجز الملائكة عن مواجهة التحدي، لان هذه الأسماء لو كانت الفاظا
لتوصل الملائكة إلى معرفتها بأنباء آدم لهم بها، وهم بذلك يتساوون مع آدم فلا
تبقى له مزية وفضيلة عليهم، فلا بد لنا من أن نلتزم بأنها أشياء تختلف مراتب
العلم بها، الامر الذي أدى إلى أن يعرفها آدم معرفة خاصة تختلف عن معرفة
الملائكة لها حين اخباره لهم بها، وهذا يدعونا لان نقول إنها عبارة عن المسميات
لا الألفاظ، قال العلامة الطباطبائي بصدد شرح هذه الفكرة: " ان قوله تعالى:
(وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم...) يشعر بان هذه الأسماء أو ان مسمياتها
كانت موجودات احياء عقلاء محجوبين تحت حجاب الغيب، وان العلم بأسمائهم
كان غير العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء والا كانت بأنباء آدم إياهم بها عالمين
بها وصائرين مثل آدم مساوين معه " (3).

(1) التبيان 1: 138.
(2) التفسير الكبير 2: 176.
(3) الميزان 1: 117.
457

وحين يصل أصحاب هذا الاتجاه إلى هذه النقطة نجدهم يحاولون أن يتعرفوا
على العلاقة التي صححت استعمال لفظ (الأسماء) محل لفظ (المسميات) ويذكرون
لذلك قرائن متعددة:
1 - فالرازي يرى هذه المناسبة والعلاقة في مصدر اشتقاق الاسم، فإنه اما أن
يكون من السمه أو السمو " فان كان من السمة كان الاسم هو العلامة، وصفات
الأشياء خصائصها دالة على ماهياتها، فصح ان يكون المراد من الأسماء:
(الصفات) وان كان من السمو فكذلك لان دليل الشئ كالمرتفع على ذلك الشئ
فان العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول " (1) والصفات تدل على الموصوف
وهي كالظاهر المرتفع بالنسبة إلى الشئ.
2 - والشيخ محمد عبدة يرى هذه العلاقة في " شدة الصلة بين المعنى واللفظ
الموضوع له وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الاخر ".
3 - كما أنه يرى في ذلك وجها آخر يكاد يغنيه عن هذه العلاقة حيث: إن
الاسم قد يطلق اطلاقا صحيحا على صورة المعلوم الذهنية (اي ما به يعلم الشئ
عند العالم) فاسم الله مثلا هو ما به عرفناه في أذهاننا لا نفس اللفظ بحيث يقال:
اننا نؤمن بوجوده ونسند إليه صفاته، فالأسماء هي ما يعلم بها الأشياء في الصور
الذهنية وهي العلوم المطابقة للحقائق الخارجية الموضوعية، والاسم بهذا المعنى
هو الذي جرى الخلاف بين الفلاسفة في أنه عين المسمى أو غيره، الامر الذي
يدعونا لان نقول: إن للاسم معنى آخر غير اللفظ إذ لا شك بان اللفظ غير المعنى.
والاسم بهذا الاطلاق أيضا هو الذي يتبارك ويتقدس: (سبح اسم ربك
الاعلى) (2) إذ لا معنى لان يكون اللفظ هو الذي يتبارك ويتقدس (3).

(1) المصدر السابق: الموضوع نفسه.
(2) الاعلى: 1.
(3) المنار 1: 262.
458

ما هي هذه الأسماء؟
وبعد هذا كله نجدهم يختلفون في حقيقة هذه المسميات والمراد منها في الآية
الكريمة:
فالعلامة الطباطبائي يراها - كما في النص السابق - موجودات احياء عقلاء،
ولعله يفهم هذه الحياة لها والعقل من قوله تعالى: (ثم عرضهم) حيث استعمل
ضمير الجماعة المختص بمن يعقل، وهذا الاتجاه نجده في بعض الآراء المتقدمة على
العلامة الطباطبائي نفسه، كما في حكاية الطبري عن الربيع بن زيد انهما قالا:
علمه الله أسماء ذريته وأسماء الملائكة (1).
ولكن الشيخ الطوسي يناقش فكرة الاعتماد على الضمير بقوله: " وهذا غلط
لما بيناه من التغليب وحسنه، كما قال تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من
يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع...) (2) ".
والشيخ محمد عبدة يرى أنها تعني: جميع الأشياء وجميع ما يتعلق بعمارة الدين
والدنيا من غير تحديد ولا تعيين (3) ولعل هذا الاتجاه هو الذي يظهر من كلام
الشيخ الطوسي والرازي في تفسيرهما (4)، وحكاه الطبرسي هم ابن عباس
ومجاهد وسعيد بن جبير وعليه أكثر المتأخرين.
وهذا الرأي هو الصحيح الذي ينسجم مع واقع الانسان من ناحية وصحة
التمييز به والفضل على الملائكة لأنه يعبر عن خط التكامل الذي يمكن أن يسير به
الانسان ويمتاز به على جميع المخلوقات.

(1) التبيان 1: 138.
(2) النور: 45.
(3) المنار 1: 262.
(4) التبيان 1: 138، والتفسير الكبير 3: 176.
459

نظرية الاستخلاف:
بعد أن تعرفنا آراء العلماء المختلفة تجاه المفاهيم البارزة التي جاءت في هذا
المقطع القرآني، لا بد لنا من معرفة الصورة الكاملة للمقطع القرآني لنستخلص
نظرية استخلاف آدم منها.
صورتان لهذه النظرية:
وهنا صورتان لهذه النظرية بينهما كثير من وجوه الشبه:
الأولى: الصورة التي ذكرها السيد رشيد رضا في تفسيره عن أستاذه الشيخ
محمد عبدة: حيث يرى أن القصة وردت مورد التمثيل لغرض تقريبها من تناول
افهام الخلق لها لتحصل لهم الفائدة من معرفة حال النشأة الأولى.
وعلى هذا الأساس يمكننا ان نفهم كثيرا من جوانب هذه المحاورة والألفاظ
التي استعملت فيها دون ان نتقيد بالمعنى اللغوي العرفي لها:
1 - فالله سبحانه أخبر الملائكة بأنه بصدد أن يجعل في الأرض خليفة عنه
يودع في فطرته الإرادة المطلقة التي تجعله قادرا على التصرف حسب قدرته
ومعلوماته التي لا يمكن أن تصل إلى مرتبة الكمال.
وعلى أساس هذه الإرادة المطلقة وهذا العلم الناقص عرف الملائكة ان هذا
الخليفة سوف يسفك الدماء ويفسد في الأرض لان ذلك نتيجة طبيعية لما يتمتع به
من إرادة مطلقة يسير بها حسب علمه الذي يحيط بجميع جوانب المصالح والمنافع،
الامر الذي قد يوجه الإرادة إلى خلاف الحكمة والمصلحة فيقع في الفساد.
وحين عرف الملائكة ذلك تعجبوا من خلق الله لهذا النوع من الخلق الذي
يسفك الدماء ويفسد في الأرض فسألوا الله سبحانه (عن طريق النطق، أو الحال،
أو غير ذلك) أن يتفضل عليهم باعلامهم عن ذلك وبيان الحكمة لهم.
وكان الجواب لهم على ذلك هو بيان وجوب الخضوع والتسليم لمن هو بكل
460

شئ عليم، لان هذا هو موقف جميع المخلوقات تجاهه لأنه العالم المحيط بكل
المصالح والحكم.
2 - على أن هذا النوع من الخضوع والتسليم الذي ينشأ من معرفة الملائكة
بإحاطة الله بكل شئ قد لا يذهب الحيرة ولا يزيل الاضطراب، وانما تسكن
النفس باظهار الحكمة والسر الذي يختفي وراء الفعل الذي حصل منه تعجب
الملائكة.
ولذلك تفضل الله سبحانه على الملائكة بأن أوضح لهم السر، وأكمل علمهم
ببيان الحكمة في هذا الخلق، فأودع في نفس آدم وفطرته علم جميع الأشياء من
غير تحديد ولا تعيين الامر الذي جعل لادم امتيازا خاصا استحق به الخلافة عن
الله في الأرض.
ويظهر هذا الامتياز حين نقارن بين الانسان وبين المخلوقات لله سبحانه، فقد
نطق الوحي ودل العيان والاختبار على أن الله تعالى خلق العالم انواعا مختلفة
وخص كل نوع منها بقدرات ومواهب، ولكن الانسان مع ذلك يختلف عنها في
أنه لما منحه الله من قدرات ومواهب ليست لها حدود معينة لا يتعداها على
خلاف بقية المخلوقات.
فالملائكة - الذي لا تتمكن من معرفة حقيقتهم الا عن طريق الوحي - لهم
وظائف محدودة - كما دلت الآيات والأحاديث - فهم يسبحون الله ليلا ونهارا
وهم صافون ويفعلون ما يؤمرون إلى غير ذلك من الأعمال المحدودة.
3 - وما نعرفه بالنظر والاختبار عن حال الحيوان والنبات والجماد، فإنها بين
ما يكون لا علم له ولا عمل كالجماد، أو يكون له عمل معين يختص به نفسه دون
ان يكون له علم وإرادة، ولو فرض ان له علما أو إرادة فهما لا أثر لهما في جعل
عملهما مبينا لحكم الله وسنته في الخلق ولا وسيلة لبيان احكامه وتنفيذها.
461

فكل حي من الاحياء المحسوسة والغيبية - عدا الانسان - له استعداد محدود
وعلم إلهامي محدود وما كان كذلك لا يصلح ان يكون خليفة عن الذي لا حد
لعلمه وارادته.
واما الانسان فقد خلقه الله ضعيفا وجاهلا ولكنه على ضعفه وجهله فهو
يتصرف في الموجودات القوية، ويعلم جميع الأسماء بما وهبه الله من قدرة على النمو
والتطور التدريجي في احساسه ومشاعره وادراكه، فتكون له السلطة على هذه
الكائنات يسخرها ثم يذللها بعد ذلك كما تشاء قوته الغريبة التي يسمونها العقل
ولا يعرفون حقيقتها ولا يدركون كنهها، فهذه القوة نجدها تغني الانسان عن كل
ما وهب الله للحيوان في أصل الفطرة والالهام من الكساء والغذاء والأعضاء
والقوة.
فالانسان بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود
العلم ولا محدود العمل.
وكما أعطاه الله تعالى هذه المواهب أعطاه احكاما وشرائع حدد فيها أعماله
واخلاقه، وهي في الوقت نفسه تساعده على بلوغ كماله لأنها مرشد للعقل الذي
كان له كل تلك المزايا.
وبهذا كله استحق الانسان خلافة الله في الأرض وهو خلق المخلوقات بها،
ونحن نشاهد في عصرنا آثار هذه الخلافة بما فعله الانسان من تطوير وسيطرة
وتصرف في الكون.
وحين أودع الله في فطرة آدم علم الأشياء من غير تحديد عرض الأشياء على
الملائكة وأطلعهم عليها اطلاعا اجماليا، ثم طالبهم بمعرفتها والانباء بها وإذا بهم
يظهرون التسليم والخضوع والعجز والاعتراف.
وعند ذلك أمر الله آدم أن ينبئهم بالأشياء ففعل، وذلك لتتكشف لهم الحقيقة
462

بأوضح صورها واشكالها.
واما الصورة الثانية: فهي التي عرضها العلامة الطباطبائي وهي تختلف عن
الصورة السابقة في بعض الجوانب، ونحن نقتصر على ذكر جوانب الخلاف التي
سبق أن أشرنا إلى بعضها:
1 - إن خليفة الله موجود مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية والدار
دار تزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات لا يمكن أن تتم فيها الحياة الا بايجاد
العلاقات الاجتماعية وما يستتبعها من تصادم وتضاد في المصالح والرغبات، الامر
الذي يؤدي إلى الفساد وسفك الدماء.
2 - إن الملائكة حين تعجبوا كانوا يرون أن الغاية من جعل الخلافة هي أن
يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده، والأرضية اي
الانتماء إلى الأرض وشهواتها لا تدعه يفعل ذلك بل تجره إلى الفساد والشر
والغاية من هذا الجعل يمكن ان تتحقق بتسبيحهم بحمد الله وتقديسهم له.
3 - إن آدم استحق الخلافة لقدرته على تحمل السر الذي هو عبارة عن تعلم
الأسماء التي هي أشياء حية عاقلة محجوبة تحت حجاب الغيب محفوظة عند الله.
وقد انزل الله كل اسم في العالم بخيرها وبركتها واشتق كل ما في السماوات والأرض
من نورها وبهائها، وانهم على كثرتهم وتعددهم لا يتعددون تعدد الافراد وانما
يتكاثرون بالمراتب والدرجات.
الموازنة بين الصورتين:
ويحسن بنا ان نوازن بين هاتين الصورتين لنخرج بالصورة الكاملة التي نراها
صحيحة لتصوير هذا المقطع القرآني، ولنأخذ النقاط الثلاث التي خالف فيها
العلامة الطباطبائي الشيخ محمد عبدة.
ففي النقطة الأولى قد نجد العلامة الطباطبائي على جانب من الحق كما نجد
463

الشيخ محمد عبدة على جانب آخر منه، ذلك لان العلامة الطباطبائي أكد ما فطر
عليه الانسان من غرائز وعواطف مختلفة، وهذا شئ صحيح لما لهذه الغرائز من
تأثير كبير في حصول التزاحم والتنافس في المجتمع الانساني الامر الذي يؤدي
إلى الفساد وسفك الدماء، واساس هذه الغرائز غريزة حب الذات التي جاءت
الأديان السماوية ومنها الاسلام من اجل توجيهها توجيها صالحا يدفعها إلى
تجنب الفساد والسفك للدماء، ولذلك نجد القرآن الكريم يؤكد دور الهوى في
الفساد وسفك الدماء.
والشيخ محمد عبدة حين يغفل هذا الجانب - في مسألة معرفة الملائكة للفساد
وسفك الدماء - يؤكد جانبا آخر له دور كبير أيضا في الفساد وسفك الدماء، وهو
الإرادة المطلقة والمعرفة الناقصة فلولا هذه الإرادة ولولا هذا النقص في العلم لما
كان السفك والفساد.
وعلى هذا الأساس يمكن ان نعتبر كلا الجانبين مؤثرا في معرفة الملائكة لنتيجة
هذا الخليفة.
وفي النقطة الثانية نجد الشيخ محمد عبدة يحاول أن يذكر ان الشئ الذي أثار
السؤال لدى الملائكة هو قضية أن هذا المخلوق المريد ذا العلم الناقص لا بد أن
يكون مفسدا في الأرض وسافكا للدماء، ومن ثم فلا مبرر لجعله خليفة مع ترتب
هذه الآثار على وجوده.
وأما العلامة الطباطبائي فهو يحاول أن يذكر في أن الشئ الذي أثار السؤال
هو أن الخليفة لا بد أن يكون حاكيا للمستخلف (الله) بخلاف الملائكة، حيث
يمكن أن يحكوا المستخلف من خلال تسبيحهم وحمدهم.
وفي هذه النقطة قد يكون الحق إلى جانب العلامة الطباطبائي، ذلك لان
التفسير الإلهي لهذه الخلافة كان من خلال بيان امتياز هذا الخليفة بالعلم، كما قد
464

يفهم من الآية، وأشار إليه الشيخ محمد عبدة، مع أن هذا التفسير لا ينسجم مع
النقطة التي ذكرها الشيخ عبدة لأنه افترض في أصل إثارة السؤال وجود العلم
الناقص إلى جانب الإدارة، فكيف يكون هذا العلم - بالشكل الذي ذكره الشيخ
محمد عبدة، وهو علم ناقص على أي حال - جوابا لهذا السؤال؟
نعم لو افترضنا أن العلم الذي علمه الله تعالى لادم هو الرسالات الإلهية
الهادية للصلاح والرشاد والحق والكمال - كما أشار الشيخ محمد عبدة إلى ذلك في
النقطة الثالثة - فقد يكون جوابا لسؤال الملائكة، لان مثل هذا العلم يمكن أن
يصلح شأن الإرادة والاختيار الذي أثار المخاوف، ولكن هذا خلال الظاهر،
حيث يفهم من ذيل هذا المقطع الشريف: (... فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع
هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (1) أن هذا الهدى الذي هو الرسالات
الإلهية الهادية جاء بعد هذا التعليم لادم.
وأما لو افترضنا أن الذي أثار السؤال لدى الملائكة هو الإرادة والاختيار
فقط - كما اختاره أستاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) - أصبح بيان الامتياز بالعلم والمعرفة
جوابا للسؤال وتهدئة للمخاوف التي انثارت لدى الملائكة، لان هذا العلم يهدي
إلى الله تعالى ويتمكن هذا الانسان بفطرته من أن يسير في طريق التكامل.
وأما العلامة الطباطبائي فقد اعتبر الانتماء إلى الأرض والتزاحم بين المصالح
فيها هو الذي يؤدي إلى الفساد، ويكون العلم بالأسماء طريقا وعلاجا لتجنب
هذه الاخطار، لان الأسماء بنظره موجودات عاقلة حية.
وفي النقطة الثالثة يفترض الشيخ محمد عبدة أن العلم هو الذي جعل الانسان
مستحقا للخلافة، وهذا العلم ذو بعدين:
أحدهما: العلوم الطبيعية التي يمكن للانسان أن يحصل عليها من خلال

(1) البقرة: 38.
465

التجارب والبحث، والتي يتمكن الانسان بواسطتها من الهيمنة على العالم المادي
الذي يعيش فيه، كما نشاهد ذلك في التأريخ وفي عصرنا الحاضر بشكل خاص.
والاخر: العلم الإلهي المنزل من خلال الشريعة، والذي يمكن للانسان من
خلاله أن يعرف طريقه إلى الكمالات الإلهية ويشخص المصالح والمفاسد والخير
والشر.
وهذا التصور ينسجم مع اطلاق كلمة العلم في الآية الكريمة، ومع فرضية أن
الجواب الإلهي للملائكة انما هو تفسير لجعل الانسان خليفة، لان الجواب ذكر
خصوصية (العلم) كامتياز لادم على الملائكة.
كما ينسجم هذا التصور مع ما أكده القرآن الكريم في مواضع متعددة من دور
العقل ومدركاته في حياة الانسان ومسيرته وتسخير الطبيعة له، وكذلك دور
الشريعة في تكامل الانسان ووصوله إلى أهدافه.
ولكن هذا التصور نلاحظ عليه - ما ذكرنا - من أن الشريعة قد افترض نزولها
في هذا المقطع الشريف بعد هذا الحوار: (... فاما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي
فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
كما أن الظاهر أن الإرادة والاختيار يمثلان ميزة أخرى لادم والانسان بشكل
عام على الملائكة، وأن هذه الخصوصية هي التي أثارت مخاوف الملائكة وسؤالهم،
كما نبهنا عليه وأشار إليه الشيخ محمد عبدة.
وبذلك يكون استحقاق آدم للخلافة وجود هاتين الخصوصيتين فيه.
وأما العلامة الطباطبائي فهو افترض أن هذا الاستحقاق انما كان باعتبار العلم
بالأسماء، ولكنه فسر الأسماء بأنها موجودات عاقلة لها مراتب من الوجود، حيث
يمكن من خلال العلم بها أن يسير الانسان في طريق التكامل.
ولكن هذا التفسير فيه شئ من الغموض ولعله يعتمد على بعض المذاهب
466

الفلسفية التي تؤمن بوجود العقول التي هي واسطة في العلم والخلق والتكامل بين
الله تعالى والوجود ومنه الانسان.
نعم هناك فرضية تشير إليها بعض الروايات المروية عن أهل البيت (عليهم السلام)
وهي أن الأسماء عبارة عن أسماء العناصر والذوات الانسانية الموجودة في سلسلة
امتداد الجنس البشري من الأنبياء والربانيين والاحبار الذين جعلهم الله تعالى
شهودا على البشرية والانسانية، واستحفظهم الله تعالى على كتبه ورسالاته (1)،
ويكون وجود هذا الخط الانساني الإلهي الكامل هو الضمان الذي أعده الله تعالى
لهداية البشرية والسيطرة على الهوى وتوجيه الإرادة نحو الخير والصلاح
والكمال.
ويكون العلم بهذه الأسماء معناه تحقق وجودها في الخارج باعتبار مطابقة العلم
للمعلوم، وتعليم آدم الأسماء انما هو اخباره بوجودها.
أو يكون العلم بالأسماء معناه معرفة هذه الكمالات التي يتصف بها هؤلاء
المخلوقون وهي صفات وكمالات تمثل نفحة من الصفات والكمالات الإلهية،
خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن كلمة الأسماء في القرآن تطلق على الصفات
الإلهية بنحو من الاطلاق.
والظاهر أن هذه الفرضية هي التي ذهب إليها استاذنا الشهيد الصدر (قدس سره).
الفصل الثاني: مسيرة الاستخلاف:
وهي مسيرة تحقق الخلافة في الأرض، فيقع الكلام فيه أيضا في جانبين:
الأول: تشخيص مجموعة من المفاهيم والتصورات التي وردت في القرآن

(1) (انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار
بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء...) المائدة: 44.
467

الكريم حول هذه المسيرة.
الثاني: بيان الصورة النظرية الكاملة حول هذه المسيرة.
السجود لآدم:
في البداية يواجهنا السؤال عن الامر الإلهي للملائكة في السجود لآدم، حيث
إنه في الشريعة المقدسة يحرم السجود لغير الله تعالى، فكيف صح أن يطلب من
الملائكة السجود لآدم؟ وما هو المقصود من هذا السجود؟
وهذا السؤال ينطلق من فكرة وهي أن السجود بحد ذاته عبادة، والعبادة لغير
الله شرك وحرام، حيث تقسم الافعال العبادية إلى قسمين:
أحدهما: الافعال التي تتقوم عباديتها بالنية وقصد القربة كالانفاق (الزكاة
والخمس) أو الطواف بالبيت الحرام أو القتال، أو غير ذلك، فان هذه الأفعال إذا
توفرت فيها نية القربة وقصد رضا الله تعالى تكون عبادة لله تعالى، وبدون ذلك
لا تكون عبادة، ومن ثم فهي تتبع نيتها في تشخيص طبيعتها.
والاخر: الافعال التي تكون بذاتها عبادة ويذكر (السجود) منها، حيث إنه
عبادة بذاته، ولذا يحرم السجود لغير الله لأنه يكون بذاته عبادة لغير الله.
ولكن هذا التصور غير صحيح، فان السجود شأنه شأن الافعال الأخرى التي
تتقوم عباديتها بالقصد والنية، ولذا فقد يكون السجود سخرية واستهزاء، وقد
يكون لمجرد التعظيم، وقد يكون عبادة إذا كان بنيتها.
ولذا نجد في القرآن الكريم في بعض الموارد الصحيحة يستخدم السجود تعبيرا
عن التعظيم كما في قصة اخوة يوسف، قال تعالى:
(ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل
قد جعلها ربي حقا...) (1).

(1) يوسف: 100.
468

وانما كان السجود لغير الله حراما لأنه يستخدم عادة في العبادة، فاريد
للانسان المسلم أن يتنزه عما يوهم العبادة لغير الله تعالى.
وأما إذا كان السجود للتعظيم وبأمر من الله تعالى، فلا يكون حراما، بل يكون
واجبا.
ولكن يبقى السؤال: أن هذا السجود ماذا كان يعني؟
فقد ذكر بعض المفسرين - انطلاقا من فكرة أن هذا الحديث لا يراد منه إلا
التربية والتمثيل وليس المصاديق المادية لمفرداته ومعانيه - أن السجود المطلوب
انما هو خضوع هذه القوى المتمثلة بالملائكة للانسان، بحيث إن الله تعالى أودع في
شخصية هذا الانسان وطبيعته من المواهب ما تخضع له هذه القوى الغيبية وتتأثر
بفعله وارادته: (ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا
ولا تحزنوا...) (1).
كما أنه يمكن أن يكون هذا السجود سجودا حقيقيا بالشكل الذي يتناسب مع
الملائكة، ويكون طلب السجود منهم لادم من أجل أن يعبروا بهذا السجود عن
خضوعهم أو تقديسهم لهذا المخلوق الإلهي المتميز، بما أودع الله فيه من روحه
ووهبه العلم والإرادة والقدرة على التكامل والصعود إلى الدرجات الكمالية
العالية.
ولعل هذا المعنى الثاني هو الظاهر من مجموعة الصور والآيات القرآنية التي
تحدثت عن هذا الموضوع، حيث نلاحظ أن امتناع إبليس عن السجود انما كان
بسبب الاستكبار لتفضيل هذا المخلوق، حيث كان يطرح في تفسير عدم السجود
أنه أفضل من آدم: (... قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (2)، كما أن

(1) فصلت: 30.
(2) الأعراف: 12.
469

القرآن الكريم يشير إلى أن الانسان الصالح المخلص يكون خارجا عن قدرة
إبليس ومكره، ومن ثم فهو مهيمن على هذه القوة الشيطانية:
(قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) (1).
إبليس من الملائكة أم لا:
وهناك سؤال آخر عن حقيقة إبليس وأنه من الملائكة أو الجن، حيث ورد في
القرآن الكريم وصفه بكلا هذين العنوانين:
فإذا كان من الملائكة فكيف يعصي الله تعالى، وقد وصف الله تعالى الملائكة
بأنهم (... عباد مكرمون) (2) لا يخالفون و (لا يعصون الله ما أمرهم) (3)، وهم
بأمره يعملون.
وإذا كان من الجن فلماذا وضع إلى جانب الملائكة في هذه القصة؟
وتذكر عادة للاستدلال على أن إبليس من الجن وليس من الملائكة ويختلف
عن طبيعة الملائكة عدة شواهد، إضافة إلى وصف القرآن الكريم له بذلك، ومن
هذه الشواهد أن أوصاف الملائكة لا تنطبق على إبليس، حيث إنهم وصفوا
بالطاعة وقد تمرد إبليس، ووصفوا بأنهم رسل: (... جاعل الملائكة رسلا اولي
أجنحة مثنى وثلاث ورباع...) (4)، ومن هذه الشواهد أن الملائكة لا ذرية لهم، إذ
لا يتناسلون ولا شهوة لهم، وأما إبليس فله ذرية كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك:
(أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني...) (5).

(1) ص: 82 - 83.
(2) الأنبياء: 26.
(3) التحريم: 6.
(4) فاطر: 1.
(5) الكهف: 50.
470

ولكن هذه الشواهد لا تكفي في عد إبليس من الجن في مقابل الملائكة، وذلك
لان وصف القرآن الكريم لإبليس بأنه من الجن يمكن أن يكون من ناحية أن بعض
الملائكة يوصف بأنه جن، إن لم يكن هذا الوصف عاما لهم، لان الجن مأخوذ من
الخفاء والستر، والملائكة مستورون عن عوالمنا ومشاهدنا.
كما نلاحظ هذا الوصف في نسبة الملائكة إلى الله تعالى عند المشركين، حيث
افترضوا ان الملائكة هم بنات الله - على ما ورد في القرآن الكريم - وفي نفس
الوقت يصف القرآن الكريم هؤلاء الملائكة بأنهم جنة: (وجعلوا بينه وبين الجنة
نسبا...) (1).
كما أن الطاعة ليست صفة لازمة لعنوان الملائكة، بل نلاحظ في القرآن الكريم
حصول التمرد لدى بعض الملائكة كما في الملكين هاروت وماروت (2).
وكذلك موضوع (الذرية) فإنها يمكن أن تكون من الخصوصيات التي اختص
بها إبليس ليقوم بهذا الدور الخاص له في حياة الانسان.
نعم يوجد في بعض الروايات ما يشير إلى أن إبليس كان من الجن وليس من
الملائكة، وانما كان يعاشرهم وانهم كانوا يظنون أنه منهم، ولكن لا يمكن الاعتماد
على مثل هذه الروايات.
هل خلق آدم للجنة أم للأرض؟
وهناك سؤال آخر وهو أن آدم هل خلق للأرض كما يبدو ذلك في أول المقطع
الشريف: (وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة...) (3)، أو انه
مخلوق للجنة وبعد العصيان طرد للأرض، كما يفهم ذلك من القسم الثاني من هذا

(1) الصافات: 158.
(2) البقرة: 102.
(3) البقرة: 30.
471

المقطع الشريف: (وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما
ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين).
وقد حاول بعض الملحدين أن يثير الشبهات حول هذا الموضوع بدعوى أن
هذا المقطع القرآني يبدو وكأن ادخال آدم للجنة والتوبة عن فعله انما هما عملية
شكلية وصورية لطرده منها وانزاله إلى الأرض.
ولكن الجواب عن هذا السؤال واضح وهو: أن آدم انما خلق للأرض وخلافة
الله فيها، وكان وجوده في الجنة هو مرحلة متقدمة (تأهيلية) تؤهله للقيام بدور
الخلافة، حيث لم يكن من الممكن لادم أن يقوم بهذا الدور بدون هذا التأهيل
والتجربة التي خاضها في الجنة، على ما سوف نوضح هذا الامر في بيان الجانب
الاخر.
على أن هذه الجنة يمكن أن تكون جنة أرضية وليست جنة (الخلد)، إذ لا
يوجد دليل على أنها جنة الخلد، وكان هبوطه واخراجه منها يعني بداية دور
تحمل المسؤولية والتعب والجهد من أجل الحياة واستمرارها، فهو منذ البداية كان
على الأرض ولكن في مكان منها لا تعب ولا عناء فيه، وقد تهيأت له جميع
أسباب العيش والراحة والاستقرار، وبعد المعصية بدأت حياة جديدة تختلف عن
الحياة السابقة في خصوصياتها ومواصفاتها وان كانت على الأرض أيضا.
وبذلك يمكن أن نجيب على سؤال آخر هو أنه كيف تسنى لإبليس أن يغوي
آدم في الجنة مع أن دخولها محرم على إبليس؟
حيث يمكن أن تكون هذه الجنة أرضية ولم يمنع من دخولها، ولعل ضمير الجمع
في قوله تعالى: (... وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو...) (1) يشير إلى ذلك.
على أن عملية الاغواء يمكن أن تكون من خلال وجوده في خارج الجنة، لان

(1) البقرة: 36.
472

الخطاب بين أهل الجنة وغيرهم ممن هو في خارج الجنة ميسور، كما دل على ذلك
القرآن الكريم في خطاب أهل الجنة وأهل النار: (ونادى أصحاب النار أصحاب
الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا ان الله حرمهما على
الكافرين) (1).
وفي خطاب أصحاب الجنة لأصحاب النار:
(ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ان قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم
ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين) (2).
خطيئة آدم:
والسؤال الاخر هو عن خطيئة آدم وغوايته وعصيانه: (... وعصى آدم ربه
فغوى) (3).
حيث دلت بعض الروايات على أن آدم كان نبيا، وان لم يذكر ذلك في القرآن
الكريم، والأنبياء معصومون من الذنب والزلل والغواية منذ بداية حياتهم.
ومع غض النظر عن الشك والمناقشة في صحة هذه الفرضيات (فرضية أن
يكون آدم نبيا) و (فرضية أن يكون الأنبياء معصومين من الذنب منذ بداية
حياتهم)، يمكن أن نفسر جدية هذه المخالفة والعصيان على أساس اتجاهين:
الاتجاه الأول: أن يكون النهي الإلهي هنا هو نهي (ارشادي) (4) أريد منه

(1) الأعراف: 50.
(2) الأعراف 44.
(3) طه: 121.
(4) تقسم الأوامر والنواهي في الشريعة إلى قسمين: مولوي وارشادي، والمراد من
(المولوي) ما يصدر من المولى، باعتباره مولى له حق الطاعة ويكون فيه إرادة جديدة
للطلب والتحرك نحو المطلوب أو الزجر عن المنهي عنه، كما في أوامر الصلاة والزكاة
والجهاد والحج والنهي عن شرب الخمر والزنا والسرقة، و (الارشادي) هو الذي يكون
للارشاد إلى المصلحة أو المفسدة، كما في الأوامر والنواهي في موارد المعاملات غالبا،
حيث يكون ارشادا لبطلان المعاملة أو صحتها، أو كما في أوامر الأطباء والمهندسين
والعلماء التجربيين فإنهم لا يستحقون الطاعة بما هم سادة، وأولوا الامر والولاية، بل لان
متعلقات أوامرهم ونواهيهم فيها مصالح ومفاسد، فعندما يأمر بشرب الدواء فهذا يعني أن
شرب الدواء فيه مصلحة، وكذا عندما ينهي عن أكل شئ فإنه يعني أن أكله فيه ضرر
ومفسدة.
473

الارشاد إلى المفاسد الموجودة في أكل الشجرة وليس نهيا (مولويا) يراد منه
التحريك والطلب الجدية والمعصية المستحيلة على الأنبياء والتي توجب العقاب
هي في الأوامر المولوية وليست الارشادية.
الاتجاه الثاني: أن يكون النهي الإلهي هنا نهيا مولويا كما - هو الظاهر -
وحينئذ فيفترض بأن الأنبياء معصومون من الذنوب المتعلقة بالأوامر والنواهي
التي يشتركون فيها مع الناس، وأما الأوامر والنواهي الخاصة بهم فلا يمتنع عليهم
صدور الذنب بعصيانها وليسوا معصومين تجاهها، وهذا النهي الذي صدر لادم
انما هو خاص به، ولذا لم يحرم على ذريته من بعده أكل الشجرة.
ومن هنا نجد القرآن الكريم ينسب الظلم والذنب أحيانا لبعض الأنبياء باعتبار
هذه الأوامر الخاصة، كما حصل لموسى (عليه السلام): (قال ربي اني ظلمت نفسي فاغفر لي
فغفر له انه هو الغفور الرحيم) (1). مع أن قتل الفرعوني الظالم الكافر ليس ذنبا
وحراما على الناس بشكل عام، وانما كان حراما على موسى لخصوصية في وضعه.
ومن هنا ورد أن حسنات الأبرار سيئات المقربين باعتبار أن لهم تكاليف
خاصة بهم تتناسب مع مستوى الكمالات التي يتصفون بها.
وهذا التفسير للعصمة أمر عرفي قائم في فهم العقلاء لمراتب الناس، فبعض

(1) القصص: 16.
474

الأمور هي من العلماء والفضلاء ذنب يؤاخذون عليه، ولكنه ليس كذلك بالنسبة
إلى العامة من الناس، وبعض الانفاقات القليلة ذنب من الأغنياء يؤاخذون عليها
وليست كذلك بالنسبة إلى الفقراء.
الفصل الثاني: التصور العام لمسيرة الخلافة:
وهنا نشير إلى تصورين:
التصور الأول: ما ذكره العلامة الطباطبائي (قدس سره) في الميزان، حيث يفترض أن
هذه المسيرة بدأت من وضع آدم وزوجه في الجنة من أجل أن ينتقل إلى الأرض
بعد ذلك، وكان لا بد له من التعرض إلى المعصية من أجل أن يتحقق هذا النزول
إلى الأرض، إذ لا يمكن أن يحصل على التكامل الانساني الذي يؤهله لهذه الخلافة
ما لم يتعرض إلى المعصية والنزول إلى الأرض بعد ذلك.
وذلك لان تكامل الانسان انما يحصل من خلال توفر عنصرين وعاملين
أساسيين:
أحدهما: شعور الانسان بالفقر والحاجة والمسكنة والذلة، أو بتعبير آخر
شعور الانسان بالعبودية لله تعالى الذي يدفعه للحركة والتوجه إلى الله تعالى
والمصير إليه.
والاخر: هو عفو الله تعالى ورضوانه ورحمته وتوفيقه لهذا الانسان، وامداده
بالعطاء والفضل الإلهي.
فشعور الانسان بالحاجة يجعله يتحرك لسد هذه الحاجة، والفضل والعطاء
الإلهي هو الذي يحقق الغنى النسبي للانسان ويسد النقص والحاجات لدى هذا
الانسان فيتكامل.
وإذا لم يشعر الانسان بالحاجة فلا يسعى إلى الكمال حتى لو كان محتاجا في
واقع الحال، وإذا لم يتفضل الله على هذا الانسان بالعفو والرحمة والعطاء يبقى هذا
475

الانسان ناقصا ومتخلفا في حركته.
وما ذكر في قصة آدم إنما يمثل هذين الامرين معا.
فلو لم ينزل الانسان إلى الأرض لا يشعر بالحاجة، حيث كان يعيش في الجنة
يأكل ويشرب بدون تعب أو عناء، فطبيعة هذه الجنة: (ان لك ألا تجوع فيها ولا
تعرى * وانك لا تظمأ فيها ولا تضحى) (1).
ولو لم تصدر من آدم المعصية فلا يمكن أن يحصل على تلك الدرجات العالية
من الرحمة والمغفرة التي حصل عليها الانسان في حالات الرجوع والتوبة، حيث
يفترض العلامة الطباطبائي وجود درجات من الرحمة والمغفرة مرهونة بالتوبة
والإنابة، قال:
" فلله تعالى صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها
إلا المذنبون... فهذه التوبة هي التي استدعت تشريع الطريق الذي يتوقع
سلوكه وتنظيف المنزل الذي يرجى سكونه، فوراءها تشريع الدين وتقويم
الملة " (2).
فالقصة وراءها قضاءان قضاهما الله تعالى في آدم:
القضاء الأول: الهبوط والخروج من الجنة والاستقرار على الأرض وحياة
الشقاء فيها، وهذا القضاء لازم حتمي لاكل الشجرة، حيث بدت سوآتهما،
وظهور السوءة لا يناسب حياة الجنة، بل الحياة الأرضية، ومن هنا كان اخراجهما
من الجنة بعد العفو عنهما، ولولا ذلك لكان مقتضى العفو هو بقاؤهما في الجنة.
القضاء الثاني: اكرام آدم بالتوبة حيث طيب الله تعالى بها الحياة الأرضية التي
هي شقاء وعناء، وبها ترتبت الهداية إلى العبودية الحقيقية، فتآلفت الحياة من

(1) طه: 118 - 119.
(2) تفسير الميزان 1: 134، طبعة جماعة المدرسين - قم.
476

حياة أرضية وحياة سماوية (1).
فنزول آدم إلى الأرض وإن كان فيه ظلم للنفس وشقاء، إلا أنه هيأ لنفسه
بنزوله درجة من السعادة ومنزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل، وكذلك ما
كان ينالها لو نزل من غير خطيئة.
التصور الثاني: ما ذكره أستاذنا الشهيد الصدر (قدس سره): أن الله سبحانه قدر لادم
الذي يمثل أصل الجنس البشري أن يمر بدور الحضانة التي يمر بها كل طفل ليتعلم
الحياة وتجاربها، فكانت هذه الجنة الأرضية التي وجدت من أجل تربية
الاحساس الخلقي لدى الانسان والشعور بالمسؤولية وتعميقه من خلال امتحانه
بما يوحيه إليه من تكاليف وأوامر.
وقد كان النهي عن تناول الشجرة هو أول تكليف يوجه إلى هذا الخليفة
ليتحكم في نزواته وشهواته، فيتكامل بذلك ولا ينساق مع غريزة الحرص وشهوة
حب الدنيا التي كانت الأساس لكل ما يشهده مسرح التأريخ الانساني من ألوان
الاستغلال والصراع.
وقد كانت المعصية التي ارتكبها آدم هي العامل الذي يولد في نفسه الاحساس
بالمسؤولية من خلال مشاعر الندم فتكامل وعيه بهذا الاحساس، في الوقت
الذي كانت قد نضجت لديه خبرات الحياة من خلال وجوده في الجنة.
وكان الهدى الإلهي يتمثل بخط الشهادة وهو الوحي الإلهي الذي يتحمل
مسؤوليته الأنبياء لهداية البشرية.
وبذلك تتكامل المسيرة البشرية ويتطور الانسان ويسمو على المخلوقات من
خلال التعليم الرباني والهدى الإلهي الذي يجسده شهيد رباني معصوم من الذنب
يحمله إلى الناس من أجل تحصينهم من الضلال: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع

(1) المصدر نفسه.
477

هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (1).
ويمكن أن نشير في نهاية هذا العرض لهذين التصورين إلى عدة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: انه يمكن تكميل الصورة: بأن الاسكان في الجنة في الوقت
الذي يمثل مرحلة الاعداد والتهيؤ يعبر في نفس الوقت عن هدف إلهي وهو: أن
مقتضى الرحمة الإلهية بالانسان هو أن يعيش حياة الاستقرار والسعادة بعيدا عن
الشقاء، وأن مسيرة الشقاء انما هي اختيار الانسان، ولذا بدأ الله تعالى حياة
الانسان بالجنة وشمله برحمته الواسعة من خلال التوبة والسداد الإلهي بالهدى
الذي أنزله على الأنبياء.
كما أن الخطيئة هي التي فجرت في الانسان - إضافة إلى احساسه بالمسؤولية -
ادراكه للحسن والقبح والخير والشر، ولعل هذا هو الذي أشار إليه القرآن الكريم
بقوله تعالى:
(... فبدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة...).
وكان هذا الادراك ضروريا للانسان من أجل أن يكون قادرا على مواجهة
مشكلات الحياة وألوان الصراع فيها وتمييز الحق من الباطل، والخير من الشر،
والمصلحة من المضرة، ويخلق فيه حالة التوازن الروحي والنفسي في مقابل
ضغوط الشهوات والغرائز.
وقد كان من الممكن أن يحصل هذا الادراك من خلال الحضانة الطويلة
والتجربة الذاتية في حياته في الجنة، ولعل هذا هو الهدف من وضعه في الجنة ليمر
بهذه الحضانة الطويلة، كما يحصل للانسان في تجاربه في الطفولة، حيث تنمو فيه
هذه المعرفة تدريجا، ولكن كان هناك طريق أقصر محفوف بالمخاطر وبالخطيئة
والذنب.

(1) البقرة: 38.
478

ولم يكن الله سبحانه وتعالى ليختار للانسان طريق الخطيئة بالرغم من قصره
لأنه طريق خطير، ولكن عندما اختار الانسان ذلك وأصبح يدرك هذه الحقائق
صار مؤهلا للبدء في الحياة الدنيا.
وقد فتح الله سبحانه وتعالى امامه باب التوبة والرجوع إليه ليتمكن الانسان
من مواصلة طريقه عندما يضعف ويقع في الخطيئة، وبذلك يتكامل عندما يكون
قادرا على التغلب على شهواته والسيطرة على رغباته.
الملاحظة الثانية: أن العلامة الطباطبائي لم يوضح دور الخطيئة في معرفة
السوءات، كما لم يوضح عدم انسجام السوءات مع حياة الجنة، ولعله يريد من
دور الخطيئة في معرفة السوءات ما أشرنا إليه من دورها في الاحساس الخلقي
للانسان في ادراكه للحسن والقبح، وكذلك لان حياة الجنة يراها حياة طاهرة
ونظيفة لا تنسجم مع السوءات، وهو معنى عرفاني حيث لم يشر القرآن الكريم إلى
أن آدم (عليه السلام) لم تكن لديه سوءة قبل الخطيئة، أو أنها وجدت بعد الخطيئة، وانما
أشار إلى أن ادراكه للسوءة انما كان بعد الخطيئة والذنب.
الملاحظة الثالثة: أن الشهيد الصدر (قدس سره) لم يذكر في تكون مسار الخلافة على
الأرض دور التوبة في هذا المسار، مع أن التوبة لها دور أساس يمكن من خلاله
أن يستأنف الانسان عمله وتجربته في هذه الحياة ويصعد بسببها في مدارج
الكمال.
الملاحظة الرابعة: أن الكمالات الانسانية يمكن أن نتصورها بدون خطيئة
ويتكامل فيها الانسان من خلال الطاعة والاحساس بالعبودية لله سبحانه
وتعالى، إلا إذا كان مقصوده من الخطيئة ليس مجرد المخالفة، وانما احساس
الانسان بالحاجة والتقصير في حق الله تعالى وشكره لنعمه، الامر الذي يدفعه إلى
الاستزادة من الأعمال الصالحة والرجوع إلى الله تعالى والإنابة إليه.
479

الملاحظة الخامسة: أن العلامة الطباطبائي (قدس سره) تصور ان الجنة سماوية، والشهيد
الصدر (قدس سره) تصورها أرضية، وهذا التصور الثاني في الوقت الذي ينسجم مع بعض
الروايات، يتوافق أيضا مع فرضية خلق الانسان للأرض، والله سبحانه أعلم (1).

(1) الاسلام يقود الحياة: 152 - 153.
480